30 Oct 2008
الدرس السابع: بيان معنى توحيد العبادة وخطأ بعض المتأخرين في فهم هذا التوحيد
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ،
فَإِنَّ (الإِلهَ)
عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذي يُقْصَدُ لأَجْلِ هَذِهِ الأمُورِ سَوَاءً كَانَ
مَلَكاً، أو نَبِيّاً، أَو وَليّاً، أَو شَجَرةً، أَو قَبْراً، أَو
جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ (الإِلهَ)
هُوَ الخالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ كَما قَدَّمْتُ لَكَ، وَإِنَّما يَعْنُونَ (بِالإِلهِ) ما يَعْني به المُشْركُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ (السَّيِّدِ).
فَأتَاهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ مَعْنَاها، لا مُجَرَّدُ لَفْظِها.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مُرَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الكَلِمَةِ
هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعالى بِالتَّعلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ
مِنْ دُونِه، وَالبَراءةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لمَّا قَالَ لَهُمْ:((قُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
فَإِذا عَرَفْتَ أَنَّ
جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِسْلامَ وَهُوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ما عَرَفَ
جُهَّالُ الكُفَّارِ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُو التَّلَفُّظُ
بِحُروفِها مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَاني،
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاها لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ
وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ.فلا خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنى (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ) ).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ(1)،
فَإِنَّ (الإِلهَ)
عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذي يُقْصَدُ لأَجْلِ هَذِهِ الأمُورِ سَوَاءً كَانَ
مَلَكاً، أو نَبِيّاً، أَو وَليّاً، أَو شَجَرةً، أَو قَبْراً، أَو
جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ (الإِلهَ)
هُوَ الخالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ كَما قَدَّمْتُ لَكَ، وَإِنَّما يَعْنُونَ (بِالإِلهِ) ما يَعْني به المُشْركُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ (السَّيِّدِ)(2).
فَأتَاهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ مَعْنَاها، لا مُجَرَّدُ لَفْظِها.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مُرَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الكَلِمَةِ
هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعالى بِالتَّعلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ
مِنْ دُونِه، وَالبَراءةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لمَّا قَالَ لَهُمْ:((قُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(3).
فَإِذا عَرَفْتَ أَنَّ
جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِسْلامَ وَهُوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ما عَرَفَ
جُهَّالُ الكُفَّارِ(4)، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُو التَّلَفُّظُ
بِحُروفِها مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَاني(5)،
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ(6) يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاها لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ
وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ(7). فلا خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنى (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)(8) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعَنَى قَوْلِكَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ التَّوْحِيدِ بل صَرَّحَ لَكَ بكَلِمَتِهِ فَقَالَ: (هَذَا التَّوْحِيدُ) هو مَدْلُولُ هذه الكَلِمَةِ
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ (الإِلَهُ) المَعْبُودُ هو اللهَ وحْدَه دونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، هَذَا التَّوْحِيدُ هو مَعْنَى قَوْلِكَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) مُطَابَقَةً وهي التي وُضِعَتْ لَهُ، واشْتَمَلَتْ عَلَى رُكْنَيْنِ: النَّفْيِ، والإِثْبَاتِ؛ نَفْيِ الأُلُوهِيَّةِ عن كُلِّ مَا سِوَى اللهَ، وإِثْبَاتِهَا للهِ وَحْدَه.
ومَعْنَاهَا لاَ مَعْبُودَ حَقٌّ إِلاَّ اللهُ وحدَه؛ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ فَعِبَادَتُهُ وتَأَلُّهُهُ أَبْطَلُ البَاطِلُ وأَضَلُّ الضَلاَلِ.
(2) (فَإِنَّ الإِلَهَ عِنْدَهُمْ) أي: عندَ
أَهْلِ اللِّسَانِ مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِم الذِينَ بُعِثَ فيهم النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخَاطَبَهُم بقَوْلِهِ:((قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا)) (هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ) بالذَّبْحِ والنَّذْرِ والدُّعَاءِ ونَحْوِ ذَلِكَ (لأَِجْلِ هذه الأُمُورِ) وهي طَلَبُ الشَّفَاعَةِ والتَّقْرِيبِ إلى اللهِ (لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الإِلَهَ)
إِذْ قَالُوا: إِلَهٌ أَنَّهُ - يَرْزُقُ حَقِيقَةً؟ لاَ، هَذَا
يُكَذِّبُهُ القُرْآنُ، بَلْ جَاءَ القُرْآنُ بِأَنَّهُم يَقُولُونَ
يُصْلِحُونَ ويَنْفَعُ إِذَا اعْتَقَدَ فيه وأَنَّه يَتَصَرَّفُ
بالشَّفَاعَةِ عِنْدَ رَبِّ الجَمِيعِ. نَعَمْ في آخِرِ الزَّمَانِ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّه يَفِيضُ عَلَيْهِ مِن بَرَكَتِهِ (هو الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فَإِنَّهُم يَعْلَمُونَ أنَّ ذَلِكَ للهِ وحْدَه) كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ بأَدِلَّتِهِ مِن الكِتَابِ كقَوْلِهِ:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}الآيةَ ونَحْوَهَا. (وإِنَّما يَعْنُونَ بالإِلَهِ مَا يَعْنِي المُشْرِكُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ السَّيِّدِ)
إِذَا قَالُوا: هَذَا سَيِّدٌ، يَعْنِي: إِلَهٌ، وإِنْ لَمْ
يَسْتَشْعِرُوا هذا اللَّفْظَ، لَكِنَّ المَعْنَى أَنَّه يَصْلُحُ لأَِنْ
يُوَسَّطَ بَيْنَ أَحَدٍ مِن الخَلْقِ وبَيْنَ اللهِ، وأَنَّ الاعْتِقَادَ
فِيهِ يَنْفَعُ إِذَا تُشُبِّثَ بِهِ وطُلِبَ منه أَنْ يَطْلُبَ لَهُم مِن
اللهِ حَوَائِجَهُم، يَعْنُونَ أَنَّ هَذَا وَلِيٌّ وهَذَا مُعْتَقَدٌ
لَنَا، بِمَعْنَى: أَنَّ المُعْتَقَدَ فيه يَنْفَعُهُ ويُجِيبُهُ، وأَنَّه
يَصْلُحُ للالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، فَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ ليُقَرِّبَهُم
إِلَى اللهِ؛ يَعْنِي: أَنَّهُم وَسَائِطُ.
