29 Aug 2015
الدرس الخامس: تحرير أقوال المفسّرين المختلفة
تدرّبنا في الدرس السابق على تحرير أقوال المفسّرين المتفقة والمتقاربة، وكيف نصوغ عبارة تعبر عن المعنى الذي يجمعها، وكيف ندلّل على القول، وننسبه إلى من ذكره من المفسّرين.
وفي هذا الدرس إن شاء الله سندرس طريقة تحرير الأقوال المتباينة، أي التي يعبر كل قول منها عن معنى مختلف عن القول الآخر.
- والأقوال المتباينة قد يصلح حمل التفسير عليها دون تناقض.
وذلك كقوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( 17 )) التكوير.
قيل إن "عسعس" بمعنى: أقبل.
وقيل إن "عسعس" بمعنى: أدبر.
ورغم أن القولين مختلفان بل ظاهرهما التعارض، إلا أنه يمكن حمل المعنى عليهما جميعا، لأن وقت الإقبال مختلف عن وقت الإدبار، فيكون المراد في الآية الإقسام بالليل حال إقباله، وحال إدباره، وكلاهما يصلح للقسم به، ومناسبان للسياق.
- وقد لا يصلح حمل الآية إلا على أحد هذه الأقوال فقط نظرا لتعارضها.
ومثله قوله تعالى: ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) ) مريم.
ورد في المنادي قولان:
الأول: أنه عيسى عليه السلام.
الثاني: أنه جبريل عليه السلام.
هذان القولان لا يمكن حمل الآية عليهما، لأن المنادي واحد فقط، فإمّا أن يكون عيسى، وإمّا أن يكون جبريل.
وننبه إلى أن الترجيح أو الجمع بين الأقوال عمل لا يقوم به طالب التفسير في أول الطلب، لكننا أشرنا إلى هذه الفروق لتسهّل على الطالب فهم كلام المفسّرين عند نقل ترجيحاتهم، وإذا لم يرجّح المفسّر بين الأقوال، فللطالب الاكتفاء بذكرها في تلخيصه دون التعرّض للترجيح.
فنضيف حال اختلاف الأقوال إلى الخطوات الأربع التي ذكرناها من قبل وهي ذكر القول ودليله وإسناده خطوة مهمّة جدا وهي:
ما يعقب به المفسّر على كل قول من تصحيح أو تضعيف ونحو ذلك.
المثال الأول
المراد بالرجع في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} الطارق.
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال ابن عبّاسٍ: الرّجع: المطر. وعنه: هو السّحاب فيه المطر. وعنه: {والسّماء ذات الرّجع}: تمطر ثمّ تمطر. وقال قتادة: ترجع رزق العباد كلّ عامٍ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم. وقال ابن زيدٍ: ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا). [تفسير القرآن العظيم: 8/376] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (ثمَّ أقسمَ قسماً ثانياً على صحةِ القرآنِ،فقالَ: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: ترجعُ السماءُ بالمطرِ كلَّ عامٍ، وتنصدعُ الأرضُ للنباتِ، فيعيشُ بذلكَ الآدميونَ والبهائمُ، وترجعُ السماءُ أيضاً بالأقدارِ والشؤون الإلهيةِ كلَّ وقتٍ، وتنصدعُ الأرضُ عن الأمواتِ). [تيسير الكريم الرحمن: 920] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) :(11-{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الرَّجْعُ: الْمَطَرُ؛لأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَرْجِعُ وَيَتَكَرَّرُ). [زبدة التفسير: 591] |
- بالنظر إلى الأقوال الواردة في المراد بالرجع نجد أن هناك اتفاقا وتباينا.
- حاصل الأقوال الواردة في المراد بالرجع أربعة أقوال: المطر، والسحاب، والشمس والقمر والنجوم، ثم الأقدار والشؤون الإلهية.
- سنختصر الخطوات التي كنا نفصلها سابقا، فننسب الأقوال مباشرة، ونلحق بكل قول حجته.
