30 Oct 2008
الدرس التاسع: بيان حقيقة أعداء الرسل
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً
كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112].
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83].
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى اللهِ لابُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاء قاعِدِينَ عَلَيْهِ، أَهْلِ فَصَاحةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ، فَالواجِبُ عَلَيْكَ: أَنْ تَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ ما يَصِيرُ سِلاحاً تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشياطينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِيْنَ}وَلَكِنْ إن أَقْبَلْتَ إلى اللهِ تعالى، وَأَصْغَيْتَ إِلى حُجَجِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَلا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفاً} .وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلبُ أَلفاً مِن علماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ؛كما قالَ تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبُونَ} .فَجُنْدُ الله تعالى هُمُ الْغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أنهم هُم الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.وَإِنَّما الخَوْفُ عَلى المُوَحِّدِ الَّذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ(1) إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112].
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83](2).
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى اللهِ لابُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاء قاعِدِينَ عَلَيْهِ(3)، أَهْلِ فَصَاحةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ، فَالواجِبُ عَلَيْكَ: أَنْ تَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ ما يَصِيرُ سِلاحاً تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشياطينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِيْنَ}(4) وَلَكِنْ إن أَقْبَلْتَ إلى اللهِ تعالى، وَأَصْغَيْتَ إِلى حُجَجِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَلا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفاً}(5). وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلبُ أَلفاً مِن علماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ؛كما قالَ تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبُونَ} .فَجُنْدُ الله تعالى هُمُ الْغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أنهم هُم الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.وَإِنَّما الخَوْفُ عَلى المُوَحِّدِ الَّذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ)(6).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (وَاعْلَمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ) البَالِغَةِ (لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا) مِن الأَنْبِيَاءِ (بِهَذَا التَّوْحِيدِ)
مِن لَدُنْ نُوحٍ إِلَى أَنْ خَتَمَهُم بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً) إلاَّ قَيَّضَ لَهُ أَعْدَاءً
قَصْدُهُم الإِغْوَاءُ والصَّدْفُ عن دِينِ اللهِ؛ هَذَا الصِّرَاطُ
المُسْتَقِيمُ.
وهَذِه
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ؛ ابْتِلاَءُ الأَخْيَارِ بالأَشْرَارِ لِيَكْمُلَ
للأَخْيَارِ مَرَاتِبُ الجِهَادِ، وإِلاَّ لو شَاءَ لَمَا جَعَلَ
للأَشْرَارِ شَيْئًا مِن السُّلْطَةِ {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} الآيةَ.
سُنَّتُهُ
البَالِغَةُ أَنْ يُسَلِّطَ الأَشْرَارَ عَلَى الأَخْيَارِ؛ سَلَّطَ
الأَشْرَارَ عَلَى الرُّسُلِ فَمَا دُونَهِم، وَلَيْسَ هَوَانًا
بالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وأَتْبَاعِهِم، ولَكِنْ ليَقُومَ
الأَخْيَارُ بالجِهَادِ، فَتَعْظُمَ الدَّرَجَةُ، ويَعْظُمَ الأَجْرُ،
ويَنَالُوا المَرَاتِبَ العَالِيَةَ؛ لأَِنَّ الجَنَّةَ غَالِيَةٌ لاَ
تُنَالُ إِلاَّ بالصَّبْرِ عَلَى المَصَاعِبِ والمَشَاقِّ.
واعْلَمْ
أَنَّ أتْبَاعَهُم كَذَلِكَ، مَنْ صَدَّقَ اللهَ في اتِّبَاعِهِ للرُّسُلِ
كَانُوا أَعْظَمَ أَعْدَائِهِ (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ العَدُوَّ فَقَالَ: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} يَعْنِي مِن هَؤُلاَءِ وهَؤُلاَءِ.
والشَّيَاطِينُ هُم الذين فيهم تَمَرُّدٌ وعُلُوٌّ،قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّه بَدَأَ بِشَيَاطِينِ الإِنْسِ؛ لأَِنَّهُم أَعْظَمُ فِي هَذَا المَقَامِ مِن شَيَاطِينِ الجِنِّ؛ لأَِنَّ شَيْطَانَ الإِنْسِ يَأْتِي في صُورَةِ نَاصِحٍ مُحِبٍّ لَيِّنِ الجَانِبِ واللِّسَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ الذي بِهِ يَصْدِفُونَ عَن الحَقِّ فَقَالَ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ تَزْيِيفَ القَوْلِ باللعِبَارَةِ لَهُ تَأْثِيرٌ، وَأَنَّ الحَقَّ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَن يَجْعَلُهُ في صُورَةِ البَاطِلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(3) (إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ) يَعْنِي: مَا قَرَّرَهُ وقَدَّمَهُ المُصَنِّفُ (وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَرِيقَ إِلَى اللهِ لاَبُدَّ لَهُ مِن أَعْدَاءٍ قَاعِدِينَ عَلَيْهِ)
مُلاَزِمِينَ لَهُ، لاَ يَنْفَكُّونَ عَنْهُ ولاَ يَرْجِعُونَ عنه
أَبَدًا، قَصْدُهُم الإِغْوَاءُ والصَّدْفُ عن هَذَا الصِّرَاطِ
المُسْتَقِيمِ (أَهْلِ فَصَاحَةٍ) وبَلاَغَةٍ في المَنْطِقِ (وعِلْمٍ
وحُجَجٍ) عَلَى بَاطِلِهِم؛ ولَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِن الحُجَجِ
المَوْرُوثَةِ عن الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهُ وسَلاَمُهُ عَلَيْهِم
إِنَّما هي مَنَامَاتٌ وأَكَاذِيبُ إِذَا جَاءَ عِنْدَ التَّحْصِيلِ فإِذَا
هي تَخُونُهُم أَحْوَجَ ما يَكُونُونَ إِلَيْهَا.
(4) (فَالوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ) الذي أَنْزَلَهُ (ما يَصِيرُ لَكَ سِلاَحًا) تَذُبُّ بِهِ عن نَفْسِكَ ودِينِكَ وتُدَافِعُ بِهِ و(تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاَءِ الشَّياطِينَ الَّذِينَ)
هُمْ بِهَذَا المَقَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِن شَيَاطِينِ الجِنِّ، وهم
نُوَّابُ إِبْلِيسَ الذي قَالَ إِمَامُهُم ومُقَدَّمُهُم لرِبِّكَ عَزَّ
وَجَلَّ: {لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}
أي: لاَ أَتْرُكُ أَحَدًا يَمُرُّ إِلاَّ تَشَبَّثْتُ بِهِ وأَغْوَيْتُهُ؛
لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِ لِهَذَا النَّوْعِ الإِنْسَانِيِّ، جَدَّ كُلَّ
الجِدِّ، واجْتَهَدَ كُلَّ الاجْتِهَادِ، في إِغْوَائِهِ وصَدْفِهِ
وإِضْلاَلِهِ؛ أَخْبَرَ هَذَا الخَبَرَ عَمَّا هو مُرِيدٌ وجَازِمٌ
وعَازِمٌ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِهَذِه التَّأْكِيدَاتِ: {ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
فَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ الذي هذه صِفَتُهُ مَقْعُودٌ عَلَيْهِ ومَرْصُودٌ
عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الصُّدُوفِ، وَأَنْوَاعِ القُيُودِ، وأَنْوَاعِ
السِّلاَحِ، وأَنْوَاعِ الحُجَجِ والبَيِّنَاتِ، وأَنْوَاعِ الكَيْدِ
والمَكْرِ والخِدَاعِ، فكيف يَأْمَنُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَخَافُ؟!.ومِمَّا
تَقَدَّمَ تَعْرِفُ البُعْدَ عن صِفَةِ التَّعَبِ والْهُوَيْنَا،
بل الأَمْرُ جِدٌّ كُلُّ الجِدِّ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ المُقَيَّضَ له
أَعْدَاءٌ، لا يَكُونُ في غَفْلَةٍ عَنْهُم ولَيْسَ مَقْصُودُهم سَفْكَ
الدَّمِ فَقَطْ، لاَ بَلْ الدِّينَ.
وَكَمْ أَهْلَكَ في الطَّرِيقِ الذي عَلَيْهِ شَيَاطِينُ الإِنْسِ والجِنِّ
مُرَاصِدِينَ مَعَ مَا جُعِلَ لَهُم مِن السُّلْطَةِ عَلَى القَلْبِ
ونَحْوِ ذَلِكَ، يَحْسَبُونَ أَنَّه آمِنٌ ولاَ خَافُوا مِن مَخَاوِفِهِ
ولاَ عَلِمُوا مِن الشَّرْعِ طُرُقَهُ ومَخَاوِفَهُ.بَعْدَ ذِكْرِ
المُصَنِّفِ مَا ذَكَرَ مِن عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ ونُوَّابِهِ وحِرْصِهِم
عَلَى إِهْلاَكِ هَذَا الجِنْسِ الإِنْسَانِيِّ قَالَ:
(5) (وَلَكِنْ إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَى اللهِ) بِقَلْبِكَ
وقَالِبِكَ، وَعَلِمَ مِنْكَ اللَّجْأَ إِلَيْهِ والتَّبَرِّيَ
والتَّخَلِّيَ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلاَّ بِهِ (وأَصْغَيْتَ) كُلَّ
الإِصْغَاءِ (إِلَى حُجَجِ اللهِ وبَيِّنَاتِهِ) مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ
(فَلاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ) مِن الأَعْدَاءِ القَاعِدِينَ لَكَ عَلَى
الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؛ فَعِنْدَك مَا يُحَصِّنُكَ مِن هَذَا؛ فالخَوْفُ
عَلَيْكَ عِنْدَما تُعْرِضُ عن حُجَجِ اللهِ وبَيِّنَاتِهِ، الخَوْفُ
والحَزَنُ عَلَيْكَ مِن جِهَةِ نَفْسِكَ أَنْ لاَ تُقبِلَ ولاَ
تُصْغِيَ.وَأَمَّا إِنْ لَجَأْتَ إِلَيْهِ فَلاَ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}
وَإِنْ كَانَ قَسْمُهُ وحَظُّهُ مِن الأَلْفِ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً
وتِسْعِينَ فَلَيْسَ كَثْرَةُ حِزْبِهِ مِنْ قُوَّةِ كَيْدِهِ، بل كَيْدُه
ضَعِيفٌ، ولَكِنَّ أَكْثَرَ الخَلْقِ أَطَاعُوهُ وتَوَلَّوْهُ ومَكَّنُوهُ
من أَنْفُسِهِم، فَلَمَّا جَعَلُوا له سُلْطَانًا كَانَ له عَلَيْهِم
سُلْطَانٌ، وإِلاَّ كُلُّ عِبَادِ اللهِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِم سُلْطَانٌ،
ولو أَنَّهُم لَمْ يَجْعَلُوا لَهُ عَلَيْهِم سُلْطَانًا لَمَا كَانَ لَهُ
عَلَيْهِم سُلْطَانٌ.
