30 Oct 2008
الدرس الثالث والعشرون: جحد التوحيد أعظم كفراً من جحد الصلاة والصيام وغيرهما من شعائر الإسلام
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَيُقالُ:
إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاةِ فهو كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ وَالمَالِ بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَدَّق بِذَلِكَ كلِّه، لا يُجحدُ هذا ولا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهُوَ أَعْظَمُ مِن الصَّلاةِ، وَالزَّكاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحجِّ، فَكَيْف إذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ لا يَكْفُرُ؟ سُبحانَ اللهِ، ما أَعْجَبَ هذا الجَهْلَ.
وَيُقَالُ أَيْضاً لهَؤلاءِ:
أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَني حَنِيفةَ وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُهُ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ: أنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنا: هَذا
هُوَ المَطْلُوبُ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً في رُتْبَةِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ وَلَمْ
تَنْفَعْهُ الشَّهادتانِ وَلا الصَّلاةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ شَمْسَانَ أوْ يُوسُفَ أَوْ صَحَابِيّاً أَوْ نَبِيّاً أو غيرَهم في مَرْتَبَةِ جَبَّارِ السَّماوات وَالأَرْضِ؟ سُبحانَه، مَا أعْظَمَ شَأْنَهُ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[ الروم: 59 ].
وَيُقَالُ أَيْضاً:
الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّارِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا في عَليٍّ مِثلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ وشَمْسَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، فَكَيْفَ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابةَ يُكفِّرونَ المُسْلِمِينَ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الاعْتِقَادَ في تَاجٍ وَأَمْثَالِهِ لا يَضُرُّ، وَالاعْتِقَادَ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يُكَفِّرُ؟).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَيُقالُ:
إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاةِ فهو كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ وَالمَالِ بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَدَّق بِذَلِكَ كلِّه، لا يُجحدُ هذا ولا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهُوَ أَعْظَمُ مِن الصَّلاةِ، وَالزَّكاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحجِّ(1)، فَكَيْف إذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ لا يَكْفُرُ؟ سُبحانَ اللهِ، ما أَعْجَبَ هذا الجَهْلَ(2).
وَيُقَالُ أَيْضاً لهَؤلاءِ:
أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَني حَنِيفةَ
وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ
يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه
وَرَسُولُهُ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ: أنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنا: هَذا
هُوَ المَطْلُوبُ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً في رُتْبَةِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ وَلَمْ
تَنْفَعْهُ الشَّهادتانِ وَلا الصَّلاةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ شَمْسَانَ
أوْ يُوسُفَ أَوْ صَحَابِيّاً أَوْ نَبِيّاً أو غيرَهم في مَرْتَبَةِ
جَبَّارِ السَّماوات وَالأَرْضِ؟ سُبحانَه، مَا أعْظَمَ شَأْنَهُ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[ الروم: 59 ](3).
وَيُقَالُ أَيْضاً:
الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّارِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا في عَليٍّ مِثلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ وشَمْسَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، فَكَيْفَ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابةَ يُكفِّرونَ المُسْلِمِينَ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الاعْتِقَادَ في تَاجٍ وَأَمْثَالِهِ لا يَضُرُّ، وَالاعْتِقَادَ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يُكَفِّرُ؟(4)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (وَيُقَالُ أَيْضًا) هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ للشُّبْهَةِ السَّابِقَةِ
(إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ فِي كُلِّ شَيْءٍ
وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاَةِ فهو كَافِرٌ حَلاَلُ الدَّمِ والمَالِ
بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ،
وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَصَدَّقَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لاَ
يَجْحَدُ) الخَصْمُ (هَذَا) لاَ يُنْكِرُ
مَا قُرِّرَ مِن وُجُوبِ هَذِه المَذْكُورَاتِ وَلاَ يَسْتَقِيمُ
الإِسْلاَمُ، بل يَنْتَقِلُ الإِسْلاَمُ كُلُّهُ وَيَزُولُ مِن أَسَاسِهِ (وَلاَ تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ)
لاَ تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ في أَنَّ جَحْدَ وُجُوبِ واحِدٍ منها كَافٍ في
انْتِكَاسِ العَبْدِ وَأَنَّهُ كَافِرٌ بالإِجْمَاعِ (وَقَدْ نَطَقَ بِهِ
القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا) أَنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ
فهو الكَافِرُ حَقًّا.(فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحيدَ هو أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أَعْظَمُ) مِن فَرِيضَةِ (الصَّلاَةِ والزَّكَاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ) وتَصْدِيقُهُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْفَعُهُ ولاَ يُجْدِي عَلَيْهِ.
(2) (فَكَيْفَ
إِذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئًا مِن هَذِه الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ
عَمِلَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هو دِينُ الرُّسُلِ
كُلِّهِم لاَ يَكْفُرُ)؟! فَإِذَا كَانَ
هَذَا فِيمَنْ جَحَدَ واحِدًا مِن أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ فَكَيْفَ بِمَنْ
جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هو أَسَاسُ المِلَّةِ والدِّينِ؟!
فَإِنَّهُ أَعْظَمُ، فَلاَ يَنْفَعُهُ تَصْدِيقُهُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ جَحَدَ الأَصْلَ،
إِذَا صَارَ جَحْدُ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ كُفْرًا فَكَيْفَ
بِجَحْدِ الأَصْلِ وهو التَّوْحِيدُ؟
فَلَوْ
قُدِّرَ -وهو لاَ يَكُونُ- أَنَّ هَذِه الفُرُوعَ كُلَّهَا مِنَ
الصَّلاَةِ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلاَ عَظِيمَةٍ لَكَانَ
جَحْدُ التَّوْحِيدِ كُفْرًا بِرَأْسِهِ، فَكَيْفَ وهو الأَصْلُ؟
فَإِنَّ
هَذَا الجَهْلَ بِمَكانٍ لاَ يَجْحَدُ هَذَا الخَصْمُ أَنَّهُ يُخْرِجُ
مِنَ الإِسْلاَمِ بِمُفْرَدِهِ؛ يَجْعَلُونَ مَن يَهْدِمُ أَسَاسَ الدِّينِ
صَبَاحًا ومَسَاءً أَنَّهُ مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ،
والَّذِي يَجْحَدُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ يُؤَدِّيهَا كَافِرٌ
بالإِجْمَاعِ! (سُبْحَانَ اللهِ، مَا أَعْجَبَ هَذَا الجَهْلَ!) فَإِنَّ جَهْلَ هَؤُلاَءِ مِن أَعْجَبِ الجَهْلِ،
كَوْنُ الوَاحِدِ مِنْهُم يُقِرُّ أَنَّ جَحْدَ الصَّلاَةِ كُفْرٌ
بالإِجْمَاعِ أو جَحْدَ غَيْرِهَا مِن أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ كُفْرٌ،
وَجَحْدَ التَّوْحِيدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ؟! فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا لاَ
تُكَفِّرُ -وهو لاَ يُقَدَّرُ- فالتَّوْحِيدُ وَحْدَهُ يُكَفِّرُ؛ والدَّلِيلُ أنَّ الأَصْلَ لاَ يَزُولُ بِزَوَالِ الفَرْعِ بِخَلاَفِ الفَرْعِ فَإِنَّهُ يَزُولُ بِزَوَالِ أَصْلِهِ؛ كالحَائِطِ والشَّجَرَةِ إِذَا زَالَ أَصْلُهُ زَالَ فَرْعُهُ.
