30 Oct 2008
الدرس الثامن: وجوب معرفة التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم السلام
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (إِذَا:
- عَرَفْتَ ما قُلْتُ لَكَ مَعْرفَةَ قَلْبٍ، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
-
وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الَّذي بعث بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلهِم إِلى
آخِرِهِمُ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ ديناً سِوَاهُ.
- وَعَرَفْتَ ما أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذا أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ:
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ؛كَما قالَ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَأَفَادَكَ أَيْضاً: الخَوْفَ العَظِيمَ، فَإِنَّكَ
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرجُها مِنْ
لِسَانِهِ دون قلبه، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ فلا يُعْذَرُ
بِالجهْلِ، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى
اللهِ زُلْفَى كَما ظَنَّ الكفّارُ.
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ ما قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسى عليه السلام مَعَ صَلاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلينَ: {اجْعَل لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فَحِينئذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلى ما يُخَلِّصُكَ مِنْ هذا وَأَمْثَالِهِ).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (إِذَا:
- عَرَفْتَ ما قُلْتُ لَكَ مَعْرفَةَ قَلْبٍ(1)، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
-
وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الَّذي بعث بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلهِم إِلى
آخِرِهِمُ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ ديناً سِوَاهُ.
- وَعَرَفْتَ ما أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذا أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ:
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛كَما قالَ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَأَفَادَكَ أَيْضاً: الخَوْفَ العَظِيمَ(2)، فَإِنَّكَ
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرجُها مِنْ
لِسَانِهِ دون قلبه، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ فلا يُعْذَرُ
بِالجهْلِ، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى
اللهِ زُلْفَى كَما ظَنَّ الكفّارُ.
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ ما قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسى عليه السلام مَعَ صَلاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلينَ: {اجْعَل لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فَحِينئذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلى ما يُخَلِّصُكَ مِنْ هذا وَأَمْثَالِهِ(3) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (إِذَا عَرَفْتَ ما ذَكَرْتُ لَكَ مَعْرفَةَ قَلْبٍ) يَعْنِي مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً واصِلَةً إلى سُوَيْدَاءِ القَلْبِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ دَعْوَى باللِّسَانِ؛ فإِنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَى اللِّسَانِ مِن غَيْرِ مَعْرِفَةِ القَلْبِ لَيْسَتْ مَعْرِفَةً (وعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ) وهَذَا مِن عَطْفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ، وإِلاَّ فَمَا تَقَدَّمَ وافٍ في بَيَانِ حَقِيقَةِ دِينِ المُرْسَلِينَ وحَقِيقَةِ دِينِ المُشْرِكينَ (الذي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآيةَ) وتَصَوَّرْتَه مَا هو، وَقَدْ قَدَّمَ لَكَ المُصَنِّفُ مَا يُعَرِّفُكَ بِهِ فِيمَا قَرَّرَهُ مِن مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ بالتَّوْحِيدِ يَتَبَيَّنُ ضِدُّهُ؛ الشِّرْكُ (وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الذي بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ مِن أَوَّلِهِم إلى آخِرِهِم الذي لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِن أَحَدٍ سِوَاهُ) يَعْنِي الذِي هو التَّوْحيدُ.
وتَقَدَّمَ هَذَانِ الأَمْرَانِ مُقَرَّرَيْنِ لَكَ في صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ: دِينُ المُرْسَلِينَ ودِينُ المُشْرِكِينَ. (وَعَرَفْتَ مَا أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فيه مِن الجَهْلِ بِهَذَا)
بالتَّوْحِيدِ والشِّرْكِ؛ فإِنَّ أَكْثَرَهُم مَا عَرَفَ دِينَ اللهِ
الذِي بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ البَسِيطَةِ ما
عَرَفُوا الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، بَلْ عَادَوا أَهْلَ التَّوْحِيدِ
وعَابُوهُم وحَارَبُوهُم، واتَّبَعُوا دِينَ المُشْرِكِينَ كُلَّهُ
بِسَبَبِ عَدَمِ الفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذِه
الأُمُورَ الأَرْبَعَةَ مَعْرِفَةَ قَلْبٍ (أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ) عَظِيمَتَيْنِ.
(2)(الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) إِحْدَاهُمَا: مَعْرِفَتُكَ دِينَ المُرْسَلِينَ واعْتِقَادُه والعَمَلُ بِهِ،
ومَعْرِفَتُكَ دِينَ المُشْرِكِينَ ومُجَانَبَتُهُ والكُفْرُ بِهِ، كَوْنُ
اللهِ عَلَّمَكَ دِينَ المُرْسَلِينَ ودَلَّكَ سَبِيلَهُم وعَرَّفَكَ
طَرِيقَهُم.
وتَعْظُمُ النِّعْمَةُ أَنَّ الأَكْثَرَ صَارُوا مِن أَهْلِ الجَهْلِ بِهِ؛ فَإِنَّ النِّعْمَةَ تَزْدَادُ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بالْقَلِيلِ دونَ الكَثِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}الفَرَحُ مَذْمُومٌ كَمَا في آيَةِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}لَكِنَّهُ في الدِّينِ مَمْدُوحٌ ومَحْبُوبٌ ووَاجِبٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِه الآيَةُ؛ هو خَيْرٌ مِمَّا فَرِحَ النَّاسُ بِهِ وهو الدُّنْيَا؛ لو اجْتَمَعَتْ لأَِحَدٍ، مَعَ أَنَّها لاَ تَجْتَمِعُ لأَِحَدٍ، ولو اجْتَمَعَتْ فهي للزَّوَالِ والاضْمِحْلاَلِ، ومَا كَانَ للهِ مَقْصُودٌ به وَجْهُ اللهِ فهو بَاقٍ لا يَزُولُ.فَأَفَادَ أَنَّ الفَرَحَ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَاجِبٌ.
(وأَفَادَكَ أَيْضًا الخَوْفَ العَظِيمَ) هذه هي الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ؛
يُفِيدُكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِن الفَرَحِ العَظِيمِ الخَوْفَ عَلَى
نَفْسِكَ ودِينِكَ، فَتَفْرَحُ بالدِّينِ والعَمَلِ بِهِ، وتَخَافُ عَلَى
نَفْسِكَ مِن زَوالِ هَذِه النِّعْمَةِ وذَهَابِ هَذَا النُّورِ؛ وهي
مَعْرِفَتُكَ دِينَ المُرْسَلِينَ واتِّبَاعُه وَمَعْرِفَتُكَ دِينَ
المُشْرِكِينَ واجْتِنَابُه، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ في غَايَةِ
الجَهْلِ بِهِ. وَمِن
أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ مِن هَذَا صِدْقُ الابْتِهَالِ إِلَى اللهِ
وسُؤَالُهُ التَّثْبِيتَ، وكَثِيرًا مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ:
(3) (فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ) وَاحِدَةٍ (يُخْرِجُها مِنْ لِسَانِهِ) دونَ قَلْبِهِ (وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ) لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ بِهِ مِن المَبْلَغِ (فَلاَ يُعْذَرُ بِالجهْلِ) وقد يَقُولُهَا وهو مُجْتَهِدٌ (يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى اللهِ) زُلفَى (كَمَا ظَنَّ المُشْرِكُونَ) يَعْنِي
في جِنْسِ شِرْكِهِم وتَوَسُّلِهِم إِلَى غَيْرِ اللهِ، قَصْدُهُم
أَنَّهُم يُقَرِّبُونَهُم إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَيَصْرِفُونَ لَهُم
خَالِصَ العِبَادَةِ مِن أَجْلِ جَهْلِهِم، يَقُولُونَ إِنَّهُم
يَسْأَلُونَ لَنَا مِن اللهِ وإِنَّهُم أَقْرَبُ مِنَّا إِلَيْهِ، ولَكِنَّ
هَذَا هو عَيْنُ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ (خُصُوصًا إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ مَا قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسَى مَعَ صَلاَحِهِم وعِلْمِهِم) لَمَّا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُم (أَنَّهُم أَتَوْهُ قَائِلِينَ: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}) فَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.(فَحِينَئذٍ) إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الرَّجُلَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ… إلخ
(يَعْظُمُ خَوْفُكَ وحِرْصُكَ عَلَى مَا يُخَلِّصُكَ مِن هَذَا وأَمْثَالِهِ)
وَمِنْ أَسْبَابِ الخُلُوصِ مِن هَذَا الدَّاءِ العُضَالِ التَّفْتِيشُ عن
مَبَادِئِهِ ووَسَائِلِهِ وذَرَائِعِهِ خَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ فيه وأَنْتَ
لاَ تَشْعُرُ، وكَانَ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ:(كَانَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ
عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ
يُدْرِكَنِي).
((اللهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) كَمَا ابْتَهَلَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى اللهِ فَقَالَ: {رَبِّ
اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ
الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}وفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ أَمِنَ اللهَ عَلَى دِينِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ سَلَبَهُ إِيَّاهُ)).
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (إِذَا:
- عَرَفْتَ ما قُلْتُ لَكَ مَعْرفَةَ قَلْبٍ(1)، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(2).
-
وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الَّذي بعث بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلهِم إِلى
آخِرِهِمُ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ ديناً سِوَاهُ(3).
- وَعَرَفْتَ(4) ما أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذا أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ:
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ؛كَما قالَ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَأَفَادَكَ(5) أَيْضاً(6): الخَوْفَ العَظِيمَ(7)، فَإِنَّكَ
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرجُها مِنْ
لِسَانِهِ دون قلبه، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ فلا يُعْذَرُ
بِالجهْلِ، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى
اللهِ زُلْفَى كَما ظَنَّ الكفّارُ(8)(*).
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ ما قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسى عليه السلام مَعَ صَلاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلينَ: {اجْعَل لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فَحِينئذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلى ما يُخَلِّصُكَ مِنْ هذا وَأَمْثَالِهِ)(9).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) أيْ: عَرَفْتَ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) الحقيقيَّ، وأنَّ معناها: لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ.
(2)
اخْتَلَفَ أهلُ العلمِ رَحِمَهُم اللهُ تعالى في هذهِ الآيةِ، هلْ تَشْمَلُ
كلَّ الشِّركِ أمْ أنَّها خاصَّةٌ بالشِّركِ الأَكْبَرِ؟
فمِنْهُم مَنْ قالَ: تَشْمَلُ كلَّ شِرْكٍ ولوْ كانَ أَصْغَرَ، كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ، فإنَّ اللهَ لا يَغْفِرُهُ.
ومِنْهُم مَنْ قالَ: إنَّها خاصَّةٌ بالشِّركِ الأَكْبَرِ، فهوَ الَّذي لا يَغْفِرُهُ اللهُ.
وشيخُ
الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ اخْتَلَفَ كَلامُهُ، فمرَّةً
قالَ بِالقولِ الأوَّلِ، ومرَّةً قالَ بالقولِ الثَّاني.
وعلى
كلِّ حالٍ يَجِبُ الحَذَرُ مِنَ الشِّركِ مُطْلَقًا؛ لأنَّ العُمومَ
يَحْتَمِلُ أن يَكونَ داخِلاً فيهِ الأَصْغَرُ؛ لأنَّ قولَهُ: {أَن يُشْرَكَ بِهِ}{أَنْ} وما بعدَها في تَأْوِيلِ مصدرٍ تقديرُهُ (إشْراكًا بِهِ) فهوَ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفيِ، فتُفِيدُ العُمومَ(1).
(3) وهوَ عِبادةُ اللهِ وحْدَهُ كما قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[ الأنبياءُ: 25] وهذا هوَ الإِسلامُ الَّذي قالَ اللهُ فيهِ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}[ آلُ عِمْرانَ: 85 ].
(4) أيْ: بِمعنى هذهِ الكلمةِ ممَّا تَقَدَّمَ ذكْرُهُ عندَ قولِ المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: (فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسلامَ وهوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تفسيرِ هذهِ الكلمةِ...) إلخ.