فَهُم الذين أَعْطَوْهُ القِيَادَ لأَِجْلِ الشَّهَوَاتِ وإِيثَارِ
العَاجِلِ عَلَى الآجِلِ؛ أَعْطَوْهُ ذَلِكَ فَصَارُوا إِلى حَيِّزِهِ مِن
جَانِبٍ فَصَارَتْ قُوَّتُه نِسْبِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، فَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ
الشَّيْطَانُ في شَيْءٍ فهو الذي ولاَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وإِذَا أَطَاعَه
في شَيْءٍ انْتَظَرَ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، وهَكَذَا حَتَّى يُوصِلَهُ إلى
الْهَلاَكِ والعِيَاذُ باللهِ.
(6) (والعَامِّيُّ مِن المُوَحِّدِينَ) الذي
عَرَفَ أَدِلَّةَ دِينِهِ، وإِنْ كَانَ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ولاَ عَالِمٍ،
لَيْسَ المُرَادُ العَامِّيَّ الجَاهِلَ، اللهُم إِلاَّ أَنْ يُوَفَّقَ
العَامِّيُّ- الذي لاَ يَعْرِفُ - لحُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وهو نَادِرٌ،
(يَغْلِبُ الأَلْفَ) بَلِ الأُلُوفَ (مِن عُلَمَاءِ هَؤُلاَءِ
المُشْرِكِينَ) لأَِنَّ حُجَجَ المُشْرِكِينَ تُرَّهَاتٌ وأَبَاطِيلُ
ومَنَامَاتٌ كَاذِبَةٌ، ومَا كَانَ مَعَهُم مِن الحَقِّ فهو رَدٌّ في
الحَقِيقَةِ عَلَيْهِم كَمَا (قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} )
فهذه الآيةُ أَفَادَتْ حَصْرَ الغَلَبَةِ في جُنْدِ اللهِ، وهو يَقْتَضِي
بِعُمُومِهِ الغَلَبَ في جَمِيعِ النَّوَاحِي: الحُجَّةِ واللِّسَانِ
والسَّيْفِ والسِّنَانِ، يَغْلِبُونَ قَبِيلَهُم، ولاَ تَظُنَّ أَنَّه
يَرِدُ عَلَيْهِ تَسْلِيطُ أَهْلِ الشَّرِّ في هَذِه الأَزْمَانِ، فإِنَّهُ
بِسَبَبِ إِضَاعَتِهِ، وإِلاَّ دِينُ رَبِّ العَالَمِينَ مَحْفُوظٌ
مُؤَمَّنٌ بِحِفْظِ مَن يَقُومُ به، وَلاَ تَظُنَّ أَنَّه يَرِدُ عَلَيْهِ
إِدَالَةُ أَهْلِ البَاطِلِ بَعْضَ الأَحْيَانِ فَإِنَّهُ تَمْحِيصٌ
وَرِفْعَةٌ وغُرُورٌ لأَِهْلِ البَاطِلِ. (وإِنَّمَا الخَوْفُ عَلَى المُوَحِّدِ) العَابِدِ للهِ المُسْتَقِيمِ عَلَى التَّوْحِيدِ (الذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ ولَيْسَ مَعَهُ سِلاَحٌ)
يَذُبُّ بِهِ عن دِينِهِ وهو الحُجَّةُ والسِّلاَحُ، لَمْ يَتَعَلَّمْ
أَدِلَّةَ دِينِهِ، فَهَذَا مَخُوفٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَلَ أَو يُسْلَبَ
أَو يَبْقَى أَسِيرًا في يَدِ عَدُوِّهِ الشَّيْطَانِ وجُنُودِهِ، يُخْشَى
عَلَيْهِ أَنْ يُلِمَّ به الشَّيْطَانُ وجُنُودُه فَيَسْتَزِلُّونَه عن
الطَّرِيقِ السَّوِيِّ.
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112](1).
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83](2).
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ(3)، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى اللهِ لابُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاء قاعِدِينَ عَلَيْهِ، أَهْلِ فَصَاحةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ، فَالواجِبُ عَلَيْكَ: أَنْ تَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ ما يَصِيرُ سِلاحاً تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشياطينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِيْنَ} وَلَكِنْ إن أَقْبَلْتَ إلى اللهِ تعالى، وَأَصْغَيْتَ إِلى حُجَجِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَلا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفاً}(4). وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلبُ أَلفاً مِن علماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ؛كما قالَ تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبُونَ}(5). فَجُنْدُ الله تعالى هُمُ الْغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أنهم هُم الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ(6). وَإِنَّما الخَوْفُ عَلى المُوَحِّدِ الَّذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ(7) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1)
نَبَّهَ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذهِ الجُملةِ على فائِدةٍ
عظيمةٍ، حيثُ بَيَّنَ أنَّ مِنْ حِكْمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنَّهُ لم
يَبْعَثْ نَبِيًّا إلاَّ جَعَلَ لهُ أعْداءً مِن الإِنْسِ والجِنِّ، وذلكَ
أنَّ وجودَ العَدُوِّ يُمَحِّصُ الحقَّ ويُبَيِّنُهُ، فإنَّهُ كُلَّما
وُجِدَ المُعارِضُ قَوِيَتْ حُجَّةُ الآخَرِ، وهذا الَّذي جَعَلَهُ اللهُ
تعالى للأنبياءِ جَعَلَهُ أيْضًا لأتْباعِهم، فكلُّ أتَباعِ الأنبياءِ
يَحْصُلُ لهم مِثْلُ ما يَحْصُلُ للأنبياءِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا}، وقالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقانُ: 31].
فإنَّ هؤلاءِ المُجْرِمِينَ يَعْتَدُونَ على الرُّسلِ وأَتْباعِهم وعلى ما جاءُوا بهِ بأمرَيْنِ:
الأوَّلُ: التَّشْكِيكُ.
الثَّاني: العُدْوانُ.
أمَّا التَّشكيكُ: فقالَ اللهُ تعالى في مُقَابَلَتِهِ:{كَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} لِمَنْ أَرَادَ أنْ يُضِلَّهُ أعْداءُ الأنبياءِ.
وأمَّا العُدْوانُ: فقالَ اللهُ تعالى في مُقابَلَتِهِ: {وَنَصِيرًا} لِمَنْ أَرَادَ أنْ يَرْدَعَهُ أعداءُ الأنبياءِ(1).
فاللهُ
تعالى يَهْدِي الرُّسلَ وأَتْباعَهم ويَنْصُرُهم على أعدائِهم ولوْ كانوا
مِنْ أَقْوَى الأعْداءِ، فَعَلَيْنَا أنْ لا نَيْأَسَ لِكَثْرةِ الأعداءِ
وقُوَّةِ مَنْ يُقَاوِمُ الحقَّ؛ فإنَّ الحَقَّ كما قالَ ابْنُ القَيِّمِ
رَحِمَهُ اللهُ:
والْحَقُّ مَنْصُـورٌ ومُمْتَحَـنٌ ... فلا تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمنِ
فلا
يَجوزُ لنا أنْ نَيْأَسَ بلْ علينا أنْ نُطِيلَ النَّفَسَ، وأنْ
نَنْتَظِرَ وستَكونُ العاقِبةُ لِلمُتَّقِينَ، فالأمَلُ دافِعٌ قَوِيٌّ
لِلمُضِيِّ فِي الدَّعوةِ والسَّعْيِ في إنْجاحِها، كما أنَّ اليَأْسَ
سَبَبٌ لِلفَشَلِ والتَّأَخُّرِ في الدَّعوةِ.
(2)
يَعْنِي: أنَّ أعداءَ الرُّسلِ الَّذين يُجَادِلُونَهُم ويُكَذِّبُونهم قدْ
يَكونُ عندَهم عُلومٌ كثيرةٌ وكُتُبٌ وشُبُهَاتٌ يُسَمُّونَها (حُجَجًا)، يُلَبِّسونَ بِها على النَّاسِ، فَيَلْبِسُونَ الحقَّ بالباطِلِ، كما قالَ تعالى: {فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}وهذا الفرحُ مَذْمومٌ؛ لأنَّهُ فَرِحٌ بغيرِ ما يُرْضِي اللهَ، فيَكونُ مِن الفرحِ المَذْمومِ.
