مقدمات
قال الحافظ محمد بن محمد ابن الجزري (ت: 833هـ) : (بسم الله الرحمن الرحيم
يَقُـولُ رَاجِــي عَـفْـوِ رَبًّ سَـامِـعِ ... مُحَمَّـدُ بــنُ الـجَـزَرِيِّ الشَّافِـعِـي
الـحَــمْــدُ للهِ وَصَــلَّـــى اللهُ ... عَـلَــى نَـبِـيِّـهِ وَمُـصْـطَـفَـاهُ
مُـحَـمَّـدٍ وَآلِـــهِ وَصَـحْـبِــهِ ... وَمُـقْـرِيءِ الْـقـرْآنِ مَــعْ مُحِـبِّـهِ
وَبَـعْــدُ إِنَّ هَـــذِهِ مُـقَـدِّمَــهْ ... فِيـمَـا عَـلَـى قَـارِئِـهِ أَنْ يَعْلَـمَـهْ
إِذْ وَاجِـــبٌ عَلَـيْـهِـم مُـحَـتَّـمُ ... قَـبْـلَ الـشُّـرُوعِ أَوَّلًا أَنْ يَعْـلـمُـوا
مَـخَـارِجَ الْـحُـرُوفِ وَالـصِّـفَـاتِ ... لِيَلْـفِـظُـوا بِـأَفْـصَـحِ الـلُّـغَـاتِ
مُـحَـرِّرِي التَّجْـوِيـدِ وَالـمَـواقِـفِ ... وَمَـا الَّـذِي رُسِـمَ فِـي الْمَصَـاحِـفِ
مِـنْ كُـلِّ مَقْطُـوعٍ وَمَوْصُـولٍ بِـهـا ... وَتَـاءِ أُنْثَـى لَـمْ تَكُـنْ تُكْتَـبْ بِـهَـا
الدقائق المحكمة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري
قال الإمام زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاريِّ السُّنَيْكِيِّ (ت: 926هـ) : (المـتن :
(1) يَقُولُ رَاجِي عَفْوِ رَبٍّ سَامِعِ = "مُحَمَّدُ بْنُ الجَزْرِيِّ الشَّافِعِي"
(2) "الحَمْدُ للهِ" وَصَلَّى اللهُ = عَلَى نَبيِّهِ ومُصْطَفَاهُ
(3) مُحمَّدٍ وآلهِ وصحبِهِ = ومُقرِئِ القُرْآنِ مَعَ مُحِبِّهِ
(4) وَبَعْدُ: إنَّ هَذِهِ مُقَدِّمَه = فيمَا على قَارئِهِ أَنْ يَعْلَمَهْ
(5) إِذْ وَاجِبٌ عَلَيْهِم مُحَتَّمُ = قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوَّلًا أَنْ يَعْلمُوا
(6) مَخَارِجَ الْحُرُوفِ وَالصِّفَاتِ = لِيَلْفِظُوا بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ
(7) مُحَرِّرِي التَّجْوِيدِ وَالمَواقِفِ = وَمَا الَّذِي رُسِمَ فِي الْمَصَاحِفِ
(8) مِنْ كُلِّ مَقْطُوعٍ وَمَوْصُولٍ بِها = وَتَاءِ أُنْثَى لَمْ تَكُنْ تُكْتَبْ بِهَا
(1)(يَقُول رَاجِي عَفْوِ رَبٍّ) أَيْ:مُؤَمِّلُ صَفْحِ مَالِكٍ (سَامِعٍ) لِرَجَائِهِ وَغَيْرِهِ فَيُجِيبُهُ لِمَا رَجَاهُ.
(مُحَمَّدُ) – عَطْفُ بَيَانٍ على رَاجٍ، أَوْ بدَلٌ مِنْهُ – "بْنُ مُحَمَّدٍ" بنُ مُحمَّدِ (الجَزْرِيِّ). نِسْبةً إلى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ – رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا – ببِلاَدِ المَشْرِقِ.
( الشافعيُّ )
نِسْبَةً إلي الشافعيِّ إمامِ الأَئِمَّةِ، وسلطانِ الأُمَّةِ: محمدٌ بنُ
إدريسَ بنِ العبَّاسِ بنِ عثمانَ بنِ شَافِعٍ بنِ السائبِ بنِ عُبَيْدِ بنِ
عبدِ يزيدَ بنِ هشامِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ بنِ مَنَافٍ جدِّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
(2) (الحَمْدُ للهِ)
مَقُولُ القَوْلِ: وَ "ال" فيهِ للاسْتِغْراقِ أَوْ لِلْجِنسِ، أَوْ
لِلْعَهْدِ. وَعلى كُلٍّ مِنْهَا يُفيدُ اخْتِصَاصَ الحَمْدِ باللهِ
تَعالى. أَمَّا على الاسْتِغْرَاقِ، فَظَاهِرٌ وأَمَّا على الجِنْسِ،
فَلأَنَّ لاَمَ "لله" للاخْتِصَاصِ. فَلاَ فَرْدَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ وَ
إلاَّ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِهِ.
وَأَمَّا
على العَهْدِ، فعَلَى معنَى أَنَّ الحَمْدَ، الَّذي حَمِدَ اللهُ بهِ
نَفْسَهُ، وَحَمِدَهُ بهِ أَنْبِياؤُهُ، وَأَوْلياؤُهُ مُخْتَصٌّ باللهِ
تَعالى. والعِبْرَةُ بِحَمْدِ مَنْ ذَكَرَ. فَلاَ فَرْدَ مِنْهُ
لِغَيْرِهِ.
وَ (الحمدُ):
هُوَ الثَّنَاءُ باللِّسانِ عَلى الجَمَيلِ الاخْتَيارِيِّ، عَلى جِهَةِ
التَّبْجيلِ مِنْ نِعَمِهِ، وغَيْرِهَا. وَمِثْلُهُ المَدْحُ: لكِنْ
بَحَذْفِ الاخْتيارِيِّ. تَقُولُ: حَمَدْتُ زَيْدًا على عِلْمِهِ،
وَكَرَمِهِ، ولاَ تَقُولُ: حَمَدتُهُ علَى حُسْنِهِ، بَلْ مَدَحْتُهُ.
وَ (الشُّكْرُ) :
فِعلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعظيمِ المُنْعمِ بِسَببِ إنعامِهِ عَلى الشَّاكِرِ،
أَوْ غَيْرِهِ، قَوْلاً وَعَملاً واعْتِقَادًا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا
مَوْرِدًا، وأَخَصُّ مُتَعَلَّقاً. وَهُمَا بالعَكْسِ.
وَ (المَدْحُ) أَعَمُّ مِنَ (الحَمْدُ) مُطْلقًا.
وَعَطَفَ عَلَى ((الحَمْدُ للهِ))– تعالَى – قَوْلَهُ: وَ (صَلَّى اللهُ) وَسَلَّمَ.
وَ (الصَّلاةُ) مِنَ اللهِ – تَعَالى – رَحْمةً، ومِنَ الملائِكَةِ اسْتِغْفَارًا، وَمِنَ الآدَميينَ تَضَرُّعًا، ودعاءً بِخَيْرٍ.
وكَانَ
يَنْبَغي لَهُ ذِكْرُ السَّلامِ، لأَنَّ إِفْرادَ الصَّلاةِ عَنْهُ
مَكْرُوهٌ كَعَكْسِهِ. لاقْتِرانِهِمَا في قَوْلِهِ تعالى: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]. ولَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لَفْظًا.
(عَلَى نَبيِّهِ)
– بالهَمْزِ – مِنَ "النَّبَأِ" أَي: الخَبَرِ لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، مُخْبِرٌ عنِ اللهِ. وَبِلاَ هَمْزٍ –
وَهُوَالأَكْثَرُ – قيلَ: إنَّهُ مُخَفَّفُ المَهْمُوزِ فَقُلِبَتِ
الهَمْزَةُ يَاءً. وقيلَ: إنَّهُ الأَصْلُ منَ النُّبْوةِ أي الرِّفْعَةِ؛
لأنَّ النَّبيَّ مَرْفوعُ الرُّتْبَةِ عَلى سائِرِ الخَلْقِ. وَهُوَ
إنسَانٌ أُوْحِيَ إليْهِ بِشَرْعٍ، وإنْ لَمْ يُؤْمَرْ بتبْليغِهِ، فإنْ
أُمِرَ بِذلكَ فَرَسُولٌ أَيْضًا، فَالنَّبيُّ أَعَمُّ منْهُ مُطْلَقًا.
و(مُصْطَفَاهُ) مِن الصَّفْوَةِ بتسكينِ الصادِ. وهي الْخُلُوصُ، أي مُخْتَارُه. روى الشيخانِ خَبَرًا:(( أَنَا سيِّدُ وَلَدِ آدمَ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ )). وروى مُسْلِمٌ خَبَرًا: ((
إنَّ اللهَ اصْطَفَى "كِنَانَةَ" مِن وَلَدِ إسماعيلَ. واصْطَفَى
"قُرَيْشًا" مِن "كِنَانَةَ". واصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ "بني هاشمٍ"
واصْطَفَانِي مِن بني هاشمٍ، فأنا خِيَارٌ مِن خِيَارٍ مِن خِيَارٍ )).
(3) (محمَّدٍ) عَطْفُ بَيَانٍ على(نَبيِّهِ) و(مُصطَفاهُ)،
أَوْ بدَلٌ مِنْهُمَا. وَهُوَ عَلَمٌ مَنقُولٌ منَ اسْمِ المفعُولِ
المُضَعَّفِ للْمُبَالَغةِ. يُقالُ لمَنْ كَثُرَتْ خِصَالُهُ الحَميدةُ: (مُحمَّدٌ).
وَسَمَّاهُ بهِ جدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ في سَابِعِ ولادَتِهِ لموْتِ أَبيهِ قَبْلَهَا.
فَقيلَ لَهُ:
- لِمَ سَمَّيْتَهُ محمَّدًا ولَيْسَ مِنْ أسْمَاءِ آبائِكَ ولاَ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: رَجَوْتُ أَنْ يُحمَدَ في السماءِ والأرْضِ. وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ رَجَاءَهُ.
(وَ على آلهِ) وَهُمْ مُؤْمِنُو بني هاشمٍ والمُطَّلِبِ على الأصَحِّ.
وَأَصْلُهُ: "أَهْلِ". لتَصْغيرِهِ على: "أُهَيْل"، قُلِبَت "الهَاءُ" هَمْزَةً، و "الهَمْزَةُ" أَلِفًا.
وَقيلَ:
أَصْلُهُ "أَوْلِ" لِتَصْغيرهِ أُوَيْل. قُلبت "الوَاوُ" أَِلِفًا،
لتَحَرُّكِهَا وانْفِتَاحِ ما قَبْلَها. ولاَ يُستعْمَلُ إلاَّ في
الأَشْرَافِ والعُقَلاءِ، بِخَلاَفِ أَهْلِ الأَوَّلِ. وَإِنَّمَا قيلَ: "آلُ فِرعَوْنَ" لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الأَشْرَافِ.
(وَ على صَحْبِهِ)
بِفَتْحِ الصَّادِ، ويَجُوزُ كَسْرُهَا: اسْمُ جَمْعٍ لصَاحبٍ عِنْدَ
سيبوَيه. وَجَمْعُ قِلَّةٍ عِندَ الأَخْفَشِ. والصَّحابيُّ كُلُّ مُسلمٍ
لَقيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَ لَوْ لحْظةً بعدَ إسْلامِهِ.
(وَعلى مُقْرئِ القُرآنِ) العامِلِ بهِ.
(مَعَ مُحِبِّهِ)
أي: القرآنِ، أَوْ مُقْرِئِهِ. وتَجُوزُ الصَّلاَةُ على غَيْرِ الأنْبياءِ
بلاَ كَرَاهةٍ تَبَعًا وبِهَا اسْتِقْلاَلاً. لأنَّهَا حينئِذٍ شِعَارُ
أَهْلِ البِدَعِ. وأَمَّا صَلاتُهُ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ على آلِ أَبي
أَوْفَى، فقِيلَ: مِنْ خَصائِصِهِ وقيلَ: لِبَيانِ الجَوَازِ.
(4) (وَبَعْدُ ) أَيْ: وَبَعْدَ البَسْمَلَةِ، والحَمْدلَةِ، والصَّلاةِ. (إنَّ هذِهِ) إشَارَةٌ إلى مَحسوسٍ إنْ تَأَخَّرتِ الخُطْبَةُ عَنْ فراغِ المُقدِّمةِ، وإلى مَعقُولٍ إنْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ.
(إنَّ هذِهِ مُقدِّمَةٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ – على الأشْهَرِ -. كَمُقَدِّمَةِ الجَيْشِ لِلْجَمَاعَةِ المُتَقَدِّمَةِ مِنْهُ، مِنْ ((قَدَّمَ)) اللاَزِمِ بَمَعنَى: تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ: (..لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ) [الحجرات: 1] وبِفَتْحِهَا – على قِلَّةٍ – كَمُقَدَّمَةِ الرَّجُلِ في لُغَةٍ، مِنْ قَدَّمَ المُتَعَدِّي.
والمُرادُ: إنَّ هَذِهِ أُرجُوزَةٌ لَطيفَةٌ.
(فيمَا) يَجبُ (عَلى قارِئِهِ) أَي القُرْآنِ ( أَنْ يَعْلَمَه) مِمَّا يُعْتَبَرُ في تَجْويدِهِ.
(5) (إِذْ وَاجبٌ)
صِنَاعَةٌ، بِمَعْنَى مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مُطْلَقًا. وَبِمَعْنَى مَا
يُؤْثَمُ بِتَرْكِهِ إِذَا أَوْهَمَ خَلَلَ المَعْنَى أَو اقْتَضَى
تَغْييرَ الإِعْرَابِ.
(عَلَيْهِمْ) أي:القُرَّاءِ.
(مُحتَّمٌ) تَأكيدُ الوَاجِبِ.
(قَبْلَ الشُّرُوعِ) في القِرَاءَةِ.
(أوَّلاً) تَأكيدٌ لِمَا قَبْلَهُ.
(أَنْ يَعْلَمُوا) مَخَارِجَ الحُروفِ الهِجَائيَّةِ.
(6) أَنْ يَعْلَمُوا (مَخَارِجَ الحُرُوفِ) الهِجَائِيَّةِ، وهيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا؛ وسَيَأْتي عِدَّةُ مَخَارِجِهَا.
وَمَخْرَجُ الحَرْفِ: مَوْضِعُ خُرُوجِهِ بِوَاسِطَةِ صَوْتٍ: وهُوَ هَوَاءٌ يَتَمَوَّجُ بِتَصَادُمِ جِسْمَيْنِ.
