الدروس
course cover
الدرس السادس: التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون هو توحيد العبادة
30 Oct 2008
30 Oct 2008

6911

0

0

course cover
كشف الشبهات

القسم الأول

الدرس السادس: التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون هو توحيد العبادة
30 Oct 2008
30 Oct 2008

30 Oct 2008

6911

0

0


0

0

0

0

0

الدرس السادس: التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون هو توحيد العبادة

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا، وَأنه لم يُدْخِلْهُم في التَّوحِيدِ الذي دعت إليه الرسل ودَعَاهُمْ إِليهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ؛ الَّذي يُسَمِّيهِ المشرِكُونَ في زَمَانِنَا: (الاعْتِقَادَ) كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الملائِكَةَ لأَجْلِ صَلاحِهِمْ وقُرْبِهِم مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَشْفَعُوا لَهُم، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً مِثْل: الَّلاتِّ، أَوْ نَبِيّاً مِثْلَ عِيسَى.
وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ على هذا الشِّركِ وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لا شريك له؛ كَما قَالَ تَعالى: {وأنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، وقَالَ تَعَالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}.
وتَحَقَّقْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُون الدين كله لله، والدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، والذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ، والنَّذْرُكُلُّهُ للهِ، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا باللهِ، وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَةِ كُلُّها للهِ.وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ،وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلائِكَةَ أو الأَنْبياءَ أو الأَوْلِياءَ، يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءهم وأمْوَالَهُمْ.عَرَفْتَ حِينَئذٍ التَّوحِيدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ،وَأَبى عن الإِقْرار بِهِ المُشْرِكُونَ).

هيئة الإشراف

#2

19 Nov 2008

شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

المتن:

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا(1)، وَأنه لم يُدْخِلْهُم في التَّوحِيدِ الذي دعت إليه الرسل ودَعَاهُمْ إِليهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ؛ الَّذي يُسَمِّيهِ المشرِكُونَ في زَمَانِنَا: (الاعْتِقَادَ) كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الملائِكَةَ لأَجْلِ صَلاحِهِمْ وقُرْبِهِم مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَشْفَعُوا لَهُم، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً مِثْل: الَّلاتِّ، أَوْ نَبِيّاً مِثْلَ عِيسَى
(2).
وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ على هذا الشِّركِ وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لا شريك له؛ كَما قَالَ تَعالى: {وأنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، وقَالَ تَعَالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}
(3).
وتَحَقَّقْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُون الدين كله لله، والدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، والذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ، والنَّذْرُكُلُّهُ للهِ، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا باللهِ، وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَةِ كُلُّها للهِ.وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ،وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلائِكَةَ أو الأَنْبياءَ أو الأَوْلِياءَ، يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءهم وأمْوَالَهُمْ.عَرَفْتَ حِينَئذٍ التَّوحِيدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ،وَأَبى عن الإِقْرار بِهِ المُشْرِكُونَ)
(4).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (فإِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهم مُقِرُّونَ بِهَذا) إِذَا تَحَقَّقْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهم مُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسْلاَمِ لَمْ يَكُونُوا مُوحِّدِينَ بل كَانُوا مُشْرِكِينَ، دَلِيلُ ذَلِكَ الآياتُ المُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا.
(2) (وَعَرَفْتَ أَنَّ التَوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ) وصَارُوا بِجَحْدِهِ كُفَّارًا حَلاَلَ الدَّمِ والمَالِ (هو تَوْحِيدُ العِبَادَةِ) . إِذَا تَأَمَّلْتَ مَا مَرَّ مِن قَوْلِهِ: (إِذَا تَحَقَّقْتَ) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وأَنَّه ليس تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ كَافِيًا في الدُّخُولِ في الإِسْلاَمِ، وأَنَّه لاَبُدَّ مِن ثَمَرَتِهِ وهو تَوْحيدُ الأُلُوهِيَّةِ، وأَنَّ التَّوْحِيدَ الذِي أَشْرَكُوا فيه ولَمْ يُخْلِصُوا فيه هو تَوْحِيدُ العِبَادَةِ (الذي يُسَمِّيهِ المُشْرِكُونَ في زَمَانِنَا الاعْتِقَادَ) فيَقُولُونَ: فُلاَنٌ فيه عَقِيدَةٌ، يَعْنِي: يَصْلُحُ أَنْ يُعْتَقَدَ فيه أَنَّه يَنْفَعُ، إِذَا ادَّعَوْا في شَخْصٍ الاعْتِقَادَ، يَعْنِي: الادِّعَاءَ فيه الأُلُوهِيَّةَ (كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ لَيْلاً ونَهَارًا) يَعْنِي: المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ يَدْعُونَ اللهَ لَيْلاً ونَهَارًا.(ثُمَّ منهم مَنْ يَدْعُو المَلاَئِكَةَ لأَِجْلِ صَلاَحِهِم وقُرْبِهِم مِن اللهِ ليَشْفَعُوا له، أو يَدْعُو رَجُلاً صَالِحًا مِثْلَ اللاَّتِ، أو نَبِيًّا مِثْلَ عِيسَى) مِن الأَوَّلِينَ في بَعْضِ الأَحْيَانِ مَن يَدْعُو المَلاَئِكَةَ … إلخ.

هذا هو حَقِيقَةُ شِرْكِهِم فقط، فحَقِيقَةُ دِينِهِم أَمْرَانِ:

الأَوَّلُ: أَنَّهُم يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يُحِبُّهُ اللهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَرِّبُهُم إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَتَقَرَّبُوا إلى اللهِ بِمَا يُبْعِدُهُم منه.

(3) (وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَاتَلَهُمْ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ} ) قِيلَ: المُرَادُ بالْمَسَاجِدِ: أَعْضَاءُ السُّجُودِ.وقِيلَ: المُرَادُ بِهَا: المَبْنِيَّةُ للصَّلَوَاتِ. والكُلُّ حَقٌّ؛ فالمَسَاجِدُ بُنِيَتْ ليُوَحَّدَ اللهُ فيها ولاَ يُعبَدَ فيها سِوَاهُ، والأَعْضَاءُ خُلِقَتْ ليُعْبَدَ بِهَا ولا يُعْبَدَ بِهَا سِوَاه {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَدًا} هذا عُمُومٌ دَاخِلٌ فيه جَمِيعُ المُخَاطَبِينَ مِن الأَنْبِيَاءِ وسَائِرِ المُكَلَّفِينَ. و{أَحَدًا} نَكِرَةٌ؛ لاَ حَجَرٌ ولاَ شَجَرٌ، ولاَ نَبِيٌّ ولاَ وَلِيٌّ. وكَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} فهو الحَقُّ، ودَعْوَتُه وَحْدَه هي الحَقُّ، وهو المُسْتَجِيبُ لدَاعِيهِ:

-كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعي إِذَا دَعَانِ}.
-{وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
-{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} وهَذِه مِن صِيَغِ العُمُومِ؛ تَشْمَلُ الأَنْبِيَاءَ والأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ. {شَيْءٍ} نَكِرَةٌ؛ فَشَمِلَتْ أيَّ نَوْعٍ وجِنْسٍ؛ فَعَمَّت المَدْعُوَّ وعَمَّت المَطْلُوبَ؛ فَأَيُّ مَدْعُوٍّ لاَ يَسْتَجِيبُ مِن أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وأَيُّ مَطْلُوبٍ لاَ يَحْصُلُ مِن أيِّ شَيْءٍ كَانَ، فَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ ودَعْوَتُهُم بَاطِلَةٌ، فإِنَّهُم مَا بَيْنَ مَيِّتٍ وغَائِبٍ وحَاضِرٍ لا يَقْدِرُ:
-قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ}.
-{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
-{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.
-{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
- {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}.
- {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}.
- {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الآيةَ.
فَدَعَاؤُهُم كَمَا أَنَّهُ شِرْكٌ فهو ذَاهِبٌ ضَياعًا وخَسارًا، فالمُشْرِكُ أَضَلُّ النَّاسِ وأَغْبَنُهُم صَفْقَةً في الدُّنيا والآخِرَةِ.

(4) (وتَحَقَّقْتَ) مِمَّا تَقَدَّمَ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، وَالذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ، وَالنَّذْرُ كُلُّهُ للهِ، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا بِاللهِ وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَاتِ كُلِّها للهِ، وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ، وَأَنَّ قَصْدَهُمْ المَلاَئِكَةَ، وَالأَنْبياءَ، وَالأَوْلِياءَ يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ، عَرَفْتَ حِينَئذٍ التَّوحيِدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ وَأَبَى عن الإِقْرَارِ بِهِ المُشْرِكُونَ) إِذَا تَأَمَّلْتَ مَا مَرَّ مِن قَوْلِهِ: (إِذَا تَحَقَّقْتَ) ومَا عُطِفَ عَلَيْهَا، تَبَيَّنَ لَكَ التَّوْحِيدُ الذي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وأَبَى عن الإِقْرَارِ بِهِ المُشْرِكُونَ، وعَرَفْتَ حَقِيقَتَهُ؛ أَنَّه تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ والعِبَادَةِ.عِبَارَةٌ أُخْرَى : فإِذَا عَرَفْتَ إِقْرَارَهُم بالرُّبُوبِيَّةِ هَانَ عَلَيْكَ مَا عَلَيْهِ المُتَأَخِّرُونَ واتَّضَحَ لَكَ دِينُ المُرْسَلِينَ مِن دِينِ المُشْرِكِينَ.

هيئة الإشراف

#3

19 Nov 2008

شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين

المتن:

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ(1) مُقِرُّونَ بِهَذَا(2)، وَأنه لم يُدْخِلْهُم في التَّوحِيدِ الذي دعت إليه الرسل ودَعَاهُمْ إِليهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3).
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ
؛ الَّذي يُسَمِّيهِ المشرِكُونَ في زَمَانِنَا: (الاعْتِقَادَ)(4) كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الملائِكَةَ لأَجْلِ صَلاحِهِمْ وقُرْبِهِم مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَشْفَعُوا لَهُم، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً مِثْل: الَّلاتِّ، أَوْ نَبِيّاً مِثْلَ عِيسَى(5).
وَعَرَفْتَ
(6) أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ على هذا الشِّركِ(7) وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لا شريك له(8)؛ كَما قَالَ تَعالى: {وأنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، وقَالَ تَعَالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}(9).
وتَحَقَّقْتَ
(10) أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُون الدين كله لله، والدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ(11)، والذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ(12)، والنَّذْرُ كُلُّهُ للهِ(13)، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا باللهِ(14)، وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَةِ كُلُّها للهِ.

وَعَرَفْتَ(15) أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ، وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلائِكَةَ أو الأَنْبياءَ أو الأَوْلِياءَ، يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءهم وأمْوَالَهُمْ.

عَرَفْتَ(15) حِينَئذٍ التَّوحِيدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ، وَأَبى عن الإِقْرار بِهِ المُشْرِكُونَ(16)).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) أي: الَّذين بُعِثَ فيهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن المشرِكِينَ.
(2) يَعْنِي: توحيدَ الرُّبوبيَّةِ؛ وهوَ اعْتِقادُ أنَّ اللهَ وحْدَهُ هوَ الخالقُ المالِكُ المُدَبِّرُ لجميعِ الأمور
(1).
(3) أيْ: أنَّ إيمانَهم بأنَّ اللهَ هوَ الخالقُ المالِكُ المُدَبِّرُ لجميعِ الأمورِ لم يُدْخِلْهم في توحيدِ العبادةِ الَّذي دَعَاهم إليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ، ولم يَعْصِمْ دِماءَهم وأموالَهم.

