30 Oct 2008
الدرس الحادي عشر: شرح الجواب المجمل على كلّ شبهة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (أَمَّا المُجْملُ:
فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ وَالفَائِدةُ الكَبيرَةُ لِمَنْ عَقَلَها وَذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7].
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)).
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ}[يونس: 62] أَوْ إنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ، أو إنَّ الأنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِندَ اللهِ.
أَوْ ذَكَرَ كَلاماً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَدلُّ بِهِ على شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لا تَفْهَمُ مَعْنى الْكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ، فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ لنا في كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.وَمَا
ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكينَ يُقِرُّونَ
بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّه كَفَّرَهُم بِتَعَلُّقِهِم عَلى المَلائِكَةِ
أو الأَنْبِياءِ أو الأَوْلياءِ مَعَ قَوْلِهِم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18] وهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ.
وَمَا
ذَكَرْتَه لي أيُّها المُشْركُ مِن القُرآنِ أَوْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أَعْرفُ مَعْناهُ، وَلكِنْ أَقْطَعُ
أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَناقَضُ، وَأَنَّ كَلامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخَالِفُ كَلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا
جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ، وَلَكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللهُ تعالى، ولا تَسْتَهْوِنْهُ، فَإِنَّهُ كَما قَالَ تَعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35]).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (أَمَّا المُجْملُ:
فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ وَالفَائِدةُ الكَبيرَةُ لِمَنْ عَقَلَها وَذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7](1)(2).
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ))(3).
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ}[يونس: 62] أَوْ إنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ، أو إنَّ الأنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِندَ اللهِ.
أَوْ ذَكَرَ كَلاماً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَدلُّ بِهِ على شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لا تَفْهَمُ مَعْنى الْكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ(4)، فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ لنا في كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
وَمَا
ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكينَ يُقِرُّونَ
بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّه كَفَّرَهُم بِتَعَلُّقِهِم عَلى المَلائِكَةِ
أو الأَنْبِياءِ أو الأَوْلياءِ مَعَ قَوْلِهِم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18](5) وهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ(6).
وَمَا
ذَكَرْتَه لي أيُّها المُشْركُ مِن القُرآنِ أَوْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أَعْرفُ مَعْناهُ(7)، وَلكِنْ أَقْطَعُ
أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَناقَضُ، وَأَنَّ كَلامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخَالِفُ كَلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ(8).
وَهَذَا
جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ، وَلَكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللهُ تعالى، ولا تَسْتَهْوِنْهُ(9)، فَإِنَّهُ كَما قَالَ تَعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35](10)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (فَنَقُولُ: جَوَابُ أَهْلِ البَاطِلِ مِن طَرِيقَيْنِ) طَرِيقٍ (مُجْمَلٍ) وَطَرِيقٍ (مُفَصَّلٍ).
(أَمَّا المُجْمَلُ فهو الأَمْرُ العَظِيمُ والفَائِدَةُ الكَبِيرَةُ لِمَنْ عَقَلَهَا) وفَهِمَهَا وعَرَفَهَا، أَمَّا مَن كَانَتْ تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا الجَوَابَ لاَ يَكُونُ لَهُ حُجَّةً.
وإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ في المُجْمَلِ؛ لأَِنَّهُ في الحَقِيقَةِ يَصْلُحُ جَوَابًا لِكُلِّ شُبْهَةٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}
الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ تَعَبَّدَ اللهُ الخَلْقَ بالعِلْمِ بِهَا،
والعَمَلِ بِهَا والإِيمَانِ بِهَا، هَذَا هو حُكْمُ المُحْكَمِ:
الأَوَّلُ: الإِيمَانُ بِهِ أَنَّه مِن عِنْدِ اللهِ.
الثَّانِي: مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ.
الثَّالِثُ: العَمَلُ بِهِ.
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ والذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الاشْتِبَاهِ والإِشْكَالِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتُ} الدَّلاَلَةِ لَيْسَتْ دَلاَلَتُهَا وَاضِحَةً مِثْلَ المُحْكَمَاتِ، وحُكْمُهَا:
أَوَّلاً: الإِيمَانُ بِهَا أَنَّها مِن عِنْدِ اللهِ أَنْزَلَهَا عَلَى العِبَادِ ليُؤْمِنُوا بِهَا.
والثَّانِي: أَنْ لاَ تُفَسَّرَ بِمَا يُخَالِفُ المُحْكَمَ بل تُرَدُّ إِلَى الأُمِّ، وهو المُحْكَمُ وتُفَسَّرُ بِهِ.
(2) {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يَعْنِي: مَيْلٌ، ومنه قَوْلُه تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وزَاغَتِ الشَّمْسُ مَالَتْ، والمُرَادُ أَنَّ الذِينَ في قُلُوبِهِم مَيْلٌ عَنِ الحَقِّ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}
يَطْلُبُونَ المُتَشَابِهَ في الدَّلاَلَةِ ويَتْرُكُونَ المُحْكَمَ؛
ويَصْدِفُونَ عن الوَاضِحِ لكَوْنِهِ يَهْدِمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِن
البَاطِلِ ويَفْضَحُهُم؛ فالجَاهِلُ إِذَا أَدْلَوْا عَلَيْهِ بآيَةٍ مِن
المُتَشَابِهِ رَاجَتْ عَلَيْهِ، وهَذَا يُفِيدُ أَنَّ أَهْلَ الاهْتِدَاءِ
والاسْتِقَامَةِ يتَّبِعُونَ المُحْكَمَ وَيَرُدُّونَ المُتَشَابِهَ إلى
المُحْكَمِ، فيَقُولُونَ: لِمَ عَدَلْتَ عن هذه الآيَةِ وهذه الآيَةِ
الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ هَذَا، وَلاَ هَذَا، وأَنَّهُم خِلاَفُ أَهْلِ
الزَّيْغِ؛ لأَِنَّهُ خَصَّ أُولَئِكَ باتِّبَاعِ المُتَشَابِهِ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ}. حَذَّرَ
مِنْهُم؛ لأَِنَّ مُخَالَطَتَهُم وسَمَاعَ كَلاَمِهِم الدَّاءُ العُضَالُ
ومَرَضُ القُلُوبِ، ولاَ يَتَّكِلُ الإِنْسَانُ عَلَى مَا مَعَه مِن
الحَقِّ؛ بل يَبْعُدُ عَن أَهْلِ الزَّيْغِ ويُجَانِبُهُم وَلَوْ مَعَهُ
حَقٌّ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانَ هَذَا شَأْنَهُم ويَسْتَدِلُّونَ
بالحَدِيثِ. وللجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بالجَوَابِ المُجْمَلِ، إِذَا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكِينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
زَعَمَ أَنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم يُدْعَوْنَ، يَعْنِي:
فَيَطْلُبُونَ لَهُ، وَأَنَّهُم أَهْلُ قُرْبٍ ومَنْـزِلَةٍ وجَاهٍ
وَفَضْلٍ، وَمَنْ كَانَ كذلك فَقَدْ تَأَهَّل، أَو شَبَّهَ بـ (أَنَّ الشَفَاعَةَ) التي ذُكِرَتْ في النُّصُوصِ (حَقٌّ)
وَوَاقِعَةٌ، وإِذَا كَانَتْ حَقًّا فهي تُطْلَبُ مِن الأَمْوَاتِ
ونَحْوِهِم، فيَهْتِفُ باسْمِهِ ويَقُولُ: يَا فُلاَنُ، اشْفَعْ لي… (أو أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لَهُم جَاهٌ عِنْدَ اللهِ) فَهُم يُسْأَلُونَ ويُدْعَوْنَ ليَسْأَلُوا لِمَن لَيْسَ لَهُم الجَاهُ عِنْدَهُ (أو ذَكَرَ) المُبْطِلُ المُشَبِّهُ (كَلاَمًا
للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى
شَيْءٍ مِن بَاطِلِهِ وأَنْتَ لاَ تَفْهَمُ مَعْنَى الكَلاَمِ الذي
ذَكَرَهُ) يَعْنِي: لاَ تَفْهَمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ وتَفْهَمُ وتَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِه أُمُورٌ بَاطِلَةٌ. وتُبَيِّنُ
له أَنَّ الدَّاعِيَ عَبْدَ القَادِرِ مَثَلاً يَدَّعِي أَنَّه ذُو
مَكَانَةٍ وَأَنْتَ مُقِرٌّ بالرُّبُوبِيَّةِ والمُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ
مُقِرُّونَ بالرُّبُوبِيَّةِ وَلاَ نَفَعَهُم، وَأَنَّ اللهَ كَفَّرَهُم
بِتَعَلُّقِهِم عَلَى المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والأَوْلِيَاءِ مَعَ
قَوْلِهِم: {هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} وَمَعَ قَوْلِهِم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} مَا زَادُوا عَلَى هَذَا. الأَوَّلُ: احْتِجَاجُهُم بالمُتَشَابِهِ. (7) (وَمَا ذَكَرْتَهُ لي أَيُّهَا المُشْرِكُ مِن القُرْآنِ) كَقَوْلِهِ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فَإِنَّهُ مِن المُتَشَابِهِ وحُكْمُهُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى المُحْكَمِ (أَو كَلاَمِ النَّبِيِّ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: ((وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ)) (لاَ أَعْرِفُ مَعْنَاهُ) لاَ أَعْرِفُ دَلاَلَتَهُ عَلَى مَا قَصَدْتَ وَأَرَدْتَ أَنَّهُم يُدْعَوْنَ مِن دونِ الله، نَعَمْ {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
ولَكِنْ أَيْنَ دَلاَلَتُهُ عَلَى المَقَامِ؟ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُم
يُدْعَوْنَ، مَن وَصَّلَهُم إِلَى هَذِه الدَّرَجَةِ؟ أَأَنْتَ الذِي
تَقُولُ هَذَا!؟ وَأَنَا عِنْدِي شَيْءٌ أَقْطَعُ بِهِ كالشَّمْسِ مِن
النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَدًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَن
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. فالأَدِلَّةُ
التي مَعِيَ لاَ يُنَاقِضُهَا شَيْءٌ هي مِن المُحْكَمَاتِ، وَمَا
زَعَمَهُ أَنَّه يُخَالِفُهَا مِن المُتَشَابِهِ فَلاَ يُخَالِفُهَا
أَبَدًا، وَلَوْ ادَّعَى هو أَنَّ كَلاَمَ اللهِ يَتَنَاقَضُ لَكَانَ
كُفْرًا آخَرَ، وكَذَلِكَ لَو ادَّعَى أَنَّ كَلاَمَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُ كَلاَمَ اللهِ لَكَانَ كُفْرًا آخَرَ
سِوَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِن الكُفْرِ. (9) (وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ ولَكِنْ لاَ يَفْهَمُهُ إِلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى فَلاَ تَسْتَهِنْ بِهِ) هَذَا ثَنَاءٌ مِن المُؤَلِّفِ عَلَى هَذَا الجَوَابِ المُجْمَلِ وأَنَّهُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي دَفْعِ شُبَهِ المُشَبِّهِ.