والحَرْفُ:
صَوْتٌ يَعْتَمِدُ على مَقْطَعٍ أَيْ: مَخْرَجٍ مُحَقَّقٍ أَوْ مُقَدَّرٍ،
ويَخْتَصُّ بالإِنْسانِ وَضْعًا، وَالحَرَكةُ عَرَضٌ تَحُلُّهُ.
(وَ) أَنْ يَعْلَمُوا (الصِّفَاتِ) الّتي لِلْحُروفِ. والمُرادُ مَشْهُورُهَا. وهَيَ سَبْعَةَ عَشَرَ – كَمَا يُعْلَمُ، ممَّا يَأْتي -.
(ليَنْطِقُوا) وفي نُسْخَةٍ "ليَلْفِظُوا".
(بأَفْصَحِ اللُّغاتِ)
وَهيَ لُغَةُ العَرَبِ الَّتي نَزَلَ القُرْآنُ بِهَا. وَلُغَةُ نَبيِّنَا
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلُغَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ فيهَا لخَبرِ: "أُحِبُّ
العَرَبَ لثلاثٍ، لأنّي عَرَبيٌّ، والقُرْآنُ عَرَبيٌّ، ولسانُ أَهْلِ
الجنَّةِ في الجنَّةِ عَرَبيٌّ، وَأُنْزِلَ القُرآنُ بِلُغَتِهِمْ" رَواهُ ابنُ النَّاظِمِ في شَرْحِهِ للْمُقَدِّمَةِ المَذكُورَةِ.
وَقَدْ تَتَفَرَّعُ على مَا ذَكَرَ فُروعٌ:
بأَنْ يَتوَّلَدَ الحَرْفُ مِنْ حَرفيْنِ وَيَتَرَدَّدُ بيْنَ
مَخْرَجَيْنِ. وَبَعْضُها غيرُ فَصيحٍ، وبَعْضُها فَصيحٌ. والوارِدُ منَ
الثَّاني في القُرْآنِ خَمْسَةٌ:
الأَلِفُ الممَالَةُ، والهَمْزَةُ المُسَهَّلةُ، واللاَّمُ المُفَخَّمَةُ، والصَّادُ كالزَّايِ، والنُّونُ المُخَفَّاةُ.
وَاللُّغَاتِ جَمْعُ لُغَةٍ. وهِيَ الأَلْفَاظُ الموضُوعَةُ مِنْ لَغِيَ – بالكَسْرِ – يَلْغَى لَغْيًا إذَا لَهِجَ بالكَلامِ.
وَأَصْلُها لُغيٌ، أَوْ لَغْوٌ. والهَاءُ عِوَضٌ عنِ المَحْذُوفِ.
(7) (مُحَرِّرِي) أَيْ واجِبٌ عَلَيهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا مَا ذُكِرَ حَالَةَ كَوْنِهمْ مُحَقِّقي (التَّجْويدِ) للقُرآنِ.
(والمَواقِفِ) أَيْ: مَحالُّ الوَقْفِ، وَمَحالُّ الابْتداءِ.
(وَمَا الَّذِي رُسِمَ) أَيْ كُتِبَ (في المصَاحِفِ) العُثْمَانيةِ
(8) (مِنْ. كُلِّ مَقْطُوعٍ وَمَوْصُولٍ بِهَا) أَيْ فيهَا – لِلْوَزْنِ -.
وَمنْ كُلِّ (تاءِ أُنْثَى لَمْ تَكُنْ تُكْتَبُ بِهَا) – بالقَصْرِ لِلْوَقْفِ -.
والتَّجْويدُ لُغَةً: التَّحْسينُ. واصْطِلاَحًا:
تِلاَوَةُ القُرْآنِ بإِعْطَاءِ كُلِّ حَرْفٍ حَقَّهُ مِنْ مَخْرَجِهِ
وصِفَتَهِ – كَمَا سيَأْتي-، وَطَريقُهُ الأَخْذُ مِنْ أَفْواهِ المَشَايخِ
العَارِفينَ بِطُرُقِ أَدَاءِ القِراءَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُ
إليْهِ القَارئُ مِنْ مَخَارِجِ الحُروفِ وَصِفَاتِهَا، والوَقْفِ والابْتِدَاءِ والرَّسْمِ. – كَمَا سيأْتي بيَانُهَا -.
وَفي البَيْتِ الأَخيرِ "الجِنَاسُ اللَّفْظِيُّ"، و "الخَطِّيُّ": وهُوَ الجَمْعُ بَيْنَ المَتَشابِهيْنِ في اللَّفْظِ والخَطِّ.
و "الطِّبَاقُ": وَهُوَ الجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَييْنِ مُتَقَابِلَيْنِ.
المنح الفكرية لنور الدين علي بن سلطان محمد القاري
قال الإمام نور الدين علي بن سلطان محمد القاري (ت:1014هـ): (المقدِّمَةُ الجَزْرِيَّةُ
(1) التِّي سَمَّاهَا نَاظِمُهَا: (المُقدِّمَةَ فيما على قارئِ القرآنِ أنْ يَعْلَمَهُ)
أُرْجوزةٌ فى التجويدِ لانظيرَ لها، فى قوَّةِ سَبْكِها، وسلاسةِ نظمِها،
واشتمالِها على أهمِّ مسائلِ هذا الفنِّ، ممَّا تَدْعُو إليه حاجةُ
المُبْتَدِئِينَ, ولا يستغنى عنه أحدٌ مِن المُتْقِنِينَ.
فإنَّها
تَضَمَّنَتْ أهمَّ أبوابَ التجويدِ , والَّتي هى مَخَارِجُ الحروفِ،
وصفاتُها، وأحكامُها، وأبوابُ الوقوفِ، والمَقْطُوعُ والموصولَُ، وقدَّ
ضَمَّنَ ابنُ الجَزَرِيِّ كُلَّّ ذلكَ فى هذِه المقدِّمَةِ حتَّى يَسْهُلَ
على المُتَعَلِّمِ حفظُ المسائلِ واستحضارُها.. وقد اشتهرتْ (مُقَدِّمَتُه)
هذه، واشتغلَ بها المتعلِّمُون دراسةً لها وحفظًا، وعُنِيَ بها
المصنِّفُونَ المحقِّقُون شرحًا لها وتَلْقِينًا، ومِن أهمِّ مَن شرحَها:
- ابنُ الناظمِ أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ الجَزْرِيُّ المُتَوَفَّى سنةَ (827) وَسَمَّى شرحَه (الحواشيَ المُفْهِمَةَ لشرحِ المقدِّمَةِ )، وهو مطبوعٌ.
- الشيخُ زكريَّا الأنصاريُّ المُتَوَفَّى سنةَ (926 هـ) وسَمَّى شرحَه (الدقائقَ المُحْكَمَةَ في شرحِ المُقَدِّمَةِ) وهو مطبوعٌ عِدَّةَ طَبَعاتٍ.
- الشيخُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ الأزهريُّ المُتَوَفَّى سنةَ (905 هـ) وَسَمَّاهُ (الحواشيَ الأزهريَّةَ فى حَلِّ ألفاظِ المُقدِّمَةِ الجَزْرِيَّةِ) وهوَ شرحٌ مُوَجزٌ، وَطُبِعَ مِرَارا ً.
- أبو العباسِ أحمدُ بنُ محمدٍ القَسْطَلاَنِيُّ صاحبُ المواهبِ المُتَوَفَّى (سنةَ 923هـ) واسمُ شرحِه (العقودُ السَّنِيَّةُ في شرحِ المقدِّمَةِ الجَزْرِيَّةِ ).
- رَضِيُّ الدينِ مُحَمَّدٌ بنُ إبراهيمَ الحَلَبيُّ المَعْروفُ بابنِ الحَنْبَليِّ، المُتَوَفَّى (سنةَ 971 هـ) واسمُ شرحِه: (الفوائدُ السَّرِيَّةُ في شرحِ الُمقدِّمَةِ الجَزْرِيَّةِ) وَممَّن شرحَها باللغةِ الفارسيَّةِ الشيخُ كرامتُ عليٍّ.
وباللغةِ الْأُرْدِيَّةِ الشيخُ سعيدُ أحمدَ، واسمُ شرحِه: (القلائدُ الجوهريَّةُ في جِيدِ المقدِّمَةِ الجَزْرِيَّةِ). ومِن أحسنِ مَن شرحَها باللغةِ العربيَّةِ المُلاَّ عليٌّ القاريُّ، فى كتابِه الذى نحنُ بِصَدَدِه: (المِنَحُ الفكريَّةُ)،
ويمتازُ شرحُه بالتفصيلِ والتدقيقِ واستيعابِ المسائلِ والنِّكَاتِ،
والفوائدِ والمُهِمَّاتِ، والمُقَارَنَةِ بينَ الآراءِ المختلفةِ،
والتحقيقِ فى الرواياتِ المتعدِّدَةِ.
وقد
طُبِعَ الكتابُ منذُ سبعٍ وخمسينَ سنةً بمصرَ طبعةً تجاريَّةً تولَّتْ
نشرَهَا المكتبةُ التجاريَّةُ بالقاهرةِ، ولمَّا وجَدْنا أنَّها تحتاجُ إلى
مزيدِ عِنايةٍ وتدقيقٍ وتحقيقٍ، بحثْنَا عن نُسَخٍ خَطِيَّةٍ للكتابَِ،
فوجَدْنا بالمدينةِ النبويَّةِ نسختينِ إحدَاهما كُتِبَتْ سنةَ ستٍّ وستينَ
وألفٍ، أي: بعدَ وفاةِ المؤلِّفِ باثنينِ وخمسينَ سنةً ولكنَّها كُتِبَتْ
بمكةَ المُشَرَّفَةِ عن أصلِ المؤلِّفِ بخطِّه، وهذا ما جعَلَنا نَجْزِمُ
باتِّخَاذِهَا أصلًا..
وهذه
النسخَةُ بخطٍّ نَسْخيٍّ مُعْتَادٍ، وهى بمكتبةِ عارفِ حكمتِ برقمِ (289/2
مجاميعُ) وهناكَ نسخةٌ أخرى متأخِّرَةٌ فى التاريخِ، كُتِبَتْ سنةَ (1226
هـ) وهى بالمكتبةِ المَحْمُودَيَّةِ برقمِ (2732/5) ولم نَعْتَمِدْ عليها
فى التحقيقِ وإن كُنَّا رجَعْنا إليها أحيانًا فهى نسخةٌ مُسَاعِدَةٌ. فقد
اكْتَفَيْنا فى التحقيقِ بالمُقَابَلَةِ بينَ المطبوعةِ وبينَ نسخةِ عارفِ
حكمتِ التى رمَزْنا لها بكَلِمَةِ (الأصلِ).
وقد
قامَ أخي وزميلي الحافظُ المُجَوِّدُ الشيخُ عبدُ القَوِيِّ عبدُ المجيدِ
بالتحقيقِ والتعليقِ , وكُنْتُ أُسْهِمُ معَهُ في المُقَابَلَةِ،
وأَتَوَلَّى المراجعةََ، وقمتُ بكتابةِ هذه المقدِّمَةِ بمساعدتِه أيضًا
فقد قامَ بجمعِ بعضِ المَعْلوماتِ لها.
وآخِرُ دَعْوَانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
كتبه: أبو عاصمٍ الدكتورُ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ الفتَّاحِ القارئُُ
بالمدينةِ النبويَّةِ في 9/12/1411 هـ.
الحمدُ
للهِ الذي أودعَ جواهرَ المَعْاني الضيائيَّةِ، في قوالبِ زواهرِ المباني
مِن الحروفِ الهِجائيَّةِ، وأبدعَ المُكَوِّنَاتِ لظهورِ حقيقةِ ذاتِه
العليَّةِ في مرآةِ صفاتِه الجليَّةِ، وأنزلَ القرآنَ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ،
معَ وَساطَةِ الرُّوحِ الأمينِ، على رسولِه خاتمِ النبيِّينَ وسابقِ
الأَوَّلِينَ، الذي أشارتْ إلى صفاتِ صدقِه سورةُ صادٍ، وهو أفصحُ مَن نطقَ
بالضادِ مِن بينِ العبادِ، وأظهرَ المُغَيَّبَاتِ ممَّا أُدْغِم َ
وأُخْفِيَ وقُلِبَ على قَلْبِ أهلِ العِنادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وعلى آلِه وأصحابِه المقرَّبِينَ إليه والمَرْضِيِّينَ لديه،
التالِينَ على سبيلِ الترتيلِ لكتابِه، والمجوِّدِينَ لأداءِ آدابِه،
الواقِفِينَ على عتبةِ بابِهِ، الواصلينَ إلى حضرةِ جنابِه،
المُتَرَسِّمِينَ على وَفْقِ خطابِه، حيثُ شَمُّوا رائحةَ فاتحةِ الكتابِ،
ورامُوا فيما قامُوا لائحةَ لامعَةِ خاتمةِ البابِ.