(4) أيْ: إذا عَرَفْتَ أنَّ الَّذي أَنْكَرُوهُ هوَ توحيدُ العبادةِ الَّذي يُسَمِّيهِ -كما قالَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ- مُشْرِكُو زَمانِنا (الاعْتِقادَ)(2)، تَبَيَّنَ لكَ أنَّ هذا الَّذي أَقَرُّوا بهِ لا يَكْفِي في التَّوحيدِ، بلْ ولا يَكْفِي في الإِسلامِ كلِّهِ، فإنَّ مَنْ لمْ يُقِرَّ بتوحيدِ العبادةِ فإنَّهُ ليسَ بمُسْلمٍ، حتَّى ولوْ أَقَرَّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ ولهذا قَاتَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُشرِكِينَ معَ أنَّهم يُقِرُّونَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ كما تَقَدَّمَ.
(5) يَعْنِي: أنَّ هؤلاءِ المُشرِكِينَ في عِبادةِ اللهِ كانوا يَدْعُونَ اللهَ تعالى إذا اضْطُرُّوا إلى ذلكَ، ومنهم مَنْ يَدْعُو الملائكةَ لِقُرْبِهم مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَزْعُمُونَ أنَّ مَنْ قَرُبَ مِن اللهِ سُبحانَهُ وتعالى فهوَ مُسْتَحِقٌّ لِلعبادةِ، وهذا مِنْ جَهْلِهم، فإنَّ العبادةَ حقُّ اللهِ وحْدَهُ لا يُشارِكُهُ فيها أَحدٌ. وأنَّ منهم مَنْ يَدْعُو اللاَّتَ، واللاَّتُّ بالتشديدِ: اسمُ فاعلٍ مِن اللَّتِّ، وأصلُهُ رَجُلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحُجَّاجِ، أيْ: يَجْعَلُ فيهِ السَّمْنَ ويُطْعِمُهُ الحُجَّاجَ، فلمَّا ماتَ عَكَفُوا على قَبرِهِ ثمَّ عَبَدُوهُ(3). وأنَّ منهم مَنْ يَعْبُدُ المَسِيحَ عليهِ السَّلامُ لكوْنِهِ آيةً مِنْ آياتِ اللهِ، وأنَّ منهم مَنْ يَعْبُدُ الأَوْلياءَ لِقُرْبِهم مِن اللهِ سُبحانَهُ وتعالى، وكلُّ هذا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيطانِ لهم أعمالَهم الَّتي ضَلُّوا بها عن الصِّراطِ المُستقيمِ، قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا} .
(6)هذهِ معطوفةٌ على قولِهِ: (فإذا تَحَقَّقْتَ).
(7)أي: الشِّركِ في العبادةِ، حيثُ كانوا يَعْبُدُونَ غيرَ اللهِ معَهُ، وليسَ المرادُ الشِّركَ في الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ المُشرِكِينَ الَّذين بُعِثَ فيهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يُؤْمِنونَ بأنَّ اللهَ وحْدَهُ هوَ الرَّبُّ، وأنَّهُ مُجِيبُ دَعوةِ المُضْطَرِّينَ، وأنَّهُ هوَ الَّذي يَكْشِفُ السُّوءَ، إلى غَيرِ ذلكَ ممَّا ذَكَرَ اللهُ عنهم مِنْ إقْرارِهم برُبُوبِيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وحْدَهُ
(4).
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ هؤلاءِ المشرِكِينَ الَّذين لم يُقِرُّوا بتوحيدِ العِبادةِ، بل اسْتَحَلَّ دِماءَهم وأموالَهم، وإنْ كانوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ وحْدَهُ هوَ الخالقُ؛ لأنَّهم لم يَعْبُدوهُ، ولم يُخْلِصوا لهُ العبادةَ.

(8) الإِخلاصُ للهِ معناهُ: أنْ يَقْصِدَ المرْءُ بعِبادتِهِ التَّقرُّبَ إلى اللهِ سُبحانَهُ وتعالى والوُصولَ إلى دارِ كَرامتِهِ(5).

(9)يَعْنِي: أنَّ هذهِ الأصنامَ الَّتي يَدْعُونَها مِنْ دونِ اللهِ لا تَسْتَجِيبُ لهمْ بشيءٍ، كما قالَ تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .

(10)قولُهُ: (وتَحَقَّقْتَ) معطوفٌ على قولِهِ: (فإذا تَحَقَّقْتَ) .

(11)الدُّعاءُ على نَوْعَيْنِ:
الأوَّلُ: دُعَاءُ عبادةٍ، بأنْ يُتَعَبَّدَ للمَدْعُوِّ طَلبًا لثوابِهِ وخَوْفًا مِنْ عِقابِهِ، وهذا لا يَصِحُّ لغيرِ اللهِ، وصَرْفُهُ لغيرِ اللهِ شركٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ عن الْمِلَّةِ، وعليهِ يَقَعُ الوَعِيدُ في قولِهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
النَّوعُ الثَّاني: دُعاءُ المَسْأَلةِ، وهوَ دُعاءُ الطَّلبِ، أيْ: طلبِ الحاجاتِ. ويَنْقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

القسمُ الأوَّلُ: دُعاءُ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى بما لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ هوَ، وهو عِبادةٌ للهِ تَعالى؛ لأنَّهُ يَتَضَمَّنُ الافْتِقارَ إلى اللهِ تعالى واللُّجوءَ إليهِ، واعْتِقادَ أنَّهُ قادِرٌ كرِيمٌ واسِعُ الفضْلِ والرَّحمةِ، فمَنْ دَعَا غيرَ اللهِ عزَّ وجلَّ بشيءٍ لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ فهوَ مُشرِكٌ كافِرٌ، سَواءٌ كان المَدْعُوُّ حيًّا أوْ مَيِّتًا.

القسمُ الثَّاني: دُعاءُ الحيِّ بما يَقْدِرُ عليهِ، مثلَ: يا فُلانُ اسْقِنِي، فلا شيءَ فيهِ.
القسمُ الثَّالثُ: دُعَاءُ الميِّتِ أو الغائِبِ بمثلِ هذا(6)، فإنَّهُ شركٌ؛ لأنَّ الميِّتَ أو الغائبَ لا يُمْكِنُ أنْ يَقومَ بمثلِ هذا، فدعاؤُهُ إيَّاهُ يَدُلُّ على أنَّهُ يَعْتَقِدُ أنَّ لهُ تَصَرُّفًا في الكوْنِ، فيكونُ بذلكَ مُشرِكًا.

(12) النَّذْرُ: يُطْلَقُ على العباداتِ المَفْروضةِ عُمومًا، ويُطْلَقُ على النَّذرِ الخاصِّ(7)، وهوَ: إلْزامُ الإِنسانِ نفسَهُ بشيءٍ للهِ عزَّ وجلَّ، والمُرادُ بهِ هنا الأوَّلُ، فالعباداتُ كلُّها للهِ تعالى؛ لقولِهِ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} .

(13) الذَّبْحُ: إِزْهَاقُ الرُّوحِ بإِرَاقةِ الدَّمِ على وَجْهٍ مَخْصوصٍ. ويَقَعُ على وُجوهٍ:

الأوَّلُ: أنْ يُقْصَدَ بهِ تَعْظيمُ المذْبوحِ لهُ، والتَّذلُّلُ لهُ والتَّقرُّبُ إليهِ، فهذا عبادةٌ لا يكونُ إلاَّ للهِ تعالى على الوجْهِ الَّذي شَرَعَهُ اللهُ تعالى، وصَرْفُهُ لِغيرِ اللهِ شِركٌ أَكْبَرُ؛ لِقولِهِ تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ}.

الثَّاني: أن يُقْصَدَ بهِ إكْرامُ الضَّيفِ، أوْ وَلِيمةٌ لِعُرْسٍ، ونحوُ ذلكَ، فهذا مأمورٌ بهِ، إمَّا وُجوبًا أو اسْتِحْبابًا؛ لِقولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))، وقولِهِ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ حينَ تزوَّجَ: ((أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ)) .
الثَّالثُ: أنْ يُقْصَدَ بهِ التَّمتُّعُ بالأكْلِ، أو الاتِّجَارُ بهِ، ونحوُ ذلكَ، فهذا منْ قِسمِ المُباحِ، فالأصلُ فيهِ الإِباحةُ؛ لِقولِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}.
وقدْ يَكونُ مَطلوبًا أوْ مَنْهِيًّا عنهُ حَسْبَمَا يكونُ وسِيلةً لهُ(8).

(14) الاسْتِغاثةُ: طَلبُ الغَوْثِ والإِنْقاذِ مِن الشِّدَّةِ والهَلاكِ. وهوَ أقسامٌ:

الأوَّلُ: الاسْتِغاثةُ باللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا مِنْ أفْضَلِ الأعمالِ وأكْمَلِها، وهوَ دَأْبُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأَتْباعِهم، ودَليلُهُ قولُهُ تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} .

الثَّاني: الاستغاثةُ بالأَمْواتِ أوْ بِالأحْياءِ غيرِ الحاضِرِينَ القادِرِينَ على الإِغاثةِ، هذا شِركٌ؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُهُ إلاَّ مَنْ يَعْتَقِدُ أنَّ لِهؤلاءِ تَصَرُّفًا خَفِيًّا في الكوْنِ، فيَجْعَلُ لهم حَظًّا مِن الرُّبوبيَّةِ، قالَ اللهُ تعالى: {أَم مَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
الثَّالثُ: الاستغاثةُ بالأحياءِ العالِمِينَ القادِرِينَ على الإِغاثةِ، فهذا جائِزٌ كَالاسْتِعَانةِ بهم، قالَ اللهُ تعالى في قِصَّةِ مُوسَى عليهِ السَّلامُ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}.
الرَّابعُ: الاستغاثةُ بحيٍّ غيرِ قادرٍ مِنْ غيرِ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ لهُ قُوةً خَفِيَّةً، مثلَ أنْ يَسْتَغِيثَ بمَشْلولٍ على دَفْعِ عَدُوٍّ صائِلٍ، فهذا لَغْوٌ وسُخْرِيَةٌ بالمُسْتَغاثِ بهِ، فيُمْنَعُ لهذهِ العِلَّةِ، ولِعلَّةٍ أخْرَى وهِيَ: أنَّهُ رُبَّما اغْتَرَّ بذلكَ غيرُهُ، فَتَوَهَّمَ أنَّ لِهذا المُسْتَغاثِ بهِ، وهوَ عاجِزٌ، أنَّ لهُ قُوَّةً خَفِيَّةً يُنْقِذُ بها مِن الشِّدَّةِ(9).

(15) قولُهُ: (وعَرَفْتَ) معطوفٌ علَى (تَحَقَّقْتَ) الأُولَى. وقولُهُ: (عَرَفْتَ) جوابُ (فَإذا تَحَقَّقْتَ) وما عُطِفَ عليْها.

(16) قَرَّرَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ التَّوحيدَ الَّذي جاءَتْ بهِ الرُّسلُ مِن اللهِ هوَ توحِيدُ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّ هؤلاءِ المُشرِكِينَ الَّذين بُعِثَ فيهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يُقِرُّونَ بِتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ومعَ هذا اسْتَبَاحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِماءَهم وأموالَهم، على أنَّهم يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ وغيرَهم مِمَّا يَعْبُدُونَهم مِن الأولياءِ والصَّالِحينَ، يُرِيدونَ بِذلكَ أنْ يُقَرِّبُوهُم إلى اللهِ، وهِيَ كَما قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، فهُم مُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ هوَ المَقْصُودُ، ولكنَّهم يَقْصِدونَ الملائكةَ وغيرَهم؛ لِيُقَرِّبُوهُم إلى اللهِ، ومعَ ذلكَ لمْ يُدْخِلْهم في التَّوحيدِ.


حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) تقدم أن توحيد الربوبية: هو إفراد الله بأفعاله.
(2) هو تعلق قلوبهم بمن يتقربون إليه رجاء شفاعته وأن يقربهم إلى الله زلفى، وتجد في كلام هؤلاء قولهم: فلان الولي ممن يُعتقد فيه أو للناس فيه اعتقاد حسن، ويسمون هذا أيضاً بالسر والولاية كما ذكره إمام الدعوة -رحمه الله- في بعض رسائله (1/364 ـ مجموع مؤلفاته).
(3) وفيه لغةٌ أخرى (اللات) بالتخفيف، وقرئ بها أيضاً، وهو لقب للرجل واختلف في اسمه فقيل: عامر بن الظَّرِب العُدْواني، وقيل: عمرو بن لحي، وقيل: صرمة بن غَنْم، انظر: (فتح البارى) (8/778 ـ 779 ط دار السلام).
(4) عرفت فيما سبق أن إقرارهم به ليس كإقرار الموحدين.
(5) الموافق للدلائل الشرعية والدلالات اللغوية أن يعرف الإخلاص بقولنا: هو تصفية القلب من قصد غير الله. وإليه أشرت بقولي:

إخلاصنا تصفيةٌ للقلب من .................. قصدٍ لغير الله فاحذر يافطن

(6) يعني مما لا يقدر عليه وهو في تلك الحال، وإن كان ممن يقدره عليه حال حياته أو حضوره.
(7) فصار للنذر معنيان: أحدهما: عام، وهو: يطلق على العبادات المفروضة عموماً. والآخر: خاص، وهو: إلزام الإنسان نفسه بشئٍ لله عز وجل.

(8) فيخرج عن الإباحة إلى كونه مأموراً به، أو منهياً عنه، باعتبار الداعي المقارن له.
(9) ماذكره المصنف ـ رحمه الله ـ من أقسام هذه العبادات (الدعاء والنذر والذبح والاستغاثة) لا يظهر منه انبناء تقسيمه على مأخذ معتمد يفزع إليه في نظائرها؛ لأن الباب واحد، وأكثر المتكلمين في هذه المسائل لم يرعوا اعتبار كون الفعل المسمى كالدعاء والنذر والذبح والاستغاثة:
-تارة يكون متعبداً به .
-وتارة غير متعبد به.
فهو في الأول: من العبادات.
وفي الثاني : من العادات.
وتحت كل فروع وتفصيلات لبيانها موضع آخر.

هيئة الإشراف

#4

19 Nov 2008

شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان 

المتن:

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا، وَأنه لم يُدْخِلْهُم في التَّوحِيدِ الذي دعت إليه الرسل ودَعَاهُمْ إِليهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1).
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ؛ الَّذي يُسَمِّيهِ المشرِكُونَ في زَمَانِنَا: (الاعْتِقَادَ) كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً
(2)، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الملائِكَةَ لأَجْلِ صَلاحِهِمْ وقُرْبِهِم مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَشْفَعُوا لَهُم، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً مِثْل: الَّلاتِّ، أَوْ نَبِيّاً مِثْلَ عِيسَى(3).
وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ على هذا الشِّركِ وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لا شريك له
(4)؛ كَما قَالَ تَعالى: {وأنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، وقَالَ تَعَالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}(5).
وتَحَقَّقْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُون الدين كله لله، والدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، والذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ، والنَّذْرُكُلُّهُ للهِ، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا باللهِ، وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَةِ كُلُّها للهِ
(6). وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ(7)، وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلائِكَةَ أو الأَنْبياءَ أو الأَوْلِياءَ، يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءهم وأمْوَالَهُمْ(8). عَرَفْتَ حِينَئذٍ التَّوحِيدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ، وَأَبى عن الإِقْرار بِهِ المُشْرِكُونَ(9)).


الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) أيْ: إذا عرفتَ أن المشركينَ مُقِرُّونَ بتوحيدِ الربوبيةِ، وأنَّ الذي جحدوهُ هوَ توحيدُ الأُلوهيةِ، وهم يقولونَ إنَّ الله هوَ الخالقُ الرازقُ المحيي المميتُ، لكنْ إذا قيل لهمْ: قُولُوا (لا إلهَ إلاَّ الله) قالوا: {أَجَعَلَ الآلهةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشْيءٌ عُجَابٌ} أيْ: إذا قِيلَ لهمُ:اعبدُوا الله ولا تُشركوا به شيئاً قالوا كما قالَ قومُ نوحٍ من قبل: {لا تَذَرُنَّ آلهتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسراً} .

كذلكَ المشركونَ كان الجِدال الذي بينهم وبين الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ هو في عبادةِ الله وحدَهُ لا شريكَ له،فالرسولُ صلَّى الله عليهِ وسلمَ يقولُ لهم: ((قُولوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ تفلحُوا)) وهم يقولونَ: {أجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحِداً} ويقولون: هذا دينُ آبائنا وأجدادنا، حتى إنَّ أبا طالبٍ عند الوَفَاةِ لما طلبَ منه الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن يقول: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أبى أن يقولها، وقال: (هُو على ملةِ عبدالمطلبِ) وملةُ عبدالمطلبِ عبادةُ الأصنامِ، هذا هو محلُّ النزاعِ بين الرسلِ وبين الأممِ.فالرسلُ يقولون للأممِ: (اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئاً) ولكنَّ المشركينَ أبَوا إلاَّ البقاء على عبادةِ الأصنامِ، فالخُصُومةُ بينَ الرسلِ وبينَ الأممِ هي في توحيدِ الألوهيةِ. أمَّا توحيدُ الربوبيةِ: فهو محلُّ إجْمَاعٍ عند الجميعِ، لم يخالفُوا فيه، وإنما خالفُوا في توحيدِ الأُلُوهيةِ فهو محلُّ النزاع،ِ وهو الذي شُرِعَ مِن أجلهِ الجهادُ في سبيلِ الله، يقول الرسولُ صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) وفي رواية: ((إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله)) .فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبُ منهم الإقرارَ بتوحيدِ الرُّبُوبيةِ ما صارَ بينَهُم خُصُومةٌ ولا نِزَاعٌ لأنهم مُعْتَرِفُونَ به.

(2) وهذا أمرٌ ثانٍ من شأنِ المشركينَ، كما أنهم يعترفونَ بتوحيدِ الربوبيةِ فهم أيضاً يعبدون الله فيدعُونَهُ ويَحُجُّونَ إلى البيت، ويَعتمِرُون ويتصدَّقُونَ ويعبدُونَ اللهَ بأنواعٍ من العبادةِ، لكنهم يَخْلِطُونَها بالشِّركِ، بحيثُ يعبدونَ اللهَ ويعبدونَ غيرَهُ، وهذا لا ينفعُهمْ شيئاً؛ لأن الشركَ يُبْطِلُ عبادتَهم، فالعبادةُ لا تنفعُ إلا مع الإخلاصِ، ولهذا يقول جل وعلا: {واعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ما قال اعبدُوا الله فقط؛ لأنَّ المشركينَ يعبدُونَهُ، بل قال: {وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}. وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ما اقْتَصَرَ على قوله: {فليعملْ عمَلاً صَالحاً} بلْ لاَ بُدَّ أنْ يتجنَّبَ الشركَ فإذا كان لم يتجنبِ الشركَ ولو كان يعملُ أعمالاً كثيرة فإنها تبطلُ ولا تنفعُ.فالمشركونَ كان عندهم عباداتٌ لله عزَّ وجَلَّ وهِي من بقَايا دينِ إبراهيمَ الخليلِ عليه السلامُ، فكانوا في الأول على دينِ إبراهيمَ، ولكنْ لما جَاء عمْرُو بْنُ لُحيٍّ الخُزَاعِيُّ غَيَّرَ دينَهم، وأدخلَ فيه الشركَ، لكنْ بَقِيَتْ بقَايا من دينِ إبراهيمَ عِنْدَهُم، وهم مُشركونَ، فهم يدْعُونَ الله خُصُوصاً إذا وقَعُوا في الشِّدةِ، فإنهم يُخْلِصُونَ الدُّعاءَ للهِ عزَّ وجلَّ، ويتركُونَ دُعاءَ الأصنامِ؛ لأنها لا تنفعُ في هذا الموقفِ ولا تُنْجِدُهُم في وقتِ الشِّدةِ؛ لأنهم يعرفون أنه لا مُنْجِي من الشدةِ إلا الله سبحانه وتعالى، وقد احْتَجَّ اللهُ عليهم بهذا:
-فقال سبحانه: {وإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ فلمَّا نَجَّاكُمْ إلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} .
- وقال تعالى: {وَإذَا غَشِيهُم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوا اللهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ فلمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ فَمنْهُم مُقْتَصِدٌ ومَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}فالعباداتُ إذا خالطَها شِرْكٌ تكونُ باطلةً،فالذينَ يدَّعُونَ الإسلامَ الآنَ ويُصلُّونَ ويَصومُونَ ويحجُّونَ ولكنَّهم يَدْعُونَ الحسينَ والبَدَوِيَّ وعبدَالقادرِ الجِيلاَنِيَّ هؤلاءِ مثلُ المشركينَ الأولينَ؛ فالمشركونَ الأولُونَ يتعبدونَ للهِ عزَّ وجلَّ ولكنَّهم يدْعُونَ اللاَّتَ والْعُزَّى ومَنَاةَ الثَّالثَةَ الأُخْرَى، ولا يقولونَ: إنَّ هذه أربابٌ، بلْ يقولونَ: هذه تُقرِّبُنَا إلى اللهِ زُلْفَى، نريدُ منْها الزُّلْفَى عندَ اللهِ والتقربَ إلى اللهِ، فهي وسَائِطُ وشفعاءُ بيننا وبينَ اللهِ. وهؤلاءِ يقولونَ: الحسنُ والحسينُ وعبدُالقادرِ والبَدَوِيُّ إنما هم شفعاءُ لنا عندَ اللهِ، ولا يقولونَ إنهم يخلقُونَ ويرزقُونَ ويتصرَّفُونَ في شَيءٍ من الأمورِ، وإنما هذا للهِ عزَّ وجلَّ، إنما هؤلاء وسائِطُ وشفعاءُ، ويقولُ بعضُ الناسِ: هؤلاءِ مسلمونَ. فنقولُ:ولماذا لا يكونُ كفارُ قريشٍ مسلمينَ أيضًا؟ وهذا القائلُ ليسَ عندهُ فهمٌ للتوحيدِ ولا بصيرةٌ؛لأنهُ ما فهمَ التوحيدَ، والواجبُ على الإنسانِ أنْ يعرفَ هذا الأمرَ؛ لأنهُ مُهمٌّ جدًّا، وهذهِ هيَ الثقافةُ الصحيحةُ، ليستِ الثقافةُ أنْ تعرفَ أحوالَ العالمِ والحكوماتِ والسياساتِ، هذهِ ثقافةٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، الثقافةُ التي تنفعُ هيَ معرفةُ التوحيدِ الصحيحِ، ومعرفةُ مَا يضادهُ من الشركِ أو ينقصُهُ من البدعِ والمحدثات، هذهِ هيَ الثقافةُ الصحيحةُ وهذا هو المطلوبُ من المسلمِ ومن طالبِ العلمِ، أنْ يعرفَ التوحيدَ وأنْ يدعو إليهِ، هذا هو المطلوبُ.ماذا ينفعُ العلمُ الكثيرُ من غيرِ تحقيقٍ ومن غيرِ بصيرةٍ؟
لا ينفعُ شيئاً، ولا يفيدُ صاحبَهُ شيئاً إذا لمْ يكنْ مبنياً على تحقيقٍ وتوحيدٍ وعبادةٍ للهِ ومعرفةٍ للحقِ من الباطلِ، فإنهُ لا ينفعُ صاحبَهُ مجردُ اطلاعٍ أو مجردُ ثقافةٍ عامةٍ.
(3) هؤلاءِ المشركونَ متفرقونَ في عباداتِهمْ، منهمْ مَنْ يعبدُ الملائكة، ومنهمْ مَنْ يعبدُ عيسَى بْنَ مريَم، ومنهم منْ يعبدُ الصالحينَ، هذا دينُ المشركينَ، وهو الواقعُ في كثيرٍ من العالمِ الإسلاميِّ اليومَ - معَ الأسفِ - يعبدونَ اللهَ ويَحُجُّونَ ويصُومُونَ ويُصلُّونَ لكنهمْ واقِعُونَ في الشِّركِ الأكبرِ، فيعبدونَ الأمواتَ ويذبحونَ لهمْ ويستغيثونَ بهمْ.وقدْ يَعْتَذرُ لهمْ بعضُ مَنْ لا بَصيرةَ عندَهُ بالتوحيدِ، فيقولُ : هؤلاءِ مَعْذُورُونَ ولا يعتقِدونَ في الأمواتِ أنهم يخلقُونَ ويرزقُونَ، وإنَّما اتَّخذُوهمْ وسَائِطَ وشفعاءَ، فإنْ استحيى قالَ: هؤلاءِ مخطئونَ، وربما يقولُ: هؤلاءِ مجتهدونَ، والمجتهدُ مأجورٌ، أوْ يقولُ: هؤلاءِ جُهّالٌ.
وكيفَ يكونونَ جُهالاً والقرآنُ يُتلَى عليهمْ، والأحاديثُ تُسمعُ، وكلامُ أهلِ العلمِ يترددُ عليهمْ؟! بلْ هؤلاءِ معانِدُونَ؛ لأنهمْ قدْ قامتْ عليهمُ الحجَّةُ فلمْ يقبلُوها.
هناكَ مَنْ يقولُ: إنَّ الإنسانَ مَهْمَا فَعَلَ لا يُحْكَمُ عليهِ بالكفرِ ولا بالشركِ حتَّى يعلمَ ما في قلبهِ. ويَا سُبْحَانَ اللهِ!! هلْ نحنُ نعلمُ ما في القلوبِ أو اللهُ الذي يعلمُ مَا في القلوبِ؟ نحنُ نحكمُ على الظَّواهرِ، أمَّا البواطنُ فلاَ يعلمُهَا إلاَّ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى.فالذي يَعملُ بالشركِ يُحكمُ عليهِ أنَّهُ مُشْرِكٌ، ويُعَامَلُ مُعاملةَ المشركينَ حتى يتوبَ إلى اللهِ تعالَى ويلتزمَ بعقيدةِ التوحيدِ، كما أنَّ الذي يَعْملُ بالتوحيدِ ويَنطقُ بالشهادتينِ يعاملُ معاملةَ المسلمينَ ما لمْ يظهرْ منهُ ما يناقِضُ ذلكَ، فنعاملُ كلاًّ حَسبَ ما يظهرُ منهُ، ونَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلَى اللهِ.

(4) أَيْ: وعرفتَ أنَّ تعبُّدَهُمْ هذا لمْ ينفعهمْ؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ لم يقبلْهُ منهمْ، بلْ دَعاهمْ إلَى إفرادِ اللهِ بالعبادةِ وتركِ عبادةِ ما سِواهُ. وهذهِ الآيةُ تمنع ُعبادةَ الملائكةِ، وتمنعُ عبادةَ الرسلِ، وتمنعُ عبادةَ الصالحينَ، ففيها إبطالُ عبادةِ غيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ كائناً منْ كانَ، ولوْ كانَ أصحابُها لا يعتقدونَ فيهمْ أنهمْ يَخلقونَ ويَرزقونَ، وإنما يقولونَ إنَّ هؤلاءِ صالحونَ، فيتخذونهمْ وسَائطَ بينهمْ وبينَ اللهِ، وشُفعاءَ لهمْ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ يُقَرِّبونهمْ إلى اللهِ زلفَى، كما قالَ تعالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ويَقُوْلُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} . وفي زمانِنَا الحاضرِ يقولونَ: (هؤلاءِ وسائلُ نتوسلُ بهمْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ) وهذا كلهُ دينُ الجاهليةِ وهو باطلٌ.