● الأقوال الواردة في المراد بالرجع في قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع)
ورد في المراد بالرجع أربعة أقوال:
القول الأول: المطر، وهو قول ابن عباس، وقتادة. ذكر ذلك عنهم ابن كثير، وذكر هذا القول كذلك السعديّ والأشقر.
لأنه يرجع ويجيء ويتكرر، وهذا حاصل كلامهم.
القول الثاني: السّحاب فيه المطر، وهو مروي أيضا عن ابن عباس، ذكره ابن كثير.
القول الثالث: النجوم والشمس والقمر، وهو قول ابن زيد، كما ذكر ابن كثير.
وذلك لأنها تظهر مرة بعد مرة.
القول الرابع: الأقدار والشؤون الإلهية، ذكره السعديّ.
وذلك لأن السماء ترجع بها كل وقت.
المثال الثاني
المراد بالحسنى في قوله تعالى: (وصدّق بالحسنى(6)) الليل.
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ) وقال أبو عبد الرحمن السّلميّ والضّحّاك: {وصدّق بالحسنى} أي: بلا إله إلاّ الله. وفي روايةٍ عن عكرمة: {وصدّق بالحسنى} أي: بما أنعم الله عليه. وفي روايةٍ عن زيد بن أسلم: {وصدّق بالحسنى} قال: الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرّةً: وصدقة الفطر. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) ). [تفسير القرآن العظيم: [8/417] |
اقتباس:
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) ). [تفسير القرآن العظيم: [8/417] |
المثال الثالث
متعلّق العطاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} الليل.
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال الله تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى} أي: أعطى ما أمر بإخراجه، واتّقى الله في أموره). [تفسير القرآن العظيم: 8/417] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({فَأَمَّا مَن أَعْطَى} ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ، {وَاتَّقَى} ما نهيَ عنهُ، مِنَ المحرماتِ والمعاصي، على اختلافِ أجناسِهَا). [تيسير الكريم الرحمن: 927]قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (5-{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}؛ أَيْ: بَذَلَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَاتَّقَى مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا). [زبدة |
ونعني بمتعلّق العطاء المفعول المحذوف للفعل (أعطى)، فنتابع نفس الخطوات السابقة كالتّالي:
- الأقوال الواردة:
القول الأول: ما أمر بإخراجه
القول الثاني: ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ.
القول الثالث: المال المنفق في وجوه الخير.
- عدد الأقوال:
ثلاثة.
- الأدلة:
- إسناد الأقوال:
القول الأول: ابن كثير
القول الثاني: ذكره السعديّ.
القول الثالث: ذكره الأشقر.
- نوع الأقوال من حيث الاتفاق والتباين:
بين بعضها اتفاق وبين بعضها تباين.
كما ترون فإن ابن كثير فسّر متعلّق العطاء بالمأمور به من النفقات المالية والأمر قد يكون للوجوب أو الاستحباب، فكلام ابن كثير يشمل النفقات الواجبة والمستحبة.
والأشقر فسّره بالإنفاق المالي شاملا جميع وجوه الخير أي ما كان فرضا أو نفلا.
أما السعدي فجعل العطاء شاملا للعبادات المالية والبدنية.
فقولا ابن كثير والأشقر متفقان، وقول السعديّ مختلف عنهما.
● متعلّق العطاء في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى)
ورد فيه قولان:
الأول: أنه المأمور به من النفقات المالية فرضا كانت أو نفلا، وهو حاصل ما ذكره ابن كثير والأشقر.
الثاني: أنه المأمور به من النفقات المالية والعبادات البدنية فريضة كانت أو نافلة، ذكره السعدي.