(3) (فَأتَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)
التي فيها إِبْطَالُ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُونَ به على غَيْرِ اللهِ
بِشَيْءٍ مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ المُفْرِدَةِ رَبَّ العَالَمِينَ
بالأُلُوهِيَّةِ اسْتِحْقَاقًا وعَمَلاً وفَهْمًا لذلك (والمُرَادُ مِن هَذِه الكَلِمَةِ) كَلِمَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ (مَعْنَاهَا لاَ مُجَرَّدُ لَفْظِهِا)
فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي فيما أُرِيدَ بِهَا، وإِنْ كَانَ لاَبُدَّ مِن
النُّطْقِ بِهَا عِنْدَ إِسْلاَمِ العَبْدِ، لَكِنْ هي مَقْصُودَةٌ
لغَيْرِهَا وهو العَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، هي مِن الوَسَائِلِ لاَ
مِن الغَايَاتِ، فَلاَ يَكْفِي اللَّفْظُ بدونِ المَعْنَى، ولاَ يَكْفِي
المَعْنَى بدونِ اللَّفْظِ.
(والكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِه الكَلِمَةِ هو إِفْرَادُ اللهِ بالتَّعَلُّقِ والكُفْرُ بـ) جَمِيعِ (مَا يُعبَدُ مِن دونِهِ)
كَهُبَلَ ونَحْوِهِ، وهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ
(والبَرَاءَةُ منه) وأَنْ يَتَبَرَّأَ منه، ودَلِيلُ ذلك وبرْهَانُه
(فإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُم: قَولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَرُّوا واسْتَنْكَرُوا مِن إِفْرَادِ اللهِ بالعِبَادَةِ و
(قَالُوا: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ))
) أي: أَجَعَلَ المَعْبُودَاتِ مَعْبُودًا واحِدًا؟! فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُم عَرَفُوا مَعْنَاهَا، وقَالُوا فيما حَكَاهُ اللهُ عنهم: {إِنَّهُمْ
كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ
(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}.
فالتَّوْحِيدُ هو الحَقُّ وهو النَّورُ،
لَكِنَّ عُقُولَهُم فَسَدَتْ وأَفْسَدَ مِزَاجَهَا الشِّرْكُ؛ لأَِنَّهَا
نَشَأَتْ عَلَيْهِ وأَلِفَتْهُ، فَصَارَتْ لاَ تَسْتَنْكِرُه، فَصَارُوا
كالمَرِيضِ الذي إِذَا أُتِيَ بالشَّيِءِ الحُلْوِ قَالَ: هذا مُرٌّ؛
لفِسَادِ مِزَاجِهِ، ولَمْ تَنْشَأْ عَلَى التَّوْحِيدِ فاسْتَنْكَرَتْهُ.
(4) (فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ جُهَّالَ الكُفَّارِ) كأَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هذه الأُمَّةِ وَأَضْرَابِهِ (يَعْرِفُونَ ذَلِكَ) يَعْنِي: مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) كَمَا تَقَدَّمَ
(فَالعَجَبُ مِمَّن يَدَّعِي الإِسْلاَمَ) بل يَدَّعِي العِلْمَ، بل يَدَّعِي الإِمَامَةَ في الدَّينِ
(وهو لاَ يَعْرِفُ مِنْ هَذِه الكَلِمَةِ مَا عَرَفَهُ جُهَّالُ الكُفَّارِ)
فَإِنَّ هذا -ادِّعَاؤُهُ الإِسْلاَمَ- فَضْلاً عن العِلْمِ فَضْلاً عن
الإِمَامَةِ- ويَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الذي بَانَ وظَهَرَ لجُهَّالِ
الكُفَّارِ- هَذَا في الحَقِيقَةِ مِن أَعْجَبِ العَجَبِ، بل مِن أَعْظَمِ
الجَهْلِ وأَفْحَشِ الخَطَأِ.
(5) (بَلْ يَظُنُّ أنَّ ذلك هو التَّلَفُّظُ بِحُرُوفِهَا مِن غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِن المَعَانِي) فَإِنَّ أَبَا جَهْلٍ وأَضْرَابَه
لو يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا هو المُرَادُ لَمَا تَلَعْثَمُوا في قَوْلِهَا
ولا نَازَعُوا، وكذلك لو فَهِمُوا أَنَّ المُرَادَ الرُّبُوبِيَّةُ
لَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنَازِعُوا، لَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ
مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الإِلَهُ المَعْبُودُ هو اللهَ وحْدَه دونَ كُلِّ
مَا سِوَاه والتَّبَرِّي مِمَّا سِوَاه، وأَنَّه لاَبُدَّ مِن اعْتِقَادِ
ذَلِكَ ووُجُودِهِ في العَمَلِ، وأَنَّها تُبطِلُ جَمِيعَ مَا هُم عَلَيْهِ
مِن دِينِ آبَائِهِم وأَجْدَادِهِم.
(6) (وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ) الذي يَرَى أَنَّ المُرَادَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ اللَّفْظِ يُخْطِئُ المَعْنَى المُرَادَ ولا يَعْرِفُهُ.
(7) (يَظُنُّ أَنَّ مَعَنَاها: لاَ يَخْلُقُ وَلاَ يَرْزُقُ وَلاَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ) يَعْنِي: أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ومَعْلُومٌ أَنَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) دَلَّت عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بالتَّضَمُّنِ، لَكِنَّ مَعْنَاها الذي وُضِعَتْ لَهُ مُطَابَقَةً أَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَه هو المَعْبُودَ دونَ كُلِّ مَن سِوَاهُ.
(8) (فَلاَ خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) هَذَا
رَجُلُ سَوْءٍ لاَ خَيْرَ فيه، هَذَا أَقَلُّ مَا يُقَالُ فيه؛
فالمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ واقْتَصَدَ عَلَى أَدْنَى مَا يُقَالُ فيه، وإِلاَّ
فهو يَسْتَحِقُّ أَعْظَمَ، بل لاَ خَيْرَ فيه بِحَالٍ، إِذَا كَانَ أَبُو جَهْلٍ فِرْعَوْنُ
هَذِه الأُمَّةِ وأَضْرَابُه أَعْلَمَ منه بِمَعْنَاهَا فَلاَ جَهْلَ
فَوْقَ جَهْلِ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى هَذِه الكَلِمَةِ التي هي أَصْلُ دِينِ
الإِسْلاَمِ وقَاعِدَتُه وأَسَاسُهُ.
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ(1)،
فَإِنَّ (الإِلهَ)
عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذي يُقْصَدُ لأَجْلِ هَذِهِ الأمُورِ سَوَاءً كَانَ
مَلَكاً، أو نَبِيّاً، أَو وَليّاً، أَو شَجَرةً، أَو قَبْراً، أَو
جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ (الإِلهَ)
هُوَ الخالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ كَما قَدَّمْتُ لَكَ، وَإِنَّما يَعْنُونَ (بِالإِلهِ) ما يَعْني به المُشْركُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ (السَّيِّدِ)(2).
فَأتَاهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ(3) مَعْنَاها، لا مُجَرَّدُ لَفْظِها.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مُرَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الكَلِمَةِ
هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعالى بِالتَّعلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ
مِنْ دُونِه(4)، وَالبَراءةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لمَّا قَالَ لَهُمْ: ((قُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
فَإِذا عَرَفْتَ أَنَّ
جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ(5)؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِسْلامَ وَهُوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ما عَرَفَ
جُهَّالُ الكُفَّارِ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُو التَّلَفُّظُ
بِحُروفِها مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَاني،
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاها لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ
وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ. فلا خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنى (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)(6) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قولُهُ: (وهذا التَّوحيدُ هوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: أنَّ التَّوحيدَ الَّذي دَعَا إليهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ هوَ مَعنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: لا مَعْبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ،
فَهُمْ يَعْلَمونَ أنَّ مَعناها: لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ،
وليسَ مَعْناها: لا خالِقَ، أوْ لا رازِقَ، أوْ لا مُدَبِّرَ إلاَّ اللهُ،
أوْ لا قادِرَ على الاخْتِراعِ إلاَّ اللهُ، كما يَقولُهُ كثيرٌ مِن
المُتَكَلِّمينَ، فإنَّ هذا المعنى لا يُنْكِرُهُ المُشْرِكونَ ولا
يَرُدُّونَهُ، وإنَّما يَرُدُّونَ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ، كما قالَ تعالى عنْهم: {أَجَعَلَ
الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ
الْمَلأَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ
الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}.
(2) يُرِيدُ رَحِمَهُ اللهُ بَيانَ أنَّ المشركينَ لا يُرِيدونَ بِقوْلِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أيْ: لا مُدَبِّرَ ولا خالِقَ إلاَّ اللهُ؛ لأنَّهم يَعْرِفونَ أنَّ ذلكَ حقٌّ، وإنَّما يُنْكِرونَ مَعْناها: لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ.
وهذا الَّذي بَدَأَ بهِ المُؤلِّفُ وأَعَادَ إنَّما قالَهُ لِلتَّأكِيدِ
والرَّدِّ على مَنْ يَقولُ: إنَّنا لا نَعْبُدُ الملائكةَ أوْ غيرَهم إلاَّ
مِنْ أجْلِ أنْ يُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلْفَى، ولسْنا نَعْتَقِدُ أنَّهم
يَخْلُقُونَ أوْ يَرْزُقونَ.
(3) قولُهُ: (مِنْ هذهِ الكلمةِ) أيْ: قَوْلِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ).
(4) هذهِ الجُمْلةُ كالَّتي قبلَها يُبَيِّنُ فيها رَحِمهُ اللهُ أنَّ معْنَى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) : لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ، وأنَّ المشرِكِينَ قدْ فَهِمُوا هذا مِنها، وعَلِمُوا أنَّهُ ليْسَ المُرادُ بها مُجَرَّدَ لَفْظِها، وأنَّ المرادَ بِها:(لا معبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ) ولهذا أَنْكَرُوهُ، معَ أنَّهم لا يُنْكِرونَ أنَّ اللهَ وحْدَهُ هوَ الخالقُ الرَّازقُ.
(5) أيْ: يَعْرِفونَ أنَّ معنى لا إلهَ إلاَّ اللهُ: لا مَعْبودَ حقٌّ إلاَّ اللهُ.
(6) يُرِيدُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مِن النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي الإِسلامَ ولا يَعْرِفونَ معنى كَلِمةِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) حيثُ يَظُنُّونَ أنَّ المقصودَ هوَ التَّلفُّظُ بِحروفِها دُونَ معْرفةِ معناها واعْتِقادِهِ.
ومِن النَّاسِ: مَنْ يَظُنُّ أنَّ المرادَ بها توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، أيْ: لا خالقَ إلاَّ اللهُ، ولا رازقَ إلاَّ اللهُ.
ومِن النَّاسِ: مَنْ
يُفَسِّرُها بأنَّ المرادَ بها: إخْراجُ اليَقِينِ الصَّادقِ عنْ ذاتِ
الأشياءِ، وإدْخالُ اليقينِ الصَّادقِ على ذاتِ الله، وهذا التَّفْسِيرُ
باطلٌ، لمْ يَعْرِفْهُ السَّلَفُ الصَّالحُ، وليسَ المرادُ بهِ أن
تَتَيَقَّنَ باللهِ عزَّ وجلَّ، وتُخْرِجَ اليقينَ مِنْ غيرِهِ؛ لأنَّ هذا
لا يُمْكِنُ، فإنَّ اليقينَ ثابتٌ في غيرِ اللهِ {لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ}[التَّكاثرُ: 6، 7]، وتَيَقُّنُ الأشياءِ الواقعةِ الحِسِّيَّةِ المعلومةِ لا يُنافِي التَّوحيدَ.
ومِن النَّاسِ: مَنْ يُفَسِّرُها بأنَّهُ: لا معبودَ إلاَّ اللهُ، وهذا التَّعرِيفُ لا يَصِحُّ على ظاهِرِهِ؛ لأنَّ هناكَ أشياءَ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ عزَّ وجلَّ. فيَكونُ
هؤلاءِ أَجْهَلَ مِن الجُهَّالِ الَّذين بُعِثَ فيهم رسولُ اللهِ صلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنَّهم كانوا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعْناها ما لا
يَعْرِفُهُ هؤلاءِ (1).
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) فالخطأ الواقع من هذه الطوائف يرجع إلى أحد أمرين:
أحدهما: إلغاء رعاية معناها والاكتفاء بالتلفظ بحروفها.
والآخر: الغلط في معناها على نحو ما ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ.
والمعتمد بدلائل الشرع رعاية معناها، وعدم الاكتفاء بالتلفظ بها، وأن معناها: لا معبود حقٌ إلا الله.
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ(1)،
فَإِنَّ (الإِلهَ)
عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذي يُقْصَدُ لأَجْلِ هَذِهِ الأمُورِ سَوَاءً كَانَ
مَلَكاً، أو نَبِيّاً، أَو وَليّاً، أَو شَجَرةً، أَو قَبْراً، أَو
جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ (الإِلهَ)
هُوَ الخالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ كَما قَدَّمْتُ لَكَ(2)، وَإِنَّما يَعْنُونَ (بِالإِلهِ) ما يَعْني به المُشْركُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ (السَّيِّدِ)(3).
فَأتَاهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(4).
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ مَعْنَاها، لا مُجَرَّدُ لَفْظِها.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مُرَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الكَلِمَةِ
هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعالى بِالتَّعلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ
مِنْ دُونِه، وَالبَراءةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لمَّا قَالَ لَهُمْ:((قُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(5).
فَإِذا عَرَفْتَ أَنَّ
جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِسْلامَ وَهُوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ما عَرَفَ
جُهَّالُ الكُفَّارِ(6)، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُو التَّلَفُّظُ
بِحُروفِها مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَاني،
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاها لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ
وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ(7). فلا خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنى (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)(8) ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) أيْ: معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) هو توحيدُ الألوهيةِ لا توحيدُ الربوبيةِ؛ لأنهُ لو كانَ معناها توحيدَ الربوبيةِ لما قال الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلمَ للمشركينَ:((قولوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ))
لأنهم يقولونَ إن اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المحيي المميتُ؛ لأنهُ حينئذٍ
يطلبُ منهمْ تحصيلَ حاصلٍ ويقاتلُهمْ على شيءٍ يعترفونَ بهِ ويقرُّونَ بهِ.