فالحَاصِلُ أَنَّهُ
لَوْ قُدِّرَ أَنَّ التَّوْحِيدَ بَعْضُ المَذْكُورَاتِ لَكَانَ جَحْدُه
كُفْرًا، فَكَيْفَ وهو أَسَاسُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟! بل التَّوْحِيدُ قَدْ
يَكْفِي وَحْدَهُ في إِسْلاَمِ العَبْدِ ودُخُولِهِ الجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُ
إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْلَ وُجُوبِ
شَيْءٍ مِن الفُرُوعِ عَلَيْهِ كَفَى التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ؛ فالتَّوْحِيدُ
لَيْسَ فَقِيرًا إِلَيْهَا، بل هي الفَقِيرَةُ إِلَيْهِ في صِحَّتِهَا.
فَلاَ
أَعْجَبَ وَلاَ أَقْبَحَ ولا أَعْظَمَ مِمَّنْ جَهِلَ هَذَا، فَإِذَا
كَانَ مُقِرًّا أَنَّ مَن جَحَدَ شَيْئًا مِن هَذِه الفُرُوعِ فَهُو
كَافِرٌ، وهو لاَ يَجْحَدُ هَذَا، وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هو
الأَصْلُ وَمَا بَعْدَهُ فَرْعٌ عَنْهُ لاَ يَكْفُرُ، فَلاَ أَعْجَبَ مِن
جَهْلِ مَنْ جَهِلَ هَذَا.
(3) (ويُقَالُ أَيْضًا) هَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ (هَؤُلاَءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَفَّرُوا و (قَاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ)
ورَأَوْا أَنَّهُ مِن أَفْضَلِ قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَاسْتَحَلُّوا
دِمَاءَهُم، وسَبَوا ذَرَارِيَّهُم، وَهُم يَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ (وَقَدْ
أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُم
يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللهِ وَيُؤَذِّنُونَ ويُصَلُّونَ فَإِنْ قَالَ) المُشَبِّهُ: (إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ) يَعْنِي: كَفَّرُوهُم لِقَوْلِهِم: مُسَيْلِمَةُ نَبِيٌّ .(قُلْنَا): نَعَمْ (هَذَا هو المَطْلُوبُ)
هَذَا هو مَطْلُوبُنَا، فَهَؤُلاَءِ مَا صَدَرَ منهم إِلاَّ أَنَّهُم
قَالُوا: إِنَّهُ نَبِيٌّ، فَجَنَوْا عَلَى الرِّسَالَةِ وصَارَ مُبْطِلاً
تَوْحِيدَهُم ودِينَهُم (إِذَا كَانَ مَن رَفَعَ
رَجُلاً إِلَى رُتْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ
وَحَلَّ دَمُهُ ومَالُهُ وَلَمْ تَنْفَعْهُ الشَّهَادَتَانِ وَلاَ
الصَّلاَةُ) وَلاَ الصِّيامُ وَلاَ الأَذَانُ؛ وَأَنْتَ تُقِرُّ بِهَذَا، وهَذِه جَرِيمَةُ رَفْعِ مَخْلُوقٍ إِلَى رُتْبَةِ مَخْلُوقٍ (فَكَيْفَ بِمَنْ) جَنَى عَلَى الأُلُوهِيَّةِ فَرَفَعَ مَخْلُوقًا إِلَى رُتْبَةِ خَالِقٍ.
فالعُلَمَاءُ
كَفَّرُوا مَنْ جَنَى عَلَى الرِّسَالَةِ فكَيْفَ بِمَنْ جَنَى عَلَى
الأُلُوهِيَّةِ؟ فالَّذِي يَعْبُدُ مَعَ اللهِ غَيْرَه قَدْ جَنَى، بل لاَ
أَعْظَمَ مِن جِنَايَتِهِ (رَفَعَ شِمْسَانَ أو يُوسُفَ أو صَحَابِيًّا أو نَبِيًّا في رُتْبَةِ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يَعْنِي:
هَذَا أَوْلَى بالكُفْرِ والضَّلاَلِ؛ لأَِنَّهُ صَرَفَ للمَخْلُوقِ مِنْ
أَنْوَاعِ العِبَادَةِ مَا لاَ يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ الخَالِقُ، وهَذَا مِن
قِيَاسِ الأَوْلَى، يَعْنِي: إِذَا كَانَ جِنْسُ مَا احْتَجُّوا بِهِ
كُفْرًا فَبِطَرِيقِ الأَوْلَى هَذَا، فَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِم مِن نَفْسِ
مَا احْتَجُّوا بِهِ، وإِلاَّ فَالأَدِلَّةُ في ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ (سُبْحَانَ اللهِ ما أَعْظَمَ شَأْنَهُ، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاََ يَعْلَمُونَ})
كَهَذَا الطَّبْعِ عَلَى قَلْبِ هَذَا الجَاهِلِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّ
مَن رَفَعَ رَجُلاً إِلَى رُتْبَةِ رَجُلٍ فهو كَافِرٌ وَإذا رَفَعَ
رَجُلاً في رُتْبَةِ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ لاَ يَكْفُرُ؟!