فَصَارَ هَذَا الَجَوابُ عَن هَذِه الشُّبَهِ جَوَابًا مُرَكَّبًا مِن ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
وهَذَا
حُكْمُ أَهْلِ البَاطِلِ؛ أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُم لِئَلاَّ تَدْخُلَ
القَلْبَ شُبْهَةٌ يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا؛ فإِنَّ أَهْلَ البَاطِلِ
لاَ يَأْلُونَ جُهْدًا أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُم في زَيْغِ القُلُوبِ،
وهُم أَضَرُّ عَلَى النَّاسِ مِن أَهْلِ المَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ.
والثَّانِي:
أَنَّ المُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بالرُّبُوبِيَّةِ -كَمَا تَقَدَّمَ-
وَأَنَّ اللهَ كَفَّرَهُم بتَعَلُّقِهِم عَلَى المَلاَئِكَةِ ونَحْوِهِم،
كَوْنُهُم مَا طَلَبُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ والقُرْبَ إِلَى اللهِ
بِذَلِكَ لَيْسَ مِن الأُمُورِ المُتَشَابِهَةِ؛ كَمَا أَنَّ مِن الأُمُورِ
المُحْكَمَةِ أَنَّهُم مَا أَرَادُوا مِمَّن دَعَوْهُ وذَبَحُوا له
وتَعَلَّقُوا عَلَيْهِ إِلاَّ شَفَاعَتَهُ كَمَا قَالَ فيه: {وَالَّذِينَ
اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي
مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ}.
الأَوَّلُ: بَيَانُ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ.
الثَّانِي:أَنَّ
الأَوَّلِينَ مُقِرُّونَ بالرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُنَازِعُوا فيها،
وأَنَّهُم مَا ادَّعَوْا إِلاَّ مِثْلَمَا ادَّعَى هَذَا المُشَبِّهُ مِن
طَلَبِ الشَّفَاعَةِ والقُرْبِ إِلَى اللهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ
كَفَّرَهُم بِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ
مَعِيَ نُصُوصًا لاَ تَتَنَاقَضُ، وَأَنَّ كَلاَمَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُخَالِفُ كَلاَمَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَنَّ المُبْطِلَ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ هو حَقٌّ وَلاَ يَدُلُّ عَلَى
البَاطِلِ بِحَالٍ.
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (أَمَّا المُجْملُ:
فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ وَالفَائِدةُ الكَبيرَةُ لِمَنْ عَقَلَها وَذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7](1).
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)).
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ}[يونس: 62] أَوْ إنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ، أو إنَّ الأنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِندَ اللهِ(2).
أَوْ ذَكَرَ كَلاماً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَدلُّ بِهِ على شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لا تَفْهَمُ مَعْنى الْكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ، فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ لنا في كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
وَمَا
ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكينَ يُقِرُّونَ
بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّه كَفَّرَهُم بِتَعَلُّقِهِم عَلى المَلائِكَةِ
أو الأَنْبِياءِ أو الأَوْلياءِ مَعَ قَوْلِهِم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18] وهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ(3).
وَمَا
ذَكَرْتَه لي أيُّها المُشْركُ مِن القُرآنِ أَوْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أَعْرفُ مَعْناهُ، وَلكِنْ أَقْطَعُ
أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَناقَضُ، وَأَنَّ كَلامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخَالِفُ كَلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ(4).
وَهَذَا
جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ(5)، وَلَكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللهُ تعالى، ولا تَسْتَهْوِنْهُ، فَإِنَّهُ كَما قَالَ تَعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35](6)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنَّهُ سيُجِيبُ على هذهِ الشُّبُهاتِ بِجَوَابَيْنِ:
أحدُهما: مُجْمَلٌ عامٌّ صالحٌ لكلِّ شُبْهَةٍ.
الثَّاني: مُفْصَّلٌ،
وهكَذا يَنْبِغي لأهلِ العِلمِ في بابِ المُناظَرَةِ والمُجادلةِ، أن
يَأْتُوا بِجوابٍ مُجْمَلٍ حتَّى يَشْمَلَ ما يَحْتَمِلُ أنْ يُورِدَهُ
المُلَبِّسُونَ المُشَبِّهونَ، ويَأْتِي بجوابٍ مُفَصَّلٍ لكلِّ مسألةٍ
بعَيْنِها، قالَ اللهُ تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[ هودٌ: 1 ].
فذكَرَ
في الجوابِ الْمُجْمَلِ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ هؤلاءِ الَّذينَ يَتَّبِعونَ
المُتشابِهَ هم الَّذينَ في قلوبِهم زيغٌ، كما صَحَّ ذلكَ عن النَّبيِّ
صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1) في قولِهِ تعالى: {هُوَ
الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ...} [ آلُ عِمْرَانَ: 7 ].
ولِهذا
تَجِدُ أهْلَ الزَّيْغِ - والعِياذُ باللهِ - يَأْتُونَ بالآياتِ
المُتشابهاتِ لِيُلَبِّسُوا بها على باطلِهم، فيَقولونَ مَثَلاً: قالَ
اللهُ تعالى كَذا، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ كَذا، فكيفَ يَكونُ؟ وهذا مِثلُ
ما حَصَلَ لِنَافِعِ بنِ الأَزْرَقِ معَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهما في مُناظَرَتِهِ الَّتي ذكَرَها السُّيوطيُّ في (الإِتْقَانِ)(2)،
وربَّما يَكونُ غَيْرُهُ ذكَرَها، وهيَ مُفيدةٌ.
(2) قالَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ: (وقدْ صَحَّ عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)) )
اسْتَدَلَّ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بهذا الحديثِ على أنَّ الرَّجلَ
الَّذي يَتَّبِعُ المُتَشَابِهَ من القرآنِ أوْ مِن السُّنَّةِ وصارَ
يُلَبِّسُ بهِ على باطِلِهِ فهؤلاءِ هم الَّذينَ سَمَّاهم اللهُ ووَصَفَهم
بِقولِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [ آلُ عِمْرانَ: 7 ].
ثمَّ أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَذَرِ منهمْ فقالَ: ((احْذَرُوهُم))
مِنْ أنْ يُضِلُّوكم عنْ سَبيلِ اللهِ باتِّباعِ هذا المُتَشابِهِ،
واحْذَروا طريقَهم أيضًا، فالتَّحذيرُ هنا يَشْمَلُ التَّحذيرَ عنْ
طريقِهم، والتَّحذيرَ مِنهم أيضًا(3).
ثمَّ ضَرَبَ المؤلِّفُ لهم مَثَلاً بأنْ يقولَ لكَ المُشرِكُ: أَلَيسَ اللهُ يَقولُ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
أَوَلَيْسَ لِلأَوْلِياءِ جاهٌ عندَ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى؟ أَوَلَيْسَت
الشَّفاعةُ ثابتةً بالقرآنِ والسُّنَّةِ؟ وما أَشْبَهَ ذلكَ مِنْ هذهِ
الأشياءِ.
فقُلْ:
نعَمْ، كلُّ هذا حقٌّ، ولكنَّهُ ليسَ فيهِ دَليلٌ على أنْ تُشْرِكَ
بِهؤلاءِ الأولياءِ، أوْ بِهؤلاءِ الرُّسلِ، أوْ بهؤلاءِ الَّذينَ عندَهم
شَفاعةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ودَعْوَاكَ أنَّ هذا يَدُلُّ على ذلكَ
دَعْوَى باطلةٌ لا يَحْتَجُّ بها إلاَّ مُبْطِلٌ، وما أنتَ إلاَّ مِن
الَّذينَ قالَ اللهُ فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ولوْ أنَّكَ رَدَدْتَ هذا المُتَشابِهَ إلى المُحْكَمِ لَعَلِمْتَ أنَّ هذا لا دَليلَ لكَ فيهِ.
