الدروس
course cover
باب مخارج الحروف
9 Nov 2008
9 Nov 2008

15844

0

0

course cover
المقدمة الجزرية

القسم الأول

باب مخارج الحروف
9 Nov 2008
9 Nov 2008

9 Nov 2008

15844

0

0


0

0

0

0

0

باب مخارج الحروف

قال الحافظ محمد بن محمد ابن الجزري (ت: 833هـ) : (باب مخارج الحروف

مَخَارِجُ الْحُرُوفِ سَبْعَةَ عَشَرْ ... عَلَى الَّذِي يَخْتَارُهُ مَنِ اخْتَبَرْ
فَأَلِفُ الْجَوْفِ وَأُخْتَاهَا وَهِي
... حُرُوفُ مَدٍّ لِلْهَوَاءِ تَنْتَهِي
ثُمَّ لِأَقْصَى الْحَلْقِ هَمْزٌ هَاءُ
... ثُمَّ لِوَسَطِهِ فَعَيْنٌ حَاءُ
أَدْنَاهُ غَيْنٌ خَاؤُهَا وَالْقَافُ
... أَقْصَى اللِّسَانِ فَوقُ ثُمَّ الْكَافُ
أَسْفَلُ وَالْوَسْطُ فَجيْمُ الشِّينُ يَا
... وَالضَّادُ مِنْ حَافَتِهِ إِذْ وَلِيَا
الاَضْرَاسَ مِنْ أَيْسَرَ أَوْ يُمْنَاهَا
... واللاَّمُ أَدْنَاهَا لِمُنْتَهَاهَا
وَالنُّونُ مِنْ طَرَفِهِ تَحْتُ اجْعلُوا
... والرَّا يُدَانِيْهِ لِظَهْرٍ أَدْخَلُوا
وَالطَّاءُ وَالدَّالُ وَتَا مِنْهُ وَمِنْ
... عُلْيَا الثَّنَايَا وَالصَّفِيْرُ مُسْتَكِنْ
مِنْهُ وَمِنْ فَوْقِ الثَّنَايَا السُّفلَى
... وَالظَّاءُ وَالذَّالُ وَثَا لِلْعُلْيَا
مِنْ طَرَفَيْهِمَا وَمِنْ بَطْنِ الشَّفَهْ
... فالْفَا مَعَ اطْرافِ الثَّنَايَا الْمُشْرِفَهْ
لِلشَّفَتَينِ الْوَاوُ بَاءٌ مِيْمُ ... وَغُنَّةٌ مَخْرَجُهَا الْخَيْشُومُ

هيئة الإشراف

#2

10 Nov 2008

الدقائق المحكمة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري

قال الإمام زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاريِّ السُّنَيْكِيِّ (ت: 926هـ) : (المـتن:

(9) مَخَارِجُ الْحُرُوفِ سَبْعَةَ عَشَرْ = عَلَى الَّذِي يَخْتَارُهُ مَنِ اخْتَبَرْ
(10) فَأَلِفُ الْجَوْفِ وَأُخْتَاهَا وَهِي = حُرُوفُ مَدٍّ لِلْهَوَاءِ تَنْتَهِي
(11) ثُمَّ لِأَقْصَى الْحَلْقِ هَمْزٌ هَاءُ = ثُمَّ لِوَسَطِهِ فَعَيْنٌ حَاءُ
(12) أَدْنَاهُ غَيْنٌ خَاؤُهَا وَالْقَافُ = أَقْصَى اللِّسَانِ فَوقُ ثُمَّ الْكَافُ
(13) أَسْفَلُ وَالْوَسْطُ فَجيْمُ الشِّينُ يَا = وَالضَّادُ مِنْ حَافَتِهِ إِذْ وَلِيَا
(14) الاَضْرَاسَ مِنْ أَيْسَرَ أَوْ يُمْنَاهَا = واللاَّمُ أَدْنَاهَا لِمُنْتَهَاهَا
(15) وَالنُّونُ مِنْ طَرَفِهِ تَحْتُ اجْعلُوا = والرَّا يُدَانِيْهِ لِظَهْرٍ أَدْخَلُوا
(16) وَالطَّاءُ وَالدَّالُ وَتَا مِنْهُ وَمِنْ = عُلْيَا الثَّنَايَا وَالصَّفِيْرُ مُسْتَكِنْ
(17) مِنْهُ وَمِنْ فَوْقِ الثَّنَايَا السُّفلَى = وَالظَّاءُ وَالذَّالُ وَثَا لِلْعُلْيَا
(18) مِنْ طَرَفَيْهِمَا وَمِنْ بَطْنِ الشَّفَهْ = فالْفَا مَعَ اطْرافِ الثَّنَايَا الْمُشْرِفَهْ
(19) لِلشَّفَتَينِ الْوَاوُ بَاءٌ مِيْمُ = وَغُنَّةٌ مَخْرَجُهَا الْخَيْشُومُ


1- بابُ مخارِجِ الحُرُوفِ:
عَدَدُ المخارِجِ وأَنْوَاعُهَا :
(9)"مَخارِجُ الحُرُوفِ سَبْعَةَ عَشَرْ" مَخْرَجًا عَلى القَوْلِ "الّذي يَخْتارُهُ مَن اخْتَبَر" ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ المعْرِفَةِ بِهَا. كالخَليلِ بْنِ أَحْمدَ.
وَسِتَّةَ عَشَرَ على قَوْلِ سيبَوَيْهِ بإسْقَاطِ حُرُوفِ الجَوْفِ.
وأَرْبَعةَ عَشَرَ على قَوْلِ الفرَّاءِ، والمُبَرِّدِ، بِإسْقَاطِ ذلِكَ، وَجَعْلِ مَخْرَجِ النُّونِ، واللاَّمِ، والرَّاءِ مَخْرَجًا وَاحِدًا.
وَحَصَرَهَا فيمَا ذَكَرَهُ تَقْريبًا. وإِلاَّ فَلِكُلِّ حَرْفٍ مَخْرَجٌ. ويَحْصُرُ أَنْواعَ المَخَارِجِ:
1- الحَلق
2-حُرُوفُ الجَوْفِ
3- واللِّسانُ.
4- والشَّفتانِ.
وَيَعُمُّها الفَمُ.
وَزَادَ جَماعَةٌ – مِنهُمُ النَّاظِمُ– عَلَيْهَا:
5- الجَوْفُ.
6- والخَيَاشيمُ.
وسَيَأْتي بَيَانُ ذلِكَ كلِّهِ.
وإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ مَخْرَجِ الحَرْفِ؛ فَسَكِّنْهُ. وَأَدْخِلْ عَلَيْهِ هَمزَةَ الوَصْلِ وَأَصْغِ إلَيْهِ، فَحَيْثُ انقَطَعَ صَوتُهُ؛ كَانَ ذلكَ مَكَانَ مَخرَجِهِ.

(10)"فَأَلِفُ الجَوْفِ" أَيْ فَمَخْرَجُ الأَلِفِ: "الجَوْفُ". وَهُوَ الخَلاَءُ الدَّاخِلُ في الفَمِ؛ فلاَ حَيِّزَ لَهَا مُحَقَّقٌ.
"وأُخْتَاهَا" وَهُمَا الوَاوُ واليَاءُ السَّاكِنَتانِ المُجَانِسُ لَهُمَا مَا قَبْلَهُمَا. بأَن انْضَمَّ مَا قَبْلَ الوَاوِ، وانْكَسَرَ مَا قَبْلَ الياءِ. كَذلِكَ بخِلاَفِ مَا إِذَا تَحَرَّكَتَا، أَوْ سَكَنَتَا، ولَمْ يُجَانِسْهُمَا مَا قَبْلَهُمَا، فيَصِيرُ لَهُمَا حيِّزٌ مُحَقَّقٌ، وَمِنْ ثمَّ كَانَ لَهُمَا مَخْرَجَانِ.
"وَهِي" – بِكَسْرِ الهاءِ – أَي الألِفُ وأُخْتَاهَا.
"حُرُوفُ مَدٍّ" وَلينٍ.
"لِلْهَواءِ" أَيْ: هَواءِ الفَمِ: وَهُوَ الصَّوْتُ. أَيْ: عِنْدَ انْتِهَائِهِ.
"تَنْتَهِي" حُرُوفُ المَدِّ. أي تَرْجِعُ إِلَيْهِ؛ فَهِيَ بِهِ أَشْبَهُ. وَتَتَميَّزُ عَنْهُ بتَصَعُّدِ الأَلِفِ وتَسَفُّلِ اليَاءِ واعْتِراضِ الوَاوِ. ونُسِبَتْ إلى
الجَوْفِ؛لأَنَّهُ آخِرُ انْقِطاعِ مَخْرَجِهَا.
وسُمِّيَتْ حُروفَ المدِّ واللِّينِ ؛لأَنَها تَخْرجُ بامْتدَادٍ وَلينٍ. مِنْ غَيرِ كُلْفَةٍ على اللِّسَانِ؛ لاتِّسَاعِ مَخْرَجِهَا. فإِن المَخْرَجَ إِذَا اتَّسَعَ، انْتَشَرَ الصَّوتُ وامْتَدَّ ولاَنَ. وإِذَا ضَاقَ، انْضَغَطَ فيهِ الصَّوتُ وَصَلُبَ. وكُلُّ حَرْفٍ مُسَاوٍ لمخْرجِهِ إلاَّ هِيَ. وَلِذَلِكَ قَبلَت الزِّيَادةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ لَهُ نهَايتَانِ أَيُّتُهُمَا فَرَضَتْ أَوَّلَهُ؛ كَانَ مُقَابِلُهَا آخِرَهُ. وَلمَّا كَانَ وَضعُ الإنسَانِ على الانْتِصَابِ؛ كَانَ رَأسُهُ حُرُوفُ الحَلْقِ أَوَّلَهُ، وَرِجْلاَهُ آخِرَهُ. وَمِنْ ثمَّ كَانَ أَوَّلُ المَخَارِجِ الشَّفَتينِ، وَأَوَّلُهُمَا ممَّا يلي البشْرَةَ، وآخِرُهُمَا ممَّا يَلي الأسْنَانَ. وثَانِيها اللِّسَانُ، وَأَوَّلُهُ ممَّا يَلي الأسْنَانَ، وآخِرُهُ ممَّا يلي الحَلْقَ؛ وَهُوَ ثَالثُهَا. وَأَوَّلُهُ ممَّا يَلي اللِّسَانَ، وَآخِرُهُ ممَّا يلي الصَّدْرَ. وَلَوْ كَانَ وَضْعُهُ على التَنْكيسِ لانْعَكسَ.
ولمَّا كانَ مادةُ الصَّوتِ الهَواءَ الخَارِجَ مِنْ داخِلٍ؛ كانَ أَوَّلُهُ آخِرَ الحَلْقِ وآخِرُهُ أَوَّلَ الشَّفَتين. فَرتَّبَ النَّاظِمُ كالجُمهورِ الحُروفَ باعْتبارِ الصَّوْتِ. حَيْثُ قالَ: فَأَلِفُ الجَوْفِ إلى آخِرِ مَا يَأْتي. وَرَتَّبَ تَسْميَةَ المَخَارِجِ باعْتِبارِ وَضْعِهَا حَيْثُ جَعَلَ الأَبْعَدَ مَا يَلي الصَّدْرَ، والأَقْرَبَ مُقَابِلَهُ؛ فَقَالَ:

(11)"ثُمَّ لأَقْصَى الحَلْقِ: أَيْ أَبْعَدُهُ، وهُوَ آخِرُهُ ممَّا يَلي الصَّدْرَ. حَرْفانِ "هَمزٌ" ثُمَّ "هَاءٌ".
وَلَمْ يَذْكُرِ الأَلِفَ مَعَهُمَا – لمَا مَرَّ – وَذَكَرَهَا الشَّاطِبيُّ وَغَيْرُهُ مَعَهُمَا. لأَنَّ مَبْدأَهَا مَبْدأُ الحَلْقِ ثُمَّ تَمتدُّ وتَمُرُّ على الكلِّ. ولكنَّهُ جَعَلَهَا بَعْدَهُمَا، وغَيْرُهُ جَعَلَهَا بَيْنَهُمَا.
لأَنَّ الثَّلاثةَ – وإِنْ كَانَتْ مِنْ مَخْرَجٍ واحِدٍ – فهِيَ مُرَتَّبَةٌ فيهِ:
الهَمْزَةُ، ثُمَّ الأَلِفُ، ثُمَّ الهَاءُ.
"ثُمَّ لِوَسْطِهِ" – بإِسْكانِ السِّينِ. لُغَةٌ ضَعيفةٌ في فَتْحِهَا، عَكْسَ نَحْوِ: جَلَسْتُ وَسَطَ القَوْمِ ممَّا يصْلُحُ فيه: ( بَيْنَ ).
"فَعَيْنٌ، حاءُ" – زَادَ الفاءَ لِلْوزْنِ، وإلاَّ فالوجهُ إدْخالُهَا على الحَاءِ – أَيْ ثُمَّ لِوَسْطِ الحَلْقِ حَرفانِ: عَيْنٌ، فحاءٌ – مُهمَلتانِ-.

(12) أَدْنَاهُ غَيْنٌ خَاؤُهَا وَالْقَافُ ... أَقْصَى اللِّسَانِ فَوقُ ثُمَّ الْكَافُ

(12) "أَدْنَاهُ غَينٌ" أَيْ ثُمَّ لأَقْرَبِ الحلْقِ – وَهُوَ أَوَّلُهُ – حَرْفانِ: الغَيْنُ ثُمَّ "خَاؤُهَا" المُعْجَمَتانِ.
فَمَخارِجُ الحَلْقِ ثَلاثةٌ. وحُروفُهُ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ. وتُسمَّى (حَلْقيَّةً) لِخُروجِهَا منَ الحَلْقِ.
وَأَضَافَ الخَاءَ إلى الغَيْنِ لِمُشاركَتِهَا لهَا في صِفَاتِهَا إلاَّ في الجَهْرِ. فإنَّهَا مَهْمُوسَةٌ والغَيْنٌ مَجْهُورَةٌ – كمَا سيَأتي -.
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ (مَخَارِجِ الحَلْقِ) وحُرُوفِهِ. أَخَذَ في بيَانِ (مَخَارِجِ اللِّسَانِ) وحُروفِه. فَقَالَ:
"والقَافُ" أَيْ: مَخْرَجُهَا "أَقْصَى اللِّسَانِ" أَي آخِرُهُ، ممَّا يلي الحَلْقَ "فَوْقَ" أَيْ ومَا فَوْقَهُ من الحَنَكِ الأَعْلَى. "ثمَّ الكَافُ" أَيْ مَخْرَجُهَا أقصَى اللِّسانِ.
5-14- حُرُوفُ اللِّسانِ
الحُروفُ اللَّهَويَّةُ
مَخْرَجُ القَافِ والكَافِ

(13) "أَسفلُ" أَيْ ومَا تَحتَهُ مِنَ الحنَكِ الأَعْلَى، ويُسَمَّى الحرفانِ "لَهَويَيْنِ"؛ لأنَّهُمَا يخْرجَان مِنْ آخِرِ اللِّسَانِ عِنْدَ اللَّهاةِ – وهِيَ اللَّحْمَةُ المُشْرِفَةُ على الحَلْقِ، والجَمْعُ لَهًا، وَلَهَواتٍ، وَلَهَيَاتٍ-.
الحُروفُ الشَّجْرِيةُ
"والوَسْطُ" – بإِسْكانِ السِّينِ – مِثْلُ مَا مرَّ.
"فَجيمُ" – بِتَرْكِ التَّنْوينِ لِلْوَزْنِ-.
"الشِّينُ يَا" – بالقَصْرِ لِوَقْفٍ – أَيْ ووَسَطَ اللِّسانِ معَ ما يُحَاذِيهِ منْ وسَطِ الحَنَكِ الأَعْلى مَخْرَجُ الجيمِ، ثُمَّ الشِّينِ، ثُمَّ اليَّاءِ المُثَنَّاةِ تَحْتَ.
وقَدَّم بَعضُهُمْ الشِّينَ على الجِيمِ. وَتُسَمَّى الثَلاثةُ (شَجْريةٌ) لِخُروجِهَا مِنْ شَجْرِ الفَمِ وهُوَ مُنْفَتِحٌ مَا بَيْنَ اللَّحَيَيْنِ.
مَخْرَجُ الضَّادِ
"والضَّادُ منْ حَافَتِهِ إِذْ وَليَا" – بِألِفِ الإِطْلاقِ -.