أمَّا بعدُ:
فيقولُ المُلْتَجِي إلى حَرَمِ ربِّه البارِي، عليُّ بنُ سلطانَ محمدٍ
القاري، عَامَلَهُما اللهُ بلطفِه الخفيِّ وكرمِه الوفيِّ: إنَّ
المقدِّمَةَ المنسوبَةَ للعلاَّمَةِ شيخِ الإسلامِ والمسلمينَ وخاتمةِ
الحفَّاظِ والمحدِّثِين سيِّدِنا وسندِنا ومولانا وشيخِ مشايخِنا ممَّن
أَوْلاَنَا، الشيخِ أبى الخيرِ شمسِ الدينِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدٍ
الجَزْرِيِّ، قَدَّسَ اللهُ سِرَّه السريَّ، ما
رأيتُ لها شَرْحًا كاملًا يُبَيِّنُ بيانًا شاملًا يكونُ لتحقيقِ الحقائقِ
كافلًا فسنَحَ ببالِي أنْ أضَعَ عليها شرحًا مُعْتَدِلًا لا مُخْتَصِرًا
مُخِلاّ ولا مُطَوَّلاً مُمِلاّ. فأقولُ وباللهِ التوفيقُ، وبيدِه
أَزِمَّةُ التحقيقِ: إنَّ قولَه: (يقولُ راجي عفوِ ربٍّ سامعِ) بإشباعِ كسرةِ العينِ للوزنِ، وفي نسخةٍ بإثباتِ ياءِ الإضافةِ (محمدٌ بنُ الجَزَرِيِّ الشافعيُّ )
يشيرُ إلى أنَّ العبارةَ المَقُولَةَ إذا كانتْ من جنسِ العلومِ
المَنْقُولَةِ ينبغي أنْ تُنْسَبَ إلى قائلِها؛ لتكونَ سَنَدًا لناقلِها،
وعبَّر بصيغةِ المضارعِ الدالِّ على الاستقبالِ؛ ليُشعِرَ أنَّ الخطبةَ
مُتَقَدِّمَةٌ على أصلِ المقدِّمَةِ، ولو فُرِضَ عكسُ ذلكَ لوُجِدَ له وجهٌ
أيضًا هنالكَ بأنْ حُمِلَ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ، ويُؤَيِّدُه تعبيرُ
بعضِهم يقالُ في أوائلِ التصانيفِ المَرْضيَّةِ، وأغربَ الشارحُ حيثُ
قالَ: وهو أَوْلَى مِن تعبيرِه في طيَّبَتِه بـ (قَالَ): لأنَّ المقولَ لم
يقعْ ولا يقالُ: إنَّه ألَّفَ الكتابَ ثمَّ بعدَ فراغِه قالَ هذا القولَ؛
لأنَّه خلافُ الظاهرِ، بل هو المتبادِرُ بِناءً على حُسْنِ الظنِّ
بالأكابرِ. و (الراجِي) اسمُ فاعلٍ مِن المُعْتَلِّ اللاَّمِ الواويِّ
وأَبْدلَ واوَهُ ياءً لتطرُّفِها وانكسارِ ما قبلَها ثمَّ اسْتِثْقَالُ
الضمَّةِ باعثٌ لحذفِها، وجُرَّ (عفوِ) لكونِه مضافًا إليه بالنسبةِ إلى
سابقِه وإنْ كانَ مُضَافًا مِن جهةٍ لاحقةٍَ، وتوهَّمَ بعضُهم فجوَّزَ
نصْبَه على أنَّهُ مفعولٌ لاسمِ الفاعلِ، بِناءً على أنَّهُ من قَبِيلِ: {والمُقِيمِي الصلاةِ } حيثُ قُرِيءَ في الشواذِّ بنصبِها، وليسَ كذلكَ لعدمِ التوافقِ هنالكَ، كانَ الأَوْلَى أنْ يجعلَه نظيرًا لقولِه تعالى: {إنَّكُم لَذَائِقُوا العذابِ }
على روايةٍ شاذَّةٍ في القراءةِ ووجهٍ ضعيفٍ في العربيَّةِ، إلا أنَّ نصبَ
(عفوِ) معَ تنوينِ (راجٍ) لا يصحُّ روايةً ولا درايةً، وكذا لا يجوزُ
تنوينُ (راجٍ) ونصبُ (عفوِ) لمَا ذُكِرَ، معَ مُخَالفَتِه لمَا رُسِمَ
وسُطِّرَ، نعمَ عملُ اسمِ الفاعلِ المضافِ إذا كانَ مُعرَّفًا نصَبَ
مفعولَه تخفيفًا مُعْتَبَرٌ في العربيَّةِ،وأمَّا عملُه كذلكَ معَ كونِه
نكرةً فهو ضعيفٌ، كما صرَّحُوا به وإنْ قُرِيءَ قولُه {لَذَائِقُوا الْعَذَابَ }بالنصبِ فلا يُقاسُ عليه، لاسيِّما معَ مُخَالَفَتِه الرسمَ لديه.
والربُّ
بمعنى المُرَبِّي على الأظهرِ من جملةِ معَانيِه، للمُنَاسَبَةِ في
مبانيهِ، وأمَّا قولُ ابنِ المصنِّفِ: لا يقالُ له: ربٌّ بمعنى الصاحبِ؛
لأنَّه ليسَ مِن أسمائِه. ففيه نظرٌ لورودِ (اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفرِ)
معَ أنَّهُ لا يلزمُ مِن عدمِ كونِ الصاحبِ مِن أسمائِه وصفاتِه تعالى
عدمُ جوازِ إطلاقِ الربِّ بمعنى الصاحبِ عليه، فتأمَّلْ فيما يُتَوَجَّهُ
إليه، ثُمَّ قولُ المصنِّفِ (سَامِعِ) بإشباعِ
كسرِ العينِ على ما في الأصولِ المحرَّرةِ والنسخِ المُعْتَبَرَةِ، قالَ
الشيخُ خالدٌ الأزهريُّ تبعًا لابنِ المصنِّفِ: هو بمعنى سميعٍ، لكن سميعٌ
أبلغُ، ففي العبارةِ مناقشةٌ، كما أنَّ في الإطلاقِ مُسَامَحَةً، فإنَّ
أسماءَ اللهِ تعالى توقيفيَّةٌ، ولا يجوزُ تغييرُ ما وردَ من الصفاتِ
الجليَّةِ معَ اقتضائِها وصفَ الأبلغيَّةِ، حتى قيلَ في الصفةِ
السَّلبيَّةِ قد تُؤْتَى بصيغةِ المبالغةِ للإشعارِ بأنَّهُ لو كانتْ
ثابتةً له لكانتْ بهذه الصفةِ الحقيقيَّةِ، كما حُقِّقَ في قولِه تعالى {وَمَا رَبُّكَ بظلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ }وهذا
مَسْلَكٌ دَقْيِقٌ ليسَ عليه مزيدٌ للمُرِيدِ، ثُمَّ مِن المَعْلُومِ
أنَّهُ لم يردْ سامعٌ في المسامعِ بحسبِ إطلاقِه وإنْ جاءَ في بعضِ
الرواياتِ (سامعِ خَلْقِه) نعم قد يكونُ السمعُ بمعنى القَبُولِ والإجابةِ،
ومنه قولُ المُصَلِّي: سمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ. قالَ عصامُ الدينِ: أي
ممَّن حَمِدَهُ. وهو بعيدٌ مَبْنًى ومعنًى، أمَّا أوَّلًا فلأنَّ اللاَّمَ
بمعنى "مَنْ" غيرُ مَعْرُوفةٍ، وأمَّا ثانيًا فلأنَّ تحتَه ليسَ إفادةً
تامَّةً؛ لأنَّ صفةَ سماعِه بمعنى إداركِه عامَّةٌ فَيُحْمَلُ على معنى
القَبُولِ والإجابةِ لتمامِ الإفادةِ، وأمَّا قولُ ابنِ المصنِّفِ:
"مَعْناه قَبِلَ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ وأجابَ مَن حَمِدَه إلى ما طُلِبَ
منه" فمستقيمٌ من جهةِ المعنى إلا أنَّهُ يُحْتَاجُ إلى القولِ بزيادةِ
اللاَََّمِ في المبنى، فالأظهرُ أنْ يقالَ: إنَّ سمِعَ بمعنى استجابَ، فإنه
يتعدَّى بنفسِه كما في القاموسِ وباللاَّمِ كما في الكتابِ، وأمَّا قولُ
ابنِ المصنِّفِ: وهذا المعنى هو المرادُ به هاهنا يعني في هذا البيتِ ففيه
نظرٌ ظاهرٌ من جهةِ حصرِ الإرادةِ، إذ يمكنُ حمْلُه على المعنى المشهورِ
مِن السمعِ، وهو ملائمٌ لقولِه: (يقولُ ). نعم
الأَوْلَى أنْ يُحْمَلَ عليه لما سَبَقَ مِن الإشارةِ إليه، وقدْ جمعَ
الشيخُ زكريَّا بينَ إرادةِ الحقيقةِ والمجازِ واستعملَ بينَ المَعْنيينِ
المُشْتَرِكَيْنِ على ما أجازَه الشافعيُّ فقالَ في المسأَلتينِ: أي سامعٍ
لرجائِه وغيرِه فيجيبُه بما رجاهُ، ولا يخفى أنَّ قولَه مُؤَمِّلٌ صَفْحَ
مالكٍ تفسيرٌ بما هو أخْفَى، فالأَوْلَى أنْ يقالَ المعنى يقولُ طامعُ
معَفرةَ ربٍّ عظيمٍ، لما في ذكرِ الربِّ من الاستعطافِ والإيماءِ إلى
عادتِه سبحانَه في الكرمِ والعطاءِ وسائرِ الألطافِ، المستفادُ مِن قولِه: (سامِعٌ ) أي سَمَاعُ إجابةٍ وَقَبُولٍ، كما قيلَ في قولِه تعالى: {واسْمَعُوا }.
وحينئذٍٍ يكونُ الإجابةُ والقبولُ قيدًا في السماعِ، لا أنَّهُ معنى
مُسْتَقِلٌّ مضمومٌ إليه، ولا يَبعُدُ أنْ يكونَ (سامِعِي) بالإضافةِ على
الالتفاتِ مِن الغَيْبةِ إلى التكَلُّمِ (وحينئذٍٍ إمَّا أنْ يكونَ خبرًا
بتقديرِ كانَ) أو بتقديرِ هو على أنَّ الجملةَ مُعْتَرِضَةٌ، وأخطأَ
الشارحُ حيثُ قالَ: السمِيعُ والسامِعُ صفتانِ مشتقَّتَانِ مِن السمعِ
بمعنى القَبُولِ والإجابةِ، بل السميعُ صفةُ مُبَالَغَةٍ مِن السمعِ بمعنى
السَّمَاعِ والإدراكِ للمَسْمُوعَاتِ، ومنه قولُه تعالى {وَهْوَ السميعُ البصيرُ } .ثمَّ يرفعُ (محمدٌ ) على أنَّهُ بدلٌ أو عطفُ بيانٍ (للراجي) ويجوزُ نَصْبُه بتقديمِ أعني أو يعني، وأبعدَ مَن جعلَه فاعلًا وجعلَ (راجي عفوِ) حالًا.
والجَزَرِيُّ
نسبةً إلى جزيرةِ ابنِ عمرَ، رَضِيَ اللهُ عنه ببلادِ الشرقِ، كذا ذكرَه
ابنُ المصنِّفِ وتبِعَه مَن بعدَه في إجمالِه، وفي القاموسِ: بلدٌ شمالَ
المَوْصِلِ تحيطُ به دِجْلَةُ مثلَ الهلالِ، واللهُ أعلمُ بالحالِ،
والمرادُ بابنِ عمرَ الذي نُسِبَ إليه هو (عبدُ العزيزِ بنُ عمرَ ) وهو
رجلٌ مِن أهلِ (بَرْقَعِيدَ ) من عمَلِ المَوْصِلِ، بناها فَنُسِبَتْ إليه،
نصَّ على ذلكَ العلامةُ أبو الوليدِ بنُ الشِّحِنَّةِ الحنفيُّ، في
تاريخِه (روضةِ المناظرِ في عِلْمِ الأوائلِ والأواخرِ ) فليسَ بصحابيٍّ
كما توهَّمَهُ بعضُهم.
والشافعيُّ
نسبةً إلى الإمامِ محمدِ بنِ إدريسَ بنِ شافعٍ القرشيِّ المطْلَبيِّ، كذا
قالَ الشرَّاحُ، وقالَ ابنُ المصنِّفِ: نسبةً إلى مذهبِ الإمامِ، وهو أقربُ
إلى المرامِ وأنسبُ في هذا المقامِ. وإلا فالتحقيقُ أنَّ الشافعيَّ
نِسْبَةٌ للإمَامِ إلى جدِّهِ شافعٍ، وأنَّ القياسَ في النسبةِ إلى مذهبِ
الشافعيِّ تكريرُ النسبةِ، وأنَّهُ اكْتُفِيَ بواحدٍ منهما تخفيفًا.
وهنا لطيفةٌ خفيَّةٌ وهي: أنَّ نسبةَ الحنفيَّةِ حقيقيَّةٌ ونسبةَ الشافعيَّةِ مجازيَّةٌ. ثُمَّ (الشافعيُّ ) صفةٌ لمحمدٍ فهو مرفوعٌ أو للجزَرِيِّ فهو مجرورٌ، والثاني أقربُ، والأَوَّلُ أنسبُ، وأسْكنَ الياءَ وخَفَّفَ للضرورةِ.
(الحمدُ للهِ وصلَّى اللهُ = على نبيِّهِ ومُصْطَفَاهُ )
بالإشباعِ
فيهما، والجملتانِ معَ ما بعدَهُمَا مِن الأبياتِ إلى آخرِ الكتابِ مقولُ
القولِ، والجملةُ الأُولَى اسميَّةٌ مُفِيدَةٌ للدوامِ والثبوتِ الأزليَّةِ
والأبديَّةِ،
وهي في المبنى خبريَّةٌ وفي المعنى إنشائيَّةٌ، والجملةُ الثانيَة
(خبريَّةٌ وفي المعنى) فعليَّةٌ ماضويَّةٌ مفيدةٌ للتجديدِ في كُلِّ حالةٍ
وقضيَّةٍ، وهي خبريَّةٌ لفظًا وَدُعَائِيَّةٌ معنى.
ثُمَّ قيلَ الحمدُ والمدحُ والشكرُ ألفاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، والمحقِّقُون على أنَّهَا حقائقُ مُخْتَلِفَةٌ، فإنَّ (الحمدَ) هو الثناءُ باللسانِ على الجميلِ الاختياريِّ عَلَى جهةِ التبجيلِ مِن نعمةٍ وغيرِها، ومثلَه حدٌّ (للمدحِ ) لكن بحذفِ الاختياريِّ منها فيقالُ: حمدتُ زيدًا على عِلْمِه وكَرَمِه، ولا يقالُ حِمدْتُه على حُسْنِه بل مَدَحْتُهُ.
والشكرُ:
فعلٌ يُنْبِىءُ عن تعظيمِ المُنْعِمِ بسببِ إنعامِه على الشاكرِ أو غيرِه
قولًا وعملًا واعتقادًا وفعلًا، فهو أعمُّ منهما موردًا وأخصُّ
مُتَعَلَّقًا وهما بالعكسِ، والمدحُ أعمُّ مِن الحمدِ مُطْلَقًا ثُمَّ (أل)
فيه للاستغراقِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ، خِلاَفًا للمُعْتَزِلَةِ بِناءً على
خِلافِهم في مَسْأَلَةِ خلقِ الأفعالِ، إذ المعنى كُلُّ حَمْدٍ صدرَ مِن
كُلِّ حامدٍ فهو ثابتٌ للهِ تعالى أو مختصٌّ به دونَ مَن عداهُ، فإنَّ
حَمْدَ المَصْنُوعِ راجعٌ إلى حَمْدِ الصانعِ سواءٌ عَلِمَ بذلكَ أو جَهِلَ
فيما هنالكَ، أو للجنسِ، وهو يفيدُ في هذا المقامِ ما يُسْتَفَادُ مِن
الاستغراقِ في عمومِ المرامِ، فإنَّ لامَ للهِ للاختصاصِ، فلا فردَ منه
لغيرِه وإلا يكنْ مُخْتَصًّا بهِ، أو للعهدِ. يعني: الحمدَ الذي حَمِدَ
اللهُ به نفسَه في أزَلِه وأظهرَه على لسانِ أنبيائِه وأصفائِه مختصٌّ بِه،
والعبرةُ بحمدِ مَن ذكرَ فلا فردَ منه لغيرِهِ، وقد يقالُ في المعنى إنَّ
صفةَ الحامديَّةِ والمحموديَّةِ ثابتةٌ له تعالى فهو الحامدُ وهو المحمودُ
ليسَ في الدارِ غيرُه ديَّارٌ سوى اللهِ في الوجودِِ، واللهُ اسمٌ لذاتِ
الواجبِ الوجودِ المُسْتَجْمِعِ لصفاتِ الكمالِ التى من جملتِها الكرمُ
والجودُ، والقولُ الأتمُّ أنَّهُ الاسمُ الأعظمُ، لكن بشرطِ أنْ تقولَ:
اللهُ وليسَ في قلبِكَ سواهُ.
