9 Nov 2008
باب حكم النون الساكنة والتنوين
قال الحافظ محمد بن محمد ابن الجزري (ت: 833هـ) : (باب حكم النون الساكنة والتنوين
وَ حُـكْـمُ تَنْـوِيـنٍ وَنُــونٍ يُلْـفَـى ... إِظْـهَـارٌ ادْغَــامٌ وَقَـلْـبٌ إِخْـفَـا
فَعِنْـدَ حَـرْفِ الْحَلْـقِِ أَظْهِـرْ وَادَّغِـمْ ... فـي الـلاَّمِ وَالــرَّا لاَ بِغُـنَّـةٍ لَــزِمْ
وَأَدْغِـمَـنْ بِغُـنَّـةٍ فِــي يُـومِــنُ ... إِلاَّ بِكِـلْـمَـةٍ كَـدُنْـيَـا عَـنْـوَنُـوا
وَالْقَلْـبُ عِنْـدَ الـبـا بِغُـنَّـةٍ كــذَا ... الِاخْفَـا لَـدَى بَاقِـي الْحُـرُوفِ أُخِـذَا
الدقائق المحكمة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري
قال الإمام زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاريِّ السُّنَيْكِيِّ
(ت: 926هـ): (المتن:
(65) وَ حُكْمُ تَنْوِينٍ وَنُونٍ يُلْفَى = إِظْهَارٌ ادْغَامٌ وَقَلْبٌ إِخْفَا
(66) فَعِنْدَ حَرْفِ الْحَلْقِِ أَظْهِرْ وَادَّغِمْ = في اللاَّمِ وَالرَّا لاَ بِغُنَّةٍ لَزِمْ
(67) وَأَدْغِمَنْ بِغُنَّةٍ فِي يُومِنُ = إِلاَّ بِكِلْمَةٍ كَدُنْيَا عَنْوَنُوا
(68) وَالْقَلْبُ عِنْدَ البا بِغُنَّةٍ كذَا = الِاخْفَا لَدَى بَاقِي الْحُرُوفِ أُخِذَا
______________________
(65) " وحكمُ تنوينٍ ونونٍ " ساكنَةٌ " يلفَى " أي: يُوجَدُ عندَ حُروفِ الهِجاءِ محصورًا فيأربعةِ أقسامٍ. هي:
1- إظهارٌ.
2- إدغامٌ.
3- وقلبٌ.
4- إخفاءٌ.
وأقسام التَّنوينِ مُستوفاةٌ في كُتُبِ النَّحوِ. والنُّونُ السَّاكِنَةُ تُثْبَتُ لفظًا، وخطًا، ووصلاً، ووقفًا.
الإظهارُ والإدغامُ
(66) "فعندَ حرفِ الحلْقِ" نحوُ: { مَنْ ءَامَنَ }، و { مَنْ هَاجَرَ } ، و { مَنْ حَادَّ }، و { مِنْ عِلْمٍ }، و { إِنْ خِفْتُمْ }، و { مِنْ غِلٍّ }. ونحوُ: {لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ }، و { فَريقًا هَدَى}[الأعراف: 30]، و { عَزيزٌ حَكيمٌ }
([1])، و { سَمِيعٌ عَلِيمٌ }، { نِدَاءً خفِيًّا } ، و { عَزِيزٌ غَفُورٌ }
"أَظهِرْ" أي: التنوينَ والنُّونَ؛ لصعوبةِ إدغامِهمَا فيه – كما مرَّ -.
"وادَّغِم" هما – بتشديدِ الدَّالِ – "في اللاَّمِ والرَّاءِ". نحوُ: { فَإِنْ لَمْ }، و { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }، و { مِنْ رَبِّكُمْ }، و { غَفُورٌ رَحيمٌ }، لِتَقارُبِ المَخْرَجَيْنِ، أَوِ اتِّحادهِمَا.
"لا بِغُنَّةٍٍ" مبالغةً في التَّخفيفِ. إذ في بقائِهَا ثِقَلٌ مَا. وإدغامُهُمَا في ذلكَ بلا غُنَّةٍ " لَزِمْ " أي: لازِمٌ. وفي نسخةٍ: "أتمُّ" فيفيدُ جوازَ إدْغامِهمَا في ذلك بغُنَّةٍ. وبه قَرَأَ جماعةٌ. لكنَّ المشهورَ الأوَّلُ. وعليه العملُ.
(67) " وأدغِمَنْ " هما " بِغُنَّةٍ في " حروفِ " يُومِنُ" نحوُ: { منْ يَقولُ }، و { لقومٍ يُؤمنون }، و { منْ ورَائهم }، و { جناتٍ وَعيون }، و { منْ مَال }، و { صراط مُستقيم }، و { منْ نَّذير }، و { حطةٌ نَّغفر }.
ووجهُ
الإدغامِ في النُّونِ التَّماثلُ. وفي الميمِ التَّجانسُ في الغُنَّةِ،
والجَهرُ، والانفتاحُ، والاسْتِفَالُ، وبَعَضُ الشِّدَّةِ. وفي الياءِ،
والواوِ التَّجانُسُ في الانفتاحِ والاستفالِ والجهْرِ. واتَّفقوا على أنَّ
الغنةَ معهُمَا غنَّةُ المُدغمِ، ومعَ النُّونِ غنَّةُ المدغَمِ فيهِ.
واخْتَلَفُوا
معَ الميمِ.. فذهبَ ابنُ كَيْسانَ إلى أنَّها غُنَّةُ المُدغَمِ من
النُّونِ والتَّنوينِ تغليبًا للأصَالة. وذهبَ الباقونَ إلى أنَّها غُنَّةُ
الميمِ كالنُّونِ.
" إلاَّ " أن يكونَ الحرفانِ " بكلمةٍ كَـ دُنيَا " و" عَنْوَنُوا " و { صِنْوَانٌ } فلا تُدغِمْهمَا لِئَلاَّ تلتبسَ الكلمةُ بالمضاعَفِ. وهو ما تكرَّرَ أحدُ أصولِهِ. نحوُ:(صِنْوَانٌ).
ولمّا لم يتأتَّ للنَّاظمِ مثالُ الواوِ مِن القرآنِ؛ أتى بعَنْوَنُوا من
عُنْوَانِ الكِتابِ. وهو ظاهرُ ختمِه الدَّالُ على ما فيهِ. وفي نسخةٍ "صَنوَنُوا".
(68) " والقلبُ " أي: والإقلابُ للتَّنوينِ والنُّونِ ميمًا؛ واجِبٌ " عند البَا بغنَّةٍ " نَحْوُ { أَنْبِئْهُمْ } ، و{ أَنْ بُورِكَ} ، و { عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ }،
لعُسْرِ الإتيانِ بالغُنَّةِ، ثُمَّ إطباقُ الشَّفتيْنِ معَ الإظهارِ،
ولاختلافِ المَخرجِ، وقلَّةِ التَّناسُبِ معَ الإدغامِ. فتعيَّنَ الإخفاءُ
بقلبِهمَا ميمًا، لمُشارَكتِهمَا " الباءَ " مَخْرَجًا، و " النُّونَ " غنَّةً.
" كذَا الاخفَا " لَهُمَا – بنَقْلِ حركةِ الهَمْزةِ إلى اللاَّمِ، والاكتفاءِ بهَا عن هَمْزةِ الوصْلِ-.
" لدى " – أي عندَ – " باقي الحروفِ " الخمسةَ عَشَرَ، " أُخِذَا " به بألفِ الإطْلاقِ نحوُ: { وَلَوْلاَ أَنْ ثبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74]، و { وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى } [البقرة: 178]، و { مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ}[الكهف: 37]، و { وَلَمَنْ صَبَرَ }، { وَانْصُرْنَا } و { رِيحًا صَرْصَرًا }، لِتَرَاخِيَها عن مُناسَبَةِ حُروفِ الإدغامِ، ومُبَايَنتِهَا حروفَ الحلق.
والإخفاءُ لغةً: السَّتْرُ. واصطلاحًا: نُطقٌ بحرفٍ بصفةٍ بيْنَ الإظهارِ والإدغامِ، عارٍ مِن التَّشديدِ، مع بقاءِ الغُنَّةِ في الحرْفِ الأوَّلِ.
ويفارِقُ
الإخفاءُ الإدغامَ؛ بأنَّهُ بيْنَ الإظهارِ والإدغامِ. وبأنَّهُ إخفاءُ
الحرْفِ عندَ غيرِهِ لا في غيْرِهِ بخلافِ الإدغامِ فيهمَا.
المنح الفكرية لنور الدين علي بن سلطان محمد القاري
قال الإمام نور الدين علي بن سلطان محمد القاري
(ت:1014هـ): (بـابُ حُكْـمِ النـونِ الساكنـةِ والتنويـنِ
(وحكمُ تنوينٍ ونونٍ) أي ساكنٍ (يُلْفَى) بصيغةِ المجهولِ مِن الإلفاءِ، أي يوجدُ أحدُهُما في الكَلاَمِ مقرونًا بأحدِ حروفِ الهجاءِ (إظهارٌ إدغامٌ وقلبٌ إخفا) أخبارٌ مُتَعَدِّدَةٌ لقولِه: (حُكْمُ)
أتى في بعضِها بالعاطفِ وفي بعضِها بغيرِه، إيماءً إلى الجوازِ، وإشعارًا
إلى الإيجازِ، فَيُلْفَى صفةً للنونينِ، ومفعولُه الثاني مُقَدَّرٌ، كما
قرَّرْنَا، وأمَّا إعرابُ الروميِّ بقولِه: يُلْفَى خبرُ المبتدأِ، ونائبُ
فاعلِه مفعولُه الأَوَّلُ ضميرٌ راجعٌ إلى الحكمِ، ومفعولُه الثاني محذوفٌ،
أي: يوجدُ حكمُ التنوينِ والنونِ على أربعةِ أقسامٍ، وقولُه (إظهارٌ)
خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه أي الحكمُ المذكورُ إظهارٌ إلخ، فلا يخفى على
أُولِي النُّهَى أنَّهُ تطويلٌ خارجٌ عن تحقيقِ المبنى وتدقيقِ المعنى،
وإنْ كانَ مأخذُه ظاهرَعبارةِ ابنِ المصنِّفِ، لكن مرادُه بيانُ حَلِّهِ،
وممَّا يُرَادُ إعرابُه أنَّ (حُكْمُ تنوينٍ)
مبتدأٌ ونكرةٌ لأنَّه مضافٌ إلى النكرةِ، وكُلُّ مضافٍ إلى النكرةِ نكرةٌ
وإنَّما يُسَوِّغُ كونَه مبتدًأ وصفةً بالجملةِ، ثمَّ قولُه: (إظهارٌ إدغامٌ)
إنَّما يستقيمُ الوزنُ بنقلِ حركةِ الهمزةِ إلى التنوينِ كما في قاعدةِ
وَرْشٍ ثمَّ الفرقُ بينَ النونينِ أنَّ التنوينَ نونٌ ساكنةٌ زائدةٌ لغيرِ
توكيدٍ تَلْحَقُ آخرَ الاسمِ لفظًا في الوصلِ، لاوقفًا، ولا خطًّا، وأنَّ
النونَ الساكنةَ تَثْبُتُ لفظًا وخطًّا، ووصلًا ووقفًا، وتكونُ في الاسمِ
والفعلِ، والحرفِ، مُتَوَسِّطَةً، ومُتَطَرِّفَةً، ثمَّ أنواعُ التنوينِ ثمانيةٌ أو عشرةٌ منها أربعةٌ جاءتْ في التنزيلِ مُخْتَصَّةً بالأسماءِ، وهي: تنوينُ التمكينِ، وهو ما يدلُّ على أَمْكَنيَّةِ الاسمِ؛ لكونِه مُنْصَرِفًا من كمالِ حركاتِ الإعرابِ فيه لفظًا، أو تقديرًا، نحوُ {اسمُ اللهِ } { وهدًى للمُتَّقِينَ }، وتنوينُ المُقَابَلَةِ نحوُ {مسلماتٍ مؤمناتٍ}، فإنَّ التنوينَ (فيهما) قابلَ النونَ في مسلمينَ ومؤمنينَ، وتنوينُ العِوَضِ نحوُ: { مِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } فإنَّ التنوينَ فيه عِوَضٌ عن الياءِ المحذوفةِ، ومنه { وأنتُم حينئذٍ }
فإنَّ تنوينَه عِوَضٌ عن الجملةِ المحذوفةِ، أي: وأنتمُ حينَ إذا بلغتَ
الحلقومَ، وإنَّما حُرِّكَت الذالُ لالتقاءِ الساكنينِ، ومنه تنوينُ كُلٍّ
فإنَّه عوضٌ عن المضافِ إليهِ، أي: وكُلُّهم، وتنوينُ التناسُبِ نحوُ {سلاسلًا وأَغْلاَلًا}
فإنَّه صَرَفَ (سلاسلًا) عندَ بعضِ القُرَّاءِ لمناسبةِ أغلالًا، قالَ
خالدٌ: فإنْ قلتَ قدْ أخلَّ الناظمُ بقيدِ السكونِ في قولِه: (ونونٍ) قلتُ
هو مَعْلُومٌ من قرينةِ قولِه (وحكمُ تنوينٍ)؛ لأنَّ الاشتراكَ في الحكمِ يقتضي التسويَةَ في الوصفِ غالبًا، ومِن المَعْلومِ أنَّ التنوينَ واجبُ السكونِ / ا.هـ.