(5) قولُهُ: (أَفَادَكَ) جوابُ قولِهِ: (إذا عَرَفْتَ ما ذَكَرْتُ لكَ...) إلخ. الوجهُ الأوَّلُ:
أنَّ اللهَ تعالى فَتَحَ عليكَ حتَّى عَرَفْتَ المعنى الصَّحيحَ لهذهِ
الكلمةِ العظيمةِ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وهذا فضْلٌ عظيمٌ مِن اللهِ
ورحمةٌ، والفرحُ بِمِثْلِ هذا ممَّا أَمَرَ اللهُ بهِ، ودَليلُهُ ما
ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وفَرَحُ العبدِ بِما أَنْعَمَ اللهُ عليهِ مِن العِلمِ والعبادةِ من الأمورِ المَحْمودةِ كما جاءَ في الحديثِ: ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ))(2). (8) تَعْلِيقُنا على هذهِ الجملةِ مِنْ كلامِ المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: أوَّلاً: لا
أَظُنُّ الشَّيخَ رَحِمَهُ اللهُ لا يَرَى العُذْرَ بِالجهلِ، اللَّهمَّ
إلاَّ أنْ يَكونَ منهُ تَفْرِيطٌ بِتَرْكِ التَّعلُّمِ، مثلَ أنْ يَسْمَعَ
بالحقِّ فلا يَلْتَفِتُ إليهِ ولا يَتَعَلَّمُ، فهذا لا يُعْذَرُ
بالجَهْلِ، وإنَّما لا أَظُنُّ ذلكَ مِن الشَّيخِ؛ لأنَّ لهُ كَلامًا آخَرَ
يَدُلُّ على العُذْرِ بالجَهْلِ، فقدْ سُئِلَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَمَّا
يُقَاتَلُ عَلَيْهِ، وعمَّا يُكَفَّرُ الرَّجلُ بهِ، فأَجَابَ: (أرْكانُ
الإِسلامِ الخمْسةُ، أوَّلُها الشَهادَتانِ، ثمَّ الأَرْكانُ الأَربعةُ،
فالأربعةُ إذا أَقَرَّ بِها وتَرَكَها تَهاوُنًا، فنحنُ وإنْ قَاتَلْناهُ
على فِعلِها، فلا نُكَفِّرُهُ بِترْكِها، والعلماءُ اخْتَلَفُوا في كُفْرِ
التَّارِكِ لها كَسَلاً مِنْ غيرِ جُحودٍ، ولا نُكَفِّرُ إلاَّ ما أَجْمَعَ
عليهِ العلماءُ كلُّهم، وهوَ: الشَّهادَتانِ. النَّوعُ الأوَّلُ: مَنْ
عَرَفَ أنَّ التَّوحيدَ دِينُ اللهِ ورسولِهِ الَّذِي أَظْهَرْناهُ
لِلنَّاسِ؛ وأَقَرَّ أيضًا أنَّ هذهِ الاعْتِقاداتِ في الحَجَرِ والشجَرِ
والبشَرِ، الَّذي هوَ دِينُ غالِبِ النَّاسِ، أنَّهُ الشِّركُ باللهِ
الَّذي بَعَثَ اللهُ رسولَهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عنهُ،
ويُقَاتِلُ أهلَهُ؛ لِيَكونَ الدِّينُ كلُّهُ للهِ، ومعَ ذلكَ لم
يَلْتَفِتْ إلى التَّوحيدِ، ولا تَعَلَّمَهُ، ولا دَخَلَ فيهِ، ولا تَرَكَ
الشِّركَ، فهوَ كافِرٌ، نُقَاتِلُهُ بِكُفْرِهِ؛ لأنَّهُ عَرَفَ دِينَ
الرَّسولِ فلمْ يَتَّبِعْهُ، وعَرَفَ الشِّركَ فلم يَتْرُكْهُ، معَ أنَّهُ
لا يُبْغِضُ دينَ الرَّسولِ ولا مَنْ دَخَلَ فيهِ، ولا يَمْدَحُ الشِّركَ
ولا يُزَيِّنُهُ للنَّاسِ. بلْ
نُكَفِّرُ تلكَ الأنواعَ الأربعةَ لأجْلِ مُحادَّتِهم للهِ ورسولِهِ،
فرَحِمَ اللهُ امْرَأً نظَرَ نفسَهُ، وعَرَف أنَّهُ مُلاقٍ اللهَ، الَّذي
عندَهُ الجَنَّةُ والنَّارُ، وصلَّى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَّمَ(3). -وقولُهُ: {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ
وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}[ القَصَصُ: 59 ]. وقالَ
شيخُ الإِسلامِ مُحَمَّدُ بنُ عبْدِ الوَهَّابِ (1/56 من الدُّرَرِ
السَّنِيَّةِ): (وأمَّا التَّكْفِيرُ فأَنا أُكَفِّرُ مَنْ عَرَفَ دِينَ
الرَّسولِ، ثمَّ بعدَما عَرَفَهُ سَبَّهُ، ونَهَى النَّاسَ عنهُ، وعادَى
مَنْ فَعَلَهُ، فهذا هوَ الَّذي أُكَفِّرُهُ). وقولُهُ في حديثِ ابنِ عمرَ: ((إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ)) يَعْنِي: في حُكمِ اللهِ تعالى، وكذلكَ قولُهُ في حديثِ أبي ذَرٍّ: ((وَلَيْسَ كَذَلِكَ)) يَعْنِي: في حُكمِ اللهِ تعالى. وفي
(ص 210) مِنهُ: (فإنَّ الخوارجَ خالَفُوا السُّنَّةَ الَّتي أَمَرَ
القرآنُ باتِّباعِها، وكَفَّروا المُؤْمِنِينَ الَّذينَ أَمَرَ القرآنُ
بِمُوَالاتِهِم... وصارُوا يَتَّبِعونَ المُتَشابِهَ مِن القرآنِ
فيَتَأَوَّلُونَهُ على غيرِ تَأْوِيلِهِ مِنْ غيرِ مَعْرفةٍ مِنهمْ
بِمَعناهُ، ولا رُسوخٍ في العِلمِ، ولا اتِّباعٍ للسُّنَّةِ، ولا مُراجعةٍ
لِجماعةِ المُسلِمِينَ الَّذينَ يَفْهَمونَ القرآنَ).
(7) أيْ: مِنْ أنْ تَقَعَ في مِثْلِ ما وَقَعَ فيهِ هؤلاءِ مِن الجهْلِ بمعناها، والخَطَرُ العظيمُ في ذلكَ.
النَّوعُ الثَّاني: مَنْ
عَرَفَ ذلكَ ولكنَّهُ تُبُيِّنَ في سَبِّ دِينٍ معَ ادِّعائِهِ أنَّهُ
عَامِلٌ بهِ، وتُبُيِّنَ في مَدْحِ مَنْ عبَدَ يُوسُفَ والأَشْقَرَ، ومَنْ
عَبَدَ أَبا عَلِيٍّ وَالْخَضِرَ مِنْ أهلِ الْكُوَيْتِ، وفَضَّلَهم على
مَنْ وَحَّدَ اللهَ، وتَرَكَ الشِّركَ، فهذا أَعْظَمُ مِن الأوَّلِ، وفيهِ
قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ} [ البَقَرةُ: 89]، وهو ممَّنْ قالَ اللهُ فيهِ: {وَإِن
نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبةُ: 12].
النَّوعُ الثَّالثُ: مَنْ
عَرَفَ التَّوحيدَ وأَحَبَّهُ واتَّبَعَهُ، وعَرَفَ الشِّركَ وتَرَكَهُ،
ولكِنْ يَكْرَهُ مَنْ دخَلَ في التَّوحيدِ، ويُحِبُّ مَنْ بَقِيَ علَى
الشِّركِ، فهذا أيْضًا كافرٌ، فيهِ قولُهُ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [مُحَمَّدٌ: 9].
النَّوعُ الرَّابعُ: مَنْ
سَلِمَ مِنْ هذا كلِّهِ، ولكنَّ أهلَ بلَدِهِ يُصَرِّحونَ بعَداوةِ أهلِ
التَّوحيدِ، واتِّباعِ أهلِ الشِّركِ، وساعِينَ في قِتالِهم، ويَتَعَذَّرُ
بأنَّ تَرْكَ وطنِهِ يَشُقُّ عليهِ، فيُقاتِلُ أهلَ التَّوحيدِ معَ أهلِ
بلدِهِ، ويُجاهِدُ بِمالِهِ ونفسِهِ، فهذا أيضًا كافرٌ؛ فإنَّهم لوْ
يَأْمُرُونَهُ بِترْكِ صَوْمِ رَمَضانَ، ولا يُمْكِنُهُ الصِّيامُ إلاَّ
بِفِراقِهم فَعَلَ، ولوْ يَأْمُرُونَهُ بِتَزَوُّجِ امْرأةِ أَبِيهِ ولا
يُمْكِنُهُ ذلكَ إلاَّ بِفِراقِهم فعَلَ، ومُوَافَقَتُهم على الجِهادِ
معَهم بنفسِهِ ومالِهِ، معَ أنَّهم يُرِيدونَ بذلكَ قَطْعَ دِينِ اللهِ
ورسولِهِ، أَكْبَرُ مِنْ ذلكَ بِكثيرٍ كثيرٍ؛ فهذا أيضًا كافرٌ، وهوَ
مِمَّنْ قالَ اللهُ فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} إلى قولِهِ: {سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النِّساءُ: 91]، فهذا الَّذي نَقولُ.
وأمَّا
الكَذِبُ والبُهْتانُ فَمِثْلُ قولِهم: إنَّا نُكَفِّرُ بالعُمُومِ،
ونُوجِبُ الهِجرةَ إلَيْنَا على مَنْ قَدَرَ على إظْهارِ دِينِهِ، وإنَّا
نُكَفِّرُ مَنْ لمْ يَكْفُرْ، ومَنْ لمْ يُقاتِلْ، ومثلَ هذا وأضْعافَ
أضعافِهِ. فكلُّ هذا مِن الكَذِبِ والبُهْتانِ الَّذي يَصُدُّونَ بهِ
النَّاسَ عنْ دينِ اللهِ ورسولِهِ.
وإذا
كُنَّا لا نُكَفِّرُ مَنْ عَبَدَ الصَّنَمَ الَّذي علَى عبْدِ القادِرِ،
والصَّنمَ الَّذي على قَبْرِ أَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ، وأمثالِهما، لأجْلِ
جَهْلِهم وعَدَمِ مَنْ يُنَبِّهُهم، فكيفَ نُكَفِّرُ مَنْ لمْ يُشْرِكْ
باللهِ إذا لم يُهاجِرْ إلينا، أوْ لم يَكْفُرْ ويُقاتِلْ؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النُّورُ: 16 ].
(*) تَتِمَّةٌ:
الاخْتِلافُ في مَسْأَلةِ العُذْرِ بالجهْلِ كغيرِهِ مِن الاخْتِلافاتِ الفقْهِيَّةِ الاجْتِهاديَّةِ، ورُبَّما
يَكونُ اخْتِلافًا لَفْظيًّا في بعضِ الأحْيانِ مِنْ أجْلِ تَطْبِيقِ
الحُكْمِ على الشَّخصِ المُعَيَّنِ، أيْ: أنَّ الجميعَ يَتَّفِقُونَ على
أنَّ هذا القولَ كُفْرٌ، أوْ هذا الفِعلَ كُفْرٌ، أوْ هذا التَّرْكَ
كُفْرٌ، ولكنْ هلْ يَصْدُقُ الحُكمُ على هذا الشَّخصِ المُعَيَّنِ لِقِيامِ
المُقْتَضِي في حقِّهِ وانْتِفاءِ المانِعِ، أوْ لا يَنْطَبِقُ لِفَواتِ
بعضِ المُقْتَضِيَاتِ، أوْ وجودِ بعضِ المَوانِعِ.
الأوَّلُ: أنْ
يَكونَ مِنْ شخصٍ يَدِينُ بغيرِ الإِسلامِ، أوْ لا يَدِينُ بشيءٍ، ولم
يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِ أنَّ دِينًا يُخالِفُ ما هوَ عليهِ، فهذا تَجْرِي
عليهِ أحْكامُ الظَّاهِرِ في الدُّنيا، وأمَّا في الآخِرَةِ فأَمْرُهُ إلى
اللهِ تعالى.
والقولُ الرَّاجِحُ أنَّهُ
يُمْتَحَنُ في الآخَرَةِ بِما يَشاءُ اللهُ عزَّ وجلَّ، واللهُ أَعْلَمُ
بما كانوا عامِلِينَ، لكِنَّنا نَعْلَمُ أنَّهُ لنْ يَدْخُلَ النَّارَ
إلاَّ بِذَنْبٍ؛ لِقولِهِ تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكَهْفُ: 49].