(4) (وَيُقَالُ أَيْضًا) هَذَا جَوَابٌ رَابِعٌ للشُّبْهَةِ السَّابِقَةِ في قَوْلِهِ: (إِنَّ الذين نَزَلَ فِيهِم القُرْآنُ لاَ يَشْهَدُونَ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.. إلخ)، (الَّذِينَ حَرَّقَهُم
عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالنَّارِ) وَهُمْ مِن الشِّيعَةِ الغَالِيَةِ مِن أَصْحَابِ عَلِيٍّ، زَادُوا في مَحَبَّتِهِ وتَعَدَّوُا الحَدَّ، وَذَلِكَ بِدَسِيسَةِ نَاسٍ مِن أَصْحَابِهِ مُنَافِقِينَ دَسُّوهَا ليُفْسِدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُم؛ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ.ادَّعَى الإِسْلاَمَ وَأَرَادَ أَن يَفْتِكَ بِأَهْلِ الإِسْلاَمِ ويُدْخِلَهُم في الشِّرْكِ -تَعَدَّوُا الحَدَّ في مَحَبَّةِ عَلِيٍّ وتَعْظِيمِهِ حَتَّى ادَّعَوْا فيه الإِلَهِيَّةَ (كُلُّهُم يَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ) ويَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الإِسْلاَمِ (وَهُمْ مِن أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ) ظَهَرَتْ مِنْهُم المَقَالَةُ الرَّدِيَّةُ (اعْتَقَدُوا في عَلِيٍّ) الاعْتِقَادَ البَاطِلَ؛ اعْتَقَدُوا فيه السِّرَّ -يَعْنَي الأُلُوهِيَّةَ (مِثْلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ، وَشِمْسَانَ وأَمْثَالِهِمَا) كَعْبِدِ القَادِرِ، والعَيْدَرُوسِ؛ كاعْتِقَادِ أَهْلِ زَمَانِنَا في غَيْرِهِم.
فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ منهم عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَدَّ لَهُم أَخَادِيدَ
عِنْدَ بَابِ كِنْدَةَ، وَأَضْرَمَ فِيهَا النِّيرَانَ وقَذَفَهُم فِيهَا
مِن أَجْلِ مَقَالَتِهِم فِيهِ، وَقَالَ:
فحينَئذٍ يَلْزَمُ الأَمْرُ الثَّالِثُ،
وهو أَنْ يُذْعِنُوا ويُسَلِّمُوا أَنَّ مَن تَعَلَّقَ عَلَى غَيْرِ اللهِ
بِأَيِّ نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ فهو كَافِرٌ خَارِجٌ مِن
المِلَّةِ مُرْتَدٌّ، أَغْلَظُ كُفْرًا مِمَّن ليس مَعَهُ هذه الأَعْمَالُ،
وَأَنَّ إِقْرَارَه بالشَّهَادَتَيْنِ والصَّلاَةِ والزَّكَاةِ ونحوِ ذلك
فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَغَيْرُ نافِعٍ، فَظَهَرَ بذلك أَنَّهُم ضُلاَّلٌ
في تَشْبِيهِهِم وتَرْويجِهِم؛ فَإِنَّ الغَالِيَةَ في عَلِيٍّ ما
اعْتَقَدُوا فيه إِلاَّ مِثْلَ الاعْتِقَادِ في تَاجٍ وأَمْثَالِهِ مِن هذه
الأَصْنَامِ.
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَيُقالُ:
إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاةِ فهو كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ وَالمَالِ بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَدَّق بِذَلِكَ كلِّه، لا يُجحدُ هذا ولا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهُوَ أَعْظَمُ مِن الصَّلاةِ، وَالزَّكاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحجِّ، فَكَيْف إذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ لا يَكْفُرُ؟ سُبحانَ اللهِ، ما أَعْجَبَ هذا الجَهْلَ(1).
وَيُقَالُ أَيْضاً(2) لهَؤلاءِ:
أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَني حَنِيفةَ
وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ
يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه
وَرَسُولُهُ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ: أنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنا: هَذا
هُوَ المَطْلُوبُ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً في رُتْبَةِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ وَلَمْ
تَنْفَعْهُ الشَّهادتانِ وَلا الصَّلاةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ شَمْسَانَ
أوْ يُوسُفَ أَوْ صَحَابِيّاً أَوْ نَبِيّاً أو غيرَهم في مَرْتَبَةِ
جَبَّارِ السَّماوات وَالأَرْضِ؟ سُبحانَه، مَا أعْظَمَ شَأْنَهُ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[ الروم: 59 ].
وَيُقَالُ أَيْضاً(3):
الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّارِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا في عَليٍّ مِثلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ وشَمْسَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، فَكَيْفَ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابةَ يُكفِّرونَ المُسْلِمِينَ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الاعْتِقَادَ في تَاجٍ وَأَمْثَالِهِ لا يَضُرُّ، وَالاعْتِقَادَ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يُكَفِّرُ؟).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قولُهُ: (ويُقالُ أيضًا: إذا كُنْتَ تُقِرُّ أنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسولَ...)
إلخ، هذا جوابٌ ثانٍ، فإنَّ مَضْمونَهُ أنَّكَ إذا عَرَفْتَ وأَقْرَرْتَ
بأنَّ مَنْ جَحَدَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والصِّيامَ والحجَّ والبعثَ كافرٌ
باللهِ العظيمِ، ولوْ أقَرَّ بكُلِّ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سِوى ذلكَ، فَكيفَ تُنْكِرُ أنْ يَكُونَ مَنْ
جَحَدَ التَّوحيدَ وأَشْرَكَ باللهِ تعالى كافرًا؟
إنَّ
هذا لَشيءٌ عجيبٌ؛ أنْ تَجْعَلَ مَنْ جَحَدَ التَّوحيدَ مُسلمًا، ومَنْ
جَحَدَ وجوبَ هذهِ الأشياءِ كافرًا، معَ أنَّ التَّوحيدَ هوَ أَعْظَمُ ما
جاءَتْ بهِ الرُّسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ، وهو أَعَمُّ ما جاءَتْ بهِ
الرُّسلُ، فجميعُ الرُّسلِ قدْ أُرْسِلَتْ بهِ، كما قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[ الأنبياءُ: 25 ].
وهوَ أصلُ هذهِ الواجباتِ الَّتي يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَها؛ إذ لا تَصِحُّ إلاَّ بهِ، كما قالَ اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ
أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ
فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}[الزُّمَرُ: 65، 66].
فإذا
كانَ مَنْ أَنْكَرَ وجوبَ الصَّلاةِ أو الزَّكاةِ أو الصَّومِ أو الحجِّ،
أوْ أَنْكَرَ البعثَ كافرًا، فمُنْكِرُ التَّوحيدِ أشَدُّ كُفرًا وأَبْيَنُ
وأَظْهَرُ.