(3)
ذكَرَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ كيفَ نَرُدُّ المتشابهَ إلى المُحْكَمِ،
أنَّ المُشرِكِينَ كانوا مُقِرِّينَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ويُؤْمِنونَ
بذلكَ إيمانًا لا شَكَّ فيهِ عندَهم، ولكنَّهم يَعْبُدُونَ المَلائِكةَ
وغيرَهم ويَقولونَ: هؤلاءِ شُفَعاؤُنا عندَ اللهِ، ومعَ هذا كانوا
مُشرِكِينَ اسْتَبَاحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِماءَهم
وأموالَهم، وهذا نَصٌّ مُحْكَمٌ لا اشْتِباهَ فيهِ دالٌّ على أنَّ اللهَ لا
شريكَ لهُ في أُلُوهيَّتِهِ، وفي عبادتِهِ، كما أنَّهُ لا شريكَ لهُ في
رُبُوبيَّتِهِ ومُلْكِهِ، وأنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ في أُلُوهيَّتِهِ
فهوَ مُشْرِكٌ وإنْ وَحَّدَهُ في الرُّبوبيَّةِ. -قالَ تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [ النِّساءُ: 82 ]. (5) قولُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (وهذا جَوابٌ جيِّدٌ سَدِيدٌ)
يَعْنِي قولَ الإِنسانِ لِخَصْمِهِ: إنَّ كلامَ اللهِ تعالى لا
يَتَنَاقَضُ، وإنَّ كلامَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
لا يُخالِفُ كلامَ اللهِ، وإنَّ الواجبَ رَدُّ المُتَشَابِهِ إلى
المُحْكَمِ، فهذا أَجابَ بِجوابٍ سديدٍ، أيْ: سَادٍّ لِمَحِلِّهِ، لا
يُمْكِنُ لأحدٍ أن يُناقِضَهُ، أوْ يَرُدَّ عليهِ ما يَنْقُضُهُ؛ لأنَّهُ
كلامٌ مُحْكَمٌ مَبْنِيٌّ على الدَّليلَيْنِ؛ السَّمعيِّ والعقليِّ، وما
كانَ كذلكَ فإنَّهُ جوابٌ لا يُمْكِنُ لأيِّ مُبْطِلٍ أنْ يَنْقُضَهُ. (6) قولُهُ: (ولكنْ لا يَفْهَمُهُ...) إلخ،
يَعْنِي: أنَّ هذا الجوابَ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ
فكَشَفَ عنهُ فِتْنةَ الشُّبُهاتِ وفِتنةَ الشَّهَواتِ، ثمَّ اسْتَدَلَّ
لذلكَ بقولِهِ تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} أيْ: ما يُوَفَّقُ لِلدَّفعِ بالَّتي هيَ أَحْسَنُ.
-وقالَ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [ النحلُ: 89 ].
-وقالَ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ النحلُ: 44].
وكلامُ
الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخالِفُ كلامَ اللهِ،
وكذلكَ كلامُ اللهِ لا يُناقِضُ بعضُهُ بعضًا، وقدْ أَخْبَرَ سُبحانَهُ
وتعالى أنَّهُ لا شريكَ لهُ، وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ …)) إلى آخِرِ الحديثِ.
وهذا
كلُّهُ يُؤَيِّدُ بعضُهُ بعضًا، ويَدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى ليسَ لهُ
شَرِيكٌ في الألوهيَّةِ، كما أنَّهُ ليسَ لهُ شريكٌ في الرُّبوبيَّةِ.
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) انظرها فيه: (1/120-133: ط المكتبة الثقافية)
(3) فقوله صلى الله عليه وسلم: ((فاحذروهم)) يجمع أصلين:
الأول: الحذر من مقالتهم وطريقهم الذي يدعون إليه.
الثاني:الحذر منهم أنفسهم فلا يصحبون ولا يُركن إليهم.
أحدهما: معناه في نفسه الذي ذكره أهل العلم.
والآخر: معناه الذي يدعيه المستدل به من المشركين.
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (أَمَّا المُجْملُ:
فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ وَالفَائِدةُ الكَبيرَةُ لِمَنْ عَقَلَها وَذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7](1).
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ))(2).
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ}[يونس: 62] أَوْ إنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ، أو إنَّ الأنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِندَ اللهِ.
أَوْ ذَكَرَ كَلاماً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَدلُّ بِهِ على شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لا تَفْهَمُ مَعْنى الْكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ، فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ لنا في كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
وَمَا
ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكينَ يُقِرُّونَ
بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّه كَفَّرَهُم بِتَعَلُّقِهِم عَلى المَلائِكَةِ
أو الأَنْبِياءِ أو الأَوْلياءِ مَعَ قَوْلِهِم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18] وهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ.
وَمَا
ذَكَرْتَه لي أيُّها المُشْركُ مِن القُرآنِ أَوْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أَعْرفُ مَعْناهُ، وَلكِنْ أَقْطَعُ
أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَناقَضُ، وَأَنَّ كَلامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخَالِفُ كَلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا
جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ، وَلَكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللهُ تعالى، ولا تَسْتَهْوِنْهُ، فَإِنَّهُ كَما قَالَ تَعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35](3)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) هذا هو الرَّدُّ المُجْمَلُ عَلَى الشُّبُهَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ} يَعْنِي: القُرْآنَ {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ} المُحْكَمُ: هو الَّذي لاَ يُحْتَاجُ في بَيَانِهِ إلى غَيْرِهِ.
فالقُرْآنُ منه آياتٌ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ مُحْكَمَاتٌ،يَعْنِي: بيِّنَاتٌ واضِحَاتٌ في مَعَانِيهَا لاَ تَحْتَاجُ إلى غَيْرِهَا {هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ}أمُّ
الشَّيْءِ: هو الأَصْلُ الَّذي يُرْجَعُ إِلَيْهِ، فالآيَاتُ
المُحْكَمَاتُ هنَّ الأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ في الآيَاتِ
المُتَشَابِهَاتِ بِحَيْثُ تُرَدُّ إِلَيْهَا فَتُبَيِّنُهَا،
والمُتَشَابِهُ: هو الَّذي يُحْتَاجُ لبَيَانِ مَعَانِيهِ إِلَى غَيْرِهِ،
ومِن المُتَشَابِهِ: المُحْتَمِلُ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ ويَحْتَاجُ
إِلَى غَيْرِه في بيانِ المُرَادِ منه، ومنه: المُطْلَقُ،ومنه:
المَنْسُوخُ.
وذَكَرَ -تَعَالَى- مَوْقِفَ النَّاسِ مِن هذَيْنِ القِسْمَيْنِ؛ المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} يَأْخُذُونَ
الآياتِ غَيْرَ الوَاضِحَةِ أو الآياتِ المُحْتَمِلَةَ ويَسْتَدِلُّونَ
بِهَا عَلَى مَا يُرِيدُونَ، مَعَ أنَّها مُحْتَمِلَةٌ لَيْسَتْ نَصًّا
فِيمَا يَقُولُونَ، لكن هم يُرِيدُونَ التَّلْبِيسَ عَلَى النَّاسِ،
ويَقُولُونَ: نَحْنُ اسْتَدْلَلْنَا بالقُرْآنِ، فيَأْخُذُونَ الآيَاتِ
الَّتِي لاَ يتَّضِحُ مَعْناهَا بِنَفْسِهَا، أو الآياتِ المُحْتَمِلَةَ
لعِدَّةِ مَعَانٍ فيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى مَا يُرِيدُونَ {ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ} أي: التَّشْكِيكِ والتَّضْلِيلِ أو{ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}التَّأْويلُ:
يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي رِسَالَتِهِ (التَّدْمُرِيَّةِ):
(المَعْنَى
الأَوَّلُ: أَنَّ المُرَادَ به التَّفْسِيرُ، وهَذَا هو المَعْرُوفُ
عِنْدَ المُتَقَدِّمِينَ، ولذلك تَجِدُ ابْنَ جَرِيرٍ الطَبَرِيَّ في
تَفْسِيرِه يَقُولُ: (القَوْلُ في تَأْويلِ قَوْلِهِ تَعَالَى) أي: في
تَفْسِيرِه، فإِنْ كَانَ هَذَا هو المَقْصُودَ في الآيةِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ} فإنَّه يُعْطَفُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ عَلَى لَفْظِ الجَلاَلَةِ فيُقْرَأُ هَكَذَا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} يَعْنِي: والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وهو التَّفْسِيرُ.
فتَفْسِيرُ القُرْآنِ عَلَى هَذَا الوَجْهِ لاَ يَعْلَمُه إلاَّ اللهُ وأَهْلُ العِلْمِ المُخْتَصُّونَ، وأمَّا العَوَامُّ والجُهَّالُ فَلاَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَه، وأَهْلُ الزَّيْغِ يَأْخُذُونَ المُتَشَابِهَ ولاَ يَرُدُّونَهُ إلى المُحْكَمِ ويَقْطَعُونَ بَعْضَ القُرْآنِ عن بَعْضٍ، فَيَأْخُذُونَ بَعْضَ الآياتِ ويَتْرُكُونَ البَعْضَ الآخَرَ.