وإنَّما قُلْنا: تَجْرِي
عليهِ أحكامُ الظَّاهِرِ في الدُّنيا، وهيَ أحْكامُ الكُفْرِ؛ لأنَّهُ لا
يَدِينُ بِالإِسلامِ، فلا يُمْكِنُ أن يُعْطَى حُكْمَهُ، وإنَّما قُلْنا
بأنَّ الرَّاجِحَ أنَّهُ يُمْتَحَنُ في الآخرةِ؛ لأنَّهُ جاءَ في ذلكَ
آثارٌ كَثِيرةٌ ذكَرَهَا ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتابِه
(طَرِيقُ الْهِجْرَتَيْنِ) عندَ كلامِهِ على المَذْهَبِ الثامِنِ في
أطْفالِ المشرِكِينَ تحتَ الكلامِ على الطَّبَقةِ الرَّابعةَ عَشْرَةَ.
النَّوعُ الثَّاني: أنْ
يَكونَ مِنْ شخصٍ يَدِينُ بالإِسلامِ ولكِنَّهُ عاشَ على هذا المُكَفِّرِ
ولم يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِ أنَّهُ مُخالِفٌ للإِسلامِ، ولا نَبَّهَهُ
أحدٌ على ذلكَ، فهذا تَجْرِي عليهِ أحْكامُ الإِسلامِ ظاهرًا، أمَّا في
الآخِرةِ فأَمْرُهُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وقدْ دَلَّ على ذلكَ الكِتابُ
والسُّنَّةُ وأقْوالُ أهلِ العِلمِ. فمِنْ أَدِلَّةِ الكِتابِ:
- قوْلُهُ تعالى: {ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [ الإسراءُ: 15 ].
- وقولُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [ إِبْراهِيمُ: 4].
- وقولُهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوْبةُ: 115].
- وقولُهُ: {وَهَذَا
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى
طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ
(156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا
أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ} [الأنْعامُ: 155 - 157].
إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّ الحُجَّةَ لا تَقومُ إلاَّ بعدَ العِلمِ والبَيانِ.
وأمَّا السُّنَّةُ: ففي (صَحيحِ مُسْلِمٍ) (1/134) عنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ
الأُمَّةِ - يَعْنِي أُمَّةَ الدَّعْوَةِ - يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ،
ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)).
وأمَّا كلامُ أهلِ العِلمِ: فقالَ
في (المغْنِي 8/131): (فإنْ كانَ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ الوُجوبَ؛ كَحدِيثِ
الإِسلامِ، والنَّاشِئِ بغيرِ دارِ الإِسلامِ، أوْ بَادِيةٍ بَعِيدةٍ عن
الأمْصارِ، وأهلِ العِلمِ لمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ).
وقالَ
شيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في (الفَتَاوَى 3/229) مَجْموعِ ابنِ
قَاسِمٍ: (إنِّي دائمًا - ومَنْ جالَسَنِي يَعْلَمُ ذلكَ مِنِّي - مِنْ
أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عنْ أنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلى تَكْفِيرٍ
وتَفْسِيقٍ ومَعْصِيةٍ، إلاَّ إذا عُلِمَ أنَّهُ قدْ قامَتْ عليهِ
الحُجَّةُ الرِّسالِيَّةُ الَّتي مَنْ خالَفَها كان كافِرًا تارَةً،
وفاسِقًا أُخْرى، وعاصِيًا أُخْرى، وإنِّي أُقَرِّرُ أنَّ اللهَ تعالى قدْ
غَفَرَ لِهذهِ الأُمَّةِ خَطَأَها، وذلكَ يَعُمُّ الخَطَأَ في المَسائِلِ
الخَبَرِيَّةِ القوليَّةِ، والمَسائلِ العَمَليَّةِ.
وما
زالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعونَ في كَثيرٍ مِنْ هذهِ المسائِلِ، ولمْ
يَشْهَدْ أحدٌ مِنهم على أحدٍ لا بِكُفْرٍ، ولا بٍفِسقٍ، ولا بِمَعصيةٍ)
إلى أنْ قالَ: (وكُنْتُ أُبَيِّنُ أنَّ ما نُقِلَ عن السَّلفِ والأَئِمَّةِ
مِنْ إطْلاقِ القولِ بِتكفيرِ مَنْ يَقولُ كَذا وكَذا، فَهُوَ أيضًا
حَقٌّ، لكنْ يَجِبُ التَّفرِيقُ بينَ الإِطلاقِ والتَّعْيِينِ) إلى أنْ
قالَ: (والتَّكفيرُ هوَ مِن الوَعيدِ، فإنَّهُ وإنْ كانَ القولُ تكذِيبًا
لِمَا قالَهُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ الرَّجلَ
قدْ يَكونُ حدِيثَ عَهْدٍ بإسلامٍ، أوْ نَشَأَ بِبادِيَةٍ بَعيدةٍ، ومثلُ
هذا لا يُكَفَّرُ بِجَحْدِ ما يَجْحَدُهُ حتَّى تَقومَ عليهِ الحُجَّةُ،
وقدْ يَكونُ الرَّجلُ لم يَسْمَعْ تلكَ النُّصوصَ أوْ سَمِعَها ولمْ
تَثْبُتْ عندَهُ، أوْ عارَضَها عندَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ
تَأْوِيلَها وإنْ كانَ مُخْطِئًا) اهـ.
وفي
ص66: (وأمَّا الكَذِبُ والبُهْتانُ فقولُهم: إنَّا نُكَفِّرُ بالعُمومِ،
ونُوجِبُ الهِجْرةَ إلَيْنَا على مَنْ قَدَرَ على إظهارِ دينِهِ، فكلُّ هذا
مِن الكذِبِ والبُهْتانِ الَّذي يَصُدُّونَ بهِ النَّاسَ عنْ دينِ اللهِ
ورسولِهِ، وإذا كُنَّا لا نُكَفِّرُ مَنْ عبَدَ الصَّنمَ الَّذي على عبْدِ
القادِرِ، والصَّنمَ الَّذي على أَحْمَدَ البَدَوِيِّ وأمثالِهما؛ لأجْلِ
جَهْلِهم وعَدمِ مَنْ يُنَبِّهُهم، فكيفَ نُكَفِّرُ مَنْ لم يُشْرِكْ
باللهِ إذا لم يُهاجِرْ إلينا أوْ لمْ يَكْفُرْ ويُقاتِلْ) اهـ.
وإذا
كانَ هذا مُقْتَضَى نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ أهلِ العِلمِ فهوَ
مُقْتَضَى حِكمةِ اللهِ تعالى ولُطْفِهِ ورَأْفَتِهِ، فلنْ يُعَذِّبَ أحدًا
حتَّى يُعْذِرَ إليهِ، والعقولُ لا تَسْتَقِلُّ بمعرفةِ ما يَجِبُ للهِ
تعالى مِن الحقوقِ، ولوْ كانَتْ تَسْتَقِلُّ بذلكَ لم تَتَوَقَّف الحُجَّةُ
على إرسالِ الرُّسلِ.
فالأصلُ
فِيمَنْ يَنْتَسِبُ للإِسلامِ بَقاءُ إسلامِهِ حتَّى يَتَحَقَّقَ زَوالُ
ذلكَ عنهُ بِمُقْتَضَى الدَّليلِ الشَّرعيِّ، ولا يَجوزُ التَّساهُلُ في
تكفيرِهِ؛ لأنَّ في ذلكَ مَحْذُورَيْنِ عظيمَيْنِ:
أحدُهُما: افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ تعالى في الحُكمِ، وعلى المَحْكومِ عليهِ في الوصفِ الَّذي نَبَزَهُ بهِ.
وأمَّا الثَّاني:
فلأنَّهُ وصَفَ المسلمَ بوصفٍ مُضَادٍّ فقالَ: إنَّهُ كافرٌ، معَ أنَّهُ
بريءٌ مِنْ ذلكَ، وَحَرِيٌّ بهِ أنْ يَعودَ وصْفُ الكفرِ عليهِ؛ لِمَا
ثَبَتَ في (صحيحِ مُسْلِمٍ)، عنْ عبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)) وفي روايةٍ: ((إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ)).
ولهُ مِنْ حديثِ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ)) يَعْنِي: رَجَعَ عليهِ.
وهذا هوَ المَحْذورُ الثَّاني،أَعْنِي
عَوْدَ وصْفِ الكفْرِ عليهِ إنْ كانَ أَخُوهُ بَرِيئًا منهُ، وهوَ
مَحْذورٌ عظيمٌ يُوشِكُ أنْ يَقَعَ بهِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ مَنْ
تَسَرَّعَ بِوَصْفِ المسلمِ بالكفرِ كانَ مُعْجَبًا بعملِهِ، مُحْتَقِرًا
لِغيرِهِ، فيَكونُ جامِعًا بينَ الإِعجابِ بعملِهِ الَّذي قدْ يُؤَدِّي إلى
حُبُوطِهِ، وبينَ الكِبْرِ الواجبِ لعذابِ اللهِ تعالى في النَّارِ، كما
جاءَ في الحديثِ الَّذي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:
الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي
وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ)).
الأمرُ الأوَّلُ: دَلالةُ الكتابِ والسُّنَّةِ على أنَّ هذا مُكَفِّرٌ؛ لِئلاَّ يَفْتَرِيَ على اللهِ الكذِبَ.
الثَّاني: انطباقُ الحُكْمِ على الشَّخصِ المُعَيَّنِ، بحيثُ تَتِمُّ شُروطُ التَّكفيرِ في حقِّهِ وتَنْتَفِي المَوانعُ.
ومِنْ أَهَمِّ الشُّروطِ: أنْ يَكونَ عالِمًا بمُخالَفَتِهِ الَّتي أَوْجَبَتْ كُفْرَهُ؛ لِقولِهِ تعالى: {وَمن
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّساءُ: 115] فاشْتَرَطَ لِلعقوبةِ بالنَّارِ أنْ تَكونَ المُشاقَّةُ للرَّسولِ مِنْ بعدِ أنْ يَتَبَيَّنَ الهُدَى لهُ.
ولكنْ
هلْ يُشْتَرَطُ أنْ يَكونَ عالِمًا بما يَتَرَتَّبُ على مُخالَفتِهِ مِنْ
كفرٍ أوْ غيرِهِ، أوْ يَكْفِيَ أنْ يَكونَ عالِمًا بالمُخالفةِ وإنْ كانَ
جاهِلاً بما يَتَرَتَّبُ عليها؟
الجوابُ: الثَّاني،
أيْ: أنَّ مُجرَّدَ عِلمِهِ بالمخالفةِ كافٍ في الحُكمِ بما تَقْتَضِيهِ؛
لأنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الكَفَّارةَ على
المُجامِعِ في نَهارِ رَمَضانَ لِعِلمِهِ بالمُخالفةِ معَ جهْلِهِ
بالكَفَّارةِ؛ ولأنَّ الزَّانيَ المُحْصَنَ العالِمَ بتحْريمِ الزِّنا
يُرْجَمُ وإنْ كانَ جاهلاً بما يَتَرَتَّبُ على زِناهُ، ورُبَّما لوْ كانَ
عالِمًا ما زَنَا.
- ومِن الموانعِ مِن التَّكفيرِ أنْ يُكْرَهَ على المُكَفِّرِ؛ لِقولِهِ تعالى: {مَن
كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ النَّحْلُ: 106 ].
-
ومِن المَوانِعِ: أنْ يُغْلَقَ عليهِ فِكْرُهُ وقَصْدُهُ بحيثُ لا يَدْرِي
ما يَقولُ لِشدَّةِ فَرحٍ أوْ حَزَنٍ أوْ غَضَبٍ أوْ خَوْفٍ، ونحوِ ذلكَ؛
لِقولِهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [ الأحْزابُ: 5 ].
وفي (صَحيحِ مُسْلِمٍ) (2104) عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَلَّهُ
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ
أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ، فَانْفَلَتَتْ
مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى
شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ،
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ
بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي
وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ)).
-
ومِن الموانِعِ أيْضًا: أنْ يَكونَ لهُ شُبْهةُ تَأْوِيلٍ في الكفرِ بحيثُ
يَظُنُّ أنَّهُ على حقٍّ؛ لأنَّ هذا لمْ يَتَعَمَّد الإِثْمَ والمُخالَفةَ،
فيَكونُ داخِلاً في قولِهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [ الأحزابُ: 5]، ولأنَّ هذا غايةُ جُهْدِهِ فيَكونُ داخلاً في قولِهِ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرةُ: 286].