واخْتُلِفَ
هلْ هو مشتقٌّ أو لا، وقد ذكرْنا بعضَ ما يتعلَّقُ به لغةً وإعلالًا في
بعضِ الرسائلِ بحسبِ ما ظهرَ لنا من الوسائلِ؛ ليكونَ مُقْنِعًا لكُلِّ
طالبٍ وسائلٍ, وإن لم يكنْ طائلٌ تحتَ هذه المسائلِ.
وبدأَ بالحمدِ اقْتِدَاءً بالقرآنِ المَجِيدِ، واقْتِفَاءً بحديثِ النبيِّ المجِيدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ أَمْرٍ ذي بَالٍ لم يُبْدَأْ فيه بالْحَمْدِ للهِ فهو أَجْذَمُ) أي: مَقْطُوعُ البركةِ وفي روايةٍ: (فهو أقطعُ)
وفي أخرى: فهو أبترُ. والحديثُ أخرجَه أبو داودَ وغيرُه عن أبي هريرةَ
رَضِيَ اللهُ عنه وحسَّنَهُ ابنُ الصلاحِ وغيرُه ووردَ أيضًا عنه مرفوعًا: ( كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيه ببسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ فهو أقطعُ ) وفي روايَةٍ عنه أيضًا: ( كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيه بحمدِ اللهِ والصلاة ِعليَّ فهو أقطعُ أبترُ مَمْحُوقٌ مِن كُلِّ بركةٍ )
والمرادُ بذي بالٍ صاحبُ شأنٍ في حالٍ أو مآلٍ فتَحَصَّلَ من مجموعِ
الأحاديثِ أنَّهُ ينبغي أنْ يَقَعَ الابتداءُ بكُلٍّ مِن الثلاثةِ، وأنَّ
الابتدائيَّةَ يُعْتَبَرُ فيها التوسِعَةُ في أجزائِها الزمانيَّةِ
المقيَّدَةِ بما قَبْلَ الشروعِ في المقاصدِ التصنيفيَّةِ، والترتيِبُ
مستفادٌ من ورودِ الآياتِ القرآنيَّةِ فتعيَّنَ تأخيرُ الصلاةِ
المُحَمَّدِيَّةِ عن الجملةِ الحمديَّةِ لنقصانِ مرتبةِ العبوديَّةِ عن
صفةِ الربوبيَّةِ وأمَّا تقديمُ الشاطبيِّ رحمَهُ اللهُ تعالى للجملةِ
الصلاتيَّةِ فلعلَّهُ أرادَ بأنَّ البسملةَ بمنزلةِ الشهادةِ للوحدةِ
والتصليَّةِ بمنزلةِ الاعْتِرَافِ بالنبوَّةِ، وبهما يحصلُ مقامُ الإيمانِ
فيناسبُ أنْ يَقَعَ بعدَه الحمدُ على ذلكَ الإحسانِ ثمَّ الشاطبيُّ رحمةُ
اللهِ عليه تَكَلَّفَ وأتَى بأجزاءِ البسملةِ منظومةٍ لكنَّها متفرِّقَةٌ
مُنْفَصِلَةٌ ولم يَسَعْ للناظمِ هنا أنْ يأتيَ بتلكَ الطريقةِ فاكْتَفَى
بالحمدلةِ كما يدلُّ عليه حديثُ (كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لم يُبْدَأْ فيه بذِكْرِ اللهِ ) الجامعُ الرافعُ للنزاعِ في أنَّ الابتداءَ يكونُ حقيقةً وإضافيَّةً.
والحاصلُ
أنَّ المقصودَ مِن الأحاديثِ النبويَّةِ أنَّ الابتداءَ لا يَصْدُرُ في
حالِ الغفلةِ ليفيدَ الإخلاصَ للهِ تعالى والاختصاصَ به وينفي الرياءَ
والسُّمْعَةَ، وليحصلَ له ببركةِ الابتداءِ توفيقُ الانتهاءِ وعدمُ
الانقطاعِ في الأثناءِ سواءٌ يكونُ ذِكْرُ اللهِ في ضمنِ البسملةِ أو
الحمدلةِ أو التصليَّةِ أو غيرِها، ولا يبعُدُ أنَّ المصنِّفَ جمعَ بينهما
بأنْ تلفَّظَ بالبسملةِ ولم يجعلْها جزءًا مِن
الكتابةِ وأمَّا الشرحُ للشيخِ زكريَّا فهو يشيرُ إلى أنَّ البسملةَ في
أَوَّلِها قبلَ الشروعِ فيها موجودةٌ بحسبِ الكتابةِ لكنَّه مُخَالِفٌ لما
عليه الأصولُ، معَ أنَّهَا لا تدخلُ حينئذٍٍ تحتَ المَقُولِ ويُؤيِّدُ ما
ذَكَرْنا قولُ ابنِ المصنِّفِ بدأَ بالحمدِ تأسِّيًا بالقرآنِ وبحديثِ
الحمدِ في كُلِّ أمرٍ ذي شأنٍ، وأغربَ شارحٌ مصريٌّ هنا حيثُ قالَ: الوقفُ
على بسمِ اللهِ قبيحٌ، وعلى الرحمنِ كذلكَ، وعلى الرحيمِ تامٌّ ا.هـ وهو
كَلاَمٌ ناقصٌ كما سيأتي حَلُّه في مَحَلِّهِ وكذا في قولِه يجوزُ كسرُ
الدالِ بنقلِ حركةِ اللامِ إلى الدالِّ على الاتباعِ؛ فإنَّهُ لا نَقْلَ في
ذلكَ بلْ اتِّباعٌ مجرَّدٌ هنالكَ كما قُرِيءَ شاذًّا بالكسرِ والضمِّ في
الحمدِ للهِ، ثمَّ النبيُّ إمَّا مهموزٌ مِن النبأِ وهوَ الخبرُ فعيلٌ
بمعنى الفاعلِ، وهو الأظهرُ؛ لأنَّه مُخْبِرٌ عن اللهِ تعالى وإمَّا غيرُ
مهموزٍ وهو الأكثرُ فقيلَ إنَّه مخفَّفُ المهموزِ فَأُبْدِلَتْ همزتُه ياءً
وهو المُخْتَارُ،كما أشارَ إليه الشاطبيُّ بقولِه:
وجمعًا وفردًا فى النبيءِ وفي النُّبُو = ءةِ الهمزَ كُلٌّ غيرُ نافعٍ أبدلا
وأغربَ الشارحُ بقولِه: هو مأخوذٌ مِن الإِنْبَاءِ وقيلَ: مِن النبأِ ا.هـ وقيلَ:
إنَّهُ مِن النَّبْوةِ بمعنى الرِّفْعَةِ؛ لأنَّ النبيَّ مرفوعُ الرتبةِ
على سائرِ البَرِيَّةِ وهو إنسانٌ أُوحِيَ إليه (بشرعٍ ) وإنْ لم يُؤْمَرْ
بتبليغِه. والرسولُ إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ وأُمِرَ بتبليغِه فالنبيُّ
أعمُّ منه مطلقًا.
وأمَّا
قولُ ابنِ المصنِّفِ: والفرقُ بينه وبينَ الرسولِ أنَّ الرسولَ مأمورٌ
بتبليغِ ما أُنبِئَ به، والنبيَّ هو المُخْبَرُ ولم يُؤْمَرْ بالتبليغِ
فكُلُّ رسولٍ نبيٌّ، وليسَ كُلُّ نبيٍ رسولًا فتفريعٌ غيرُ صحيحٍ على قولِه
وهو قولُ جماعةٍ؛ لأنَّهما حينئذٍٍ مُتَبَايِنَانِ بل هو صريحٌ فيما
قدَّمْنَاه مِن أنَّ الرسولَ أخصُّ مِن النبيِّ كالإنسانِ بالنسبةِ إلى
الحيوانِ واللهُ المستعانُ، ثمَّ اختيارُه وصفَ النبوَّةَ؛لأنَّها أعمُّ
وفي الأحوالِ أتمُّ؛ ولأنَّهُ إذا كانَ بنعتِ النبوَّةِ يستحقُّ الصلاةَ
وإنزالَ الرحمةِ فباعتبارِ وصفِ الرسالةِ أَوْلَى كما لا يخفى أو أرادَ
بقولِهِ ومصطفاهُ ورسولُه كما يشيرُ إليه قولُه تعالى: { اللهُ يَصْطَفِي مِن الْمَلاَئِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النَّاسِ }. وهو لا يُنَافِي حديثَ مسلمٍ: (
إنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِن ولدِ إسماعيلَ، واصطفَى مِن كِنَانةَ
قريشًا، واصْطَفَى مِن قريشٍ بني هاشمٍ، واصطفاني مِن بني هاشمٍ، فأنا
خِيارٌ، مِن خيارٍ،من خيارٍ ). واعترضَ الشيخُ زكريَّا على
المصنِّفِ حيثُ قالَ: وكانَ ينبغي له ذِكْرُ السلام ِ؛ لأنَّ إفرادَ
الصلاةِ عنه مكروهٌ كعكسِه لا قترانِهما في قولِه تعالى: { صَلُّوا عليه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
ولعلَّه ذكرَه لفظًا ا.هـ وهو مبنيٌّ على ما قالَه النوويُّ. والمصنِّفُ
ذهبَ إلى خلافِه حيثُ قالَ في مِفْتَاحِ الحصنِ وأمَّا الجمعُ بينَ الصلاةِ
والسلامِ فيُقالُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الأَوْلى
والأفضلُ والأكملُ ولو اقْتَصَرَ على أحدِهما جازَ مِن غيرِ كَرَاهَةٍ فقد
جرَى عليه جماعةٌ مِن السلَفِ منهم الإمامُ مسلمٌ في أَوَّلِ صحيحِه
وهَلُمَّ جرًّا حتى الإمامُ وليُّ اللهِ أبو القاسمِ الشاطبيُّ في قصيدتِه
اللاميَّةِ والرائيَّةِ و (هو) قولُ النوويِّ وقد نصَّ العلماءُ على
كراهيَّةِ الاقتصارِ على الصلاةِ من غيرِ تسليمٍ ا.هـ. فليسَ بـ (ذاكَ)
بِمُتَأَكِّدٍ فإني لا أعلمُ أحدًا نصَّ على ذلكَ مِن العلماءِ ولا مِن
غيرِهم،أقولُ: ولا دلالةَ في الآيةِ للجمعِ بينهما على وجهِ المَعيَّةِ,
وأمَّا قول مَن قالَ يُكْرَهُ تَرْكُه ولو خطأً فخطأٌ ثمَّ لا شَكَّ أنَّ
الإضافةَ في نبيِّه ومصطفاهُ عهديَّةٌ وهو الفردُ الأكملُ ممَّن اتَّصَفَ
بالنبوَّةِ والاصطفائيَّةِ لكنَّ معَ هذا أوضَحَهُ المصنِّفُ بقولِه:
(مُحَمَّدٍ وآلِه وصحبِه = ومُقْرِئِ القرءآنِ معَ مُحَبِّهِ)
بِجَرِّ
محمَّدٍ على أنَّهُ بدلٌ أو عطفُ بيانٍ وهو عَلَمٌ مأخوذٌ من حَمَّدَ
مبالغةُ حَمِدَ لما اقتضاهُ مِن الصيغةِ التفعليَّةِ ثمَّ نُقِلَ من
الوصفيَّةِ إلى الاسميَّةِ. والمرادُ (بآلِه) أقاربُه وأهلُ بيتِه أو جميعُ أتباعِه مِن أمَّتِه فعطَفَ (صحبِهِ)
مِن بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، فلا يحتاجُ إلى قولِ ابنِ المصنِّفِ,
والتقديرُ: وصحبُه غيرُ الآلِ لِيَقْوَى العطفُ، يعني: إذ الأصلُ فيه
المُغَايَرَةُ، لكن نقولُ يكفي فيه المُغَايَرَةُ الاعتباريَّةُ، واختيارُ
الآلِ على الأهلِ؛ لأنَّ الأهلَ مُخْتَصٌّ بذَوِي الشرفِ، أمَّا على المعنى
الأَوَّلِ فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ، فتأمَّلْ، فإنَّ الصَّحْبَ بفتحِ
الصادِ ويُكْسَرُ اسمُ جمعٍ كرَكْبٍ للراكبِ، وهو اختيارُ سِيبَوَيْهِ، وقيل: جمعٌ لصاحبٍ وهو مختارُ الأخفشِ، وضُعِّفَ بأنَّهُ لا يُجْمَعُ فاعلٌ على فَعْلٍ، والصحيحُ في حدِّ الصحابيِّ أنَّهُ:
مَن لَقِيَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بهِ،
وماتَ على الإيمانِ من غيرِ تخلُّلٍ بالردَّةِ. وقد حقَّقْنا هذا المبحثَ
في شرحِنا لشرحِ النخبةِ، والمرادُ بمُقرِئِ القرآنِ مُعَلِّمُهُ وهو
يشملُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآلِه وأصحابِه وأتباعِه، ولا
بِدْعَ في توارُدِ التصليَّةِ باعتبارِ الصفاتِ المختلفةِ فلا يُحْتَاجُ
إلى تخصيصِ الإقراءِ بالتابعينَ وغيرِهم ممَّن بعدَهم كما ذكرَه ابنُ
المصنِّفِ، والضميرُ في (مُحَبِّهِ) راجعٌ إلى
القرآنِ وهو صادقٌ لعمومِ أهلِ الإيمانِ فلا يحتاجُ إلى تقييدِه بالعاملِ
به، كما ذكرَه زكريَّا، أو إلى مُقْرِئِه وهو أبلغُ في مقامِ البرهانِ ثمَّ
هو أعمُّ مِن أنْ يكونَ قارئًا أو غيرَه؛ لأنَّ المرءَ معَ مَن أحبَّ
وقيلَ: الضميرُ في (مُحَبِّهِ) راجعٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في غايَةٍ مِن البعدِ، وكذا قولُ الشارحِ الرُّوميِّ: (مُقْرِئ)
أصلُه مُقْرِئِينَ، وسقطَ النونُ بالإضافةِ، وفي الجمعِ بينَ الآلِ
والصحابةِ إيماءٌ إلى اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ خلافًا للخوارجِ
والرَّافِضَةِ أبعدَهم اللهُ عن مرتبةِ المحبَّةِ.