وأَشَارَ
المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بهذهِ الجملةِ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ
نَعْرِفَ ما عندَ هؤلاءِ مِن العُلومِ والشُّبُهاتِ مِنْ أجْلِ أنْ نَرُدَّ
عليهم بِسلاحِهم، وهذا مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ ولهذا لمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليَمَنِ قالَ لهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ)) وذلكَ مِنْ أجْلِ أنْ يَسْتَعِدَّ لهم، ويَعْرِفَ ما عندَهم مِن الكِتابِ حتَّى يَرُدَّ عليهم بِما جاءُوا بهِ.
(3) إذا عَرَفْتَ ذَلِكَ، أيْ: أنَّ لِهؤلاءِ الأعداءِ كُتُبًا وعُلومًا وحُجَجًا يَلْبِسُونَ بِها الحقَّ بالباطِلِ، فعليكَ أنْ تَسْتَعِدَّ لهم، والاسْتِعْدادُ لهم يَكونُ بأمرَيْنِ:
أحدُهُما: ما
أَشَارَ إليهِ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِأنْ يَكونَ لَدَيْكَ مِن
الْحُجَجِ الشَّرْعيَّةِ والعقْليَّةِ ما تَدْفَعُ بهِ حُجَجَ هؤلاءِ
وباطِلَهم.
الثَّاني: أنْ
تَعْرِفَ ما عندَهم مِن الباطِلِ حتَّى تَرُدَّ عليهمْ بهِ، ولهذا قالَ
شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتابِهِ: (دَرْءُ تَعارُضِ النَّقْلِ
والعَقْلِ) قالَ: (إنَّهُ ما مِنْ إنسانٍ يَأْتِي بِحُجَّةٍ يَحْتَجُّ بِها
على الباطِلِ إلاَّ كانَتْ حُجَّةً عليهِ وليسَتْ حُجَّةً لهُ).
وهذا
الأمْرُ كما قالَ رَحِمَهُ اللهُ؛ فإنَّ الحُجَّةَ الصَّحِيحةَ إذا
احَتَجَّ بِها المُبْطِلُ على باطِلِهِ فإنَّها تَكونُ حُجَّةً عليهِ،
وليسَتْ حُجَّةً لهُ، فعلى مَنْ أَرَادَ أنْ يُجادِلَ هؤلاءِ يَتَأَكَّدُ
أنْ يُلاحِظَ هذَيْنِ الأمْرَيْنِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أنْ يَفْهَمَ ما عندَهم مِن العِلْمِ حتَّى يَرُدَّ عليهم بهِ.
والأمرُ الثَّاني: أنْ يَفْهَمَ الحُجَجَ الشَّرعيَّةَ والعقْليَّةَ الَّتي يَرُدُّ بها على هؤلاءِ.
(4)
يُرِيدُ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنْ يُشَجِّعَ مَنْ أَقْبَلَ على اللهِ
تعالى وعَرَفَ الحقَّ بأنْ لا يَخافَ مِنْ حُجَجِ أهلِ الباطِلِ؛ لأنَّها
حُجَجٌ واهِيَةٌ، وهيَ مِنْ كيْدِ الشَّيطانِ، وقدْ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.
حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُها .... حَقًّا وكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسورُ العامِّيُّ
مِن المُوَحِّدِينَ، يَعْنِي: مِن الَّذينَ يُقِرُّونَ بالتَّوحيدِ
بأنواعِهِ الثَّلاثةِ: (الألوهيَّةِ، والرُّبوبيَّةِ، والأسماءِ
والصِّفاتِ) يَغْلِبُ أَلْفًا مِنْ عُلماءِ المُشرِكِينَ؛ لأنَّ عُلماءَ
هؤلاءِ المُشرِكِينَ يُوَحِّدُونَ اللهَ عزَّ وجلَّ تَوْحِيدًا ناقِصًا؛
حيثُ إنَّهم لا يُوَحِّدُونَهُ إلاَّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ فقطْ، وهذا
توحيدٌ ناقِصٌ ليسَ هوَ تَوْحيدًا في الحَقِيقةِ، بِدليلِ أنَّ النَّبِيَّ
صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ المُشرِكِينَ الَّذين يُوَحِّدونَ
اللهَ هذا التَّوحيدَ، ولم يَنْفَعْهم هذا التَّوحيدُ ولم تُعْصَمْ بهِ
دِماؤُهم وأموالُهم. الأوَّلُ: الحُجَّةُ
والبَيانُ، وهذا بالنِّسبةِ للمُنافِقِينَ الَّذينَ لا يُظْهِرُونَ
عَداوَةَ المُسلِمِينَ، فهؤلاءِ يُجَاهَدُونَ بالحُجَّةِ والبَيانِ.
(5) قالَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (والعامِّيُّ مِن المُوَحِّدِينَ يَغْلِبُ ألْفًا مِنْ عُلماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ)، واسَتَدَلَّ بقولِهِ تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
والعامِّيُّ
من المُوَحِّدِينَ يُقِرُّ بأنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: توحيدِ
الرُّبوبيَّةِ، والألوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ، فيَكونُ خيْرًا مِنْ
هؤلاءِ.
الثَّاني: مَنْ يُجَاهَدُ بالسَّيفِ والسِّنانِ، وَهُم المُظْهِرونَ لِلعَداوةِ، وَهُم الكُفَّارُ الخُلَّصُ المُعْلِنونَ بِكُفْرِهم.
وفي هذا والَّذي قَبْلَهُ يَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التَّحْرِيمُ: 9].
والجِهادُ بالحُجَّةِ والبَيانِ يَكونُ لِلكُفَّارِ الخُلَّصِ المُعْلِنِينَ لِكُفْرِهم أوَّلاً،ثمَّ يُجَاهَدُونَ بالسَّيفِ والسِّنانِ ثانيًا، ولا يُجَاهَدُونَ بالسَّيفِ والسِّنانِ إلاَّ بعدَ قِيامِ الحُجَّةِ عليهم.
والواجبُ
على الأمَّةِ الإِسلاميَّةِ أنْ تُقَابِلَ كلَّ سِلاحٍ يُصَوَّبُ نحوَ
الإِسلامِ بما يُناسِبُهُ، فالَّذين يُحارِبونَ الإِسلامَ بالأفكارِ
والأقوالِ يَجِبُ أنْ يُبَيَّنَ بُطْلانُ ما هم عليهِ بِالأدِلَّةِ
النظريَّةِ العقْليَّةِ، إضافةً إلى الأدِلَّةِ الشرْعيَّةِ. والَّذين
يُحارِبونَ الإسلامَ مِن النَّاحِيةِ الاقْتِصاديَّةِ يَجِبُ أن
يُدَافَعُوا، بلْ أنْ يُهَاجَمُوا إذا أَمْكَنَ، بِمِثْلِ ما يُحارِبونَ
بهِ الإِسلامَ. والَّذينَ يُحارِبونَ الإِسلامَ بِالأَسْلِحةِ يَجِبُ أنْ
يُقاوَموا بِما يُناسِبُ تلكَ الأسلحةَ.
الأوَّلُ: إثباتُ دَليلِ قولِهِ.
الثَّاني: إبطالُ دليلِ خَصمِهِ.
ولا
سَبيلَ إلى ذلكَ إلاَّ بِمعرفةِ ما هوَ عليهِ مِن الحقِّ، وما عليهِ
خَصْمُهُ مِن الباطِلِ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ دَحْضِ حُجَّتِهِ(2).
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) التشكيك يُتسلط به على الأرواح، ويدفع عنها بتوفيق الله للأنبياء وأتباعهم إلى الهداية.
والعدوان يتسلط به على الأبدان، ويدفع عنها بنصرة الله للأنبياء وأتباعهم. (2)
ولا تمكن معرفة العبد لما هو عليه من الحق وما عليه خصمه من الباطل إلا
بالعلم، فبه يعرف الحق بدليله، ويميز الباطل ويدفع شبهة دعاته.
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112](1).
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ(2) كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83].
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى اللهِ لابُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاء قاعِدِينَ عَلَيْهِ، أَهْلِ فَصَاحةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ، فَالواجِبُ عَلَيْكَ: أَنْ تَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ ما يَصِيرُ سِلاحاً تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشياطينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِيْنَ} وَلَكِنْ إن أَقْبَلْتَ إلى اللهِ تعالى، وَأَصْغَيْتَ إِلى حُجَجِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَلا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفاً}(3). وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلبُ أَلفاً مِن علماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ؛ كما قالَ تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبُونَ}(4). فَجُنْدُ الله تعالى هُمُ الْغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أنهم هُم الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ(5). وَإِنَّما الخَوْفُ عَلى المُوَحِّدِ الَّذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ)(6).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) هذه حِكْمَةُ اللهِ عَزَّ وعَلاَ، وهي تَتَلَخَّصُ في أَمْرَيْنِ:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: أَنَّه مَا بَعَثَ نَبِيًّا مِن أَنْبِيَائِهِ إلاَّ جَعَلَ له أَعْدَاءً
مِن المُشْرِكِينَ، كَمَا في الآيةِ الَّتِي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ، وكَمَا
في الآيةِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وللهِ في ذَلِكَ الحِكْمَةُ مِن أَجْلِ أَنْ يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِن الكَاذِبِ، ويَتَبَيَّنَ المُطِيعُ مِن العَاصِي.