أمَّا المَعْنَى الثَّاني للتأْويلِ: فهو الحَقِيقَةُ الَّتِي يَؤُولُ إِلَيْهَا الشَّيْءُ، وَمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ في المُسْتَقْبَلِ، مِثْلَ حَقَائِقِ مَا في الجَنَّةِ مِن أَعْنَابٍ ونَخِيلٍ وفَوَاكِهَ ولَبَنٍ وخَمْرٍ وعَسَلٍ وأَشْيَاءَ لاَ يَعْلَمُ حَقَائِقَهَا إلاَّ اللهُ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-؛ لأَِنَّها مِن عِلْمِ الغَيْبِ، وكَذَلِكَ كَيْفِيَّةُ أَسْمَاءِ اللهِ وصِفَاتِهِ لاَ يَعْلَمُها إلاَّ اللهُ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-، فالتَّأْوِيلُ عَلَى هذا المَعْنَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ في المُسْتَقْبَلِ فَإِذَا أُرِيدَ هَذَا المَعْنَى تَعَيَّنَ الوَقْفُ في الآيةِ عَلَى لَفْظِ الجَلاَلَةِ).
(2) صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في الحديثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ أنَّه قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)) أي: مِن القُرْآنِ والسُّنَّةِ ويَأْخُذُونَ بالنُّصُوصِ المُجْمَلَةِ ويَتْرُكُونَ النُّصُوصَ المُفَصَّلَةَ ((فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ)) في هذه الآيةِ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ((فَاحْذَرُوهُمْ)) أي: احْذَرُوا أَصْحَابَ هذه الطَّرِيقَةِ، لاَ يُلبِّسُوا عَلَيْكُم أَمْرَ دِينِكُم، فَهَذَا فيه التَّحْذِيرُ مِن عُلَمَاءِ الضَّلاَلِ، ومِن المُبْتَدِعَةِ لِئَلاَّ يُلَبِّسُوا عَلَيْنَا أَمْرَ دِينِنَا فَهَؤُلاَءِ مِن الَّذِينَ {يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}.
أَرَادَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنْ يَذْكُرَ مِثَالاً لِمَن يَأْخُذُ بالمُتَشَابِهِ ويَتْرُكُ المُحْكَمَ فَقَالَ:
(3)
أي: إِذَا قَالَ لَكَ واحِدٌ مِن عُلَمَاءِ المُشْرِكِينَ الَّذينَ
يَتَعَلَّقُونَ بالأَوْلِيَاءِ، ويَطْلُبُونَ منهم المَدَدَ
ويَسْتَغِيثُونَ بِهِم، كَمَا هو الحَالُ والوَاقِعُ الآنَ عِنْدَ عُبَّادِ
القُبُورِ، ويَقُولُونَ: إنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلاَ- يَقُولُ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وهؤلاَءِ أَوْلِياءُ، والنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَخْبَرَ أَنَّ الصَّالِحِين يَشْفَعُونَ، وَأَنَّ الأَوْلِيَاءَ يَشْفَعُونَ، والرُّسُلَ يَشْفَعُونَ.
فالجَوَابُ:أنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ لاَ شَكَّ في ذَلِكَ، ولَكِنَّهَا كَمَا ذَكَرَ اللهُ لاَبُدَّ لَهَا مِن شَرْطَيْنِ:
1-الإِذْنُ للشَّافِعِ أَنْ يَشْفَعَ.
2-وأنْ يَكُونَ المَشْفُوعُ فيه مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
ولاَ شَكَّ أنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- وَعَدَ الأَوْلِيَاءَ أَنَّهُم لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم ولاَ هُم يَحْزَنُونَ، لَكِنْ مَن الأَوْلِيَاءُ؟ هَلِ الأَوْلِيَاءُ طَائِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِن النَّاسِ عَلَيْهِم عَمَائِمُ ولِبَاسٌ خاصٌّ؟ أو الأَوْلِيَاءُ الَّذينَ بُنِيَ عَلَى قُبُورِهِم قِبَابٌ؛ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ اللهَ -سُبْحَانَه- بيَّنَهُم بعدَ هذه الآيةِ مُبَاشَرَةً حَيْثُ قَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
فكلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فهو وَلِيٌّ للهِ،لَيْسَتِ
الوَلاَيَةُ خَاصَّةً بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أو أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ
لَهُم لِبَاسٌ خَاصٌّ، ولَهُم سِمَاتٌ خَاصَّةٌ، أو عَلَى قُبُورِهِم
قِبَابٌ وزُخْرُفَاتٌ؛ الأَوْلِيَاءُ كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فإنَّه
وَلِيٌّ للهِ بِنَصِّ هذه الآيةِ.
فَقَدْ يَكُونُ الوَلِيُّ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، ولاَ له مَكَانَةٌ عندَ النَّاسِ، هَذَا مِن نَاحِيَةٍ، ومِن النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ: لَو ثَبَتَ أنَّه وَلِيٌّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فإِنَّ هَذَا لاَ يُعْطِيهِ شَيْئًا مِن الرُّبُوبيَّةِ، ولاَ شَيْئًا مِن حَقِّ اللهِ؛ لأَِنَّهُ عَبْدٌ للهِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يَمْلِكُ مِن الأَمْرِ شَيْئًا، لاَ يَخْلُقُ وَلاَ يَرْزُقُ، فَلَيْسَ المَعْنَى أَنَّه إِذَا كَانَ وليًّا أَنَّنَا نَتَعَلَّقُ بِهِ، ونُنْزِلُ حَاجَاتِنَا به، ونَسْتَغِيثُ بِهِ ونَطْلُبُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ اللهَ قَالَ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} لاَ مِن الأَوْلِيَاءِ ولاَ غَيْرِهِم، فاللهُ لاَ يَرْضَى بِهَذَا سُبْحَانَه وتَعَالَى.
فَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}أنَّهُم
يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِن الرُّبُوبِيَّةِ، وأنَّهُم يَنْفَعُونَ
ويَضُرُّونَ، وأنَّهم يُعْطَوْنَ الشَّفَاعَةَ، وأنَّهم وأنَّهم، كَمَا
يَزْعُمُ القُبُورِيُّونَ، فَمَن تَعَلَّقَ بالأَوْلِيَاءِ وطَلَبَ مِنْهُم
الشَّفَاعَةَ وهُم أَمْوَاتٌ، أو طَلَبَ مِنْهُم الإِغَاثَةَ وهم
أَمْوَاتٌ، أَو طَلَبَ مِنْهُم قَضَاءَ الحَاجَاتِ وهم في قُبُورِهِم
فإنَّه مِثْلُ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فيهِم: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}.
هم يَقُولُونَ:نَحْنُ
لاَ نَعْتَقِدُ أنَّهم يَخْلُقُونَ ويَرْزُقُونَ، وإنَّمَا مِن أَجْلِ
أَنْ نَجْعَلَهُم وَسَائِطَ بَيْنَنَا وبَيْنَ اللهِ؛ لأَِنَّهم
أَوْلِيَاءُ، ونَحْنُ مُقَصِّرُونَ، ونَحْنُ مُذْنِبُونَ فَهَؤُلاَءِ
بِصَلاَحِهِم وجَاهِهِم ومَكَانَتِهِم عِنْدَ اللهِ يَشْفَعُونَ لَنَا،
واللهُ رَدَّ عَلَيْهِم فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَسَمَّى هَذَا شِرْكًا.
وفي سُورَةِ يُونُسَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَن ذَلِكَ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سَمَّاهُ شِرْكًا.
فَالأَوْلِيَاءُ عِبَادٌ صَالِحُونَ لَهُم قَدْرُهُم ونَحْتَرِمُهُم ونُحِبُّهُم ونَقْتَدِي بِهِم في الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،لَكِنْ
لَيْسَ لَهُم شَرِكَةٌ مَعَ اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- وإنَّمَا هُم
مِثْلُنَا مُحْتَاجُونَ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- فُقَرَاءُ إِلَى اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ} هَذَا عَامٌّ {وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}
كلُّ العَالَمِ فُقَرَاءُ إلى اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- بِمَا فيهم
الأَوْلِيَاءُ، بِمَا فيهم الأَنْبِيَاءُ والرُّسُلُ، بِمَا فيهم
الملائِكَةُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- كلُّهُم فُقَرَاءُ إِلَى اللهِ
سُبْحَانَه وتَعَالَى، فَهَذا مِمَّا يُزِيلُ اللَّبْسَ؛ لأَِنَّ هؤلاء
يَأْخُذُونَ بَعْضَ القُرْآنِ ويَسْتَدِلُّونَ بِهِ، ويَتْرُكُونَ البَعْضَ
الآخَرَ؛ يَأْخُذُونَ الآيَةَ الَّتِي تَمْدَحُ الأَوْلِيَاءَ وتُثْنِي
عَلَيْهِم، ويَتْرُكُونَ الآيَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهم لاَ
يُعْبَدُونَ مِن دونِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْهُم
شَيْئًا وهم أَمْواتٌ فإنَّه مُشْرِكٌ كَافِرٌ، يَتْرُكُونَ هذه الآياتِ
فَهَذَا مِن الزَّيْغِ الَّذي ذَكَرَهُ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى.
أَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَحَاشَاهُم مِن هذا لاَ يَرْضَوْن بِهِ، وإنَّمَا يَرْضَى بِهِ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ -رَحِمَهُ اللهُ-: (لَكِنْ أَقْطَعُ أَنَّ كَلاَمَ اللهِ لاَ يَتَنَاقَضُ، وَأَنَّ كَلاَمَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لاَ يُخَالِفُ كَلاَمَ اللهِ) فَيَجِبُ رَدُّ النُّصُوصِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وتَفْسِيرُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، حَتَّى يتَّضِحَ المَطْلُوبُ، وهَذَا كَمَا قَالَ الشَّيْخُ جَوابٌ سَدِيدٌ، تَجِبُ العِنَايَةُ بِهِ؛ لأَِنَّه مَبْنِيٌّ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَنْ وُفِّقَ لَهُ فهو ذو حَظٍّ عَظِيمٍ.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (أَمَّا المُجْملُ:
فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ وَالفَائِدةُ الكَبيرَةُ لِمَنْ عَقَلَها وَذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7].
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)).
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكينَ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ}[يونس: 62] أَوْ إنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ، أو إنَّ الأنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِندَ اللهِ.
أَوْ ذَكَرَ كَلاماً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَدلُّ بِهِ على شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لا تَفْهَمُ مَعْنى الْكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ، فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ لنا في كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ ويَتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
وَمَا
ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكينَ يُقِرُّونَ
بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّه كَفَّرَهُم بِتَعَلُّقِهِم عَلى المَلائِكَةِ
أو الأَنْبِياءِ أو الأَوْلياءِ مَعَ قَوْلِهِم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18] وهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ.
وَمَا
ذَكَرْتَه لي أيُّها المُشْركُ مِن القُرآنِ أَوْ كَلامِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أَعْرفُ مَعْناهُ، وَلكِنْ أَقْطَعُ
أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَناقَضُ، وَأَنَّ كَلامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخَالِفُ كَلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا
جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ، وَلَكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللهُ تعالى، ولا تَسْتَهْوِنْهُ، فَإِنَّهُ كَما قَالَ تَعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35]).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (فإذاً: قول الشيخ رحمه الله: (أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة) يعني: أما الجواب الذي فيه البرهان والدليل العام والشامل لرد أفراد كثيرة من شبه أهل الباطل، بل لرد كل شبهة يوردها المبطلون.
قال: (فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها)
وهذا واضح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحال على هذا الجواب المجمل،
وأحال على هذا الأمر العام في قوله -عليه الصلاة والسلام- في بيان آية آل
عمران: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) وهذا إحالة إلى تحذيرٍ عام من كل صاحب شبهة.
وهذه يحتاجها كل مسلم،كل
موحد؛ لأن درجات العلم تختلف، حتى بعض أهل العلم قد يخفى عليه جواب بعض
الإشكالات، لكن إن كان من الراسخين في العلم ومن الموفقين آمن بما اشتبه
وأحال الجواب على المحكمات، ولا يلزم من ذلك أن تكون كل شبهة مردودة عند كل
عالم؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
لكن
المحكمات، الأمر المجمل العام، هذا تستفيده في كل موقف من المواقف التي
يجادلك من يخالف طريقة أهل التوحيد، طريقة أهل السنة والجماعة، طريقة السلف
الصالح، فالاستمساك بهذا الجواب المجمل غاية في الأهمية؛ لأنه قد لا
يستحضر طالب العلم، أو يستحضر الموحد جواب كل شبهة على تفصيلها؛ فإذا تمكن
من هذا الجواب المجمل فإنه يتمكن من رد كل شبهة أوردها المبطلون.
وتفصيل هذا الاستدلال المجمل برد كلام أهل الباطل في التوحيد، وبه تنكشف شبههم جميعاً.(وذلك قوله تعالى: {هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}) هذه الآية فيها بيان من الحق -جل وعلا- أن هذا القرآن أنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قسمان:
1-منه محكم.
2-ومنه متشابه.
والمتشابه والمحكم راجعان إلى دلالة الألفاظ، وراجعان إلى المعنى، لا إلى المراد به.
فـ(المحكم) اختلفت أقوال العلماء في تعريفه: ما هو المحكم وما هو المتشابه؟
فقال بعضهم: إن (المحكم): هو ما استبان معناه، واتضحت دلالته فلا لبس فيه، متضح لكل أحد لا لبس فيه ولا إشكال.و(المتشابه): ما يشتبه معناه المراد به، فلا يتضح.
فإذاً:رجع - على هذا التعريف - (المحكم) إلى المتضح البين، و(المتشابه) إلى ما يحتاج إلى اجتهاد ونظر، لا يتضح معناه. ومن الأقوال في ذلك: ما
رواه علي بن أبي طلحة في صحيفته المعروفة في التفسير عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- أنه قال: (المحكم هو ناسخه وأمره ونهيه وحلاله وحرامه). وليس
هذا محل بسط الكلام في المحكم والمتشابه، لكن المقصود من ذلك: أن الراجح
عند أهل العلم: أن (المحكم): هو ما تبينت دلالته واتضحت. و(المتشابه): هو ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد ونظر. والقرآن جعله الله -جل وعلا- محكماً كله، وجعله -جل وعلا- متشابهاً كله في آيات أُخَر. قال -جل وعلا- في بيان أن القرآن جميعه محكم:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فالقرآن
على هذا كله محكم، بمعنى أنه لا تفاوت فيه ولا اختلاف، متقن لا تفاوت فيه
ولا اختلاف، لا من جهة الأخبار، ولا من جهة الإنشاءات، فهو -جل وعلا- أحكمه
لا اختلاف فيه؛ كما قال جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} والقرآن أيضًا متشابه كله؛ كما قال جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً}
فالقرآن متشابه؛ لأنه بعضه يشبه بعضاً، آيات في التوحيد، وآيات التوحيد،
آيات في وصف أحد الرسل وبيان حاله مع قومه وآيات كذلك، بيان في الجنة
والجنة، والنار والنار، والآخرة والآخرة، وكذلك في صفات الله وصفات الله،
وهكذا.فبعضه يشبه بعضاً،في الأمر والنهي وفي الأمر والنهي، في الحلال والحرام، في الحلال والحرام، وهكذا.وهذان القسمان غير القسم الذي في هذه الآية، هذه الآية فيها تقسيم ثالث للقرآن: وهو أن القرآن منه محكم ومنه متشابه. النوع الأول: الآيات التي فيها بيان أن الكفار مقرون بتوحيد الربوبية، وأنهم لا إشكال عندهم في ذلك، هذا نوع. والنوع الثالث:من الآيات المحكمات في هذا الباب الواضحة: أن الأموات التي عبدت لا تملك شيئًا، وأنها يوم القيامة تتبرأ ممن عبدها. فالمحكمات:البينات الواضحات، وما من آية مشتبة في القرآن إلا ويمكن إرجاعها إلى محكم فيه. كذلك
كما هو ظاهر في هذه الأمة الفرق الضالة، من الخوارج والمرجئة والقدرية
والمعتزلة وأشباه هذه الفرق، فإن كل فرقة احتجت بالمتشابه وتركت المحكم،
فأخذت بعض آيات. الخوارج على بدعتهم في تكفير صاحب الكبيرة، استدلوا بقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} فقالوا: هذا يدل على أن فاعل الكبيرة كافر؛ لأنه حكم عليه بأنه خالد في النار. واحتجت المرجئة -مثلاً- على بدعتهم بآيات، واحتجت القدرية على بدعتهم بآيات، والجبرية على بدعتهم بآيات. إذًا:القرآن
فيه احتجاج لكل صاحب زيغ، حتى في هذا العصر أتت طائفة وقالوا: الصلوات في
القرآن ثلاث؛ لأن الله -جل وعلا- لم يذكر في القرآن خمس صلوات، فلا نصلي
إلا ثلاث. وقوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} نفهم منه أن من أضل بشبهة فهو مبتغ للفتنة، سواءً قال: أنالم أرد الإضلال أو قال: أردته؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وإذا نظرت إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)) ما يبين أنهم لم يبتغوا الفتنة في الناس قصدًا في الإضلال، فيعلمون أنهم على باطل فيضلون الناس، هذا غير مراد. وإنما
ابتغوا الفتنة كحالة لهم، فهم حين اتبعوا ما تشابه منه فقد ابتغوا الفتنة
في حالتهم، فحالهم حين اتبعوا المتشابه وتركوا المحكم أنهم يبتغون الفتنة
فنُّزِّلوا منزلة القاصد لذلك؛ لأنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه، فلمّا
أنهم لم يتخلصوا من الزيغ مع وضوح الهدى ووضوح طريقه، ولم يتبعوا المحكم
وإنما اتبعوا المتشابه، فالحال أنهم بطريقتهم هذه ابتغوا الفتنة لهم
ولأتباعهم، فكأنهم قصدوا ذلك قصدًا، وإن كانوا يقولون إنما أردنا الخير. فالخوارج
كانوا أشد الناس عبادة، أشد من الصحابة عبادة، يحقر أحد الصحابة عبادته مع
عبادتهم وصلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، فلا يظن بهم أنهم اتبعوا
المتشابه من القرآن قصدًا في مخالفة القرآن وقصدًا في الإضلال، وإنما حصل
منهم الضلال لشيئين: ثانيا: أنهم لم يرجعوا في بيان المتشابه إلى الراسخين في العلم في زمانهم، في زمن الصحابة رضي الله عنهم. - منها:آيات أخبار. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يعني: ابتغاء معرفة ما تؤول إليه أخباره وأوامره ونواهيه، أو {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} بمعنى ابتغاء تفسيره، فيصح الأول ويصح الثاني. وقال آخرون: الوقف على {الْعِلْم} فالعلماء
يعلمون؛ كما قال ابن عباس: (أنا ممن يعلمون تأويله)، فيكون المعنى هنا في
التأويل: التفسير؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لابن عباس فقال: ((اللهم علمه التأويل)) قال: (أنا ممن يعلمون تأويله) فيكون هنا معنى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يعني: ابتغاء تفسيره، فلا يعلم تفسيره الحق إلا الله -جل جلاله- وإلا الراسخون في العلم.والتفصيل هو الصحيح. -فمن
وقف على لفظ الجلالة ورأى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل فهو
إنما عنى - يعني: من أهل السنة ومن الصحابة؛ لأنه مروي عن السلف نوعان من
الوقف هنا - فمن رأى أن الوقف على لفظ الجلالة، رأى أن التأويل هو ما تؤول
إليه حقائق الأخبار فقط. أو التأويل هنا بمعنى التفسير. وإذا كان كذلك، فهنا يشكل على كثيرين تركيب الآية: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} كيف يكون التركيب على هذا الوجه؟ فنقول:قال أئمة التفسير: على هذا الوجه يكون التركيب: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} يعني: حالتهم أنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فيعلمون مع الإيمان به، ويقولون: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
لأجل أنه ليس في قلوبهم شك من ورود المتشابه، وأما ضعاف العلم، فقد يكون
في قلوبهم شك من وجود المتشابه في القرآن، كما فعل صَبيغ بن عِسْل -
المعروف في زمن عمر - حيث كان يتتبع (ما الذاريات ذرواً) ويشكك الناس بها،
فإذا ضعف العلم ربما وقعت الشبهة في القلب من صحة القرآن. قال: (وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)) ) والثاني: يجب عليه أن يقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيرجع
سبب الإشكال إلى جهله، وأما الآية في نفسها فواضحة، يعلمها الراسخون في
العلم، ولهذا - مثلاً - في باب التوحيد يأتيك من يحتج بالمتشابهات، مثلاً
-وربما مجالها سيأتي، ولكن لإيضاح المقام - يقول في قول الله جل وعلا: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}فهذا
فيه دليل على تأثير الصلاح فيما بعد، أو يقول: (الشهداء أحياء وأنت لا
تسأل ميتاً، إنما تسأل حياً، بِنصّ القرآن هم أحياء) لقوله: {وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ
أَحْيَاءٌ}{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتاً} ونحو ذلك.