(14) "الأضْرَاسُ" أَصْلُهَا: الأضْرَاسُ. نُقِلَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ إلى اللاَّمِ واكْتُفِيَ بِهَا عَنْ هَمْزَةِ الوَصْلِ. أَيْ والضَّادُ تَخْرُجُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ مُسْتَطيلَةً إلى ما يلي الأضْراسَ "مِنْ أيْسَرَ" أيْ أَيْسَرِهَا وهُوَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالاً، وَأَيْسَرُ.
"أَوْ" "يُمْناهَا" وهُو قَليلٌ وأعْسَرُ. أَوْ مِنْهُمَا وهُوَ أقَلُّ، وأَعْسَرُ.
قِيلَ: كانَ عُمَرُ – رضيَ اللهُ عَنْهُ – يُخْرِجُهَا منَ الجِهَتَينِ دَفْعَةً واحِدةً؛ وبالجُمْلَةِ هيَ أَصْعَبُ الحُروفِ، وأَشَدُّهَا على اللِّسانِ؛ ولِهذَا قالَ صلى الله عليه وسلم: " أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بالضَّادِ، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُريشٍ".
مَخْرَجُ النُّونِ الحُرُوفُ النَّطْعيَّةُ
12- مَخْرَجُ الطَّاءِ والدَّالِ والتَّاءِ
أَي الّذينَ هُمْ أَصْلُ العَرَبِ، وهُمْ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِهَا فأَنَا أَفْصَحُ العَرَبِ وخَصَّهَا بالذِّكْرِ لعُسْرِهَا على غَيْرِ العَرَبِ. وَقَوْلُهُ: "بَيْدَ" بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ. وقيلَ: بِمَعْنَى غَيْرَ. وأَنَّهُ مِنْ تأكيدِ المدْحِ بمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. كَقَولِهِ:
وَلاَ عَيْبَ فيهِمْ غَيْر أَنَّ سُيوفَهُم =بِهِنَّ فَلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ
الحُرُوفُ الذَّلَقِيَّةُ مَخْرَجُ اللاَّمِ
"واللاَّمُ أَدْنَاهَا لِمُنْتَهَاهَا" أَيْ: وَاللاَّمُ مَخْرَجُهَا مِنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسانِ، مَعَ مَا يَليهَا منْ حافَّةِ الحَنَكِ الأَعْلَى إلى آخِرِهَا. قالَ سيبَويه: فُوَيْقَ الضَّاحِكِ، والنَّابِ، والرُّبَاعِيَّةِ، والثَّنيَّةِ.

(15) "والنُّونُ" تَخْرُجُ "مِنْ طَرَفِهِ" أَي مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ، مَعَ مَا ذُكِرَ. "تَحْتَ اجْعَلُوا". أَي اجْعلُوهَا – أيُّهَا القُرَّاءُ- تَحتَ اللاَّمِ قَليلاً. وقيلَ: فَوْقَهَا قَليلاً.
مَخْرَجُ الرَّاءِ
"والرَّاءُ" – بالقَصْرِ لِلْوَزْنِ – مَخْرَجُهَا (يُدَانيهِ). أَيْ يُقَارِبُ مَخْرَجَ النُّونِ "لِظَهْرٍ أَدْخَلُ". أَيْ: وَهُوَ أَدْخَلُ إلى ظَهْرِ اللِّسانِ قليلاً لانْحِرَافِه إلى اللاَّمِ. وَقَضيَّةُ هذَا تُوجِبُ تقَديمَ الرَّاءِ على النُّونِ. وجَرَى عَليْهِ بَعْضُهُمْ. ومَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنْ تَغَايُرِ مَخَارِجِ الحرُوفِ الثَّلاثةِ مَذْهَبُ سيبَويه والحُذَّاقِ. وذَهَبَ يحيى والفرَّاءُ وقُطْرُبُ والجَرْميُّ إلى أنَّ مخْرَجَهَا واحِدٌ؛ وهُوَ طَرَفُ اللِّسانِ – معَ مَا ذُكِرَ -.
وَتُسَمَّى الثَلاثَةُ (ذَلَقيَّةً) و (ذُولَقيَّةً) لأنَّها مِنْ ذَلَقِ اللَّسانِ وَهُوَ طَرَفُهُ.
حُروفُ الصَّفيرِ (الأسَليَّةُ)
13- مَخْرَجُ الصَّادِ والزَّايِ والسِّينِ

(16) "والطَّاءُ والدَّالُ" – المُهمَلَتانِ – "وَتَا" – بالقَصْرِ لِلْوَزْنِ مُثَنَّاةٌ فَوقَ – تَخرُجُ "مِنْهُ" أَيْ: مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ "ومِنْ" أصُولِ "عُلْيَا الثَّنَايا".
أَيْ: ممَّا بيْنَهُمَا مُصْعِدًا إلى الحَنَكِ الأَعْلَى.
وتُسمَّى الثَّلاثَةُ (نَطْعيَّةً)؛ لأنَّهَا منْ نَطْعِ غَارِ الحَنَكِ الأَعْلَى، وهُوَ سَقْفُهُ.
والثَّنَايَا: الأَسْنَانُ المُتقَدِّمَةُ، اثْنَانِ فَوْقَ، واثْنانِ تَحت.

(17) "والظَّاءُ والذَّالُ" – المُعجَمَتانِ – "وَثَا" – بالقصْرِ للْوَزْنِ مُثَلَّثَةٌ – "لِلْعُلْيَا مِنْ طَرَفَيْهِمَا". يعني: تَخْرُجُ منْ طَرَفي اللِّسَانِ والثَّنَايَا العُلْيَا.
وتُسَمَّى الثَّلاَثَةُ (لَثَويَّةً) نِسْبَةً إلى (اللَّثَةِ). وهيَ اللَّحْمُ النَّابِتُ حَوْلَ الأَسْنَانِ. فمَخَارِجُ اللِّسَانِ عَشْرَةٌ. وحُرُوفُهُ ثمَانيةَ عشرَ.

(18) ثُمَّ أَخَذَ في بَيَانِ مَخَارِجِ الشَّفَتينِ وحُروفِهِما. فقَالَ: "ومنِ بطْنِ الشَّفَةِ فَالْفَا" – بالقَصْرِ للْوَزْنِ وزَيادِةِ الفَاءِ – "مَعْ أطْرافِ" – بإسْكانِ العينِ ونَقْلِ حرَكَةِ الهَمْزَةِ إليهَا – أي:
حُروفُ الشَّفَتَينِ والخَيْشُومِ
15- مَخْرَجُ الفَاءِ
16-17- مَخْرَجُ الوَاوِ والبَاءِ والميمِ
والفَاءُ تَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى مَعَ أَطْرَافِ "الثَّنَايَا المُشْرفَةِ". أَي: العُلْيَا.
وأَطْلَقَ الشَّفَةَ ومُرَادُهُ السُّفْلَى، كَمَا تقَرَّرَ لِعَدَمِ تأَتِّي النُّطْقِ بالفَاءِ معَ العُلْيَا.

(19) "وللشَّفَتيْنِ الوَاوُ بَاءٌ ميمُ" أَي:الواوُ، والبَاءُ – المُوحَّدَةُ – والميمُ، تَخْرُجُ منْ بَيْنِ الشَّفَتينِ، لكنْ بانْفِتَاحِهِمَا في الأوَّلِ، وانْطِبَاقِهِمَا في الآخِرين.
وبعضُهُمْ قَدَّمَ الباءَ على الوَاوِ والميمِ. وبالجُمْلَةِ فمَخَارِجُ الشَّفَتَيْنِ اثْنَانِ، وحُروفُهُمَا أربَعَةٌ.
"وَغُنَّةٌ" الغُنَّةُ: نُونٌ ساكِنَةٌ، تَتْبَعُ: نُونًا أَوْ ميمًا ساكِنَةً، أَوْ تَنْوينًا، وهيَ صَوتٌ أَغَنُّ لاَ عَمَلَ للِّسَانِ فيهِ. قيلَ: شُبِّهِ بِصَوْتِ الغَزَالِ إذا ضَاعَ ولَدُهَا.
"مَخْرَجُهَا" أَيْ: مَخرَجُ مَحلِّهَا.
"الخَيشُومُ" وَهُوَ أقْصَى الأنْفِ. ولهَذَا لَوْ أمْسَكْتَ الأنْفَ لَمْ يُمْكِنْ خُرُوجُهَا، ومَحَلُّهَا: النُّونُ – ولَوْ تَنْوينًا – والميمُ إذَا سَكنَتَا، وَلَمْ تَظْهَرَا.
والتَّقْييدُ بهذَيْنِ ذَكَرَهُ كَثيرٌ مِنْهُم الشَّاطِبيُّ. وهُوَ تقْييدٌ لِكَمالِ الغُنَّةِ، لاَ لأَصْلِهَا. كَمَا ذَكَرَهُ الجَعْبَريُّ. وسَيَأتي إيضَاحُهُ في الكَلامِ على قَوْلِ النَّاظِمِ: "وَأَظْهِر الغُنَّةَ..".

هيئة الإشراف

#3

19 Nov 2008

المنح الفكرية لنور الدين علي بن سلطان محمد القاري

قال الإمام نور الدين علي بن سلطان محمد القاري (ت:1014هـ): (ثم شرَعَ في المخارجِ فقالَ: بابُ مَخَارِجِ الحروفِ:
(مَخَارِجُ الحروفُ) أي: العربيَّةِ الأصولِ (سبعةَ عشَرَ) أي: مَخْرَجًا وهو موضعُ الخروجِ في الأصلِ، لكنَّه هنا عبارةٌ عن الحيِّزِ المُوَلِّدِ للحرفِ، كذا قالَه جماعةٌ مِن الشرَّاحِ، الأظهرُ أنَّهُ موضعُ ظهورِه وتمييزِهِ عن غيرِه؛ ولذا قالُوا في تعريفِ الحرفِ: هو صوتٌ مُعْتَمِدٌ على مَقْطَعٍ مُحَقَّقٍ، وهو أنْ يكونَ اعتمادُه على جزءٍ مُعَيَّنٍ مِن أجزاءِ الحَلْقِ واللسانِ والشَّفَةِ، أو مقطعٍ مُقَدَّرٍ وهو هواءُ الفمِ إذ الألفُ لا مُعْتَمَدَ له في شيءٍ مِن أجزاءِ الفمِ، بحيثُ إنَّه ينقطعُ في ذلكَ الجزءِ؛ ولذا يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصانَ، ثمَّ المرادُ بالحرفِ: حرفُ المَبْنَى من الحروفِ الهِجائيَّةِ، لا حرفُ المعنى ممَّا هو مذكورٌ في الكتبِ العربيَّةِ، وأصلُ الحرفِ معْناه الطَّرَفُ وإنَّما سُمِّيَ حرفًا؛ لأنَّ حرفَ التهجيِّ طرفُ الأصواتِ وبعضٌ منها،وحرفُ المعنى طرفٌ أي: جانبٌ مُقَابِلٌ لمعنى الاسمِ والفعلِ حيثُ يَقَعانِ عُمْدَةً في الكَلاَمِ, وهو لا يَقَعُ إلا فَضْلَةً في المرامِ، ومادَّةُ الصوتِ وحدُّه: هواءٌ مُتَمَوِّجٌ بِتَصَادُمِ جِسْمَيْنِ.
ومِن ثَمَّ عُمَّ به ولم يُخَصَّ بالإنسانِ بخلافِ الحرفِ فإنَّه يختصُّ بالإنسانِ وضعًا، والحركةُ عرضٌ تَحُلُّه على خلافٍ في ذلكَ يطولُ بحثُه ولا طائلَ تحتَه.
ثُمَّ الأصولُ في الحروفِ العربيَّةِ تسعةٌ وعشرونَ حرفًا باتِّفَاقِ البصريِّينَ، إلا المُبَرِّدَ، فإنَّه جعلَ الألفَ والهمزةَ واحدًا، مُحْتَجًّا بأنَّ كُلَّ حرفٍ يوجدُ مسمَّاهُ في أوَّلِ اسمِه، والألفُ أَوَّلُه همزةٌ، وأُجِيبَ بلزومِ أنَّ الهمزةَ تكونُ هاءً؛ لأنَّها أَوَّلُ اسمِها، والتحقيقُ في الفرقِ بينهما أنَّ الألفَ لا تكونُ إلا ساكنةً ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يوجدَ لها اسمٌ يكونُ مسمَّاهُ ساكنًا والهمزةُ إنَّما تكونُ مُتَحَرِّكَةً أو مجزومةً فكانَ حقُّها أنْ يقالَ لها أَمْزَةٌ، لكنها أُبْدِلَ، منها هاءٌ؛ولذا قيلَ: دليلُ تعدُّدِهِمَا إبدالُ أحدِهما مِن الآخرِ، كما حُقِّقَ في الآلِ والأهلِ، وأَرَاقَ وهَرَاقَ، والشيءُ لا يُبْدَلُ مِن نفسِه. والحاصلُ أنَّ الألفَ على نوعينِ، ليِّنَةٌ وغيرُها، فهو أعمُّ لغةً واعتبارًا وإنْ كانَ مُغَايِرًا للهمزةِ اصطلاحًا، وأنَّ مَخْرَجَ الهمزِ مُحَقَّقٌ ومَخْرَجَ الألفِ مُقَدَّرٌ، هذا وقدْ قالَ سِيبَوَيهِ وتَبِعَه الأكثرُ على ما نقلَه الجُعْبُرِيُّ: أنَّ مَخَارِجَ الحروفِ ستَّةَ عشَرَ، فجعلَ الألفَ مِن مَخْرَجِ الهمزةِ، كما اختارَه الشاطبيُّ، والواوَ والياءَ الساكنينِ أعمَّ مِن المدِّ واللينِ مِن مَخْرَجِ المُتَحَرِّكَيْنِ، وقالَ الفرَّاءُ وأتباعُه: أربعةَ عشَرَ، فجعلَ مَخْرَجَ النونِ واللامِ والراءَِ واحدًا، والجمهورُ على أنَّ لكُلِّ واحدٍ مَخْرَجًا كما سيأتي تحقيقُه، وقالَ الخليلُ وهو شيخُ سِيبَوَيْهِ وأتباعُه مِن المحقِّقِين وهو الذي عليه الجمهورُ: إنها سبعةَ عشَرَ كما أشارَ إليه المصنِّفُ بقولِه: (على الذي يختارُه مَن اخْتَبَر) أي: بِناءً على قولِ مَن اختارَ ذلكَ باختيارِه الأقوالَ وتمييزِه بينَ الأحوالِ، واختيارِ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ، وأغربَ شارحٌ حيثُ قالَ: أي على القولِ الذي يختارُه منَّا مِن بينِ الأقوالِ مَن سبقَ اختبارُه للحروفِ، وأعجبُ مِن هذا حيثُ أُعْجِبَ بكَلاَمِه وقالَ: هذا المعنى غنيٌّ عن تأويلِ المضارعِ بالماضي كما جنَحَ إليه ابنُ الناظمِ وغيرُه.
ويحصُرُ هذه المَخَارِجَ الحلقُ واللسانُ والشَّفَةُ، وزادَ جماعةٌ منهم الشاطبيُّ والناظمُ الجوفَ والخَيْشُومَ، هذا وإذا أردتَ أنْ تعرفَ مَخْرَجَ حرفٍ صريحًا بعدَ تَلَفُّظِكَ به صحيحًا فَسَكِّنْهُ أو شَدِّدْهُ وهو الأظهرُ، وأَدْخِلْ عليه همزةَ وصلٍ بأيِّ حركةٍ، وأصْغِ إليه السَّمْعَ فحيثُ انقطعَ الصوتُ كانَ مَخْرَجُه المحقَّقُ، وحيثُ يمكنُ انقطاعُ الصوتِ في الجملةِ كانَ مَخْرَجُه المقدَّرُ، فتدبَّرْ ثُمَّ إذا سُئِلْتَ عن التلفُّظِ بحرفٍ مِن كلمةٍ وكانَ ساكنًا حكَيتُه بهمزةِ وصلٍ، وإنْ كانَ مُتَحَرِّكًا حكيتَه بهاءِ السَّكْتِ؛لأنَّه لما سألَ الخليلُ أصحابَه: كيفَ تَلْفِظونَ بالجيمِ من جعفرٍ؟ فقالُوا: جيمٌ. قالَ: إنَّما لَفَظْتُمْ بالاسمِ لا بالمُسَمَّى لكن قولوا: جَه، وأغربَ شارحٌ هنا حيثُ اعترضَ على الجُعْبُرِيِّ وابنِ الناظمِ في قولِهما: والصوتُ هواءٌ يَتَمَوَّجُ بتصادمِ جسمينِ. فقالَ: الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ أنَّ الصوتَ كيفيَّةٌ تحدثُ بمحضِ خلقِ اللهِ تعالى من غيرِ تأثيرٍ لتموُّجِ الهواءِ أو القَرْعِ أو القَلْعِ خلافًا للحكماءِ في زعمِهم أنَّ الصوتَ كيفيَّةٌ في الهواءِ بسببِ تموُّجٍ، إلى آخرِ ما ذُكِرَ، فإنَّه كَلاَمٌ غيرُ محرَّرٍ نشأَ مِن غيرِ تأمُّلٍ وتدبُّرٍ.
والتحقيقُ أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ هو أنْ لا تأثيرَ لغيرِ اللهِ وأنَّ الأشياءَ قد تُوجَدُ بسببٍ مَن الأسبابِ لكن عندَ خلقِ اللهِ إياهُ كما أنَّهُ سبحانَه يَخْلُقُ الشِّبَعِ بسببِ الأكْلِ، وهو قادرٌ على أنْ يُشْبِعَ مِن غيرِ أكْلٍ وأنْ يجعلَ الأكْلَ سببًا لزيادةِ الجوعِ كما هو مشاهدٌ في المُسْتَسْقَى والمُبْتَلَى بجوعِ البقرِ.َ
ثُمَّ اعلمْ أنَّ الحروفَ المذكورةَ هي الأصولُ الأصليَّةُ، وثمَّةَ حروفٌ فرعيَّةٌ تكونُ مُمْتَزِجَةً بالأصليَّةِ للعللِ المقتضيَةِ لها ليسَ هذا مَحلَّهَا وهي: الهمزةُ المُسَهَّلَةُ بينها وبينَ الألفِ أو الواوِ أو الياءِ، وكذا الألفُ المُمَالَةُ، واللاَّمُ المُفَخَّمَةُ، والصادُ المُشَمَّةُ، والنونُ المُخْفَاةُ، وهذه الحروفُ الخمسةُ كُلُّها فصيحةٌ، جاءتْ بها القِرَاءاتُ الصحيحةُ، والرواياتُ الصريحةُ، وقولُ خالدٍ: والشينُ كالجيمِ في نحوِ أَجْدَق مِن الحروفِ المُتَفَرِّعَةِ المُسْتَحْسَنَةِ، وُجِدَتْ في القرآنِ وغيرِه مِن فصيحِ الكَلاَمِ خطأٌ ظاهرٌ في مقامِ المرامِ، وأمَّا الكافُ العجميَّةُ، وكذا الزايُ والباءُ الفارسيَّةُ، فليستْ من اللغاتِ القرآنيَّةِ، وإنْ كانت لغةً لبعضِ العربِ المصريَّةِ أو اليمانيَّةِ.
ثمَّ اعْلَمْ أنَّ الشارحَ ذكَرَ هنا حديثًا عن مشايخِه في حاشيتِه على الأزهريَّةِ ممَّا تلوحُ لوائحُ الوضعِ عليه في المرتبةِ الأظهريَّةِ ثُمَّ قالَ: التحقيقُ أنَّ لكُلِّ حرفٍ مَخْرَجًا مُخَالِفًا لمَخْرَجِ الآخرِ وإلا لكانَ إياهُ فيكونُ الحكمُ تقريبًا. قلتُ: هذا التعليلُ بعيدٌ مِن التحقيقِ فإنَّ الجمهورَ مِن أربابِ التدقيقِ جعلُوا الحروفَ متعدِّدَةً مَخْرَجًا واحدًا بِناءً على أنَّ التمييزَ حاصلٌ باعتبارِ اختلافِ الصفاتِ وإنْ كانَ الاتحادُ باعتبارِ الذواتِ؛ ولذا قيلَ إنَّ مَعْرِفَةَ المَخْرَجِ بمنزلةِ الوزنِ والمِقْدَارِ، ومَعْرفةَ الصفةِ بمنزلةِ المَحَكِّ والمِعْيَارِ.