(2) قولُهُ: (ويُقالُ أيضًا: هؤلاءِ أصْحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ... إلخ)، هذا جوابٌ ثالثٌ، ومَضمونُهُ أنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنْهم قاتَلُوا
مُسَيْلِمةَ وأَصْحابَهُ، واسْتَحَلُّوا دِماءَهمْ وأموالَهم، معَ أنَّهم يَشْهَدونَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورسولُهُ، ويُؤَذِّنونَ ويُصَلُّونَ، وهمْ إنَّما رَفَعوا رَجُلاً إلى مَرتَبةِ النَّبيِّ، فكيفَ بمَنْ رَفَعَ مَخْلوقًا إلى مرتبةِ جبَّارِ السماواتِ والأرضِ، أفلا يَكونُ أحَقَّ بالكفرِ ممَّنْ رفَعَ مخلوقًا إلى مَنْزِلةِ مخلوقٍ آخَرَ؟! وهذا أمْرٌ واضحٌ، ولكنْ كما قالَ اللهُ تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[سُورةُ الرُّومِ: 59].
(3) قولُهُ: (ويُقالُ أيضًا: إنَّ الَّذينَ حَرَّقَهم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ بالنَّارِ …) إلخ، هذا جوابٌ رابعٌ، فقدْ كانَ هؤلاءِ يَدَّعُونَ الإِسلامَ، وتَعَلَّموا مِن الصَّحابةِ، ومعَ ذلكَ لمْ يَمْنَعْهم هذا من الحُكْمِ بِكُفْرِهمْ(1) وتَحْرِيقِهم بالنَّارِ؛ لأنَّهم قالُوا في عَلِيِّ بنِ أَبِي طالبٍ: إنَّهُ إلهٌ، مِثلَ ما يَدَّعِي هؤلاءِ بمَنْ يُؤَلِّهُونهم، كَشَمْسَانَ وغيْرِهِ(2).
فكيفَ أَجْمَعَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهم على قَتْلِ هؤلاءِ، أتَظُنُّونَ أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهم يُجْمِعُونَ على قَتْلِ مَنْ لا يَحِلُّ قتلُهُ، وتَكْفيرِ مَنْ ليسَ بِكافرٍ؟! ذلكَ لا يُمْكِنُ، أمْ تَظُنُّونَ أنَّ الاعتقادَ في تاج(3) وأمثالِهِ لا يَضُرُّ، والاعتقادَ في عَلِيِّ بنِ أَبِي طالبٍ يَضُرُّ.
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) ولا يقدح في هذا الإجماع إنكار ابن عباس رضي الله عنهما المروي في الصحيح، فإنه إنما أنكر تحريقهم ولم ينكر قتلهم، فكان إجماعهم على قتلهم محققاً وإن اختلفوا في كيفيته.
(2)
(شمسان ويوسف) اسمان لرجلين كانا قريباً من عهد إمام الدعوة تُدَّعى فيهما
الدعاوى الكاذبة، وتنسب إليهما الخوارق الباطلة، ويعتقد فيهما الناس.
انظر:
(فتاوى ورسائل ابن إبراهيم) (1/134 ـ 135).
(3) (تاج) هذا هو من جنس من قبله بل شر منهما، فقد كان أعمى يسير من بلده الخرج من غير قائد يقوده حتى يدخل الدرعية، فيحصِّل النذور من أهلها، ويحكى عنه حكايات قبيحة شنيعة.
انظر: المصدر السابق، و(مجموعة الرسائل النجدية) (3/383).
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَيُقالُ:
إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاةِ فهو كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ وَالمَالِ بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَدَّق بِذَلِكَ كلِّه، لا يُجحدُ هذا ولا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهُوَ أَعْظَمُ مِن الصَّلاةِ، وَالزَّكاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحجِّ، فَكَيْف إذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ لا يَكْفُرُ؟ سُبحانَ اللهِ، ما أَعْجَبَ هذا الجَهْلَ(1).
وَيُقَالُ أَيْضاً لهَؤلاءِ:
أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَني حَنِيفةَ
وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ
يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه
وَرَسُولُهُ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ: أنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنا: هَذا
هُوَ المَطْلُوبُ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً في رُتْبَةِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ وَلَمْ
تَنْفَعْهُ الشَّهادتانِ وَلا الصَّلاةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ شَمْسَانَ
أوْ يُوسُفَ أَوْ صَحَابِيّاً أَوْ نَبِيّاً أو غيرَهم في مَرْتَبَةِ
جَبَّارِ السَّماوات وَالأَرْضِ؟ سُبحانَه، مَا أعْظَمَ شَأْنَهُ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[ الروم: 59 ](2).
وَيُقَالُ أَيْضاً:
الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّارِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا في عَليٍّ مِثلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ وشَمْسَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، فَكَيْفَ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابةَ يُكفِّرونَ المُسْلِمِينَ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الاعْتِقَادَ في تَاجٍ وَأَمْثَالِهِ لا يَضُرُّ، وَالاعْتِقَادَ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يُكَفِّرُ؟(3)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)
مَازَالَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- يُوَاصِلُ الرَّدَّ عَلَى شُبُهَاتِ
المُشَبِّهِينَ في مَسْأَلَةِ الشِّرْكِ والتَّوْحِيدِ، فانْتَهَى إِلَى
هَذِه الشُّبْهَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي هي مِن أَعْظَمِ شُبَهِهِم
وأَخْطَرِهَا، أَلاَ وهي قَوْلُهُم: (إنَّ مَن شَهِدَ أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ
اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللهِ، وصَلَّى وَصَامَ وحَجَّ وأَدَّى الأَعْمَالَ أَنَّه لاَ
يَكْفُرُ ولو فَعَلَ مَا فَعَلَ مِن أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ.
أَمَّا
الَّذِينَ نَزَلَ فيهم القُرْآنُ وهم المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ فإنَّهم
لَيْسُوا مِثْلَ هَؤُلاَءِ، فَهُم لَمْ يَشْهَدُوا أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ
اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ولَمْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ،
فَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بالرَّسُولِ ولاَ بالإِسْلاَمِ ولاَ
بالقُرْآنِ.
أَمَّا
هَؤُلاَءِ فأَظْهَرُوا الإِيمَانَ بالبَعْثِ ويُصَلُّونَ ويَصُومُونَ
ويَحُجُّونَ ويُزَكُّونَ ويَذْكُرُونَ اللهَ كَثِيرًا، فالشَّيْخُ
-رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هذه الشُّبْهَةِ خَاصَّةً قَالَ: أَصْغِ سَمْعَكَ
لِجَوَابِهَا؛ فإِنَّها مِن أَعْظَمِ شُبَهِهِم.