(2) هذا تعليلٌ لما سبقَ في تقريرِ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وأنهُ توحيدُ الألوهيةِ؛ لأنَّ (الإلهَ) عندَ مشركي العربِ: هو الذي يقصدُ لقضاءِ الحاجاتِ وتفريجِ الكرباتِ وإغاثةِ اللهفاتِ،وليس (الإلهُ) عندَهُم:هو الذي يخلقُ ويرزقُ ويدبرُ، ليس هذا هو الإلهُ عندهم، فالشركُ عندَهمْ لم يقعْ في توحيدِ الربوبيةِ وإنما وقعَ في توحيدِ الإلهيةِ.
(3) أيْ: ليسَ (الإلهُ) عندَ المشركينَ هو الخالقُ الرازقُ المدبرُ؛ لأنَّ هذا معنى الربِّ، وفرقٌ بينَ معنى (الربِّ) ومعنى (الإلهِ) وفرقٌ بينَ توحيدِ الربوبيةِ وتوحيدِ الألوهيةِ
(وإنما يعنونَ بالإلهِ ما يعني المشركونَ في زماننا) أيْ زمانِ المؤلفِ
(بلفظِ السيدِ) وإلى الآنَ يسمونَ هؤلاءِ الذين يدَّعونَ صلاحَهم ويتقربونَ
إليهمْ يسمونَهم (السادةَ) كالسيدِ البدويِّ والسيدِ الرفاعيِّ والسيدِ التيجانيِّ
إلى غيِر ذلكَ، يعتقدونَ أن هؤلاءِ السادةَ لهمْ منزلةٌ عندَ اللهِ
تؤهلُهمْ أن يتوسطُوا لهمْ عندَ اللهِ وتؤهلُهمْ أن يُدعَوا من دونِ اللهِ
ويُذبحَ وينذرَ لهمْ ويطافَ بقبورِهمْ ويتبركَ بها.
(4) كلمةُ التوحيدِ - وهيَ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) - معناها: لا معبودَ بحقٍّ إلاَّ اللهُ، وهو الذي بعثَ اللهُ به رسولَهُ إلى المشركينَ، ولمْ يبعثْهُ إليهمْ يدعوهم إلى توحيدِ الربوبيةِ؛ لأنهمْ مقرونَ بهِ.
ومن
قالَ إنه يكفي فإنه يلزمُ عليهِ تغليطُ الرسولِ وأنهُ قاتلَ أناساً
مسلمينَ يعترفونَ بـ (لا إلهَ إلا اللهُ) إذا فسرناها بتوحيدِ الربوبيةِ
وهو الإقرارُ بالخالقِ الرازقِ القادرِ على الاختراعِ، ومعَ الأسفِ هذا
التفسيرُ الخاطئُ لِـ (لا إلهَ إلا اللهُ)
موجودٌ في كتبِ العقائدِ التي ألفها علماءُ الكلامِ وعلماءُ المنطقِ من
المعتزلةِ والأشاعرةِ والتي تُدَرَّسُ في كثيرٍ من المعاهدِ الإسلاميةِ
الآنَ، عقائدُهمْ مبنيةٌ على هذا الرأي، وأن (الإلهَ)
معناهُ القادرُ على الاختراعِ، فمن اعترفَ أن اللهَ هو الخالقُ الرازقُ
يعتبرُ مُوحداً، وأما من اعتقدَ أن أحداً يخلقُ أو يرزقُ معَ اللهِ فهذا هو
المشركُ عندَهم، معَ أن الشركَ إنما وقعَ في توحيدِ الألوهيةِ ولم يقعْ في
هذا، وليس هذا هو معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) وإنما معناها: لا معبودَ بحقٍّ إلاَّ اللهُ.
فمن قال: (لا إلهَ إلا اللهُ)
وجبَ عليهِ أن يفردَ اللهَ بالعبادةِ وأن يتركَ عبادةَ ما سواهُ، فإن
المقصودَ من هذه الكلمةِ معناها والعملُ بمقتضاها لا مجردُ النطقِ بها دونَ
عملٍ بمعناها ومقتضاها. فمن قالها وهو يعبدُ غيرَ اللهِ لم يكنْ عاملاً بمقتضاها،وهو
تركُ الشركِ، ولا ينفعُهُ مجردُ النطقِ بها؛ لأنهُ قدْ ناقضَ فعلُهُ
قولَهُ، والمشركونَ الأولونَ لما سمعوا هذه الكلمةَ عرفوا معناها وأنه ليس
المقصودُ التلفظَ بها فقط، ولذلكَ قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.وفي وقتنا هذا وُجدَ من يفسرُ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) بأن معناها هو إفرادُ اللهِ بالحاكميةِ، وهذا غلطٌ؛ لأن الحاكميةَ جزءٌ من معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) وليستْ هي الأصلُ لمعنى هذه الكلمةِ العظيمةِ، بلْ معناها لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ بجميعِ أنواعِ العباداتِ،
ويدخلُ فيها الحاكميةُ، ولو اقتصرَ بعضُ الناسِ على الحاكميةِ فقامَ بها
دونَ بقيةِ أنواعِ العبادةِ لم يكنْ مسلماً، ولهذا تجدُ أصحابَ هذه الفكرةِ
لا ينهونَ عن الشركِ، ولا يهتمونَ به، ويسمونهُ الشركَ الساذَجَ، وإنما
الشركُ عندَهم الشركُ في الحاكميةِ فقط، وهو ما يسمونهُ الشركَ السياسيَّ،
فلذلكَ يُرَكِّزونَ عليهِ دونَ غيرِهِ.
(5) أيْ: الكفارُ يعرفونَ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ولهذا لما قالَ لهم صلى الله عليهِ وسلمَ: ((قولوا لا إلهَ إلاَّ الله)) قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}ولما قال لهمْ: ((قولوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ)){وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}.
فَهُمْ فهمُوا معنى (لا إلهَ إلا الله)
وأبَوا أن يعترفوا بهِ؛ لأنهُ يُلْزِمُهم بتركِ عبادةِ الأصنامِ وهم لا
يريدونَ هذا وإنما يريدونَ البقاءَ على عبادةِ الأصنامِ، ولم يجرؤُوا أن
يقولوا: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ)
ويبقَوا على عبادةِ الأصنامِ؛ لأن هذا تناقضٌ وهمْ يأنفونَ من التناقضِ في
حينِ أنَّ كثيراً من المنتمينَ إلى الإسلامِ اليومَ لا يأنفونَ من هذا
التناقضِ، فهم يقولونَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) بحروفِها ولكنَّهم يخالفونَها ويعبدونَ غيرَ اللهِ منَ القبورِ والأضرحةِ والصالحينَ بلْ والأشجارِ والأحجارِ وغيرِ ذلكَ.