(فَأَلِفٌ الجَوْفُ وَأُخْتَاهَا وَهِي = حروفُ مدٍّ للهواءِ تَنْتَهِي)

ضبطُ الجوفِ بالرفعِ على تقديرِ: مَخْرَجُها قبلَ الجوفِ أو بعدَهُ، أو فمَخْرَجُ ألفٍ الجوفُ، وبالجرِّ على أنَّهُ من بابِ الإضافةِ إلى الظرفِ، نحوُ صائمُ النهارِ وقائمُ الليل ِ، أو الإضافةُ لاميَّةٌ أو لأدنى مُلابَسَةٍ، وفي نسخةٍ (للجوفِ ألفٌ)، وهو غيرُ مُتَّزِنٍ، ثمَّ قولُه: (وَأُخْتَاهَا) أي: كذلكَ، والمرادُ شَبِيهَتَاهَا، بأنْ تكونا ساكنتينِ وحركةَ ما قبلَهُمَا مِن جنسِهما، بأنْ تكونَ قبلَ الواوِ ضمةٌ وقبلَ الياءِ كسرةٌ، وجُعِلَت الألفُ أصلًا لأنَّها لا تختلفُ عن حالِها أصلًا لا وقفًا ولا وصلًا، بخلافِ غيرِها، فَصَحَّ قولُه: (وَهِيَ حروفُ مدٍّ) أي: حروفٌ مديَّةٌ لا يتحقَّقُ وجودُها إلا بمدِّهَا قدرَ ألفٍ ويُسَمَّى المدَّ الأصليَّ والذاتيَّ والطبيعيَّ، وقد يُزَادُ بسببٍ مِن أسبابِ المدِّ الفرعيِّ كما سيأتي بيانُه في مقامِه الوضعيِّ، وتُسَمَّى هذه الحروفُ أيضًا لينيةً, وإن كانتْ اللينيَّةُ مُخْتَصَّةً بكونِها ساكنةً ولا تكونُ حركةُ ما قَبْلَها من جنسِها، كخَوْفٍ وغَيْرٍ، والتحقيقُ أنَّ هذه الحروفَ تُسَّمى حروفَ العلَّةِ بالمعنى الأعمِّ، سواءٌ تكونُ متحرِّكَةً أو ساكنةً حركةُ ما قبلَها مِن جنسِها أَو لا، ثُمَّ حروفُ المدِّ واللينِ ثُمَّ اللينِ بالوجهِ الأخصِّ، وهو مختصٌّ بالواوِ والياءِ دونَ الألفِ كما سيأتيَ، وهذه الحروفُ تنتهي إلى هواءِ الفمِ مِن غيرِ اعتمادٍ على جزءٍ من أجزائِه؛ ولذا يقالُ لهذِه الحروفِ: جوفيَّةٌ وهوائيَّةٌ، وقولُ ابنِ المصنِّفِ: مَخْرَجُهنَّ من جوفِ الفمِ والحلقِ، يريدُ أنَّ مبدأَها مبدأُ الحلقِ ويَمْتَدُّ ويَمُرُّ على كُلِّ جوفِ الفمِ، وهو الخلاءُ الداخلُ فيه، فإنَّهُنَّ لا حيِّزَ لَهُنَّ مُحَقَّقٌ ينتهي إليه، بل تنتهي بانتهاءِ الهواءِ، أعني هواءَ الفمِ، وهو الصوتُ، ولهذا يَقْبَلُ الزيادةَ والنُّقْصَانَ في مراتبِها.
وقولُ الشارحِ الروميِّ: كُلُّ خالِ هواءٍ ليسَ بخالٍ عن قصورٍ بل كُلُّ خالٍ مَحلُّ هواءٍ، ثمَّ إنهنَّ بالصوتِ المجرَّدِ أشبَهُ منهنَّ بالحروفِ، ويتميَّزْنَ عن الصوتِ المجرَّدِ بتصعُّدِ الألفِ، وتسفُّلِ الياءِ، واعْتِرَاضِ الواوِ، فنُسِبَتْ إلى الجوفِ؛ لأنَّه آخِرُ انقطاعِ مَخْرَجها، وحيثُ لَزِمَت الألفُ هذه الطريقةَ المُعْتَادةَ مِن كونِها ساكنةً وحركةُ ما قبلَها من جنسِها وهي الفتحةُ لم يَخْتَلِفْ حالُها مِن أنَّهَا دائمًا تكونُ هوائيَّةً، بخلافِ أُخْتَيْهَا، فإنهما إذا فارقتاها في صفةِ المشابهةِ صارَ لهما حيِّزٌ مُحَقَّقٌ، ومِن ثمَّةَ كانَ لهما مَخْرَجانِ: مَخْرَجٌ حالَ كونِهما مَدَّيَّتَيْنِ، ومَخْرَجٌ حالَ كونِهما مُتَحَرِّكَتَينِ، ثمَّ كُلُّ حرفٍ مساوٍ لمَخْرَجِه، أي لِمِقْدَارِه لا يتجاوزُ ولا يَتَقَاصَرُ عنه، إلا حروفَ المدِّ؛ فإنَّها دونَ مَخْرَجِها، ومن ثمَّةَ قَبِلَت الزيادةَ في المدِّ إلى انقطاعِ الصوتِ، وسُمِّيَت حروفَ المدِّ واللينِ؛ لأنَّها تَخْرُجُ بامتدادٍ ولينٍ من غيرِ كُلْفَةٍ على اللسانِ، لاتساعِ مَخْرَجِها، فإنَّ المَخْرَجَ إذا اتَّسَعَ انتشرَ الصوتُ وامتدَّ ولانَ، وإذا ضاقَ انضغطَ فيه الصوتُ وصَلُبَ، ثمَّ التحقيقُ: أنَّ معنى جعلِ سيبويهِ الألفَ من مَخْرَجِ الهمزةِ أنَّ مبدأَه مبدأُ الحلقِ، ويمتدُّ ويَمُرُّ على جميعِ هواءِ الفمِ، فيرتفعُ النزاعُ، وهذا أيضًا معنى قولِ مكيٍّ في (الرعايةِ): لكنَّ الألفَ حرفٌ يَهْوِي في الفمِ حتَّى يَنْقَطِعَ مَخْرَجُه في الحلقِ، فنُسِبَ في الخروجِ إلى الحلقِ لا أنَّهُ آخِرُ خروجِه، إذ لا منافاةَ بينَ أنْ يكونَ مبدؤُه مبدأَ الحلقِ وانقطاعُ مَخْرَجِه فى الحلقِ؛ لأنَّ المرادَ أنَّهُ ليسَ له اعتمادٌ على شيءٍ مِن أجزاءِ الفمِ، بل يَبْتَدِىءُ مِن الحلقِ وينتهي إلى الصوتِ الناشىءِ من الحلقِ، وهذا معنى قولِ الدانيِّ: لا مُعْتَمَدَ للألفِ في شيءٍ مِن أجزاءِ الفمِ. وعلى هذا – وهو أنْ يكونَ مبدؤُه الحلقَ ومنقطعُ مَخْرَجِه فى الحلقِ – يُحْمَلُ جَعْلُ الشاطبيِّ وغيرِه الألفَ حَلْقِيًّا ويُنَزَّلُ قولُه معَ غيرِهم في هذهِ الحروفِ أعني: الواوَ والياءَ على غيرِ المديَّةِ هذا.
وقالَ الناظمُ في (النشرِ): والصوابُ اختصاصُ هذه الثلاثةِ بالجوفِ دونَ الهمزةِ؛ لأنَّهنَّ أصواتٌ لا يَعْتَمِدْنَ على مكانٍ حتى يتَّصِلْنَ بخلافِ الهمزةِ. ثمَّ اعلمْ أنَّهُ قَدَّمَ حروفَ المدِّ على سائرِ الحروفِ لعمومِ مَخْرَجِ المديَّةِ، وكونِها بالنسبةِ إلى مَخَارِجِ البقيَّةِ بمنزلةِ الكُلِّ في جنبِ الجزءِ، فَيَسْتَدْعِي التقدَّيمَ مِن هذهِ الحيثيَّةِ، وإنْ كانَ المناسبُ تأخيرَها عنها باعتبارِ أنَّ حيِّزَها مُقَدَّرٌ وما حيِّزُه مُقَدَّرٌ فهو حَقِيقٌ بأنْ يُؤَخَّرَ عمَّا حيِّزُه محقَّقٌ.
ثُمَّ اعلمْ أنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ لم يكنْ مُنْتَصِبًا وله نهايتانِ أي: طرفانِ، وغايتانِ، أيَّتُهما فَرَضَتْ أَوَّلَه كانَ مُقَابِلُه آخِرَه، ولما كانَ وضعُ الإنسانِ على الانتصابِ مُخَالِفًا لباقي الحيوانِ لَزِمَ منه أنْ يكونَ رأسُه أَوَّلَه ورجلاه آخرَه، فإذا كانَ كذلك كانَ أَوَّلُ المَخَارِجِ الشَّفَتَيْنِ، وَأَوَّلُهما ممَّا يلي البَشَرَةِ، وثانيها: اللسانُ وَأَوَّلُه ممَّا يلي الأسنانَ، وأخرُه ممَّا يلي الحلقَ، وثالثُها: الحلقُ وأَوَّلُه ممَّا يلي اللسانَ، وآخرُه ممَّا يلي الصدرَ، ولو كانَ وضعُ الإنسانِ على التنكيسِ لانْعَكَسَ. ولمَّا كانَ مُدَّةُ الصوتِ الهواءَ الخارجَ مِن داخلٍ كانَ أَوَّلُه آخرَ الحلقِ، وآخرُه أَوَّلَ الشفتينِ، فرتَّبَ الناظمُ رحمَهُ اللهُ الحروفَ باعتبارِ الصوتِ وِفَاقًا للجمهورِ، حيثُ قالَ (فَأَلِفٌ الجوفُ) ورتَّبَ تسميَّةَ المَخَارِجِ باعتبارِ وضعِها الأصليِّ حيثُ جعلَ الأقصى وهو الأبعدُ ممَّا يلي الصدرَ، والأَدْنَى وهو الأقربُ لِمُقَابِلِه فقالَ:
(ثمَّ لأقصى الحلقِ همزٌ هاءٌ) أي: لأبعدِهِ مِن الفمِ حرفانِ وهما همزٌ وهاءٌ، وحذَفَ العاطفَ رعايةً للوزنِ، ومنهم مَن ضمَّ الألفَ إليهما وجعلَها بعدَهما كالشاطبيِّ، ونسبَ هذا القولَ إلى سيبويهِ، ونُقِلَ عنه أيضًا تقديمُ الألفِ على الهاءِ، كما يُفْهَمُ مِن كَلاَمِ الجَارَبَرْدِيِّ، وقيلَ: الهمزةُ والهاءُ في مرتبةٍ واحدةٍ، وقيلَ الهمزةُ أَوْلَى.
(ثمَّ لِوَسَطِهِ فعينٌ حاءٌ) وحقُّه أنْ يقالَ: عينٌ فحاءٌ وغُيِّرَ للضرورةِ ووسَطُ الشيءِ مُحَرَّكَةٌ: ما بينَ طرفيه، كأوسطِه، فإذا سُكِّنَت كانَ ظرْفًا أو هما فيما هو مُصْمَتٌ كالحَلْقةِ فإذا كانتْ أجزاؤُه مُتبايِنةً فبالإسكانِ فقطْ أو كُلُّ موضعٍ صَلَحَ فيه بُيَّنَ فهو بالتسكينِ وإلا فهو بالتحريكِ كذا في القاموسِ فقولُ شارحٍ: "سِينَ (وَسْطَ) ساكنَةٌ في النظمِ على لغةٍ ضعيفةٍ " ضعيفٌ، وفي نسخةٍ (ومِن وَسَطِهِ) بالتحريكِ، وفي نسخةٍ: (وما لِوَسَطِهِ فعينٌ حاءٌ ) فلا إشكالَ في الفاءِ، وتقديمُ العينِ على الحاءِ كَلاَمُ سيبويِه وهو قولُ مكيٍّ، ونصَّ أبو الحسنِ بنُ شريحٍ على أنَّ الحاءَ قبلَ العينِ، وهو كَلاَمُ المَهْدَوِيِّ وغيرِه.
(أَدْنَاهُ غَيْنٌ خَاؤُهَا والقافُ) أي:أقربُ الحلقِ إلى الفمِ وهو أَوَّلُه مِن جانبِ الفمِ: مَخْرَجُ غينٍ وخائِها، والإضافةُ إليها لأدنى مُلاَبَسَةٍ، وهي المشاركةُ في الحروفِ الهجائيَّةِ، أو في صفةِ الحَلْقيَّةِ، أو في الاتصافِ بالمُعْجَمِيَّةِ، وتقديمُ الغينِ على الخاءِ هو مختارُ سيبويهِ أيضًا، وعليه الشاطبيُّ، وتبِعَه الناظمُ، ونصَّ مكيٌّ على تقديمِ الخاءِ (على الغينِ).
وقالَ ابنُ خَرُوفٍ النحْويُّ: إنَّ سيبويهِ لم يَقْصِدْ ترتيبًا فيما هو مِن مَخْرَجٍ واحدٍ.
فهذه ثلاثةُ مَخَارِجَ لستَّةِ أحرفٍ، وتُسَمَّى هذه الحروفُ حَلْقيَّةً
لخروجِهنَّ مِن الحلقِ في الجملةِ، وقولُه: (والقافُ) بتقديرِ مضافٍ أي: ومَخْرَجُها (أقصى اللسانِ فوقُ ثُمَّ الكافُ) بضمِّ قافِ (فوقُ ) على تقديرِ مضافٍ أي: فوقَ الكافِ؛ لأنَّ ما يلي الحلقَ من اللسانِ يُعَدُّ فَوْقًا، وما يقابلُه تحتًا، لما سبقَ مِن النُّكْتَةِ، في اعتبارِ مبدأِ الصوتِ في ترتيبِ المَخَارِجِ، أو المرادُ به أقصى اللسانِ وما فوقَه مِن الحَنَكِ الأعلى، (ثُمَّ الكافُ) أي:مَخْرَجُها أقصى اللسانِ.
(أَسْفَلُ والوسَطُ فَجِيمُ الشينُ يا) أي: أسفلُ مِن القافِ، وهو مبنيٌّ على الضمِّ، مثلُ (فوقُ) ظرفٌ للكافِ السابقِ، أي: في أسفلِ اللسانِ بالنسبةِ إلى القافِ، أو أُرِيدَ به ما تحتَه مِن الحَنَكِ الأعلى، وهي أقربُ إلى الفمِ من القافِ، ويقالُ لهما: اللَّهَوِيَّةُ؛ لأنَّهما يخرجانِ من آخرِ اللسانِ , واللَّهَاةُ: اللحمةُ المُشْرِفَةُ على الحلقِ، وقيلَ: اللهاةُ أقصى الفمِ واللسانِ. واللامُ في (الوَسَطِ ) بدلٌ مِن المضافِ إليهَ، أي: وسَطِ اللسانِ، أي: معَ ما يُحاذِيه مِن وسطِ الحنكِ الأعلى، أو وسطِهمَا، فمَخْرَجُ الجيمِ والشينِ والياءِ وفي نسخةٍ: (الجيمُ الشينُ يا) فحذَفَ تنوينَ الجيمِِ وعاطفَ الشينِ والياءِ ونَكَّرَ وعَرَّفَ بحسَبِ ما استقامَ له الوزنُ في هذا المقامِ، وقَصَرَ (يا) وقفًا لا ضرورةً وقالَ المَهْدَوِيُّ: إنَّ الشينَ تلي الكافَ ثمَّ الجيمَ والياءَ تليانِ الشينَ، كما حكَاه عنه الناظمُ، وتُسَمَّى الحروفُ الثلاثُ شَجَرِيَّةً؛ لأنَّها تخرجُ من شَجَرِ اللسانِ وما يقابلُه، والشَّجَرُ: مُنْفَتَحُ الفمِ، وقيلَ مجمعُ اللَّحْيَيْنِ، والمرادُ بالياءِ غيرُ الياءِ المديَّةِ.
(والضادُ مِن حافتِه إذ ولِيا) أي: ومَخْرَجُ الضادِ من جانبِ اللسانِ وطرفِه إذا قَرُبَ الجانبانِ أي: أحدُهما، فالتذكيرُ باعتبارِ معنى الحافَةِ، (وهو الجانبُ والطرفُ)، أو لاكتسابِه التذكيرَ من الإضافةِ، والألفُ للتثنيَّةِ، والحكمُ لكُلِّ واحدٍ منهما على انفرادِه، وقيلَ الألفُ للإطلاقِ أي: قُرْبِ جانبِ اللسانِ (الأضراسُ من أيسرَ أويُمْنَاهَا) أصلُهَا: الأضراسُ فَنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ واكْتُفِيَ بها عن همزةِ الوصلِ على أحدِ الوجهينِ في أمثالِه، كما يستفادُ من الشاطبيّةِ:

وتبدا بهمزِ الوصلِ في النقلِ كُلِّهِ = وإنْ كنتَ مُعْتَدًّا بعارضِه فلا


وأبعدَ شارحٌ "حيثُ قالَ: "الروايةُ في الأضراسِ هو النصبُ على أنَّهُ مفعولُ (وليا) والفاعلُ مستترٌ عائدٌ إلى اللسانِ وبُعدَه مِن وجهينِ لفظًا ومعنًى، أمَّا أولًا: فلأنَّ الضميرَ يرجعُ إلى المضافِ دونَ المضافِ إليه غالبًا، وأمَّا معنًى فلأنَّهُم اعتبرُوا الولاءَ بينَ الأضراسِ والحافَةِ لا بينَ الأضراسِ ومُطْلَقِ اللسانِ "
ثمَّ قالَ: "ولو قيلَ برفعِه على الفاعليَّةِ فيكونُ المرادُ إذ وليه الأضراسُ لكانتْ مُلاَمتُه لعبارتِهم أقوى؛ لأنَّهم اعْتَبَرُوا أيضًا ولاءَ الأضراسِ بالحافَةِ دونَ العكسِ " ا هـ.
ولا يخفى ما في قولِه (أيضًا) وقولِه: (دونَ العكسِ) مِن المناقضةِ معَ أنَّ القُرْبَ والميلَ إنَّما هو من حافةِ اللسانِ إلى الأضراسِ دونَ العكسِ؛ لبقائِها في مَحَلِّهَا وأمَّا ما أُسْنِدَ إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبعًا للشيخِ زكريَّا مِن قولِه: (أنا أفصحُ مَن نطقَ بالضادِ) فقد صرَّحَ الحُفَّاظُ منهم الناظمُ بأنَّهُ موضوعٌ، والمعنى تخرجُ الضادُ من طَرَفِ اللسانِ مُسْتَطِيلَةً إلى ما يلي الأضراسَ، مِن الجانبِ الأيسرِ، وهو الأيسرُ والأكثرُ، ومِن الأيمنِ وهو اليسيرُ العسيرُ المُعْتَبَرُ، أو مِن الجانبينِ وهو من مختصَّاتِ سيِّدِنَا عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو معنى قولِ الشاطبيِّ:
وهو لديهما يَعِزُّ وباليمُنْىَ يكونُ مُقَلَََّلًا.
وكانَ حقُّ المصنِّفِ أنْ يقولَ: مِن أيسرَ أو يُمْنَى، أو يُسْرَاهَا أو يُمْنَاهَا، لكن غايرَ بينهما ضرورةً، والضميرُ في يُمْنَاها إلى الأضراسِ، أو الحافَةِ، وهما مُتَلاَزِمَتَانِ، ثمَّ (الحافةُ) مخفَّفَةُ الفاءِ، على ما ذكرَ في القاموسِ، من مادَّةِ الأجوفِ، وتوهَّمَ الجُعْبُرِيُّ كونَه من المُضَاعَفِ، فقالَ: خُفِّفَ للوزنِ.
ثمَّ اعْلَمْ أنَّ الأسنانَ على أربعةِ أقسامٍ منها أربعةٌ تُسَمَّى ثَنَايَا ثِنْتَانِ مِن فوقِ وثِنْتَانِ مِن تحتٍ مِن مُقَدَّمِهَا، ثُمَّ أربعةٌ ممَّا يَلِيهَا, مِن كلِّ جَانبٍ واحدةٌ, تُسَمَّى رُبَاعيَّاتٍ, ثمَّ أربعةٌ كذلكَ تُسَمَّى أَنْيَابًا، ثمَّ الباقي يُسَمَّى أَضْرَاسًا، منها أربعةٌ تُسَمَّى ضَوَاحِكَ، ثمَّ ستٌّ طَوَاحِنُ، ثمَّ أربعةٌ نَوَاجِذُ، ويقالُ لها ضِرْسُ الحُلُمِِ, وضِرْسُ العَقْلِ، وقد لا توجدُ في بعضِ أفرادِ الإنسانِ. وأغربَ شارحٌ حيثُ
قالَ: "سقطتْ همزةُ الوصلِ في الأضراسِ والمرادُ بالأضراسِ الأسنانُ، وشارحٌ آخرُ قالَ: أرادَ بها الطواحنَ " ا هـ. فالتحقيقُ أنَّ المرادَ بها الأضراسُ العُلْيَا من أحدِ الجانبينِ مُبْتَدِئًا ممَّا حاذَى وسَطَ اللسانِ، بقرينةِ ذِكْرِه بعدَه مُنْتَهِيًا إلى أَوَّلِ مَخْرَجِ اللامِ، واللهُ أعلمُ بالمرامِ. و (اللاَّمُ أَدْنَاهَا لمُنْتَهَاهَا) أي: ومَخْرَجُ اللاَّمِ أقربُ الحافةِ وأَوَّلُها إلى نهايتِها، أو إلى مُنْتَهَى طرفِها كما قالَ الشاطبيُّ: * وحرفٌ بأَدْنَاها إلى مُنْتَهَاه قدْ * يلي الحنكَ الأعلى.
أي حرفٌ منها بأَدْنَى الحافَةِ واصلًا إلى مُنْتَهَى اللسانِ على ما ذكرَه الجُعْبُرِيُّ، فاللاَّمُ بمعنى إلى، وقيلَ: اللاَّمُ للاختصاصِ، أي الأقربُ المخصوصُ بمُنْتَهَى حافَةِ اللسانِ، ولا يخفى ما فيه مِن التكُلُّفِ في البيانِ، ثمَّ المرادُ مِن الحنكِ الأعلى مِن اللُّثَةِ في سمتِ الضاحكِ لا الثَّنِيَّةِ، خلافًا لسيبويهِ، واللُّثَةُ: بضمٍّ فتخفيفٍ مُثَلَّثَةٍ منبتُ الأسنانِ وتُسَمَّى اللَّهَاةَ وهي اللحمةُ المشرفةُ على الحلقِ، والثنيَّةُ: مُقَدَّمُ الأسنانِ، والضَّاحِكُ: كُلُّ سنٍّ يبدُو مِن مُقَدَّمِ الأضراسِ عندَ الضَّحِكِ. والحاصلُ أنَّ مَخْرَجَ اللامِ مادونَ أَوَّلِ إحدى حافَتَيِ اللسانِ، وذلكَ؛ لأنَّ ابتداءَ مَخْرَجِ اللامِ أقربُ إلى مُقَدَّمِ الفمِ مِن مَخْرَجِ الضادِ وينتهي إلى مُنْتَهَى طرفِ اللسانِ وما يُحاذِي ذلكَ مِن الحنكِ الأعلى فويقَ الضاحكِ والنابِ والرَّباعِيَّةِ والثنيَّةِ، وليسَ في الحروفِ أوسعُ مَخْرَجًا منهَ، وأغربَ شارحٌ في قولِه: أدنى حافةِ اللسانِ أي آخرُها.
(والنونَ مِن طَرَفِه تحتُ اجعلُوا) بنصبِ النونِ على أنَّهُ مفعولٌ مُقَدَّمٌ لقولِه (اجعلُوا) و(تحتُ) مبنيٌّ على الضمِّ و (طَرَفِهِ) بفتحتين أي: واجعلُوا مَخْرَجَ النونِ مِن طرفِ اللسانِ، وهو رأسُه وأَوَّلُه معَ مايليِه من اللُّثَةِ مائلًا إلى ما تحتَ اللامِ قليلًا، وقيلَ فوقَها، وهو أضيقُ مِن مَخْرَجِ اللاَّمِ، وقيلَ (النونُ) مبتدأٌ بتقديرِ مَخْرَجٍ و (مِن طَرَفِه) خبرُه و (تحتُ) ظرفُ (اجعلُوا) ومفعولُه مَحْذُوفٌ أي: اجْعَلُوا النونَ تحتَ اللاَّمِ.
(والرَّا يُدَانِيه لظهرٍ أَدْخَلُ) بقصرِ الراءِ ضرورةً، وبإشباعِ هاءِ يداينِه لغةً أي: ومَخْرَجُ الراءِ يقاربُ مَخْرَجَ اللامِ لكنَّه إلى ظهرٍ مِن اللسانِ أدخلُ، وهذا معنى قولِ ابنِ المصنِّفِ: والراءُ من ظهرِ رأسِ اللسانِ ومُحَاذِيه مِن لثَةِ الثنيَّتَينِ العُلْيَتَيْنِ، وقالَ المصنِّفُ في النشرِ: مَخْرَجُ النونِ مِن طَرَفِ اللسانِ بينَه وبينَ ما فُوَيْقَ الثنايا العُلْيَا غيرَ أنَّهَا أدخلُ في ظهرِ اللسانِ قليلًا،
وقالَ الشاطبيُّ: "وحرفٌ يُدَانِيهِ إلى الظهرِ مُدْخَلٌ" قالَ أبو شامةَ: يعنى يُدَانِي النونَ وهوَ الراءُ، يخرجُ من مَخْرَجِها، لكنَّها أدخلُ في ظهرِ اللسانِ قليلًا من مَخْرَجِ النونِ، لانحرافِه إلى اللامِ، وقالَ ابنُ المصنِّفِ في شرحِه: أي: الراءُ أكثرُ انحرافًا إلى ظهرِ اللسانِ من النونِ، ثمَّ المرادُ بالظهرِ ظهرُ اللسانِ لا ظهرُ طَرَفِه، كما اختارَهُ خالدٌ، ويمكنُ أنْ يكونَ التقديرُ: والراءُ يقاربُه مائلًا إلى ظهرٍ، وهذا القولُ أدخلُ وأقربُ إلى التحقيقِ فإنَّه مَذْهَبُ الحُذَّاقِ وأهلِ التدقيقِ، كسيبويهِ ومَن وافقَه، وذهبَ الفَرَّاءُ وقُطْرُبْ والجَرْمِيُّ إلى أنَّ اللامَ والنونَ والراءَ مِن رأسِ اللسانِ ومُحَاذِيه، وهذه الثلاثةُ تُسَمَّى: ذَلْقَيَّةً، وذَوْلَقِيَّةً؛ لأنَّها مِن ذَلْقِ اللسانِ، وهو حدُّه ثُمَّ (أَدْخَلُ) مفردٌ يُقْرَأُ بإشباعِ الضمَّةِ واوًا، وفي نسخةٍ (أَدْخَلُوا) بإثباتِ الواوِ بصيغةِ الجمعِ، وهو يَحْتَمِلُ الأمرَ والمُضِيَّ، وأغربَ بَحْرَقٌ في قولِه: أي: ومَخْرَجُ هذه الثلاثةِ مِن أدنى حافَةِ اللسانِ مُمْتَدًّا إلى مُنْتَهَاهَا، إلا أنَّ اللامَ تخرجُ مِن أَدْنَاهَا، والنونُ من طَرَفِ اللسانِ، والراءُ يداني مَخْرَجَ النونِ داخلًا إلى ظهرِ رأسِ اللسانِ، فلا يكونُ حينئذٍٍ مُقَدَّمًا على مَخْرَجِ النونِ.