وبقيدِ قولِه: (غالبًا)
خرجَ ما يَرِدُ على جوابِه بدونِه وعدمُ التسويةِ بينهما في كثيرٍ من
الأوصافِ على ما بيَّنَّاهُ، وإذا عرفتَ مجملًا أنَّ أحكامَهما أربعةٌ
فاعْلَمْها مُفَصَّلَةً: (فعندَ حرفِ الحلقِ) بالإضافةِ الجنسيَّةِ، أي عندَ الحروفِ في الحَلْقيَّةِ (أَظْهِرْ) أي: النونينِ، والمعنى فَأَظْهِرْهِمَا عندَها (وادَّغِمْ)
بتشديدِ الدالِ , وهو من بابِ الافتعالِ، لغةً في تخفيضِها مِن بابِ
الإفعالِ، وأمَّا ما ضُبِطَ في بعضِ النسخِ بضمِّ همزِ (أَظْهِرْ) وضمِّ
الدالِ فغيرُ ظاهرٍ، وإنْ ذهبَ إليه ابنُ المصنِّفِ، وتبِعَه الروميُّ،
وذكرَه المصريُّ، ووجهُهُ بأنَّ نائبَ الفاعلِ (في اللامِ والرا) بخلافِ الشيخِ زكريَّا فإنَّه اقتصرَ على ما اخْتَرْناه، ويُؤَيِّدُه عطفُ قولِه: (وأدْغِمَنَّ بغُنَّةٍ) عليه، والمعنى وأَدْغِمْهُمَا في اللامِ والراِ بالقصرِ للوزنِ (لا بغُنَّةٍ لزمَ)
قالَ خالدٌ: أي إدغامًا لازمًا بغيرِ غُنَّةٍ، وفي بعضِ النسخِ (أتمَّ)
مكانَ (لزمَ) يعني: إدغامًا تامًّا مُسْتَكْمِلًا للتشديدِ، وبهذا
التقريرِ، يندفعُ ما توهَّمَهُ ابنُ الناظمِ حيثُ جعلَ (لزمَ) صفةً
لغُنَّةٍ ا.هـ. والمعنى أنَّهُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والأظهرُ أنَّ التقديرَ
لاتُدْغِم إدغامًا مقرونًا بغُنَّةٍ، وأنَّ قولَه (لزم) جملةٌ مستأنفةٌ
مُبَيِّنَةٌ أنَّ الحكمَ السابقَ مِن الإدغامِ فيهما لزمَ جميعَ أفرادِهما
مِن غيرِ استثناءٍ عنهما، بخلافِ قولِه:
(وَأَدْغِمَنَّ بغُنَّةٍ في يُومِنُ = إلا بكلمةٍ كدنيا عَنْوَنُوا)
وكُلُّهم التنوينَ والنونَ أَدْغَمُوا = بلا غُنَّةٍ في اللامِ والراءِ لِتَجْمُلاَ ويس أَظْهِرْ عن فَتَى حَقُّه بدَا = ونونٌ وفيه الخُلْفُ عن وَرْشِهم خلاَ ضحِكَتْ زينبُ فأبدتْ ثَناها = ترَكَتْني سَكْرانَ دونَ شَرابٍ وربَّ مكانٍ كُرِّرَ الحرفُ قبلَها = لما عارَضَ والأمرُ ليسَ مُهَوَّلًا
وفي نسخةٍ (صَنْوَنُوا) وهو أولى، لورودِ أصلِه في التنزيلِ منِ قولِه { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } بخلافِ مجىءِ العنوانِ، على ما سيأتي له مِن البيانِ، ثمَّ قولُه: (وَأَدْغِمَنَّ) بالنونِ الخفيفةِ المؤكدةِ، ومفعولُه مُقَدَّرٌ، أي النونينِ، ويُقْرَأُ (يُومِنُ)
بإشباع النونِ، ولا يُكْتَبُ بالواوِ في آخرِه كما في بعضِ النسخِ، ولا
يُهْمَزُ ( يُومِنُ) بل يُقْرَأُ بالإبدالِ، لتحصيلِ الواوِ في أصلِ
الكلمةِ، وسبقَ حكمُ الهمزةِ؛ ولذا قالَ الشاطبيُّ: (يَنْمُو) ثمَّ
الاستثناءُ مِن حروفِ (يُومِنُ) أي: إلا الواقعُ منهما بكلمةٍ، كدنيا
وصنوان، ولم يجىءْ غيرُهما منها في كلمةٍ واحدةٍ من الميمِ والنونِ، { ماءٍ غيرِ آسِنٍ } { والمُنْخَنِقَةُ } { إنْ خِفْتُمْ } { يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ }
ووجهُ الإظهارِ رعايةُ غايةٍ بُعْدَ المَخْرَجِ، معَ تنوُّعِ الحلقِ، مِن
أدناهُ، وأوسطِه، وأقصاهُ، قالَ في التمهيدِ: وقد ذكرَ بعضُ القُرَّاءِ في
كُتُبِهِمْ أنَّ الغُنَّةَ باقيةٌ فيها، وذكَرَ الشيخُ الدانيُّ فارسُ بنُ
أحمدَ في مُصَنَّفٍ له أنَّ الغُنَّةَ ساقطةٌ منهما إذا ظهرَا، وهو مذهبُ
النحاةِ، وبه صرَّحُوا في كُتُبِهِمْ، وبه قرأتُ على كُلِّ شيوخي ما عدا
قراءةَ يزيدَ والمُسَيِّبِ ا.هـ.
وأقول:
يمكنُ أنْ يكونَ النزاعُ لفظيًّا؛ لأنَّ مَن قالَ ببقائِها أرادَ في
الجملةِ لعدمِ انفكاكِ أصلِ الغُنَّةِ عن النونِ، ومَن قالَ بسقوطِها أرادَ
عدمَ ظهورِها، ثمَّ اعلمْ أنَّ القُرَّاءَ السبعةَ أجمعُوا على إظهارِ
النونينِ عندَ حروفِ الحلقِ جميعِها، وإنَّما روَى أبو جعفرٍ إخفاءَهما
عندَ الخاءِ والغينِ من طريقِ الطيِّبَةِ، إلا في ثلاثِ كلماتٍ، وهي
(المُنْخَنِقَةُ) بالمائدةِ استثناها بعضُ أهلِ الأداءِ، (إن يكنْ غنيًّا)
بالنساءِ (فَسَيُنْغِضُونَ) بالإسراءِ، ثمَّ لايخفى وجهُ تقديمِ الإظهارِ،
فإنَّهُ الأصلُ، وثَنَّى الإدغامَ؛ لأنَّه ضدَّ الإظهارِ المُتَقَدِّمِ،
والشيءُ يُحَمَلُ على ضدِّهِ كما يحملُ على نقيضِه؛ إذ الضدُّ أقربُ خطورًا
بالبالِ، ولمساواتِه له أيضًا في عِدَّةِ الحروفِ، ثمَّ ذَكَرَ القلبَ؛
لأنَّه نوعٌ من الإدغامِ، وحرفُه واحدٌ قريبٌ إلى الضبطِ، ثمَّ ذكرَ
الإخفاءَ حفظًا للإحصاءِ؛ ولأنَّهُ حالةٌ بينَ الإظهارِ والإدغامِ،
فَيُتَوَقَّفُ على تحقيقِهما، واللهُ أعلمُ.