فالشَّيْخُ رَدَّ عَلَى هَذِه الشُّبْهَةِ مِن سِتَّةِ وُجُوهٍ مُهِمَّةٍ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ:أَنَّه مَن آمَنَ بِبَعْضِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وكَفَرَ بِبَعْضِهَا الآخَرِ فهو كَافِرٌ بالجَمِيعِ؛ لأَِنَّهُم أَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ الَّذي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وهو إِفْرَادُ اللهِ بالعِبَادَةِ، فَهَؤُلاَءِ لَمْ يُفْرِدُوا اللهَ بالعِبَادَةِ، وإِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَه مِن الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِين.
فالإِسْلاَمُ لاَ يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ ولاَ التَّفْرِقَةَ،وأَعْظَمُ الإِسْلاَمِ التَّوْحِيدُ وهو دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وهَؤُلاَءِ جَحَدُوا أَعْظَمَ شَيْءٍ وهو تَوْحِيدُ العِبَادَةِ، وقَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْذُرَ الإِنْسَانُ لِفُلاَنٍ، ويَذْبَحَ لِفُلاَنٍ؛ لأَِنَّهُ وَلِيٌّ، والوَلِيُّ يَنْفَعُ ويَضُرُّ، مِمَّا هو مِثْلُ فِعْلِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ.
(2) الوَجْهُ
الثَّانِي: ذَكَرَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- وَقَائِعَ في التَّارِيخِ
الإِسْلاَمِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ العُلَمَاءَ في كُلِّ زَمَانٍ
يُكَفِّرُونَ مَن آمَنَ بِبَعْضٍ وكَفَرَ بِبَعْضٍ، منها: أنَّ
الصَّحَابَةَ ومَن بَعْدَهُم قَاتَلُوا الَّذِينَ يَتَظَاهَرُونَ
بالشَّهَادَتَيْنِ ويُصَلُّونَ ويَصُومُونَ ويَحُجُّونَ، لكن لَمَّا
فَعَلُوا شَيْئًا مِن الشِّرْكِ، أو جَحَدُوا شَيْئًا مِن الدِّينِ
قَاتَلُوهُم واسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُم وأَمْوَالَهُم، منهم:
أَوَّلاً: بَنُو حَنِيفَةَ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ، واعْتَقَدُوا أنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللهِ، والَّذِينَ جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
(3) وثَانِيًا: في عَهْدِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عنه- كَفَّرُوا الغُلاَةَ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ عَلِيًّا هو اللهُ، مَعَ أنَّهُم يَشْهَدُونَ أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويُصَلُّونَ ويَصُومُونَ، وهم في جُنْدِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَكِنْ لَمَّا أَظْهَرُوا الغُلُوَّ حَرَّقَهُم عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ أَنَّهُم يَشْهَدُونَ أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ ولَكِنَّهُ حَرَّقَهُم لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ شَخْصًا لَهُ حَقٌّ في الأُلُوهِيَّةِ، كَفَّرَهُم وحَرَّقَهُم بالنَّارِ.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَيُقالُ:
إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلاةِ فهو كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ وَالمَالِ بالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ البَعْثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَدَّق بِذَلِكَ كلِّه، لا يُجحدُ هذا ولا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ كَمَا قَدَّمْنَا.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهُوَ أَعْظَمُ مِن الصَّلاةِ، وَالزَّكاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحجِّ، فَكَيْف إذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَفَرَ وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ لا يَكْفُرُ؟ سُبحانَ اللهِ، ما أَعْجَبَ هذا الجَهْلَ.
وَيُقَالُ أَيْضاً لهَؤلاءِ:
أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَني حَنِيفةَ
وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ
يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه
وَرَسُولُهُ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ: أنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنا: هَذا
هُوَ المَطْلُوبُ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً في رُتْبَةِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ وَلَمْ
تَنْفَعْهُ الشَّهادتانِ وَلا الصَّلاةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ شَمْسَانَ
أوْ يُوسُفَ أَوْ صَحَابِيّاً أَوْ نَبِيّاً أو غيرَهم في مَرْتَبَةِ
جَبَّارِ السَّماوات وَالأَرْضِ؟ سُبحانَه، مَا أعْظَمَ شَأْنَهُ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[ الروم: 59 ].
وَيُقَالُ أَيْضاً:
الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّارِ كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا في عَليٍّ مِثلَ الاعْتِقَادِ في يُوسُفَ وشَمْسَانَ وَأَمْثَالِهِمَا، فَكَيْفَ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابةَ يُكفِّرونَ المُسْلِمِينَ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الاعْتِقَادَ في تَاجٍ وَأَمْثَالِهِ لا يَضُرُّ، وَالاعْتِقَادَ في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ يُكَفِّرُ؟).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (ومن حيث التفصيل: قال -رحمه الله- بعد ذلك: (ويقال أيضاً) يعني: تفصيلاً للجملة السالفة (إن كنت تقر أن من صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل شيء وجحد وجوب الصلاة إنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع) يعني: بعد أن تقوم عليه الحجة.(وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله، لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا)
يعني: إذا كنت تقر هذا، يعني: ما أوردناه من الإجماع وأنَّ المذاهب متفقة
على هذا، وأن من أنكر البعث فهو كافر حلال الدم والمال باتفاق العلماء
وبإجماعهم، وبذكر هذا في كتبهم، فنرجع إلى خصوص المسألة التي أوردت الشبهة
فيها، وهي مسألة التوحيد.
قال: (فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم-وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج)
وجه كونه أعظم: أنه بدأ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دعا الناس سنين عدداً إلى التوحيد فقط، ولم تفرض الصلاة ولم تفرض الزكاة ولم يفرض الصوم ولم يفرض الحج، ومعلوم أنه في هذا الحال يعني في حال الأمر بالتوحيد دون غيره أنه إنما تكون البداءة بالأهم؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام- لـمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب - يعني: من اليهود وثمَّ نصارى هناك - فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله))((فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله)) فهذا يدل على أن هذا أعظم من غيره.