(والطاءُ والدَّالُ وتا مِنْهُ ومِن = عُلْيَا الثَّنَايَا والصَّفيرُ مُسْتَكِنْ)


بِتَخْفيفِ النونِ مراعاةً للوزنِ، قالَ خالدٌ: "المرادُ بالثَّنايا في هذه المواضعِ الثَّنِيَّتَانِ، وإنَّما عبَّرَ الناظمُ رحمَهُ اللهُ بلفظِ الجمعِ؛لأنَّ اللفظَ به أخفُّ معَ كونِه مَعْلُومًا" ا.هـ ويمكنُ أنْ يُحْمَلَ على القولِ بأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنانِ والتحقيقُ أنَّ الثنايا أربعةُ أسنانٍ مُتَقَدِّمَةٌ، اثنانِ فوقُ، واثنانِ تحتُ، فالتقديرُ وعُلْيَا الأسنانِ الثنايا،
أي: العُلْيَا منها وإنَّما الإشكالُ إذا قيلَ: التركيبُ مِن إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، أي: مَخْرَجِ الطاءِ والدالِ والتاءِ من طَرَفِ اللسانِ ومِن الثنايا العُلْيَا، يعني: ممَّا بينَه وبينَ أصولِ الثنايا العُلْيَا مُصْعِدًا إلى الحنكِ الأعلى، ولا معنى لقولِ شارحٍ يمانيٍّ: إمَّا مِن أصولِهما أم مِن وسطِهِما، ويقالُ لهذه الحروفِ الثلاثةِ نَطْعَيَّةٌ لخروجِها مِن نَطْعِ الغارِ الأعلى أي: سقفِه، والغارُ داخلُ الحنكِ والتحقيقُ أنَّهَا سُمِّيَت نَطْعَيَّةً لِمُجَاوَرَةِ مَخْرَجِها الغارَ الأعلى وهو سقفُه لا لخروجِها منه، فتأمَّلْ يظهرْ لكَ وجهُ الخللِ.
ثمَّ أخبرَ أنَّ حروفَ الصفيرِ، وهي الصادُ والزايُ والسينُ، كما سيذكرُها الناظمُ في بيانِ الصفاتِ، مُسْتَقِرٌّ خروجُهُنَّ (منه ومِن فوقِ الثنايا السُّفْلَى) أي مِن طَرَفِ اللسانِ ومِن أطرافِ الثنايا السفلى، كذا قالَهَ ابنُ المصنِّفِ، وفيه بحثٌ؛ لأنَّ الناظمَ اعْتَبَرَ فوقَ الثنايا السفلى الذي هو تحتَ العُلْيَا بعينِه ويريدُ به ما بينهما، وهو لم يعتبرْ ذلكَ، إذ طرفُ الشيءِ غيرُ فوقِهَ، نعم يمكنُ التوفيقُ بحملِ الفوقِ على الطَرَفِ، لمجاورتِه إياهُ مجازًا، وقالَ الشاطبيُّ: "ومنه ومِن بينِ الثنايا ثلاثةٌ " أي وثلاثةٌ منها مِن رأسِ اللسانِ ومِن بينِ الثنايا السفلَى، قالَه الجُعْبُرِيُّ، وقالَ زكريَّا: وعبارةُ الشاطبيِّ رحمَهُ اللهُ و "مِن بينِ الثنايا" يعني العُلْيَا، ولا مُنَافَاةَ فهي مِن طَرَفِ اللسانِ ومِن بينِ الثنايا العُلْيَا والسفلى ا.هـ. ويقالُ لهذِه الثلاثةِ أَسَليَّةٌ؛ لخروجِهنَّ مِن أَسَلَةِ اللسانِ، وهو مُسْتَدَقُّه.
(والظاءُ والذالُ وثا للعُلْيا) أى مَخْرَجُ هذه الثلاثةِ خاصٌّ للثنايا العُلْيَا.
(مِن طَرَفَيهما ومِن بطنِ الشَّفَهْ) أي مِن طَرَفِ اللسانِ وأطرافِ الثنايا العُلْيَا، ويقالُ لهذه الثلاثةِ: لُثَويَّةٌ؛ لخروجِها مِن اللُّثَةِ وهي منبتُ الأسنانِ، وبه تَمَّ مَخَارِجُ اللسانِ وهي عشْرةٌ، وحروفُهُا ثمَّانيةَ عشَرَ حرفًا، وإنَّما قدَّمَ المصنِّفُ حروفَ الصفيرِ على اللُّثَوِيَّةِ تبعًا لسيبويِه؛ ولأنَّهَا تُقَارِبُ مَخْرَجَ الطاءِ وأختيها؛ لأنَّها قبلَ أطرافِ الثنايا.
ثمَّ ذكرَ الناظِمُ مَخَارِجَ الشفةِ وحروفَها بقولِه (ومِن بطنِ الشَّفَه) بفتحِ الشينِ وَيُكْسَر (فالفا معَ أطرافِ الثنايا المُشْرِفَهْ) بكسرِ الراءِ والفاءُ زائدةٌ في (فالفاءُ) لأنَّه مبتدأٌ، والمعنى أنَّ الفاءَ تخرجُ مِن بطنِ الشفةِ السفلى معَ أطرافِ الثنايا العُلْيَا المعينةِ بقولِه (المشرفةُ) وأطلقَ الناظمُ الشفةَ ومرادُه السفلى كما تقرَّرَ لعدمِ تأتِّي النطقِ بالفاءِ معَ العُلْيَا و (معَ) ساكنةٌ على لغةِ ربيعةَ، ثُمَّ نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إليها على لغةِ الجادَّةِ.
(للشَّفَتَينِ الواوُ باءٌ ميمُ) أي: مَخْرَجُ هذه الثلاثةِ خاصٌّ للشفتينِ، حيثُ تخرجُ مِن بينِ الشفةِ العُلْيَا والسفلى، إلا أنَّ الواوَ بانفتاحٍ، والباءَ والميمَ بانطباقٍ، إلا أنَّ انطباقَهما معَ الباءِ أقوى مِن انطباقِهما معَ الميمِ، فكانَ يَنْبَغِي تأخيرُ الواوِ عنهما لذلكَ، كما فعلَ مكيٌّ حيثُ قَدَّمَ الباءَ وذكَرَ الميمَ عَقِبَها وختمَ بالواوِ، والمرادُ بالواوِ غيرُ المديَّةِ.
(وغُنَّةٌ مَخْرَجُها الخيشومُ) أي: أقصى الأنفِ، وبرهانُ الغُنَّةِ في سدِّ الأنفِ ولهذا لو مَسَكْتَ الأنفَ لم يُمْكِنْ خروجُها، ثُمَّ الغُنَّةُ مِن الصفاتِ؛لأنَّها صوتٌ أَغَنُّ لا عملَ للسانِ فيه، فكانَ اللائقُ ذِكْرَها معَ الصفاتِ لا معَ مَخَارِجِ الذواتِ، قالَ ابنُ المصنِّفِ: "والغُنَّةُ صفَةُ النونِ ولو تنوينًا والميمُ المُدْغَمتانِ والمُخْفَاتَانِ وقالَ الجُعْبُرِيُّ: الغُنَّةُ صفةُ النونِ ولو تنوينًا والميمُ تَحَرَّكَتَا أو سَكَنَتَا ظاهرتينِ أو مُخْفَاتَيْنِ أو مُدْغَمَتَيْنِ وهذا معنى قولِ الدانيِّ: وأمَّا الميمُ والنونُ فيُجافَى بهما اللسانُ إلى موضعِ الغُنَّةِ مِن غيرِ قيدٍ وهي في الساكنِ أكملُ مِن المُتَحَرِّكِ وفي المَخْفِيِّ أزيدُ مِن المُظْهَرِ وفي المُدْغَمِ أولى مِن المَخْفِيِّ عندَ مُثْبِتِها، وقولُ الشاطبيِّ:


وغُنَّةُ تنوينٍ وميمٍ إن = سَكنَّ ولا إظهارَ في الأنفِ يُجْتَلاَ


أي: إذا سَكَنَا أو أُخْفِيَا أو أُدْغِمَا، وقولُ مكيٍّ: الساكنانِ قيدٌ لكمالِ الغُنَّةِ لا أصلِها لما تقدَّمَ, واللهُ أعلمُ ا هـ. ولذا قالََ بعضُهم: مَخْرَجُ حرفِها، قالَ ابنُ المصنِّفِ: وكانَ ينبغي أنْ يذكرَ هنا عِوَضًا عنها مَخْرَجَ النونِ المُخْفَاةِ؛ فإنَّ مَخْرَجَها مِن الخيشومِ, وهي حرفٌ بخلافِ الغُنَّةِ.
قلتُ: ولهذا قالَ بعضُ الشُّرَّاحِ: أي: مَخْرَجُ مَحَلِّهَا مِن النونِ والميمِ، وفيه: أنَّ مَخْرَجَ مَحَلِّها مِن النونِ والميمِ قد سبقَ، وأنَّ النونَ المُخْفَاةَ مُرَكَّبَةٌ مِن مَخْرَجِ الذاتِ, ومِن تحقُّقِ الصفةِ في تحصيلِ الكمالاتِ، وقد أغربَ الشارحُ اليمانيُّ حيثُ قالَ:" الغُنَّةُ تارةً تكونُ صفةً، وتارةً تكونُ حرفًا، وهي النونُ والميمُ المُدْغَمَتَانِ والمُخْفَاتَانِ، وهو مذهبُ المصنِّفِ " ا.هـ.
وغرابتُه ممَّا لا يَخْفَى، وعلى كُلِّ تقديرٍ فعَدُّ الغُنَّةِ من مَخَارِجِ الحروفِ السبعةَ عشَرَ لا يَخْلُو مِن إشكالٍ، فتدبَّرْ.
ثُمَّ رأيتُ المصنِّفَ ذكَرَ في النشرِ: أنَّ المَخْرَجَ السابعَ عشَرَ الخيشومُ، وهو للغُنَّةِ، وهي تكونُ في النونِ والميمِ الساكنتينِ حالةَ الإخفاءِ أو ما في حكمِه مِن الإدغامِ بالغُنَّةِ، فإنَّ مَخْرَجَ هذينِ الحرفينِ يتحوَّلُ في هذه الحالةِ عن مَخْرَجِهما الأصليِّ، على القولِ الصحيحِ، كما يتحوَّلُ مَخْرَجُ حروفِ المدِّ مِن مَخْرَجِه إلى الجوفِ على الصوابِ، وقالَ سيبويهِ: إنَّ مَخْرَجَ النونِ الساكنةِ مِن مَخْرَجِ النونِ المتحرِّكَةِ، إنَّما يريدُ به النونَ المُظْهَرَةَ ا.هـ.
وقد نصَّ مكيٌّ في (الرعاية) على أنَّ الغُنَّةَ نونٌ "ساكنةٌ خَفِيَّةٌ" تخرجُ مِن الخياشيمِ، وهي تكونُ تابعةً للنونِ الساكنةِ الخالصةِ السكونِ غيرِ المُخْفَاةِ وهي التي تَتَحَرَّكُ مَرَّةً وتُسَكَّنُ مَرَّةً، وللتنوينِ والميمِ الساكنةِ، ثمَّ قالَ: والغُنَّةُ حرفٌ مجهورٌ شديدٌ لا عملَ للسانِ فيها، وقد صرَّحَ الجَارَبَرْدِيُّ أنَّ النونَ الساكنةَ المُخْفَاةَ تُسَمْىَ غُنَّةً وأنَّهَا مِن الحروفِ المتفرِّعَةِ، ثمَّ بيَّنَ ذلكَ بقولِه فإنكَ إذا قلتَ: (عن) كانَ مَخْرَجُها مِن طَرَفِ اللسانِ وما فوقَه, وإذا قلتَ: (عنكَ) لم يكْن لها مَخْرَجٌ من الفمِ لكنها غُنَّةٌ تخرجُ مِن الخيشومِ، فلو نطقَ بها الناطقُ معَ هذه الحروفِ وأمسكَ أنفَه لبانَ اختلافُها، فيمكنُ حملُ الغُنَّةِ هنا على النونِ المُخْفَاةِ نفسِها مِن غيرِ تكَلُّفٍ بقرينةِ أنَّ الكَلاَمَ في الحروفِ, لا في صفاتِها، وهذا بخلافِ الغُنَّةِ في قولِه: (وأظهرِ الغُنَّةَ) وغيرِه مِن المواضعِ الآتيةِ، فإنَّ المرادَ بها الصفةُ حَتْمًا، وممَّا يؤيدُه قولُ أبى شامةَ نقلًا عن أبي عمرٍو: هذه الغُنَّةُ المسماةُ بالنونِ الخفيَّةِ ليستْ النونَ التي مَرَّ ذِكْرُها، فإنَّ تلكَ مِن الفمِ, وهذه مِن الخيشومِ، وشرطُ هذه أنْ يكونَ بعدَها حرفٌ مِن حروفِ الفمِ؛ ليصحَّ إخفاؤُها فإنْ كانَ بعدَها حرفٌ مِن حروفِ الحلقِ أو كانتْ آخرَ الكَلاَمِ وجبَ أنْ تكونَ الأُولَى.

هيئة الإشراف

#4

19 Nov 2008

الفوائد التجويدية للشيخ: عبد الرازق بن علي موسى

قال الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى المصري (ت: 1429هـ): (بـابُ مخارجِ الحروفِ
قبلَ ذِكرِ المخارجِ يجبُ علينا أن نُعرِّفَ كُلاًّ من المخرجِ والحرفِ لغةً واصطلاحاً، فنقولَ:
المخرجُ لغةً: مَحَلُّ الخروجِ.
واصطلاحاً: مَحَلُّ خروجِ الحرفِ وتمييزِه من غيرِه.
والحرفُ لغةً: الطـرَفُ.
واصطلاحاً: صوتٌ اعتمدَ على مخرجٍ مُحَقَّقٍ أو مُقَدَّرٍ وهو الجَوْفُ.
والمرادُ بالحرفِ هنا الحروفُ الهجائيَّةُ، لا حروفَ المعاني المذكورةِ في كتبِ العربيَّةِ.