ثمَّ أمرَ بإدغامِ كُلٍّ مِن النونينِ في اللامِ والراءِ مِن غيرِ إظهارِ غُنَّةٍ نحوَ { مِن رَبِّهِم } و { بَشَرًا رَسُولًا} و { أنْ لَوْ } { وَهُدَىً للمُتَّقِينَ }
ووجهُ إدغامِهما , فيهما تلاصُقُ مَخْرَجِهما عندَ الجمهورِ،
اتِّحَادُهُما عندَ جمعٍ، ثمَّ نفيُ الغُنَّةِ عنهما مبالغةٌ في
تخفيفِهما؛لأنَّ في إبقائِها ثِقَلًا ما، قالَ الروميُّ: أو لاتباعِ الصفةِ
الموصوفَ، ولِتَنَزُّلِهِمَا بشدَّةِ المناسبةِ منزلةَ المِثْلَينِ
النائبِ أحدُهما منابَ الآخرِ، وفيه أنَّ الغُنَّةَ باقيَةٌ في حقيقةِ
المثلينِ مِن الميمينِ والنونينِ، فلا وجهَ لنفيِهما فيما يُنَزَّلَُ
مَنْزِلَتَهما، قالَ ابنُ المصنِّفِ: وإلى عدمِ الغُنَّةِ أشارَ بقولِه: (لا بغُنَّةٍ لزِمَ)
أي: لا بغُنَّةٍ لازمةٍ، بل مُنْفَكَّةٍ عنها، فما سبقَ لخالدٍ مِن إسنادِ
الوهمِ إلى ابنِ الناظمِ مبنيٌّ على عدمِ الفهمِ، نعم ذكرَ زكريَّا في
نسخةٍ (أتمَّ) فيفيدُ جوازَ إدغامِهما في ذلكَ بغُنَّةٍ، وبه قرأَ جماعةٌ،
لكنَّ المشهورَ الأَوَّلُ، وعليه العملُ / ا.هـ. والأظهرُ أنْ لا يجعلَ
(أتمَّ) صفةً لغُنَّةٍ؛ لئلاَّ يُتَوَهَّمَ جوازُها في قراءةٍ أو روايةٍ
لِمَا صرَّحَ الشاطبيُّ رحمَهُ اللهُ من الاتفاقِ بقولِه:
بل يُجْعَلُ صفةً لإدغامٍ مُقَدَّرٍ، كما سبقَ في (لزمَ)
أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو: هو، وهو أفعلُ التفضيلِ، أي وذلكَ الإدغامُ
أتمُّ، والحكمُ أعمُّ، وهو المُلاَئِمُ؛ لأنَّ الإدغامَ إذا لم يكنْ
مقرونًا بالغُنَّةِ فلا شَكَّ أنَّهُ أكملُ وأتمُّ ممَّا توجدُ فيه
الغُنَّةُ، إذ هي كنوعِ فصلٍ بينَ الحرفينِ ثمَّ أمرَ الناظمُ بإدغامِهما
مقرونًا بغُنَّةٍ في حروفِ (يُومِنُ) وهي أربعةُ أحرفٍ: الياءُ، والواوُ،
والميمُ، والنونُ، نحوُ {إن يروا} {مِن فئةٍ ينصرونَه} {ومِن والٍ} {إيمانًا وعلى} {وعن من} {سنبلةٍ مائةُ حبَّةٍ} {إن نحن} {ملكًا نقاتلُ}
ثمَّ اعلمْ أنَّ خَلَفًا راويَ حمزةَ مِن القُرَّاءِ السبعةِ يُدْغِمُهما
في الواوِ والياءِ بلا غُنَّةٍ، فإطلاقُ المصنِّفِ رحمَهُ اللهُ بِناءً على
قراءةِ العامَّةِ، ثمَّ اتفقُوا على أنَّ الغُنَّةَ معَ الواوِ والياءِ
غُنَّةُ المُدْغِمِ، ومعَ النونِ غُنَّةُ المُدْغَمِ فيه، واختلفُوا معَ
الميمِ فذهبَ ابنُ كيسانَ النحويُّ وابنُ مجاهدٍ المُقرِئُ ونحوُهما إلى
أنَّهَا غُنَّةُ النونِ تغليبًا للأصالةِ، وذهبَ الجمهورُ إلى أنَّهَا
غُنَّةُ الميمِ كالنونِ في أنَّهُ غُنَّةُ المدغَمِ فيه.
وهو اختيارُ الدانيِّ
والمحقِّقِينَ، وهو الصحيحُ؛ لأنَّ الأُولَى قد ذهبتْ بالقلبِ، فلا فرقَ
بينَ (من من) و بينَ (أمْ من) أقولُ ولا يبعدُ أنْ يقالَ بغنتِهما إلا في
الواوِ والياءِ، فإنَّه لا غُنَّةَ فيهما بالأصالةِ، وإنَّما توجدُ فيهما
عندَ المقارنةِ فيفيدُ أنَّ الغُنَّةَ في النونِ والميمِ أقوى من الغُنَّةِ
في الواوِ والياءِ؛ ولذا وقعَ خُلْفُ خَلَفٍ فيهما، وجاءَ التأكيدُ
بإظهارِ غُنَّةِ النونِ والميمِ المُدْغَمَتَيْنِ، على ما سبقَ بيانُهما،
ولا بدَّ أنْ تكونَ الغُنَّةُ في النونينِ أظهرَ مِن غيرِهما , ثمَّ وجهُ
الإدغامِ في النونِ هو التماثلُ، وفي الميمِ التجانسُ، وفي الغُنَّةِ،
والجهرِ والانفتاحِ والاستفالِ وبعضِ الشدَّةِ،، وفي الواوِ والياءِ هو
التجانسُ في الانفتاحِ والاستفالِ والجهرِ ومشابهةِ الغُنَّةِ المدَّ، ومِن
ثَمَّ أُعْرِبَ بالنونِ في الأفعالِ الخمسةِ، كما أُعْرِبَ بحروفِ المدِّ
في الأسماءِ الستَّةِ، أمَّا إذا اجْتَمَعَت النونُ الساكنةُ معَ الواوِ
والياءِ في كلمةٍ نحوُ (الدنيا) و (بنيانٌ) و (قِنْوَانٌ) و (صِنْوَانٌ)
ولا خامسَ لهذه الأربعةِ أُظْهِرَتْ؛ لئلاَّ يَلْتَبِسَ بالمُضَاعَفِ إذا
أُدْغِمَتْ، وهو تكررُ أحدِ أصولِه، نحوُ (صوان) و(ديا) كذا ذكرَه
المصنِّفُ، وفيه أنَّ المرادَ بالمُضَاعَفِ هنا هو المُضَاعَفُ الثلاثيُّ،
وهو ما اتَّحَدَ عينُ الفعلِ ولامُه مِن حروفِ أصولِه (كمَدَّ) و (عَدَّ)
فيصيرُ وزنُ (صُوَّانُ) فُعْلاَنُ، ووزنُ دُيْاَ فُعْلًا، ليكونَ مُضَاعَفَ
الافتعالِ، فإنَّه يصيرُ باقيًا على كونِه أجوفَ , ومعَ هذا فقد يقالُ:
إنه لَفِيفٌ، لكن في الجملةِ لا يخلُو عن الشُّبهةِ؛ ولذا قالَ الشاطبيُّ
رحمَهُ اللهُ تعالى (مخافةَ أشباهِ المُضَاعَفِ أَثْقَلاَ) وأمَّا قولُ
الروميِّ: نحوَ (عُنْوَنُوا) فإنه إذا أُدْغِم
يصيرُ (عُوَّنُوا) فيصيرُ (عموا) فخطأٌ ظاهرٌ إذْ (عموا) لا شَكَّ أنَّهُ
مُضَاعَفٌ و (عونوا) على حالِه أجوفُ، غايتُه أنَّهُ انتقلَ من بابِ
فَعْلَلَ إلى بابِ التفعيلِ، فتأَمَّلْ في حروفِ الأصيلِ.
ثمَّ اعلمْ أنَّ حكمَ
اللامِ والراءِ إذا كانتَا معَ النونينِ في كلمةٍ كذلكَ إذا كانَ يجبُ
إظهارُهما معَهُما، لئلاَّ يشتبهَ بِمُضَاعَفِهِمَا، إلا أنَّهُ لما لم
يقعْ شيءٌ منه في القرآنِ في كلمةٍ لم يَحْتَجْ إلى استثنائِه، وأمَّا في
كلمتينِ وهو قولُه: { مَن رَاقٍ } فالجمهورُ على إدغامِه، وإنَّما سكتَ حفصٌ حالَ الوصلِ على نونِه، وكذا على لامِ { بلْ رانَ } خوفَ اشتباهِه بالمضاعفِ.
حيثُ يصيرُ مَرَّاق،
وبرَّان، فيُتَوَهَّمُ أنْ يكونَ الأَوَّلُ مبالغةَ مارقٍ، والثاني
تثنيَّةَ البرِ، والمرادُ بالمُضَاعَفِ هنا مَعْناه اللغويُّ دونَ
الاصطلاحيِّ، فَتَدَبَّرْ، وسيجىءُ وجهُ سكتِه على غيرِهِمَا في بابِ
الوقفِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
ثمَّ اعلمْ أنَّهُ لم
يَتَأَتَّ للناظمِ أن يأتيَ بمثالِ الواوِ مِن القرآنِ , فأتَى بلفظِ
(عُنْوَنوُا) من عُنْوَانِ الكتابِ بضمِّ العينِ ويكسرُ، وهو ظاهرُ ختمِه
الدالُّ على ما في طيِّه؛ ولذا قيلَ: الظاهرُ عُنْوَانُ الباطنِ، وما أحسنَ
ملاءمةَ هذا المعنى بخصوصِ هذا المبنى، مِن الانتقالِ منه إلى المُدَّعَى،
قالَ ابنُ المصنِّفِ: وهو مِن تَعْنِينِ الكتابِ لختمِه، وقالَ الروميُّ:
مِن عُنْوَانِ الكتابِ لِخَتْمِهِ، والظاهرُ ما قالَ صاحبُ القاموسِ: عَنَّ
الكتابَ وَعَنَّنَهُ وعَنْوَنَهُ وَعَنَّاهُ كَتَبَ عُنْوَانَهُ ا.هـ.
ولا يخفى أنَّ أصلَ
الكلمةِ مُضَاعَفَةٌ ففيه من الفائدةِ أنَّ في تصويرِها إشارةً إلى أنَّ
الواوَ أعمُّ مِن أنْ تكونَ أصليَّةً أو زائدةً.
ثمَّ اعلمْ أنَّ القُرَّاءَ اختلفُوا في نونِ {يس والقرآنِ } و { ن والقلمِ } حالَ الوصلِ كما بيَّنَهُ الشاطبيُّ بقولِه:
(والقلبُ عندَ البَا) بقصرِها للوزنِ (بغُنَّةٍ كذا)
أي وقلبُ النونينِ ميمًا عندَ ملاقاتِهما الباءَ، كما قالَ الشاطبيُّ:
(وقلبُهما ميمًا لدى الباءِ) حالَ كونِها مقرونةً بغُنَّةٍ، كما هوَ شأنُ
الميمِ الساكنةِ عندَ الباءِ، مِن إخفائِها لديها معَ الغُنَّةِ، كما سبقَ
عن أَجِلاَّءِ أربابِ القِراءةِ، وفي نحوِ قولِه: {وهوَ بربِّهم} و { أَنْبَئَهُمْ } و { أنْ بُورِكَ } و { عليمٌ بذاتِ الصدورِ }
ووجهُ القلبِ عُسْرُ الإتيانِ بالغُنَّةِ في النونِ والتنوينِ معَ
إظهارِهِما ثمَّ إطباقُ الشفتينِ لأجلِ الباءِ، ولم يُدْغَمْ لاختلافِ نوعِ
المَخْرَجِ وقلَّةِ التناسبِ، فتعيَّنَ الإخفاءُ، ويتوصلُّ إليه بالقلبِ
ميمًا لتُشارِكَه الباءُ مَخْرَجًاَ، والنونُ غُنَّةً، وقالَ سيبويهِ في
تعليلِ ذلكَ أي: في وجهِ تخصيصِ قلبِهما ميمًا مِن بينِ سائرِ الحروفِ:
لأنَّهم يَقْلِبُون النونَ ميمًا في قولِهم العنبرُ، ومن بذلكَ، فلمَّا
وقعَ معَ الباءِ الحرفُ الذي يَفِرُّوُنَ إليه مِن النونِ لم يُغَيِّرُوه
وجَعَلُوه بمنزلةِ النونِ إذا كانا حرفي غُنَّةٍ، ولم يجعلُوا النونَ باءً؛
لبعدِها في المَخْرَجِ مِن الباءِ؛ ولأنَّهَا ليستْ فيها غُنَّةٌ، أي: في
الباءِ، ولكنَّهُم أَبْدَلُوا مكانَها مِن أشبهِ الحروفِ بالنونِ وهي
الميمُ، ثمَّ قولُه: (كذا) من مُتَعَلَّقَاتِ المصراعِ الآتي، أي وكذلكَ
بغُنَّةٍ (الإخفاءُ لدى باقي الحروفِ أُخِذَا)
بصيغةِ المجهولِ، وَأَلِفُه للإطلاقِ، والتقديرُ أَخَذَ به، أي بالإخفاءِ،
ولا يبعُدُ أنْ يقالَ أخذَ بهما، أي بالقلبِ والإخفاءِ، أو بما ذكرَ من
مجموعِ ما تقدَّمَ، أي عملَ بها، واللهُ أعلمُ، ولا يبعُدُ أنْ يكونَ
الألفُ للتثينةِ والضميرُ راجعٌ إلى الحكمينِ من القلبِ والإخفاءِ في هذا
البيتِ، وقد أبعدَ الرُّومِيُّ حيثُ قالَ: وأُخِذَا مبنيٌّ للمفعولِ
تثنيَّةُ أُخِذَ، ونائبُ فاعلِه ضميرٌ راجعٌ إلى النونينِ ثمَّ قالَ:
ويجوزُ أنْ يكونَ مفردًا ويكونَ الألفُ للإطلاقِ، ونائبُ فاعلِه راجعٌ إلى
النونِ، فتكونُ اللامُ في القلبِ عوضًا من النونِ الساكنةِ فقطْ، وعدمُ
التعرُّضِ بحالِ التنوينِ لمشاركتِه للنونِ في الحكمِ المذكورِ / ا.هـ. وهو
في غايةٍ مِن التكَلُّفِ ونهايةٍ في التعسُّفِ، معَ أنَّ الإسنادَ غيرُ
صحيحٍ، إلا أنْ يُقَدَّرَ مضافٌ ويقالَ إخفاؤُهما، فَتَأَمَّلْ؛ فإنَّه
موقعُ زللٍ، ثمَّ قولُ الناظمِ: (الإخفا) بقصرِ
الهمزةِ ضرورةً، ويَنْقُلُ حركةَ الهمزةِ إلى اللامِ، والاكتفاءُ بها عن
همزِ الوصلِ لغةً وقراءةً كما سبقَ تحقيقُه في (الأضراسِ) والتقديرُ
إخفاؤُهما لا, لإخفاءِ لهما، كما ذكرَه زكريَّا.
