الدروس
course cover
ح32: حديث أبي سعيد الخدري: (لا ضرر ولا ضرار) ج قط
29 Oct 2008
29 Oct 2008

8033

0

0

course cover
الأربعون النووية

القسم الخامس

ح32: حديث أبي سعيد الخدري: (لا ضرر ولا ضرار) ج قط
29 Oct 2008
29 Oct 2008

29 Oct 2008

8033

0

0


0

0

0

0

0

ح32: حديث أبي سعيد الخدري: (لا ضرر ولا ضرار) ج قط


قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (

32- عَنْ أَبِي سعيدٍ -سعدِ بنِ سِنانٍ- الخُدْريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ , أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)). حديثٌ حسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه والدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهُما مُسْنَدًا، ورواهُ مالكٌ في الْمُوَطَّأِ مُرْسَلاً, عَنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى, عَنْ أبيهِ , عَنِ النبيِّ صلّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم، فأَسْقَطَ أبا سعيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا.

هيئة الإشراف

#2

29 Oct 2008

شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين


قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (

الحديث الثاني والثلاثون

عنْ أَبي سَعيدٍ سَعدِ بنِ مَالِك بنِ سِنَانٍ الخُدريِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)(1) حَدِيْث حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةَ، وَالدَّارَقطْنِيّ وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدَاً، وَرَوَاَهُ مَالِكٌ في المُوَطَّأِ مُرْسَلاً عَنْ عَمْرو بنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيْهِ عَن النبي صلى الله عليه وسلم فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيْدٍ ،وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّيْ بَعْضُهَا بَعْضَاً.

الشرح
"لاَ ضَرَرَ" الضرر معروف، والضرر يكون في البدن ويكون في المال، ويكون في الأولاد، ويكون في المواشي وغيرها.
"ولا ضرار" أي ولا مضارة والفرق بين الضرر والضرار:
أن الضرر يحصل بدون قصد، والمضارة بقصد، ولهذا جاءت بصيغة المفاعلة.
مثال ذلك: رجل له جار وعنده شجرة يسقيها كل يوم، وإذا بالماء يدخل على جاره ويفسد عليه، لكنه لم يعلم، فهذا نسمية ضرراً.
مثال آخر: رجل بينه وبين جاره سوء تفاهم، فقال : لأفعلن به ما يضره، فركب موتوراً له صوت كصوت الدركتر عند جدار جاره وقصده الإضرار بجاره، فهذا نقول مضار.
والمضار لا يرفع ضرره إذا تبين له بل هو قاصده، وأما الضرر فإنه إذا تبين لمن وقع منه الضرر رفعه.
وهذا الحديث أصل عظيم في أبواب كثيرة، ولا سيما في المعاملات:كالبيع والشراء والرهن والارتهان، وكذلك في الأنكحة يضار الرجل زوجته أو هي تضار زوجها، وكذلك في الوصايا يوصي الرجل وصية يضر بها الورثة.
فالقاعدة: متى ثبت الضرر وجب رفعه، ومتى ثبت الإضرار وجب رفعه مع عقوبة قاصد الإضرار.
من ذلك مثلاً: كانوا في الجاهلية يطلق الرجل المرأة فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثانية فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثالثة ورابعة، لقصد الإضرار،فرفع الله تعالى ذلك إلى حد ثلاث طلقات فقط.
مثال آخر: رجل طلق امرأته ولها أولاد منه،حضانتهم للأم إلا إذا تزوجت، والمرأة تريد أن تتزوج ولكن تخشى إذا تزوجت أن يأخذ أولاده، فتجده يهددها ويقول:إن تزوجتي أخذت الأولاد، وهو ليس له رغبة في الأولاد ولا يريدهم، ولو أخذهم لأضاعهم لكن قصده المضارة بالمرأة بأن لا تتزوج، فهذا لا شك أنه حرام وعدوان عليها، ولو تزوجت وأخذ أولادها منها مع قيامها بواجب الحضانة ورضا زوجها الثاني بذلك، لكن قال: أريد أن أضارها، ونعرف أنه إذا أخذهم لم يهتم بهم، بل ربما يدعهم تحت رعاية ضرة أمهم، يعني الزوجة الثانية، وما ظنك إذا كان أولاد ضرتها تحت رعايتها سوف تهملهم، وسوف تقدم أولادها عليهم، وسوف تهينهم، ولكنه أخذهم للمضارة، فهذا لا شك أنه من المحرم.
مثال آخر: رجل أوصى بعد موته بنصف ماله لرجل آخر من أجل أن ينقص سهام الورثة، فهذا محرم عليه مع أن للورثة أن يبطلوا ما زاد على الثلث.
مثال آخر: رجل له ابن عم بعيد لا يرثه غيره، فأراد أن يضاره وأوصى بثلث ماله مضارة لابن العم البعيد أن لا يأخذ المال، فهذا أيضاً حرام.
ولو سرنا على هذا الحديث لصلحت الأحوال، لكن النفوس مجبولة على الشح والعدوان، فتجد الرجل يضار أخاه، وتجده يحصل منه الضرر ولا يرفع الضرر.
يقول المؤلف - رحمه الله - حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً أي متصل السند.
وقوله ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد والحديث إذا سقط منه الصحابي سمي مرسلاً، ولكن النووي- رحمه الله- قال: وله طرق يقوي بعضها بعضاً ولا شك أنه إذا تعددت طرق الحديث وإن كان كل طريق على انفراده ضعيفاً فإنه يقوى، ولهذا قال الشاعر:
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قوياً
هذا الحديث يعتبر قاعدة من قواعد الشريعة، وهي أن الشريعة لا تقر الضرر، وتنكر الإضرار أشد وأشد والله الموفق.
__________________________________________________________

(1) سبق تخريجه صفحة (265)

هيئة الإشراف

#3

20 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي


قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (

ترجمةُ الصَّحابيِّ راوِي الحديثِ:

أبُو سعيدٍ سَعْدُ بنُ مالكِ بنِ سِنَانٍ الخُدْرِيُّ الأنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، هُوَ مِنْ أَفْقَهِ الصَّحَابَةِ، وَأَعْلَمِهِمْ بالحديثِ، مَاتَ بالمدينةِ يومَ الجُمُعَةِ سَنَةَ أربعٍ وَسِتِّينَ وَدُفِنَ بالبَقِيعِ.