9. مخارجُ الحروفِ سبعةَ عشرْ = على الذي يختارُه من اختَبَرْ


اختلفَ أهلُ القراءةِ واللغةِ في عددِ المخارجِ على ثلاثةِ مذاهبَ:
الأولُ: أنها سبعةَ عشرَ مخرجاً على القولِ الذي يختارهُ من اختَبَرَ ذلك من أهلِ المعرفةِ بها؛ كالخليلِ بنِ أحمدَ ومَن تَبِعَهُ من المحقِّقين كالحافظِ ابنِ الجَزْرِيِّ وغيرِه.
فقدْ جَعلَ في الجَوْفِ واحداً وفي الحَلْقِ ثلاثةً وفي اللسانِ عشرةً وفي الشَّفَتَيْنِ اثنين وفي الخيشومِ واحداً.
الثاني: ستةَ عشرَ مخرجاً على قولِ سيبويهِ ومَن تَبِعَهُ كالشاطِبِيِّ وابنِ بِرِيٍّ رضيَ اللهُ عنهما، فقد أَسقطوا مخرجَ الجَوْفِ الذي هو مخرجُ حروفِ المَدِّ الثلاثةِ، ووزَّعوا حروفَه على مخارجِ الحلقِ واللسانِ والشَّفتين فجَعلوا مخرجَ الألفِ من أقصى الحلقِ مع الهمزةِ، والياءِ من وسطِ اللسانِ مع المتحرِّكةِ أو الساكنةِ بعد فتحٍ، والواوِ من الشَّفتين مع الواوِ المتحرِّكةِ أو الساكنةِ بعدَ فتحٍ.
الثالثُ: وهو مذهبُ الفرَّاءِ والجَرْمِيِّ وقُطْربَ وابنِ كَيْسانَ إلى أنها أربعةَ عشرَ بإسقاطِ ما سَبَقَ وجعلَ مخرجَ النونِ واللامِ والراءِ مخرجاً واحداً، وجعلَ مخارجَ اللسانِ ثمانيةً , والجمهورُ على المذهبِ الذي ذَكرَه ابنُ الجَزْرِيِّ وهذه المخارجُ تُسمَّى المخارجَ الخاصَّةَ، وحصرَها فيما ذَكرَ على وجهِ التقريبِ، وإلا فالتحقيقُ أنَّ لكلِّ حرفٍ مخرجاً كما قرَّرَه الصرفيُّونَ، ويَحْصُرُ أنواعَ المخارجِ: الجَوْفُ والحَلْقُ واللسانُ والشفتانِ والخيشومُ، وتُسمَّى المخارجَ العامَّةَ، وإذا أردتَ معرفةَ مخرجِ الحرفِ فسكِّنْه أو شَدِّدْه وهو الأظهرُ وأدخِلْ عليه همزةَ الوصلِ واصغَ إليه فحيثُ انقطعَ صوتُه فهو مخرجُه المحقَّقُ , وحيثُ يمكنُ انقطاعُ الصوتِ في الجملةِ فهو مخرجُه المقدَّرُ. ونعودُ إلى ذِكرِ المخارجِ مرتَّبَةً فنقولُ:

ثم قالَ الناظمُ:

10. فألِفُ الجَوْفِ وأختاها وهي = حروفُ مدٍّ للهواءِ تَنتهي


شرَعَ الناظمُ في بيانِ المخارجِ التفصيليَّةِ حسْبَ ما جاء في المذهبِ الأوَّلِ الذي هو سبعةَ عشرَ مَخرجاً وَفقاً لِمَا عليه الجمهورُ حسْبَ ترتيبِ المخارجِ الخمسةِ العامَّةِ المتضمِّنَةِ للسبعةَ عشرَ مَخرجاً الخاصَّةِ، فنقولُ: -
المخرجُ الأوَّلُ: فقولُه "فألِفُ الجَوْفِ" أيْ: فمخرجُ الألِفِ الجَوْفُ، وهو: الخلاءُ الداخلُ في الفمِ والحَلْقِ فلا حَيِّزَ لها محقَّقٌ.

تنبيه: إنما بدءُوا في تِعدادِ المخارجِ بالجَوْفِ دونَ الشفتين اللتين هما الأوَّلُ , باعتبارِ أنَّ أوَّلَ الإنسانِ رأسُه وآخره رِجلاه، لأنهم اعتبَروا مادَّةَ الصوتِ وهي الهواءُ الخارجُ من الجَوْفِ الحاصلِ بتمَوُّجِ الرئَةِ، لأن الرئَةَ إذا تموَّجَتْ حَصَلَ بمحضِ خلْقِ اللهِ تعالى هواءٌ تدْفَعُه القوَّةُ الإنسانيَّةُ إلى المحَلِّ المرادِ فينقرِعُ فيه بالآلةِ الفمِّيَّةِ فإذا انضغطَ في ذلك المحَلِّ حَصَلَ أصواتٌ متكيِّفةٌ بكيفيَّاتٍ مخصوصةٍ وهي الحروفُ إلا أن الكيفيَّاتِ مختلِفةٌ باختلافِ الآلاتِ كما هو ظاهرٌ وحينئذٍ فلما اختلفَتْ باختلافِ الآلاتِ أي تصادُمُ الجسمينِ اختلفَتِ الحروفُ ويَلزمُ عنها اختلافُ التراكيبِ اللازمِ لها اختلافُ معانيها، وأوَّلُه الجَوْفُ فبَدءوا به وآخرُها أوَّلُ الشَّفتين، فيُقدِّمون في الذكرِ ما هو أقربُ إلى الصدرِ ثم الذي يَليه ثم الذي يَليه، وهكذا إلى الشَّفتين، فتأمَّلْ انتهى من المسعديِّ بتصرُّفٍ.
قولُه "وأُختاها" أي كذلك , والمرادُ شَبيهتاها وهما الواوُ والياءُ الساكنتان المجانسُ لهما ما قبلَهما بأنِ انضمَّ ما قبلَ الواوِ وانكسرَ ما قبلَ الياءِ , بخلافِ ما إذا تحرَّكتا أوسَكَنَتَ وسُبقتا بفتحٍ فيصيرُ لهما حيِّزٌ محقَّقٌ، ومن ثَمَّ كان لهما مَخرجان.
قولُه " وهي حروفُ مَدٍّ " ولِينٍ " للهواءِ" أي: هواءُ الفمِ وهو الصوتُ أي: عندَ انتهائِه "تنتهي" حروفُ المَدِّ أيْ: ترجعُ إليه، والمرادُ بالجَوْفِ جَوْفُ الحَلْقِ والفمِ وهو خلاؤهما الداخلُ فيهما، فمَبدؤهما مبدأُ الحَلْقِ وتمُرُّ على جميعِ أجزاءِ البَدنِ، وسُمِّيَتْ حروفَ المَدِّ واللِّينِ، لأنها تخرجُ بامتدادٍ ولينٍ من غيرٍ كُلفةٍ على اللسانِ لاتساعِ مَخرجِها، فإنَّ المَخرجَ إذا اتَّسعَ انتَشرَ الصوتُ وامتدَّ ولانَ، وإذا ضاقَ انضغطَ فيه الصوتُ وصلُبَ، وتُسمَّى هذه الأحرفُ بالجَوْفيَّةِ لخروجِها من الجَوْفِ والهوائيَّةِ لانتهائِها بانتهاءِ الهواءِ، وكلُّ حرفٍ مساوٍ لمَخرجِه إلاَّ هي فلذلك قُبِلَت الزيادةُ على المَدِّ الطبيعيِّ.
ورتَّب الناظمُ تسميةَ المخارجِ باعتبارِ وضعِها حيثُ جعلَ الأبعدَ مما يَلي الصدرَ والأقربَ مقابلَه:
فقالَ:

11. ثم لأِقصى الحَلْقِ همزٌ ''هاءْ'' = ثم لوسطِه فعَيْنٌ ''حاءْ''


المَخرجُ الثاني: "ثم لأَِقصى الحلقِ" أي: أبعدَه، وهو آخرُه مما يلي الصدرَ يَخرجُ منه حرفان "همزٌ" ثم "هاءٌ" يعني الهمزةَ أوَّلاً ثم الهاءَ فالهمزةُ أبعدَه، وبهذا يُعتبر أَقصى الحَلْقِ مَخرجاً كليًّا منقسماً إلى مَخرجينِ جُزئيَّين متقارِبَيْن يَخْرجُ من أوَّلِهما الهمزةُ ومن ثانيهما الهاءُ، ولم يَذكر الألِفَ معهما؛ لأنَّ الألِفَ لا تَخرجُ إلاَّ من الجَوْفِ كما سَبَقَ، ولأنَّ الألِفَ لِينيَّةٌ والهمزةَ يابسةٌ وقد ذَكرَها الشاطبيُّ وغيرُه معهما، لأنَّ مبدأَها مبدأُ الحَلْقِ ثم تَمتدُّ وتَمرُّ على الكلِّ لكنَّه جعلَها بعدَهما وغيرُه جعلَها بينهما؛ لأنَّ الثلاثةَ وإن كانت من مَخرجٍ واحدٍ فهي مرتَّبةٌ، الهمزةُ ثم الألِفُ ثم الهاءُ.

المَخرجُ الثالثُ: قولُه "ثم لوسطِه" بإسكانِ السينِ " فعَيْنٌ حاءُ" أيْ: ثم لوسطِ الحَلْقِ حرفان عَيْنٌ ثم حاءٌ مهملتان فالعَيْنُ أبعدُ من الحاءِ، ويُعتبرُ وسطُ الحَلْقِ مَخرجاً كليًّا ينقسمُ إلى مَخرجينِ جزئِيَّين متقارِبَيْن يخرجُ من أوَّلِهما العَيْنُ ومن ثانيهما الحاءُ.

ثم قال:

12. أدناه غيْنٌ خاؤُها والقافُ = أقصى اللسانِ فوقَ ثم الكافُ


المَخرجُ الرابعُ: "أدناه غَيْنٌ" أيْ: ثم لأقربِ الحَلْقِ إلى الفمِ وهو أوَّلُه من جانبِ الفمِ حرفان: الغَيْنُ ثم الخاءُ المُعجَمتان والغَيْنُ أبعدَه، فأَدْنى الحَلْقِ أيضاً مَخرجٌ كلِّيٌّ ينقسمُ إلى مَخرجَيْن جزئِيَّين متقارِبَيْن يخرجُ من أوَّلها الغَيْنُ ومن الثاني الخاءُ، فمخارجُ الحَلْقِ ثلاثةٌ وحروفُه ستَّةٌ أو سبعةٌ بزيادةِ الألِفِ وتُسمَّى حلْقيَّةً لخروجِها من الحَلْقِ، وأضافَ الخاءَ إلى الغَيْنِ لمُشاركتِها لها في صفاتِها إلاَّ في الجَهْرِ فإنها مَهموسةٌ والغَيْنُ مجهورةٌ كما سيأتي ثم لما فَرَغَ من مخارجِ الحَلْقِ وحروفِه أخذَ في بيانِ مخارجِ اللسانِ وحروفِه.
المَخرجُ الخامسُ: (القافُ) وهي من مخارجِ اللسانِ: ومخارجُ اللسانِ عشرةٌ، وحروفُه ثمانيةَ عشرَ حرفاً، فقالَ:
"والقافُ" أيْ: مَخرجُها "أقصى اللسانِ" أيْ: آخرُه مما يلي الحَلْقَ " فوقَ" أيْ: وما فوقَه من الحنَكِ الأعلى.
المَخرجُ السادسُ: (الكافُ):"ثم الكافُ " أيْ: مَخرجُها أقصى اللسانِ "أسفلُ".

13. أسفلُ والوسطُ فجيمُ الشين يا = والضادُ من حافَتِه إذ وَلِيَا


قوله " أسفلُ " أيْ: الكافُ تَخرجُ من أقصى اللسانِ وما يُحاذيه من الحَنَكِ الأعلى تحتَ مَخرجِ القافِ قليلاً، وهو أقربُ إلى مقدَّمِ الفمِ من القافِ وأبعدُ عن الحَلْقِ، وتُسمَّى القافُ والكافُ لَهَوِيَّان نسبةً إلى اللَّهاةِ وهي: لحمةٌ مشتبِكةٌ بآخرِ اللسانِ.
(تنبيهٌ) كوْنُ مَخرجِ الكافِ تحتَ مَخرجِ القافِ إنما هو باعتبارَيْن، أوَّلُهما: أنَّ القافَ أقربُ من الكافِ إلى الجَوْفِ، وثانيهُما: أنَّ مَخرجَ القافِ من مَنبَتِ اللَّهاةِ والكافِ من آخرِها ولا شكَّ أن مَنبتَها فوقَ آخرِها، قالَ سيبويهُ: إنَّ مَخرجَ اللامِ يكونُ من فُويقِ الضاحكِ والنابِ والرباعيَةِ، والثَّنِيَّةِ، وإنما لم يَجعلْ مَخرجَ أقصى اللسانِ مَخرجاً كُلِّيًّا يَنقسمُ إلى جزئين كأقصى الحَلْقِ، لأنَّ أقصى اللسانِ فيه طُولٌ وبينَ موضِعَي القافِ والكافِ بُعدٌ بخلافِ أقصى الحَلْقِ.
المَخرجُ السابعُ: قولُه " والوسَطُ فجيمُ الشينُ يا" أي المَخرجُ السابعُ وسَطُ اللسانِ مع ما يُحاذِيهِ من الحَنَكِ الأعلى تَخرجُ منه ثلاثةُ أحرفٍ، الجيمُ فالشينُ فالياءُ غيرُ المدِّيَّةِ إذ المَدِّيَّةُ من الجَوْفِ كما تقدَّمَ، وترتيبُ الثلاثةِ على ما ذَكرَه الناظمُ هو ما عليه الجمهورُ، وقدَّمَ بعضُهم وهو المَهْدَوِيُّ الشينَ على الجيمِ ولكنَّ الجمهورَ على ما رتَّبَه الناظمُ، الجيمُ ثم الشينُ ثم الياءُ التحتيَّةُ المتحرِّكةُ، وتُسمَّى هذه الثلاثةُ شَجْريَّةً - بسكونِ الجيمِ - لخروجِها من شَجْرِ الفمِ وهو مَجْمَعُ ما بينَ اللَّحْيَيْنِ، قولُه "والضادُ من حافَتِه إذ وَلِيَا" بألِفِ الإطلاقِ.