قالَ
في (المُغْنِي 8/131): (وإن اسْتَحَلَّ قَتْلَ المَعْصومِينَ، وأَخْذَ
أموالِهم بِغيْرِ شُبْهَةٍ ولا تأويلٍ فكذلكَ، يَعْنِي: يَكونُ كافرًا،
وإنْ كانَ بِتأويلٍ كالخَوارِجِ فقدْ ذكَرْنا أنَّ أَكْثَرَ الفُقَهاءِ لمْ
يَحْكُموا بِكُفْرِهم، معَ اسْتِحْلالِهم دِماءَ المسلِمِينَ وأموالَهُم،
وفِعْلِهِم ذلكَ مُتَقَرِّبِينَ بهِ إلى اللهِ تعالى) إلى أنْ قالَ: (وقدْ
عُرِفَ مِنْ مَذهبِ الخَوارِجِ تكفيرُ كَثيرٍ مِن الصَّحابةِ ومَنْ
بعْدَهُم واسْتِحلالُ دِمائِهم وأموالِهم، واعْتِقادُهم التَّقَرُّبَ
بِقَتْلِهم إلى رَبِّهم، ومعَ هذا لمْ يَحْكُم الفُقهاءُ بِكُفْرِهم
لِتأويلِهم، وكذلكَ يُخَرَّجُ في كلِّ مُحَرَّمٍ اسْتُحِلَّ بِتأويلٍ مثلِ
هذا).
وفي
فَتاوَى شيخِ الإِسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ 13/30 مَجْموعِ ابنِ قاسِمٍ:
(وبِدْعةُ الخَوارِجِ إنَّما هيَ مِنْ سُوءِ فَهمِهم لِلقرآنِ، لم
يَقْصِدوا مُعارَضتَهُ، لكنْ فَهِمُوا منهُ ما لمْ يَدُلَّ عليهِ، فظَنُّوا
أنَّهُ يُوجِبُ تكْفيرَ أَرْبابِ الذُّنوبِ).
وقالَ
أيضًا 28/518 مِن المَجْموعِ المَذْكورِ: (فإنَّ الأئِمَّةَ مُتَّفِقونَ
على ذَمِّ الخوارجِ وتَضْلِيلِهم، وإنَّما تَنَازَعوا في تَكفيرِهم على
قوْلَيْنِ مَشْهورَيْنِ).
لكنَّهُ
ذَكَرَ في (7/217) (أنَّهُ لم يَكُنْ في الصَّحابةِ مَنْ يُكَفِّرُهم، لا
عَلِيُّ بنُ أبِي طالِبٍ ولا غيرُهُ، بلْ حَكَموا فيهم بِحُكْمِهم في
المسلِمِينَ الظَّالِمِينَ المُعْتَدِينَ كما ذَكَرَت الآثارُ عنهم بِذلكَ
في غيرِ هذا المَوْضِعِ).
وفي (28/518): (إنَّ هذا هوَ المَنْصوصُ عن الأئِمَّةِ كَأحمدَ وغيرِهِ).
وفي
(3/282) قالَ: (والخوارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتالِهم، قَاتَلَهم أميرُ المُؤمنينَ عَليُّ
بنُ أبِي طالبٍ أحدُ الخُلفاءِ الرَّاشِدِينَ، واتَّفَقَ على قِتالِهم
أئمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَنْ بعدَهم، ولمْ
يُكَفِّرْهم عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ وسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ وغيرُهما
مِن الصَّحابةِ، بلْ جَعَلُوهم مُسلِمِينَ معَ قِتالِهم، ولمْ يُقاتِلْهم
عَلِيٌّ حتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الحَرامَ، وأَغارُوا على أموالِ
المُسلِمِينَ، فقَاتَلَهم لِدَفْعِ ظُلمِهم وبَغْيِهم، لا لأنَّهم
كُفَّارٌ، ولِهذا لم يَسْبِ حَرِيمَهم، ولم يَغْنَمْ أموالَهم.
وإذا
كانَ هؤلاءِ الَّذينَ ثَبَتَ ضَلالُهم بالنَّصِّ والإِجماعِ لم يُكَفَّرُوا
معَ أَمْرِ اللهِ ورسولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتالِهم،
فكيفَ بالطَّوائفِ المُخْتَلِفِينَ الَّذينَ اشْتَبَهَ عليهم الحقُّ في
مَسَائِلَ غَلِطَ فيها مَنْ هوَ أَعْلَمُ مِنهم؟! فلا يَحِلُّ لأحدٍ مِنْ
هذهِ الطَّوائفِ أنْ يُكَفِّرَ الأخرى، ولا تَسْتَحِلُّ دَمَها ومالَها،
وإنْ كانتْ فيها بِدْعةٌ مُحَقَّقَةٌ، فكيفَ إذا كانت المُكَفِّرةُ لها
مُبْتَدِعةً أيضًا؟ وقدْ تَكونُ بِدعةُ هؤلاءِ أَغْلَظَ، والغالِبُ أنَّهم
جميعًا جُهَّالٌ بِحَقائِقِ ما يَخْتَلِفونَ فيهِ)، إلى أنْ قالَ: (وإذا
كانَ المُسْلِمُ مُتَأَوِّلاً في القِتالِ أو التَّكفيرِ لم يُكَفَّرْ
بذلكَ) إلى أنْ قالَ في (ص288): (وقد اخْتَلَفَ العُلماءُ في خِطابِ اللهِ
ورسولِهِ: هلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ في حقِّ العَبِيدِ قبلَ البَلاغِ، على
ثلاثةِ أقوالٍ في مَذْهَبِ أحْمدَ وغيرِهِ... والصَّحيحُ ما دَلَّ عليهِ
القرآنُ في قولِهِ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراءُ: 15]، وقولِهِ: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [ النساءُ: 165 ].
وفي الصَّحِيحيْنِ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)) ).
والحاصِلُ
أنَّ الجاهِلَ مَعْذورٌ بِما يَقولُهُ أوْ يَفْعَلُهُ ممَّا يَكونُ
كُفْرًا، كما يَكونُ مَعْذورًا بما يَقولُهُ أوْ يَفْعَلُهُ ممَّا يَكونُ
فِسْقًا، وذلكَ بالأدِلَّةِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والاعْتِبارِ وأقوالِ
أهلِ العِلمِ(4).
(9) حينَما حَذَّر الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أمرَيْنِ:
أحدُهُما: خَوْفُ
الإِنسانِ على نفسِهِ مِنْ أن يَظُنَّ ما ظَنَّ هؤلاءِ في مَعْنى
التَّوحيدِ، أنَّهُ هوَ إفرادُ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والرِّزْقِ
والتَّدْبِيرِ، بَيَّن رَحِمَهُ اللهُ أنَّ الواجبَ على الإِنسانِ أنْ
يَكونَ على خَوفٍ دائِمًا، ثمَّ يَذْكُرُ حالَ القومِ الَّذين قالُوا
لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ
آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاَءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعرافُ:
138، 139] فبَيَّنَ لهم أنَّ سُؤالَهم أنْ يَجْعَلَ لهم آلهةً كما كانَ
هؤلاءِ لهم آلهةٌ مِن الجَهْلِ، فهذا يُؤَدِّي إلى خوْفِ الإِنسانِ على
نفسِهِ مِنْ أن يَتِيهَ في الضَّلالاتِ والجَهَالاتِ حيثُ يَظُنُّ أنَّ
معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: لا خالِقَ ولا رازِقَ ولا مُدَبِّرَ إلاَّ
اللهُ عزَّ وجلَّ.
وهذا
الَّذي قالَهُ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ وحَذَّرَ مِنهُ وَقَعَ فيهِ عامَّةُ
المُتَكَلِّمِينَ الَّذين تَكَلَّموا في التَّوحيدِ؛ حيثُ قالوا: إنَّ
معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: لا مُخْتَرِعَ ولا قادِرَ على
الاخْتِرَاعِ إلاَّ اللهُ، ففَسَّرُوا هذهِ الكَلِمةَ العظِيمةَ بتَفْسيرٍ
باطِلٍ لمْ يَفْهَمْهُ أحدٌ مِن المُسلِمِينَ، بلْ ولا غيرُ المسلِمِينَ،
حتَّى المُشْرِكونَ الَّذين بُعِثَ فيهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كانوا يَعْرِفُونَ معنى هذه الكلمةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُها
هؤلاءِ المُتَكَلِّمونَ.
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
فتكون دلالة الآية على العموم صريحة غير محتملة، وإذا قضي بعمومها اندرج
فيها الشرك كله أكبره وأصغره، ففي عبارة المصنف ـ رحمه الله ـ قلق.
(2) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي لله عنه.
والفرح:
- منه ما يحمد، كالذي ذكره المصنف رحمه الله .
- ومنه ما يذم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وذلك بحسب الحامل عليه؛ فإن كان فرحاً بما أذن به شرعاً كان محموداً وإلا فهو مذموم.
(3) ما ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ عن إمام الدعوة يتضمن أمرين:
أحدهما: أن
للإمام كلاماً يدل على العذر بالجهل يخالف كلامه هنا الدال على عدم العذر
به، وأصرحه ما نقله المصنف عنه أنه قال: (وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم
الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل
جهلهم وعدم من ينبههم).
وهو
كما ذكر إذ يوجد هذا في كلامه، وفي كلام آخر يظهر التوقف عن الجزم بشيءٍ،
وبعضها يصدق بعضاً، ويحمل على معنى صحيح، ويوجد في كلامه ـ رحمه الله ـ
محكم يدفع المتشابه.
والآخر: أن ما تصح نسبته إليه من عدم العذر بالجهل هو ما يكون معه تفريط بترك التعلم.
وهذا
الذي استظهره المصنف ـ رحمه الله ـ يغني عنه قول إمام الدعوة رحمه الله:
(إن الشخص المعين إذا قال ما يوجب الكفر فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه
الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على
بعض الناس، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من
الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفره)
انظر: (الدرر السنية) (8/244) و (جموع مؤلفات الشيخ) (3/12) (4) محصَّل هذه التتمة الإشارة إلى تسعة أمور:
الأول: أن الاختلاف في مسألة العذر بالجهل من جملة الاختلاف في المسائل الاجتهادية التي للأمر فيها سعة.
الثاني:أن الاختلاف الواقع فيها يكون أحياناً من قبل الاختلاف اللفظي من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين.
الثالث: أن الجهل بالمكفر على نوعين:
أحدهما:
أن يكون ممن لا يدين بالإسلام سواءٌ دان بغيره أو لا ولم يخطر بباله خلاف
ما هو عليه فهذا تجرى عليه أحكام الكفر في الدنيا وأما الآخرة فإنه يمتحن.
والآخر:
أن يكون ممن يدين بالإسلام، ولكن لم يخطر بباله أن ما هو عليه مكفر ولا
نبههه أحد، فهذا تجرى عليه أحكام الإسلام في الدنيا وأما الآخرة فأمره إلى
الله.
الرابع:أن الأصل فيمن انتسب إلى الإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زواله بالدليل.
الخامس: التحذير من التساهل في تكفير هؤلاء لأمرين اثنين:
أحدهما: ما في ذلك من افتراء الكذب على الله.
والآخر: لما فيه من وصف المسلم بوصف مضاد هو الكفر مع تبرؤه منه، وقد ينقلب الكفر عليه كما صحت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
السادس: أنه يجب النظر قبل الحكم بالتكفير في أمرين:
أحدهما: دلالة الكتاب والسنة على أن ما كفر به هو مكفر بدليل النقل. السابع: أن من شروط التكفير علم المكفَّر بمخالفته التي أوجبت كفره.
والآخر: انطباق الحكم على المعين، بحيث تجتمع فيه شروط التكفير، وتنتفي موانعه.
التاسع: أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً أو فسقاً.
وهذه
المسألة ـ أعني مسألة العذر بالجهل ـ من المسائل الكبار التي تباينت فيها
الأنظار، ووقفت دون عقلها كثير من الأفكار، وتجليتها في مقام آخر بإذن
الله.
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (إِذَا:
- عَرَفْتَ ما قُلْتُ لَكَ(1) مَعْرفَةَ قَلْبٍ، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(2).
-
وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الَّذي بعث بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلهِم إِلى
آخِرِهِمُ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ ديناً سِوَاهُ(3).
- وَعَرَفْتَ ما أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذا(4) أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ(5):
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ؛كَما قالَ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَأَفَادَكَ أَيْضاً: الخَوْفَ العَظِيمَ، فَإِنَّكَ
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرجُها مِنْ
لِسَانِهِ دون قلبه، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ فلا يُعْذَرُ
بِالجهْلِ(6)، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى
اللهِ زُلْفَى كَما ظَنَّ الكفّارُ(7).