والحاصلُ
أنَّ الناظمَ أخبرَ أنَّ النونَ الساكنةَ والتنوينَ كما قُلِبَا ميمًا
عندَ الباءِ وَأُخْفِيَا بغُنَّةٍ كذلكَ أُخِذَ إخفاؤُهما بغُنَّةٍ عندَ
باقيِ الحروفِ الخمسةَ عشرَ، وهي ما عدا الحروفَ السابقةَ للأحكامِ
الثلاثةِ، وقد جمعَها بعضُ الفضلاءِ في أوائلِ هذهِ الكلماتِ:
طـوَّقَتني ظُلْمًا قلائـدَ ذُلٍّ = جرَّعتني جفونُها كأسَ صابٍ
واعلمْ أنَّ الجيمَ مِن جفونِها مكررةٌ لإقامةِ الوزنِ؛ ولذا لم تُمَيَّزْ كغيرِها بالأحمرِ، فهو كما قالَ الشاطبيُّ:
والأمثلةُ {منضودٌ} {من ضعفٍ} {عذابًا ضَعْفًا} و
{ينزلُ} {فإن زَلَلْتُمْ} {نفسًا زكيَّةً} {وينفق} {فإنْ فاءُوا} {سفرٌ
فعدةٌ} {ومنثورًا} {فَمَنْ ثَقُلَتْ} {أزواجًا ثلاثةً} {وكُنْتُم} {وإنْ
تَبْتَمْ} {جناتٌ تجري} {ما نَنْسَخْ} {أنْ سيكونَ} {ورجلًا سَلَمًا لرجلٍ}
{وعندَ} و {مَن دخلَه} و {عملًا دونَ ذلكَ} و {ينشئ} {فمَن شهِدَ} {شيء شهيد} {وما ينطقُ} {فإنْ طِبْنَ} {صعيدًا طيِّبًا} {وانْظُرْ} {وإنْ ظَنَّا} {ظلاّ ظليلًا} و
{ينقلبُ} {وإن قيلَ} {بتابعٍ قِبْلَتَهُمْ} {لننظرَ} {مَن ذا الذي} {ظلٍّ
ذي ثلاثِ} {وتُنْجِيكُمْ} {وإنْ جَنَحُوا} {ولكُلٍّ جَعَلْنَا} و {أَنْكَالًا} {مَن كانَ} {زرعًا كَلْتَا} {وَيَنْصُرَكُمْ} {ولَمَنْ صَبَر} {عملًا صالحًا}.
ووجهُ الإخفاءِ تراخي
باقيِ حروفِ الهجاءِ عن مناسبةِ حروفِ الإدغامِ، ومباينتُها لحروفِ
الإظهارِ، فَأُخْفِيَتْ، فإنَّ الإخفاءَ حالٌ بينَ الإظهارِ والإدغامِ الذي
لا تشديدَ معَه، وإنَّ إخفاءَ الحرفِ نفسِه عندَ غيرِه لا في غيرِه،
بخلافِ الإدغامِ، قالَ اليمنيُّ: وحقيقةُ الإخفاءِ أنْ يُذْهِبَ ذاتَ
النونِ مِن اللفظِ معَ بقاءِ صفةِ الغُنَّةِ، وقالَ الروميُّ: المرادُ هنا
إخفاءُ الحروفِ لا إخفاءُ الحركةِ، ثمَّ كُلُّ ما ذُكِرَ مِن أَوَّلِ هذا
البابِ إلى هنا إنْ كانا من كلمةٍ فالحكمُ عامٌّ في الوصلِ والوقفِ، وإن
كانا من كلمتينِ فالحكمُ مختصٌّ بالوصلِ، فافهمْ واللهُ أعلمُ.
فإنْ قلتَ: وجودُ
الغُنَّةِ معَ الإدغامِ في الواوِ والياءِ يمنعُ أنْ يكونَ إدغامًا فينبغي
أنْ يكونَ إخفاءً كما صرَّحَ به السخاويُّ حيثُ قالَ: واعلمْ أنَّ حقيقةَ
ذلكَ إخفاءٌ لا إدغامٌ، وإنَّما يقولونُ له إدغامًا مجازًا وإلا فهو في
الحقيقةِ إخفاءٌ، على مذهبِ مَن يُبْقِي الغُنَّةَ ويمنعُ تَمَحُّضَ
الإدغامِ، لكن لا بدَّ من تشديدٍ يسيرٍ فيهما، قالَ:
وهو قولُ الأكابرِ حيثُ قالُوا: الإخفاءُ ما بقِيَتْ معَه الغُنَّةُ.
أُجِيبَ بأنَّ الإدغامَ معَ الغُنَّةِ في الواوِ والياءِ غيرُ كاملٍ من
أجلِ الغُنَّةِ الباقيَةِ معَه، وهوَ عندَ مَن أذهبَ الغُنَّةَ. إدغامٌ
كاملٌ وتوضيحُ ذلكَ ما قالَه الناظمُ في (النشرِ) فإن قلتَ: الصحيحُ مِن
قولِ الأئمَّةِ أنَّهُ إدغامٌ ناقصٌ مِن أجلِ صوتِ الغُنَّةِ الموجودةِ
معَه فهو بمنزلةِ صوتِ الإطباقِ الموجودِ معَ الإدغامِ في (أَحَطْتُ) و
(بَسَطْتَ) والدليلُ على أنَّ ذلكَ إدغامٌ وجودُ التشديدِ فيه؛ إذ التشديدُ
ممتنعٌ معَ الإخفاءِ. قلتُ: قالَ الحافظُ أبو عمرٍو فمَن أبقى غُنَّةَ
النُّونِ والتنوينِ معَ الإدغامِ لم يكنْ ذلك إدغامًا صحيحًا في
مذهبِه؛لأنَّ حقيقةَ بابِ الإدغامِ الصحيحِ أنْ لايَبْقَى فيه من الحرفِ
المُدْغَمِ أثرٌ إذا كانَ لفظُه ينقلبُ إلى اللفظِ المُدْغَمِ فيه، ويصيرُ
مَخْرَجُه من مَخْرَجِه، بل هو في الحقيقةِ كالإخفاءِ الذي يمتنعُ فيه
الحرفُ من القلبِ لظهورِ صوتِ المُدْغَمِ، وهو الغُنَّةُ، ألا ترى مَن
أدغمَ النونَ والتنوينَ ولم يُبْقِ غُنَّتَهُمَا قَلَبَهُمَا حرفًا خالصًا
من جنسِ ما يُدْغَمَانِ فيه، فعُدِمَت الغُنَّةُ بذلكَ رأسًا في مذهبِه؛ إذ
غيرُ ممكنٍ أنْ تكونَ منفردةً في غيرِ حرفٍ أو مُخالِطةً بحرفٍ لاغُنَّةَ
فيه؛ لأنَّها ممَّا تختصُّ به النونُ والميمُ لا غيرُ / ا هـ.
فإنْ قيلَ: هلاَّ
أدْغَمْتَ النونَ الساكنةَ فيهما بغُنَّةٍ إذا كانتا في كلمةٍ ليحصلَ
الفرقُ بينهما وبينَ المُضَاعفِ؟ أجيبَ بأنَّهَا لمَّا كانتْ فارقةً فرقًا
خفيًّا لم يُدْرِكْه العامَّةُ لم يكن الفرقُ مُعْتَبَرًا فمنعَ الإدغامَ
حذرًا مِن اللُّبْسِ ظاهرًا، هذا وقد قالَ بعضُ المحقِّقِين في أحكامِ
النونِ الساكنةِ والتنوينِ: التحقيقُ أنَّهَا ثلاثةٌ؛ إظهارٌ وإدغامٌ محضٌ
وغيرُه، وسبقَ بيانُه , وإخفاءٌ معَ قلبٍ، ودونَه، وقالَ المصنِّفُ في
(النشرِ) فلا فرقَ حينئذٍ بينَ {أنْ بوركَ} و {مَنْ يَعْتَصِم باللهِ}
إلا أنَّهُ لم يختلفْ في إخفاءِ الميمِ المقلوبةِ عندَما ذكرَ، ولا في
إظهارِ الغُنَّةِ في ذلكَ، بخلافِ الميمِ الساكنةِ، كما تقدَّمَ، وثَمَّ
قالَ: وما وقعَ في كتبِ بعضِ متأخِّرِي المغاربةِ مِن حكايةِ الخلافِ في
ذلكَ فوهمٌ، ولعلَّه انعكسَ عليهم من الميمِ الساكنةِ عندَ الباءِ، والعجبُ
أنَّ شارحَ أُرجوزةِ ابنِ بِرِّيِّ في قراءةِ نافعٍ حكَى ذلكَ عن
الدانيِّ، وإنَّما حكى الدانيُّ ذلكَ في الميمِ الساكنةِ لا المقلوبةِ
واختارَ معَ ذلكَ الإخفاءَ / ا.هـ. كَلاَمُه.