إِذَا بَعَثَ الأَنْبِياءَ يَدْعُونَ إِلَى الهُدَى صَارَ هناك دُعَاةٌ
للضَّلاَلِ مِن أَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ أَيُّهم يَتَّبِعُ
الأَنْبِيَاءَ، وأَيُّهُم يَتَّبِعُ دُعَاةَ الضَّلاَلِ، ولَوْلاَ ذَلِكَ
لَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُم يَتَّبِعُونَ الأَنْبِيَاءَ ولو بالظَّاهِرِ،
ولاَ يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ في اتِّبَاعِهِ مِن المُنَافِقِ؛ لأَِنَّ
الأَنْبِيَاءَ يَتَّبِعُهُم المُؤْمِنُ الصَّادِقُ ويَتَّبِعُهُم
المُنَافِقُ الكَاذِبُ، والَّذي يُمَيِّزُ هَذَا مِن هَذَا هو الابْتِلاَءُ
والامْتِحَانُ، فالشَّدَائِدُ هي الَّتِي تُبَيِّنُ الصَّادِقِينَ مِن
المُنَافِقِينَ، فاللهُ جَعَلَ أَعْدَاءً للأَنْبِيَاءِ لِحِكْمَةٍ مِن
أَجْلِ الابْتِلاَءِ والامْتِحَانِ {لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}
هذه هي الحِكْمَةُ بأَنَّ اللهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
شَياطِينَ الإِنْسِ والْجِنِّ، والشَّيْطَانُ هو المَارِدُ العَاصِي،
فَكُلُّ مَن تَمَرَّدَ عن طَاعَةِ اللهِ فإنَّه شَيْطَانٌ، سَوَاءٌ كَانَ
مِن الجِنِّ أو مِن الإِنْسِ حَتَّى الدَّوابُّ المُتَمَرِّدَةُ تُسَمَّى
شَيْطَانًا، وهو مِن: شَاطَ الشَّيْءُ إِذَا اشْتَدَّ، أَوْ مِن: شَطَنَ
إِذَا ابْتَعَدَ، فالشَّيْطَانُ يَكُونُ مِن عَالَمِ الجِنِّ ويَكُونُ مِن
عَالَمِ الإِنْسِ.
وقَوْلُه تَعَالَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ}الزُّخْرُفُ:
في الأَصْلِ الذَّهَبُ، وزُخْرُفُ القَوْلِ: هو القَوْلُ المُمَوَّهُ
المُزَوَّرُ؛ لأَِجْلِ أَنْ يُغَرَّ النَّاسُ، فالقَوْلُ المُزَخْرَفُ: هو
البَاطِلُ المُغَلَّفُ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ، وهَذَا مِن أَعْظَمِ
الفِتْنَةِ؛ لأَِنَّ البَاطِلَ لو كَانَ مَكْشُوفًا مَا قَبِلَهُ أَحَدٌ،
لَكِنْ إِذَا غُطِّيَ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ فَإِنَّهُ يَقْبَلُهُ كَثِيرٌ
مِن النَّاسِ، ويَنْخَدِعُونَ بِهَذِه الزَّخْرَفَةِ، فهو بَاطِلٌ في
صُورَةِ الحَقِّ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}
اللهُ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِم مِن ذَلِكَ، لَكِنَّه شَاءَ أَنْ
يَفْعَلُوهُ مِن أَجْلِ الابْتِلاَءِ والامْتِحَانِ، وإِذَا كَانَ هَذَا
مَعَ الأنْبِيَاءِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِم مِن الدُّعاةِ إِلَى اللهِ
وعُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ، فَأَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ أيْضًا يَكُونُ لَهُمْ
أَعْدَاءٌ مِن دُعَاةِ البَاطِلِ في كلِّ زَمانٍ وفي كلِّ مَكَانٍ، هَذَا
مُسْتَمِرٌّ في الخَلْقِ، وُجُودُ دُعَاةِ الحَقِّ وإلى جَانِبِهِم دُعَاةُ
البَاطِلِ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ.
الأَمْرُ الثَّانِي: وهو العَجِيبُ: أنَّ
دُعَاةَ البَاطِلِ يَكُونُ عِنْدَهُم عُلُومٌ، وعندَهُم كُتُبٌ، وعندَهم
حُجَجٌ يُجَادِلُونَ بِهَا أَهْلَ الحَقِّ، (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} يعني: الكُفَّارَ {بِالبَيِّنَاتِ}
الحَقَائِقِ البَيِّنَةِ والعِلْمِ النَّافِعِ {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم
مِن العِلْمِ} الَّذي تَوَارَثُوهُ عن أَجْدَادِهِم وآبَائِهِم، والَّذي هو
عِبَارَةٌ عن كُتُبِهِم وعن حُجَجِهِم الَّتِي تَوَارَثُوها، وهذا واقِعٌ
الآنَ، كم في السَّاحَةِ مِن كُتُبِ أَهْلِ البَاطِلِ ككُتُبِ
الجَهْمِيَّةِ، وكُتُبِ المُعْتَزِلَةِ، وكُتُبِ الأَشَاعِرَةِ، وكُتُبِ
الشِّيعَةِ، كم في السَّاحَةِ مِن كُتُبِ هَؤُلاَءِ! وعندَهم حُجَجٌ
مُرَكَّبَةٌ ومُزَيَّفَةٌ تَغُرُّ الإِنْسَانَ الَّذي لَيْسَ عندَه
تَمَكُّنٌ مِن العِلْمِ، فَعِلْمُ الكَلاَمِ وعِلْمُ المَنْطِقِ
اعْتَمَدُوهُ وجَعَلُوهُ هو العِلْمَ الصَّحِيحَ الَّذي يُفِيدُ اليَقِينَ.
أمَّا أَدِلَّةُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فهي حُجَجٌ ظَنِّيَّةٌ
بِزَعْمِهِم.
(2)
إِذَا كَانَ هَؤُلاَءِ عِنْدَهُم فَصَاحَةٌ وعندَهم حُجَجٌ وعِنْدَهُم
كُتُبٌ فَلاَ يَلِيقُ بِكَ أَنْ تُقَابِلَهُم وأَنْتَ أَعْزَلُ، بل يَجِبُ
عَلَيْكَ أَنْ تَتَعَلَّمَ مِن كِتَابِ اللهِ ومِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ما تُبْطِلُ به حُجَجَ هَؤُلاَءِ الَّذين
قَالَ إِبْلِيسُ إِمَامُهُم ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وجَلَّ: {لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي: لِبَنِي آدَمَ {صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ} أي: الطَّرِيقَ المُوصِلَ إِلَيْكَ،
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
تَعَهَّدَ
الخَبِيثُ أَنَّه سيُحَاولُ إِضْلاَلَ بَنِي آدَمَ، وكَذَلِكَ أَتْبَاعُه
مِن شَيَاطِينِ الإِنْسِ مِن أَصْحَابِ الكُتُبِ الضَّالَّةِ، والأَفْكَارِ
المُنْحَرِفَةِ يَقُومُونَ بِعَمَلِ إِبْلِيسَ في إِضْلاَلِ النَّاسِ.
(3) كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} فَهُم مَهْمَا كَانَ عِنْدَهُم مِن القُوَّةِ الكَلاَمِيَّةِ، والجِدَالِ والبَرَاعَةِ في المَنْطِقِ، والفَصَاحَةِ إلاَّ أنَّهم ليسوا على حَقٍّ، وأنت عَلَى حَقٍّ مَادُمْتَ مُتَمَسِّكًا بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، وفَهِمْتَ الكِتَابَ والسُّنَّةَ فاطْمَئِنَّ فإنَّهُم لَنْ يَضُرُّوكَ أَبَدًا {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} لَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فإنَّكَ لاَ تَخَافُ مَهْمَا كَانَ مَعَهُم مِن الحُجَجِ والكُتُبِ؛ لأَِنَّها سَرَابٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا حَقًّا؛ وكُلٌّ كَاسِرٌمَكْسُورُ فالسَّرَابُ
يَزُولُ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ هذه الحُجَجُ إِذَا
طَلَعَتْ عَلَيْهَا شَمْسُ القُرْآنِ وبَيِّناتُ القُرْآنِ زَالَ هَذَا
الضَّبابُ الَّذي مَعَهُم، وهذه سُنَّةُ اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- {بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} قَذَائِفُ الحَقِّ تُدَمِّرُ البَاطِلَ مَهْمَا كَانَ. إِذًا: فالنَّاسُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: القِسْمُ الأَوَّلُ: مَن
عِنْدَه عِلْمٌ صَحِيحٌ، وفِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ، وهَذَا أَعْلَى
الطَّبَقَاتِ، وهَذَا هو الَّذي أَقْبَلَ عَلَى رَبِّه، وأَصْغَى إِلَى
حُجَجِهِ وبَيِّنَاتِهِ، فَصَارَ عِنْدَه عِلْمٌ صَحِيحٌ وفِطْرَةٌ
سَلِيمَةٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}
أَضَافَ الجُنْدَ إِلَيْهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-، وجُنْدُ اللهِ هُمُ
المُؤْمِنُونَ، يُقَالُ لَهُم: جُنْدُ اللهِ، ويُقَالُ لَهُم: حِزْبُ
اللهِ، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ}إلى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ}. فَهُم
الغَالِبُونَ بالحُجَّةِ مَعَ المُبْطِلِينَ، كَمَا أنَّهم الغَالِبُونَ
بالسَّيْفِ والسِّنَانِ في المَعَارِكِ إِذَا تَقَابَلَ الجُنْدَانِ
-المُسْلِمُونَ والكُفَّارُ- فإِنَّه يَنْتَصِرُ المُسْلِمُونَ عَلَى
الكُفَّارِ إِذَا تَوفَّرَتْ شُرُوطُ النَّصرِ فيهم، بأَنْ تَوَكَّلُوا
عَلَى اللهِ واعْتَصَمُوا باللهِ وأَطَاعُوا اللهَ ورَسُولَهَ، فَإِنْ
حَصَلَ فيهم خَلَلٌ حَصَلَتْ عَلَيْهِم هَزِيمَةٌ، كَمَا حَصَلَ عَلَى
الصَّحَابَةِ في وَقْعَةِ أُحُدٍ لَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ونَزَلُوا مِن الجَبَلِ الَّذي قَالَ لَهُم: لاَ
تَنْزِلُوا مِنْهُ سَواءٌ انْتَصَرْنَا أو هُزِمْنَا، فَلَمَّا خَالَفُوا
ونَزَلُوا مِن الجَبَلِ حَلَّتِ الْهَزِيمَةُ بالمُسْلِمِينَ.