المثال الرابع
المراد بالشفق في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)}
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنّهم قالوا: الشّفق: الحمرة. وقال عبد الرّزّاق عن معمرٍ، عن ابن خثيمٍ، عن أبي لبيبة، عن أبي هريرة قال: الشّفق: البياض. فالشّفق هو حمرة الأفق؛ إمّا قبل طلوع الشّمس، كما قاله مجاهدٌ، وإمّا بعد غروبها كما هو معروفٌ عند أهل اللّغة، قال الخليل بن أحمد: الشّفق: الحمرة من غروب الشّمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشّفق. وقال الجوهريّ: الشّفق: بقيّة ضوء الشّمس وحمرتها في أوّل اللّيل إلى قريبٍ من العتمة. وكذا قال عكرمة: الشّفق الذي يكون بين المغرب والعشاء. وفي صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)). ففي هذا كلّه دليلٌ على أنّ الشّفق هو كما قاله الجوهريّ والخليل، ولكن صحّ عن مجاهدٍ أنّه قال في هذه الآية: {فلا أقسم بالشّفق}: هو النّهار كلّه. وفي روايةٍ عنه أيضاً أنّه قال: الشّفق: الشّمس. رواهما ابن أبي حاتمٍ، وإنّما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق}). {واللّيل وما وسق}. أي: جمع، كأنّه أقسم بالضّياء والظّلام. وقال ابن جريرٍ: أقسم اللّه بالنّهار مدبراً، وباللّيل مقبلاً. قال ابن جريرٍ وقال آخرون: الشّفق اسمٌ للحمرة والبياض، وقالوا: هو من الأضداد. [تفسير القرآن العظيم: 8/358-359]قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (أقسمَ في هذا الموضعِ بآياتِ الليلِ، فأقسمَ بالشفقِ الذي هوَ بقيةُ نورِ الشمسِ، الذي هوَ مفتتحُ الليلِ). [تيسير الكريم الرحمن: 917] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) :(16-{فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}:يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بالشَّفَقِ، وَالشَّفَقُ: الحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ صَلاةِ العشاءِ الآخِرَةِ). [زبدة التفسير: 589] |
- ورد في المراد بالشفق ثمانية أقوال، وعقّب ابن كثير على بعضها، وهذا مهم جدا كما أشرنا من قبل، أن نضيف إلى القول ما يعقب به المفسّر عليه من تصحيح أو تضعيف أو نحو ذلك.
● المراد بالشفق في قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق)
قد أورد ابن كثير في معناه أقوالا عن السلف.
القول الأول: أنه الحمرة.
روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون.
القول الثاني: أنه البياض، وهو مروي عن أبي هريرة.
القول الثالث: أنه اسم للبياض والحمرة فهو من الأضداد، قال ذلك ابن جرير وآخرون.
القول الخامس: أنه حمرة الأفق بعد غروب الشمس، وهذا القول كما ذكره ابن كثير ذكره السعدي والأشقر.
القول السادس: أنه النّهار كلّه، وهو رواية أخرى عن مجاهد.
القول السابع: أنه الشّمس، وهو رواية ثالثة عن مجاهد، رواهما ابن أبي حاتمٍ.
قال ابن كثير: وإنّما حمله (أي مجاهد) على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق} فكأنه أقسم بالضياء والظلام).
ورجح ابن كثير القول الخامس: أن الشفق هو حمرة الأفق التي تكون بعد غروب الشمس، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه عبد اللّه بن عمرٍو، قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)). رواه مسلم.
وكذا قال عكرمة، وهو المعروف عند أهل اللغة كالخليل بن أحمد والجوهري، ذكره ابن كثير.
تنبيهات وإرشادات
- يعتنى جيدا بالأقوال التي يوردها المفسّر عن السلف، ومن قبلها بالطبع تفسير القرآن أو التفسير النبوي للآيات محلّ الدراسة.
- يراعى ترتيب الأدلة فتقدّم الآيات، ثم الأحاديث، ثم آثار الصحابة، ثم آثار السلف.
- يعتنى جيدا بالتعقيبات التي يذكرها المفسّر على كل قول.
تم الدرس، والحمد لله رب العالمين.