الفوائد التجويدية للشيخ: عبد الرازق بن علي موسى
قال الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى المصري (ت:
1429هـ): (بابُ أحكــامِ النـونِ الساكنـةِ والتنويــنِ:
ثم أَخَذَ الناظمُ في بيانِ أحكامِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ فقالَ:
65 - وحكْمُ تنويـنٍ ونـونٍ يُلفَى = إظهـارٌ إدغـامٌ وقلْبٌ إِخْفَـا
أَخَذَ
في بيانِ أحكامِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ أيْ كما أنه تقدَّمَ للميمِ
ثلاثةُ أحكامِ فكذلك يُوجدُ للتنوينِ والنونِ الساكنةِ أربعةُ أحكامٍ عندَ
حروفِ الهجَاءِ ما عدا الألفِ كما تقدَّمَ غيرَ مرَّةٍ وهي الإظهارُ
والإدغامُ والإقلابُ والإخفاءُ.
تعريفُ النونِ الساكنةِ وإخراجُ محترَزَاتِ القيودِ:
النونُ الساكنةُ هي التي يكونُ سكونُها ثابتٌ وصْلاً ووقْفاً، نحوُ: { مَنْ هاجَرَ } (الحشر: آية 9) فقولُنا النونُ الساكنةُ خرَجَ به النونُ المتحرِّكةُ المخفَّفةُ نحوَ: { قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ } (الزخرف: آية 32) والمشدَّدةُ نحوَ: { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } (الناس: آية 6) وقولُنا: سكونُها ثابتٌ خرَجَ به ما كان ثابتاً وزالَ للتَّخلُّصِ من التقاءِ الساكنَيْن نحوَ: { إِنِ ارْتَبْتُمْ } (الطلاق: آية 4) وقولُنا: في الوصْلِ والوقْفِ خرَجَ به السكونُ العارضُ كسكونِ النونِ المتطرِّفةِ في الوقْفِ نحوَ: { يَعْلَمُونَ }، { نَسْتَعِينُ }.
ومِن
ثَمَّ يتَّضِحُ أن النونَ الساكنةَ: هي التي تُثبَتُ خطًّا ولفظاً ووصْلاً
ووقْفاً وهي المقصودةُ بالذكْرِ هنا وتقعُ في الأسماءِ والأفعالِ متوسِّطةً
ومتطرِّفةً، وفي الحروفِ المتطرِّفةِ فقط.
تعريفُ التنوينِ:
التنوينُ
في اللغةِ: التصويتُ، وفي الاصطلاحِ: نونٌ ساكنةٌ زائدةٌ لغيرِ توكيدٍ
تَلحقُ آخِرَ الاسمِ لفظاً وتفارِقُه خطًّا ووقْفاً نحوُ قولِه تعالى: { وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران: آية 31)، { وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (آل عمران: آية 34)، فقولُنا نونٌ ساكنةٌ خرَجَ به نونُ التنوينِ المتحرِّكةُ للتخَلُّصِ من التقاءِ الساكنَيْن، نحوُ: { فَتِيلاً انْظُرْ } (النساء: آية 49-50) {مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا} (ق: آية 33-34)،
وقولُنا: زائدةٌ خرَجَ به النونُ الأصليَّةُ التي سَبقَ الكلامُ عليها
قريباً، وقولُنا: (لغيرِ تَوكيدٍ) خرَجَ به نونُ التوكيدِ الخفيفةِ في { وَلَيَكُوناً } و{ لَنَسْفَعاً } في قولِه تعالى: { وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ } (يوسف: آية 32)، وقولِه: { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ } (العلق: آية 15)،
لأنها ليست تنويناً، وإن أشبهَتْه في إبدالِها ألِفاً في الوقْفِ
لاتِّصالِها بالفعلِ، ولا ثالثَ لهما في القرآنِ في روايةِ حفْصٍ، ومثلُها
في روايةِ رُوَيْسٍ عن يعقوبَ في قولِه تعالى: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ } (الزخرف: آية 41) وقولُنا: تَلحقُ آخِرَ الاسمِ لفظاً خرَجَ به الحرفُ والفعلُ فإنه لا تَلحقُهما أبداً لأنهما لا يُنوَّنان بحالٍ.
وقولُنا: وتفارِقُه خطًّا ووقْفاً، خرَجَ به النونُ الأصليَّةُ، فهي لا تُفارقُ الاسمَ مُطلَقاً أثناءَ وجودِها فيه.
ويؤخذُ
من هذا التعريفِ، أن التنوينَ خاصٌّ بالأسماءِ فلا يَدخلُ الأفعالَ ولا
الحروفَ ولا يكون إلا متطرِّفاً لأنه لا يُوجدُ إلا بين كلمتَيْن ولا
يَثبتُ إلا في الوصلِ واللفظِ.
الأمورُ التي تُخالفُ فيها النونُ الساكنةُ التنوينَ:
مما تقدَّمَ ذِكرُه في التعريفِ لكلٍّ منهما يَتبيَّنُ أنَّ النونَ الساكنةَ تُخالِفُ التنوينَ في أربعةِ أمورٍ:
الأوَّلُ: أنَّ النونَ الساكنةَ تقعُ في وسَطِ الكلمةِ وفي آخِرِها، والتنوينَ لا يكونُ إلا في آخِرِها.
الثاني: أن النونَ الساكنةَ تَقعُ في الأسماءِ والأفعالِ والحروفِ والتنوينِ لا يَقعُ إلا في الأسماءِ.
الثالثُ: أن النونَ الساكنةَ تكونُ ثابتةً في الوصْلِ، والوقْفِ والتنوينَ لا يَثبتُ إلا في الوصْلِ.
الرابعُ:
أن النونَ الساكنةَ تكونُ ثابتةً في الخطِّ واللفظِ، والتنوينَ لا يكونُ
إلا في اللفظِ، وقد ذكرَ النحاةُ حدَّ التنوينِ وأقسامِه في كُتبِ النحوِ،
وذَكرناه هنا لزيادةِ الإيضاحِ.
فإن
قلتَ قد ذكرَ النحاةُ أن التنوينَ نونٌ ساكنةٌ فلأيِّ شيءٍ لم يكتَفِ
الناظمُ رحِمَهُ اللهُ تعالى بذكرِ النونِ الساكنةِ عنه، فالجوابُ أنه وإن
كان نوناً ساكنةً إلا أنه لا يُثبَتُ خَطًّا ولا وقْفاً فلا يَشملُه النونُ
الساكنةُ كما سَبقَ فلذلك ذكرَه ثم شرَعَ الناظمُ في تفصيلِ الأحكامِ
فقالَ:
66 - فعندَ حَرْفِ الحلْقِ أظْهِرْ وادغِمْ = فى اللامِ والـراءِ لا بِغنَّـةٍ لَـزِمْ
أي الحكْمُ الأولُ:
الإظهارُ أي إظهارُ التنوينِ والنونِ الساكنةِ عندَ حروفِ الحلْقِ
الستَّةِ وهي الهمزةُ والهاءُ والعينُ والحاءُ المهمَلتان والغَيْنُ
والخاءُ المعجَمَتان وسيأتي تعريفُ الإظهارِ لغةً واصطلاحاً، والناظمُ
أَفردَ حرْفَ الحلْقِ وأرادَ به الجنسَ نحوَ: { مَنْ ءَامَنَ } (البقرة: آية 253)، { وَيَنْأَوْنَ } (الأنعام: آية 26)، ونحوُ: { فَرِيقاً هَدَى } وبقيَّةُ الأمثلةِ لا تَخْفى. ثم ذكَرَ الناظمُ رحمَه اللهُ تعالى: 67 - وأَدْغِمَـْن بغُنَّـةٍ فـى يُومِـنُ = إلاَّ بكلمـةٍ كدُنْيـا عَنْوَنُــوا صِفْ ذَا ثَنا كمْ جادَ شخصٌ قد سَمَا = دُمْ طيِّباً زِدْ في تُقًى ضَعْ ظَالما والرابعُ الإخفاءُ عند الفاضلِ = من الحروفِ واجبٌ للفاضلِ
الحكْمُ الثاني:
وهو الإدغامُ أي إدغامُ التنوينِ والنونِ الساكنةِ في ستَّةِ أحرفٍ ذَكَرَ
في البيتِ الذي بعدَ هذا منها أربعةَ أحرُفٍ، وذَكَرَ في هذا البيتِ
الاثنَيْن الآخرَيْن، وهما اللامُ والراءُ، وسيأتي تعريفُ الإدغامِ لغةً
واصطلاحاً، فأمَرَ بإدغامِ التنوينِ والنونِ الساكنةِ فيهما بغيرِ غُنَّةٍ
وجْهاً واحداً عن جميعِ القرَّاءِ، فمثالُ التنوينِ عندَ اللامِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: آية 2) ومثالُ النونِ عندَها {فَإِن لَّمْ } (البقرة: آية 24) ومثالُ التنوينِ عندَ الراءِ { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (:آية) ومثل {مِن رَّبِّ} (:آية)، ثم كمَّلَ فقالَ:
أي أدغِمْ - أيُّها القارئُ - التنوينَ والنونَ الساكنةَ بغُنَّةٍ في حروفِ (يُومِنُ)
وهي الياءُ التحتيَّةُ والواوُ والميمُ والنونُ، وهذه الأحرفُ الأربعةُ
بقيَّةُ حروفِ الإدغامِ الستَّةِ المتقدَّمِ ذِكرُها فمثالُ التنوينِ { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } والنونِ في الياءِ نحوَ: { مَن يَقُولُ } وبقيَّةُ
الأمثلةِ لا تَخفَى ثم ذَكرَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى أن لإدغامِ
النونِ الساكنةِ فيما ذَكرَ شروطاً بأن يكونَ من كلمتين، أما ما كان من ذلك
في كلمةٍ فالإدغامُ فيه مُمتنِعٌ فمثالُ الواوِ نحوَ: صِنْوَانٌ والياءِ
نحوَ: "الدُّنْيَا" وذلك لئلاَّ يَشتبِهُ ويَلتَبِسُ بالمضاعَفِ، وهو ما تَكرَّرَ أحدُ أصولِه فإنه لو أَدغمَ {صِنْوَانٌ}
لاشْتَبَه بنحوِ: صِوَّان جمْعُ صَايِنٍ ولو أُدغمَ نحوَ: الدنيا
لاشْتَبَه بنحوِ: الديَّانِ وهو اللهُ تعالى، فإن قُلتَ: لأيِّ شيءٍ لم
يَجعلوا الغنَّةَ فارقةً بين صِوَّان وصِنْوانٍ والدنيا والدُّيَّان
وحينئذٍ فلَمْ يَبقَ اشتباهٌ ولا التباسٌ؟ فالجوابُ أن الغُنَّةَ إنما لم
يَجعلوها هنا فارقةً لأنها ضَعُفَتْ وخَفِيَتْ بذهابِ معظمِها مع
موصوفَيْها المدغَمِ فلم يكنْ حينئذٍ فيها قوَّةٌ تُفَرِّقُ بين ما ذُكرَ
فإن قلتَ لفظُ الدنيا إذا أُدغِمَ لا يصيرُ مشْتَبِهاً بلفظِ الدَّيَّانِ
لأنَّ لفظَ الدَّيَّانِ آخِرُه نونٌ ولفظُ الدنيا ليسَ آخِرَه نونٌ
فالجوابُ أنَّ لفظَ الدنيا وإن لم يكنْ آخرَه نونٌ إلا أنه حالُ الإدغامِ
لا يصيرُ له معنى فربما يُتوَهَّمُ أنَّ بعضَ الكلمةِ محذوفٌ وهو النونُ،
وأما اللامُ والراءُ فقالَ بعضُهم لم يوجدْ لهما مثالٌ من كلمةٍ في كتابِ
اللهِ عزَّ وجلَّ، انتهى من المسعديِّ/ مخطوطٌ.