(5) {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ} أيْ: العبادةُ الصحيحةُ، كما قالَ تعالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
واللهُ جلَّ وعَلاَ لا يقبلُ إلاَّ دعوةَ الحقِّ،يعني: الدينَ الخالصَ، أمَّا الذي يَعبدُ اللهَ ويَعبدُ معهُ غَيرَهُ فهذهِ دعوةُ شركٍ لا يقبلُها اللهُ.وقولُه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} عامٌّ في كلِّ ما دُعِيَ مِنْ دونهِ سواءٌ من الملائكةِ أو الرسلِ أو من الصالحينَ أو مِن الأصنامِ أو من أيِّ شيءٍ. وقولُه: {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} أيْ: لا يَستجيبونَ لمنْ دعَاهمْ بشيءٍ؛ لأنهمْ عاجزونَ لا يقدرونَ على شيءٍ.
فائدة: معنى: (الربِّ) و(الإلهِ).اللهُ جلَّ وعلاَ في القرآنِ ذَكَرَ (الرَّبَّ) في مواضعَ، وذَكَرَ (الإلهَ) في مواضعَ، خُذْ مثلاً سُورَةَ النَّاسِ، يقولُ سبحانهُ وتعالَى: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ} فما الفرقُ بينَ {بِرَبِّ النَّاسِ} و{إِلَهِ النَّاسِ} ؟ هلْ هما بمعنى واحدٍ؟ إذاً يكونُ الكلامُ مكرراً.أو أنهما بمعنيين؟ فلابدَّ من معرفةِ الفرقِ بينهما. كثيراً في القرآنِ ما يأتي ذكرُ (الربِّ) كقولِه تعالَى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ويأتي لفظُ (الإلهِ) كقولِه: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فتكرَّرَ لفظُ (الربِّ) وتكرَّرَ لفظُ (الإلهِ) فما معنَى كلٍّ منهمَا؟ فـ(الربُّ):

-معناهُ المربِّي لخلقهِ بنعمهِ ومغذِّيهمْ برزقهِ تربيةً جسميةً بالأرزاقِ والطعامِ وتربيةً قلبيةً روحيةً بالوحي والعلمِ النافعِ وإرسالِ الرسلِ.

- ومِنْ معاني (الربِّ): أنهُ المالكُ للسماواتِ والأرضِ، فرَبُّ الشيءِ مالِكُهُ والمتصرفُ فيهِ.
- ومنْ معاني الرَّبِّ: المُصلِحُ الذي يُصْلِحُ الأَشياءَ ويَدفَعُ عنها ما يُفْسِدُهَا، فاللهُ سبحانَهُ وتعالَى هو الذي يُصلحُ هذا الكونَ ويُنظِّمُهُ على مُقتضَى إرادتِهِ وحكمتِهِ سبحانَهُ وتعالَى.
أمَّا (الإلهُ): فمعناهُ المعبودُ،مِنْ: أَلَهَ يَأْلَهُ بمعنَى: عَبَدَ يَعْبُدُ، فَـ(إله) معناه: معبودٌ، وليسَ معناهُ الرَّبُّ، وإنما معناهُ المعبودُ
والإلهيةُ: هي العبادةُ.
والوَلَهُ: هو الحبُّ؛ لأنهُ - سبحانهُ وتعالَى - يُحبهُ عبادُهُ المؤمنونَ ويخافونَهُ ويرجونهُ ويتقربونَ إليهِ، هذا هو معنى الإلهِ.فتبينَ الفرقُ بينَ معنى (الرَّبِّ) ومعنى (الإلهِ)، وأنهما ليسا بمعنىً واحدٍ، ومَنْ قالَ إنهما بمعنىً واحدٍ فقدْ غَلِطَ. والعلماءُ يقولونَ:إذا ذُكرا جميعاً صار (الربُّ) لهُ معنى و(الإلهُ) لهُ معنى، وإذا ذُكِرَ واحدٌ منهما دَخَلَ فيهِ الآخرُ، فإذا ذُكرَ (الربُّ) فقط دخلَ فيهِ معنى (الإلهِ)، وإذا ذُكرَ (الإلهُ) دخلَ فيهِ معنى (الربِّ).

أما إذا ذُكِرا جميعاً مثلَ ما في سورةِ الناسِ: فإنهُ يكونُ لِـ(لرَّبِّ) معنى ولـ(لإلهِ) معنى آخرُ، كما في لفظِ (الفقيرِ) و(المسكينِ) إذا ذكرا جميعاً - كما في قولهِ تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} - صارَ للفقيرِ معنى وللمسكينِ معنى. فـ(الفقيرُ): هو الذي لا يجدُ شيئاً.وأما (المسكينُ):فهو الذي يجدُ بعضَ الكفايةِ، فالمسكينُ أحسنُ حالاً من الفقيرِ.ومثلُ لفظِ (الإسلامِ) و(الإيمانِ) إذا ذكرا صارَ (الإسلامُ) معناهُ الأعمالُ الظاهرةُ، و(الإيمانُ) معناهُ الأعمالُ الباطنةُ كما في حديثِ جبريلَ: قالَ: (أخبرني عن الإسلامِ، قالَ: ((الإسلامُ: أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وتقيمَ الصلاةَ، وتؤتيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحجَّ البيتَ إنِ استطعتَ إليهِ سبيلاً)) ـ فسرهُ بالأركانِ الظاهرةِ ـ قالَ: أخبرني عن الإيمانِ. قال: ((أنْ تؤمنَ باللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليومِ الآخرِ وتؤمنَ بالقدرِ خيرهِ وشرهِ)) فسرهُ بالأعمالِ الباطنةِ، وهو إيمانُ القلبِ، هذا إذا ذكرا جميعاً، أيْ إذا ذكرَ أحدُهما دخلَ فيهِ الآخرُ.كذلكَ (الربُّ) و(الإلهُ) إذا ذكرا جميعاً صارَ لكلِّ واحدٍ معنى، وإذا ذكرَ أحدهما وحدهُ دخلَ فيهِ الآخرُ.ومنْ هنا نعرفُ الفرقَأيضاً بينَ توحيدِ الربوبيةِ وتوحيدِ الألوهيةِ، فتوحيدُ الربوبيةِ: هو الإقرارُ بأنَّ اللهَ هوَ الخالقُ والرازقُ المحيي المميتُ، أيْ: الاعترافُ بأفعالِ اللهِ سبحانهُ وتعالَى.

وتوحيدُ الألوهيةِ:معناهُ إفرادُ اللهِ بأعمالِ العبادِ التي يتقربونَ بها إليهِ مما شرعَ، هذا معنى توحيدِ الألوهيةِ، فهناكَ فرقٌ بَيْن توحيدِ الربوبيةِ وتوحيدِ الألوهيةِ.وما دُمنا قدْ عرفنا معنى توحيدِ الربوبيةِ وتوحيدِ الألوهيةِ نأتي إلى حالةِ المشركينَ الذينَ بعثَ إليهمْ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، فإنهمْ كانوا مقرينَ بالنوعِ الأولِ الذي هو توحيدُ الربوبيةِ؛ ولمْ يدخلهمْ في الإسلامِ، بلِ اعتبرهمُ الرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ كفاراً مشركينَ وقاتلهمْ وهمْ يقرُّونَ بتوحيدِ الربوبيةِ، فهمْ أقرُّوا بتوحيدِ الربوبيةِ وجحدُوا توحيدَ الألوهيةِ لما طلبَ منهمْ أنْ يفردُوا اللهَ بالعبادةِ ويتركوا عبادةَ الأصنامِ قالُوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} لأنهُ قالَ لهمْ: قولُوا (لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ) فَهُمْ فهمُوا معنى (الإلهِ) وهو أنهُ الذي يعبدُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وهمْ لهمْ أصنامٌ ولهمْ معبوداتٌ كثيرةٌ لا يريدونَ تركَها والاقتصارَ على عبادةِ اللهِ وهذا لا يرضيهم ولذلكَ أنكروا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} طلبَ منَّا أنْ نعبدَ اللهَ وحدهُ ونتركَ عبادةَ اللاتِ والعزَّى ومناةَ وهبلَ وغيرِها من الأصنامِ، هذا شيءٌ لا يعقلُ عندهمْ. {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} لا تتركُوها ولا تطيعُوا هذا الرجلَ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ملةُ آبائهمْ، فهذا احتجاجٌ بما عليهِ آباؤُهمْ الحجةُ الملعونةُ التي احتجتْ بها الأممُ من قبلُ إذا دعوا إلى عبادةِ اللهِ حتى فرعونُ يقولُ: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} فهمْ لما فهموا معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) استغربُوا هذا واستنكروهُ وتواصَوا برفضهِ، وفي الآيةِ الأخرى يقولُ سبحانهُ فيهمْ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}. وهذا يبينُ معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) تماماً ويوضحهُ ويقطعُ الجدالَ، فإنَّ فيهِ ردًّا على منْ غلطَ في معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) فعلماءُ الكلامِ في مقرراتهمْ وعقائدهمْ يقولونَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ)معناها: لا خالقَ ولا رازقَ ولا قادرَ على الاختراعِ إلاَّ اللهُ، هذا معنى الإلهِ عندهمْ.يقولُ شيخُ الإسلامِ ابْنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى: (والحاذقُ منهمْ منْ يقولُ: (الإلهُ) هوَ القادرُ على الاختراعِ، وهذا غلطٌ وجهلٌ كبيرٌ باللغةِ وبالشرعِ المطهرِ، إذْ معنى (الإلهِ) المعبودُ الذي تألههُ القلوبُ وتخضعُ لهُ وتتقربُ إليهِ). هذا هوَ معنى الإلهِ عندهمْ،ولذلكَ يقولونَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) ويكثرونَ، ولهمْ أورادٌ في الليلِ والنهارِ يرددونها، ومعَ هذا يعبدونَ القبورَ والأضرحةَ، ويستغيثونَ بغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلمْ يفهمُوا معنى (لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ) وأنها تطلبُ منهمْ تركَ عبادةِ القبورِ والأضرحةِ، وعبادةِ ما سِوى اللهِ من الأصنامِ والأشجارِ والأحجارِ، فإذا قالوها لزمهمْ تركُ هذه الأمورِ وإلاَّ تناقضوا.والمشركونَ الأولونَ توقفوا ولمْ يقولُوها لأنهمْ إذا قالوها لزمهمْ تركُ عبادةِ الأوثانِ، أما هؤلاءِ فقالوها وعبدُوا غيرَ اللهِ، فالأولونَ أحذقُ منهمْ، ولهذا يقولُ الشيخُ: لا خيرَ في رجلٍ جُهَّالُ المشركينَ أعلمُ منه بمعنى (لا إلهَ إلا الله).
(6) لا يكونُ بعضُ ذلك لله، وبعضُه للبدويِّ، وبعضهُ للهِ وبعضُهُ للحسينِ؛ لا بدَّ أنْ يكونَ الدعاءُ كلُّهُ للهِ، والذبحُ كلُّهُ لله، والنذرُ كلُّهُ لله، وسائرُ العباداتِ كلُّها للهِ، وهذا هو الدينُ الصحيحُ؛ أما أنْ تكونَ العبادةُ مشتركةً بينَ اللهِ وبين القبورِ والأضرحةِ والأولياءِ والصالحينَ فهذا ليس هو التوحيدَ، بلْ هذا هو دينُ المشركينَ وإن كان صاحبُه يعترفُ بتوحيدِ الربوبيةِ ويصومُ ويصلي ويحجُّ ويعتمرُ إلى غيرِ ذلك.

(7) أيْ: لما كان إقرارُهمْ بتوحيدِ الربوبيةِ الذي ذكرَهُ اللهُ عنهم وسجَّلَهُ عليهم لمْ يدخلْهمْ في الإسلامِ دلَّ على أنَّ التوحيدَ المطلوبَ ليس هو توحيدُ الربوبيةِ، إنما هو توحيدُ الألوهيةِ، وهو الفارقُ بين المسلمِ والكافرِ، أما توحيدُ الربوبيةِ فكلٌّ مقرٌّ به، المسلمُ والكافرُ، وهو لا ينفعُ وحدَهُ.

(8) مع أنهم لم يقولوا: إن الملائكةَ والأنبياءَ والأولياءَ الذين يعبدونهمْ يَخلقونَ ويَرزقونَ ويحيُونَ ويميتونَ، ما قالوا هذا، وإنما اتخذوهُمْ شفعاءَ ووسائطَ بينهم وبينَ اللهِ، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}ما أرادوا منهم إلا الشفاعةَ، وزعموا أن هذا تعظيمٌ لله، يقولونَ: اللهُ عظيمٌ، ما يمكنُ أن نصلَ إليهِ بدعائنا، لكن نتخذُ منْ يوصلُ إليه حاجاتِنا من عبادِهِ الصالحينَ، من الملائكةِ والرسلِ والصالحينَ، فقاسُوا اللهَ على ملوكِ الدنيا الذين يَتوسَّطُ عندهم أصحابُ الحاجاتِ بالمقربينَ عندهُم، فهم لم يعتقدوا فيهم أنهم يخلقونَ ويرزقونَ كما يقولُ الجُهَّالُ: إن الشركَ هو اعتقادُ أن أحداً يخلقُ معَ اللهِ أو يرزقُ مع اللهِ، هذا ما قالَهُ أحدٌ من عقلاءِ بني آدمَ، وإنما قصدُهُم الشفاعة.وفي الآيةِ الأخرى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} يقولونَ: نحنُ عبادٌ ضعفاءُ، واللهُ جلَّ وعلا شأنُهُ عظيمٌ ولا نتوصلُ إليهِ، فهؤلاءِ يقربونَ إلى اللهِ زلفَى، شبهوا اللهَ بملوكِ الدنيا، هذا هو أصلُ الكفرِ، فدلَّ على أنهم لم يعتقدوا فيهم الشركَ في الربوبيةِ، وإنما اعتقدوا فيهم الشركَ في الألوهيةِ.فإذا سألتَ أيَّ واحدٍ الآنَ يذبحُ للقبورِ أو ينذرُ لها: ما الذي حملَكَ على هذا؟ فإنهم يقولونَ كلُّهم بلسانٍ واحدٍ: واللهِ ما اعتقدْنَا أنهم يخلقونَ ويرزقونَ وأنهمْ يملكونَ شيئاً من السماواتِ والأرضِ، إنما اعتقدنا أنهم وسائطُ؛ لأنهم صالحونَ يوصلونَ إلى اللهِ حاجاتِنا ويبلغونَهُ حاجاتِنا هذا قصدُنَا، ومعَ هذا سمَّاهم اللهُ مشركينَ وأمرَ نبيَّهُ بجهادِهم كما قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} معَ أنهم يقولونَ: لا نعتقدُ أنهم يخلقونَ ويرزقونَ ويدبرونَ مع اللهِ، وإنما قصدنا اتخاذهم وسائطَ، فنحنُ نذبحُ لهمْ وننذرُ لهمْ ونتوسلُ بهم لأنَّ اللهَ لا يصلُ إليهِ شيءٌ من أمورِنَا، فهمْ يوصلونَ إلى اللهِ ويكونونَ وسائطَ يقربونَنَا إلى اللهِ زلفى وشفعاءَ عندَ اللهِ هذه شبهتُهُم قديماً، وهذهِ شبهةُ عُبّادِ القبورِ اليومَ.