فلا يكفي التلفظُ (بلا إلهَ إلاَّ اللهُ) دونَ علمٍ بمعناها وعملٍ بمقتضاها.
بلْ لابدَّ من العلمِ بمعناها أولاً ثمَّ العملِ بمقتضاها؛ لأنهُ لا يمكنُ أن يعملَ بمقتضاها وهو يجهلُ معناها، ولهذا يقولُ جلَّ وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ، فالذي يجهلُ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) لا يمكنُ أنْ يعملَ بمقتضاها على الوجهِ الصحيحِ. إِنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ، والعَارَ شَنِيعٌ، والوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَبِهُوا لِدِينِهِمْ ويَتَأَمَّلُوا دَعْوَةَ نَبِيِّهِمْ،
ويَفْقَهُوا دِينَهُم فِقْهًا صَحِيحًا، ويُقِيمُوهُ عَلَى أَسَاسٍ
سَلِيمٍ مِن عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، والبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ
وأَهْلِهِ، ولاَ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ التَّسَمِّي والانْتِسَابِ
إِلَيْهِ، مَعَ البَقَاءِ عَلَى الرُّسُومِ والعَادَاتِ المُخَالِفَةِ
لَهُ.
(6) هذا من أعجبِ العجبِ: أنَّ جُهَّالَ الكفارِ والمشركينَ في عهدِ النبي
صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يعرفونَ أن معنى هذه الكلمةِ هو إخلاصُ العبادةِ لله
وتركُ عبادةِ غيرِهِ، فلذلكَ امتنعوا من النطقِ بها تحاشياً لتركِ عبادةِ
آلهتِهمْ وتعصباً لباطلِهمْ.
ومن يدعي الإسلامَ اليومَ، لا يفهمُ أن معنى هذه الكلمةِ هو تركُ عبادةِ
القبورِ والأضرحةِ وإخلاصُ العبادةِ للهِ، فلذلكَ صار يقولُها وهو مقيمٌ
على شركِهِ لا يأنفُ التناقضَ والجمعَ بين الضدينِ، فصارَ جهالُ الكفارِ
أعلمَ منه بمعنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ)
ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ باللهِ العظيمِ، وصارَ هذا المدَّعِي للإسلامِ
يظنُّ أن المرادَ بهذهِ الكلمةِ هو النطقُ بحروفِها من غيرِ اعتقادٍ
لمعناها، فصارَ يرددُها ويرددُ معها دعاءَ الموتى والمقبورينَ ليلاً
ونهاراً.
(7) كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في (الرِّسَالَةِ التَّدْمُريَّةِ) وغَيْرِهَا عن عُلَمَاءِ الكَلاَمِ، أَنَّ (الإلَهَ)
عِنْدَهُم هو القَادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ، يَعْنِي هو الَّذي يَقْدِرُ
عَلَى الخَلْقِ والرَّزْقِ والإِحْيَاءِ والإِمَاتَةِ، ويَبْنُونَ
عَقَائِدَهُم عَلَى هذا، ويُفَسِّرُونَ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) بِهَذَا المَعْنَى، ويَجْعَلُونَ التَّوحِيدَ هو الإِقْرَارَ بتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ العَالِمِ مِنْهُمْ فَكَيْفَ بالجَاهِلِ؟! وَمَا
هَذَا إلاَّ مِن قِلَّةِ الاهْتِمَامِ بِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ،
والبَقَاءِ عَلَى دِينِ الآبَاءِ والأَجْدَادِ، والاكْتِفَاءِ مِن
الإِسْلاَمِ بِمُجَرَّدِ الانْتِسَابِ لأَِغْرَاضٍ وأَهْدَافٍ
دُنْيَوِيَّةٍ، اللهُ أَعْلَمُ بِهَا.
(8) لاَ خَيْرَ فِي رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ بل يَدَّعِي أَنَّه مِن
أَهْلِ العِلْمِ، ولاَ يَفْهَمُ مَعْنَى لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ كَمَا
فَهِمَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ وعَرَفُوا مَعْنَاهَا.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ،
فَإِنَّ (الإِلهَ)
عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذي يُقْصَدُ لأَجْلِ هَذِهِ الأمُورِ سَوَاءً كَانَ
مَلَكاً، أو نَبِيّاً، أَو وَليّاً، أَو شَجَرةً، أَو قَبْراً، أَو
جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ (الإِلهَ)
هُوَ الخالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ فإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ كَما قَدَّمْتُ لَكَ، وَإِنَّما يَعْنُونَ (بِالإِلهِ) ما يَعْني به المُشْركُونَ في زَمَانِنَا بِلَفْظِ (السَّيِّدِ).
فَأتَاهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُمْ إِلى كَلِمةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ مَعْنَاها، لا مُجَرَّدُ لَفْظِها.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مُرَادَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الكَلِمَةِ
هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعالى بِالتَّعلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ
مِنْ دُونِه، وَالبَراءةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لمَّا قَالَ لَهُمْ:((قُولُوا: لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
فَإِذا عَرَفْتَ أَنَّ
جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِسْلامَ وَهُوَ لا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ ما عَرَفَ
جُهَّالُ الكُفَّارِ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُو التَّلَفُّظُ
بِحُروفِها مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَاني،
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاها لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ
وَلا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ.فلا خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنى (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ) ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال رحمه الله: (وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله) هذا التوحيد الذي سبق بيانه: وهو إفراد الله -جلّ وعلا- بالقصد، بالذبح، بالنذر، بالاستغاثة، بجميع أنواع العبادة، هذا هو التوحيد، وهو معنى: (لا إله إلا الله).لأن كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات، فالنفي (بلا) والإثبات (بإلا).والذي نفي (بلا) هو استحقاق العبادة، أو أن يكون ثم إله حق غير الله جل وعلا، فلا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله.لأن كلمة (إله) هذه معناها معبود، وهذا هو المعروف في العربية، وهو المعروف في حال العرب أيضاً؛ لأن (إله) هذه فعال بمعنى (مفعول) مثل: فراش بمعنى مفروش، وأشباه ذلك، وبناء بمعنى مبني.
فإله:بمعنى (مألوه) وأَلَه يأَله إلاهة، معناها: عبد يعبد عبادةً مع الحب والتعظيم.
فإذاً: يكون معنى الألوهية: العبودية، ومعنى توحيد الألوهية: توحيد العبودية.
توحيد الإلهية:توحيد العبادة، ويكون معنى الإله: المعبود.
ولهذا اسم (الله) الذي ترجع إليه، أو تجتمع فيه صفات الكمال (الله) هذا معناه: المعبود الحق؛ قال بعضهم: (الله) علم على المعبود بحق.
فـ(الله) أصلها (الإله) على الصحيح في أنها مشتقة وإنما أطلق عليها، يعني: خففت الهمزة في (الإله) فصارت (الله) لكثرة دعائه ورجائه والتوسل إليه باسمه هذا، ونحو ذلك.