تعريفُ الإظهارِ:
الإظهارُ لغةً: البيانُ، ومن معانيه في الاصطلاحِ:
إخراجُ كلِّ حرفٍ من مَخرجِه من غيرِ غنَّةٍ في الحرفِ المظْهَرِ كما
سَبقَ، فقولُنا في تعريفِ الإظهارِ: من غيرِ غُنَّةٍ المرادُ به الغنَّةُ
الظاهرةُ والمعنى: من غير غُنَّةٍ ظاهِرةٍ وهذا لا يمنع من وجودِ أصْلِ
الغُنَّةِ إذ هو باقٍ حينئذٍ وإن لم يَكنْ ظاهراً لأن الغُنَّةَ صفةٌ
لازمةٌ للميمِ والنونِ ولو تنويناً، حتى في حالةِ الإظهارِ، وقولُنا في
الحرفِ المُظْهَرِ: بضَمِّ الميمِ وفتْحِ الهاءِ اسمُ مفعولٍ أي الواقعُ
عليه الإظهارُ والمرادُ به هنا: النونُ الساكنةُ والتنوينُ معاً. وفي
الإظهارِ المطلَقِ ونحوِه كالنونِ من (يس) عندَ مَن أظهَرَ النونَ الساكنةَ
وحدَها، وفي الإظهارِ الشفَويِّ الميمُ الساكنةُ وفي إظهارِ لامِ التعريفِ
المسمَّاةِ باللامِ القمريَّةِ نفسُ لامِ التعريفِ، والحاصلُ أنَّ كلَّ
حرفٍ تَقرَّرَ إظهارُه من الحرفِ المجاورِ له سواءً كان إظهاراً واجباً أو
جائزاً ففي حالةِ إظهارِه يَجبُ فصلُه عن مجاوِرٍ له من غيرِ غُنَّةٍ
ظاهرةٍ إن كان نوناً أو تنويناً أو ميماً، وإن كان غيرَ ذلك فالفصْلُ من
غيرِ غُنَّةٍ البتَّةَ كاللامِ القمريَّةِ.
تعريفُ الإدغامِ وأقسامُه وأنواعُه:
الإدغامُ في اللغةِ:
الإدخالُ، يُقالُ: أَدغمْتُ اللجامَ في فَمِ الفرَسِ أي أَدخلتُه وقد
سَبقَ تعريفُ الإدغامِ لغةً واصطلاحاً عندَ قولِ الناظمِ (وأُولى مِثْلَي)
إلخ، وكرَّرْناه هنا زيادةً في الإيضاحِ ولطولِ العهْدِ.
واصطلاحاً:
التقاءُ حرفٍ ساكنٍ بحرفٍ متحرِّكٍ بحيثُ يصيران حرفاً واحداً مشدَّداً
يَرتفعُ اللسانُ بهما ارتفاعةً واحدةً وهو بوزنِ حرفين أو هو النطقُ
بالحرفين حرفاً كالثاني مشدَّداً، وحروفُ الإدغامِ ستَّةٌ مجموعةٌ في قولِ
صاحبِ التحفةِ (يرملون)، فإذا وَقعَ حرفٌ من هذه الأحرفِ الستَّةِ بعد
النونِ الساكنةِ، بشرطِ أن تكونَ النونُ آخِرَ الكلمةِ وأَحَدُ هذه
الأحرُفِ أوَّلُ الثانيةِ أو بعدَ التنوين ولا يكونُ إلا من كلمتين وَجبَ
إدغامُها وتُسمَّى النونُ الساكنةُ والتنوينُ مُدغَماً، ويُسمَّى أحَدُ
حروفِ يرملون مُدغَماً فيه.
ويَنقسمُ هذا الإدغامُ إلى قسمين:
الأوَّلُ: إدغامٌ بغُنَّةٍ.
الثاني: إدغامٌ بغيرِ غُنَّةٍ، ولكلٍّ حروفٌ تَخُصُّه نُبيِّنُها فيما يلي:
يَختصُّ
الإدغامُ الثاني بأربعةِ أحرُفٍ من حروفِ يرملون، مجموعةٍ في لفظِ "يَنمو"
أو لفظِ "يُومن" كما قالَ الناظمُ: فإذا وَقعَ حرفٌ من حروفِ هذه الكلمةِ
بعدَ النونِ الساكنةِ بشرطِ انفصالِه عنها، كما تَقدَّمَ أو بعدَ التنوينِ
أو بعدَ نونِ التوكيدِ الخفيفةِ المتَّصِلَةِ بالفعلِ المضارعِ الشبيهةِ
بالتنوينِ وَجبَ الإدغامُ ويُسمَّى إدغاماً بغُنَّةٍ وهذا باتِّفاقِ
القرَّاءِ إلا خَلَفاً عن حمزةَ فإنه أَدغمَهما في الواوِ والياءِ بغيرِ
غُنَّةٍ وبالغُنَّةِ في النونِ والميمِ، وعلى هذا فحروفُ الإدغامِ بغيرِ
غُنَّةٍ عندَه أربعةٌ الواوُ والياءُ واللامُ والراءُ، والإدغامُ بغُنَّةٍ
حرفان النونُ والميمُ.
وإليك الأمثلةُ لإدغامِ هذه الحروفِ:
فالياءُ نحوَ: { إِن يَقُولُونَ } (الكهف: آية 5)، { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ } (النور: آية 25).
والنونُ نحوَ: { إِن نَّقُولُ } (هود: آية 54)، { مَلِكاً نُّقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ} (البقرة: آية 246).
والميمُ نحوَ: { مِن مَّاءٍ } (السجدة: آية 8)، { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } (الأنعام: آية 59).
وبعدَ نونِ التوكيدِ الخفيفةِ في قولِه تعالى: { وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } (يوسف: آية 32)، ولا ثانيَ لها في القرآنِ الكريمِ بالنسبةِ للإدغامِ.
والواوُ نحوَ: { مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } (الرعد: آية 37).
* الإدغامُ بغيرِ غُنَّةٍ:
أما
الإدغامُ بغيرِ غُنَّةٍ فله الحرفان الباقيان من حروفِ "يرملون" بعد إسقاطِ
حروفِ "ينمو" المتقدِّمةِ، وهما اللامُ والراءُ فإذا وَقعَ حرفٌ منهما
بعدَ النونِ الساكنةِ بشرطِ انفصالِه عنها.
كما
تَقدَّمَ أو بعدَ التنوينِ ولا يكونُ إلا من كلمتين كما هو معروفٌ وَجبَ
إدغامُهما ويُسمَّى إدغاماً بغيرِ غُنَّةٍ، فتُبدَلُ النونُ الساكنةُ وكذلك
التنوينُ لاماً عندَ اللامِ وراءً عندَ الراءِ وتُدغمُ اللامُ في اللامِ
والراءِ في الراءِ إدغاماً تامًّا نحو: { وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }(البقرة: آية 12)، { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } (البقرة: آية 2)، { كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ } (سبأ: آية 15)، { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } (النحل: آية 7).
ويُستثنى من ذلك لِحفْصٍ عن عاصمٍ إدغامُ النونِ في الراءِ في قولِه تعالى: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }،
بسببِ سَكْتِهِ عليها بدونِ تَنَفُّسٍ وذلك لأن السكتَ يَمنعُ الإدغامَ
كما يَمنعُ ملاقاةَ النونِ بالراءِ ولولا السَّكْتُ لأُدغِمَتْ على
القاعدةِ ولذلك يُدغِمُها حفْصٌ كالجماعةِ على وجْهِ ترْكِ السَّكْتِ من
طريقِ الطيِّبَةِ.
ووجْهُ الإدغامِ بغُنَّةٍ:
التماثلُ بالنسبةِ للنونِ والتجانسُ في الجهْرِ, والاستِفَالُ والانفتاحُ
بالنسبةِ للواوِ والياءِ، والتجانسُ في الغُنَّةِ وفي سائرِ الصفاتِ
بالنسبةِ للميمِ كما قال بعضُهم.
ووجْهُ الإدغامِ بغيرِ غُنَّةٍ:
التقاربُ في المَخرجِ على مذهبِ الجمهورِ, والتجانسُ على مذهبِ الفرَّاءِ
ومُوافِقِيه إذ النونُ واللامُ والراءُ يَخرجْن من مَخرجٍ واحدٍ على مذهبِه
كما تقدَّمَ ووجْهُ حذفِ الغُنَّةِ هنا المبالَغَةُ في التخفيفِ لأنَّ في
بقائِها بعضاً من الثِّقَلِ وإن قُرئَ به في المتواترِ.
(تنبيهٌ) قال العلاَّمةُ المسعديُّ في شرحِه على الجَزْرِيَّةِ:
اتَّفقَ
أهلُ الأداءِ على أنَّ الغُنَّةَ الظاهرةَ حالَ إدغامِ النونِ الساكنةِ
والتنوينِ في النونِ غُنَّةُ المُدْغَمِ فيه وهو النونُ المتحرِّكةُ من
(ينمو) المُدغَمُ فيها، واتَّفَقوا أيضاً على أنَّ الغُنَّةَ الظاهرةَ حالَ
إدغامِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ في الواوِ والياءِ غُنَّةُ المُدْغَمِ
وهو النونُ الساكنةُ أو التنوينُ، واختلَفوا في الغُنَّةِ الظاهرةِ حالَ
إدغامِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ، في الميمِ هل هي غُنَّةُ المُدغَمِ وهو
النونُ الساكنةُ والتنوينُ أو غُنَّةُ المُدغَمِ فيه وهو الميمُ فذَهبَ إلى
الأوَّلِ ابنُ كَيْسانَ النَّحْوِيُّ، وأبو بكرِ بنُ مُجاهِدٍ المُقْرِي
وغيرُهما.
وذهبَ
الجمهورُ إلى الثاني وهو الصحيحُ، انتهى. أقولُ لأنَّ النونَ الساكنةَ
والتنوينَ حالةَ إدغامِهما في الميمِ انقَلَبا إلى لفظِها وهذا واضحٌ بأدنى
تَأمُّلٍ.
(تنبيهٌ آخَرُ): إدغامُ النونِ الساكنةِ والتنوينِ في حُروفِ (يرملون) سواءً كان بِغُنَّةٍ أو بغَيْرِ غُنَّةٍ نوعان: ناقصٌ وكاملٌ.
فالناقصُ:
هو إدغامُ النونِ الساكنةِ والتنوينِ في الواوِ والياءِ وسُمِّيَ بذلك
لأنه غيرُ مُستكْمِلِ التشديدِ من أجْلِ بقاءِ الغُنَّةِ الموجودةِ في
المُدغَمِ فهي بمنزلةِ حرفِ الإطباقِ الموجودِ مع الإدغامِ في نحوِ: { بَسَطْتَ }.
والكاملُ: هو إدغامُهما في اللامِ والراءِ، وكذلك في النونِ والميمِ على الصحيحِ. وجمَعَها علماءُ الضبْطِ في حروفِ "نرمل".