القِسْمُ الثَّالِثُ: مَن
لَيْسَ عِنْدَهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ ولاَ عِلْمٌ صَحِيحٌ، وإنَّما عِنْدَه
سَرَابٌ، لاَ حَقِيقَةَ له، فَهَذَا يُهْزَمُ أَمَامَ العَامِّيِّ، فكيف
أَمَامَ العَالِمِ الَّذي عِنْدَه عِلْمٌ صَحِيحٌ وفِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ؟!
فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ العِلْمِ النَّافِعِ يكونُ
سِلاَحًا للمُؤْمِنِ أَمَامَ أَعْدَاءِ اللهِ ورَسُولِهِ.
فَهُم
حِزْبُ اللهِ وجُنْدُ اللهِ، والجُنْدُ جَمْعُ جُنْدِيٍّ، وهو المُقَاتِلُ
والمُدَافِعُ عن دِينِ اللهِ، أَضَافَهُم إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُم،
وجَعَلَ لَهُم الغَلَبَةَ بالحُجَّةِ والسِّلاَحِ.
فَهَذَا
مِمَّا يُوجِبُ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ وعَلَى الدُّعَاةِ إلى اللهِ
خُصُوصًا أَنْ يَتَفَقَّهُوا في دِينِ اللهِ، وأَنْ يَتَعَلَّمُوا حُجَجَ
اللهِ وبَرَاهِينَهُ، وأَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا عِنْدَ الخُصُومِ
والكُفَّارِ والمُنَافِقِينَ مِن البَاطِلِ مِن أَجْلِ أَنْ يَدْحَضُوهُ
ويَكُونُوا عَلَى مَعْرِفَةٍ بِهِ. والنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لَمَّا أَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ)) مِن
أَجْلِ أَنْ يَسْتَعِدَّ؛ لأَِنَّ الَّذِينَ أَمَامَهُ أَهْلُ كِتَابٍ
وأَهْلُ عِلْمٍ، وعِنْدَهُم حُجَجٌ وعِنْدَهُم شُبُهَاتٌ وعِنْدَهُم
تَلْبِيسٌ، فَلاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى
اسْتِعْدَادٍ مِن أَجْلِ أَنْ يَقُومَ بالدَّعْوَةِ، ويَرُدَّ البَاطِلَ،
ثُمَّ قَالَ لَهُ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)) فَهَذَا
مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى المُوَحِّدِينَ عُمُومًا وعَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ
خُصُوصًا، وعَلَى الدُّعاةِ إلى اللهِ بِصِفَةٍ أَخَصَّ أَنْ
يَتَعَلَّمُوا مَا يَدْفَعُونَ بِهِ البَاطِلَ، ويَنْصُرُونَ بِهِ الحَقَّ،
وإِلاَّ فإنَّهم سَيَنْهَزِمُونَ أَمَامَ أيِّ شُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُم.
والمُشْكِلَةُ إِذَا عَجَزَ الدَّاعِيَةُ إلى اللهِ أنْ يُجِيبَ عَلَى شُبَهِ المُلَبِّسِ أَمَامَ النَّاسِ أو أَجَابَهُ بِجَهْلٍ
والجَوَابُ عَن هَذَا الإِشْكَالِ: أَنَّ
الشَّيْخَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقْصِدُ أَنَّ العَامِّيَّ عِنْدَه فِطْرَةٌ
سَلِيمَةٌ يَسْتَنْكِرُ بِهَا البَاطِلَ، أمَّا عُلَمَاءُ الضَّلاَلِ
فَفِطَرُهُم فَاسِدَةٌ، وحُجَجُهُم واهِيَةٌ، فالعَامِّيُّ يَغْلِبُهُم
بالفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِن حَيْثُ الجُمْلَةُ، لاَ مِنْ حَيْثُ
التَّفَاصِيلُ.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذا التَّوحِيدِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً
كَما قالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنّ} الآية [الأنعام: 112].
وَقَدْ يَكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوحِيدِ عُلُومٌ كَثيرةٌ وكُتُبٌ وحُجَجٌ كَما قالَ تَعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}[غافر: 83].
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى اللهِ لابُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاء قاعِدِينَ عَلَيْهِ، أَهْلِ فَصَاحةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ، فَالواجِبُ عَلَيْكَ: أَنْ تَعلَّمَ مِن دِينِ اللهِ ما يَصِيرُ سِلاحاً تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشياطينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ومُقَدَّمُهُم لِرَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِيْنَ} وَلَكِنْ إن أَقْبَلْتَ إلى اللهِ تعالى، وَأَصْغَيْتَ إِلى حُجَجِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ فَلا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيْفاً}. وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلبُ أَلفاً مِن علماءِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ؛كما قالَ تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبُونَ} .فَجُنْدُ الله تعالى هُمُ الْغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أنهم هُم الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ. وَإِنَّما الخَوْفُ عَلى المُوَحِّدِ الَّذي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال رحمه الله بعد أن ذكر المقدمات التي سلفت: (واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء؛ كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} ).
قد
يأتي الشيطان للعبد بشبهةِ أن التوحيد والدين إذا كانا من عند الله حقاً،
وإذا كان ذلك فيه مرضاة الله جلّ وعلا، والله ينصر أولياءه ويعز أولياءه،
ويخذل أعداءه، فالمفترض أن يكون - يعني: في إلقاء الشيطان في النفوس ـ أن
يكون أهل التوحيد هم الغالبين، وأن يكون الرسل ليس لهم أعداء؛ لأنهم من عند
الله جل وعلا.
وهذا
الظن قد ظنه طائفة من المشركين، فرغبوا في إنزال مَلَك حتى يُتفق عليه،
ورغبوا في أن يكون للنبي كذا وكذا من الأشياء التي يكون معها الاتفاق وعدم
المعاداة له، وعدم الجحود لما جاء به؛ كما قال جلّ وعلا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً} الآيات في سورة الإسراء.
- وكذلك الآيات في سورة الفرقان: {وَقَالُوا
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ
لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا
وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً}.
فمن حكمة الله جل جلاله: أنه بعث الرسل، وجعل لكل رسول أعداء ،
وأعداء الرسل من الإنس والجن؛ لأن بعثة الرسل لإنس أقوامهم وللجن الذين
يسمعون حديثهم، إلا محمداً عليه الصلاة والسلام، فإن بَعثته للعالمين
جميعاً، للإنس كافة وللجن كافة. فلكل رسول أعداء،وهؤلاء الأعداء جعلهم الله -جلّ وعلا- أعداءً لحكمة؛ لأن أمر التوحيد عظيم، فلهذا قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}.وقال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}.فحكمة الله -جلّ وعلا- اقتضت أن يجعل لكل نبي أعداءً ،
وهكذا لكل أتباع الرسل والأنبياء جعل لهم أعداءً؛ لأن حكمة الله سبحانه
وتعالى اقتضت أن يفرق بين حزب الله وحزب الشيطان، وهذا الفرق بين حزب الله
وحزب الشيطان قد يكون فرقاً بالعلوم، وقد يكون فرقاً بالسيف والسنان.ولهذا القرآن فرقان، فرق الله -جل وعلا- فيه بين علوم الحق وبين علوم المشركين.
المقصود: أن حكمة الله اقتضت أن يكون لكل نبي عدوٌ، فلا ينظر الموحد في زمن ما:
-إلى أن أهل التوحيد قلة.
-أو إلى أنهم مزدرون.
-أو إلى أنهم لا يؤبه لهم.
-أو إلى أنهم مكثوا زمنا طويلاً لم يُنصروا.
-أو
نحو ذلك من الأشياء، لا ينظر إلى ذلك، أو أنهم يعذبون، أو أنهم يطردون، أو
ما يفعله الأعداء بأهل التوحيد، لا ينظر إلى ذلك، وإنما ينظر إلى الحق في
نفسه.
وحكمة الله عرفها أهل السنة بأنها: وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها. والله -جل
وعلا- أذن بالشر في ملكه - والشر ليس إليه - ليظهر طيب الطيب، وليظهر طيب
أهل الحق على خبْث غيرهم، فأذن به جلّ وعلا، أذن بالشر فداءً للخير حتى
يظهر، فلولا هذه العداوة ما ظهر المستمسك بالتوحيد من غيره، ما ظهر الذي
على قناعة تامة من توحيد الله -جل وعلا- من الذين هم في ريبهم يترددون،
ونحو ذلك من الحكم العظيمة. فالله -جل وعلا- أنزل العداوة في موضعها،وهذه العداوة موافقة لغاية محمودة منها. بعض
الجن والإنس بل الأكثر من شياطين الإنس والجن أعداء للرسل، هذا فيه غايات
محمودة، ومن هذه الغايات المحمودة التي هي حكمة الله جل وعلا:
- أن يظهر أنصار الله -جل وعلا- الذين يستحقون فضله ومنته ودار كرامته.
ومنها: أن
يظهر الفرقان بين أهل الحق وأهل الباطل، بشيء بشري وليس بسماوي، وربما
ينعم الله -جل وعلا- بشيء من عنده من السماء، كتأييدٍ بملائكةٍ، أو نحو
ذلك.