المقصود: أن كلمة (لا إله) هذه فيها العبودية، وهذا هو المتقرر في العربية وفي القرآن، كما قال -جل وعلا- في سورة النمل - فيما ذكرنا - {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}يعني: أمعبود مع الله؟! لأنهم إنما جعلوا معبوداً مع الله ولم يجعلوا رباً مع الله جل جلاله، ومن ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس المشهورة، في سورة الأعراف: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَالِهَتَكَ} يعني: وعبادتك، ومنه أيضاً قول الراجز في شعر ذكرناه مرارا:
لله در الغانيات المدّه ................. سبحن واسترجعن من تألهي
يعني: من عبادتي.
فالتأله، وأله يأله، والإلهة، والألوهة، إلى ما يشتق من هذا المصدر، هذا كله راجع إلى معنى التعبد، العبادة.
فإذاً:هذه المادة: مادة العبادة، وليست مادة للسيادة والتصرف في الأمر.
وهذا
هو المعروف عند العرب، وهو المعروف عند الصحابة والتابعين، إلى أن ترجمت
كتب اليونان وصار هناك خلط بين ما جاءت به الشريعة وما في علوم اليونان.
فالذين
ترجموا هذه الكتب قرأها من قرأها، وجعلوا القصد الأعظم أن ينظر المرء في
هذا الملكوت، ويثبت ربوبية الله جل وعلا، لهذا قالوا: المقصود الأول هو
الربوبية، فإذا أثبت المرء بالنظر أن الله -جل وعلا- هو الموجد لهذا
الملكوت صار مقرا ومؤمنا.
فالمتكلمون حين تأثروا باليونان في مدارسهم في النظر وفي الفلسفة جعلوا معنى الإله راجعاً للربوبية، والمتكلمون في ذلك على قولين:
منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع، وهذا في كثير من كتب المتكلمين.
ومنهم من يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
والأول
والثاني وكل منهما قول لطائفة من المتكلمين والأشاعرة والماتريدية إلى غير
هذه الفئات، فعلى كل قولٍ منها يكون الإله مفسراً بالربوبية؛ لأن القادر
على الاختراع، القدرة على الخلق هذه ربوبية، والمستغني عما سواه المفتقر
إليه كل ما عداه، هذه أيضاً ربوبية، فهي من صفات الربوبية لا من صفات
الألوهية.
لمّا
حصل هذا في المسلمين، وتُدُووِل هذا القول، صار معلم الإيمان عند أولئك ألا
يقر بوجود ربين، ويعبرون عن ذلك ألا يقر بوجود إلهين، ولهذا في آية سورة
الأنبياء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.يجعلون هذه الآية دليلاً على إثبات تفرد الله -جل وعلا- بالربوبية،ويقولون: هذه الآية هي دليل التمانع.ومعنى ذلك عندهم:أن
وجود إلهين يقتضي أن يتصرف هذا في ملكوته، وأن يتصرف هذا في جزء من
الملكوت، وهذا في جزء من الملكوت، ولابد أن يحصل تـمانع، لابد أن يحصل
اضطراب؛ لأن هذا له إرادة وهذا له إرادة.وجعلوا الإله هنا هو الرب في نفسه؛ ولهذا جعلوها دليلاً على توحيد الربوبية الذي هو الغاية عندهم. فدخل
هذا في المسلمين، ولما دخل وتوسع الناس في اتباع مذهب الأشاعرة،
والماتريدية، والمعتزلة، وطرق المتكلمين؛ صارت الغاية عندهم هي توحيد
الربوبية، ولهذالم يصر أولئك عندهم مشركين، وهذه أعظم فتنة حصلت في الصد عن
لا إله إلا الله، وهو تفسيرها بتوحيد الربوبية، لهذا تجد في عقائد
الأشاعرة كما في (السنوسية الكبرى) المسماة عندهم (بـأم البراهين) يقول فيها ما ذكرته لكم قبل ذلك، يقول: (الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه).
فمعنى (لا إله إلا الله): لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله.
هذا التفسير وهذه الكلمة على هذا النحو ليست هي كلمة (لا إله إلا الله) إنما هي كلمة لا رب في الوجود إلا الله، والإله غير الرب.
الألوهية مادة، والربوبية مادة؛ ولهذا ساغ نعت اسم (الله) بـ(رب العالمين) في قوله جلّ وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولو كانت الربوبية هي الألوهية، أو كانت الألوهية هي الربوبية؛ لكان نعتاً للشيء بنفسه، وهذا زيادة في الكلام ينزه عنها في القرآن.
المقصود من ذلك: أن
معنى الإلهية عند المتكلمين ومن نحا نحوهم هو الربوبية، ولهذا دعا
المشركون وعلماء المشركين إلى التوسط بهؤلاء الأموات؛ لأن هذا لا يقدح
التوحيد؛ لأن التوحيد عندهم هو الربوبية. فالقاعدة التي بُني عليها استحسان الشرك والتساهل فيه
هو
الخلاف في تفسير كلمة التوحيد، وذلك لأنهم جعلوا كلمة التوحيد معناها
القدرة على الاختراع، وأنه لا قادر على الاختراع وعلى الخلق إلا الله جل
وعلا، وهذا يؤمن به أبو جهل وأبو لهب وكل من قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام.
لهذا قال هنا الشيخ رحمه الله: (وهذا
التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله - يعني الذي سبق ذكره قبل ذلك - فإن
الإله عندهم - يعني عند العرب - هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان
ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرةً، أو قبراً، أو جنياً، لم يريدوا أن
الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) وهذا بيقين؛ لأن الله -جل وعلا- قال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
-وقال: {وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
-وقال:{قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ
اللَّهُ}.
فإذاً:
جل مفردات الربوبية نسبوها لله -جل وعلا- وحده ولم يجعلوا لآلهتهم منها
شيئاً، ولهذا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده؛ لأنهم يعلمون أن هذا
المطلب العظيم إنما يستقل به الله وحده، ولا يحب إلا أن يكون الإقبال عليه
وحده فيه، ولأن آلهتهم بعدت عنهم. وهذا مخالف لقول المتكلمين ومن نحا نحوهم: إن (لا إله إلا الله)
هي لا قادر على الاختراع إلا الله؛ لأن العرب لم يشكوا في أن هذه الكلمة -
إنما جاءت للألوهية، لا للقدرة على الاختراع، وإلا لقالوا: نحن نؤمن بهذا،
ولكن قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وهذا بيقين.قال الشيخ رحمه الله: (لم
يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده
كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) السيد في لغة العرب: هو المتصرف المطاع في ملكه، والسيادة تختلف مثل (الرب) فتكون إضافة، هذا سيد فلان، سيد البيت، وهذا سيد القبيلة، وهذا رب الإبل، وهذا رب المال، وأشباه ذلك. لفظ (السيد) هو بمعنى لفظ (الرب) مع اختلاف بينهما.فمعنى السيد في لغة العرب: المتصرف
الذي يدبر الأمر ويرجع إليه تدبير ما يملك، هذا هو السيد، له السيادة في
الملكوت، له السيادة في ملكه، لكن في العرف الذي عليه الناس في زمن الشيخ
وما قبله إلى وقتنا هذا، أطلق لفظ السيد على خلاف معناه في العربية، ويراد
بالسيد: الذي بيده التوسط، أو بيده الإعطاء والمنع، أو الذي فيه السر.