(تنبيهٌ)
وقعَ اختلافٌ بينَ أكابرِ الأمَّةِ في أنَّ النبوَّةَ أفضلُ أمْ الرسالةُ،
ولكُلٍّ وِجْهةٌ؛ إذ النبوَّةُ المجرَّدَةُ من حيثُ التوجُّهُ إلى اللهِ
تعالى وَأَخْذُ الفيضِ منه سبحانَه أولى من حيثُ التوجُّهُ إلى الخلقِ
وإيصالُ الفيضِ إليهم، إلا أنَّ الرسولَ من حيثُ إنه كاملٌ مُكَمَّلٌ أفضلُ
من النبيِّ من حيثُ إنه كاملٌ معَ أنَّ الرسالةَ ما تنافي الولايةَ فله
المرتبةُ الجمعيَّةُ المستفادةُ من صفةِ الاصطفائيَّةِ، فإنَّ الكاملَ
الواصلَ إلى مرتبةِ جمعِ الجمعِ لا يَحْجبُه الكثرةُ عن الوحدةِ ولا
الوحدةُ عن الكثرةِ، وأمَّا عبارةُ بعضِ الصوفيَّةِ أنَّ الوِلاَيَةَ أفضلُ
مِن النبوَّةِ. فَيَعْنُونَ بها أنَّ ولايةَ الرسولِ أفضلُ مِن النبوَّةِ
كما سبقَ لا مطلقًا، لئلاَّ يلزمَ منه أنْ يكونَ الوليُّ أفضلَ مِن
النبيِّ؛ إذ لم يقلْ به أحدٌ مِن أهلِ الإسلامِ، وأمَّا قول الحَلِيميِّ
يحصلُ الإيمانُ بقولِ الكافرِ: آمنتُ بمحمدٍ النبيِّ بخلافِ محمدٍ الرسولِ
لأنَّ النبيَّ لا يكونُ إلا للهِ، والرسولُ قد يكونُ لغيرِه فمبنيٌّ على
الاستعمالِ العرفيِّ، إلا أنَّ لفظَ الإيمانِ يمنعُ مِن حملِه على المعنى
العرفيِّ كما لا يخفى على أهلِ الإيقانِ، وفي البيتِ إيماءٌ إلى قولِه عليه
السلامُ: (أُغْدُ عَالِمًا أو مُتعَلِّمًا أو سامِعًا أو مُحِبًّا ولا تَكْن الخامسةَ فتَهْلَكَ) رواه ُالبزَّارُ والطبرانيُّ عن أبي بَكْرَةَ. (وبعدُ إنَّ هذه مُقَدِّمَهْ)
أي بعدَ ما تقدَّمَ مِن الحمدِ والصلاةِ وهي كلمةٌ يُؤْتَى بها للانتقالَ
من غرضٍ أو أسلوبٍ إلى آخرَ، يُسْتَحَبُّ الإتيانُ بها في الخطبِ
والمُكَاتَبَاتِ اقتداءً بالنبيِّ عليه السلامُ، كذا ذكرَه خالدٌ، وفيه
أنَّ الإتيانَ (بأَمَّا بعدُ ) هو مُسْتَحَبٌّ بلا شبهةٍ، وإنَّما
الكَلاَمُ في (بعدُ )ولا يبعدُ أنْ يقالَ مالا يُدْرَكُ كُلُّه لا يُتْرَكُ
كُلُّه خصوصًا في ضرورةِ الكَلاَمِ معَ احتمالِ تقديرِ (أمَّا) لتحصيلِ
المُرَامِ.
هذا
قد روى عبدُ القادرِ الرَّهَاويُّ في الأربعينَ بأسانيدَ عن أربعينَ
صحابيًّا أنَّهُ عليه السلامُ كانَ يأتي بها في خطبِه وكتبِه، قالَ ابنُ
المصنِّفِ: وتقديرُ المضافِ إليه محذوفٌ في هذا البيتِ، وفيه أنَّ التقديرَ
مُغْنٍ عن المحذوفِ، وكذا عكسُه والراويَةُ بضمِّ الدالِ وإنْ أجازَ هشامٌ
فتحَها لكنْ أَنْكَرَه النَّحَّاسُ، وأمَّا تجويزُ الفَرَّاءِ رفعَه
مُنَوَّنًا وكذا نَصْبَه فليسَ هذا مَحَلَّهُ، وأمَّا ذِكْرُه شارحًا عن
بعضِ مشايخِه مِن أنَّ وجهَ الرفعِ التنوينُ كونُه فاعلًا ليَكُنْ
المقدَّرَةِ في قولِهم: مهما يكنْ من شيءٍ بعدُ فما أبعدَهُ عن التحقيقِ
واللهُ وليُّ التوفيقُ، و (هذه) إشارةٌ إلى الرسالةِ أو الأُرْجوزةِ أو
القصيدةِ، وهي إن تأخَّرَت الخطبةُ عن فراغِ المقدِّمَة، حِسِّيَّةٌ، وإن
تقدَّمتْ عليه ذهنيَّةٌ ومنه قولُهُ تعالى: {ذَلِكُم اللُهَ}، {وتلكَ الجنَّةُ}
و (المُقَدِّمَةُ) طائفةٌ مِن العلمِ، كمقدِّمَة الجيشِ، وهي بكسرِ الدالِ من قَدِمَ اللازمُ بمعنى تَقَدَّمَ، ومنه قولُه تعالى (لا تُقَدِّمُوا بينَ يديِ اللهِ ورسولِه)
أي: لا تَتَقَدَّمُوا، وقيلَ في الآيةِ: إنَّ المفعولَ مُقَدَّرٌ أي: لا
تُقَدِّمُوا أمرًا، وتَكَلَّفَ بعضُهم هنا أيضًا وقالَ المعنى هي مقدِّمَةٌ
نَفْسَها على غيرِها، ويجوزُ فتحُ الدالِ على لغةٍ قليلةٍ كمقدَّمَةِ
الرجلِ مِن قَدَّمَ المُعْتديَ، واقتصرَ عليه (بَحْرَقٌ) في شرحِه.
وأمَّا قولُ جمعٍ مِن الشرَّاحِ:
إنَّ هذه طائفةٌ مِن علمِ التجويدِ فليسَ على ظاهرِه، لأنَّ التجويدَ أحدُ
مسائلِها كما سيأتى بيانُه في مَحَلِّها، اللهمَّ إلا أنْ يقالَ يُنْسَبُ
إليه تغليبًا؛ لكونِه المرادَ الأصليَّ منها، وقولُ خالدٍ: "ويقالُ
مقدِّمَةُ العلمِ لما يتوقَّفُ عليه الشروعُ في مسائلِه، ومقدِّمَةُ
الكتابِ لطائفةٍ من كَلاَمِه قُدِّمَتْ أمَامَ المقصودِ لارتباطٍ له بها
وانتفاعٍ فيه بسببِها" يُوهِمُ أنَّ المرادَ هنا بالمقدِّمَةِ أحدُ معنى
المقدِّمَةِ المتقدِّمَةِ، وليسَ كذلكَ بل المرادُ بها طائفةٌ من مسائلِ
علمِ القراءةِ ينبغي الاهتمامُ بها والاعتناءُ بشأنِهَا كما أشارَ إليه
المصنِّفُ بقولِه: (فيما على قارئِه أنْ يَعْلَمَه) أي: بيانُ ما يجبُ على كُلِّ قارئٍ مِن قُرَّاءِ القرآنِ عِلْمُهُ، وأبعدَ مَن قدَّرَ مضافًا قبلَ (أنْ يَعْلَمَه)
وقالَ تَعَلُّمُه أو تَعْلِيمُه وتجويزُ شارحِ كونِ (ما) مصدريَّةً في
غايةِ غَرابةٍ من قواعدِ العربيَّةِ،وأمَّا قولُ ابنِ المصنِّفِ: "هذه
مقدِّمَةٌ مغنيةٌ له عن غيرِها" فليسَ على إطلاقِه.
واعْلَمْ أنَّ هذه المُقَدِّمَةَ أُرْجُوزَةٌ من بحرِ الرَّجَزِ، وأجزاؤُه: مُسْتَفْعَلَنٌ ستُّ مراَّتٍ. (إذْ وَاجِبٌ عَلَيْهِمُ مُحَتَّمُ) بإشباعِ ضمَّةِ الميمينِ (قبلَ الشُّرُوعِ أوَّلًا أنْ يَعْلَمُوا) (إذ) تعليلٌ للوجوبِ المُقَدَّرِ في ضمنِ قولِه (فما على قارئِه) كما ذكَرَه ابنُ المصنِّفِ وغيرُه، وقالَ شارحٌ: للوجوبِ المفهومِ مِن (على)
لا مِن مُقَدَّرٍ كما توهَّمَهُ بعضُهم لتصريحِهم بأنَّهَا قد يُرَادُ بها
الوجوبُ قلتُ: لم يذكرْ صاحبُ المغني ولا صاحبُ القاموسِ مِن معَانيها
الوجوبَ، وإنَّما الوجوبُ مستفادٌ منها بقرينةِ المقامِ الدالِّ باعتبارِ
مُتَعَلِّقِه على المرامِ، ثمَّ الوجوبُ الشرعيُّ ما يُثَابُ على فعلِه
ويُعَاقبُ على تَرْكِه، والعُرْفيُّ ما لابدَّ منه في فعلِه ولا
يُسْتَحْسَنُ تَرْكُه، فيجبُ حملُ كَلاَمِ المصنِّفِ على المعنى
الاصطلاحيِّ، وهو لا يُنَافِي الوجوبَ الشرعيَّ في بعضِ الصورِ مِن الفنِّ
العُرْفيِّ، ولا يجوزُ حملُه على المعنى الشرعيِّ؛ لأنَّ مَعْرفةَ جميعِ ما
في هذه المقدِّمَةِ ليسَ مِن هذا القبيلِ، إلا إذا حُمِلَ على وجوبِ
الكفايةِ، فقولُ شارحٍ: "أرادَ بالوجوبِ هنا الوجوبَ الشرعيَّ وأمَّا (ما)
ذكَرَهُ بعضُهم مِن أنَّهُ يُرَادُ به مالابدَّ منه مُطْلَقًا وحُمِلَ عليه
كَلاَمُ الناظمِ هنا فمحمولٌ على مَن أمكنَه التجويدُ بطبعِه وسليقتِه
كالعربِ الفُصَحَاءِ وغيرِهم ممَّن رزقَه اللهُ تعالى ذلكَ بالجِبِلَّةِ
وطَبَعَ عليه، فلاشكَّ أنَّهُ ليسَ معناهُ الواجبَ عندَ الفقهاءِ الذي
يُعَاقبُ على تركِه، وأمَّا مَن لم يتَّصِفْ بما ذُكِرَ فلا بدَّ في حقِّه
مِن التجويدِ وعليه يُحْمَلُ كَلاَمُ الناظمِ ويُرَادُ به الوجوبُ
الشرعيُّ" ا.هـ فمبنيٌّ على ما يَجُوزُ عندَ الشافعيِّ من الجمعِ بينَ
الحقيقةِ والمجازِ في إطلاقٍ واحدٍ كما اختارَه الشيخُ زكريَّا بقولِه: (إذْ واجبٌ)
صناعةٌ بمعنى مالا بدَّ منه مطلقًا، وشرعًا بمعنى ما يُؤَثَّمُ تاركُه إذا
أَوْهَمَ خللَ المعنى أو اقْتَضَى تغييرَ الإعرابِ والمبنى.
والتحقيقُ
المرضيُّ عندَ الكُلِّ ما قدَّمْنَاه، معَ أنَّ هذه المقدِّمَةَ ليستْ
منحصرةً في بيانِ التجويدِ فقطْ كما تقدَّمَ واللهُ أعلمُ.
قالَ ابنُ المصنِّفِ: ضميرُ (عَلَيْهمُ) راجعٌ على كُلِّ المُقَدَّرِ في قولِه فيما (على قارئِه)
وتبِعَه خالدٌ، ولا يُحْتَاجُ إلى ذلك؛ فإنَّ المرادَ به جنسُ قارئِ
القرآنِ، وأغربَ الشارحُ في قولِه: "الضميرِ إلى القارئِ؛ لأنَّ لامَهُ
التي للاستغراقِ في معنى: كُلُّ قارئٍ، ونبَّهَ على أنَّهُ كذا في بعضِ
النسخِ" ا.هـ ولا يستقيمُ له ذلكَ لعدمِ اتِّزَانِ البيتِ به كما لا يخفى.
وقولُه: (مُحَتَّمُ) تأكيدٌ لقولِه (واجبٌ) إذ قد لا يكونُ الواجبُ فرضًا لازمًا، وقولُه (قبلَ الشروعِ) ظرفٌ لواجبٍ وأُكِّدَ بقولِه (أوَّلًا) أي يجبُ عليهم قبلَ الشروعِ في قراءةِ القرآنِ وفي ابتداءِ قَصْدِهم تَعَلُّمَ الفرقانِ، أنْ يَعْلَمُوا (مَخَارِجَ الحروفِ والصفاتِ)
لا قبلَ أنْ يَشْرَعَ في أدائِه علي المشايخِ كما قالَ (بَحْرقٌ) فإنَّه
حينئذٍ يَأْخُذُ العلمَ والعملَ بالأداءِ عن أِفواهِهم وأسماعِهم.
(لَيَلْفِظُوا بأفصحِ اللغاتِ) وفي نسخةٍ صحيحةٍ (لِيَنْطِقُوا)
قيلَ: وهذه هي النسخةُ التي ضُبِطَتْ عن لفظِ الناظمِ آخرًا، والمؤدَّى
منهما واحدٌ إلا أنَّ النطقَ يشملُ الحروفَ الهجائيَّةَ بخلافِ اللفظِ؛
فإنَّهُ موضوعٌ للمُرَكَّبِ ولو على سبيلِ الغالبيَّةِ كما يشيرُ إليه
قولُه تعالى {ما يَلْفِظُ مِن قولٍ}والمرادُ
أفصحُ اللغاتِ مطلقًا أو أفصحُ مِن لغاتِ سائرِ العربِ العَرْبَاءِ، فإنَّ
المرادَ به لغةُ قريشٍ، وهم قومُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لقولِه تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رسولٍ إلا بلسانِ قومِه}. ولقولِه عليه السلامُ "أَحِبُّوا العربَ لثلاثٍ: لأنَّي عربيٌّ، والقرآنُ عربيٌّ، ولسانُ أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ عربيٌّ"
والحديثُ أخرجَه الطبرانيُّ والحاكمُ والضياءُ عن ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ
عنهما، وسيأتي تحقيقُ معنى المَخْرَج والحرفِ وصفتِه في مَحَلِّهِ الأليقِ
به لتفصيلِه؛ فإنَّ هذا مقامُ إجمالِ ما في هذه الرسالةِ بمنزلةِ فهرسِ
الكتاب ِ؛ ولذا قالَ في هذا البابِ:
(مُحَرِّرِي التجويدِ والمواقفِ = وما الذي رُسِّمَ في المصاحِفِ)
الفوائد التجويدية للشيخ: عبد الرازق بن علي موسى
قال الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى المصري (ت:
1429هـ): (مقدِّمةُ المؤلِّفِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وبه أستعينُ
الحمدُ
للهِ الذي أنعمَ علينا بنعمةِ الإيمانِ والإسلامِ، وجعلَنا من خيرِ أمَّةٍ
أُخرجتْ للناسِ، ومَنَّ علينا بحفظِ كتابهِ الكريمِ وأَمرَنا بتجويدِه
بإعطاءِ كلِّ حرفٍ بعدَ إخراجِه من مَخرجِه ما يستحقُّه من الصفاتِ، وما
يَترتبُ على ذلك كالترقيقِ والتفخيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه
لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنا محمَّداً عبدُه ورسولُه الذي أَنزلَ اللهُ
عليه تعريفاً بحقِّه وتشريفاً لقدرِه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}،
والصلاةُ والسلامُ الأتمَّانِ الأكملانِ على سيِّدِنا محمَّدٍ أفصحِ
العربِ، المُنَزَّلِ عليه أشرفُ الكتبِ لِمَا فيه من الأسرارِ والهُدى
والعلومِ النافعةِ والصراطِ المستقيمِ، وعلى آلِ سيِّدِنا محمَّدٍ وأصحابِ
سيِّدنا محمَّدٍ الذين بَرَعُوا في الفصاحةِ والبلاغةِ فهَمَسُوا الهاءَ،
وجَهَروا بالميمِ، وبعدُ.