ومنها:أن
يظهر أن هؤلاء الذين نصروا دينه ليس عندهم شك ولا شبهة، مع كثرة المعادين
ومع كثرة الشبه ومع كثرة ما يرد، فإن استمساكهم بالحق دليل على صحة
التوحيد، فالرسل مع قلة من استجاب لهم استمسكوا بالحق، وبعضهم مكث مُدداً
طويلة، فظهر أن هؤلاء الذين استمسكوا بالحق وثبتوا عليه، حتى إن أحدهم
ليؤخذ فينشر بالمنشار نصفين ما يرده ذلك عن دينه، هذا شهادة عظيمة بأن هذا
الذي حملوه حق؛ لأن الله -جل جلاله- جعلهم مكرمين بهذا الأمر، ومكرمين
باتباع الرسل - يعني: باتباع الحق - في حِكَم شتى.
والشيخ -رحمه الله- هنا قال: (لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء) وهذا الحصر مأخوذ من الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}فلفظ (كل) ظاهر في العموم، وهو بمعنى: لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً. وأعداء التوحيد - أعداء الأنبياء والرسل - على قسمين:
1-أعداء رؤساء.
2- وأعداء تبع.
الرؤساء:إما
أهل الرياسة والتدبير في أمور الدنيا، وإما أهل الرياسة في أمور الفكر
والدين، هؤلاء هم الذين تزعموا العداوة وصدوا الناس عن الدين، هذا صنف من
أصناف الأعداء. والصنف الثاني منهم: الأتباع الرعاع الذين أعرضوا عن الحق.
- أو الذين أخذتهم الحمية والعصبية في ألا يقبلوا التوحيد، وأن ينصروا رؤساءهم.
فلا
يوصف بالعداوة العلماء فقط، أوالرؤساء فقط، بل أعداء التوحيد العامة
والرؤساء جميعاً؛ لأن من لم يستجب للتوحيد فقد سب الله جلّ جلاله.
كل
مشرك بالله فهو متنقص للرب -جل وعلا- ساب له، فمن ادعى أن مع الله إلها
آخر، يتوسط به ويُزدلف إلى الله -جلّ وعلا- عن طريقه، بوساطته وشفاعته،
سواء كان ذلك عالماً أولم يكن عالماً، وإنما كان تبعاً لرؤسائه، فإنه عدو
للتوحيد، وربما كان هؤلاء من جهة انتشارهم في الناس أبلغ في إحياء عداوة
التوحيد وبثها من الخاصة، وهذا ظاهر بين؛ لأن العامة ينشرون من الأقوال
والأكاذيب أعظم مما يبثه الخاصة.
وإذا نظرت إلى دعوة محمد
بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- فإن الذي نشر أنه صابئ، والذي نشر أنه
ساحر، والذي نشر أنه مجنون أتباع الكبار، أتباع الرؤساء والملأ في العرب. وكذلك إذا نظرت في دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإن الذي نشر في الناس مقالة أعداء الشيخ من علماء زمانه إنما هم العامة. فالعامة عداوتهم تأتي من جهة التعصب ،
ومن جهة نصرة الباطل بقناعتهم بمن قال لهم ذلك، فعندهم علماء معظمون
ورؤساء معظمون فيقتدون بهم، ويستجيبون لمقالهم دون نظر وتدبر، فهؤلاء أعداء
لتوحيد الله جلّ وعلا. وكل من هذين الصنفين يجب الحذر منه، ويجب
على الموحد أن يعاديه، فليست عداوة الموحد لعلماء المشركين خاصة، أو الذين
أعلنوا الحرب على التوحيد خاصة، هؤلاء لهم نصيب من العداوة أكبر، وكل من
لم يوحد الله -جلّ وعلا- وانغمس في براثن الشرك، وأشرك بالله فهو عدو لله
جلّ وعلا، فكل مشرك عدو لله جلّ وعلا؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ
تَبَرَّأَ مِنْهُ} قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} و(شياطين الإنس) جمع شيطان، والشيطان:
هو البعيد عن الخير، مأخوذ من (شَطَن) إذا بعد، فالشاطن هو البعيد،
والشيطان النون فيه أصلية، وهو البعيد من الخير، والخير بما يناسبه، ولهذا
قيل لبعض الحيوانات شيطان لما يناسبه من بعده عن الخير وما يلائمه، وقيل
للحمامة في الحديث: شيطانة، في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه
أبو داود وغيره ((شيطان يتبع شيطانة)) .
فالشيطان: هو البعيد عن الخير، والخير في كلٍ بما يناسبه، وقد قال الشاعر في ذلك:
أيام كن يدعونني الشيطان من غزل ............. وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
يعني: إذْ كنت بعيدا عن الخير، مع بقاء اسم الإسلام عليه.
لكن
يكمل البعد عن الخير بالكفر، فالكافر والمشرك شيطان من شياطين الإنس، ولا
بد أن يمده شيطان من شياطين الجن؛ لأنه ما من أحد إلا وكل به القرين.
قال: {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} شياطين الإنس يُرون، وشياطين الجن لا يرون، وهم الذين يلقون أيضاً بعض الشبه في نفوس شياطين الإنس من جهة الوسواس والقرين.
قال: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}في قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}
ما ينبىء على أن علوم المشركين وشبه المشركين فيها رونق ولها زخرف،
والزخرف: هو الشيء الناصع البين الجيد، ومنه قيل للذهب زخرف؛ لأنه ناصع
واضح.
فزخرف القول:هو القول الذي له نصوع وضياء يبصره ببصيرته المتأمل له فيخدعه، فقال -جلّ وعلا- هنا: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ} في هذا: أن ما عند المشركين من العلوم لها زخرف، فليحذر منها.
لا
يتصور في هذا المقام - وهو مقام كشف الشبهات - أن شبهة المشرك ليس لها وجه
البتة، لا تتصور هذا، فإن المشرك يوحي بعضهم، يوحي بعض المشركين إلى بعض
بزخرف القول حتى تُزين الشبهة، فلا يقال هذه الشبهة فيها نصيب من الحق
فتكون حقاً.أو أن يظن أن شبهة المشرك ليس لها نصيب من النظر البتة،بل يكون لها زخرف ويكون لها نظر، فإذا تأملها أهل العلم وجدوها داحضة؛ كما قال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ
دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}
فالحجج التي يدلي بها أهل الشرك:
- فيها:زخرف.
- وفيها:تدليس.
- وفيها:تلبيس.
والشبه لها بعض ما يجعلها ملتبسة بالحق، فلهذا لا تتصور أن الشبه التي ستأتي التي أدلى بها أعداء التوحيد أن كل واحدة لا تدخل العقل أصلاً، بل منها أشياء خدع بها الشياطين - هؤلاء - من خدعوا من أمم الإنس والجن، ولكن هذا القول غرور، يعني: أنه يزهر وينصع ويتزخرف عند سماعه أو عند رؤيته، ولكنه عند التحصيل غرور ليس بشيء، وهذا لأنه إذا تُدبر وفحص وجد أن حججهم داحضة.
قال: (وقد يكون لأعداءِ التوحيدِ علوم كثيرة وكتب وحجج) وهذه مقدمة مهمة أيضاً في سبيل كشف الشبهات، التي أدلى بها علماء المشركين.
-قد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج. العدو للتوحيد، لا تتصور - خاصة من أمة محمد
-صلى الله عليه وسلم- من العلماء الذين جاءوا في هذه الأمة - لا يتصور أن
عدو التوحيد لا يكون عنده علم البتة، لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون
فقيهاً، لا يكون محدثاً، لا يكون مفسراً، لا يكون مؤرخاً، بل قد يكون
مبرزاً في فن من هذه، أو في فنون كثيرة، كحال الذين ردوا على إمام هذه
الدعوة، فإنهم كان يشار إليهم بالبنان فيما اختصوا فيه من العلوم، منهم من
كان فقيهاً، ومنهم من كان مؤرخاً، وهذا حال أيضاً من رد عليهم أئمة الدعوة.
فلا تتصور أن عدو التوحيد لا يكون عالماً، وهذه
شبهة ألقاها الضُّلالُ في رؤوس الناس، فجعلوا اعتراض العالم على العالم
دالاً على صحة كلٍ من المذهبين هذا وهذا والأمر واسع، ولهذا بعضهم يقول في
مسائل التوحيد: (هذا أصح من القول الثاني) أو: (في أصح قولي العلماء هو كذا
وكذا). وهذا لا يسوغ أن يقال في مسائل التوحيد؛لأن
من خالف في مسائل التوحيد فإنه ليس من علماء التوحيد، ولا علماء السنة
الذين يصح أن تنسب لهم مقالة، أو أن يؤخذ بقولهم في الخلاف، بل التوحيد دلت
عليه الدلائل الكثيرة، من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وبينه الأئمة،
فمن خالف ولو كان من العلماء الكبار في الفقه، أو في التاريخ، أو في
الحديث، أو غيره فإن مخالفته لنفسه، ولا يقال: إن في المسألة خلافاً. لهذا لا بد أن تنتبه إلى أن عدو التوحيد من علماء المشركين ليس من صفته أن يكون غير عالم،بل
قد يكون عالماً وإماماً في فن من الفنون، إمام في التفسير، إمام في الفقه،
مرجع في القضاء، ونحو ذلك، مثل أعداء الدعوة الذين عارضوا الشيخ -رحمه
الله- وعارضوا الدعوة. -كحال - مثلاً من المتأخرين - داود بن جرجيس، فإنه كان على علم واسع، ولكن من علماء المشركين. -وكحال
محمد بن حميد الشرقي، صاحب كتاب (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) أيضاً
كان من أعداء التوحيد، وصنّف رداً على المشايخ فيما تكلموا فيه على منظومة
البوصيري المعروفة بـالميمية، وأبطل أن يكون ذلك شركاً، وقرر ما قاله
البوصيري، إلى آخر ذلك. والشيخ
عبد الرحمن بن حسن، صاحب كتاب (فتح المجيد) - المجدد الثاني رحمه الله -
له في ذلك رسالة، رد بها على صاحب هذا الكتاب، فهو بارز في الفقه، وأشير
إليه في التفسير، وفي التراجم، إلى آخره، ولكنه من علماء أعداء التوحيد، من
علماء المشركين:
-لأنهم نافحوا عن الشرك.