حتى إن أهل شرب الخمر - والعياذ بالله - وأهل الربا، ونحو ذلك من الموبقات، وجدوا لهم بعض المشتبهات فاحتجوا بها. الآية دلت على أن الأولياء لهم منزلة عند الله جل وعلا؛لأنهم
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون، وأن لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، معنى ذلك: أن الولي له المنزلة
العظيمة عند الله جل وعلا.ثم يَستدل بأن الشفاعة حق،فيقول
هنا: الولي له جاه، وله حرمة، وله منـزلة عند الله جل وعلا، والشفاعة حق،
والأنبياء لهم جاه أيضاً والمنـزلة العظمى عند الله جل جلاله، فكيف تجعل من
سأل الأولياء من الأموات، أو سأل بعض الأنبياء من الأموات، ودعاهم يكون
مشركا مع منزلتهم الرفيعة عند الله، والشفاعة حق، والمنــزلة لهم ثابتة؟ فإذاً: هنا يأتينا رد ذلك تفصيلياً، لكن هنا كيف ترد عليه؟ كذلك النوع الثالث من الآيات المحكمات التي فيها بيان أن الله -جل جلاله- حكم على من أَلَّه عيسى بالكفر: {لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ}. إذاً: فهو يورد الشبهة، وأنت تورد عليه المحكمات. قال: (فجاوبه) يعني أجبه (بقولك:
إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما
ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم
على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} هذا أمر محكم بَيِّن لا يقدر أحد أن يغير معناه) أي: ليس له معنيان، في أن المشركين عبدوا غير الله للزلفى، قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} هذا بين واضح، لا يحتاج إلى مقدمات في الاستدلال. لأن القرآن كله من عند الله -جلّ وعلا -وهو محكم،وكله حق، والحق لا يناقض حقاً، بل يؤيده ويدل عليه. يضطرب؛
لأنه لا يعرف عظمة المحكمات وكثرتها ووضوح معناها، فإن المحكمات في
الأدلة، والمحكمات في العقيدة، والمحكمات في الأحكام هذه واضحة عند أهل
العلم بينة، ما يمكن أننا نضطرب معها، فقد يرد إشكال فنقول: والله هذا مشكل
نبحث عن جوابه، ماذا قال أهل العلم في جوابه؟ لكن من لم يكن صابراً على الاكتفاء بالمحكمات فإنه سيدخل في المتشابهات متعجلاً، وسيضل من حيث ظن أنه سيبحث أو سيحل الإشكال. ولهذا
- هنا- لا بد في المتشابه من الصبر، وما يلقاها إلا الذين صبروا، مثل ما
قال الشيخ -رحمه الله- وأجزل له المثوبة، يحتاج إلى صبر، كثيرون ما صبروا،
جاءتهم الشبه فاتبعوها وما صبروا، دخلوا فيها بأهوائهم وآرائهم وما صبروا،
ولو صبر زمناً طويلاً وتمسك بالمحكمات كان قد أدى الذي عليه.
ولا
شك أن هذه كلمة ينبغي لك أن ترددها في مسائل العلم جميعاً، وخاصة المسائل
التي يكون هناك فيها إلقاء للشبه في أمر توحيد العبادة، وكذلك في أمور
العقيدة بشكل عام.
فأرجع
المحكمَ ابنُ عباس إلى ما يكون من جهة العمل، وأما الأخبار فإنها لا يعلم
تأويلها إلا الله -جل جلاله-؛ لأن حقيقتها غير معلومة، يعني في الأمور
الغيبية، كما سيأتي.
وقال آخرون من أهل العلم : (المحكم) راجع إلى ما لا تعدد في دلالته.و(المتشابه) إلى ما تتعدد الدلالة فيه.
ومن الباطل فيها: ما يجعل (المحكم): ما رجع إلى أمور الفقه، الأحكام.و(المتشابه):
ما يرجع إلى أمور العقيدة؛ لأن هذا معناه أن الله -جل جلاله- لم يبين لنا
بيانًا محكمًا شيئًا من أمور العقيدة، وهذا باطل.
ومن الباطل فيه: ما يقال إن (المتشابه)منه آيات الصفات، ومنه الحروف المقطعة في أول السور.وهذا أيضاً من الأقوال الباطلة فيه.
إذا كان كذلك فالمحكمات التمسك بها هو الأصل الأصيل في رد الشبه.وهذه الآيات المحكمات أنواع: فمنها:
والنوع الرابع:من
الأدلة المحكمة في هذا الباب في رد حجج المشركين: الآيات التي فيها بيان
أن الله -جل جلاله- لم يتخذ ولدًا، ولم يتخذ شريكًا، ولم يتخذ ولياً، ولم
يتخذ شفيعًا؛ كآية سورة سبأ، وآية سورة الإسراء، وآية الفرقان، وأشباه ذلك.
والنوع الخامس:من
هذه الأنواع المحكمة: أن معبودات المشركين في القرآن مختلفة، فمنهم من عبد
الأصنام، ومنهم من عبد الأوثان - والصنم: ما كان على هيئة صورة مصورة
منحوتة، والوثن: مالم يكن على هيئة صورة: شجر، قبر، إلى آخره، كوكب - ومنهم
من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الأولياء، ومنهم من عبد الجن، ومنهم من عبد
الشجر والحجر، إلى آخره.
فهذه التصانيف في الآيات لمعبودات المشركين، هذه تنزل عليها كل حالة من حالات أهل الشرك في هذا الزمن وفي ما قبله وما بعده.
فهذه
آيات محكمات، أصول في باب توحيد العبادة - هذه الأنواع - لهذا ترى أن شيخ
الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يكثر من تنويع هذه الأدلة؛
لأنها حجة في هذا الباب محكمة، لا يستطيع أحد أن ينقضها، ولا أن يردها.
قال جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} معنى {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: هن الأصل الذي يرجع إليه في الكتاب.
فمعنى {أُمُّ الْكِتَابِ}:
يعني هن أصل الكتاب الذي يرجع إليه؛ لأن الأم هي أصل الولد، وأم الكتاب:
الأصل الذي يرجع إليه الكتاب في هذه، وذلك لأنها مشتملة على معاني الكتاب،
ومن هذا كانت الفاتحة أم القرآن؛ لأن جميع آيات القرآن راجعة إلى آيات
الفاتحة إما بظهورٍ أو بشيء من البيان.
قال: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}فهنا
بين أن القرآن منه كذا ومنه كذا، منه محكم ومنه متشابه، متشابه لم تتضح
دلالته، وهذا المتشابه قد يكون في الأخبار، وقد يكون في الأمر والنهي، قد
يكون في الأخبار، وقد يكون في الإنشاءات، ولا يحد المتشابه بقسم الإنشاء
دون الأخبار أو بقسم الأخبار دون الإنشاء، بل التشابه وقع في قسمي الكلام:
الأخبار والإنشاءات.