فيقولُ
العبدُ الفقيرُ إلى رحمةِ ربِّهِ الغنيِّ/ عبدُ الرَّازقِ بنُ عليِّ بنِ
إبراهيمَ موسى الشافعيُّ المُقرئُ: إنَّ تلاوةَ القرآنِ, كما أُنزلَ, من
أعظمِ الطاعاتِ وأعلاها، ولا يكونُ ذلك إلا بمراعاةِ قواعدِ التجويدِ، من
تفخيمٍ وترقيقٍ، وإظهارٍ وتشديدٍ، وقد أَلَّفَ في فَنِّ التجويدِ عددٌ
كبيرٌ من العلماءِ، وكان من أرفعِ ما ألَّفوه، وأنفعِ ما تَدَاوَلَه
الطلاَّبُ والقرَّاءُ، المنظومةُ المسمَّاةُ بـ (المقدِّمةُ: فيما على قارئِ القرآنِ أن يَعلمَه)
لشيخِ الإسلامِ والمسلمين، وأستاذِ القرَّاءِ والمحدِّثين، أبي الخَيْرِ
"محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ الجزريِّ" الشافعيِّ رضيَ اللهُ عنه
وأرضاه، وجعلَ الجنَّةَ مَنْزِلَه ومأواه، وعليها شروحٌ كثيرةٌ كشرحِ شيخِ
الإسلامِ زكريَّا الأنصاريِّ، والقَسْطلانيِّ وغيرِهما، ولقد طلبَ مِنِّي
بعضُ الطلَبةِ أمثالي أن أضعَ لهم شرحاً يناسبُ حالَهم وحالي، فأجبتُهم إلى
ذلك، ولا أقولُ إنَّ هذا الشرحَ أفضلُ من غيرِه، بل كَمُلَ بها لأني
جَمعتُ فوائدَها ولخَّصْتُ فرائدَها تأسِّيًا بهم ورغبةً في مآثرِهم،
وضَمَمْتُ إليها ما يسَّرَ اللهُ تعالى به ما هو زائدٌ عليها بواسطتِها
وعميمِ بركتِها، فجمعتُ في هذا الشرحِ فوائدَ وتنبيهاتٍ من عددٍ من
المخطوطاتِ في شروحِ الجزريَّةِ، كشرحِ العلامةِ الشيخِ عمرَ بنِ إبراهيمَ
المسعديِّ التي أَتمَّ تبييضَها سنةَ 999هـ، وكذلك تنبيهاتٍ وفوائدَ من "تنبيهِ الغافلين وإرشادِ الجاهلين"،
للنوريِّ الصفاقسيِّ راجياً دعوةَ أخٍ محِبٍّ وصديقٍ مخلِصٍ بأن يوفِّقَني
اللهُ في الأفعالِ والأقوالِ في جميعِ الأحوالِ، وسمَّيتُه "الفوائدُ التجويديَّةُ في شرحِ المقدِّمةِ الجزريَّةِ"، ورتَّبتُه على مقدِّمتين وستَّةَ عشرَ باباً وخاتَمةٍ.
المقدِّمةُ الأولى: للشارحِ وبيانِ سببِ التأليفِ ومنهجِ الشرحِ.
المقدِّمةُ الثانيةُ: للناظمِ وشرحتُ ما تضمَّنتْه مما يجبُ على القارئِ عملُه قبلَ قراءةِ القرآنِ
أمَّا الأبوابُ فهي على حسْبِ نظْمِ المقدِّمةِ:
1. بابُ مخارجِ الحروفِ وما يتعلَّقُ بها.
2. بابُ صفاتِ الحروفِ وما يتعلَّقُ بها.
3. بابُ التجويدِ وما يتعلَّقُ به.
4. بابُ الترقيقِ.
5. بابُ استعمالِ الحروفِ.
6. بابُ الراءاتِ.
7. بابُ اللاماتِ.
8. بابُ المتماثِلَيْن والمتجانِسَيْن والمُتَقارِبَيْن.
9. بابُ الضادِ والظاءِ وما يتعلَّقُ بهما.
10.بابُ التحذيراتِ.
11. بابُ النونِ الساكنةِ والتنوينِ وما يتعلَّقُ بهما.
12. بابُ المدودِ.
13. بابُ الوَقْفِ والابتداءِ.
14. باب المقطوعِ والموصولِ.
15. بابُ التاءاتِ.
16. بابُ همزةِ الوصلِ.
* الخاتِمَةُ
وأسألُ
اللهَ جلَّتْ قُدرتُه أن يُثيبَني على هذا العملِ بقدْرِ ما فيه من حُسنِ
نيَّةٍ ونُبلِ قصْدٍ، واللهُ لا يُضِيعُ أجْرَ العاملين المخلِصين.
هذا
وإني أشكرُ اللهَ عزَّ وجلَّ، أن يسَّرَ وأعانَ على إتمامِ هذا الشرحِ في
المدينةِ المنوَّرةِ المبارَكةِ لأنالَ بكتابتي له شرفَ المكانِ وشرفَ
الزمانِ بحُسنِ الجِوارِ، ثم أشكرُ جميعَ الإخوةِ الأفاضلِ الذين شاركوا في
مساعدتي أثناءَ الشرحِ لهذا الكتابِ فلهم مِنِّي حُسنُ الدعاءِ وعاطِرُ
الثناءِ.
وإن كان لي أن أخُصَّ أحداً بالشكرِ، فإني أخُصُّ فضيلةَ المرحومِ الشيخِ عبدِ الفتاحِ المَرْصَفِيِّ - صاحبِ كتابِ (هدايةُ القارئِ)
فقد انتفعتُ به كثيراً، وفضيلةَ الدكتورِ حازم سعيد حيدر الذي قرأَ هذه
المُسودَّةَ وأَبدى بعضَ الملحوظاتِ الطيِّبةِ التي انتفعتُ بها، وكذلك
فضيلةَ الشيخِ محمَّدِ تميم الزعْبِيِّ وفضيلةَ الشيخِ محمَّدٍ أبو روَّاشٍ
- مديرِ مراقبةِ النصِّ القرآنيِّ بالمَجْمَعِ، وفضيلةَ الشيخِ رشادٍ
السيسي، وفضيلةَ الشيخِ سيِّد فَرْغَل.
وأسألُ
اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَ هذا العملَ خالصاً لوجهِه الكريمِ من غيرِ
رياءٍ ولا سُمعةٍ، وأن يجعلَه لَبِنَةً مِعطاءةً في صرحِ المكتبةِ
القرآنيَّةِ.
والحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تَتمُّ الصالحاتُ.
المـؤلِّـفُ
عبدُ الرازِقِ بنُ علِيّ إبراهيم موسى
جمهوريَّةُ مصرَ العربيَّةُ
قويسنا شرانيس
منوفيَّة
هاتف: 002048372517
تَرجمةٌ مختصَرةٌ عن الناظمِ "ابنِ الجزريِّ"
اسمُه وكُنيتُه:
هو
محمَّدٌ بنُ محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ بنِ علِيِّ بنِ يوسفَ الجَزْرِيُّ،
وكُنيتُه أبو الخيرِ شمسُ الدين الدمشقيُّ الشيرازيُّ الجَزْرِيُّ
الشافعيُّ الشهيرُ بابنِ الجَزْرِيِّ نِسبةً إلى جزيرةِ ابنِ عمرَ ببلادِ
المَشْرِقِ، وهي مدينةٌ في تركيا على نهرِ دِجلَةَ، أسَّسَها الحسنُ بنُ
عمرَ بنِ الخطابِ الثعلبيُّ حوالَيْ عامَ 961م، وكانت ميناءَ أرمينيَّةَ.
وِلادتُه:
وُلدَ بدمشقَ ليلةَ السبتِ الموافقِ 25 رمضانَ سنةَ 751هـ، 30 نوفمبرَ 1350م.
نشأتُه:
نشأَ
بدمشقَ، وفيها حفِظَ القرآنَ الكريمَ وهو ابنُ أربعَ عشرَةَ سنةً ثم
اتَّجهتْ نفسُه الكبيرةُ إلى علومِ القراءاتِ فتلقَّاها عن جهابذةِ عصرِه
وأساطينَ وقتِه، فتلقَّاها عن علماءِ الشامِ ومصرَ والحجازِ إفراداً
وجمْعاً بمضمنِ كتُبٍ كثيرةٍ، كالشاطبيَّةِ والتيسيرِ والكافي وغيرِها من
أمَّهاتِ الكتبِ وأصولِ المراجعِ.
رحلاتُه:
رحلَ
إلى بلادٍ كثيرةٍ لتَعَلُّمِ القراءاتِ وتعليمِها كمصرَ والبصرةِ، وبلادِ
ما وراءَ النهرِ، وسمرقندَ، وخراسانَ، وأصبهانَ، وشيرازَ، وجاورَ بالمدينةِ
المنوَّرةِ مُدَّةً غيرَ وجيزةٍ فألَّفَ فيها كتابَه "النشرُ في القراءاتِ العَشْرِ"
وقيلَ إنَّ ابنَ الجزريِّ ألَّفَ كتابَه هذا في مدينةِ بورصةَ في تركيا
عام 799هـ واستغرقَ في تأليفِه عشرةَ أشهُرٍ وقد أرَّخَ تأليفَه في نهايةِ
الكتابِ وهو الصوابُ، ضمَّنَه جميعَ مُصنَّفاتِ السابقين، وذكرَ فيه ما
اشتملَ عليه كلُّ كتابٍ سابقٍ من الأوجُهِ مع تمييزِ القويِّ منها
والضعيفِ، والغثِّ من السَّمينِ.
وعادَ
إلى القاهرةِ لدراسةِ البلاغةِ، وأصولِ الفقهِ، ثم ذهبَ إلى الإسكندريةِ
ليحضُرَ على تلاميذِ ابنِ عبدِ السلامِ، كما تتلمذَ على عبدِ اللهِ بنِ آي
دوغنديِّ المعروفِ بابنِ الجنديِّ المُتَوَفَّى 769هـ.
أعمالُه ومناصبُه:
جلسَ
تحتَ قُبَّةِ النَّسْرِ بالجامعِ الأُمويِّ للتعليمِ والإقراءِ سنين
عديدةً، وفي عامِ 774هـ أجازَ له أبو الفداءِ إسماعيلُ بنُ كثيرٍ الإفتاءَ
كما أجازَ له الإفتاءَ كلٌّ من ضياءِ الدين وشيخِ الإسلامِ البُلْقينيِّ
عامَ 778هـ.
وبعدَ أنْ دَرسَ القراءاتِ مدَّةً من الزمنِ وَلِيَ قضاءَ دمشقَ عامَ 793 هـ، وابْتَنى في دمشقَ مدرسةً سمَّاها "دارَ القرآنِ".
شيوخُه:
تلقَّى
الحافظُ ابنُ الجزريِّ القراءاتِ عن أئمَّةٍ أعلامٍ في الشامِ ومصرَ
والحجازِ فمِمَّنْ تلقَّى عنهم من علماءِ دمشقَ أبو محمَّدٍ ابنُ السلارِ
والشيخُ الطحَّانُ واللبَّانُ والشيخُ أحمدُ بنُ رجبٍ والقاضي أبو يوسفَ
أحمدُ بنُ الحسينِ الحنفيُّ، ومن مصرَ الشيخُ ابنُ الجنديِّ وابنُ الصائغِ
وأبو محمَّدٍ البَغداديُّ وعبدُ الوهَّابِ القرويُّ.
تلامذتُه:
أخذَ
عنه القراءاتِ طوائفُ لا يُحصَوْن كثرةً وعدداً، منهم من قرأَ بمضَمَّنِ
كتابٍ واحدٍ، ومنهم من قرأَ بمُضَمَّنِ أكثرَ من كتابٍ، فمِمَّن كَمَّلَ
عليه القراءاتِ العشْرَ بالشامِ ومصرَ، ابنُه أبو بكرٍ أحمدُ الذي شرَحَ
طيِّبةَ النشْرِ، والشيخُ محمودُ بنُ الحسينِ الشيرازي والشيخُ نجيبُ
الدينِ البيهقيُّ، ومن اليمنِ الشيخُ عثمانُ بنُ عمرَ بنِ أبي بكرِ بنِ
عليٍّ الناشريُّ الزَّبيديُّ العدنانيُّ من علماءِ زَبيدِ اليمنِ، وقد
ألَّفَ إيضاحَ الدرَّةِ المضيئةِ، وقرأَه على ابنِ الجزريِّ بمدينةِ زَبيدَ
سنةَ 828هـ، وكان مخطـوطاً في المكتبةِ الظاهريَّةِ بدمشـقَ برقمِ 354 حتى
وفَّقَني اللهُ وحقَّقتُه وطبعتُه في مطابعِ الرشيـدِ بالمدينـةِ
المنـوَّرةِ عامَ 1411هـ.
وفاتُه:
تُوفِّيَ
رحمَه اللهُ تعالى سنةَ 833هـ بمدينةِ شيرازَ بعد أن بلغَ الذُّروةَ في
علومِ التجويدِ وعلومِ القراءاتِ حتى صارَ فيها الإمامَ الذي لا يُدركُ
شأْوُه، ولا يُشَقُّ غُبارُه ودُفِنَ بدارِ القرآنِ التي أَنشأها بشيرازَ،
كان رضيَ اللهُ عنه صالحاً ديِّناً ورِعاً زاهداً في الحياةِ ومُتعِها
وزخارفِها وكان لا يدعُ قيامَ الليلِ في حَضَرٍ ولا سَفَرٍ ولا يَتركُ صومَ
الاثنينِ والخميسِ وثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ.