-وردوا على أهل التوحيد.
-وردوا التوحيد، وأضلوا الناس في تعريف التوحيد والشرك، وبيان ما به يكون المسلم مشركاً مرتداً، فأضلوا الناس في ذلك.
فإذاً: المقدمة المهمة بين يدي هذه الرسالة: ألا
تظن أن العلماء الذين يشار إليهم بالبنان؛ أن هؤلاء لا يكونون مشركين، بل
في زمن الشيخ -رحمه الله- وما بعده كان هناك علماء يشار إليهم؛ ولكنهم
كانوا مشركين، مثل مفتي الشافعية أيضاً في مكة أحمد بن زيني دحلان، وأشباه
هؤلاء. فالناس يرجعون إليهم، ويستفتونهم، فيصدرون عنهم، فلا يتصور أن الشرك ليس له علماء تحميه. فإذاً:كمقدمةٍ:
لا تقل في مسألة من المسائل التي يأتي كشف الشبهة فيها: قالها العالم
الفلاني، وقالها الإمام الفلاني، وكيف يفعلها الإمام الفلاني؟
-فهذا إما أن يكون جاهلاً ما حرر المسألة، كبعض العلماء المشهورين المذكورين بالخير.
-وإما أن يكون قد علم فعادى وعارض، وصنف في تحسين الشرك، مثل ما فعل - مثلاً - الرازي - فخر الدين الرازي - صاحب التفسير المسمى بـ(مفاتيح الغيب) حيث صنف في تحسين دين الصابئة ومخاطبتهم للنجوم كتاباً، سماه: (السر المكتوم في أسرار الطِّلَّسْمات ومخاطبة النجوم) وبه كفَّره طائفة من أهل العلم، فيحسِنُ كيف تُخَاطَب النجوم، وكيف يستغاث بها، وكيف تستمطر؛ إلى آخره، وصنف في ذلك ليدل صابئة حران على ذلك، وهذا لا شك أنه من الضلال البعيد. فلا يقال في أي شبهة يأتي ردها، أو رد عليها أئمة السنة والتوحيد، لا يقال: كيف العالم الفلاني قالها؟كيف راجت على العالم الفلاني؟وهؤلاء إما أن يكونوا جهالاً فلا يُصنفون في أعداء التوحيد، وإما أن يكونوا صنفوا في الشرك وتحسينه، فهؤلاء هم الذين عناهم الشيخ بقوله: (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج). إذا رأيت نقولهم قد تكون عن شيخ الإسلام وعن ابن القيم، مثل ما فعل داود بن جرجيس -مثلاً- صنف كتاباً سماه: (صلح الإخوان) نقل فيه عن شيخ الإسلام وابن القيم نقولاً، ونقل عن أقوال المفسرين وأقوال كثير من العلماء؛ مثل في هذا العصر ما صنف مثلاً محمد بن علوي المالكي، كتاباً حشد فيه أقوال نحو من مائتين أو ثلاثمائة من العلماء الذين أقروا بعض الشركيات، وبعض التوسلات ونحو ذلك في كتبهم، هذا ليس هو العبرة.
فإذاً: القاعدة التي يجب أن تكون عليها قدما الموحد: أن علماء المشركين قد يكون لهم علم كبير وحجج؛لأنه ليس الشرك سبباً في انسلاخهم من العلم؛ كما قال -جل وعلا- عن أوائلهم: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
-وقد يكون هذا العلم في الإلهيات؛ كما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} هذا اعتراض، شبهة، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
-وقد يكون في الفقهيات؛ كما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}ونحو ذلك. فجنس العلوم التي وجدت في هذه الأمة موجودة عند أعداء الرسل، إما من جهة الإلهيات، وإما من جهة الشرعيات، فعارضوا الرسل بما عندهم من العلم، بل إن الله -جل جلاله- سمى قولهم حجة فقال - وذلك تعظيماً له من جهة قوة الشبهة فيه - قال: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) هل هذه الكتب الكثيرة التي له، والفقهيات والتراجم والتفسير وما أشبه ذلك، يجعله ليس عدواً للتوحيد إذا صنف في عداوة التوحيد، وصنف في تحسين الشرك ودعا الناس إلى ذلك؟ لا، فإنه يكون عدواً للتوحيد ناصراً للشرك - ولا كرامة - ولو كان أثر السجود في جبهته، ولو كان عنده من المؤلفات أكثر مما عند المكثرين ، كـالسيوطي وغيره، فهذا ليس بعبرة، وكلامه بالتالي ليس بعبرة؛ لأنه ليس من علماء التوحيد، فعلومه ضارة وليست نافعة.
قال بعد ذلك رحمه الله: (إذا عرفت ذلك) يعني: ما تقدم من أن أعداء الرسل قد يكون لهم علوم وكتب يصنفونها، وحجج يدلون بها، قد يكون يحتجون بالكتاب، قد يكون يحتجون بالسنة وأشباه ذلك، وبأقوال المحققين من أهل العلم، مثل ما ينقلون عن أحمد بعض الأشياء، ينقلون عن شيخ الإسلام، ينقلون عن ابن القيم، ينقلون عن ابن حجر، ينقلون وينقلون، هذا كله من العلوم الضارة وليست من العلوم النافعة.
قال: (إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج) انتبه لهذه الكلمة (لابد له) لا بد لطريق التوحيد - الطريق إلى الله - من أعداء، كما ذكرنا، وهؤلاء الأعداء قد يكونون علماء، وهؤلاء العلماء أهل فصاحة وعلم وحجج، لا بد أن تكوِّن حاجزاً من أن يصدوك عن الهدى ويدخلوك في الضلال، أو أن يلبسّوا عليك الدين.
فليست الفصاحة هي المعيار،فإبليس كان فصيحاً، وليس العلم في نفسه هو المعيار، بل لا بد أن يكون العلم هو العلم النافع، وليست الحجج وجود حجج وإيرادات وجواب هو المعيار. فإذا كان هذا موجودا فانتبه إلى وصية الشيخ -رحمه الله- في مقدمة هذه الرسالة العظيمة (كشف الشبهات).
قال بعد ذلك رحمه الله: (إذا عرفت ذلك)
يعني: ما تقدم من أن أعداء الرسل قد يكون لهم علوم وكتب يصنفونها، وحجج
يدلون بها، قد يكون يحتجون بالكتاب، قد يكون يحتجون بالسنة وأشباه ذلك،
وبأقوال المحققين من أهل العلم، مثل ما ينقلون عن
أحمد بعض الأشياء، ينقلون عن شيخ الإسلام، ينقلون عن ابن القيم، ينقلون عن ابن حجر، ينقلون وينقلون، هذا كله من العلوم الضارة وليست من العلوم النافعة.