ومعنى الأخبار: يعني التي يكون امتثالها بالتصديق، والإنشاءات معناه: التي يكون امتثالها بالعمل.
قال هنا في بيان موقف الذين زاغوا قال:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وهنا تلحظ أن قوله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فيه إثبات أن القلوب زاغت قبل النظر في القرآن، فهم زاغوا قبل ثم بعد ذلك تلمسوا الدليل على زيغهم، قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} فزاغت قلوبهم ثم اتبعوا ما تشابه منه {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}
يستدلون بما تشابه، بما لم يتضح معناه، أو بما يحتمل، أو بما لو رد إلى
المحكم لبان، يتبعون ما تشابه منه، يعني يتبعونه ويجمعونه؛ لأجل الاستدلال
به ويتركون المحكم.
وهذا مثل ما حصل من النصارى، أنهم نظروا في القرآن، فزعموا أن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصة بالعرب، لقول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وأيضاً في قول الله -جل وعلا-: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فاحتجوا بآيات على خصوص بَعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- للعرب، وهذا احتجاج بالمتشابه واتباع له؛ لأن في قلوبهم زيغاً.فموجود الزيغ في القلوب (وهو رد الكتاب) وعدم اتباع محمد -عليه الصلاة والسلام- فتلمسوا وتتبعوا الدليل.
فإذًا: الحكمة من وجود المتشابه في القرآن:الابتلاء،
والله -جل وعلا- ابتلى الناس بالحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وابتلاهم
بالرسول -عليه الصلاة والسلام- هل يؤمنون به أم لا يؤمنون، ((إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك)) كما في (صحيح مسلم).
وكذلك
ابتلى الله -جل وعلا- الناس بالقرآن، بجعل بعض القرآن متشابهاً، هل
يرجعونه للمحكم ويسلمون لأهل العلم؟ أم أنهم يخوضون في المتشابه فيقعون في
الفتنة؟
لهذا قال أهل العلم في التفسير: معنى قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} يعني:
ابتغاء فتنة أتباعهم، كما نص عليه ابن كثير في تفسيره، فهم اتبعوا ما
تشابه منه لأجل أن يضلوا ويفتنوا الأتباع معهم، فهم إذاً تقررت عندهم
أشياء، ثم نظروا ولم يسلموا لأهل العلم الانقياد، للراسخين في العلم.
فلم
يرجع الخوارج للصحابة، ولم يرجع القدرية للصحابة، وهكذا في أشياء كثيرة،
ولم يرجع المعتزلة إلى أئمة السنة، ولم يرجع الأشاعرة إلى أئمة أهل الحديث
والسلف قبلهم فيما اختُلف فيه، فاتبعوا ما تشابه منه وتركوا المحكمات
ابتغاء الفتنة، يعني: لأجل أن يحصل لهم اتباع الأتباع.
والذي يجب:أنه إذا عرض المتشابه فإنه يُرجع في تفسيره إلى المحكم، ويرجع في تفسيره إلى أهل العلم.أما
من عرض له متشابه فدخل في تأويله بجهله وبهواه وبما عنده فلا شك أنه سيقع
في الزيغ والضلال؛ لأنه ليس متأهلاً لرد المتشابه إلى المحكم في كل مسألة،
أو إلى بيان معنى المتشابه.
والتأويل في القرآن أتى على معنيين:
المعنى الأول للتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما تؤول إليه حقيقة الأيات.والآيات على قسمين:
- ومنها:آيات إنشاء.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الإنشاء؛ يعني: في الأمر والنهي.
-
فالأخبار تأويلها: ما تؤول إليه حقيقتها، فإذا كانت الأخبار غيبيات عن الله
-جل وعلا- فتأويل الخبر: حقيقته وكنهه الذي عليه الله جل وعلا، والخبر
الذي هو وصف - مثلاً - للجنة، تأويله ببيان حقيقة الجنة ما هي، هذا معنى
للتأويل.
ومنه قوله -جل وعلا- في سورة الأعراف:{هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الآية، يعني: هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقيقة الأخبار التي أخبر الله -جل وعلا- بها.{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} يعني: ما تؤول إليه حقيقة الأخبار، رأوا الجنة ورأوا النار، وحصل يوم البعث {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} إلى آخر الآيات.هذا هو النوع الأول من التأويل في القرآن.
المعنى الثاني للتأويل: التأويل بمعنى التفسير، وهذا في قول الله جل وعلا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ}ومنه أيضاً في هذا قوله جل وعلا: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}
وأشباه ذلك، التأويل هنا بمعنى التفسير، تأويل الأحلام بمعنى تفسير
الأحلام، فالتأويل بمعنى التفسير هذا في القرآن، وهذا هو الذي اعتمده ابن
جرير الطبري فيما ترى في تفسيره، حيث يقول: (قال أهل التأويل)، (وبنحو الذي
قلنا في هذه الآية، قال أهل التأويل، ذِكْرُ من قال ذلك)، (قال أهل
التأويل) يعني: قال أهل التفسير.
وهنا نقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} اختلف السلف على الوقف هنا، هل الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} أو الوقف على العلم، فيكون معطوفاً على ما قبله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على قولين للسلف.
وسبب الخلاف: المراد بالتأويل؟
ومن نظر إلى أن التأويل المراد به: ما تؤول إليه حقيقة الأمر وحقيقة النهي قال: الأوامر تأويلها بفعلها، بعملها على وجه أحكام الشريعة.
والنواهي
تأويلها بالاجتناب لها، والبعد عنها على أحكام الشريعة، وهذا من التأويل
في الإنشاءات يعلمه الراسخون في العلم من جهة العلم والعمل جميعا، لهذا قال
بعضهم هنا: يقف على {الْعِلْم} لأن الراسخين في العلم يعلمون التأويل على ما ذكرنا، يعني ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات.ما تؤول إليه حقيقة الأمر: امتثال الأمر على الوفق الشرعي.
ما تؤول إليه حقيقة النهي: امتثال النهي على الأمر الشرعي، يعني: الأمر بالكف.
فإذاً: نقول: يحتمل أن يكون الوقف على لفظ الجلالة.ويحتمل أن يكون على {الْعِلْم}.
-ومن رأى أن الوقف على العلم، قال: التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات، مثل ما قال ابن عباس: ناسخه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه.
-ومن
قال: إن المتشابه لا أحد يعلمه البتة إلا الله جل جلاله، فليس علم
المتشابه لأحد من الخلق، فهذا غلط، ولا يصح نسبته إلى أحد من أهل السنة.
وهذا
يعني أن المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد هذا غير موجود في القرآن عند
المحققين من أهل السنة والجماعة، فإن المتشابه الموجود في القرآن متشابه
نسبي إضافي.
فعندنا المتشابه هنا في هذه الآية قسمان:
1- متشابه مطلق.
2-ومتشابه نسبي.
- فالمتشابه المطلق غير موجود البتة، بمعنى يشتبه معناه فلا يُعلم له معنى أصلاً.
والثاني:المتشابه
النسبي الإضافي، نقول: اشتبه علي، اشتبه على العالم الفلاني المعنى، اشتبه
على الإمام الكلام في هذه المسألة، اشتبه عليه تأويل الآية، وأشباه ذلك،
فهذا ممكن فيكون متشابهاً إضافياً.
لكن
لا يوجد آية في القرآن معناها ما نقول تأويلها، يعني: ما تؤول إليه حقائق
الأخبار فيها، لا، إنما معناها هذا لا يوجد آية في القرآن يشتبه معناها على
جميع الراسخين في العلم من هذه الأمة، هذا القول ليس من أقوال أهل السنة
والجماعة، وإنما هو من أقوال أهل البدع، الذين ذهبوا مذهب التجهيل.
فإذاً نقول:الصحيح
أن الراسخين في العلم يعلمون، لكن يعلمون المتشابه الذي يمكنهم علمه وهو
ما كان في باب الإنشاءات، أو كان في باب التفسير - تفسير المعنى -وهذا
متعين؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} لو كان أن الراسخين في العلم لا يعلمون البتة وإنما يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فليس
لهم فضيلة على ما سواهم في المتشابه، فما فضيلة أهل العلم الراسخين فيه
إذا كانوا كعوام المسلمين إنما يعلمون المحكم، والمتشابه جميعه يقولون فيه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}؟! هذا فيه إبطال لمزية أهل العلم في العلم.
والمحكمات، قلنا إن معناها: هي ما اتضح معناه وبانت دلالته، والمتشابه: ما خفي معناه ولم تتضح دلالته.
فإذاً:
على قول من قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون، فهذا فيه إبطال لمزية
أهل العلم؛ كما حرره ابن عطية رحمه الله تعالى والخطابي وأجاد في هذا
البيان.وهذا يعني أن الراسخ في العلم يعلم.
أما الراسخون في العلم فيعلمون ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فليس في قلوبهم شك ولا شبهة من ورود المتشابه في القرآن؛ لأنهم يعلمون أن المتشابه في القرآن لأجل ابتلاء الناس.هذا خلاصة معنى الآية، ومعناها مهم في هذا الموضع.