14. الأضراسَ من أيسرَ أو يُمنَاها = واللامُ أَدناها لِمُنتهاها

المَخرجُ الثامنُ: (للضادِ): قولُه "الأضراسَ" بالنقلِ للتخفيفِ يَعني أنَّ الضادَ تَخرجُ من إحدى حافَتَي اللسانِ وما يَلِيها من الأضراسِ العُليا التي في الجانبِ الأيسرِ أو الأيمنِ وخروجُها أي الضادُ المُعجَمةُ المستَطِيلةُ من الجِهَةِ اليُسرى أكثرُ وأيسرُ، ومن اليُمنى أصعبُ وأقلُّ ومن الحَافَتَيْن معاً أقلُّ وأعسرُ، وهذا ما أشارَ إليه الشاطبيُّ بقولِه:

..................وهو لديْهُما = يَعِزُّ وباليُمنى يكونُ مُقلَّلا

وكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخرجُها من الحافَتَيْن، وقيلَ: كان سيِّدُنا عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه يُخرجُها من الجانبينِ أيضاً، وبالجُملةِ فهي أصعبُ الحروفِ مَخرجاً وأشدها على اللسانِ ولا يُمكنُ ضبْطُ مَخرجِها إلاَّ بالمُشافَهةِ، قالَ ابنُ الجَزْرِيِّ في التمهيدِ: واعلمْ أن هذا الحرفَ ليس في الحروفِ حرفٌ يَعسرُ على اللسانِ غيرُه والناسُ يَتفاضلون في النطقِ به، فمنهم من يَجعلُه ظاءً مُطلقاً، وسنذكرُ حُكمَ من يَنطِقها ظاءً إن شاءَ اللهُ تعالى في فصلٍ مستقلٍّ.
المَخرجُ التاسعُ: في قولِه "واللامُ أدناها لمُنتَهاها" أيْ: واللامُ مَخرجُها من أدنى حافَةِ اللسانِ إلى مُنتهى طرْفِه، ومعنى: أدنى حافَتَي اللسانِ أيْ: أقربُها إلى مقدَّمِ الفمِ بعدَ مَخرجِ الضادِ مع ما يَلِيها من اللِّثَةِ، أيْ: لحمةُ الأسنانِ العُليا، وليس في الحروفِ أوسعُ مَخرجاً منه، واللامُ على العكْسِ من الضادِ في خروجِها، فخروجُ اللامِ من الحافَةِ اليُسرى أقلُّ وأعسرُ، ومن اليُمنى أكثرُ وأسهلُ، وخروجُها من الحافَتَيْن معاً أَعَزُّ وأصعبُ، قالَ العلاَّمةُ المارغنِيُّ في النجومِ الطوالعِ: ويَتأتَّى إخراجُ اللامِ من كِلتا الحافَتَيْن إلاَّ أَنَّ إخراجَها من الحَافَةِ اليُمنى أَمكنُ بخلافِ الضادِ، قالَ العلاَّمةُ المسعديُّ:
فائدةٌ تَنفعُ في بعضِ مخارجِ الحروفِ، وهي: أنَّ عدَّةَ أسنانِ الإنسانِ اثنان وثلاثون سِنًّا غالباً.
أربعةٌ تُسمَّى ثَنايا: وهي أوَّلُ ما يَبدو من الإنسانِ من مقدَّم الفمِ: ثِنتانِ من فوقَ وثِنتان من أسفلَ.
أربعةٌ تُسمَّى رَباعِيَةً (بوزنِ ثمانيَةٍ): وهي المحيطة بالرباعية من الجانبين من أعلى ومن أسفل.
أربعةٌ تُسمَّى أنياباً: وهي المُحيطةُ بالثنايا من الجانبين من أعلى ومن أسفلَ أيضاً.
أربعةٌ تُسمَّى ضَواحِكَ: وهي المُحيطَةُ بالأنيابِ من الجانبين من أعلى ومن أسفلَ أيضاً.
اثنا عشرَ تُسمَّى طَواحينَ: أيْ: أضراساً وهي المُحيطةُ بالضواحِكِ من الجانبين من أعلى ومن أسفلَ أيضاً من كلِّ جانبٍ ستَّةٌ ثلاثةٌ من أعلى وثلاثةٌ من أسفلَ.
وأربعةٌ تُسمَّى نواجذَ وبهذا يكونُ العددُ اثنانِ وثلاثونَ سِنًّا للإنسانِ غالباً، وهي المُحيطةُ بالطواحينِ من الجانبين من أعلى ومن أسفلَ أيضاً، وتُسمَّى هذه الأربعةُ الأخيرةُ ضِرسَ الحُلُمِ، وضِرسَ العقلِ، ومن غيرِ الغالبِ يكونُ للإنسانِ ثمانيةٌ وعشرونَ بإسقاطِ النواجذِ الأربعةِ.
فائدةٌ: الأسنانُ على ثلاثةِ أنواعٍ، منها ما هو للطَّحْنِ والتنعيمِ، وهي الأضراسُ، ومنها ما هو للكسرِ، وهي الأنيابُ، ولذلك خُلقتْ رءوسُها مستديرةً، ومنها ما هو للقَطْعِ وهو الرَّباعِيَاتُ والثنايا، ولذلك خُلقتْ حادَّةَ الرءوسِ.

ثم قالَ الناظمُ:

15. والنونُ من طرَفِه تحتَ اجعلوا = والرا يُدانيهِ لظَهْرٍ أَدْخَلُ


المَخرجُ العاشرُ: أيْ: أمَرَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى القارئين بأن يَجعلوا طرَفَ اللسانِ أيْ: بينَه وبينَ ما فُوَيقَ الثنايا العُليا تحتَ مَخرجِ اللامِ إلى جهةِ الخَيْشومِ قليلاً للنونِ المتحرِّكةِ والساكنةِ المظْهَرَةِ، قالَ الإمامُ الجَعْبَرِيُّ رحِمَه اللهُ تعالى: وذلك يَشملُ التنوينَ أيضاً.
وخَرَّجَ بقولِه (النونُ المتحرِّكةُ) النونَ المُخْفاةَ والمُدغَمَةَ مُطلقاً في غيرِ مثلِها، فأما النونُ المُخفَاةُ فتَتحوَّلُ من طرَفِ اللسانِ إلى قُربِ مَخرجِ ما تُخفَى عندَه من الحروفِ، وأما المُدغَمَةُ بغُنَّةٍ أو بغيرِها في غيرِ مِثلِها فتَتحوَّلُ أيضاً من طرَفِ اللسانِ إلى مَخرجِ ما تُدغَمُ فيه من الحروفِ وهذا هو الصوابُ خِلافاً لمن قالَ: بأن مَخرجَ النونِ في هاتين الحالتين يتحوَّلُ من طرَفِ اللسانِ إلى الخَيْشومِ ولمن قالَ بِخروجِ المُشدَّدةِ من الخَيْشومِ كذلك، وسيأتي في بابِ الغُنَّةِ ما يُوضِّح ذلك إن شاءَ اللهُ تعالى.
المَخرجُ الحادي عشرَ: قولُه: (والرَّا يُدانيه لظَهْرٍ أَدْخَلُ) أيْ: أن مَخرجَ الراءِ يُقارِبُ مَخرجَ النونِ لكنَّ مَخرجَ النونِ من طرَفِ اللسانِ من بطنِه وهو المُلاقي لسقفِ الحَلْقِ، والراءُ من طرَفِه أيضاً لكن من ظهْرِه، لأن اللسانَ عندَ النطقِ بالراءِ ينحني حتى يَقرعَ ظهرُه التحريزَ الكائنَ من الحَنَكِ الأعلى كما ذَكرَه المسعديُّ، وقالَ أيضاً: وليس للراءِ مَخرجٌ محقَّقٌ لأنها حرفٌ مُكرَّرٌ ولا يُمكنُ ثباتُ اللسانِ معَه.
وتُسمَّى اللامُ والراءُ والنونُ ذَلَقِيَّةً لخروجِها من ذَلَقِ اللسانِ وهو طرفُه، وما ذَكرناه من أن لكلٍّ من اللامِ والنونِ والراءِ مَخرجاً مستقلاَّ هو ما قالَ به الجمهورُ خِلافاً للفَرَّاءِ ومُوافقِيه حيثُ قالوا: إنَّ مَخرجَ الحروفِ الثلاثةِ واحدٌ، وهو طرَفُ اللسانِ، وما يُحاذِيه كما تقدَّمَ، والتحقيقُ ما قالَ به إلى آخرِ العبارةِ المُشارِ إليها،
ثم قالَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى:


16. والطاءُ والدالُ وتا منه ومِن = عُليا الثنايا والصفيرُ مُستكِنْ


المَخرجُ الثاني عشرَ: أيْ: "والطاءُ والدالُ" المُهمَلتان (وتا) بالقَصْرِ للوزنِ تَخرجُ (منه) أيْ: من طرَفِ اللسان (ومن) أُصولِ (عُليا الثنايا) أيْ: مما بينَهما مُصْعِداً إلى الحَنَكِ الأعلى يَعني: ظهْرُ طرَفِ اللسانِ مع أُصولِ الثنايا العُليا، ويُقالُ للثلاثةِ نِطعِيَّةٌ لأنها من نِطْعِ غارِ الحَنَكِ الأعلى، وهو الجزءُ الأماميُّ من الحَنَكِ الأعلى، والثنايا هي الأسنانُ المتقدِّمةُ اثنان فوقَ واثنان تحتَ كما مرَّ.
المَخرجُ الثالثَ عشرَ: في قولِه " والصفيرُ مستكنْ" أيْ: وحروفُ الصفيرُ الآتيةُ وهي الصادُ والسينُ والزايُ مُستقِرٌّ خروجُها.


17. منه ومن فوقِ الثنايا السُّفْلى = والظاءُ والذالُ وثَا للعُليا

"منه" أيْ: من طرَفِ اللسانِ وفويقَ الثنايا السُّفْلى للصادِ والسينِ المُهمَلتين والزايِ، وهذا معنى قولِه "والصفيرُ مُستَكِنْ" أيْ: وحروفُ الصفيرِ فحذَفَ المضافَ وأقامَ المضافَ إليه مقامَه, ويُقالُ للثلاثةِ: أَسَلِيَّةٌ؛ لخروجِها من أَسَلَةِ اللسانِ ورؤوسِ الثنايا، أيْ: مستدِقُّها.
المَخرجُ الرابعَ عشرَ: في قولِه " والظاءُ والذالُ " المُعجَمَتان (وثَا) بالقَصْرِ للوزنِ.

18. من طَرَفَيْهِمَا ومن بطْنِ الشَّفَهْ = فالفَا مع أطرافِ الثنايا المُشْرِفَهْ


قولُه "للعليا من طَرَفَيْهِمَا" يعني أنَّ الظاءَ والذالَ والثاءَ تَخرجُ من طرَفِ كلٍّ من اللسانِ والثنايا العُليا، ويُقالُ للثلاثةِ لَثَوِيَّةٌ نسبةً إلى اللِّثَةِ وهي اللحمُ النابتُ فيه الأسنانُ وقولُه " ومن بطْنِ الشَّفَهْ" أَخَذَ في بيانِ مخارجِ الشَّفتين وحروفِهما.
المَخرجُ الخامسَ عشرَ: فقالَ: "ومن بطْنِ الشَّفهْ فالفَا" أي: والفاءُ تَخرجُ من باطنِ الشَّفةِ السُّفلى مع أطرافِ (الثنايا المُشْرِفَةِ) أيْ: العُليا، ومُرادُ الناظمِ بقولِه: ومِن بطنِ الشَّفةِ أي السُّفلى لعَدَمِ تَأَتِّي ذلك مع العُليا وقولُ الناظمِ "ومن عُليا الثنايا" من تقَدُّمِ الصفةِ على الموصوفِ وإضافتِها إليه، والمرادُ بالثنايا في المواضعِ المتقدِّمةِ الثِّنْيَتان وإنما عبَّرَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى بلفظِ الجمْعِ على حدِّ قولِه تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: آية 4) لعدَمِ اللَّبْسِ، ولأن التلفُّظَ بالجمْعِ أخفُّ من التثْنِيَةِ هنا، ويُمكن أن يُحملَ على القولِ بأنَّ أقلَّ الْجَمْعِ اثنان.
ثم قالَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى:

19. للشَّفَتين الواوُ باءٌ ميمُ = وغُنَّةٌ مَخرجُها الخَيْشومُ


المَخرجُ السادسَ عشرَ: (الشَّفتان): أيْ: الواوُ والباءُ الموحَّدةُ والميمُ تَخرجُ من بينِ الشَّفتين لكن بانفِتاحِهما في الواوِ وانطباقِهما في الباءِ والميمِ، والخُلاصةُ أنَّ في الشَّفتين مَخرجَيْن وحروفُهما أربعةٌ.
ويُقالُ للثلاثةِ مع الفاءِ شَفَهِيَّةٌ أو شَفَوِيَّةٌ نسبةً إلى مَوضعِ خروجِهنَّ.
المَخرجُ السابعَ عشرَ: (الخَيْشومُ): في قولِه " وغُنَّةٌ.... الخ " يعني أن حروفَ الغُنَّةِ فحذَفَ المضافَ وأقامَ المضافَ إليه مقامَه. أي وحروفُ الغُنَّةِ تَخرجُ من الخَيْشومِ، وهو خرْقٌ لطيفٌ منجذِبٌ من أقصى الأنفِ إلى داخلِ الفمِ، ويَخرجُ منه الميمُ والنونُ الساكنتان حالةَ الإخفاءِ أو ما في حُكمِه من الإدغامِ بغُنَّةٍ والتنوينُ مثلُ النونِ في ذلك، وإلى ذلك الإشارةُ بقولِه "وغُنَّةٌ مَخرجُها الخَيْشومُ".
تنبيهٌ: قولُ الناظمِ فيما سَبقَ "للشفتين الواوُ باءٌ ميمُ" وقولُنا بانفتاحِهما في الواوِ، المرادُ بالواوِ هنا الواوُ المتحرِّكةُ غيرُ المَدِّيَّةِ، أما الواوُ المَدِّيَّةُ وهي الساكنةُ بعد ضمٍّ نحوَ: قُولوا. فتقدَّمَ أنها تَخرجُ من جَوْفِ الحَلْقِ على مذهبِ الجمهورِ, وعلى غيرِه من بين الشَّفتين مع المتحرِّكةِ، والساكنةِ بعدَ فتْحٍ والواوُ أحياناً تكونُ بانفتاحِ الشَّفتين وأحياناً بانضمامِهما، فمتى يكونُ انفتاحُ الشَّفتين في الواوِ؟ ومتى يكونُ انضمامُهما فيها؟ والظاهرُ أن انفتاحَ الشَّفتين في الواوِ يكونُ في حالةِ تحرُّكِها بالفتْحِ مثلُ قولِه تعالى في النساءِ: {لَكَانَ خَيْراً لَهَمْ وَأَقْوَمَ} (النساء: آية 46) أو بالكسرِ نحوَ: {وِزْراً} من قولِه تعالى بـ (طه) {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فِإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} (طه:آية 100).
وأنَّ انضمامَهما يكونُ في حالةِ تحرُّكِها بالضمِّ نحو: {لَتُبْلَوُنَّ}، أو في حالةِ سكونِها بعد فتحٍ نحوَ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (غافر: آية 32)، وفي حالِ سكونِها بعدَ ضمٍّ أيضاً نحوَ: {قُولُوا}، وإلى هنا انتهى الكلامُ على مخارجِ الحروفِ وألقابِها على مذهبِ الجمهورِ مع التنبيهِ على مذهبِ الغيرِ، واللهُ أعلمُ.
بعضُ أحكامٍ تَتعلَّقُ بالغُنَّةِ
قالَ العلاَّمةُ المسعديُّ: اعلمْ أن الغُنَّةَ صِفةٌ وليست حرفاً خلافاً لزاعمِه؛ لأنَّّ حروفَ الهِجَاءِ بالإجماعِ تسعةٌ وعشرون وليست الغُنَّةُ واحداً منها.
ثم قالَ: تنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: الغُنَّةُ صوتٌ يُشبِهُ صَوْتَ الغزالةِ حينَ ضاعَ ولدُها. وهي صِفةٌ ذاتيَّةٌ للميمِ والنونِ ولو تنويناً, قويَّةٌ فيهما, ومن ثَمَّ جذبَتْها حالةُ الإخفاءِ أو ما في حكمِه من الإدغامِ بالغُنَّةِ من مَخرجِهما الأصليِّ وحوَّلتْهُما إلى الخَيْشومِ على الصحيحِ، كما أن صِفةَ المَدِّ جَذَبَتِ الواوَ والياءَ من مَخرجِهما الأصليِّ وحوَّلتْهُما الى الجَوْفِ على الصوابِ، قالَه الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى: أما حالةُ الإظهارِ فلم تَقْوَ الغُنَّةُ فيهما فلم يَتحوَّلا حينئذٍ عن مَخرجِهما الأصليِّ، وكذلك الواوُ والياءُ إذا لم يكونا حَرفَيْ مَدٍّ لم يَتحوَّلا إلى الجَوْفِ لعَدمِ المُقتضَى لذلك.
الثاني: الغُنَّةُ تَجري في الخَيْشومِ كجريانِ المَدِّ في الجَوْفِ فمن ثَمَّ كانت الغُنَّةُ شبيهةً بالمَدِّ بجامعِ أن كُلاّ منهما يَجري في مَخرجِه ولكن يَختلفان في أمورٍ:
أولاً: إنَّ حروفَ المَدِّ تمنع الإدغامَ بخلافِ حروفِ الغُنَّةِ.
ثانياً: إنَّ الغُنَّةَ صِفةٌ ذاتيَّةٌ في حرفَيْها، وأما المَدُّ فصِفةٌ ذاتيَّةٌ في بعضِ حروفِه وهو الألِفُ وعَرَضِيَّةٌ في الواوِ والياءِ إذا تحرَّكتا مثلاً.
ثالثاً: حروفُ المَدِّ بمنزلةِ الحركةِ في الفصلِ بين الساكنَيْن وحروفُ الغُنَّةِ ليست كذلك فلا يُقالُ نحوَ: أنت,ْ وَقْفاً, مثلاً، الغُنَّةُ فَصلتْ بين الساكنَيْن إذ النونُ ساكنةٌ والتاءُ ساكنةٌ، واجتماعُ الساكنَيْن على غيرِ حدِّه مرفوضٌ لأنَّا نقولُ: اجتماعُ الساكنَيْن على غيرِ حدِّه مرفوضٌ في غيرِ الوَقْفِ أما فيه فمُغتَفَرٌ كالحمدْ , وقْفاً.
رابعاً: لا يَجوزُ مَطُّ الغُنَّةِ في حرفَيْها كالمَدِّ في حروفِه لعَدَمِ الروايةِ بذلك، وحينئذٍ فمِعيارُ الغُنَّةِ مَوْكولٌ إلى الذَّوْقِ السليمِ والتجويدِ المستقيمِ المبنيِّ على المُشافَهةِ والأخذِ عن الشيوخِ الأَثْباتِ، أقولُ: وقدَّرَها بعضُ شيوخِنا بحرَكَتين كالمدِّ الطبيعيِّ وممن نصَّ على ذلك صاحبُ (نهايةِ القولِ المفيدِ) نقلاً عن الإمامِ الجَعْبَرِيِّ، وقالَ صاحبُ لآلئِ البيانِ الشيخُ إبراهيمُ شحاتة السَّمنُّودِيُّ:

وغُنَّ في نونٍ وميمٍ باديا = إنْ شُدِّدا فأُدْغِما فأُخْفِيا
فأُظْهِرا فحُرِّكَا وقُدِّرَتْ = بألِفٍ لا فيهما كما ثَبَتْ


فبَيَّنَ في هذين البيتين مَراتبَ الغُنَّةِ ومِقدارَها.
الثالثُ: الغُنَّةُ أصْلٌ في النونِ بالنسبةِ إلى الميمِ لقُربِ مَخرجِ النونِ من الخَيْشومِ الذي هو مَحَلُّ الغُنَّةِ، وبهذا يَندفعُ اعتراضُ بعضِهم بلزومِ كَوْنِ النونِ والميمِ حالَ الغُنَّةِ مُتماثلان لاتِّحادِ المَخرجِ والصفاتِ وأيضاً فالنونُ مُجمعٌ على إخفائِها عندَ الحروفِ الخمسةَ عشرَ وأما الميمُ ففي إخفائِها عندَ الباءِ خلافٌ، والمعمولُ به هو الإخفاءُ.
الرابعُ: أيْ: التنبيهُ الرابعُ، اعلمْ أنَّ ما تقدَّمَ بيانُه من المخارجِ هي مخارجُ الحروفِ الأصولِ، وأما مخارجُ الحروفِ الفروعِ، فكلٌّ من أَلِفَي الإمالةِ والتفخيمِ واللامِ المغلَّظةِ من مَخرجِ أصلِه وذلك معلومٌ مما تَقدَّمَ، وأما الهمزةُ المسهَّلةُ فإن سُهِّلَتْ بينَ الهمزةِ والألِفِ كان مَخرجُها بينَهما، أو سُهِّلَتْ بينَ الهمزةِ والياءِ أو الواوِ كان مَخرجُها بينَهما، وكذلك الصادُ المُشَمَّةُ فإنَّ مَخرجَها بين كلٍّ من مَخرجِ الصادِ المهمَلةِ والزايِ، واللهُ أعلمُ انتهتْ هذه التنبيهاتُ من شرحِ العلاَّمةِ المسعديِّ مخطوطٌ - بتصرُّفٍ - ولم أذكرْها كلَّها ولكن اخترتُ منها بعضَها.
فائدةٌ تَتعلَّقُ بكلمةِ الهجاءِ من الحروفِ الهِجائيَّةِ: الهجاءُ هو تقطيعُ الكلمةِ لبيانِ الحروفِ التي رُكِّبَتْ منها وسُمِّيَتْ بذلك لأنُّه لا يُتوصَّلُ لمعرفتِها عادةً إلاَّ به، وتُسمَّى أيضاً حروفَ المُعجَمِ اسمُ مفعولٍ من أَعجَمَ الحرفَ، إذا أنقَطَه ومعناه حروفُ الخطِّ الذي وَقعَ عليه الإعجامُ، وقيلَ غيرُ ذلك في معنى تسميتِها بحروفِ المعجَمِ، وتُسمَّى حروفَ المَباني لبِناءِ الكلماتِ منها، وتُسمَّى أيضاً الحروفَ العربيَّةَ لتركيبِ كلامِ العربِ منها وهي تسميةُ سيبويهِ والخليلِ بنِ أحمدَ، وقالَ العلاَّمةُ ابنُ يالوشةَ الشريفُ في شرحِ الجَزْرِيَّةِ: اعلمْ أنَّ العربَ اختُصَّتْ بالنطقِ بحروفِ الهجاءِ كلِّها لأنَّ لُغتَهم أكثرُ اللغاتِ حروفاً، فليس في لغاتِ العَجَمِ ظاءٌ مُعجَمةٌ ولا طاءٌ مهمَلةٌ، وقالَ الأصمعيُّ: ليس في الفارسيَّةِ ولا في السُّرْيانيَّةِ ذالٌ مُعجَمةٌ وكذلك خمسةُ أحرفٍ انفَرَدت العربُ بكثرةِ استعمالِها ولم توجدْ في بعضِ لغاتِ العَجَمِ وهي العَيْنُ والصادُ المهمَلتان والضادُ، والقافُ، والثاءُ المثَلَّثةُ، واخْتُصَّت العربُ أيضاً باستعمالِ الهمزةِ متوسِّطةً ومتطرِّفةً ولم يَستعملْها العجمُ إلاَّ في أوائلِ الكلامِ، وقالَ الشيخُ مَكِّيٌّ في الرعايةِ: ومع كونِها أكثرَ اللغاتِ حروفاً انْحصرَتْ في تسعةٍ وعشرين حرفاً وهي (ا ب ت ث إلى الياءِ) فهي هجاءُ كلِّ ناطقٍ في الكَوْنين فسبحانَ من جَعلَ فيها أسرارَ حكمتِه، وباهرَ قدرتِه، انتهى.

هيئة الإشراف

#5

25 Nov 2008

شرح المقدمة الجزرية للشيخ المقرئ: عبد الباسط هاشم

قال الشيخ عبد الباسط بن حامد بن محمد متولي [المعروف بعبد الباسط هاشم] (ت: 1441هـ): (قال الناظم:

مخارج الحروف سبعة عشر = على الذي يختاره من اختبر

أي: من اختبر ذلك من أهل المعرفة كالخليل بن أحمد، وستة عشر على قول سيبويه بإسقاط حروف الجوف، وأربعة عشر على قول الفراء بإسقاط ذلك وجعل مخرج النون واللام والراء واحداً.
ويحصر أنواع المخارج خمسة:الجوف والحلق واللسان والشفتان والخيشوم ويعمها الفم، وإذا أردت معرفة مخرج الحرف فسكنه وأدخل عليه همزة الوصل وأَصغ إليه، فحيث انقطع صوته كان مخرجه. هذا ضابط لجميع الحروف.
(فألف الجوف) أي مخرج الألف اللينة المعتلة: الجوف، وهو الخلاء الداخل في الفم فلا حيز لها محقق، وأختاها وهما الواو والياء الساكنتان سكوناً معتلاً فإذا سكنتا سكوناً أصلياً كان لهما حيز محقق. والفرق بين المعتل والأصلي أن المعتل يجانسه ما قبله فيكسر ما قبل الياء ويضم ما قبل الواو، فإن تحركتا أو سكنتا سكوناً أصلياً كان لهما مخرج آخر كما سيأتي.
وقوله (وهي) يعني الألف، وأختاها: (حروف مد للهواء تنتهي) أي: تخرج من الخلاء في الفم وهو الجوف، ثم تنتهي إلى الهواء أي خارج الفم. وسميت حروف المد واللين؛ لأنها تخرج بامتداد ولين أي بغير كلفة وذلك لاتساع مخرجها.
(ثم لأقصى الحلق) أي أبعده مما يلي الصدر (همز هاء ثم لوسطه.. ثم لوسطه فعين حاء)، وقرئ لوسَطه (أدناه غين خاؤها والأدنى أقرب الحلق) فمخارج الحلق ثلاثة، وحروفه ستة وقيل: سبعة، على إدخال الألف من الحلق؛ لأنها إذا يبست صارت همزة وإذا لانت فهي حرف مد، وخروجها أصلاً من الحلق، كذا قال الشاطبي وبعضهم، وتسمى هذه الحروف حلقية.
ثم لما فرغ من الحلق وحروفه أخذ في بيان مخارج اللسان وحروفه فقال: (والقاف أقصى اللسان فوق) أي فوق الحلق مما يلي الحنك الأعلى، فهذا مخرج القاف (ثم الكاف أسفل) أي: أسفل من ذلك أي: تحت القاف من الحنك الأعلى، ويسمى الحرفان: لهويان؛ لأنهما يخرجان من اللهة مع أقصى اللسان. واللهة هي اللحمة المشرفة على الحلق، وجمعها لهى ولهيات ولهوات.
ثم قال: (والوسْط) وقرأت والوسَط. (فجيم الشين يا) أي: وسط اللسان مما يليه من وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء، وأعني بالياء: المتحركة أو الساكنة سكوناً صحيحاً، وإلا فقد مضى مخرج الياء إذا كانت معتلة. وقدَّم بعضهم الشين على الجيم، وتسمى هذه الأحرف الثلاثة شجرية لخروجها من شجْر الفم وهو منفتح بين اللحيين.
(والضاد من حافته إذ وليا) الألف هنا للأطلاق الاحتْراسَ نقل حركة همزة الوصل إلى اللام؛ ليستقيم النظم، والمعنى أن الضاد مخرجها من حافتي اللسان، والحافة هو الجانب الأيمن أو الأيسر أو كلاهما، والكثرة الكاثرة ينطقون بالضاد من الحافة اليسرى، وقليل من يجيدون نطقها من الحافة اليمنى، وأقل وأعسر من يجيدون نطقها من الحافتين.
وقد قيل: إن عمر – رضي الله تبارك وتعالى عنه – كان ينطق الضاد من الحافتين، وهي أصعب الحروف نطقاً، ولذا يستحب أن ينطق بها حسبما تيسر قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني قرشي)). وفي رواية ((بيد أني من قريش)).
وتنطع الكثير في هذا الحرف حتى جعلوه ظاء، فالبعض يقول: ولاالظالين، وإذا سألته قال: أتحرى الضاد، وهو تغيير لمعاني القرآن، أعاذنا الله من ذلك. وسيأتي قول الناظم رضي الله تبارك وتعالى عنه: (والضاد باستطاله ومحزج ميز من الظاء) فإذا قلنا: (ولاالظالين) فأي فرق بين الضاد والظاء؟! وإذا قلنا: (أنقظ ظهرك) فأي فرق بين الضاد والظاء؟! وهذا كله من بدع القراء في هذا الزمان أعاذنا الله من ذلك بمنه، آمين.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:((بيد)) يعني من أجل أني من قريش، وهم أفصح العرب أي: فأنا أفصح العرب صلى الله عليه وسلم.
قال:

*واللام أدناها لمنتهاها*

أي: واللام من أدنى الحافة إلى منتهاها ممايلي الحنك الأعلى، وذلك له حكمة، فإن اللام تأتي في القرآن الكريم على نوعين: نوع مغلظ، ونوع مرقق. فالمرقق من أدنى الحافة والمغلَّظ من منتهاها.
وقوله:

*والنون من طرفه تحت اجعلوا*

أي: تحت اللام، أي اجعلوها يا قراء تحت اللام مخرجاً. وقال:

*والرا يدانيه لظهر أدخل*

الوجـه الثانـي
وقال: (والرا يدانيه) أي: يداني مخرج النون، ومعنى يدانيه أي: يقاربه. و(أدخل) أي: والراء أدخل إلى ظهر اللسان قليلاً، وذلك لانحرافه إلى اللام، ويقضي هذا بتقديم الراء على النون وهو أولى. وذهب يحيى والفراء وقطرب والجرمي إلى توحيد مخرج الحروف الثلاثة، والأولى ما ذكره الناظم على ما يظهر، وتسمى هذه الأحرف ذلقية؛ لخروجها من ذلق اللسان، وهو طرفه.
قوله: (والطاء والدال وتا منه) أي: هذه الأحرف الثلاثة تخرج من طرف اللسان أيضاً، ومن أصول عليا الثنايا، وتسمى الثلاثة نطعية؛ لخروجها من نطع غار الحنك الأعلى وهو سقفه.
وقوله: (والصفير مستكن) أي: حروف الصفير وهي: الصاد والزاي والسين. وقوله: (مستكن) أي: طرف اللسان مستكن بين الثنايا العليا والسفلى، فلا هو إلى الثنايا العليا أقرب، ولا إلى السفلى أقرب، فهو بينهما مستكن، لذا قال: (منه ومن فوق الثنايا السفلى) وتسمى هذه الأحرف أسلية؛ وذلك لخروجها من أسلة اللسان، أي: مستدق طرفه. وسيأتي معنى تسميتها بالصفير في الكلام على الصفات إن شاء الله.
وقوله:

*والظاء والذال وثا للعليا*

يعني مخرج الظاء والذال والثاء من طرف اللسان ملتصقاً بأطراف الثنايا العليا، وتسمى هذه الأحرف الثلاثة لثوية نسبة إلى اللثة، وهي: اللحم النابت حول الأسنان. وقوله: (من طرفيهما) أي: من طرف اللسان وطرف الثنايا العليا.
ويتضح من ذلك أن مخارج اللسان عشرة، وحروفه ثمانية عشر.
ثم أخذ في بيان مخارج الشفتين وحروفهما فقال: (ومن بطن الشفه) أي السفلى، مع أطراف الثنايا العليا مخرج الفاء (ومن بطن الشفه فالفا مع اطراف الثنايا المشرفه) ونقل حركة الهمز إلى الساكن قبله؛ ليتم النظم.
ثم قال:

*للشفتين الواو باء ميم *

بانفتاحهما في الأول وإطباقهما في الآخرين. والواو المعنية هي الساكنة سكوناً صحيحاً أو المتحركة، وإلا فقد مضى بيان مخرجها معتلة.
ثم قال:

*وغنة مخرجها الخيشوم *