مؤلفاتُه:
له
مؤلَّفاتٌ نافعةٌ ممتِعةٌ ما بين منثورٍ ومنظومٍ تدلُّ على قُوَّةِ وسِعَةِ
اطِّلاعِه ورسوخِ قدمِه في مختلِف الفنونِ، وهذه المؤلَّفاتُ منها
المطبوعُ، ومنها ما يزالُ مخطوطاً، تركنا ذِكرَها للاختصارِ ولكثرةِ
المترجِمين له وشهرتِها رحِمَه اللهُ رحمةً واسعةً ورحِمَنا معُه بمنِّهِ
وكرمِه وأفاضَ علينا من بركاتِه، آمينَ.
كلمةٌ موجزَةٌ عن العلاَّمَةِ "عمرَ بنِ إبراهيمَ المسعديِّ"
بما
أننا تعرَّضْنا لبعضِ شروحِ الجزريَّةِ المخطوطةِ والتي رأيْنا فيها فوائدَ
نادرةً ومفيدةً فلنذكرْ شيئاً عن العلاَّمةِ الشيخِ عمرَ بنِ إبراهيمَ
المسعديِّ، صاحبِ الفوائدِ المسعديِّةِ في شرحِ المقدِّمةِ الجزريَّةِ حيث
اعتمدتُ عليها في هذا الشرحِ، فنقولُ:
هو
عمرُ بنُ إبراهيمَ بنِ علِيِّ بنِ أحمدَ بنِ عليٍّ المسعديُّ، الحَمَوِيُّ
الأصلِ الدمشقيُّ المولدِ، المعروفُ بابنِ كاسيوخةَ، كان والدُه شديدَ
الاعتناءِ به، حتى أشغلَه واجتهدَ على تعليمِه، ودخلَ القاهرةَ غيرَ
مرَّةٍ، وأَحضرَه عندَ الجُلَّةِ من المشايخِ، منهم الشمسُ الرمليُّ ,
والنورُ بنُ غانمٍ المقدِسيُّ، وإبراهيمُ العلقميُّ، والشهابُ الحانويُّ،
والنورُ الزياديُّ، والشهابُ ابنُ القاسمِ، والشهابُ أحمدُ بنُ أحمدَ بنِ
عبدِ الحقِّ، والشيخُ صدرُ الدينِ الحنفيُّ، والزينُ عبدُ الرحمنِ بنِ
الخطيبِ الشِّربينيُّ، وسَمِعَ منهم وأَجازُوه.
وأخذَ
بدمشقَ عن الشمسِ الداووديِّ ولازَمَه مُدَّةً، وحضَرَ مع أبيه دروسَ
الشهابِ العثياوي ولازَمَه البرهانُ بنُ كَيْسانَ في القراءاتِ حتى صارَ
أمثلَ جماعتِه، ثم تصدَّرَ للإقراءِ، وكان حَسَنَ التلاوةِ مُتقِناً
مجوِّداً خالياً من التكلُّفِ والتعسُّفِ، مع أنه لم يكنْ حَسَنَ الصوتِ
وكان قليلَ الحظِّ من الدنيا، ومعيشتُه أكثرَ ما كانت من كسْبِ أبيه، قال
النجمُ الغَزِّيُّ: قرأتُ أنَّ مولدَه في أواخرِ رجبٍ سنةَ أربعٍ وسبعينَ
وتسعمائةٍ، وتُوُفِّيَ في يومِ الأحدِ عشرينَ جُمَادى الأولى سنةَ سبعَ
عشرةَ وألفٍ بعِلَّةِ الاستسقاءِ ودُفِنَ عندَ أبيه بمقبرةِ البابِ
الصغيرِ.
وفي علومِ الْقُرْآنِ ص 53 للدكتورِ عزَّةَ حسن ذِكرُ كتابِه
" الفوائدُ المسعديَّةُ شرحُ المقدِّمةِ الجزريَّةِ".
*****
مقدِّمةُ ابنِ الجزريِّ وشرْحِي عليها
فيما يجبُ على قارئِ الْقُرْآنِ أن يعلمَه
قال ناظمُها رحِمَه اللهُ تعالى:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أي
أَفتتحُ وأبتدئُ بالبَسملةِ. ثم بالحَمْدلةِ وابْتدأَ رحِمَه اللهُ تعالى
بالبَسْملةِ ثم بالحَمدلةِ، اقتداءً بالكتابِ العزيزِ، وعملاً بخبرِ (كلُّ أمرٍ ذي بالٍ " أي حالٍ يُهتمُّ به " لا يُبدأُ فيه بـ "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ" فهو أقطعُ،
وفي روايةٍ بالحمدِ للهِ، وغيرُه فلا تعارُضَ بينَ الروايتين، لأنَّ
الابتداءَ حقيقيٌّ وإضافيٌّ، فبالبَسملَةِ حصَلَ الحقيقيُّ , وبالحمدلةِ
حَصَلَ الإضافيُّ , أيْ بالإضافةِ إلى غيرِهما، وقدَّم البسملةَ، عمَلاً
بالكتابِ والإجماعِ.
و"اللهِ" عَلَمٌ للذاتِ الواجبِ الوجودِ المستَحِقِّ لجميعِ المحامدِ و "الرحمنِ الرحيمِ" وصفان بُنِيَا من الرحمةِ للمبالغةِ، وقَدَّمَ "الرحمنِ"
لأنه أبلغُ، لأنَّ الزيادةَ في المبنى تدلُّ على زيادةِ المعنى كما في
"قَتَلَ وقَتَّلَ"، ومن ثَمَّ أَطلقَ جماعةٌ "الرحمنِ" على مُفيضِ جلائلِ
النِّعَمِ و "الرحيمِ" على مُفيضِ دقائقِها.
قال الناظمُ:
1. يقولُ راجي عفوِ ربٍّ سامعِ = محمَّدُ بنُ الجزريِّ الشافعِي
هذا من مقدِّمةِ الناظمِ، (يقولُ راجي عفوِ ربٍّ سامعِ)،
أي مؤَمِّلٌ صفْحَ مالِكٍ، أي يقولُ محمَّدٌ الذي طَمَعَ في صفْحِ
سيِّدِه، ومالكِه السامعِ لرجائه ليُجيبَه لِمَا رجاهُ تَفَضُّلاً منه
وامتناناً، وقولُه: الجَزْرِيُّ، نِسبةً إلى جزيرةِ ابنِ عمرَ من أهلِ
برقعيدَ وهي مناطقُ إقليمِ زاخو - تركيا الآنَ - شمالَ نهرِ دجلةَ، (والشافعيُّ)
نسبةً إلى الشافعيِّ، إمامِ الأئمَّةِ، وسلطانِ الأمَّةِ، محمَّدٍ ابنِ
إدريسَ بنِ العبَّاسِ بنِ شافعِ بنِ السائبِ بنِ عُبيدِ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ
هاشمِ بنِ عبدِ المطَّلبِ بنِ عبدِ منافٍ جَدِّ النبيِّ - صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ.
2. الحمدُ للهِ وصلَّى اللهُ = على نبيِّه ومُصطَفاهُ
(الحمدُ للهِ)، مَقولُ القَوْلِ، و "أل"
فيه للاستغراقِ أو للجنسِ أو للعهدِ وعلى كلٍّ منها يفيدُ اختصاصَ الحمدِ
باللهِ، والحمدُ هو الثناءُ باللسانِ على الجميلِ الاختياريِّ على جهةِ
التبجيلِ والتعظيمِ سواءً كان في مقابلةِ نعمةٍ أو لا، والمدحُ مثلُه لكنْ
كونُه منعِماً بحذفِ لفظةِ الاختياريِّ تقولُ:
حَمِدْتُ
زيداً على عِلمِه وكرمِه، ولا تقولُ: حَمِدْتُه على حُسنِه بل مدحتُه،
والشكرُ فِعلٌ يُنبِئُ عن تعظيمِ المنعِم بسببِ إنعامِه على الشاكرِ أو
غيرِه قولاً وعملاً، فهو أعمُّ منهما.
والمدحُ أعمُّ من الحمدِ مطلقاً وعَطَفَ على الحمدِ للهِ قولَه (وصلى اللهُ)
وهي جملةٌ لفظُها لفظُ الخبرِ، ومعناها الإنشاءُ، والصلاةُ من اللهِ رحمةٌ
ومن الملائكةِ استغفارٌ، ومن الآدميين تضرُّعٌ ودعاءٌ، والصلاةُ على
النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واجبةٌ في العُمرِ مرَّةً واحدةً، بدليلِ
مطلَقِ الأمرِ في قولِه تعالى: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: آية 56)، وكان يَنبغي للناظمِ أن يذكرَ السلامَ، لأنَّ إفرادَ الصلاةِ عنه مكروهٌ كعكسِه لاقترانِها في قولِه تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}،
وتُستحبُّ فيما عَداها ويَتأكَّدُ الاستحبابُ عندَ سماعِ ذِكرِها
والأحاديثُ في فضلِها كثيرةٌ، منها قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَنْ صَلَّى علَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً)، وقولُه على (نبيِّه)،
النبيُّ: إنسانٌ أُوحيَ إليه بشرعٍ مقرِّرٌ لشرعِ رسولٍ سبَقَه. وقولُه
"ومُصطفاهُ" مأخوذٌ من الصفْوَةِ، وهيَ الخُلوصُ، أي مُختارُه، فاللهُ
اصطفى سيِّدَنا مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفضَّلَه على سائرِ
الخلقِ، فقد روى الشيخان: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ)، وفي صحيحِ مُسلِمٍ: (إنَّ
اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً
مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَنَا خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ).
ثم كمَّلَ الناظمُ فقالَ:
3. محمَّدٍ وآلِه وصحبِهِ = ومُقرئِ القرآنِ مع مُحِبِّهِ
4. وبعدُ إنَّ هذه مقدِّمهْ = فيما على قارئِه أن يعلمَه 5. إذ واجبٌ عليهم مُحَتَّمٌ = قبلَ الشروعِ أوَّلاً أن يَعلموا 7. مُحَرِّري التجويدِ والمواقفِ = وما الذي رُسمَ في المصاحفِ
أي:
النبيُّ الذي صلَّى عليه الناظمُ في البيتِ السابقِ هو محمَّدٌ بنُ عبدِ
اللهِ بنِ عبدِ المطَّلبِ ثم صلَّى الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى على (الآلِ) بقولِه: (وآلِه)،
وهم مؤمنو بني هاشمٍ، وبني المطَّلبِ على الأصحِّ عندَ الشافعيِّ، وقيلَ:
أهلُ بيتِه، وقيلَ: أهلُه الأدْنَوْن وعشيرتُه الأقربون، ولا يُضافُ إلاَّ
لمن له شرَفٌ من العقلاءِ الذكورِ، فلا يُقالُ: آلُ الشيطانِ ولا آلُ
مكَّةَ ولا آلُ فاطمةَ، كذا قيلَ. وأمَّا آلُ فرعونَ، فإنما قيلَ لشرفِه
عندَ قومِه ولَمَّا كان بينَ الآلِ والصحْبِ عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ عطَفَ
الصحْبَ على الآلِ الشاملِ لبعضِهم لتَشملَ الصلاةُ باقيهم، والصحْبُ اسمُ
جِمْعٍ لصاحبٍ بمعنى الصحابيِّ، وهو من اجتمعَ بالنبيِّ مُسلماً وماتَ على
ذلك من غيرِ تَخَلُّلِ رِدَّةٍ، وقيلَ غيرُ ذلكَ، كقولِهم الصحابيُّ من
لَقِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مؤمناً ولو لحظةً وقولُه "ومُقرئِ
الْقُرْآنِ" أي وعلى مُقرئِ القرآنِ العاملِ به من التابعين وغيرِهم،
ولَمَّا بقيَ من التابعين بقيَّةٌ لم تَشملْهم الصلاةُ، وهم من لم يكنْ
مُقرئاً للقرآنِ قال: مع مُحبِّه أي مُحِبِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ والْقُرْآنِ , تابعيًّا كان أو غيرَه، وجَمَعَ بينَه صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ وبين مُحبِّهِ في حُكمٍ واحدٍ وهو الصلاةُ، لأنَّ المرءَ مع
من أحبَّ , ويَشهدُ له ما رُويَ أن رجلاً قالَ: يا رسولَ اللهِ، متى
الساعةُ؟ قالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قالَ: يا رسولَ اللهِ ما أَعددتُ لها
كثيرَ صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكنِّي أُحبُّ اللهَ ورسوله، قالَ: أَنْتَ مَعَ
مَنْ أَحْبَبْتَ، واللهُ الموفِّقُ للصوابِ.
كلمةُ (بعدُ)
يُؤتَى بها للانتقالِ من أسلوبٍ لآخرَ، ويُؤْتَى بها في الخُطَبِ
والمُكاتَباتِ اقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقيلَ: إنَّ
أوَّلَ من ابتدأَ بها هو داوودُ عليه السلامُ، وقيلَ: غيرُه، وهي ظرفٌ
مَبنيٌّ هنا على الضمِّ لقَطعِه عن الإضافةِ لفظاً ونيَّةِ المضافِ إليه
وعاملُه أقولُ مقدَّراً، ومعنى البيتِ أيْ وبعدَ البسملةِ والحمدلةِ
والصلاةِ والسلامِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فهذه مقدِّمةٌ
فيما يجبُ ويتحتَّمُ على قارئِ القرآنِ أن يعلمَه، وذلك مما يُعتبرُ في
تصحيحِ قراءتِه، فالإشارةُ بهذه إلى محسوسٍ في الخارجِ، فتكونُ الخُطبةُ
متأخِّرةً عن تَمامِ نظمِ المقدِّمةِ، أو إلى معقولٍ في الذِّهنِ فتكونُ
مقدَّمةً على نظمِ المقدِّمةِ، والمقدِّمةُ بكسرِ الدالِ أفصحُ من فتحِها،
ثم قالَ:
6. مخارجَ الحروفِ والصفاتِ = ليَلفظُوا بأفصحِ اللغاتِ
"إذ"
تعليلٌ للوجوبِ المفهومِ من على، وأرادَ بالواجبِ ما يأثمُ تاركُه بدليلِ
ما يأتي في قولِه "والأخذُ بالتجويدِ حتْمٌ لازِمٌ" أيْ: يجبُ على قُرَّاءِ
كتابِ اللهِ قبلَ الشروعِ في قراءتِه أن يَعلموا مخارجَ الحروفِ والمشهورَ
من صفاتِها. والوُجوبُ صناعةٌ على من كانت قراءتُه بالتجويدِ طبعاً،
وشرْعاً على من لم تكنْ قراءتُه كذلك، بأن أوهَمَتْ خللاً في المعنى أو
اقتضتْ تغييرَ الإعرابِ، والمخارجُ جمْعُ مَخْرَجٍ , اسمٌ للموضعِ الذي
يَنشأُ منه الحرفُ، وهو عبارةٌ عن الحيِّزِ المُوَلِّدِ للحرفِ، وسيأتي
تعريفُ المخرجِ لغةً واصطلاحاً، وقولُه "مخارجُ الحروفِ والصفاتِ... الخ"
أيْ: يجبُ على كلِّ القرَّاءِ قبلَ الشروعِ في القرآنِ أن يتعلموا مخارجَ
الحروفِ وصفاتِها ليُحسنوا التلفُّظَ بأفصحِ اللغاتِ، وهي لغةُ العربِ التي
نزلَ بها القرآنُ، ولغةُ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولغةُ
أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ.