وسُمِّيَ كاملاً لأنه مستَكْمِلُ التشديدِ لانعدامِ المُدغَمِ ذاتاً وصِفَةً ففي إدغامِ نحوِ: { مِن رُّسُلِهِ } (البقرة: آية 285)، { مِن مَّالِ اللهِ } (النور: آية 33)، زالَ أثَرُ المُدْغَمِ بإبدالِه راءً عندَ الراءِ وميماً عندَ الميمِ، كما هو واضحٌ من النطقِ بخلافِ نحوِ: { إِن يَقُولُونَ } (الكهف: آية 5)، {مِن وَالٍ} (الرعد: آية 11)، فإن صِفةَ المُدغَمِ لا تزالُ موجودةً وهي الغُنَّةُ، ثم كمَّلَ الناظمُ فقالَ:
68 - والقلبُ عندَ البَـا بغُنَّةٍ كــذا = الإخْفَا لـدى باقِي الحـروفِ أُخِذَا
أي الحكمُ الثالثُ:
الإقلابُ:
وهو أن يُقلبَ كلٌّ من النونِ الساكنةِ والتنوينِ ميماً، وتُخفى تلك
الميمُ بغُنَّةٍ عندَ الباءِ الموحَّدَةِ سواءً تطرَّفَتْ النونُ نحوَ: { مِن بَعْدِ }أم توسَّطَتْ نحوَ: { أَنْبِئْهُمْ } ولا يكونُ التنوينُ إلا طَرَفاً نحوَ: { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }، تعريفُ الإقلابِ: ومن معانِيهِ في اللغةِ التحويلُ وفي الاصطلاحِ: جعْلُ
حرفٍ مكانَ آخَرَ مع مراعاةِ الغُنَّةِ والإخفاءِ في الحرفِ المقلوبِ، وله
حرفٌ واحدٌ وهو الباءُ الموحَّدَةُ فإذا وَقعَ بعد النونِ الساكنةِ سواءً
أكانَ معها في كلمةٍ، أمْ في كلمتين أمْ بعدَ التنوين ولا يكونُ إلا من
كلمتَيْن كما هو مقرَّرٌ أمْ بعدَ نونِ التوكيدِ الخفيفةِ، وَجبَ قلْبُ
النونِ الساكنةِ أو التنوينِ أو نونِ التوكيدِ ميماً خالصةً لفظاً لا خطًّا
مُخفاةً مع إظهارِ الغُنَّةِ وذلك في نحوِ: { أَنْبِئُونِي } (البقرة: آية 31)، { مِنْ بَعْدِهِمْ } (الشورى: آية 14)، { واللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (التغابن: آية 4)، ونونُ التوكيدِ نحوَ: { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ } (العلق: آية15)،
ولا ثانيَ لها في القرآنِ بالنسبةِ للقَلْبِ، وسُمِّيَ بالقلْبِ لقلْبِ
النونِ الساكنةِ والتنوينِ ونونِ التوكيدِ ميماً خالصةً في اللفظِ لا في
الخطِّ ويُلاحظُ عدمُ كَزِّ الشَّفتين في الميمِ المقلوبةِ، ولا يَتحَقَّقُ
القلْبُ إلا بثلاثةِ أعمالٍ مأخوذةٍ من التعريفِ:
الأوَّلُ:
قلبُ النونِ الساكنةِ أو التنوينِ أو نونِ التوكيدِ الخفيفةِ ميماً خالصةً
لفظاً لا خطًّا تعويضاً صحيحاً بحيث لا يَبقى أثَرٌ بعد ذلك للنونِ
الساكنةِ أو المؤكِّدةِ أو التنوينِ.
الثاني: إخفاءُ هذه الميمِ عندَ الباءِ.
الثالثُ:
إظهارُ الغُنَّةِ مع الإخفاءِ, والغُنَّةُ هنا صفةُ الميمِ المقلوبةِ لا
صِفةَ النونِ والتنوينِ, ويَجبُ الاحترازُ عندَ التلفُّظِ به من كَزِّ
الشَّفتين على الميمِ المقلوبةِ فلتُسَكَّنِ الميمُ بتَلَطُّفٍ من غيرِ
تعسُّفٍ وكذلك الحكْمُ بعَيْنِه في إخفاءِ الميمِ الساكنةِ قبلَ الباءِ،
ووجْهُ القلْبِ: أنه لم يَحْسنُ الإظهارُ لأنه يَستلزمُ الإتيانَ
بالغُنَّةِ في النونِ والتنوينِ ثم إطباقَ الشَّفتين من أجْلِ النطقِ
بالباءِ وعَقِبِ الغُنَّةِ وفي كلِّ هذا عُسْرٌ وكُلْفَةٌ، ولم يَحسُن
الإدغامُ لبُعدِ المَخرجِ وفقْدِ السببِ الموجِبِ له، ولما لم يَحْسُن
الإظهارُ والإدغامُ تَعيَّنَ الإخفاءُ ثم تُوصِّلَ إليه بالقلْبِ ميماً
لمشاركتِها للباءِ في المَخرجِ وللنونِ في الغُنَّةِ.
ثم
إنَّ الناظمَ رحمَه اللهُ تعالى ذَكرَ الحكْمَ الرابعَ وهو الإخفاءُ
فأَخبرَ أنَّ التنوينَ والنونَ الساكنةَ، تُخفَيان بغُنَّةٍ عندَ بقيَّةِ
الحروفِ وهي خمسةَ عشرَ حرفاً وعُلمَ أنَّ هذا الإخفاءَ يكون بالغُنَّةِ من
تشبيهِ الناظمِ رحِمَه اللهُ تعالى بالقلْبِ عند الباءِ بغُنَّةٍ بقولِه "
كَذَا " سواءً تَطرَّفَت النونُ أمْ توسَّطَتْ, والتنوينُ لا يكونُ إلا في
الطرَفِ كما تقدَّمَ.
تعريفُ الإخفاءِ:
الإخفاءُ لغةً السَّتْرُ، وفي الاصطلاحِ:
هو عبارةٌ عن النطقِ بحرفٍ ساكنٍ عارٍ من التشديدِ على صفةٍ بينَ الإظهارِ
والإدغامِ مع بقاءِ الغُنَّةِ في الحرفِ الأَوَّلِ، وهو هنا النونُ
الساكنةُ والتنوينُ والميمُ الساكنةُ في الإخفاءِ الشَّفَويِّ وحروفُه هنا
خمسةَ عشرَ حرفاً وهي الباقية من الحروفِ الهجائيَّةِ بعد إسقاطِ الحروفِ
المتقدِّمةِ للأحكامِ الثلاثةِ السابقةِ التي هي الإظهارُ والإدغامُ
والقلْبُ، وقد جمَعَها الجمزوريُّ في التُّحفةِ بقولِه:
وهي الحرفُ الأوَّلُ من كلِّ كلمةٍ، مثلُ { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } (البقرة: آية 86) { أنْ صَدُّوكُمْ } (المائدة: آية 2)، (رِيحاً صَرْصَراً} (القمر: آية 19) وبقيَّةُ الأمثلةِ لا تَخفَى.
ووجْهُ هذا الإخفاءِ:
أن النونَ الساكنةَ والتنوينَ لم يَبعُدَا عن حروفِ الإخفاءِ كبُعدِهما عن
حروفِ الحلْقِ حتى يجبَ الإظهارُ، ولم يَقرُبا منهن كقربِهما من حروفِ
الإدغامِ حتى يجبَ الإدغامُ فلما عُدِمَ البُعدُ الموجِبُ للإظهارِ،
والقرْبُ الموجِبُ للإدغامِ أُعطِيَا معهن حكْماً وسَطاً بين الإظهارِ
والإدغامِ، هو الإخفاءُ، وكيفيَّتُه كما صرَّحَ به غيرُ واحدٍ من أئمَّتِنا
كالحافظِ القَسطلانيِّ أن يكونَ هناك تَجَافٍ بينَ اللسانِ والثَّنايا
العُليا، أو بعبارةٍ أُخرى أن يَجعلَ القارئُ لسانَه بعيداً عن مَخرجِ
النونِ قليلاً، فيَقعَ الإخفاءُ الصحيحُ.
مراتبُ الإخفاءِ: الإخفاءُ على ثلاثِ مراتبَ.
أقْواها
عندَ الطاءِ والدالِ المهمَلتين والتاءِ المثنَّاةِ فوقَ، أيْ أنَّ
الإخفاءَ عندَ هذه الحروفِ يكونُ قريباً من الإدغامِ، وذلك لقُربِهنَّ من
النونِ والتنوينِ في المَخرجِ.
وأَدناها
عندَ القافِ والكافِ، أي أنَّ الإخفاءَ عندَ هذين الحرفَيْن يكونُ قريباً
من الإظهارِ، وذلك لبُعدِهما عن النونِ والتنوينِ في المَخرجِ، ويَلحقُ
بهذه المرتبةِ الغَيْنُ والخاءُ المعجَمتان في قراءةِ أبى جعفرٍ المَدَنيِّ
حيثُ قرأَ بإخفاءِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ عندَهما إخفاءً حَقيقيًّا مع
الغُنَّةِ، واللهُ أعلمُ.
قالَ
العلاَّمةُ المسعديُّ في شرحِه على الجَزْرِيَّةِ: (تنبيهٌ آخَرُ) كونُ
أحكامِ النونِ الساكنةِ والتنوينِ أربعةً، هو ما عليه إجماعُ الأئمَّةِ
المعتَبَرِين الضابِطِين، ولا نظَرَ إلى عَدِّ بعضِهم لها ثلاثةً بإسقاطِ
الإقلابِ محتَجًّا أنه إذا قُلِبت النونُ الساكنةُ والتنوينُ ميماً، أُعطيَ
الحكْمُ للميمِ، وكان إخفاءً نظيرَ إخفائِها في نحوِ: { وَمَن يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ } لأنَّ هذه الميمَ عارِضةٌ وأصلُها النونُ الساكنةُ أو التنوينُ بخلافِها في نحوِ: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ } فإنها أَصليَّةٌ.
تنبيهٌ:
كلُّ ما جاءَ في هذا البابِ من الأحكامِ الأربعةِ إن كانْ من كلمةٍ
فالحكْمُ فيه عامٌّ في الوصْلِ والوقْفِ، وإن كان في كلمتَيْن، فالحكْمُ
فيه خاصٌّ بالوصْلِ فقط هذا بالنسبةِ للنونِ الساكنةِ، أما بالنسبةِ
للتنوينِ فالحكْمُ فيه خاصٌّ بالوصْلِ فقط لأنه لا يكونُ إلاَّ من كلمتَيْن
كما هو مقرَّرٌ.
وقد
ذكرْنا الأبياتَ التي ذكَرَها الحافظُ ابنُ الجَزْرِيِّ في هذا البابِ
ونُضيفُ أبياتَ صاحبَ التُّحفَةِ توضيحاً لطالبِ العلْمِ فنقولُ:
في خمسةٍ من بعدِ عشرٍ رمزُها = في كَلِمِ هذا البيتِ قد ضمَّنتُها
صِفْ ذا ثَنا كَمْ جادَ شخصٌ قد سَمَا = دُمْ طيِّباً زِدْ في تُقًى ضَعْ ظَالما
شرح المقدمة الجزرية للشيخ المقرئ: عبد الباسط هاشم
قال الشيخ عبد الباسط بن حامد بن محمد متولي [المعروف بعبد الباسط هاشم] (ت: 1441هـ):
(الباب الثالث:
في أحكام النون الساكنة، والتنوين: وقد ذكره شيخنا ابن الجزري في المقدمة،
وسأتعرض له بعد قليل، لكن ينبغي قبل أن نتعرض لأحكام النون الساكنة
والتنوين أن نعرفهما ما التنوين؟ وما النون الساكنة؟
أما التنوين: فهو حركة تلحق بآخر الأسماء يثبت وصلاً لا خطا ولا وقفاً.