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ ما قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسى عليه السلام مَعَ صَلاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلينَ: {اجْعَل لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فَحِينئذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلى ما يُخَلِّصُكَ مِنْ هذا وَأَمْثَالِهِ)(8).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)
أي: إِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِن الفَرْقِ بَيْنَ تَوْحِيدِ
الرُّبُوبيَّةِ وتَوْحِيدِ الأُلُوهيَّةِ، وعَرَفْتَ أَنَّ المُشْرِكِينَ
أَقرُّوا بالأَوَّلِ وجَحَدُوا الثَّانيَ، فَلَمْ يُدْخِلْهُم في
الإِسْلاَمِ وقُتِلُوا واستُحِلَّتْ دِمَاؤُهُم وأَمْوالُهُم، إِذَا
عَرَفْتَ هذه الأُمُورَ مَعْرِفَةَ قَلْبٍ، لاَ مَعْرِفَةَ لِسَانٍ فَقَطْ،
كَأَنْ يَحْفَظَ الإِنْسَانُ هذا المَعْنَى ويُؤَدِّيَهُ في الامْتِحَانِ
ويَنْجَحَ فيه، ولَمْ يَتَفَقَّهْ فيه فِي قَلْبِهِ، ويَفْهَمْهُ تَمَامًا
فَهَذَا لاَ يَكْفِي.
فالعِلْمُ هو عِلْمُ القَلْبِ وعِلْمُ البَصِيرَةِ، لاَ عِلْمُ اللِّسَانِ فقط.
(2) أي: الشِّرْكُ في العِبَادَةِ لاَ الشِّرْكُ الَّذي هو اعْتِقَادُ أنَّ أَحَدًا يَخْلُقُ ويَرْزُقُ ويُدَبِّرُ مَعَ اللهِ، بَلِ الشِّرْكُ الَّذي حَذَّرَ اللهُ منه هو اعْتِقَادُ أَنَّ أَحَدًا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ، أو شَيْئًا مِن العِبَادَةِ مَعَ اللهِ.
فالشِّرْكُ هو دَعْوَةُ غَيْرِ اللهِ مَعَهُ، أو صَرْفُ شَيْءٍ مِن أَنْواعِ العِبَادَةِ لغَيْرِ اللهِ،هَذَا
هو الشِّرْكُ الَّذي حَرَّمَهُ اللهُ، وحَرَّمَ عَلَى صَاحِبِه الجَنَّةَ
وأَخْبَرَ أَنَّ مَأْوَاهُ النَّارُ، وهو الشِّرْكُ الَّذي يُحْبِطُ
جَمِيعَ الأَعْمَالِ، وهو الشِّرْكُ في الأُلُوهِيَّةِ ولَيْسَ الشِّرْكَ
فِي الرُّبُوبيَّةِ. وهَذَا
تَنْبِيهٌ مِن الشَّيْخِ -رَحِمَهُ اللهُ- إلى أَنَّه كَمَا تَجِبُ
مَعْرِفَةُ التَّوْحيدِ تَجِبُ مَعْرِفَةُ الشِّركِ، وأنَّه لاَ يَكْفِي
مِن المُسْلِمِ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ فَقَطْ، حَتَّى يَعْرِفَ مَا
يُضَادُّه ويُنَافِيهِ، أو يَنْقُصُهُ حَتَّى يَتَجَنَّبَهُ لِيَسْلَمَ
تَوْحيدُه وتَصِحَّ عَقِيدَتُه، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ}.
وأمَّا
الانْتِسَابُ إلى الإِسْلاَمِ في الظَّاهِرِ دونَ البَاطِنِ، أو
الانْتِسَابُ إليه بالتَّسَمِّي فَقَطْ دونَ الْتِزَامٍ لأَحْكَامِهِ، أو
الانْتِسَابُ إِلَيْهِ مَعَ ارْتِكَابِ مَا يُنَاقِضُهُ مِن الشِّرْكِ
والوَثَنِيَّاتِ، أو الانْتِسَابُ إِلَيْهِ دونَ مُوَالاَةٍ لأَِوْلِيائِهِ
ومُعَادَاةٍ لأَِعْدَائِهِ، فَلَيْسَ هَذَا هو الإِسْلاَمَ الَّذي جَاءَتْ
بِهِ رُسُلُ اللهِ، وإنَّما هو إسْلاَمٌ اصْطِلاَحيٌّ مُصْطَنَعٌ، لاَ
يُغْنِي ولاَ يَنْفَعُ عندَ اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-، ولَيْسَ هو
دِينَ الرُّسُلِ. (4)
وهو الجَهْلُ بالتَّوْحِيدِ، والجَهْلُ بالشِّرْكِ، هذا هو الَّذي
أَوْقَعَ كَثِيرًا مِن النَّاسِ في الضَّلاَلِ، وهو أَنَّهم يَجْهَلُونَ
التَّوحِيدَ الصَّحِيحَ ويَجْهَلُونَ الشِّرْكَ، ويُفَسِّرُونَ كُلاًّ
مِنْهُما بِغَيْرِ تَفْسِيرِه الصَّحِيحِ، هذا هو الَّذي أَوْقَعَ كَثِيرًا
مِن النَّاسِ في الغَلَطِ والكُفْرِ والشِّرْكِ والبِدَعِ والمُحْدَثَاتِ
إِلَى غَيْرِ ذلك، وذلك بسَبَبِ عَدَمِ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ
مِن تَوْحِيدِه وطَاعَتِهِ، ومَا نَهَى عنه مِن الإِشْرَاكِ بِهِ
ومَعْصِيَتِهِ، فالعَوَامُّ لاَ يَتَعَلَّمُونَ، وغَالِبُ العُلَمَاءِ
مُكِبُّونَ عَلَى عِلْمِ الكَلاَمِ والمَنْطِقِ الَّذي بَنَوْا عَلَيْهِ
عَقِيدَتَهُم، وهو لاَ يُحِقُّ حَقًّا ولاَ يُبْطِلُ بَاطِلاً، بل هو كَمَا
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: (لاَ يَنْفَعُ العِلْمُ بِهِ، ولاَ يَضُرُّ
الجَهْلُ بِهِ). (5) أي: العِلْمُ بِهَذِه الحَقَائِقِ يُفِيدُكَ فَائِدَتَيْنِ: - الفَائِدَةُ الأُولَى: أَنَّكَ
تَفْرَحُ بِفَضْلِ اللهِ، حَيْثُ مَنَّ عَلَيْكَ بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ مِن
البَاطِلِ، فإِنَّها نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، حُرِمَ منها الكَثِيرُ مِن
الخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وفَضْلُ اللهِ هو الإِسْلاَمُ، ورَحْمَتُهُ هي القُرْآنُ {فَلْيَفْرَحُوا} فَرَحَ
شُكْرٍ واعْتِرَافٍ بالنِّعْمَةِ، والفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ مَشْرُوعٌ؛
لأَِنَّه شُكْرٌ للهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- عَلَى نِعْمَةِ التَّوْحِيدِ،
ومَعْرِفَةِ الشِّرْكِ، وهذه نِعْمَةٌ إِذَا وُفِّقْتَ لَهَا؛ فإنَّه قَدْ
جُمِعَ لَكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، والفَرَحُ بالنِّعْمَةِ مَشْرُوعٌ، أَمَّا
الفَرَحُ المَنْهِيُّ عنه فهو الفَرَحُ بالدُّنيا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ}
فالفَرَحُ بالدُّنيا وحُطَامِها مَذْمُومٌ، أَمَّا الفَرَحُ بالدِّينِ
والفَرَحُ بالعِلْمِ النَّافِعِ فَهَذَا مَشْرُوعٌ؛ لأَِنَّ اللهَ أَمَرَ
بِهِ. فَلاَ
تَغْتَرَّ بِعِلْمِكَ، وتَأْمَنَ عَلَى نَفْسِكَ مِن الفِتْنَةِ، ولكن
كُنْ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِن الفِتْنَةِ بأَنْ لاَ تَزِلَّ بِكَ
القَدَمُ، وتَغْتَرَّ بِشَيْءٍ يَكُونُ سَبَبًا لِهَلاَكِكَ وضَلاَلِكَ،
فإِنَّ بَعْضَ المَغْرُورِينَ اليَوْمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ تَجَاوزُوا
مَرْحَلَةَ الجَهْلِ والبِدَائِيَّةِ، وصَارُوا مُثَقَّفِينَ واعِينَ، لاَ
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعُودُوا للوثَنِيَّةِ، أو نَحْوًا مِن هذا الكَلاَمِ
الفَارِغِ، ولَمْ يَفْطِنْ لعِبَادَةِ الأَضْرِحَةِ الَّتِي تَنْتَشِرُ في
كَثِيرٍ مِن البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ، ولَمْ يَنْظُرْ فِيمَا وَصَلَ
إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ مِن الجَهْلِ بالتَّوْحِيدِ.
فالَّذِينَ
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لَمَّا قَالُوا: (مَا
رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاَءِ أَرْغَبَ بُطُونًا، وأَكْذَبَ
أَلْسُنًا، وأَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ) يَزْعُمُونَ أنَّهُم قَالُوهَا
مِن بَابِ المَزْحِ، ويَقْطَعُونَ بِهَا الطَّرِيقَ بِزَعْمِهِم، قَالَ
اللهُ فِيهِم: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} دَلَّ
عَلَى أنَّهم مُؤْمِنُونَ فِي الأَوَّلِ، فَلَمَّا قَالُوا هذه الكَلِمَةَ
كَفَرُوا والعِيَاذُ باللهِ مَعَ أنَّهُم يَقُولُونَها مِن بَابِ المَزْحِ
واللَّعِبِ. (7) أي: يَقُولُ كَلِمَةَ الكُفْرِ وهو يَظُنُّ أَنَّهَا تُقَرِّبُه إِلَى اللهِ، مِثْلَمَا يَقُولُ المُشْرِكُونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ) يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللهَ يَرْضَى بِهَذا، ويُحِبُّ هَذَا. (8)
ثُمَّ ضَرَبَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- مَثَلاً لذلك فَقَالَ: قَوْمُ
مُوسَى هم بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وخَرَجُوا
مَعَهُ مِن مِصْرَ، حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِم فِرَارًا
مِن فِرْعَوْنَ، فَخَفِيَ عَلَيْهِم هذا الأَمْرُ مَعَ أَنَّهم عُلَمَاءُ،
وفيهِم صَلاَحٌ وتَقْوَى، وخَرَجُوا مَعَ مُوسَى مُقَاطِعِينَ لِفِرْعَوْنَ
وقَوْمِهِ، فَلَمَّا أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ
لَهُم، أَرَادُوا تَقْلِيدَهُم في ذَلِكَ، وطَلَبُوا مِن مُوسَى فَقَالُوا:
{اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فَأَنْكَرَ عَلَيْهِم مُوسَى هذه المَقَالَةَ، وأَخْبَرَهُم أَنَّ عَمَلَ هَؤُلاَءِ القَوْمِ شِرْكٌ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. ولاَ يُخَلِّصُكَ مِن هَذَا وأَمْثَالِهِ إلاَّ العِلْمُ النَّافِعُ الَّذي به تَعْرِفُ التَّوْحيدَ مِن الشِّرْكِ، وتَحْذَرُ
به مِن القَوْلِ أو الفِعْلِ اللَّذَينِ يُوقِعَانِكَ في الشِّرْكِ مِن
حَيْثُ لاَ تَدْرِي، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلاَنِ قَوْلِ مَن يَقُولُ:
(إِنَّ مَن قَالَ كَلِمَةَ الكُفْرِ، أو عَمِلَ الكُفْرَ لاَ يَكْفُرُ
حَتَّى يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ مَا يَقُولُ ويَفْعَلُ) ومَن يَقُولُ: (إِنَّ
الجَاهِلَ يُعْذَرُ مُطْلَقًا، ولو كَانَ بإِمْكَانِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ
ويَسْأَلَ) وهي مَقَالَةٌ ظَهَرَتْ مِمَّن يَنْتَسِبُونَ إلى العِلْمِ
والحَدِيثِ في هَذَا الزَّمَانِ.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (إِذَا:
- عَرَفْتَ ما قُلْتُ لَكَ مَعْرفَةَ قَلْبٍ، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ باللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
-
وَعَرَفْتَ دِينَ اللهِ الَّذي بعث بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلهِم إِلى
آخِرِهِمُ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ ديناً سِوَاهُ.
- وَعَرَفْتَ ما أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذا أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ:
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ؛كَما قالَ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
وَأَفَادَكَ أَيْضاً: الخَوْفَ العَظِيمَ، فَإِنَّكَ
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرجُها مِنْ
لِسَانِهِ دون قلبه، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ فلا يُعْذَرُ
بِالجهْلِ، وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى
اللهِ زُلْفَى كَما ظَنَّ الكفّارُ.