قال: (إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج) انتبه لهذه الكلمة (لابد له)
لا بد لطريق التوحيد - الطريق إلى الله - من أعداء، كما ذكرنا، وهؤلاء
الأعداء قد يكونون علماء، وهؤلاء العلماء أهل فصاحة وعلم وحجج، لا بد أن
تكوِّن حاجزاً من أن يصدوك عن الهدى ويدخلوك في الضلال، أو أن يلبسّوا عليك
الدين. فليست الفصاحة هي المعيار،فـإبليس
كان فصيحاً، وليس العلم في نفسه هو المعيار، بل لا بد أن يكون العلم هو
العلم النافع، وليست الحجج وجود حجج وإيرادات وجواب هو المعيار. فإذا كان هذا موجودا فانتبه إلى وصية الشيخ -رحمه الله- في مقدمة هذه الرسالة العظيمة (كشف الشبهات). قال: (فالواجب عليك)
إذا علمت أن ثم أعداء، والأعداء قد يكونون علماء، وعندهم فصاحة وعلم وحجج،
معناه أن العداوة استحكمت، وتوجُّه الضِّراب عليك، وتوجُّه الأسلحة عليك
أعظم، فما الذي يجب عليك؟ هنا يجب عليك أن تصون نفسك، وأن تحمي نفسك أعظم حماية في هذا الأمر الجلل، الذي من ضل فيه كان من الخاسرين أبد الدهر. قال: (فالواجب عليك) وجوباً شرعياً (أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً) وقوله: (من دين الله) هذا للتبعيض؛ لأن العلم: منه:واجب عيني. ومنه:واجب كفائي. ما
كان من الدين فرضاً عينياً على كل أحد، وهو الذي لا يعذر أحد بالتقليد فيه،
وذلك في معنى الشهادتين وتحقيق مسائل القبر الثلاث: (من ربك؟ ما دينك؟ من
نبيك؟) فهذا العلم واجب بأدلته، وهو الذي وصف لك، وصنف فيه الشيخ الرسالة
العظيمة (ثلاثة الأصول) لنجاتك في هذا الأمر الخطير بين علماء المشركين. قال: (فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين) تقاتل به ابتداءً أو تقاتل به دفعاً؟ كلاهما، لا بد من الدفع في حينه، ولا بد من الابتداء في حينه، مقاتلة بالحجة والبيان. إذا
لم تكن ذا سلاح فالخوف ثم الخوف عليك، فلهذا تجد أن بعض أهل الفطرة، وأهل
هذه البلاد، وأهل التوحيد، الذين يفترض فيهم ويظن فيهم أن يكونوا حماة لهذا
الأمر العظيم، توحيد رب العالمين جل جلاله، الذي هو حق الله على العبيد
ألا يصغوا لشبهةٍ في التوحيد. فنفس الموحد في هذا المقام تأتيها أنواع كثيرة من الهجوم: -تارة في أشياء نفسية. -وتارة بشبه علمية. - وتارة بأشياء راجعة إلى الضعف الذي في نفس بعض أهل التوحيد. فإذاً: لا بد من الانتباه لهذا، وهو أن الواجب أن يتعلم المرء من دين الله ما يصير له سلاحاً، يقاتل به هؤلاء الشياطين. ما هو هذا السلاح؟ هو تعلّم التوحيد وضده، وتعلّم
الشرك بأنواعه، كما صنف فيه الشيخ -رحمه الله-كتابه (كتاب التوحيد) ثم إن
كان بين قوم عندهم مجادلة في التوحيد لا بد من الاطلاع على ردود الأئمة على
علماء المشركين، الذين شبهوا في التوحيد، كما قدمت لك في المقدمة أن معرفة
هذا الباب - يعني كشف الشبهات - مبنية على أشياء، منها: مطالعة كتب
العلماء في رد شبه المشبهين الذين عارضوا الدعوة وعارضوا التوحيد. قال: (تقاتل به هؤلاء الشياطين: الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}) يعني: قد تكون سائراً على الصراط ويكون إبليس الشيطان ومن معه من الإنس والجن يأتونك في هذا الصراط المستقيم ليحرفوك عنه قال: {ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ} يعني: وهم على الصراط {{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} يعني: الهجوم من كل جهة، وهذا يعظم المصيبة، ويعظم الابتلاء، فيكون إذاً التعلم وأخذ السلاح واجباً وجوباً لا محيد عنه. قال بعد ذلك رحمه الله: (ولكن إذا أقبلت على الله)
أقبلت على الله بصدق وإخلاص وإنابة، وتخلص من الحول والقوة، وانطراح بين
يدي الله -جل وعلا- أن يخلصك من كيد الشيطان، وكيد أعدائه في الشبهات
والشهوات. قال: (وأصغيت إلى حججه) إلى حجج الله (وبيناته فلا تخف ولا تحزن)
يعني: إذا فعلت السبب الواجب عليك، بتعلم الحجج والبينات التي بينها الله
-جلّ وعلا- في كتابه، وأقبلت على الله بقلب منيب صادق مخلص محب لما عند
الله، راغب في الخير، ملتمس له، فلا تخف ولا تحزن. قال: (وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تحف ولا تحزن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}) والله -جلّ وعلا- مع الذين اتقوا والذين هو محسنون. قال: (والعامي من الموحدين يغلب ألفاً) أو قال الألف (من علماء هؤلاء المشركين؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ})
العامي من الموحدين عنده محكمات، وهي العلم الواجب الذي ذكرنا أنه لا يصح
إسلام العبد إلا به، عنده من المحكمات ما يرد بها شبه المشبهة، وشبه علماء
المشركين. مثاله:
ما ذكره بعض أئمة الدعوة: أن رجلاً من عوام الموحدين كان في المدينة، في
المسجد النبوي، فقال له أحد العلماء لما عرف أنه من هذه الجهة - هذا في
الزمن الأول - قال له: أنتم تقولون لا يطلب من الموتى، هؤلاء الشهداء أحياء
بنص القرآن، والله -جلّ وعلا- يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}هؤلاء أحياء وليسوا بأموات، فلماذا لا نطلب منهم؟ هذا رجوع إلى المحكمات، فالموحد ولو كان عامياً لا بد أن يستمسك في هذا الباب العظيم بالمحكمات. من المحكمات: تعريف كلمة التوحيد. من المحكمات: تعريف العبادة التي ترجع إليها مهما شبه المشبه. من المحكمات: إجماع أهل العلم على أن صرف العبادة لغير الله كفر، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك. من المحكمات: أن المسلم قد يرتد بأشياء، كما نص عليه العلماء في باب حكم المرتد. من المحكمات التي ترجع إليها: أن
مشركي العرب كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، لا لأنها حجارة؛ ولكن عبدوها
لأن فيها أرواح الصالحين، تحل في الأصنام أرواح الصالحين والأولياء، {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}،{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ونحو ذلك، اتخذوا الأوثان أو أنبياء أو صالحين. فإذاً: من المحكمات التي ترجع إليها في هذا المقام: أن شرك مشركي العرب ليس هو بعبادة الصنم، هذه مهمة من المحكمات والأساسيات. فإذا تقررت هذه الأربع محكمات، ومنَّ الله عليك بأشياء زيادة على ذلك من حفظ بعض الآيات في هذا المقام؛ كقوله جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا
لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ}. وكقوله جل وعلا: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}لأن هذا فيمن يبعث؛ لأن هذه الآيات فيمن يحشر يوم القيامة فيجيب وهو غافل عن الدعاء في الدنيا: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} يوم القيامة {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}يعني لمن عبدهم. فمن المحكمات أن ترد على كل من قال:(إن
عبادة المشركين لغير الله هي عبادة الأصنام) كما يدندن حوله أكثر المفسرين
المتأخرين، كلما أتت آية فيها عبادة غير الله يجعلونها في الأصنام، بينما
إذا رأيت (تفسير ابن جرير) رحمه الله، تجد أن كل نص فيه عبادة غير الله
-جلّ وعلا- يجعله في الأصنام والأوثان والأنداد جميعاً، وهذا لا شك أنه فقه
عظيم بنصوص القرآن. إذاً:عرفت
المحكمات التي ترجع إليها، فلا يحتاج العامي من الموحدين إلى أن يعلم
التفاصيل كلها، فإذا علم (ثلاثة الأصول) بأدلتها، وعلم الذي ذكرنا،
المقدمات الأربع هذه، فإنه يغلب الألف من علماء المشركين، لم؟ لأن معه
المحكم، وأولئك معهم المتشابه، والذي معه المحكم يغلب من معه المتشابه؛
لأنه واضح والمتشابه غير واضح، والمتشابه مشتبه، وأما المحكم فواضح بيّن. فكل
شيء شُبّه عليك به ارجع به إلى أصله، إلى المحكم منه، فتجد أن المسألة
اتضحت، فتدع المتشابه في النظر وفي الجدال، وترجع إلى المحكمات فتعلو
الحجة. ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث مدة في مكة وهو يجاهدهم بالقرآن). فإذاً: هذه الأمة منها طائفة ظاهرة على الحق، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها إلى قيام الساعة،وهم
ظاهرون بالحجة والبيان، وأهل التوحيد ظاهرون على أعدائهم بالحجة والبيان؛
لأن حججهم محكمات واضحات؛ ولأن حجج غيرهم داحضة؛ لأنها شبهات. قال: (وإنما الخوفُ على الموحدِ الذي يسلك الطريقَ وليس معه سلاح)
وهذا والله حق، فالخوف على الموحد أن يأتي ويسلك طريقاً ليس معه سلاح، وقد
سُمع من بعض أهل التوحيد والمنتسبين إليه من يسهل بين خلاف الأديان، وربما
بعضهم سمّاها الأديان السماوية الثلاثة، وسُمع منهم من يسهل في أمر إتيان
السحرة، وسُمع منهم من يشكك في كفر أهل الشرك، وكفر عباد القبور والأوثان،
وهكذا. بل
حَرِّك ترى في الناس، فقد يكون في هذا الزمان عندنا في هذا البلد بخاصة -
فكيف بغيره؟ - مَنْ إذا حركته في مسائل التوحيد ربما سلَّم لك شيئاً أو
أشياء، وجادلك في أشياء كانت من الواضحات، وهذا لأجل أنهم خاضوا الطريق
واختلطوا بالناس، وذهبوا وجاؤوا وسافروا وانفتحوا على الأقوال المختلفة،
ووسائل الإعلام المختلفة دون سلاح، مثل ما قال الشيخ -رحمه الله- هنا: (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) كلٌ
يصيبه، ما معه سلاح، هذا يصيبه بطعنة، وهذا يصيبه بطعنة من الشبهات، حتى
يكون ذهنه قائماً على غير الحق، نسأل الله -جلّ وعلا- العافية.
العناصر
شرح قوله: (واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن)
- أنواع شرور أعداء الرسل
- على الداعية إلى التوحيد ألا ييأس لكثرة الأعداء
الحكمة من وجود أعداء الرسل
أقسام أعداء الرسل
أعداء التوحيد قد يكون لهم علوم وحجج
شرح قوله: (وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه...)
تفسير قول الله تعالى: ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم...) الآية
وجوب تعلم العلم الذي تندفع به شبهات أعداء التوحيد
بيان خطر الجهل بأدلة التوحيد
المؤمن إذا عقل حجج الله عز وجل غلب أعداء التوحيد مهما كانت علومهم
شرح قوله: (والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء المشركين...)
بيان ما يجب على من أراد أن يجادل أعداء التوحيد
تفسير قوله تعالى: (وإن جندنا لهم الغالبون)
شرح قول المؤلف: (فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان ...)
شرح قوله: (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح)
الأسئلة
س1: ما هي الحِكَم من وجود أعداء الرسل؟
س2: هل يمكن أن يقع من عنده علوم وحجج في الشرك؟
س3: ما الواجب تجاه علماء المشركين؟
س4: ما الذي يجب على الموحد أن يعلمه لدفع شبهات المشركين؟
س5: تحدث عن خطر الجهل بأدلة التوحيد.
س6: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون}، وبيّن وجه استدلال المؤلف به.
س7: فسّر باختصار قول الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن ...} الآية.
س8: بين أقسام أعداء الرسل، وما يجب تجاه كل قسم.