-ومعلوم أن الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة من البَعثة. ومعلوم أن قاعدة الشريعة العظيمة التي
دلت عليها النصوص، واتفقت عليها العلماء، أنَّ الشريعة لا تفرق بين
المتماثلات ولا تماثل بين المختلفات، فإن المتماثلات في العلة لا تفرق
بينها الشريعة إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ومما جاءت به الشريعة
وجاء في القرآن الاستدلال به، الاستدلال بقياس الأولى، فإنه القياس الذي
اتفقت عليه هذه الأمة، حتى الظاهرية لا ينكرون القياس المسمى عند الفقهاء
الأربعة بقياس الأولى، لا تنكره الظاهرية، وإن كانوا لا يسمونه قياساً بل
يسمونه تمثيلاً أولوياً، فيقال: هذا مثل هذا عندهم، بل أولى منه، ويهربون
من تسميته قياساً، والحقيقة أنهم يقرون به. سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل؛ لأنه جهل بالعقليات وجهل أيضاً بالشرعيات وجهل بكلام العلماء
-ومعلوم أن صوم رمضان الفرض لم يكن إلا في السنة الثانية من الهجرة.
-ومعلوم أن الزكاة المفروضة بأنصبائها المعروفة الآن، لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة.
- وأن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة من الهجرة.
وهذا يدل على تأخر هذه المسائل التي تقول:
إن من
جحد واحدة منها ولم يأت بها فإنه يكفر بالإجماع، فما شأن أصل الأصول؟ ما
شأن أول واجب؟ ما شأن الأمر الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في
مكة سنين عدداً؟ ما شأنه؟ هل هو أقل من هذه في الحكم؟
فالجواب: أن التوحيد هو أعظم فريضة بالاتفاق،ولهذا
يذكر العلماء في المكفرات في باب حكم المرتد أول ما يذكرون في المكفر؛ ما
يتصل بالتوحيد؛ توحيد العبادة أو توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات،
فإنهم يذكرون هذا قبل غيره؛ لأنه أعظم فريضة جاء بها النبي -صلى الله عليه
وسلم- وجاءت بها الأنبياء.
ومعلوم
أن الصلوات والزكاة والصوم والحج، إلى آخره، اختلفت فيه الشرائع،
والأنبياء جميعاً اتفقوا في التوحيد، فدل على أنه حق الله الأعظم وعلى أنه
الفريضة العظمى، فإذاً تكون منزلتها أعظم من غيرها.
قال: (فكيف
إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟
سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل) وهذا الاستدلال بالقياس، وهذا قياس صحيح قوي.
فالقياس الأولوي-
يعني: أن هذا أولى من هذا - هذا بالاتفاق عند الجميع، وإذا أنكر المرء
متفقاً عليه بين العقلاء وبين الفقهاء ومجمعاً عليه من الدليل، فإنه يكون
ليس على أصل لا في التفريق ولا في التأصيل.
ومعلوم أن هذا رد قوي على الذين يفرقون، فإن الشريعة لم تأت بالتفريق بين المتماثلات، فكيف بالتفريق بين ما هو أدنى وأعظم رتبة؟.
فالتوحيد أعظم رتبة، كيف
يتفق العلماء، كيف تقول أنت أيها المورد لهذه الشبهة: إنَّ الذي جحد
الصلاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الزكاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الصوم وهو
يقر بغيره، أو أقر بهذه كلها وجحد البعث، كيف تقول: إنه يكفر وحلال الدم
والمال؟ ومن ترك التوحيد وجحده لا يكفر ولا يكون حلال الدم والمال بعد
إقامة الحجة عليه، كيف تقول هذا؟
حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ويؤذنون.فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي.قلنا:
هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي -صلى الله عليه
وسلم- كفر؛ وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع
شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، سبحان
الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}).
خلاصة هذا: أن
بني حنيفة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق -رضي الله- عنه ومعه أصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَكفروا بكل أمور الدين، بل كفروا بأنَّ
محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين، فرفعوا مسيلمة الكذاب إلى مقام النبي -صلى
الله عليه وسلم- في تبليغ الرسالة، وهذا النوع مِن كفرهم تبعه معه أنهم
أطاعوا مسيلمة فيما أمرهم به وجعلوا رسالة مسيلمة الكذاب لهم، فما أمرهم به
ائتمروا به وما نهاهم عنه انتهوا عنه.
وهذا هو الذي جعلهم كفاراً،وذلك لأنهم جعلوا مسيلمة الكذاب نبياً بعد محمد -عليه الصلاة والسلام- ولم يجعلوا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمة الرسالات.
و الاستدلال هذا الذي أوردوه -
كما قال الشيخ رحمه الله - هذا هو المطلوب؛ لأن كفر هؤلاء دون ما يكفَّر
به غيرهم من عبدة القبور، والأوثان، وعبدة الصالحين، وعبدة الأولياء، وغير
الأولياء، والأشجار، والأحجار؛ لأن من عبد هؤلاء، واستغاث بهم، وأنزل بهم
حاجته، وطلب منه دفع الضر ودفع المدلهمات - في الواقع - قد رفع منزلة هذا
المدفون إلى منزلة رب العالمين.فقتال الصحابة-رضوان
الله عليهم- لبني حنيفة الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب يدل بدلالة الأولى على
أن من رفع شخصاً مسلماً كان أو غير مسلم إلى مرتبة جبار السماوات والأرض
في استحقاق العبادة، أو الطاعة المطلقة الدينية؛ فإنه أعظم كفراً من أولئك
الذين لم يشركوا بالله -جل وعلا- أحداً، وإنما كفروا من جهة أنهم جعلوا
مسيلمة نبياً؛ لأنهم لم يعودوا إلى عبادة الأصنام وإنما جعلوا مسيلمة
الكذاب نبياً لهم وبعد محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر تفاصيل قصتهم
وكَذِب مسيلمة في نبوته واتباع أولئك له.فتحصل من هذا الإيراد
الذي أوردوه ليدلوا على أنَّ المسلم الذي يدعو غير الله جل وعلا، يدعو
نبياً أو يدعو صالحاً، أنه لا يكفر، بدلالة أن أولئك الذين قاتلهم الصحابة
ما كفروا إلا بادعاء النبوة لمسيلمة.
قلنا: ما هو أولى يدل على أن غيرهم ممن ألهَّوا الأشخاص أعظم كفراً من أولئك،
فمن انخرم في حقه الشرط الأول من الشهادة وهو شهادة (أن لا إله إلا الله)
لا شك أنه أعظم كفراً ممن انخرم في حقه الإقرار بأن محمداً رسول الله وخاتم
الأنبياء والمرسلين؛ لأن تأليه الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه فرض
ودليله الشهادة، وهذه الشهادة تنفي هذا القسم، والشهادة بأن محمداً رسول
الله تنفي أن يكون أحد نبياً بعد محمد عليه الصلاة والسلام.فدل هذا على أن
من جعل بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً فهو كافر، ومن جعل مع الله
-جل وعلا- إلهاً يعبده ويرجوه ويستغيث به، ويسأله رفع الضر وجلب النفع أنه
كافر من باب أولى؛ لأن حق الله -جل وعلا- أعظم من حق خلقه.