(9) أيْ: إذا فهمتَ ما سبقَ من الآياتِ البيناتِ التي تدلُّ على أن المشركينَ الأولينَ لم يشركوا في الربوبيةِ وإنما أشركوا في الألوهيةِ، فاتخذوا الآلهةَ من دونِ اللهِ لتقربَهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وتشفعَ لهمْ عندَهُ ـ إذا تبينَ لكَ هذا ـ عرفتَ أن التوحيدَ الذي دعتْ إليه الرسلُ وجحدَهُ المشركونَ هو توحيدُ الألوهيةِ لا توحيدُ الربوبيةِ، وأن الإقرارَ بتوحيدِ الربوبيةِ وحدَهُ لا يكفي ولا يُدخلُ من أقرَّبهِ في الإسلامِ.ومعرفةُ ذلك مهمٌّ جداً إذْ بهِ يُعرفُ التوحيدُ والشركُ والإسلامُ والكفرُ، والجهلُ بذلكَ ضررُهُ عظيمٌ، وخطرُهُ كبيرٌ؛ لأن الإنسانَ قد يخرجُ من الإسلامِ وهو لا يدري.

هيئة الإشراف

#5

19 Nov 2008

شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ

المتن:

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (فإذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا، وَأنه لم يُدْخِلْهُم في التَّوحِيدِ الذي دعت إليه الرسل ودَعَاهُمْ إِليهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذي جَحَدُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ؛ الَّذي يُسَمِّيهِ المشرِكُونَ في زَمَانِنَا: (الاعْتِقَادَ) كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الملائِكَةَ لأَجْلِ صَلاحِهِمْ وقُرْبِهِم مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَشْفَعُوا لَهُم، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً مِثْل: الَّلاتِّ، أَوْ نَبِيّاً مِثْلَ عِيسَى.
وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ على هذا الشِّركِ وَدَعَاهُمْ إِلى إِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لا شريك له؛ كَما قَالَ تَعالى: {وأنَّ المَساجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، وقَالَ تَعَالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}.
وتَحَقَّقْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاتَلَهُمْ لِيكُون الدين كله لله، والدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، والذَّبْحُ كُلُّهُ للهِ، والنَّذْرُكُلُّهُ للهِ، وَالاسْتِغاثَةُ كُلُّهَا باللهِ، وَجَمِيعُ أَنْواعِ العِبَادَةِ كُلُّها للهِ.وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسلاَمِ،وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلائِكَةَ أو الأَنْبياءَ أو الأَوْلِياءَ، يُريدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلى اللهِ بِذَلكَ هُوَ الَّذي أَحَلَّ دِمَاءهم وأمْوَالَهُمْ.عَرَفْتَ حِينَئذٍ التَّوحِيدَ الَّذي دَعَتْ إِليْهِ الرُّسُلُ،وَأَبى عن الإِقْرار بِهِ المُشْرِكُونَ).


الشرح:

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قوله: (فإذا تحقّقت أنهم مقرّون بهذا) إشارة إلى إقرارهم بما جاء في الآيات السابقة، وهو الإقرار بتوحيد الربوبيّة.
وقد ذكرت لك: أن إقرار المشركين بالربوبية يختلفون فيه:

- فمنهم:من يقر بأفراد منه كثيرة.

- ومنهم:من يقر بأكثره.

- ومنهم:من يقر بأنواع ربوبية الله جلّ وعلا، وأنه واحدفي ذلك.فإقرار المشركين بتوحيد الربوبية مختلف، ليسوا جميعًا فيه على مرتبة واحدة

لكن يجمعهم أن جميع من أرسل الله -جلّ وعلا- إليهم الرسل لم يكونوا منكرين لوجود الصانع، لم يكونوا منكرين لوجود الرب الخالق الرزاق الذي يدبر هذا الملكوت، ويجري الأفلاك، ويجري ما به صلاح العباد، لم يكن أحد ينكر هذا، إلا طائفة كما قال الشهرستاني في بعض كتبه، قال: (إلا طائفة لا يصحُّ أن تنسب إليهم مقالة؛ لأنهم كانوا أفرادًا متفرقين).

كل من بعثت إليهم الرسل كانوا يقرون بأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي خلق الأفلاك والسماء، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي أجرى المياه، وهو الذي خلق الإنسان والحيوان، وهو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي من توكل عليه لم يخب، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها، وهو الذي جل وعلا بيده ملكوت كل شيء يدبر الأمر، يحيي ويميت، ويمرض ويصح، ويفقر ويغني، كما شاء جل وعلا.

هذا الإقرار لا يدخل المرء في دين الله ، لا يدخل المرء في التوحيد، ولهذا عظمت الشبهة بهذه المسألة في كل زمان.

وتحقيق هذه الشبهة التي أراد الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- كشفها، هي شبهة من يقول: كيف يحكم بالشرك على من يقر بوجود الله وأنه هو الذي يتصرف في الملكوت، ويقول: ما شاء الله، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وربما دعا وصلى وتصدق، إلى غير ذلك مما ذكرنا سابقًا من أنواع العبادات، فما الذي جعل أولئك كفارًا؟ما الذي جعلهم مشركين؟ ما الذي جعلهم يشركون؟ ما الذي جعلهم ليسوا بأتباع لـمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لا بد من تحقيق ذلك.

إذا تحققت أنهم مقرون بأفراد الربوبية، وأنهم يعظمون الله -جلّ وعلا- ببعض ما يستحق سبحانه وتعالى، تقرر ذلك في قلبك، وعرفته معرفة يقين، فلا بد أن تعلم أن ذلك الإقرار لم يدخلهم في توحيد الله جلّ وعلا، لهذا قال هنا: (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا) يعني: بما سبق إيضاحه.(وأنه - يعني: ذلك الإقرار - لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا بد أن تبحث وأن تعلم ما الذي جحدوه؟

ما الذي به صاروا مشركين؟. وإذا تأملت حالهم وجدت أنهم صاروا مشركين بعبادة غير الله جلّ وعلا.فإذاً: صارت الأفعال قسمين:

القسم الأول: أفعال الرب جلّ وعلا.

والقسم الثاني: أفعال العباد.

أفعال الرب توحيده بها لا يكفي؛ لأن المشركين كانوا موحدين لله -جل وعلا -بأفعاله، يعني: كل فعل لله يعلمون أنه ليس له شريك فيه على الكمال والحقيقة.

والقسم الثاني من الأفعال: أفعال العباد، هي التي من جهتها صاروا مشركين.

فالواجب في التوحيد الذي دعت إليه الرسل: أن يُوحَدّ الله -جل جلاله-بالنوعين من الأفعال:

- أفعاله سبحانه.

- وأفعال العباد أيضًا.

وإنما صار ابتلاء الناس بالرسل من جهة توحيد العباد ربهم -جلّ وعلا- بأفعالهم، وليس بأفعاله سبحانه وتعالى. لا بد أن نعلم ما التوحيد الذي جحدوه؟

علمنا التوحيد الذي أقروا به، وهو توحيد الربوبية، لكن: ما التوحيد الذي جحدوه؟
قال الإمام رحمه الله هنا: (وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة) توحيد العبادة هو الذي جحده المشركون، لِـمَ ؟لأنه قال لهم عليه الصلاة والسلام: ((قولوا لا إله إلا الله)).فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ومن المتقرر المعروف: أن معنى (الإله) في لغة العرب: المعبود؛ لأن كلمة (إله) مشتقة من أله يأله إلاهةً وألوهةً، وهذا بمعنى العبادة.

فالإله هو المعبود، وقول (لا إله إلا الله) يعني: لا معبود حق إلا الله.

ويدل على تفسير العبادة بذلك قول الله جلّ وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} هذه وصية الله -جلّ وعلا- لجميع المرسلين، ولجميع الناس.(لا تعبدوا إلا الله) مساويةٌ لـ (لا إله إلا الله) فصار بالمطابقة: معنى (الإله) هو المعبود، والإلهة هي العبادة (لا إله إلا الله) يعني: لا معبود إلا الله، لا تعبدوا إلا الله.

المشركون يفهمون اللغة، ويفهمون معاني الكلام في زمن النبوة، فلما قال لهم: ((قولوا: لا إله إلا الله)) دعاهم إلى (لا إله إلا الله) علموا أن المعنى أن يذروا جميع الآلهة، وألا يتوجهوا بنوع من أفعالهم إلى شيء من تلك الآلهة، فقال الله -جلّ وعلا- عنهم في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.وقال -جلّ وعلا- أيضاً عنهم في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}

أما الأرباب بمعنى الربوبية، الخلق والرزق والإحياء والإماتة، فهم لم يجعلوا لهم أرباباً مختلفين، لكن الرب بمعنى المعبود بالتلازم هذا يكون بالمعنى الأول، يعني: يأتي الرب بمعنى المعبود؛ كما ذكرنا في نحو قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} وفي نحو قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} .

إذاً: المشركون صاروا مشركين بعبادتهم غير الله جلّ وعلا، وذكرنا لك فيما مضى: أن تلك العبادة لغير الله كانت من جهة الاعتقاد في الأرواح الطيبة، الأرواح الخيرة، اعتقدوا في الملائكة؛ لأن الملائكة أرواح خيرة، اعتقدوا في الأنبياء؛ لأن الأنبياء أرواح طاهرة، اعتقدوا في الصالحين؛ لأن الصالحين لهم أرواح طيبة، فمن جهة خيرية الأرواح وزكاء الأرواح وطهرتها وقربها من الله جلّ وعلا، اعتقدوا في تلك الآلهة.

فصار سبب شرك المشركين: الاعتقاد في الأرواح، هذه هي حقيقة الشرك بالله -جل وعلا- في جميع رسالات الرسل، جاءت لدحض هذه المسألة، وهي بيان أن من جعل للأرواح تأثيرًا، أن للأرواح خواصاً ليست بشرية، وإنما خواص من جهة خواص الآلهة، فهذا هو الشرك بعينه.فنوح -عليه السلام- جاء إلى قوم يعتقدون في أرواح الصالحين {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال ابن عباس: (أسماء رجال صالحين).الملائكة اعتقدوا فيها لطهرة أرواحها، اعتقد المشركون في الصالحين وفي بعض الرسل والأنبياء؛ لأجل طهرة أرواحها. إذا تقرر هذا وصار عندك حقيقة واضحة؛ لأن أعظم مسألة أن تعلم بم صار المشركون مشركين في دعوة كل نبي وكل رسول. علمت حقيقة الشرك ما هو.فإذا علمت حقيقة الشرك، فأي شيء سُمِّي به ذلك الشرك فلا يغيّر الحقيقة؛ لأن الأشياء تُعرف بحقائقها وبمعانيها، لا بألفاظها.

المشركون في الزمن المتأخر في القرون الماضية غيّروا الأسماء، فسمّوا الشرك في العبادة: الاعتقاد؛ كما ذكر الشيخ هنا. قال: (وهو الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعني: توحيد العبادة يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، (يعتقد في الولي) هذه كلمة تسمعها إلى الآن في كثير من الأمصار. يقول: هذا له روح فيها سر، والروح يسمونها السر أيضاً، فيعدلون مثلاً عن (قدّس الله روحه) إلى (قدّس الله سرّه) ما الفرق بين الروح والسر؟ السر عندهم هو: الروح التي يُعتقد فيها، فتغيث، فصار لها سر من الأسرار.

تسمية الشرك بالاعتقاد ، تسمية الشرك بالتوسل، تسمية الاستغاثة بالتوسل، وتغيير حقائق الأسماء، وحقائق الألفاظ، هذا لا يعني تغير حقائق الأشياء وحقائق المعاني؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ.فالخمر لو سميت بغير اسمها، لو سميت شرابًا روحيًّا بقيت خمرًا محرمة، ولو سميت بأحسن الأسماء وبأقرب الأسماء للنفوس. لو سمي الربا بتسمية لائقة، سمي فائدة، أو سمي مكسبًا، أو سمي مضاربة، وحقيقته هي حقيقة الربا يبقى الربا؛ فالعبرة في الشرع بالمعنى وليست العبرة بالألفاظ.وقد جاء في الحديث: أن قوماً يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، فالألفاظ لا تغير الحقائق.