ولهذا
يستعملون في السادة الذين يُقصدون لأجل العبادات والتوسط، يقولون فيهم:
قدس الله سر فلان، فلان قدس الله سره؛ لأنهم يجعلون لروحه سراً، ويطلقون
على هؤلاء لفظ (السيد) فمثلاً: تجد: السيد البدوي، السيدة زينب، السيد الحسين، السيد العيدروس، السيد الميرغني، السيد فلان، السيد فلان، السيد عبد القادر الجيلاني، وأشباه هذا؛ فيطلقون على (الإله) لفظ (السيد).(الإله) - في العربية الذي ذكرنا - عند الناس في هذا الزمان وزمن الشيخ هو ما يسمونه بـ(السيد).ومن المتقرر أن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، العبرة كما حرره وقرره -وهو معروف، لكن أطال عليه في هذا الموضع- الشوكاني والصنعاني، قالوا: (إن تغير الأسماء ومدلولاتها لا يغير الحقائق). فإنهم إذا سموا هؤلاء بالسيد، وعنوا بالسيد (الإله) فإنهم يحاسبون على ما قصدوا، لا على أصل اللفظ الذي لم يخطر لهم على بال أو لم يعنوه. فإذاً: كلمة (السيد) يراد منها (الإله) يراد منها ما يفهم من معنى كلمة (الإله) عند أهل العربية؛ لهذا قال هنا: (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) من هو السيد؟ الذي يقصد لأجل التوسط عند الله،
بل زاد بعضهم وجعل لهؤلاء السادة نصيباً في الملك من جهة التفويض،
فيقولون: هناك أوتاد في الأرض أُعطوا بعض التصرف في الملك، وبعد الأوتاد
هناك أقطاب لهم تصرف هؤلاء يرجعون إليهم، والأقطاب ترجع إلى الغوث الأكبر
في البلد، والأرض قسموها قسمة رباعية، وجعلوا لها أربعة أشخاص، هم الملاذ
والغوث الأعظم: ففي قسم البدوي، وفي قسم عبد القادر،
وفي قسم فلان وفلان، يعني: أنهم زادوا على شرك العرب في أن جعلوا لهؤلاء
تصرفاً في الملك، وهذا شرك في الربوبية مع كونه شركاً في الإلهية.
قال: (فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها) قوله: (المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها) لأن الإجماع منعقد على أن من بلغ مجنوناً فقال (لا إله إلا الله)
فإنه لا يحكم له بالإسلام، يعني: إذا كان مشركاً قبل ذلك، أو من ولد
مجنوناً ثم استمر وقال (لا إله إلا الله) فإنه لا يحكم له بالإسلام بهذه
الكلمة، وإنما يكون تبعاً لأبويه في تفصيل معروف.
فالمشرك الذي كان على الشرك ثم جن وقال (لا إله إلا الله) في جنونه مائة مرة، أو أكثر، بالإجماع عند أولئك المخالفين وعند أهل الحق أنه لا يدخل في الإسلام؛ لأنه تكلم بكلام لم يقصد معناه؛ لأنه لا يعقل المعنى.
لهذا: فالعبرة فيما تُعبد فيه من الألفاظ؛ العبرة بالإقرار بالمعنى لا بمجرد اللفظ ؛ وذلك لأن المنافقين قالوا هذه الكلمة ظاهراً وهم بنص القرآن والسنة هم كفار، في الدرك الأسفل من النار؛ فلم ينفعهم قول (لا إله إلا الله) لأنهم لم يقصدوا معناها، أو لأنهم خالفوا مادلت عليه.إذاً: فهذه الكلمة دليلها أنواع من الإجماع،وهي قوله: (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها).وهذه الإشارة منه -رحمه الله- لأجل أن كثيرين قالوا: هؤلاء الذين كفرتموهم، أوقلتم هم مشركون يشهدون أو يقولون: (لا إله إلا الله) ويتكلمون بذلك، ويذكرون الله في اليوم ألف مرة بلا إله إلا الله، فكيف تقولون ذلك والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالكف عمن قال: (لا إله إلا الله) وقال: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) إلى آخر ذلك. فيقال: إن قول الكلمة مع مخالفة المعنى هذا غير نافع بالإجماع فيما ذكرنا في المنافقين، وفي حال من بلغ مجنوناً.
قال: (والكفار
الجهال يعلمون أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة هو إفراد
الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه)
المراد بهذه الكلمة ثلاثة أشياء في كلمة الشيخ هذه:
الأمر الأول: (إفراد الله تعالى بالتعلق به) وهذا مأخوذ من النفي والإثبات؛ لأن (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود حق إلا الله، لا أحد يستحق العبادة والتعلق والقصد لأجل العبادة إلا الله جل وعلا.
فإذاً: المراد بهذه الكلمة: أولاً:إفراد الله تعالى بالتعلق به، يعني: حين التعبد.
والثاني : (والكفر بما يعبد من دونه) الكفر بما يعبد من دون الله، هذا نفهمه من النفي؛ لأن النفي معناه ما جاء في سورة الزخرف، في قول الله جل وعلا: {وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا
تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} بضميمة قول الله -جل وعلا- في سورة الممتحنة عن إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ}، {فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني: من المرسلين، الذين معه على التوحيد من المرسلين والأنبياء {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} كل نبي قال لقومه: {إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
إذاً: في آية الزخرف قال جل وعلا:{وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا
تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}وهذه الكلمة قال المفسرون: هي كلمة (لا إله إلا الله) فتكون كلمة (لا إله إلا الله) معناها: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}.
ومعنى البراءة هنا:هو
ما دلت عليه آية سورة الممتحنة، فشمل ذلك الكفر بما يعبد من دون الله،
وشمل البراءة منه؛ ولاحظ تعلق الكفر والبراءة بما يعبد، وليس بالعابدين؛
لأن الكفر بالعابدين من اللوازم وليس من معنى الكلمة، والبراءة من
العابدين، هذا من اللوازم وليس من معنى الكلمة.
الكلمة معناها - كلمة التوحيد - يشمل الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- هنا:
- إفراد التعلق بالله.
- البراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، أو البراءة من كل عبادة لغير الله جل وعلا.
والثالث: الكفر بكل معبود أو بكل عبادة إلا عبادة الله جل وعلا، الكفر بعبادة من دون الله جل وعلا، وهذا كله راجع للعبادة في نفسها.
أما العابدون: فهذا له حكم آخر وتفاصيل أخر.
إذاً:
ظهر لك وجه الحجة من كون هذه الثلاثة أشياء التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-
تعالى من معنى الكلمة، أو هو مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة.