وهذا
الذي ذكره الإمام -رحمه الله تعالى- وجيه وعظيم من جهة أن حال أولئك هو دون
ما نحن فيه، فالذين اتبعوا مسيلمة الكذاب وأقروا له بالنبوة هم أخف حالاً
ممن أله غير الله، وسجد له، واستغاث به، وتقرب إليه رجاء شفاعته ليكون له
شافعاً عند الله جل وعلا، وطالباً وداعياً له عند الله جل وعلا، فكفر هؤلاء
أعظم كفراً من الأولين بدلالة القياس الذي ذكرناه.إنَّ
قتال مانعي الزكاة، وتكفير الصحابة لمن لم يلتزم بوجوب أداء الزكاة لخليفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتال أولئك قتال المرتدين لا قتال البغاة
يدل على ما نحن فيه من باب الأولى، فإن مانعي الزكاة أكثرهم مرتد عن الدين،
ولهذا سماهم الصحابة -رضوان الله عليهم- مرتدين، وقالوا في قتال بني حنيفة
وفي قتال مانعي الزكاة جميعاً: قتال المرتدين، ولم يفرقوا ما بين طائفة
وطائفة؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الطائفة الممتنعة عن تحريم ماحرم الله
-جل وعلا- أو عن تحليل ما أحل الله، أو الطائفة الممتنعة عن امتثال ما أمر
الله -جل وعلا- أنه يجب قتالها، ثم إن كان امتناعها من جهة عدم الالتزام
والانقـياد، فإنها تكفر بذلك. ولهذا نص العلماء على
أنه لو اجتمع أهل قرية على أن يتركوا الأذان فإنه يجب قتالهم، مع أن
الأذان سنة عند كثير من أهل العلم، وفرض كفاية عند آخرين، ولو اجتمعوا على
ترك سنة من السنن، فإنهم يقاتلون حتى يلتزموها، يعني: حتى يعملوا بها ولا
يجتمعوا على تركها.فإن كانوا غير منقـادين، ممتنعين امتناع عدم التزام فإنهم مرتدون بذلك.ومعنى الطائفة الممتنعة: يعني
غير الملتزمة، ومعنى الالتزام في هذا الموضع: أن يقول: (إنَّ هذا الأمر -
إما الواجب أو المحرم - حق في نفسه فهو واجب أوجبه الله، أو هـو حـرام
حرمـه الله، ولكـن أنـا غير مخاطب بهذا، يخاطب به غيري من الناس، فأنا غير
داخل في هذا الخطاب) كما قال مانعوا الزكاة: إن هذا طلب الزكاة أن ترسل إلى
المدينة، هذا لغير أهل نجد، لغيرنا، يعني فيما قالوا، لم يلتزم اتجاه
الخطاب إليهم، فخرجوا إذاً بقولهم عن عموم المخاطَبة، وهذا ردة عن الدين؛
لأنه انتفى معه شرط الانقياد؛ لأن من شروط (لا إله إلا الله) الانقياد،
ومعنى الانقياد: الالتزام بتحليل ما أحل الله - يعني باعتقاد حله وأن هذا
المسلم مخاطب بهذا التحليل - وتحريم ما حرم الله باعتقاد حرمته وأنه مخاطب
بهذا التحريم.
فمانعوا الزكاة كانوا على صنفين:
-منهم
من لم يلتزم، يعني: امتنع بحيث قال: (إنه غير مخاطب بهذا الحكم، ولا يلزمه
أن يعطي الزكاة للخليفة) مع إقراره بأن هذا الحكم متوجه إلى غيره، فيقول:
(هذا واجب، ولكن أنا لا أدخل في هذا الواجب) فلم ينقد لكل الأحكام، يعني:
لم يجعل نفسه داخلاً في خطاب الله -جل وعلا- للمكلفين بأحكام الإسلام، فهذا
يسمى امتناعاً، امتناع عن دخوله في بعض أحكام الشريعة، وهذا كفر وردة كما
ذكرنا.
-ومنهم - من مانعي الزكاة - طائفة أخرى منعوها للتأويل فقالوا: (أهل المدينة ليسوا بحاجة، ونحن بحاجةٍ إلى الزكاة فنحن أولى بها).
والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء،
بل جعلوا قتال مانعي الزكاة كقتال المرتدين، بل لم يجعلوا المرء من
المرتدين الأولين من بني حنيفة أتباع مسيلمة ولا من مانعي الزكاة، لم
يجعلوه سالماً حتى يشهد على قتلاهم أنهم في النار وعلى قتلى المؤمنين أنهم
في الجنة.
وهذا
يدل على أن من لم يلتزم توحيد العبادة، بمعنى جعل توحيد العبادة حقاً ولكن
قال: (نحن غير مخاطبين بذلك؛ لأن الناس لهم كذا وكذا من التأويلات) فهذا
داخل في جنس هذه المسألة.ولهذا
استدلال الشيخ -رحمه الله- بالاستدلال الأولوي في محله، واستدلال وجيه
وحكيم؛ لأن هذه المسألة التي نحن فيها أعظم مما قاتل فيه الصحابة -رضوان
الله عليهم- المرتدين ومانعي الزكاة، فقتالهم لهم في شأن أقل مما نحن فيه.وليس كل طائفة تترك شريعة من شرائع الله أو شعيرة من شعائر الله فتقاتل تعتبر مرتدة، بل
تقاتل لتلتزم، وقد يكون تركها لعدم الالتزام - يعني من جهة الامتناع -
فتكون كافرة، وقد يكون تركها لأجل شبهة أو تأويل لا لأجل عدم الالتزام؛ فلا
تكفر بذلك، وإنما يكفر من لم ينقد لشهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله).وضابط الانقياد هوما ذكرت لك بأن يكون ملتزماً.وبهذا يكون هناك فرق عظيم ما بين الجحد والامتناع، وما بين القبول والالتزام.فالجحد في الحكم على الطوائف يقابله القبول، والامتناع يقابله الالتزام.
فالامتناع والالتزام: لفظان لدخول المخاطب في الأحكام الشرعية.