فلما كان المشركون في زمن الإمام المصلح الشيخ محمد -رحمه الله- غيروا الأسماء، التبس هذا على كثير من أهل العلم، كيف يكون هذا هو الشرك الذي به صار أهل الجاهلية مشركين!لأجل تغير الأسماء. إذا قلت:إنهم يستغيثون بغير الله. قالوا: هذا توسل، والتوسل بالصالحين جائز؛ كما هو مذكور في كتب الفقه. ذاك التوسل شيء، وهذه الاستغاثة التي أسميتموها توسلاً اعتداءً، هذه حقيقتها شيء آخر. إذا قلت:إن الذبح لغير الله شرك أكبر، هو من جنس تقرب المشركين لأولئك بالقرابين، لتلك الأصنام والأوثان بالقرابين.

قالوا:ليس هذا ذبحًا للميت، وإنما هو تقرب لله، لكن باسم الميت حتّى يشفع الميت عند الله، وإلا فإن المقصود هو الله جل جلاله.فغيروا الأسماء وبقيت حقيقة الاعتقاد، ولهذا الشيخ سماه هنا: (الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) والاعتقاد: هو تعلق القلب بمن تقرب إليه ذلك المتقرب، فإذا تعلق قلب المسلم بالميت من جهة كشف ضره أو جلب نفعه، أو بتوجهٍ إليه بأي نوع من أنواع العبادة، صار ذلك شركًا منه مخرجًا له من الملّة، ولو كان مصلِّيًا صائمًا. فإذاً: حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك لا بد أن تتضح كمقدمة لكشف الشبهات.فبم صار المشركون مشركين؟ من جهة الاعتقاد في الأرواح.

بم صار الموحدون وأتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- موحدين ومسلمين؟

من جهة تعلقهم واعتقادهم في الله وحده دون ما سواه ، ونبذ التعلق بالمخلوقين وبالأموات والأوثان والأصنام الذي حقيقته التعلق بالأرواح.

ذكرت لك أن المشرك ليس عادم العقل، بحيث إنه يتعلّق بحجر لا معنى له، أو يتعلق بشجر لا معنى له، أو يتعلق بخشب لا معنى له، وإنما يتعلق بهذه الأشياء لما لها من الخاصيّة من جهة حلول الأرواح فيها، إما أرواح الصالحين، أو أرواح الكواكب، أو أرواح الملائكة، باعتقادات مختلفة. صاروا مشركين لأجل اعتقادهم، سواء أكان ذلك الاعتقاد في نفسه موافقًا لحقيقة الأمر أم لم يكن موافقًا.مثال ذلك: ما يحصل الآن عند قبر الحسين في مصر، من المعلوم عند المؤرخين أن رأس الحسين لم يحمل إلى مصر، وإنما حمل رأسه إلى الشام، ومصر لم يصلها رأس الحسين، فجُعل هناك قبر ومدفن، فمن تعلق بذلك القبر تعلق بالحسين، وإن كان المدفون ليس بالحسين أصلاً، فصار مشركاً، ولو لم يوافق اعتقاده الحقيقة؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله -جلّ وعلا- في هذه البقعة.

فإذاً: مدار الشرك هو الاعتقاد في المخلوق بأن له بعض خصائص الإله، له أن يشفع عند الله -جلّ وعلا- بدون إذنه ورضاه، يجعلون له خاصية أن الله -جل وعلا- لا يرد له طلبًا، يجعلون له خاصية أنه يسمع ما يتكلم به، وأنه يغيث من استغاث به، وأن أكثر الناس تقربًا إليه يكون أقرب إليه من غيره فيشفع له ويعطيه طليبته وحاجته.إذاً:من المهمات في هذا الباب قبل الدخول في الكتاب ما قدم به الشيخ هذه الرسالة بهذه المقدمات المهمة.

أن تعلم أولاً:حقيقة شرك المشركين، تعلم حقيقة عبادة، أولئك وأنهم كانوا يتعبدون، لم يكونوا خالين من التعبد، كما ذكر في أول الكتاب: أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويحجون ويتفاخرون بالمعروف، لكن لم يكونوا موحدين.

وصاروا مشركين من جهة أنهم اعتقدوا في غير الله جل جلاله ، وأنهم تقربوا إلى تلك الآلهة بأنواع القرابين والعبادات، واعتقادهم في الآلهة كان من جهة الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في أسماء تلك الآلهة، وتمثيل تلك الأسماء بأرواح طاهرة لها عند الله -جلّ وعلا- المقام الأعظم.

فإذا كان كذلك فمن أشرك بالله -جل وعلا- بأي نوع من أنواع الشرك الأكبر فإنه حابط عمله، ولو كان مصليًا صائمًا؛ لأنه كما قال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهو النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن دونه؟

قال -رحمه الله- بعد ذلك: (ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله؛ ليشفعوا له) من المشركين من يدعو الملائكة كما قال جلّ وعلا في سورة سبأ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} لأنهم عبدوهم، فهل كانوا يعبدون الملائكة في الحقيقة؟

أجابت الملائكة بما أخبر الله -جلّ وعلا- به في قوله: {قَالُوا} يعني الملائكة {سُبْحَانَكَ}يعني: تنـزيهاً لك عن أن يكون معك معبود بحقٍّ، تنـزيهاً لك أن نستحق العبادة، تنزيهًا لك عن ذلك الظلم الذي وقع من الناس بإشراكهم الملائكة مع الله في الدعاء والعبادة {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} .

فحقيقة أولئك أنهم في اعتقادهم أنهم سألوا الملائكة، في اعتقادهم أنهم توسلوا بالملائكة، في اعتقادهم أنهم استغاثوا بالملائكة، لكن حقيقة الأمر أنهم استغاثوا بالجن، أنهم عبدوا الجن؛ لأن الجن تأتي وتتكلم عند ذلك الوثن، تتكلم عند القبر، تتكلم عند الصنم، فيظنّون أن الذي كلمهم الملك، يظنون أن الذي خاطبهم وخاطبوه وأجابهم وسألوه إنما هم الملائكة، وفي الحقيقة إنما هم شياطين الجن؛ لأن الجن مهمتهم أن يغووا الإنس؛ لأن إبليس قال لربنا جلّ وعلا: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} .

وقال -جلّ وعلا- عنه في آية أخرى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .فدل على أن الذين استثنى الله -جلّ وعلا- من أن يقعوا في حبائل إبليس إنما هم عباد الله المخلَصون، وهم الذين أخلصوا لله -جلّ وعلا- دينهم، فخلصوا لله سبحانه وتعالى، وأخلصهم الله -جلّ وعلا- من الشركة في العبادة والتوجه.

قال: (منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) هذه مقدمات مهمة، يعني: لم عبدوا الملائكة؟هل رأى الناس الملائكة ؟ ما رأوا الملائكة.

هل اعتقدوا في الملائكة اعتقادًا وهم لا يعرفون حقيقة الملائكة ؟ لا، وإنما اعتقدوا في الملائكة لأنهم يعلمون أن الملائكة:
أولاً: أرواح طاهرة، صالحة، لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم لم يعصوا الله -جلّ وعلا- ولم يرتكبوا خطيئة.
والثاني: أنهم مقربون عند الله جلّ وعلا.
فإذاً:شرك المشركين بالملائكة كان من جهة شبهتين:

الشبهة الأولى: أنهم أرواح طاهرة صالحة لم تعص، وبذلك كانت أرفع من البشر، أرفع من المخطئين من العصاة، فإذا أراد العاصي أن يتقرب إلى الله ضعفت نفسه، فذهب يتقرب بأرواح طاهرة إلى الله، لظنه أنه لأجل معصيته لا يستطيع أن يصل إلى الله جلّ جلاله، هذا واحد.الثاني: لأجل قرب الملائكة من الله جلّ وعلا.
فتعلق المشركون بالملائكة لأجل هاتين العلتين: صلاح الملائكة، وطهرة أرواحهم، ثم لأجل قربهم من الله جل وعلا.

إذا تأملت وجدت أن هذه الحقيقة هي الموجودة في المشركين في كل زمان، ومع تغير الأحوال، وتغير المتعلَّقات.

إذا سألت النصارى: لِـمَ دعوا مريم، لِـمَ يستغيثون بمريم عليها السلام ؟ لِـمَ يستغيثون بالرسل، رسل المسيح؟

لِـمَ يستغيثون ببطارقتهم الأموات والأحياء؟

لِـمَ يصوّرون التصاوير ويجعلونها في كنائسهم، تصاوير الرجال الصالحين، أو مريم وعيسى؟
لِـمَ يعبد اليهود بعض البشر، ويتعلقون بأرواحهم؟
لِـمَ عبد قوم نوح تلك الأرواح؟
لِـمَ عبد قوم إبراهيم تلك الأصنام والأوثان؟

وهكذا إلى زمن المشركين في الجاهلية - جاهلية العرب- إلى زمننا هذا.
وجدت أن الشبهة هي الشبهة في الملائكة:
أولاً: أرواح طاهرة.

ثانيًا: قربها من الله جلّ وعلا.

فمن أراد أن يجعل لله -جلّ وعلا- شريكًا في العبادة يتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة، فنقول له: الملائكة أحق بأن تكون آلهة؛ لأن الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق، وهي مقربة عند الله -جل وعلا- بالاتفاق:

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} .

الله -جلّ وعلا- يخبرنا عن الملائكة بأنهم صالحون لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم مقربون عنده، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا، فسؤال الملائكة أولى من سؤال غيرهم؛ لأن طهرة أرواحهم متفق عليها، ولأن صلاحهم متفق عليه، ولأن قربهم من الله -جلّ وعلا- متفق عليه، ولأنهم يستغفرون عند الله للذين آمنوا باتفاق.

وهذا معناه إذا كان ذانك الشيئان صحيحين فمعنى ذلك: أن الشرك بالملائكة جائز، إذا كان التعلق بأرواح الصالحين واعتقاد أنه لقربهم من الله يكون لهم بعض العبادة، فمعنى ذلك: أن سؤال الملائكة والشرك بالملائكة جائز، والله -جلّ وعلا- أخبرنا في القرآن بأنه يقول للملائكة يوم القيامة: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}فتقول الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.

فمن أجاز الاستغاثة بالأولياء أو بالصالحين فقل له: أليست الملائكة أرواحاً طاهرة صالحة ؟ أليست الملائكة مقربة عند الله جلّ وعلا؟.

فإذا قال: بلى، هي كذلك.

فقل: فلِـمَ لا تقول بجواز الاستغاثة بالملائكة؟ لم لا تقول بأن الملائكة لها الأحقية في أن يطلب منها؛ لأن السبب الذي من أجله توجه للموتى من الصالحين والرسل والأنبياء متحقق في الملائكة؟

والعرب ومن قبلهم لأجل قوة أذهانهم في مسائل العبادة وحرصهم عليها جعلوا المسألة واحدة بدون تفريق، عبدوا الملائكة وعبدوا الصالحين وعبدوا الأنبياء؛ لأن القدر المشترك بين هؤلاء موجود، وهو أنهم صالحون وأرواح طاهرة ومقربون عند الله جلّ جلاله، لكن المشركون من هذه الأمة لم يعبدوا الملائكة، وإنما عبدوا من زعموهم صالحين، أو من هم صالحون في نفس الأمر.

وبهذا نعلم أن حقيقة شرك المشركين في كل زمان إنما هو راجع إلى هاتين الشبهتين:

-شبهة صلاح المستغاث به، صلاح المعبود.

- والشبهة الثانية: قربه من الله جلّ جلاله.

قال هنا: (لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له) هذه الغاية، ذاك سبب: لِـمَ ألّهوا الملائكة ؟

للسببين اللذين ذكرنا.

ما الغاية من سؤال الملائكة ؟ ما الغاية من عبادة الملائكة ؟ غايتها أن يشفع الملك عند الله للسائل.

نفهم من ذلك: أن سؤال أولئك للملائكة لم يكن عن اعتقاد بأن الملك يعطيه مباشرة، وأنه يستقل بالإعطاء، ويستقل بالإمضاء، وإنما هو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه وجاهه لا يرد الله -جلّ وعلا- طلبه.

إذا تقرر ذلك؛ فبه تعلم أنّ ليس من شرط الشرك أن يكون السائل لتلك الأرواح وللأموات وللملائكة أن يعتقد أنها تنفع استقلالاً؛ كما زعم أكثر مشركي هذا العصر، أنهم - يعني عباد القبور وعباد الأوثان - لا يسألون الموتى باعتقاد أنهم ينفعون استقلالاً، وإنما يقولون: نسألهم لما لهم من المقام عند الله حتّى يشفعوا لنا.إذا كان هذا الأمر واقعًا من أهل العصر، ومن عصر الشيخ، ومن قرون، فالملائكة أشركت العرب بها وأشرك المشركون بالملائكة لأجل الشفاعة فقط، ومع ذلك قال الله جلّ وعلا: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}.فالغاية وإن كانت ربما تكون يعذر بها المرء، لكن الوسيلة كانت بالشرك، فالطمع في رضا الله -جلّ وعلا- هذه غاية طيبة، وكل العباد يطمعون في رضا الله جلّ وعلا، لكن لا بد أن يكون طلب رضا الله -جلّ وعلا- بوسيلة مشروعة، وعبادة الملائكة وعبادة الصالحين لا يحصل بها رضا الله جلّ وعلا، ولو كان الذي عبد قال: (ما عبدتهم إلا لأجل أن يعفو الله عني، وإلا فالله -جلّ وعلا- هو الذي يعفو، وهؤلاء وسائط).