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ ما قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسى عليه السلام مَعَ صَلاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلينَ: {اجْعَل لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، فَحِينئذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلى ما يُخَلِّصُكَ مِنْ هذا وَأَمْثَالِهِ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال: (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب)
يعني: أن الذي سلف يحتاج إلى العلم، والعلم منه ما يُعلم لإدراكٍ لأول
وهْلة ثم يُترك، ومنه ما يعرف معرفة قلب، فيكون مُدْرَكاً ومستقراً في
القلب، ومعلوماً بأدلته وبراهينه.
قوله هنا رحمه الله: (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب) المعرفة هي العلم في هذا الموضع، يعني: إذا علمت ما ذكرتُ لك علم قلب.
-والعلم والمعرفة في ابن آدم متقاربان، أما في حق الله -جل وعلا- فإنما يوصف سبحانه وتعالى بالعلم دون المعرفة.
-والمعرفة في القرآن أكثر ما جاءت في سبيل التهجين لها وأنها لا تنفع؛ لأنها معرفة بالظاهر لا معرفة القلب، كما قال جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}.
-وكما قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}
فأتت المعرفة لا في مقام المدح في القرآن، بل في مقام الذم، وهذا لأجل أن
المعرفة لا يتبعها العلم بالحق دائماً والإذعان له والعمل به، وإنما قد
تكون قائدة لذلك، وقد لا تكون وهو الأغلب، وعامة العلماء على أن المعرفة
والعلم في ابن آدم متقاربان، لكن يختلفان في أن المعرفة قد يسبقها - بل
المعرفة يسبقها - جهل بالشيء أو ضياع لمعالمه، فَجَهِلَ ثم عَرَف، أو ضاعت
معالم الشيء عليه ثم اهتدى إليه وعرفه، كما قال -جل وعلا- في قصة يوسف: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} هذا من جهة العلامات والصفات.
فإذاً:المعرفة والعلم بمعنى واحد، ولهذا جاء في حديث معاذ حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يعرفوا الله، فإذا هم عرفوا الله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)) في بعض ألفاظ ذلك الحديث، نعم، المحفوظ فيه: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) لكن عُبرعن ذلك تارة بالتوحيد وتارة بالمعرفة، وهذا يدل على أن المعنى عند التابعين الذين رووا بهذا وهذا متقارب.
ولهذا
يستعمل العلماء كلمة المعرفة وكلمة العلم متقاربة، وهذا هو الذي درج عليه
الشيخ -رحمه الله تعالى- هنا؛ لأنه يخاطب من ليس عنده ذلك التفريق الدقيق
بين المعرفة والعلم.
قال: (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب)
وهذا المقصود به علم القلب؛ لأن المعرفة معرفة اللسان أو معرفة الظاهر قد
لا تقود للإذعان للحق، لكن معرفة القلب معها الاستسلام لذلك الحق. -فإذاً: هذا النوع الثاني من المقدمات، فالشيخ -رحمه الله- في هذا الكلام يقدم بمقدمات للنتيجة التي يصل إليها، وهي قوله بعد ذلك: (أفادك فائدتين). قال: (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}) الشرك: اتخاذ الشريك، واتخاذ الشريك قد يكون على جهة التنديد الأعظم، وقد يكون على جهة التنديد الأصغر. - وكما قال -جل وعلا- في سورة المائدة: {وَقَالَ
الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. -وفي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام؛ كلٌ مخاطب بالإسلام الذي بعث به
الرسول الذي أرسل إلى تلك الطائفة، وبعد محمد بن عبد الله -عليه الصلاة
والسلام- لا يقبل من أحد إلا الإسلام الذي بعث به محمد عليه الصلاة
والسلام.
الأول:الجهل به. وكلٌ
من الأمرين مكفر، فمن لم يأت بالتوحيد عن إعراض منه وجهل فهو كافر، ومن لم
يأت بالتوحيد ويترك الشرك بالله -جل وعلا- عن عناد واستكبار فهو كافر. لهذا قال العلماء: الكفر كفران: - كفر إباء واستكبار، كقوله جل وعلا: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. - والنوع الثاني: الإعراض؛ كما قال جل وعلا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}فليس
كل من كَفَر كَفَر عن عناد واستكبار، بل قد يكون كفره عن الإعراض، ولهذا
جاء في آخر (نواقض الإسلام) التي كتبها إمام الدعوة رحمه الله: (الناقض
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به).لا يهمه أن يتعلم التوحيد، ولا يهمه أن يعرف الشرك، ولا يهمه هذه المسائل، معرضٌ عن دين الله أصلاً.وإذا تقرر ذلك، فهنا
ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بذلك، هذا من جهة الحكم على الواقع، ذاك
الذي تكلمنا عليه من جهة التأصيل، أن الكفر قد يكون من جهة الإعراض والجهل. وأما المعرض: فهنا يعامل في الظاهر معاملة الكافر. والشيخ ما كفر أهل الجبيلة ونحوهم ممن عندهم بعض الأوثان في أول الأمر؛ لأجل عدم بلوغ الحجة الكافية لهم. فإذاً: نخلص من ذلك أن قوله: (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا)
أن هذا الجهل بالتوحيد مذموم غاية الذم، سواءً أطلقنا عليه حكم الكفر،
ونعني به الظاهر، لا الكفر الكامل الذي هو ردة مخرج من الدين أصلاً، وإنما
الكفر الظاهر الذي تترتب عليه الأحكام الظاهرة في الدنيا، أو قلنا إنه في
هذا أتى بخطر عظيم في جهله بالتوحيد، فهذا ينبئك عن أن غالب الناس اليوم: -هذا قد تجده في أناس من الخاصة. - فإن العلم بذلك هو أصل الاعتقاد. - والعمل بذلك هو أصل الملة، وأصل بعثة الأنبياء والمرسلين، وزبدة الرسالات الإلهية. فمن
رأى ما من الله به عليه من الإقبال على هذا العلم، وفهمه، وفهم حدوده،
وفهم أدلته، وكلام أهل العلم فيه؛ أفاده هذه الفائدة العظمى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}ولهذا
فالفرح بفضل الله وبرحمته، يعني: بالدين وبالتوحيد وبتعلمه والإقبال عليه،
هذا هو خير من كل ما يغشاه الناس من أمور الدنيا، ومن الأمور التي يظنون
أنها فاضلة بأمور الدين؛ كالاهتمام بعلوم مختلفة، أو بالاهتمام بأشياء
متنوعة. فأصل الملة أن تعلم التوحيد وتتعلمه،لهذا خاف إبراهيم على نفسه من عبادة الأصنام؛ فدعا ربه بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} خاف على نفسه وخاف على بنيه. فهنا
إذا عرفت هذه المقدمات الأربع، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا
التوحيد، والجهل بالشرك، وعدم إعارة ذلك، أو الاهتمام بذلك الاهتمام
الواجب الذي يليق به بعظم مسألة التوحيد؛ أفادك فائدتين:
والحق
أننا إذا تدبرنا ذلك فإننا نرى أنه لا شيء لنا، وإنما هو فضل الله جل
جلاله، الله ساق لنا هذا الفضل ويسر لنا ذلك بفضله وبرحمته، ثم نفرح بفضل
الله وبرحمته، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في (النونية). واجعل لقلبك مقلتين كلاهمـا ... من خشية الرحمـن باكيتـانِ
-فحقيقة الشرك: أن يُتخذ الند مع الله جل وعلا، واتخاذ الند مع الله -جل وعلا- قسمان:
1-اتخاذ
للند فيما يستحقه الله -جل وعلا- على العبد من توحيده بالعبادة، وهذا
التنديد هو الشرك الأكبر؛ كما جاء في حديث ابن مسعود، حين سأله: (أي الذنب
أعظم؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) وكما قال جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}ونحو ذلك.
2-وهناك
تنديد أقل، يعني: أن يُجعل للمخلوق شيء من الندية؛ ولكن لا تصل إلى صرف
العبادة لغير الله، وهذا من جهة التعلق ببعض الأسباب التي لم يأذن الله
-جلّ وعلا- بها، أو تعظيم بعض الأشياء التعظيم الذي لا يوصل إلى ما يناسب
مقام الربوبية، مثل الحلف بغير الله، ومثل قول: (لولا الله وفلان) وأشباه
ذلك.
-فإذاً:الشرك هو: التنديد.
-وهو: اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا.
والتنديد قسمان:
1-تنديد أعظم: وهو أن يُجعل ما هو محض حق الله -جل وعلا- للمخلوق.
2-وتنديد أصغر: وهو أن يجعل للمخلوق شيئاً مما يجب أن يكون لله؛ لكن لا يبلغ أن يصل إلى درجة الشرك الأكبر.
-ولهذا اختلف العلماء في تعريف الشرك الأصغر، وفي ضابط الشرك الأصغر ما هو؟ كما سبق أن مرّ معكم في (كتاب التوحيد).
فمنهم من قال: الشرك الأصغر هو: ما دون الشرك الأكبر، مما لم يوصف في النصوص بأنه مخرج من الملة، أو أن فيه صرف العبادة لغير الله جل جلاله.
وقال آخرون: الشرك الأصغر: هو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر.
والثاني ينضبط في أشياء، ولا ينضبط في أشياء أخر.
فمدار ضابط الشرك الأصغر على أشياء ورد النص بتسميتها شركاً، أو أن حقيقتها التشريك، ولا تبلغ التنديد الأعظم في صرف العبادة لغير الله جل جلاله.
-فقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ظاهر في التحذير والتخويف من الشرك؛ لأن الشرك لا يُغفر {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
-وأما الذنوب فهي على رجاء الغفران؛ كما قال هنا جلّ وعلا: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
-وكما قال جلّ وعلا: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.
-أجمع العلماء على أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}نزلت في حق من تاب.
فإذاً:قوله جلّ وعلا: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}في حق من مات على غير التوبة مصراً على معصية، فهو على رجاء الغفران تحت المشيئة: إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بذنبه.
-وأما من تاب فإنه لا يدخل تحت المشيئة؛ لقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.
-ولقوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}في آيات كثيرة في هذا المقام.
وهاهنا في هذه الآية بحث، وهو أن قوله جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}فيه
النكرة في سياق النفي، ومن المتقرر في الأصول - أصول الفقه - وفي علم
العربية أن النكرة في سياق النفي تعم، وهنا وقعت النكرة في سياق النفي،
والنكرة هي المصدر المنسبك من {أنْ} والفعل المضارع {يُشْرَكَ}؛
لأن معنى الكلام: إن الله لا يغفر شركاً به، والمصدر نكرة، وهذا يعني
العموم - عموم الشرك - فيكون المراد هنا أن الله -جلّ وعلا- لا يغفر أي نوع
من أنواع الشرك، فالشرك على هذا لا يدخل تحت الغفران، سواءً أكان أكبر أم
كان أصغر، أم كان في شرك الألفاظ وأشباه ذلك، بل إنما يقع فيه إما الموازنة
بين الحسنات والسيئات، وإما أن يؤخذ العبد به فيعذب عليه.
-وهذا
اختيار جمع من المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنهم أكثر أئمة
الدعوة رحمهم الله تعالى؛ بناء على دلالة القاعدة الشرعية على ذلك.
-قال آخرون من أهل العلم: إن قوله جل وعلا:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هو عام؛ لأن {أَنْ يُشْرَكَ} نكرة أتت في سياق النفي فهي دالة على العموم، لكن العموم تارة يراد به الخصوص، فإن العموم عند الأصوليين على ثلاث مراتب:
1- عموم باق على عمومه.
2- وعموم مخصوص.
3-وعموم مراد به الخصوص.
فيكون اللفظ عاماً ولكن المراد به شيء خاص؛ كما في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}فهنا قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}هذه نكرة أيضاً في سياق النفي بـ(لم) وهذه تدل على عموم الظلم، لهذا فهم الصحابة ذلك فقالوا: (يا رسول الله أينالم يظلم نفسه؟ قال: ((ليس الذي تذهبون إليه وإنما الظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ})) ) فأفهمهم -عليه الصلاة والسلام- أن المراد هنا بالظلم خصوص الشرك.
-قوله في سورة المائدة:{مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}(مَنْ)
هذه شرطية و(يشرك) فعل فيه الحَدَث، فيه المصدر وهو نكرة، وهذا يدل على
العموم، لكن لما رتب الأثر، وهو أن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار،
علمنا أن المراد خصوص الشرك الأكبر، فقالوا هذه الآية مثل تلك.