فإذاً:الواجب
على الموحد والواجب على المسلم أنه إذا ضبط المحكمات في التوحيد بأنواعه
وفي الشريعة، فإنه إذا أتى من يتبع ما تشابه منه فإنه يجب عليه أن يعمل شيئين:
فالموحد المسلم يحرص تمام الحرص على أن يحذر ممن يوقع في قلبه الشبهة، ولهذا انتبه لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ}
فاحذر أشد الحذر من أن يوقع أحد في أذنك شبهة تبقى ولا تستطيع الرد عليها
ثم ينميها الشيطان حتى يوقع في القلب الزيغ، ولهذا قال بعض السلف: (لا تصغ
إلى ذي هوىً بأذنيك، فإنك لا تدري ما يوحي إليك).إذا كان الرجل غير محكم
العلم، قوي، لا يجلس مع أهل الشبهة، يحذر؛ لأن السلامة في الدين أعظم ما
ينبغي الحرص عليه.
قال هنا الشيخ رحمه الله: (مثال ذلك)
الآن الجواب المجمل اتضح، وأنه في كل مسألة ترجعه إلى المحكم، إذا أتى أحد
بشبهة فترجع إلى المحكمات، وذكرت لك أنواع المحكمات في القرآن من الآيات،
فإذا أتى أحد بشيء من المشتبهات، فأنت ترجعه إلى نوع من الآيات المحكمات،
فتبطل شبهته ولو شبه وشبه، فتقول له: (ما عندي من الاستدلال محكم بَيِّن لا
يستطيع أحد أن يدفعه وما أتيت به شبهة، فأنا أُومن بأن الجميع من عند
الله، ولكن لا أترك المحكم للمتشابه؛ لأن هذه طريقة أهل الزيغ) فتمسك بها
فإن هذه من أعظم الفوائد والعوائد.
قال الشيخ -رحمه الله- بعد ذلك: (مثال) مثال
تطبيقي لما ذكرنا، الجواب المجمل عرفناه بالاستمساك بالمحكم في ورود
المتشابه، إذا أتى استدلال متشابه ما عرفت الجواب عليه، أو جاوبت فأورد
عليك شبهة ثانية، فتمسك بالمحكم واترك الإصغاء للمتشابه.
قال: (مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}) استدل هنا المشرك بهذه الآية: {أَلا
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.
فهنا هذه شبهة يأتي جوابها تفصيلياً،لكن إذا وقعت هذه الشبهة في القلب، يعني: أو وقعت على الأذن وعرضت على القلب، فكيف يكون الجواب؟
إذا لم تعرف الجواب التفصيلي - وهذه شبهة عظيمة - فماذا تقول؟
تقول:ما
عندي من العلم محكم، وهذه محتملة - لأنه هو دخل فيها باستدلال؛ لأن
الأولياءَ، اللهُ -جل وعلا- بين أن لهم فضلاً: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
أن الله أكرمهم، وهو استدل بهذا الإكرام على أن لهم جاهاً عند الله -جل
وعلا- وهذا النوع صار متشابهاً؛ لأنه جعل الفضل الذي آتاه الله الأولياء أو
الشهداء أو الأنبياء بعد مماتهم دالاً على الجاه، وعلى أن هذا الجاه لا
يرد إذا توسطوا به، فتلحظ أنه أدخل أشياء زائدة عن معنى الآية، فالآية فيها
اشتباه في المعنى، لكن إذا فسرها أهل العلم أوضحوا معنى ذلك،
فأولئك تقربوا للأولياء، لماذا؟ لأجل الزلفى،فهذه محكمة، واضحة المعنى.كذلك
بيان أن المشركين كانوا يقرون بالربوبية، وأنهم مشركون وسبب شركهم - مع
عبادتهم وطاعتهم في أشياء كما ذكرنا - سبب الشرك هو طلب الشفاعة؛ كما قال
جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء
قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}.فنفاها عنهم، فهذا أصل.
فجعل هذه ملازمة لهذه، وهذا لا شك أنه من اتباع المتشابه؛ لأنه ليست دلالة الآية على ذلك.فإذاً:هذا مثال لحجة يدلي بها المشرك، فإذا أدلى بهذه الحجة فتدمغه بالمحكمات الكثيرة.قال هنا: (أو ذكر كلاماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره) يعني: لا تفهم معناه الصحيح، لا تستطيع أن توضح له كلام المفسرين فيه، كلام أهل العلم فيه، وإبطال ما أورد من الاستدلال.
كذلك قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فهم طلبوا الشفاعة، أيضاً هذا أمر بين واضح.
قال: (وأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف كلام الله عز وجل) لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا ثبتت سنته وصارت مقبولة محتجاً بها، فإنها مبينة للقرآن ودالة عليه؛ كما قال جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
فأنزلت السنة وكان جبريل يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما
يأتيه بالقرآن لبيان معنى الذكر، تارة يكون بياناً لفظياً وتارة يكون
بياناً عملياً.
فكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف ما جاء في القرآن،
لكن التوفيق بين هذا وهذا تقول: أنا أجهله، تقول: كلام النبي صلى الله
عليه وسلم هو بيِّن لا يخالف كلام الله جل وعلا، وكلام الله -جل وعلا- لا
يناقض كلامه جل وعلا، لكن التوفيق بين هذه الآية وهذه الآية، رَدُّ هذا
المتشابه إلى المحكم حتى يتضح المعنى، هذا لا أعلمه أنا، وإنما يعلمه
الراسخون في العلم، لكن ما عندي من العلم بالتوحيد هذا بين محكم، لا يستطيع
أحد أن يرده أو يشكك في دلالته.
قال -رحمه الله- بعد ذلك في نهاية هذا الجواب المجمل: (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى)
تحتاج إلى توفيق بالتخلص، يعني: هنا التوفيق يأتي بتخلص العبد من هواه،
وتخلص العبد من رؤيته لعقله ونفسه؛ لأن بعض الناس يأتي للمتشابه ويخوض فيه؛
لأن عقله جيد، فيدخل في المتشابه ويغوص، فيغوص، فيُخْرِج منه أشياء يضل
بها؛ كما قال جل وعلا: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
يعني: ابتغاء تفسيره، فيخوض في المتشابه المشكل المعنى رغبة وطلباً
للتفسير فيضل في التفسير، فيعتقد أن تفسيره صواب وأن فهمه للآية صواب،
وفهمه للسنة صواب، فيكون ممن اتبع المتشابه وترك المحكم، والواجب عليه ألا
يخوض في ذلك، وأن يرد معناه إلى أهل العلم الراسخين فيه.
قال: (ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهن به، فإنه كما قال جل وعلا: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا}) يحتاج
إلى صبر؛ لأن النفس تنازع - خاصة طالب العلم أو الذي قرأ وعنده قراءات
وثقافات وأشباه ذلك - تنازعه نفسه في حل كل إشكال، تنازعه نفسه في الدخول
في الاستدلال في كل متشابه، ولهذا تجد بعض طلبة العلم الآن، أو بعض
المنتسبين للعلم، والقراء، تجد أنهم يوردون إشكالات كثيرة، فالعالم يرد
عليهم بالمحكمات ولا يضطرب لورود المتشابه، لكن من ليس براسخ في العلم إذا
ورد متشابه عنده فإنه يضطرب، لم؟
ونختم
بهذا، وأسأل الله -جلّ وعلا- أن ينور قلوبنا بالعلم الصالح النافع، وأن
يجعلنا ممن يحذر من المتشابهات، ويفقه المحكمات ويستعين بالله -جل وعلا- في
أمره كله، اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، فأنر قلوبنا بالإيمان واجعلنا
من الصابرين، نعوذ بك أن نضل أو نُضل، أو نجهل أو يُجهل علينا، أو نزِل أو
نُزَل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد.
العناصر
الجواب المجمل عن شبهات المشركين
أهمية الجواب المجمل
تفسير قول الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ...) الآية
- معنى المحكم والمتشابه
- ما يجب علينا تجاه المحكم
- ما يجب علينا تجاه المتشابه
- معاني الإحكام والتشابه في القرآن الكريم
- معنى قوله تعالى: (هن أم الكتاب)
- وجوب رد المتشابه إلى المحكم
- معنى قوله تعالى: (وأخر متشابهات)
- التشابه وقع في قسمي الكلام: الخبر والإنشاء
- معنى قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)
- الزيغ سبب متقدم على اتباع المتشابه
- الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم
- معنى قوله تعالى: (ابتغاء الفتنة)
- معنى قوله تعالى: (وابتغاء تأويله)
- بيان معاني التأويل
- بيان معنى قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)
- بيان نوعي المتشابه: المطلق والنسبي
- تفسير قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ...) الآية
شرح حديث: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه" ...
- بيان ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاحذروهم)
مثال تطبيقي على الجواب المجمل
- الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه ويتركون المحكم
- المشركون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية
- كفر المشركين كان بسبب تعلقهم بالملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم:(هؤلاء شفعاؤنا عند الله)
- كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق لا يتناقض
خطر الدخول في مجادلات مع أهل الشبه دون تأهل
الأسئلة
س1: بين الجواب المجمل عن شبهات المشركين، مع التمثيل والاستدلال.
س2: تحدث عن أهمية الجواب المجمل.
س3:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولكن أقطع أن كلام الله عز وجل لا يتناقض،
وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله) اشرح هذه العبارة
وبين دليلها، وأهميتها في كشف شبه المبطلين.
س4: فسر باختصار قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات …} الآية.