نقول: هذا هو الذي من أجله حكم على أهل الإشراك بالشرك، كما قال -جلّ وعلا- في أول سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فإذاً: الغاية أن يقرب المسؤول السائل إلى الله زلفى، ليست غاية المشرك في الزمن الأول أن يعبد المسؤول لقصد أن يعبده، هذا غير موجود.

يعبد الصنم لغاية أن يعبد الصنم في ذاته، أو يعبد الملك لغاية أن يعبد الملك في ذاته، لا، وإنما يتقرب بالقرابين حتى يعطف عليه الملك ويرفع حاجته إلى الله، يتقرب بالقرابين للميت حتى يعطف عليه الميت بروحه، وكلما تقرب أكثر ازدلف منه وقرب منه، فيرفع حاجته إلى الله جلّ وعلا.

فإذاً: غاية المشركين في عبادتهم غير الله -جلّ وعلا- أن يصلوا إلى الله جلّ جلاله.

وهذه هي الغاية الموجودة في أهل هذا الزمان: يقولون ما نعبد هذه، ما نتوجه هذه التوجهات لأننا نعتقد في هذه الأموات، أو في الأرواح أنها تملك الأشياء استقلالاً - حاشا وكلا - وإنما لأجل أن تتوسّط عند الله جلّ وعلا، فهي أرواح طاهرة، وهم مقربون عند الله.

نقول: هذا هو عين شرك الأولين، هو عين الإشراك الذي وقع في كل أمة بُعث إليها رسول ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

مهم أن تفهم الحقائق؛ لأن تغير الصور وتلبيس الأمور وتسمية الأشياء بغير اسمها هذا لا يغير الحقائق في الشرع، وما جاء التلبيس إلا من جهة الألفاظ: أن تُسمى الأشياء بغير اسمها. قال بعد ذلك في صورة ثانية، مثل آخر: قال: (أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات) قال جلّ وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} وفي قراءة {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} .

واللاتَّ: رجل - كما قال ابن عباس- كان يلتُّ السويق، رجل صالح كان يلت السويق ويطعمه الحاج، وكان يجلس يفرِّق ذلك عند صخرة، فلما مات جعلوا قبره في ذلك المكان، وصاروا يتناوبون عليه لصلاحه، ويستغيثون به ويسألونه؛ لأجل أنه أمضى حياته في صلاحٍ، وفي نفعٍ للناس، فاعتقدوا فيه.

فهذا اللاتّ أشرك به العرب؛ لأجل أن روحه طاهرة، وأن أعماله في الدنيا صالحة، فقالوا: هو إذاً مقرب عند الله جلّ وعلا، فإذا كان كذلك فلنتقرب إليه بالقرابين بالذبح والنذر، فلنستغث به، فلندعوه ليرفع الحاجات إلى الله جلّ وعلا.

وهذا هو عينُ شرك المشركين بالآلهة المختلفة، بالموتى، بالأنبياء، بالحسين، وبزينب، وبالبدوي، وبالعيدروس، وبعبد القادر، وأنواع الموتى من الأنبياء والصالحين لأجل هذه الشبهة: الصلاح، والقرب من الله جلّ وعلا.

قال: (أو نبيًّا مثل عيسى) مثّل الشيخ -رحمه الله- بثلاثة أمثلة:

الأول:الملائكة.

الثاني: رجل صالح (اللاتّ).

الثالث: الأنبياء (عيسى).

وعيسى اتُّخذ إلهًا يُسأل ويُطلب منه، ويُستغاث به، وتنـزل الحاجات به، النصارى مختلفون في عيسى: إمَّا أنه يرفع الحاجات إلى الله جل وعلا، ولا يردُّ الله -جلّ وعلا- طلبه، كما هو اعتقاد طائفة من النصارى، أو لأنه تشخُّصٌ للإله، أو كما يقولون أحد الأقانيم الثلاثة، يعني صفة وصورة من صور الإله في بعض أحواله حيث اتّحد - كما يقولون - اللاهوت في الناسوت في هذه الصورة.

فصورة حلول الإله في البشر متمثلة في عيسى عند طائفة من النصارى، فالنصارى يستغيثون ويسألون عيسى: إما على أنه بعض الإله، أو على أنه مقرب عند الله الواحد، ويُسأل لأجل قرب مقامه عند الله.

فهذه ثلاثة أمثلة:

1-استغاثة، أو تأليه للملائكة، بسؤالهم ودعائهم والاستغاثة بهم، وإنزال الحاجات بهم، والتعلق بهم، ورفع ما يريده العباد عن طريقهم، يعني: أن يكونوا وسطاء.

الثاني:بالرجال الصالحين، مثل:اللاتَّ.

والثالث: بعيسى.

فهذه الأمثلة الثلاثة إذا تأملتها وتدبرت وفهمت: لِمَ أشرك من توجه إلى الملائكة؟

وبم، وكيف أشرك من توجه إلى الرجل الصالح (اللاتَّ)؟

وبم أشرك من توجّه إلى عيسى؟علمت حقيقة الشرك، ولم يلبس عليك بعد ذلك ملبس، أو يقول قائل: هذا الذي يمارَس اليوم ليس بشرك، وإنما من سماه شركًا أكبرَ مخرجًا من الملة تشديد من المتشددين، أو من الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- ودعوته ومن اتبعه على ذلك؛ لأن حقائق الأشياء هي التي تفصح لك عن الأمور.

وعرفت قوله: (أو نبيًّا مثل عيسى) دليله: قول الله -جلّ وعلا- في سورة المائدة، في آخرها: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} مع قول عيسى عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} قال بعد ذلك: (وعرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك).


لم قاتل النبي -عليه الصلاة والسلام- قريشًا والعرب؟

لأنهم كانوا مشركين . بم كانوا مشركين؟ بما ذكرنا سالفًا، بعبادة غير الله.

هل كانوا يعبدون غير الله لقصد ذلك الغير؟ أم لأجل الوساطة والتوسّل؟

لأجل الوساطة والتوسل، بنص القرآن: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}لم يكونوا يتوجهون للاتّ وهو الرجل الصالح، أو للأنبياء؛ لقصد أن يتوجهوا إليهم استقلالاً، لا؛ إنما كان لأجل التقرب إلى الله جلّ وعلا. فكلٌ يريد التقرب إلى الله، وهذا التقرب كان عن طريق الواسطة، ولأجل هذه الواسطة صاروا مشركين لمّا توجّهوا إلى الموتى، وإلى الغائبين، وإلى الملائكة، بأنواع العبادات. قال: (وعرفت أن رسول الله -صلى عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك) قاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم، وجعل من يقاتل أولئك شهيدًا إن مات في قتالهم، وجعله موحّدًا، وأولئك جعلهم مشركين، ومن قُتل من أولئك شهد عليه بالنار، ومن قتل من المسلمين شهد له بالجنة، إن كان قتاله لله، وهكذا.

لم قوتلوا؟ وبم استُحِلَّت أموالهم ودماؤهم؟لأجل أنهم مشركون ذلك الشرك.ولهذا الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- قال في رسالة له: (وعرضت ما عندي من التوحيد على علماء الأمصار، فوافقني طائفة، والأكثرون وافقوني على التوحيد، لكن عظم عليهم التكفير والقتال).وهاتان المسألتان ترتيب حتمي لما قدمناه، يعني: إذا ثبت أنَّهم مشركون فلا بد أن تترتب أحكام المشركين، لابد أن يقاتلوا مع القدرة على ذلك، وإذا قوتلوا لا بد أن يكون هناك تميُّز: هؤلاء موحّدون، وهؤلاء مشركون، ولا بدّ أن يكون هناك نشر للتوحيد، ودحض للشرك، وإقرار لما يحب الله جلّ وعلا، ويرضى من الإخلاص، وعبادته وحده لا شريك له في القتال. قال: (خالَفوني في القتال والتكفير) لأن التخلص من تأثير الناس في حقائق الأشياء يحتاج إلى علم راسخ، وإلى تجرد من علائق الناس وشبهاتهم.الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يريد منها أن يكشف الشبهات، ويبيّن أن التوحيد هو حق الله جلّ وعلا، وأن ما يمارسه الناس في هذه الأزمنة بما يسمونه الاعتقاد، والتعلق بالأرواح، ونحو ذلك، والاعتقاد في الميت، ويسمونه (السيد) أن هذا هو عين الشرك، يترتب على ذلك بقية الأحكام من التكفير أولاً، ثم قتالهم على أنهم كفار ومشركون.وشرح الله -جل وعلا- صدر الشيخ، وصدر أئمة الدعوة في أول هذا الزمان، حتّى انتشرت دعوة التوحيد - ولله الحمد - بهذه الدعوة المباركة، وبتأييد مَنْ نصرها وأيّدها بالسيف والسنان، وهو الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله تعالى، وكذلك أبناؤه من بعده، وبقيت هذه الدعوة في الناس إلى اليوم لتساند السنان مع القرآن في ذلك، وهذا لا بد منه؛ لأن الدعوة لا يمكن أن تنتشر إلا بقوة تحميها.شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- دعوته وعلمه كان واسعاً ونشر التوحيد، ودعا إلى ذلك، وصنّف المصنّفات، لكن لم يكن له سيف يحميه فسجن، ولم يتمكن من نشر التوحيد في الناس، لكن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أيده الله -جلّ وعلا- بالأئمة من بيت آل سعود المبارك، ونشروا هذه الدعوة في الناس، وبقيت إلى هذا الزمان.

الناس الذين اعترضوا على هذه الدعوة قالوا: هذه الدعوة قاتلت الناس، وتجد في كتب تواريخ نجد يقولون: قاتل المسلمون المشركين، ويستعظم الناس كيف يسمى أتباع الدعوة مسلمين؟ وكيف يسمى الآخرون مشركين؟

نقول:هذه حتمية؛ لأن توحيد الله ليس فيه مجاملة، إنما هو حق وباطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}.فلا بد من ترتب أحكام التوحيد والشرك في الأرض، فإذا وجد الشرك فلا بد أن توجد الأحكام المناطة بذلك، وهو أن يوصف أولئك بأنهم مشركون، وأنهم كفار، ولا بد من قتالهم مع القدرة، حتى يكون الدين كله لله جلّ وعلا.

قال الشيخ رحمه الله هنا: (وعرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده؛ كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}). قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، يعني: إلى التوحيد، إلى ألا يعبد إلا الله، ألا يتوجهوا بشيء من أنواع العبادة إلا لله -جل وعلا- وحده.وهذه الرسالة موضوعة لبيان حقيقة التوحيد، وكشف كل شبهة أدلى بها خصوم الدعوة في مسائل التوحيد، وبيان أن هذا الأمر حق لا لبس فيه.ومن درس التوحيد حق الدراسة انشرح صدره لهذا الأمر أعظم انشراح، وصار في قلبه من تعظيم الله جل وعلا، وتعظيم دعوة التوحيد ما به يستطيع أن يرد على أي مبطل في هذا الأمر.

ولهذا يُذكر أن أحد العامة من أتباع الدعوة، قال له بعض المشككين: أنتم متعصبون للشيخ محمد بن عبد الوهاب تعصباً؛ لأنه من نجد وعالم، وكذا، تتعصبون له.

قال هذا العامي لذلك المدلي بهذا الكلام: قال: لو خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبره وقال: ما دعوتكم إليه، وما ذكرته لكم غير صحيح، ما قبلنا كلامه، واستمررنا على التوحيد؛ لأنهم ما أخذوا به تقليداً، وإنما أخذوا به عن حجة بينة واضحة.

فلو أتى آتٍ وقال: هذا غير صحيح، مثلاً: ضلّ ضالٌّ كان من الموحدين، كان من أتباع السلف، كان من السلفيين، ثم بعد ذلك انقلب إلى شيءِ آخر، انقلب إلى طائفة المشركين أو المبتدعة، فهل يشكُّ الموحّد فيما عنده من الحقّ؟

لا؛ لِمَ؟ لأنه عرف الحق بدليله، عرف الحق بالنص من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة، والعلماء في هذه الأمة ليسوا كعلماء النصارى، يُقبل ما يقولون هكذا مطلقًا، بل هم أدوات لفهم نصوص الكتاب والسنة، ليسوا مستقلين، ما يقال: يطاع فيه دون نظر، إن قال الشيء وبين الحق قبلت به الأمة - والأمة لا تقر أحدًا على ضلالة - فإذا ضلّ ضالٌّ بينت الأمة ضلاله - ولله الحمد - لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله.

هذه المقدمات من المهم أن تراجعها مرة تلو الأخرى؛ لأن بها بيان ما في هذه الرسالة، نسأل الله -جلّ وعلا- لي ولكم الانتفاع بما سمعنا والانتفاع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

قال: (وتحققت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله). هذا من جهة التمثيل، مثّل بالنذر والذبح والاستغاثة؛ لأن الشرك بالله -جلّ وعلا- في هذه الأشياء كان أكثر شيوعًا في زمن إمام الدعوة رحمه الله تعالى، وإلا فإن أصناف شرك المشركين وصرفهم العبادة لغير الله -جلّ وعلا- كثيرة، ويجمعها قوله في آخر الكلام: (وجميع أنواع العبادات كلها لله).