قال الأولون:هذه
الآية فيها عدم المغفرة، وعدم المغفرة لا يستلزم الخلود في النار، وهذا
غير الآيات التي فيها الخلود في النار، فتلك الآيات دالة على أن المراد
بالشرك خصوص الشرك الأكبر؛ لأن السياق يقتضيه، وأما هذه فلا دليل عليها.
وعلى العموم: كما
ذكرنا القول الأول هو قول الأكثرين، وعليه يتم الاستدلال هنا، وهو أن من
عرف أن الشرك الأكبر والأصغر في قول الأكثرين من أهل العلم لا يدخل تحت
المغفرة، أفاده الخوف من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنه ليس ثم شركاً على هذا
القول يدخل تحت المغفرة، بل إن الله -جلّ جلاله- لا بد أن يؤاخذ بالشرك،
فإن كان شركاً أكبر فالخوف عظيم منه، فلابد من معرفته ومعرفة وسائله ومعرفة
أفراده؛ حتى يحذره العبد.
-وإن كان شركاً أصغر، فلا بد أيضاً من معرفته ومعرفة أفراده ومعرفة وسائله، حتى يحذره العبد، لأن الجميع لا يدخل تحت المغفرة.
فإذاً:قول الشيخ -رحمه الله- تعالى هنا: (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ})
يريد منه وضوح صورة الشرك، ثم الخوف من الشرك، وأثر ذلك الخوف، وهو أن
يسعى العبد في تعلم التوحيد، وتعلم ضده الذي هو الشرك الأكبر والأصغر، حتى
لا يخاطر بدينه وبنفسه وبمستقبله في الآخرة لأشياء يتساهل فيها في هذه
الدار الفانية.
الثالثة:من المقدمات قال: (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد سواه)
دين الله الذي أرسل به الرسل هو الإسلام، والإسلام المراد به هنا الإسلام
العام الذي يشترك في الدعوة إليه كل رسول، فكل رسول أتى بالإسلام العام.
- وأما
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؛ فأتى بالإسلام العام، والإسلام
الخاص الذي هو شريعة الإسلام، فالرسل من قبل مسلمون، وأتباع محمد بن عبد
الله -عليه الصلاة والسلام- مسلمون، وإسلام من قبلنا دخول في الإسلام
العام، وأما إسلام هذه الأمة فهو إسلام من جهة العقيدة ومن جهة الشريعة.
فما هو الإسلام العام؟
الإسلام
العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك
وأهله، هذا التعريف للإسلام دعا إليه الرسل جميعاً، أن يُستسلم لله
بالتوحيد وأن يُنقاد له بالطاعة، والطاعة هنا بحسبها، طاعة لكل رسول جاء كل
أمة بحسب الرسول الذي جاءها، والبراءة من الشرك وأهله.
فإذاً:دين الله الذي أرسل به الرسل مشتمل على:
- تحقيق التوحيد لله.
- وخلع الأنداد والكفر بالطاغوت، كما قال -جلّ وعلا- في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}وقال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} ونحو ذلك من الآيات.
فإذاً:العلم
بدين الرسل هذا مهم للغاية، فتعلم دين نوح عليه السلام، وتعلم دين إبراهيم
-عليه السلام- وما خالف به نوح قومه، وما خالف به إبراهيم قومه.
وكذلك:دين
موسى عليه السلام، ودين عيسى وما خالفوا به أقوامهم، وكذلك الدين الذي بعث
به سيد ولد آدم -عليه الصلاة والسلام- وما خالف به أقوامه.
إذا عرفت حقيقة دين المرسلين فإنه يسهل عليك أن تعرف ما عليه الناس في الأزمان التي غلب فيها الجهل.
قال: (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين)
والثاني: العناد.
- والجهل قد يكون لعدم وجود من ينبه.
-وقد يكون للإعراض عن البحث فيه.
فإن
أقيمت عليه الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة، وليفهمه بحدود ما
أنزل الله على رسوله في التوحيد وبيان الشرك، فترك ذلك مع إقامة الحجة
عليه، فإنه يعد كافراً ظاهراً وباطناً.
فإذاً: يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه؛لقول الله -جل وعلا-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} والعذاب
هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، وقد
يعامل معاملة الكافر استبراءً للدين، وحفظاً له من جهة عدم الاستغفار له،
ومن جهة عدم التضحية له، وأن لا يُزوج، وأشباه ذلك من الأحكام.
فإذاً: كلام أئمة الدعوة في هذه المسألة فيه تفصيل ما بين الكفر الظاهر والكفر الباطن.
ومن جهة التطبيق في الواقع يفرقون، فإذا أتى للتأصيل قالوا: (هو كفر، سواء أكان كفره عن إعراض وجهل، أو كان كفره عن إباء واستكبار). وإذا أتى للتطبيق على المعين أطلقوا على من أقيمت عليه الحجة الرسالية البينة الواضحة، أطلقوا عليه الكفر.وأما
من لم تقم عليه الحجة: فتارةً لا يطلقون عليه الكفر؛ كما قال الشيخ محمد
بن عبد الوهاب في موضع: (وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكَوَّاز وقبة
البدوي؛ لأجل عدم وجود من ينبههم).
-كما قال الله جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
-وكما قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
فالحق بين وواضح وجلي من أراده أدركه، ولكن سبب عدم علمهم بالحق ليس هو خفاء الحق في نفسه، ولكن سببه إعراض من أعرض.
قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ}لِمَ ؟ هل لأجل أن الحق خافٍ، أويحتاج إلى معلومات خاصة؟ بل السبب أنهم معرضون {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} ذلك سبب عدم علمهم بالحق، الإعراض.
فهذا الإعراض عن الدين، والإعراض عن التوحيد، وعدم تعلم التوحيد والجهل به:
- وقد تجده في دعاة.
-وقد تجده في بعض طلبة العلم.
فمن
أنعم الله -جل وعلا- عليه بمعرفة التوحيد، ومعرفة ضده، ومعرفة أنواع
التوحيد، وبيان ذلك والأدلة عليه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه، بل أكثر
وأكثر وأكثر الناس فيه من الجهل بالتوحيد، حتى وإن زعموا أنهم من أهله،
أفادك فائدتين:
قال: (الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته) فإنه لا شيء يعدل العلم بالتوحيد والعلم بضده، والاستجابة لأمر الله بالتوحيد، والاستجابة لنهي الله -جل وعلا- عن الشرك ووسائله.
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم ... فالقلب بين أصابـع الرحمـنِ
إذا
عرفت هذا الفضل وهذه الرحمة التي غُشيْت بها ومنَّ الله عليك بها فلا
تتركنَّها إلى غيرها البتة، حتى يأتيك اليقين؛ لأن هذه أعظم نعمة أُنعم بها
على العبد، أن يكون عالماً بالتوحيد، عالماً بضده، مخالفاً لأهل الجهل
والجهالة.
قال: (أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ})
وفضل الله ورحمته: الدين، والقرآن، وفقه الدين، وفقه القرآن، والتوحيد،
والإسلام، ونحو ذلك؛ ولهذا روى ابن أبي حاتم وغيره: عن عمر -رضي الله عنه-
أنه دعا غلامه يوماً إلى أن يخرج إلى إبل الصدقة في الزكاة، فجمعت له خارج
المدينة، فلما ذهب إليها اهتال غلامه من كثرتها، فقال لأمير المؤمنين: (يا
أمير المؤمنين هذا فضل الله ورحمته) فغضب عمر وقال:(كذبت، ولكن فضل الله
ورحمته القرآن، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}) يعني: القرآن في نزوله وتشريعه وما هدى الله هذه الأمة به {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
فإن كان ثم فرح فليفرح المرء بهداية الله -جل وعلا- له للالتزام بدين
الله، وبمعرفة التوحيد، والعلم به، وما يتصل بذلك، فهذا هو الفضل، وبه تعلم
أن المحروم من حرم، وأكثر الخلق حرموا من هذا الفضل العظيم.
ثم الفائدة الثانية: قال: (وأفادك - أيضاً- الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت...) إلى آخره.
الخوف العظيم ملازم؛ لأن الشيطان أضل الأكثرين، فتفرح بفضل الله وبرحمته، وتخاف.
فالفرح بفضل الله وبرحمته، يعني: بمعرفة التوحيد والعلم به، ومعرفة الشرك ووسائله والابتعاد عن ذلك، والدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النهي عن الشرك جملة، أو إجمالاً وتفصيلاً، هذا الفرح بفضل الله وبرحمته يفيد الثبات على ذلك، فكلما استحضرت الفرح هذا وكنت فرحاً به كنت مستمسكاً به.
ثم الخوف - وهو الفائدة الثانية - الخوف يجعلك لا تلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، فكلما التفت كلما رجعت؛ لأجل شدة الخوف، مستحضراً خوف إبراهيم وخوف عباد الله الصالحين. والخوف من الشرك لأجل ألا يقع العبد فيه.
وأنت
ترى اليوم أن أهل هذه البلاد -مثلاً- مع ما هم عليه من أثر هذه الدعوة
الإصلاحية العظيمة التي قربتهم إلى الله -جل جلاله- بالتوحيد، وبالبعد عن
الشرك ووسائله، لكن لأجل عدم الخوف من الشرك، وقعوا في شركيات من شركيات
الألفاظ، وبعضها من الشرك الأصغر، وبعضها قد يكون من الشرك الأكبر في حق
بعض الناس، وهذا - نسأل الله -جل وعلا- السلامة والعافية - لأجل عدم الخوف
من الشرك فيكثر عند الناس أن يقولوا: (نحن على الفطرة، والناس في هذه البلد
على الفطرة) يستمرون على الفطرة إلى متى؟!
الأجيال التي بعد آدم -عليه السلام- كانوا على الفطرة، ثم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
إذاً: ما أَمِن أحد على دينه وهو عالم بحقيقة عداوة الشيطان،بل ما يأمن إلا من يخاف، من يستحضر الخوف دائماً يَحْذر ويَحْذر ويستحضر الحذر، فإذا غابت عنه مسائل التوحيد راجع وتأكد، وهكذا وتفهم وحفظ وراجع ودعا، حتى يثبت؛ وحتى يستقيم له دينه.
قال: (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمةٍ يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل) يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى ما جاء في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) فقول الشيخ رحمه الله: (يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) من جهة أنه لا يلقي لها بالاً؛ لأنه لا يعلم أنها مكفرة، فقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)) يعلم أنها منهي عنها، لكن لا يلقي لها بالاً من شدة الخوف منها، لهذا قال: (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه) بكلمة يحصل الكفر، سواء كان معتقداً لها - يعني: لما دلت عليه - أو كان قوله لهذه الكلمة من الكفر بالله ناتج عن الإعراض عن دين الله، وهو متمكن من معرفته.فإذاً: الإعراض لا يعذر به العبد إذا كان إعراضاً مع التمكن من المعرفة،عنده
أهل العلم، يمكنه أن يسألهم، عنده أهل الديانة، يستطيع أن يبحث عن الحق ثم
هو لا يبحث عن ذلك، فهذا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)).
قال: (وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل) لأنه
أعرض مع تمكنه من المعرفة، أعرض مع قرب الحجة منه، فجهله لا بسبب خفاء
الحق، أو بسبب عدم وجود من ينبهه، وإنما جهله بها لأجل إعراضه.
فإذاً: هنا نلحظ التفريق في الجهل، ما بين الجهل الذي سببه عدم وجود من ينبه بالحق، والجهل الذي سببه الإعراض،فالجهل الذي سببه الإعراض مع وجود من ينبه، هذا لا يعذر به العبد.
وأما
الجهل الذي يكون لأجل عدم وجود من ينبه؛ فإنه يعذر به حكماً في الآخرة؛ حتى
يأتي من يقيم عليه الحجة، ولا يعذر به في أحكام الدنيا، فهو على كل حال
متوعد هذا التوعد العظيم.
إذا
كان الإنسان قد يهوي في النار سبعين خريفاً، يعني: يكون في قعرها، هذا يعني
أنه فارق نار الموحدين بكلمة يقولها، من خاف هذا الشيء يلزمه أن يتعلم
أسباب الردة، وأسباب الكفر، والكلمات التي قد يكفر بها وهو لا يشعر بذلك،
وهذا مضبوط بضوابطه الشرعية، فإنه ليس كل من قال كلمة الكفركفر؛ ولهذا
الشيخ قال هنا: (إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) قد يقول ذلك وهو جاهل (فلا يعذر بالجهل) يعني: في بعض أحواله.