ثم كمَّلَ فقالَ:
8. من كلِّ مقطوعٍ وموصولٍ بها = وتاءِ أُنثى لم تكنْ تُكتبْ بها
"مُحَرِّرِي"
مأخوذٌ من التحريرِ، وهو منصوبٌ على الحالِ من ضميرِ يَعلموا، أيْ: واجبٌ
عليهم أن يَعلموا ما ذُكِرَ حالةَ كونِهم محقِّقي التجويدِ للقرآنِ،
والتجويدُ لغةً: التحسينُ، تقولُ: جوَّدتُ الشيءَ إذا حسَّنتَه، واصطلاحاً:
تلاوةُ القرآنِ بإعطاءِ كلِّ حرفٍ حقَّه من مخرجِه متَّصفاً بصفاتِه
الذاتيَّةِ له، وما تَستحقُّه تلكَ الصفاتُ من الترقيقِ وغيرِها من الصفاتِ
العارضةِ الناشئةِ عن الصفاتِ اللازمةِ، - وسيأتي ذِكرٌ لتعريفِ التجويدِ
في بابِ التجويدِ - وموضوعُه: الكلماتُ القرآنيةُ من حيثُ التلفُّظِ بها، و
(المواقفُ)، أيْ: محَلُّ الوقفِ والابتداءِ، (وما الذي رُسِمَ) أي: كُتبَ في المصاحفِ العثمانيَّةِ.
وفائدتُه: صَوْنُ كلامِ اللهِ عن اللحنِ والخطأِ في التلاوةِ.
وثمرتُه:
السعادةُ الأبديَّةُ والدرجةُ العليَّةُ وطريقةُ الأخذِ من أفواهِ
المشايخِ العارفين بطُرُقِ الأداءِ. والمصاحفِ التي أمرَ عثمانُ رضيَ اللهُ
عنه بكتابتِها وهي ستَّةٌ، ولمَّا تمَّتْ وللهِ الحمدُ جعلَ مصحفاً في
المدينةِ المشرَّفةِ، وأرسلَ مصحفاً إلى مكةَ المشرَّفةِ، ومصحفاً إلى
الشامِ، ومصحفاً إلى البصرةِ، ومصحفاً إلى الكوفةِ، وأمرَ رضيَ اللهُ عنه
أهلَ كلِّ مِصرٍ أن يَتركوا ما سِوى مصحفِهم وأن يَقتديَ كلٌّ بمصحفِه الذي
أُرسلَ إليه , واختارَ لنفسِه مصحفاً غيرَ الخمسةِ المذكورةِ وأمسكَه
عندَه وهو المسمَّى بالمصحفِ الإمامِ. وبناءً عليه يكونُ مجموعُ عددِ
المصاحفِ التي أمرَ بكتابتِها عثمانُ رضيَ اللهُ عنه ستَّةً، اهـ. من شرحِ
الجَزْرِيَّةِ لعلاءِ الدينِ الطرابلسيِّ.
وقولُه (منْ كلِّ مقطوعٍ...إلخ) أيْ: من كلِّ مقطوعٍ وموصولٍ في هذه المصاحفِ، ومن كُلِّ تاءِ تأنيثٍ لم تكنْ تُكتبْ بهاءٍ مربوطةٍ بل بتاءٍ مجرورةٍ،
شرح المقدمة الجزرية للشيخ المقرئ: عبد الباسط هاشم
قال الشيخ عبد الباسط بن حامد بن محمد متولي [المعروف بعبد الباسط هاشم] (ت: 1441هـ):
(أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي لا
تحويه الأقطار، ولا تحيط بكنهه العقول والأفكار، ولا يُغيِّبه الليل، ولا
يظُهره النهار، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الفاعل المختار،
والواحد القهار، والعزيز الغفار، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله السيد المختار، بلَّغ الرسالة،
وأدى الأمانه، ونصح الأمة، وكشف الغمة، ومحا الظلمة، وجاهد في سبيل ربه طيل
حياته فلم يقر له قرار. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحابته،
وعترته، وآل بيته، ومن دعا بدعوته، واستن بسنته صلاة وسلاماً دائمين
متلازمين بدوام الليل والنهار، أما بعد: - فيقول
العبد الفقير، المعترف بالعجز والتقصير، عبد الباسط حامد محمد، والمشهور
بين إخوانه بـ عبد الباسط هاشم: إنه قد طلب مني جماعة من أولي الفضل والعقل
أن أقوم بشرح لمتن المقدمة المسماة بالجزرية في فن التجويد، والتي ألفها
إمامنا وأستاذنا محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي
بلداً، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلبيت طلبهم مع أني خاوي الوفاض، بادي
الإنفاض، كاسد الصناعة، قليل البضاعة، ولولا اتهامي بكتمان العلم ما قدمت
على ذلك، اتهاماً لعقلي الكليل، وذهني الثقيل، وبالله تعالى أستعين وعليه
أتوكل وإليه أنيب.
فأقول
وبالله التوفيق: إن كلامي في هذا الشرح سيكون منصبّاً على أحكام القرآن،
ملتفتاً فيه إلى كيفية التلاوة، معرضاً عن الأحاجي النحوية والمشكلات
البلاغية، فلا أتعرض لاختلاف النحويين ولا لإعراب كلمة إلا إذا كانت تخدم
التلاوة، أو تبين حكما من أحكامها فأقول وبالله التوفيق:
الفصل الأول: في ذكر
شيء من أحوال الناظم رضي الله تبارك وتعالى عنه: هو الإمام العالم العامل
العلاَّمة أبو الخير محمد شمس الدين بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن
يوسف بن الجزَري، وبعضهم اختصر على محمد بن محمد بن محمد، لكنّ الإمام
النويري في شرحه للطيبة صرح بأنها أربعة محمدات، والجزري نسبة إلى جزيرة
ابن عمر بديار بكر من أعمال سوريا، ولد رضي الله تبارك وتعالى عنه بدمشق
سنة إحدى وخمسين وسبعمائة من الهجرة.
سمع
الحديث من العالم الفاضل صلاح الدين محمد بن إبراهيم المقدسي بن عبد الله
المقدسي الحنبلي، ومن الشيخ أسلة بن حفص بن عمر بن زيد بن جعفر المراغي،
ومن المحب بن عبد الله وكلهم عن الفخر ابن البخاري، ومن غيرهم كالقاضي زيد
الدين بن عبد الرحيم الأسنوي الشافعي، وأيضاً سمع من ابن عساكر رضي الله
عنهم أجمعين وابن عميرة وغيرهم.
واشتغل
بعلمي القراءات والحديث حتى برع فيهما ومهر وفاق جميع أهل عصره، وتفقه على
الشيخ: عماد الدين بن كثير صاحب التفسير، وهو أول من أذن له في الفتوى
والتدريس، وولي مشيخة الصالحية ببيت المقدس مدة، وقدم القاهرة مراراً، وسمع
من المسنِد ابن بهاء، وبنى بدمشق داراً للقرآن فجزاه الله عنا خيراً، ثم
ارتحل إلى بلاد الروم ومكث بها حتى دهمها المشركون، فانطلق إلى بلاد فارس،
وتولى بها قضاء شيراز وغيرها، وانتفع به أهل تلك الناحية في الحديث
والقرآن، ثم حج وقدم القاهرة وحج منها مرة أخرى وأقام بمكة أشهراً، ثم رحل
إلى اليمن ثم عاد منها إلى مكة مرة أخرى فحج ثم قدم القاهرة، في كل ذلك
يعلم وينتفع به الناس في القرآن والحديث.
وله
في سائر العلوم باع طويل حتى أني سألت شيخي يوماً ما العلم الذي لا يحسنه
ابن الجزري؟، فقال: ما من علم إلا وأتقنه ابن الجزري. وله تأليفات في
القرآن تجويداً ووقفاً وابتداءً وتفسيراً وأسباب نزول وفي المصطلح وفي
الحديث وفي الطب وفي الحساب. وكل علم يخطر على البال لابن الجزري فيه نصيب.
هذه
مقدمة وجيزة تعرفنا فيها على شيء من أحوال الناظم رضي الله تبارك وتعالى
عنه، ومَن شاء أن يستزيد فأمامه (طبقة الحفاظ) للإمام السيوطي – رضي الله
تبارك وتعالى عنه - وكتب التراجم، وهي كثيرة، فليس مجالنا هذا يكفي لترجمة
هذا العالم الفاضل والإمام الحبر.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم. ابتدأ ببسم الله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كل أمر ذي بال لايبدأ فيه بسم الله فهو أجذم)) وفي رواية:((فهو أبتر)) وفي رواية أخرى: ((كل أمر ذي بال لايبدأ فيه بالحمد لله رب العالمين فهو أقطع)).
قال رضي الله تبارك وتعالى عنه:
*يقول راجي عفو رب سامع *
(عفو)
على أنها مضافة، ولا ينفع عفوَ، إلا إذا أعملنا اسم الفاعل، ولا يعُمل اسم
الفاعل إلا منوناً أو معرَّفاً كأن تقول: يقول راجٍ عفوَ أو تقول: يقول
الراجي عفوَ. فيما سوى ذلك إضافتها أفضل.
وقال: (عفوِ رب سامع) كان المفترض أن يقول سميعاً لكنه اكتفى من الصفة ببعضها حسب ما يلزمه، ومعنى سامعِ أي يسمع رجائي ويحقق أملي ويستجيب دعائي.
*محمد بن الجزري الشافعي*
أي
الشافعي مذهباً؛ لأنه – رحمه الله – كان يتمذهب بمذهب الشافعي، وإن كان
فقيهاً بالمذاهب الأخر، فمثل ذلك لا يخفى عليه. وقد ذكرنا أنه كان عالماً
موسوعياً رحمه الله.
قال الناظم:
الحمد لله وصلى الله = على نبيه ومصطفاه
بدأ
بالحمد لما أشرنا إليه من الحديث الوارد؛ حتى يبارَك عمله، ويكلل بالنجاح
سعيه، والصلاة من الله رحمات ورفع درجات، ومن الملائكة استغفار، ومن
المؤمنين تضرع ودعاء. وقال: (على نبيه) ولو قال
على رسوله لكان أجود؛ لأن كل رسول نبي، وليس العكس، ولو جمع بين الصلاة
والسلام لكان أجود؛ لكراهة الصلاة دون السلام قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً }.
ومعنى (ومصطفاه) أي: خيرته لتحمّل رسالته. قال تعالى:{الله أعلم حيث يجعل رسالته}. (محمد وآله)
وهم مؤمنو بني هاشم ومؤمنو بني عبد المطلب على أصح الأقوال، وأصله أهل
لتصغيره على أُهَيْل، قلبت الهاء همزة والهمزة ألفاً، وقيل: أول لتصغيره
على أويل قلبت الواء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا يستعمل إلا في
الأشراف والعقلاء.
وأما (صحبه) فهو اسم جمع لصاحب عند سيبويه، والصحابي في أصح الأقوال: كل من لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – ولو لحظة.
(ومقرئ القرآن) المقرئ:
هو الذي تعلم على الأشياخ ذوي الأسانيد المتصلة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وذلك عكس القارئ، وياء الجمع حذفت لالتقاء الساكنين.
(مع محبه): طلب أن تعم الصلاة ويعم السلام جميع قراء القرآن العاملين به، وجميع محبي القرآن ومحبي قراء القرآن.
*وبعد إن هذه مقدمة * بكسر الدال.
*فيما على قارئه أن يعلمه* غيب
الضمير ليدل على عظمة المضمر عليه: أي القرآن، والمعنى هذه أرجوزة أجمع
فيها ما يجب علمه على قارئي القرآن من أحكام التلاوة، إذ واجب عليهم أي على
القرَّاء.
(محتم): تأكيداً للوجوب، (قبل الشروع) أي: في القراءة (أولاً أن يعلموا) أقول: إن هذا الوجوب على من نقصت تلاوته نقصاً مخلاً بأحكام القرآن، والنقص في التلاوة نوعان:
نقص
يسمى اللحن الجلي، ونقص يسمى اللحن الخفي، فاللحن الجلي كأن ينصب مرفوعاً
أو يجر منصوباً، فهذا هو اللحن الجلي، فمثل هذا الصنف هو المعني بقوله:
* إذ واجب عليهم محتم*
أما
أصحاب اللحن الخفي بأن ترك إخفاءً، أو ترك مداً أو قصر لازماً أو أظهر
إدغاماً أو ترك اخفاء، فإن مثل هذا يُرشَد ولا يتحتم عليه الوجوب بل يسن له
أن يتعلم التجويد؛ ليكون من المهَرة بالقرآن طلباً للمنزلة العليا، فقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفَرَة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتَعْتِع فيه وهو عليه شاق له أجران)). ولم يقل رسول الله أن قراءته فاسدة أو باطلة، ومن هنا نعلم أن المعنيين بالوجوب المحتم هم أصحاب اللحن الجلي لا أصحاب اللحن الخفي.
ثم قال:
....أن يعلموا
مخارج الحروف والصفات = ليلفظوا بأفصح اللغات
المخارج: جمع مخرج، والمخرج للحرف هو المكان الذي يخرج منه الحرف كاللسان أو الشفتين أو الجوف أو الحلق، ونمثل ذلك بمكان الميلاد للإنسان، فإن عرف أين ولد وما بلده فذلك بمنزلة المخرج للحرف. وما دمنا قد عرفنا أين ولد وما بلده عرفنا صفته وكيفية معاملته، وهل هو ضيق الأخلاق أم هو رَحْب الصدر؟ أم هو سهل؟ أم هو صعب؟، وهكذا، وهذه معنى المخارج والصفات.* وما الذي رسّم في المصاحف*أي: ويعلموا علوم رسم المصحف، كذا قرأناها. (رسّم) وقرأت: (وما الذى رسم في المصاحف).
*من كل مقطوع وموصول بها * أي: يعلموا المقطوع والموصول.
*وتاء أنثى لم تكن تكتب بها * أي: ويعلموا أقسام التاءات في القرآن الكريم، وهي تنقسم إلى أقسام سنذكرها فيما بعد إن شاء الله.