والقبول والجحد: لفظان لإقرار المخاطب بالحكم له ولغيره، فمن أقر بأن هذا الحكم شامل له ولغيره، هذا واجب علي وعلى غيري فهذا يعتبر قابلاً، وإذا قال: (هذا الحكم ليس لي ولا لغيري، ليس واجباً) هذا يعد جاحداً.وإذا قال: (نعم هذا الحكم واجب، أداء الصلوات واجب فرضه الله جل وعلا، لكن إنما وجب على طائفة من الناس وطائفة أخر ى لا يجب عليها) كحال الذين سقطت عنهم التكاليف وارتفعت أحوالهم حتى لا تؤثر فيهم الطاعات في زيادة يقين، فهذا كحال غلاة الصوفية، فهذا يكون ممتنعاً غير ملتزم، وهذا قرره العلماء في مواطن عدة، وبحثه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث جيد في الفرق ما بين الالتزام والقبول، والامتناع والجحد، في كلامه على ترجيح الطاعة أو ترجيح الأمر على النهي، أو النهي على الأمر في (مجموع الفتاوى) وهو مقرر عند كثير من أهل العلم.
إذا تقرر هذا: فمسألة مانعي الزكاة ربما تجد:
- من أهل العلم من يقول:إنهم قوتلوا قتال بغاة.
- ومنهم من قال:إنهم قوتلوا قتال مرتدين.
وهذا
لأجل انقسامهم في أنفسهم، فليس الجميع غير ملتزم، ليس الجميع ممتنعاً بل
فيهم هذا وفيهم هذا، لكن الصحابة أجمعوا على قتالهم قتال مرتدين، حتى قال عمر
رضي الله عنه: (ما زلت بأبي بكر لعله أن يترك القتال حتى قال أبو بكر رضي
الله عنه: (والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لقاتلتهم على منعها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) قال
عمر: (فما رأيت إلا أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) وقاتل
مع الصحابة رضوان الله عليهم، وأقر بذلك.
إذا تقرر هذا: فالمسألة
التي نحن فيها أعظم وأبلغ من هذه المسائل التي قاتل الصحابة الناس عليها
والتي كفروا المرتدين بها، لهذا نقول: من رفع كما قال الشيخ هنا: (من رفع شمسان ويوسف أو تاجاً أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة) الله
-جل وعلا- فأعطاه صفات الحق تبارك وتعالى في كونه يغيث الملهوف، ويجيب
المضطر، وكونه يغفر الذنب، وكونه يمنع ويعطي، ويتصرف في الملكوت؛ فلا شك أن
هذا أعظم كفراً من الأولين، وأن قتالهم بعد إقامة الحجة عليهم أوجب من
قتال الأوائل.
فإذا
كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قاتلوا من لم يلتزم حكم الزكاة وتأدية
الزكاة إلى الخليفة وقاتلوا الطائفة الممتنعة عن هذا الحكم؛ فإن قتال
الطائفة الممتنعة عن توحيد العبادة أظهر في البرهان وأوجب.فهذه الشبهة التي أوردوها هي في الواقع تنعكس عليهم والحجة لنا فيها وليست علينا، ولكن كما قال الله جل وعلا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
قال الشيخ رحمه الله: (ويقال أيضاً: الذي حرقهم علي
بن أبي طالب -رضي الله عنه- كلهم يدَّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي رضي
الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في
يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن
الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر
والاعتقاد في علي بن أبي طالب يُكفِّر؟) هذا جواب أيضاً من الأجوبة
على الشبهة التي أوردوها أولاً من أن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله وأتى بأركان الإسلام أنه لا يكفر.قال الإمام رحمه الله: (ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه)لم
حرقهم؟ وحديث تحريقهم في الصحيح، هل حرقهم لأنهم أنكروا أمراً من الإسلام؟
أو أنهم عبدوا الأصنام أو عبدوا الأوثان؟ أم أنهم جعلوا لعلي منزلة الإله؟
فجعلوا علياً -رضي الله- عنه له ما للرب جل وعلا، ولهذا قال: علي رضي الله
عنه ورحمه:
لما رأيت الأمر أمراً منكـراً ... أججت ناري ودعوت قَنبَراً
فالذي يترك دينه ويرتد فإنه يجب قتله ويحل دمه، والصحابة أجمعوا على قتلهم وكفرهم، وحرقهم علي رضي الله عنه، لِمَ؟.لأنهم جعلوا لعلي بعض خصائص الألوهية.وإذا
كان كذلك فهذا الإجماع يمكن أن يسلط على هذه المسألة التي يوردون علينا
فيها الشبهات، وهي مسألة هؤلاء الذين يعبدون الطواغيت أو يعبدون الأولياء
أو يعبدون الصالحين، ويقولون: إن هؤلاء يغيثون، وأنهم يعطون المرأة الولد،
وأنهم يغفرون الذنب وأنهم يقضون الدين، بل ربما جعلوا لهم أعظم مما للرب جل
وعلا وتعالى وتقدس.
قال الشيخ: (فكيف
أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم
تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب
يكفر) لا شك أن هذا لا يقوله أحد منهم؛ لأن معناه أن مرتبة تاج
وشمسان إلى آخره أرفع من مرتبة علي رضي الله عنه، إذا قالوا: إن من اعتقد
في علي يكفر، ومن اعتقد في شمسان وتاج لا يكفر، من اعتقد في علي يكفر ومن
اعتقد في البدوي وفي العيدروس وفي المرغني وفي فلان وعبد القادر لا يكفر،
لا شك أن هذا معناه رفع هؤلاء عن مرتبة علي رضي الله عنه، وهذا تكفيره من
باب أولى، وهذه الحجة واضحة في الدلالة وواضحة في البيان.
العناصر
الجواب الثاني عن هذه الشبهة الحادية عشر
- من جحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع
- التوحيد أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فمن جحده كفر
- المتأخرون يجهلون وقوعهم في الشرك لجهلهم بمعنى "لا إله إلا الله"
الجواب الثالث عن الشبهة الحادية عشرة
- أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة مع أنهم يقرون بالشهادتين ويؤذنون ويصلون ...
- إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر فكيف بمن رفعه إلى مرتبة جبار السماوات والأرض
- الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار كلهم يدعون الإسلام
- تكفير الصحابة لهم يدل على أنهم أتوا مكفراً
الأسئلة
س2: ما حكم من جحد وجوب الصيام؟ س3: لم قاتل الصحابة -رضي الله عنهم- بني حنيفة؟ س4: أيهما أعظم: ادعاء النبوة في مسيلمة؛ أو الاستشفاع بالصالحين؟ س5: لماذا حرّق علي رضي الله عنه الفئة الغالية فيه؟