قال: (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون) المشرك في أي زمان ومكان ما أشرك محادة لله ولرسله قصداً في المحادة، وإنما حصلت المحادة نتيجة لشركه، فهو إذ أشرك محادٌ، ولكن إذا قلت للوثني المشرك الجاهلي، قلت: أنت مبغض لله، كاره لله -جل وعلا- محادٌّ لله، يقول: لا؛ لأنه يقول: أنا ما فعلت هذه الأفعال إلا بقصد التقرب إلى الله؛ حتى يرتفع مقامي عند الله.
فإذاً: لا يتصور في المشرك أنه أشرك للبعد عن الله، بل أشرك ليتقرب إلى الله؛ كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
قال -رحمه الله- بعد ذلك: (خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى؛ مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}) قوم موسى مروا على قومٍ يعبدون آلهة ويعبدون معبودات، فنظروا إلى ذلك فظنوا أنه محمود؛ لأنه مخالف لدين فرعون، فقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}فقال موسى لهم: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
وفي
حديث أبي واقدٍ الليثي المعروف أنه قال: (مررنا ونحن حدثاء عهد بكفر بسدرة
وكان للمشركين سدرة ينوطون بها أسلحتهم فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات
أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة})) ).
قال العلماء:أصحاب
موسى لم يكفروا، وأصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام-الذين كانوا حدثاء عهد
بكفر لم يكفروا بتلك الكلمة، ولكن لو تبعها عمل لكفروا؛ لأنهم طلبوا شيئاً
عن جهل؛ فلما بُيِّن لهم انتهوا.
هذا يفيد أن من دونهم لا بد أن يخاف الخوف الشديد؛ لأن جهله ببعض الأفراد أولى من جهل غيره، فإن أنعم الله عليه بمنبه له بعد الكلام يحجزه عن العمل وينبهه، فهذا من نعمة الله عليه، وإن لم يجد، بل قال ذلك الكلام واتخذ إلهاً مع الله فإنه يكون قد ناقض بفعله توحيده.
قال: (فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله) وهذا لا شك أنه يوجب الخوف الشديد.
إذاً: هذا المقطع من كلام الإمام -رحمه الله تعالى- فيه تهيئة نفس الموحد لكشف الشبهات التي يأتي بيانها، فهيأ نفسه ببيان حال المشركين الذين أشركوا من أقوام كل رسول، وبيّن ديانة كل رسول، بيّن معنى التوحيد ومعنى ضده، وبين أن أكثر الناس مخالفون للتوحيد، معرضون عنه، جهال به، وبين أن هذه المقدمات تفيدك:
أولاً: الفرح.والثاني: الخوف.
وهذا تهيئة لنفسيتك حين تتلقى كشف تلك الشبهة، فكشف الشبه إذاً الذي سيأتي يكون مع فرحك بالتوحيد وخوفك من الشرك، وهذا يقيم حاجزاً نفسياً قوياً من أن تتلقى الشبهة تلقياً عقلياً بحتاً، كما عليه علماء الكلام وأشباههم، دون وضع تعبدي نفسي من الوجل والخوف والفرح والرضا.ثم أن تكون حين تُعرض لك جواب الشبه، يكون في نفس الفَرِح بفضل الله بالتوحيد، والفَرِح بفضل الله -جل وعلا- وبرحمته أن كشفت لك الشبه.
فإذاً: الشبه مزلة أقدام من جهة عرضها،
ومن جهة كشفها، فلا بد لها من قاعدة تقوم عليها نفس الموحد، وهذه القاعدة
هي التي قدمها الشيخ رحمه الله، فأول الكلام قواعد علمية، والآن هذا الفرح
والخوف قواعد نفسية، حتى تكون فيما تستقبل من عرض الشبه، ونقضها، وكشفها؛
تكون بين قواعد علمية محكمات، لا تزيغ بعدها، وما بين تحصينات نفسية، لا
تتأثر بالشبهة مهما جاءت. فإذا جاءت الشبهة صار عندك خوف من ضد التوحيد، وفرح بما أنت عليه من التوحيد، وهذا يجعلك في قوة وتحصن وأمان بفضل الله وبرحمته.
فالحمد
لله -جل جلاله- على ما أنعم به علينا من نعمة التوحيد ودراسته وتعلمه ونبذ
الشرك والبراءة منه، وبغض الشرك وبغض أهله، ومعاداة أولئك والتبرئ منهم
قولاً وعملاً واعتقاداً، ونسأله -جل وعلا- بكل اسمٍ له حسن، وبصفاته العلى،
أن يديم علينا هذا الفضل وهذه الرحمة، وأن يجعلنا فرحين بذلك خائفين من
ضده ما حيينا.
نسأله -جل وعلا- أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن ينعم علينا ويتم نعمه، ذلك بأن يتوفانا وهو راضٍ عنا؛ غير مغيرين ولا مبدلين.
نعوذ بك اللهم من كل فتنة، نعوذ بك اللهم من كل فتنة تصدنا عن هذا الأمر الجلل في التوحيد، ودعوة الأنبياء والمرسلين، هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أسئلة:
مسألة الكفر الظاهر والكفر الباطن:
هنا سؤال فيه طول بعض الشيء، ونقل قول بعضهم.
الكفر الظاهر والباطن هو الذي ذكرت لكم تفصيله، وأن الجاهل قد يكفر، قد يكون جهله عن إعراضٍ مع وجود من ينبه، مثل -مثلاً- واحد في هذه البلاد يجهل التوحيد، ويعمل الشرك مع قيام الحجة وقيام الدعوة، وكلٌّ يبلغ، وأهل العلم يبلغون، وهم موجودون في المجلات وفي الصحف وفي مناهج التعليم، وفي كلماتٍ، وفي الإذاعة، إلى آخره.
فهذا، من أعرض مع تمكنه من السؤال وطلب الحق، هذا لا شك أنه لا يعذر بالجهل في هذه المسألة؛ لأن جهله لا بسبب عدم وجود من ينبهه، ولكن بسبب إعراضه أصلاً عن هذا الأمر، أما إذا جهل لأجل أنه لم يأت من ينبهه فهذا هو الذي ذكرنا لكم قول الشيخ رحمه الله فيه: (وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكواز؛ لأجل عدم وجود من ينبههم).
والكفر إنما قلنا كفر ظاهر وباطن تبع لقول بعض أئمة الدعوة،كالشيخ ابن معمر وغيره، وهو ظاهر كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض المواضع، وتفصيل هذه المسألة يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الإباء والإعراض وأشباه ذلك.
[جواب]: نعم،
الكافر قد يكون كافراً بلا شرك، مثل: من ارتكب شيئاً من الأمور التي يرتد
بها - غير الشرك - فإنه يكون كافراً ولولم يحصل منه شرك، فالشرك كالشرك في
العبادة، والكفر قد يكون ببعض ما يحكم عليه بالكفر والردة، ولكن ليس ثم
تشريك. كذلك
الحكم على الفعل غير الحكم على الفاعل، وليس كل من قام به الكفر كافر،
وليس كل من قام به الفسق فاسق، من جهة الحكم الأخروي هو فاسق من جهة
الظاهر، مشرك من جهة الظاهر، كافر من جهة الظاهر، لكن قد لا يكون فاسقاً من
جهة الحكم التام، يعني: الدنيوي والأخروي، إلى آخره. فإذاً: هناك فرق بين الأحكام الدنيوية الظاهرة والأحكام الباطنة، في أمثال ذلك. [جواب]: مختلف فيه:
إذاً:
لو راجعت باب حكم المرتد في كتب أهل العلم لوجدت أن من أحوال الردة الشرك،
قد يكفر بغير ذلك، طريقة أئمة الدعوة -رحمهم الله- والعلماء أنهم يحكمون
عليهم بالشرك، يقول: هؤلاء مشركون قبوريون خرافيون، لكن الحكم بالكفر هذا
أدق، فإذا حكمت عليهم بالشرك: عبدة القبور مشركون، أو نقول: هؤلاء الذين
عند قبة كذا، أو عند مشهد كذا، هؤلاء مشركون، خرافيون قبوريون، وما أشبه
ذلك.
أما التعبير بالكفر فهذا أخص، لهذا يحتاج إليه في الحكم، فهو لأهل العلم، فطالب العلم يستعمل لفظ الشرك والخرافة والقبورية؛ كما هو طريقة أهل العلم في ذلك.
أما التكفير فله شروطه وله ضوابطه،والتفصيل
ما بين الكفر الظاهر والباطن في مثل هذه الأحوال، طبعاً فيه فرق بين
القاعدة المعروفة عندكم أن هناك فرقاً بين تكفير الجنس وتكفير المعين.تكفير الجنس نقول: عباد
القبور الذين يعبدونها ويتقربون إلى المشاهد بأنواع العبادات، نقول: هؤلاء
كفار، لكن إذا احتجنا الكلام على معين لابد أن يكون ثم تفصيل فيه.
[سؤال]: ما حكم لعن الشيطان ؟
-من أهل العلم من يجيزه؛ لأن الله-جل وعلا- لعنه، قال جل وعلا: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ} .
-ومن أهل العلم من منعه بناءً على حديث في الباب: ((لا تلعنوا الشيطان فإنه يتعاظم)) وهذا الحديث صححه بعض أهل العلم من المعاصرين، وإن كان غير معروف في كتب السنة المشهورة، وإنما رواه تمام في فوائده، وغيره.
المقصود:أنه
مختلف فيه ـ لعن الشيطان ـ وفي الجملة: المسلم لا يكون لعاناً، لا يلعن
حتى من يستحق اللعن لا يختار لعنه؛ لأن استحقاق اللعن من جهة الجواز لا من
جهة الوجوب.
العناصر
شرح قول المؤلف: (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب)
شرح قوله: (وعرفت الشرك بالله ...)
تفسير قول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
- هل تشمل هذه الآية الشرك الأصغر؟
- وجوب معرفة الشرك والخوف منه
- وجوب الحذر من الشرك مطلقاً
شرح قول المؤلف: (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل...)
- بيان أن التوحيد هو الدين الذي لا يقبل الله سواه
شرح قوله: (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا)
شرح قوله: (أفادك فائدتين)
الفائدة الأولى: الفرح العظيم بفضل الله ورحمته
الفائدة الثانية: الخوف العظيم من الوقوع في الشرك
خطر الشرك
الإنسان قد يكفر وهو يظن أنه يتقرب إلى الله تعالى
العالم قد يقع في أنواع من الشرك
شرح قوله: (خصوصاً إن ألهمك الله تعالى ما قص عن قوم موسى ...)
بطلان قول من زعم أن الجاهل يعذر مطلقاً
أهمية معرفة الشرك حتى لا يقع فيه
تفسير قول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
بطلان القول بأن من صدر عنه كُفرٌ فإنه لا يكفر حتى يعتقدْ
الجهل من أعظم الأسباب الموقعة في الشرك
مسألة العذر بالجهل
- لا يجوز التساهل في التكفير
- ما ينبغي أن ينظر فيه قبل الحكم بالتكفير
- لا يشترط في التكفير جهل المعين بالعقوبة إذا كان عالماً بالتحريم
- أهم شروط التكفير
- أنواع الجهل بالمكفّر
- بعض الموانع من التكفير
الأسئلة
س1: بين حكم الفرح بالتوحيد.
س2: بين خطر الشرك، وأهمية معرفته، وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من خوف الوقوع فيه.
س3: هل يمكن أن يكفر الإنسان وهو يريد التقرب إلى الله تعالى؟ وضح إجابتك مع ذكر الدليل.
س4: في مسألة العذر بالجهل أجب عن ما يلي:
أ: متى يعذر الإنسان بالجهل؟
ب: متى لا يعذر الإنسان بالجهل؟
ج: هل يعذر الجاهل بالعقوبة إذا كان عالماً بالتحريم؟
د: ما الذي ينبغي أن ينظر فيه قبل الحكم بتكفير المعيّن؟
هـ: اذكر أهم شروط التكفير.
و: تحدّث عن خطر الجرأة على التكفير.
س5: اذكر أنواع المشركين الذين قاتلهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكفّرهم.
س6: ما رأيك فيمن يقول: (لا يكفر الإنسان حتى يعتقد الكفر)؟
س7: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به …} الآية، وهل يدخل الشرك الأصغر في هذه الآية؟ اذكر أقوال العلماء في ذلك وتوجيهها.
س8: تحدث عن خطر الجهل بالتوحيد.