قال رحمه الله: (فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}) هذا ظاهر في أنهم يعبدون آلهة، ولا يقرون بأن العبادة والقصد يتوجه به إلى واحد، بل يتوجه به إلى متعدد؛ وما بعده واضح حيث: قال: (فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة) إذا كان الكفرة مع علمهم بالمعنى كفروا، فكيف يكون حال الذي لا يعلم المعنى أصلا؟
يعني: لم يعلم المعنى أصلاً، ولم يأت على باله، بل هو يقع في الشرك مع عدم العلم بالمعنى؟
لا شك
أنه أسوأ حالاً من الذي يقع في الشرك مع علمه بالمعنى، فهذا يقع في الشرك
وهو غير عالم بالمعنى؛ لأن هذا فرط في واجب، وهو أن كلمة التوحيد لا تنفع
إلا من علمها فعمل بمقتضاها، وأولئك علموا فخالفوا، وهؤلاء المشركون في
الأزمنة المتأخرة جهلوا وخالفوا؛ فقالوا كلمة لم يعلموا معناها، فلم تنفعهم
من هذه الجهة، ثم خالفوها من جهة العمل؛ فلم تنفعهم أيضا من هذه الجهة،
ولو كان هؤلاء تنفعهم الكلمة لكان المنافقون الذين قالوا: (لا إله إلا الله) ينفعهم قولها؛ لأنهم يعلمون المعنى وتلفظوا بها، ومع ذلك لما أبطنوا الكفر وعملوا به كانوا أشر من الكفار.
قال: (بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني)
وهذا فيه إبطال التقليد في التوحيد، فإن توحيد الله -جل وعلا- لا يصلح على
جهة التقليد بل لا بد أن يعتقد المرء الحق بدليله مع علمه بمعنى كلمة
التوحيد ومعنى ما دلت عليه، وهذا الاعتقاد يكفيه أن يكون في عمره مرة
بدليله.
يعني:
لو علمه لحين دخوله في الإسلام، وعلم واستمر على المقتضى، استمر على ما
دلت عليه، ثم لو سألته نسي ما عرفه واعتقده بدليله فإنه غير مؤاخذ.
مثله المسلم الصغير المميز،فإنه
إذا عُلم هذه الكلمة، وأُخبر بمعناها، وفهم ذلك، وحفظ دليله أو عرف دليله
من الكتاب أو من السنة، واستمر على ذلك فإنه يكفيه؛ لأنه اعتقد الحق،
واعتقد معنى هذه الكلمة بالدليل غير مقلد في ذلك مرةً في عمره ثم لم يأت
بناقض لذلك الشيء. ولهذا: عندنا في المدارس في الابتدائي يُدرس الطالب أو الطالبة (ثلاثة الأصول)،
فيها معنى كلمة التوحيد والدليل عليها، وكذلك أركان الإيمان، يعني: مسائل
القبر الثلاثة المعروفة، والعلماء من قديم جعلوا ذلك للمتعلمين الصغار؛
لأنهم إذا عرفوا ذلك بدليله مرة في العمر صار إيمانهم بما دل عليه التوحيد
عن دليل لا عن تقليد، ولو نسوا بعد ذلك فإنه لا يؤثر ذلك؛ لأن نسيانهم ليس
من جهة ترك العمل بما دلت عليه، ولكن من جهة نسيان التفسير الذي يفصح لك
به، لكن لو سألته قلت: هل يدعى غير الله جل وعلا؟ فيقول: لا؛ مع أنه علم معنى الكلمة. لو سألته هل يستغاث بغير الله؟ قال: لا، معناه: أنه يعلم معنى الكلمة.بخلاف
من خالف المعنى وما دلت عليه بشيء حدث له، يعني: تسأله فيجيب بخلاف ما
تعلم سابقاً، فهذا يكون لا بد له من تجديد علمٍ بدليله، حتى يصبح خالصاً من
التقليد. قال: (والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله)
هذا الحاذق من أهل هذا الوقت من المشركين نسأل الله العافية، وما قبله
بأزمان، إذا سألته عن معنى كلمة التوحيد يفسرها بالربوبية، لماذا؟
المقصود من هذا:أن التقليد في التوحيد لا يجوز، ومن قلد في التوحيد فإنه لا ينفعه؛ لأن الله -جل وعلا- لام وذم أهل الشرك بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} وفي الآية الأخرى: {مُقْتَدُونَ}فلابد في التوحيد من دليل، ولا ينفع فيه التقليد، وقد أوضحت ذلك مع زيادة بيان وضوابط في شرح (ثلاثة الأصول) لأن هذا إنما أتى عرضاً.
لأنه هو الذي درسه في مذهب الأشعرية، أو مذهب الماتريدية، أو مذاهب المتكلمين. معنى كلمة التوحيد عندهم: لا قادر على الاختراع إلا الله، لا رازق إلا الله، لا محيي إلا الله، لا مميت إلا الله، فهذا هو الحاذق المتعلم فيهم. (فلا خير في رجلٍ جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله)
ولو كان صاحب عمامة وجبة، ولو كان ما كان، فإن علمه غير نافع؛ لأن هذه
الكلمة هي أساس كل خير، فإذا كان يجهل معناها فإنه لا خير فيه، ولو ادعى
فيه الناس ما يدعون.
العناصر
معنى كلمة التوحيد
- معنى كلمة (الإله) عند أهل اللسان العربي
- بيان غلط من قصر معنى التوحيد على توحيد الربوبية فقط
- خطأ المتكلمين في تفسير كلمة التوحيد
- الفرق بين الألوهية والربوبية
- خطأ من فسر كلمة التوحيد بأنها إخراج اليقين الصادق عن ذات الأشياء ...
- خطأ من فسر كلمة التوحيد بأنها: لا معبود إلا الله
- خطأ المتأخرين في فهم معنى كلمة التوحيد
- شرح قوله: (فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ...)
- شرح قوله: (ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق ...)
- شرح قوله: (فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد ...)
بيان أن المراد من كلمة التوحيد معناها لا مجرد لفظها.
- شرح قوله: (والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ...)
- شرح قوله: (فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك ...)
- شرح قوله: (بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب ...)
- شرح قوله: (والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ...)
مشركوا العرب أعلم بمعنى " لا إله إلا الله" من المشركين المتأخرين الذين يدّعون الإسلام
الأسئلة
س1: بيّن معنى كلمة التوحيد. واذكر خطأ المتأخرين في تفسيرها، والرد عليهم.
س2: ما معنى توحيد الربوبية؟
س4: اشرح قول المؤلف: (فلا خير في رجل؛ جُهال الكفار أعلم منه بمعنى "لا إله إلا الله").
س5: بين معنى الإخلاص لله تعالى.
س6: اذكر تفسيراً مختصراً لهاتين الآيتين:
أ: قوله تعالى:{أجعل الآلهة إلهاً واحداً}.
ب: بيان: قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.