وعرفه بعض الشيوخ بأنه: نون مخلَّقة وهو كعزيزٌ , عليمٌ , حكيمٌ , عذاباً , أليماً , وقس على ذلك.
وأما النون الساكنة: فهو حرف صحيح قائم يثبت وصلا ووقفاً وخطا.
فهذا
هو الفرق بينهما، فالتنوين لم يظهر إلا حين شُكِّل المصحف، حين اختلط العرب
بالصقالبة والبربر وكثرت الفتوحات، وجهل الناس كثيراً من معالم لغتهم، هذا
هو الفرق بينهما.
وأما أحكامهما، فأربع:
الإظهار، والإدغام، والإقلاب، والإخفاء.
الإظهار: لغة: البيان , واصطلاحاً:
النطق بالنون الساكنة أو التنوين عند لحوقها بالحرف بصفة مظهرة بينة عارية
من شبهة الإدغام والإخفاء , وله ستة حروف، وهي حروف الحلق، إذا دخلت النون
الساكنة أو التنوين على أي حرف من هذه الستة سمي إظهاراً حلقياً واجباً،
ولنضرب لكل حرف مثالاً أو مثالين لتقيس ما غاب على ما حضر.
الهمزة: ينأون، عذاب أليم.
الهاء: منها , جرف هار.
العين: أنعمت , عذاب عظيم.
الحاء: ينحتون، غني حميد.
الغين: ينغضون , مالكم من إله غيره , عذاب غليظ.
الخاء: والمنخنقة , عليم خبير.
إن سئلت عن هذا كله قلت: إظهار حلقي واجب. وحلقي؛ لأن مداره على حروف الحلق، وواجب؛ لأنه يحرم فيه شبهة الإخفاء، أو الإدغام.
الحكم الثاني: هو الإدغام، والادغام لغة: الإدخال , يقال: أدغمت اللجام في فم الفرس، أي أدخلته. واصطلاحاً: جعل الحرفين حرفاً واحداً، يرتفع اللسان عنه ارتفاعة واحدة.
وشروطه ثلاثة: التماثل، والتجانس، والتقارب.
وهو هنا نوعان: كامل، وناقص.
فالناقص: ما كان بغنّة لأن الغّنة أتاحت للحرف المدغم بعض الظهور فسمي ناقص.
والكامل: ما كان بغير غنة.
فأما الإدغام بغنة فحروفه أربع، يجمعها كلمة (يومنو) أو (ينمو) ويكون في كلمة وكلمتين إلا في الواو والياء.
ولنضرب لكل حرف مثلاً لتقيس ما غاب على ما حضر:
الياء:{ من يعمل} { ومن يقل } { أن يفرط }.
الواو: { من ولي }، { من ورائي }، { من واق}.
فإن قلت: إنك ذكرت أن شروط الإدغام التماثل، أو التقارب، أو التجانس فأين التقارب هنا أو التجانس؟
قلت:
التقارب هنا جاء من الغنة؛ لأن الغنة ليست غنة نون خالصة، أو تنوين خالص
وإنما نون أو تنوين اختلط بياء أو واو فخلّق ياء أخرى، أو واواً أخرى؛ لأن
الكلمة: قريباً يوم , ألا ترى أنك حين تدغم تقول: { قريباً يوم } فخلّفت الغنة ياء غير أصلية , وكذا تقول { من وال }، حين تدغم تقول: { من وال } فخلقت الغنة واوا غير أصلية. هذا سبب التقارب.
ومثله
أن يتزوج الرجل بما ليس من بلدته ولا من أبناء جنسه , أما تسبب هذا الزواج
بصلة قرابة بينهما، إذن فالتقارب إما أصلي وإما نسَبي , وفي اجتماع الواو
والياء مع النون الساكنة والتنوين التقارب نسبي، ولا تأتي الواو والياء في
كلمة بعد تنوين أبداً، وإنما جاءتا بعد نون ساكنة في أربع كلمات: (دنيا ,
وصنوان , وقنوان , وبنيان). ويسمى هذا عند القراء: إظهاراً مطلقاً واجباً.
وأما الإدغام في الميم فمثاله: { من ماء مهين } { من مال الله الذي آتاكم } { مما خطيئاتهم }.
والنون: { يومئذ ناعمة } { لن نصبر }.
إذا
سئلت عن مثل ذلك قلت: إدغام بغنة واجب ناقص، وليُحترز في النون من مثل:
الناس والنوم والنعيم والنساء والنبيين ونحو ذلك مما فيه لام أل الشمسية
فليس ذلك من الإدغام بغنة في شيء.
النوع الثاني من الإدغام: إدغام بغير غنة كامل، وحرفاه اللام والراء، ولنضرب لذلك مثالين أو ثلاثا؛ لتقيس ما غاب على ماحضر فاللام { يبين لنا } { ألن نجمع }، { من لدنه } والراء { غفور رحيم } { من ربهم }، { وقيل من راق } عند من لا يسكت. إذا سئلت عن هذا قلت: إدغام بغير غنة ناقص واجب.
الحكم الثالث: الإقلاب، وهو لغة: التغيير , واصطلاحاً: قلب النون الساكنة أو التنوين ميماً خالصة أو مخفاة عند دخول الباء عليهما.
وصحح ابن الجزَري الإخفاء فى النشر ولكنه عندما ألَّف المقدمة لم يشر إلى الإخفاء، فقال:
وحكم تنوين ونون يلفى = إظهار ادغام وقلب إخفا
*وحكم تنوين ونون يلفى * *إظهار ادغام وقلب إخفا* للنون إن تسكن وللتنوين = أربع أحكام فخذ تبييني لكنها قسمان قسم يدغما = فيه بغنة بـ (ينمو) علما إلا إذا كانا بكلمة فلا = تدغم كدنيا ثم صنوان تلا ......واجب للفاضل
وقال
في الطيبة:"واقلبهما مع غنة ميماً ببا" وهذا يشير إلى جواز الوجه الآخر،
وهو الإقلاب المحض دون إخفاء , وبه قرأنا فقد قرأت على مشايخي بالإخفاء
أولاً ثم بالإقلاب المحض مثاله: {من بعد} {ينبت} {عليم بذات} فالإقلاب المحض إطباق الشفتين , والإخفاء فرجة بين الشفتين عند النطق بالغنة، تقول: {عليم بذات} {ينبت}. إذا سئلت عن هذا قلت: إقلاب واجب.
الحكم الرابع: هو الإخفاء , والإخفاء لغة: الستر , واصطلاحاً:
النطق بالغنة بصورة بين الإظهار والإدغام، مندمجة بصفة الحرف الذي بعدها،
فإن كان ما بعدها رقيق رققت، وإن كان ما بعدها مفخم فخمت , وحروفه ما بقي
من الحروف سوى الألف وهي خمسة عشر حرفاً: الصاد والذال والثاء والكاف
والجيم والشين والقاف والسين والدال والطاء والزاي والفاء والتاء والضاد
والظاء.
إذا
دخلت النون الساكنة أو التنوين على أي حرف من هذه الأحرف سمي إخفاء حقيقياً
واجباً ونطق فيه بالغنة بصورة بين الإظهار والإدغام، ولنذكر لكل حرف
مثالاً أو مثالين لتقيس ما غاب على ما حضر فنقول:
الصاد: { أن صدوكم }، { صفاً صفاً } هكذا بتفخيم الغنة؛ لوجود حرف الاستعلاء بعدها.
الذال: {ما يأتيهم من ذكر} {من ذا الذي يقرض الله} بترقيق الغنة؛ لوجود حرف الاستيفال بعدها.
الثاء: {أن ثبتناك} {وأما من ثقلت}.
الكاف: {إن لدينا أنكالاً} {منكم من يريد}.
الجيم: {من جاء بالحسنة} {فأنجيناه}.
الشين: {إذا السماء انشقت} {فمن شاء فليؤمن} {أنشأناهن}.
القاف: {إن الله على كل شيء قدير} {ومن قدر} بتفخيم الغنة؛ لوجود حرف الاستعلاء بعدها.
السين: {فما له من سبيل } {تأكل منسأته}.
الدال: {أنداداً} {وما من دابة}.
الطاء: {بقنطار يؤده}، {ماءً طهوراً}. هكذا بتفخيم الغنة؛ لوجود حرف الاستعلاء بعدها.
الزاي: {من زينتهن} {أنزل}.
الفاء: {كن فيكون}، {يسئلونك عن الأنفال}.
التاء: {أن تقول نفس} {إن أنتم إلا}.
الضاد: {من ضريع} {منضود}.
الظاء: {من ظهير} {ظلاً ظليلاً} بتفخيم الغنة؛ لوجود حرف الاستعلاء.
قال الناظم:
كما تقدم: الإظهار الحلقي والإدغام بنوعيه والإقلاب والإخفاء.
فعند حرف الحلق أظهر وادَّغِم = في اللام والرا لا بغنة لزم
وقوله: (وادّغم)، لما كان الإظهار أخف على اللسان وهو المتبادر.
قال: (وادغم) أي تكلف الإدغام.
*وادغمن بغنة في يومن*
ولم يقل: وادّغم بغنة، لأن ذلك ميسر , (في يومن) أي في حروف (يومن) أو ينمو كما تقدم.
وقوله:
*إلا بكلمة كدنيا عنونوا *
أراد إلا إذا جاءت الواو أو الياء في كلمة وهو الإظهار المطلق كما وصفناه. ومعنى عنونوا أي: مثلوا.
وقوله: (والقلب عند البا بغنة) احترازاً من عدم الغنة كأن يقرأ أحد: { من بعد } أو { عليم بذات } بغير غنة.
وقوله: (كذا) أي كذا الإخفاء بغنة كالإقلاب (والقلب عند البا بغنة).
(............كذا = الإخفا لدى باقي الحروف أخذا)
أي، اقرأ بالإخفاء بغنة في باقي الحروف.
وقال صاحب التحفة:
فالأول الإظهار قبل أحرف = للحلق ست رتبت فلتعرف
همز فهاء ثم عين حاء = مهملتان، ثم غين خاء
والثاني إدغام بستة أتت = في يرملون عندهم قد ثبتت
ومعنى يرملون أي يسرعون، وذلك في السعي بين الصفا والمروة، "في يرملون عندهم قد ثبتت"
إلا إذا كانا -أي الواو والياء - بكلمة فلا
والثاني إدغام بغير غنه = في اللام والرا ثم كررنه
والثالث الإقلاب عند الباء = ميماً بغنة مع الإخفاء.
والرابع الإخفاء عند الفاضل = من الحروف..
أي: الباقي من الحروف ,
في خمسة من بعد عشر رمزها = في كلم هذا البيت قد ضمنتها
فيؤخذ من كل كلمة حرفها الأول ,
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما = دم طيباً زد في تقى ضع ظالما
هذا مبلغ علم الفقير في أحكام النون الساكنة والتنوين. والله أعلم.