قال: (وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام). هذا احتجاجهم: أننا موحدون لله، لا نقول: إن ثَّم رازقاً إلا الله، وليس ثَمَّ محي إلا الله، نحن مؤمنون بالله، بأنه يرزق ويخلق ويعطي، وأنه يجيب دعوة المضطر، وأنه وأنه، لكنهم لم يبطلوا الوسائط، لم يبطلوا قصد غير الله -جل وعلا- بالعبادة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}قال السلف في تفسيرها - في هذه الآية من آخر سورة يوسف - معنى قوله{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ}يعني: وما يؤمن أكثرهم بالله، بأنه هو المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة {إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}به في العبادة، فقد جمعوا إيماناً وشركاً. فلا تتصور أن المشرك الذي يُحكم عليه بأنه مشرك أنه خِلْو الوِفَاض وخلو القلب من الإيمان بالله أصلاً، هذا لا يتصور، وإلا لكان المشرك إنما هو الذي يجحد كل أنواع الإيمان، يعني: الذي يجحد الربوبية، ويجحد وجود الله جلّ وعلا، وهذا ليس هو الذي احتج القرآن على أصحابه.

بل القرآن فيه إقامة الحجج على أن الله -جلّ وعلا- واحد، وأنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، إلى آخر الآيات في سورة النمل، وفي كل آية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إلى آخر ذلك.

قال الشيخ -رحمه الله- هنا: (وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم)

يعني: أن سبب كفر المشركين، وسبب الحكم عليهم بأنهم كفار مشركون، حلت دماؤهم وحلت أموالهم: هذه الأشياء: قَصْدُ غير الله جلّ وعلا، قصد الملائكة، قصد الأنبياء، قصد الأولياء.أما قصد الملائكة: فإنهم كانوا يقصدون الملائكة بطلب الحاجات، كما قال -جلّ وعلا- في آخر سورة سبأ عنهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.فكانت الملائكة تعبد، لكن في الحقيقة الذي عُبد هم الجن؛لأنهم طلبوا من الملائكة، والذي أجابهم لطلبهم الجن ليبقوا على الشرك.وكذلك الأنبياء،سئلت الأنبياء في قبورها، واستغيث بها، وذبح لها، ونذر، ومن سأل ربما أُجيب سؤاله، وإجابة السؤال من جهة الجن، فيكون الجن ربما أحضر للناس -شياطين الجن- أحضر لذلك السائل بعض الأشياء، أو عرفه ببعض الأشياء لتقع المصيبة، وهذا في أكثر الأحوال، وإلا فإنه من المقرر أن إجابة الدعاء من فروع الربوبية، وليس من فروع الإلهية؛ لأن المشرك قد يدعو الله -جل وعلا- ويستجيب الله -جل وعلا- لدعائه، كما قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} .

فإجابة الدعاء من جنس إعطاء الرزق، من جنس إعطاء المآكل والمشارب والأولاد، فإنه قد يدعو الكافر ويستجاب له؛ لأن إجابة الدعاء ليست خاصة بإجابة المسلم، بل هذا عدو الله إبليس سأل الله - وقد أبى واستكبر وكان من الكافرين - أن يؤخره إلى يوم الدين؛ فأجاب الله دعاءه وسؤاله فأخره.

فإذاً: هنا حينما يُسأل نبي من الأنبياء، أو يسأل ولي من الأولياء عند القبر فيجاب السؤال، أو يحصل له ما طلب؛ فسبب حصول ما طلب أحد شيئين:

الأول: أن يكون شياطين الجن أَحضرت له ما طلب، أو كان ثم سبب فأزالته الجن، يعني: سبب من جهة الجن، إما امرأة ما تحمل بسبب شياطين الجن، أو شيء مفقود كان بسبب شياطين الجن، أو نحو ذلك، أو أراد أن يكلم هذا الميت فكلّمه شيطان، وما أشبه ذلك، يعني: مما تقدر عليه الجن، هذا نوع.

والنوع الثاني:

أن يكون سأل متوسطاً بصاحب القبر، لكنه قام بقلبه حين السؤال اضطرار وحاجة ملحة؛ فأجاب الله -جلّ وعلا- السؤال لأجل الاضطرار، والله -جلّ وعلا- أطلق إجابة المضطر، فقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}.

فالمشرك إذا كان مضطراً يجاب، ولو كان في سؤاله بعض الشرك؛ لأنه يكون هنا غلب عليه جهة الاضطرار، ولهذا حقق العلماء أن إجابة سؤال المشرك عند القبر ليس السر فيه القبر؛ كما يقوله المشركون، وإنما يكون ثَم شيء آخر، إما جهة شياطين الجن، وإما أمر آخر قام بالقلب منه مثلاً: الاضطرار، وإنزال الحاجة، والانكسار بين يدي الله جل وعلا، فيظن الظان أن سبب إجابة الدعاء بركة القبر، وإنما هو من جهة ما قام بالقلب من الاضطرار؛ لأن إجابة الدعاء من فروع الربوبية، والربوبية ليست خاصة بمسلم دون كافر، إعطاء الأرزاق ليس خاصاً بالموحدين، بل يعطي الله -جلّ وعلا- الجميع، كما قال -جلّ وعلا- في جواب سؤال إبراهيم: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

قال: (وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء) الأنبياء قصدتها العرب، وقصدها المشركون من أهل الملل، عُبد موسى، وعبد عزير، وعبد المسيح من دون الله جلّ وعلا، وقصد أولئك لأجل الوساطة، لأجل التقرب إلى الله -جل وعلا- بهم.

فصار من قصدهم مشركاً حلال الدم والمال، لا لأنه طلب منهم استقلالاً، ولكن لأنه طلب منهم بالوساطة.

قال: (أو الأولياء) والأولياء أشرك بهم؛ كما قال جلّ وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}

قصدوا هؤلاء: الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون ماذا؟

هل قصدوهم - يعني العرب - يريدون أن يجيب هؤلاء استقلالاً ؟ أم قصدوا أولئك بالعبادة يريدون الوساطة، يريدون الزلفى، يريدون الشفاعة؟

قال الشيخ -رحمه الله- هنا: (يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك).

إذاً: فشرك الأولين من جهة الوساطة.

شرك قوم نوح من جهة التوسط بالصالحين.
وشرك قوم إبراهيم من جهة التوسط بما زعموه روحانية للكوكب.

وشرك العرب فيه هذا وفيه هذا، وإن كان الغالب عليه أنه شرك بالصالحين.

قال: (هو الذي أحل دماءهم وأموالهم).

إذاً: مع كونهم يقرّون بالربوبية ومع كونهم يتعبدون، ولهم أذكار، ونحو ذلك، لكن لما قصدوا غير الله بالعبادة - ولو كان على جهة التوسط - فإن ذلك أحل دماءهم وأموالهم؛ لأن عندنا مقدمة يقينية ونتيجة متيقنة.

المقدمة اليقينية الأولى:

أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء، هذا بيقين من القرآن ومن حال العرب.

المقدمة الثانية:

أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء وغير هذه الأشياء يريدون التقرب إلى الله زلفى، ولا يريدون الاستقلال، لا يريدون الطلب على جهة الاستقلال، وإنما أرادوا الطلب على جهة التوسط.

فهذه المقدمة الأولى يقينية، والثانية أيضاً يقينية؛ لقول الله جلّ وعلا:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقد ذكرت لكم أن قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} هذا حصر العلة في عبادتهم لإنتاج المعلول، وهو التقرب إلى الله زلفى، يعني: أنهم ما توجهوا لهم لأجلهم بذاتهم، ولكن لأجل أن يوصلوهم إلى الله جلّ وعلا، فهاتان المقدمتان يقينيتان.

والنتيجة أيضاً يقينية:

وهو أن دماءهم حلت وأموالهم حلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه، بإحلال الله -جلّ وعلا- ذلك لهم، وأن سبب الحل -سبب جعل هذه الأشياء حلالاً- هو شركهم بالله جل جلاله.

قال بعد ذلك: (عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون) وهذه النتيجة من دخلت إلى قلبه بالبراهين السابقة فقد أوتي حظاً عظيماً؛ لأن الشبهة التي إذا تكسرت في البداية فما بعدها أهون: أن يتقرر ما ذكرنا وأن يبطل استبعاد شرك المشرك لأجل أنه يصلي، أو يزكي، أو يحج، أو يعتمر، أو أنه يذكر الله، أو، أو، إلى آخره.

إذاً: مدار الحكم بالشرك واضح، وهو صرف العبادة أو صرف شيء من العبادة لغير الله جلّ جلاله، فمن أتى به فهو حابط العمل مشرك، ولو كان أرفع الخلق، ولهذا قال -جلّ وعلا- للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ولو كان سيد الخلق؛ لأن مقام الخالق جلّ وعل، مقام الرب العظيم أعظم وأعظم وأعظم، وحقه أعظم من أن يحابى فيه لأجل إنسان كائناً من كان، قال: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} يعني: وحده دون ما سواه {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}ونحو هذا في غير هذه الآية.

فإذاً: إذا صرف أحد العبادة أو صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك وعمله حابط؛ولو كان أثر السجود في وجهه؛ لأنه أشرك، وليس المدار هنا موازنة: أشرك في شيء وتعبد في شيء.ولو كانت الموازنة هنا قائمة بين السيئات والحسنات - كما في حال الموحد - فإنها يكون ثَّم موازنة في حال المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل من مشرك صرفاً ولا عدلاً، لم يقبل منه إلا التوحيد، إلا أن يأتي بلا إله إلا الله التي يعلمون معناها.

إذاً:بهذه المقدمة إلى هنا يسهل الدخول إلى ما بعده في الكتاب، وأن التوحيد هو أعظم المهمات، وأعظم الواجبات، وأول واجب وآخر واجب، وأن من صرف شيئاً من العبادة لغير الله فإنه حابط العمل، ولو كان ما كان في عمله.هذه إذا دخلت في القلب ولم يكن في القلب تردد لأجلها، صار إبطال أي شبهة احتج بها المشركون راجعاً إلى هذا الـمُحكم. ولهذا يقرر الشيخ بعد ذلك أن ما ذكرنا من وصف حال المشركين، والمقدمات اليقينية والنتيجة اليقينية، أن هذا محكم، إذا احتج أحد من المشركين بحديث أو بآية وأولها على غير تأويلها، فلك أن ترجع إلى هذا المحكم، وأن تترك ما اشتبه عليك علمه؛ لأن هذا يقين كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

فهذه المقدمة مهمة للغاية ، وهي أساس محكم يمكن أن تحتج به في أي مقام على من عاند وأشرك بالله جلّ وعلا، أو حسَّن الشرك أو لم يكفر بالطاغوت.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

19 Nov 2008

العناصر

شرح قول المؤلف: (فإذا تحققت بأنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد ...)
شرح قوله: (وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة ...)
التغيير في الألفاظ والتسميات لا يغير الحقائق والمعاني
لا بد قبل كشف الشبهة من معرفة حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك
شرح قوله: (ثم منهم من يدعو الملائكة ...)
- سبب عبادة المشركين للملائكة
- غاية المشركين من عبادتهم للملائكة
شرح قوله: (أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات ...)
شرح قوله: (أو نبياً مثل عيسى)
سبب قتال الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين
بيان ما يترتب على معرفة حقيقة الشرك
بيان ما تحتاجه الدعوة إلى التوحيد
أهمية معرفة الحق بدليله
بيان الدليل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية
من المشركين من كان يعبد بعض الصالحين لصلاحهم وقربهم من الله تعالى
بيان أن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم
بيان معنى توحيد الربوبية
الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام
بيان معنى الإخلاص لله تعالى
تفسير قول الله تعالى : ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء)
- أقسام الدعاء وأحكامه
معنى الذبح
- أقسام الذبح وأحكامه
- أنواع النذر
معنى الاستغاثة
أقسام الاستغاثة
بيان أن شرك المتأخرين من جنس شرك الأولين
شرح قوله: (وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم ليكون الدعاء كله لله ...)
شرح قوله: (وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام)
سبب كفر المشركين هو قصدهم الملائكة والأولياء والصالحين يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله تعالى
لما قصد المشركون غير الله تعالى كفروا وأبيحت دماؤهم وأموالهم مع إقرارهم بالربوبية
بيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

19 Nov 2008

الأسئلة

س1: هل الإقرار بتوحيد الربوبية يكفي للدخول في الإسلام؟ وضح إجابتك مع ذكر الدليل.
س2: هل شرك المتأخرين من جنس شرك مشركي العرب الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وضح إجابتك.
س3: لم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين؟
س4: اذكر أنواع الدعاء وأقسامه.
س5: بين معنى الذبح، واذكر أقسامه.
س6: بين معنى الاستغاثة، واذكر أقسامها.
س7: اذكر أنواع النذر.
س8: (التغيير في الأسماء لا يغير في الحقائق والمعاني) اشرح هذه الجملة مبيناً أهميتها في هذا الموضوع.
س9: ماهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون؟
س10: هل يمكن أن يقع الإنسان في الشرك وهو يريد أن يتقرب إلى الله تعالى؟ وضح إجابتك.
س11: اذكر تفسيراً مختصراً للآيات التالية:
أ: قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض …} الآية.
ب: قوله تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون…} الآيات.
ج: قوله تعالى: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} .
د: قوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحداً} .
هـ: قوله تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفى} .