الشَّرحُ:
(عَنْ أبي سعيدٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ): ((لاَ ضَرَرَ))أَيْ: لا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَضُرَّ شَيْئًا مِنْ خَلْقِ اللهِ، لاَ قَوْلاً ولا عَمَلاً، ولا بِغَيرِ ذلكَ؛ لأَنَّ مَنْ ضَرَّ ضُرَّ.
((وَلاَ ضِرَارَ)): ولا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَابِلَ بالضَّرَرِ مَنْ ضَرَّهُ؛ لأَِنَّ مُقَابَلَةَ الضُّرِّ بِالضُّرِّ يُنَافِي الكَمَالَ، بَلْ يَجِبُ العَفْوُ وَالمُسَامَحَةُ.
وَمُقَابَلَةُ الضُّرِّ بِمِثْلِهِ في بَعْضِ المَوَاضِعِ حَرَامٌ، وفي بَعْضِهَا مُبَاحٌ.

هيئة الإشراف

#4

20 Nov 2008

المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري


قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (

الحديثُ الثاني وَالثَّلاثُونَ

عنْ أبي سعيدٍ -سَعْدِ بنِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ- الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)). حديثٌ صحيحٌ.

(1) الرَّاوِي: هوَ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ الخُدْرِيُّ، أبو سَعِيدٍ، شَهِدَ الخندقَ وَمَا بَعْدَهَا، كانَ مِنْ فُقَهَاءِ الصحابةِ وَفُضَلائِهِمْ، تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ هِجْرِيًّا بالمَدِينَةِ، وَلهُ أَلْفٌ وَمائةٌ وَسبعونَ حَدِيثاً.
مَوْضُوعُ الحديثِ: النَّهْيُ عَن الضَّرَرِ وَالإِضرارِ.
المفرداتُ:
(2) ((لا ضَرَرَ)): (الضَّرَرُ): ضِدُّ النفعِ، وَالمرادُ بهِ أنْ يُدْخِلَ على نفسِهِ نَفْعاً يَضُرُّ بهِ غيرَهُ بِغَيْرِ حقٍّ، وَمنْ ذلكَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَالنَّجْشُ في البيعِ، وَالحِيلَةُ في الرِّبَا، وَعَضْلُ المرأةِ لِمَالِهَا أَوْ لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا، وَاحْتِكَارُ الأموالِ، وَالسَّهَرُ طَوالَ الليلِ عَبَثاً.
وَقدْ يَكُونُ الضَّرَرُ على النفسِ، مثلُ: مُوَاصَلَةِ الصومِ، وَعدمِ النومِ، وَعدمِ النِّكَاحِ.
وَالضررُ بالغيرِ معَ نَفْعِ النفسِ لا يَجُوزُ؛ لِمَا في ذلكَ مِن الإِضرارِ بالغيرِ معَ مَنْفَعَةِ النفسِ.
وَالإِسلامُ يَحُثُّ على الأُلْفَةِ وَالتَّعَاوُنِ وَالإِيثارِ وَاحترامِ حقوقِ الآخرينَ، وَهذا الضررُ يُنَاقِضُهُ. وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ الضررُ بالنفسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة 195].
(3) ((ولا ضِرَارَ)): الإِضرارُ أَو الضِّرَارُ: هوَ أَنْ يَضُرَّ بالغيرِ وَلوْ لمْ يَكُنْ لَهُ نَفْعٌ، فيكونُ القصدُ هوَ الإِضرارَ فقطْ. وَمنهُ الإِيذاءُ للغيرِ، وَظُلْمُهُ، وَأَخْذُ حَقِّهِ، وَالتضييقُ عَلَيْهِ، وَهذا لا يَجُوزُ.
وَلهُ عِدَّةُ صُوَرٍ منها:
1- الإِضرارُ في الوصيَّةِ لِحِرْمَانِ الوَرَثَةِ. وَلا يَجُوزُ إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ: بالثُّلُثِ فَأَقَلَّ، وَلغيرِ وَارِثٍ، وَهذا إِضْرَارٌ بالوَرَثَةِ.
2- الرَّجْعَةُ في النِّكَاحِ على ما كانَ في الجاهليَّةِ، فَحَرَّمَ الإِسلامُ ذلكَ الإِضرارَ وَجَعَلَ الطلاقَ ثَلاثاً فقطْ، وَهذا إِضرارٌ بالمُطَلَّقَةِ.
3- الإِيلاءُ؛ إِذْ قَيَّدَهُ الشَّرْعُ بأربعةِ أَشْهُرٍ، وَهذا إِضْرَارٌ بالزَّوْجَةِ.
4- أَذِيَّةُ الجَارِ في بَيْتِهِ أَوْ طَرِيقِهِ أَوْ مَزْرَعَتِهِ، وَهذا إِضرارٌ بالجارِ.
5- عُقُوقُ الوالِدَيْنِ وَقَطِيعَةُ الأرحامِ، وَهذا إِضرارٌ بالأقاربِ.
واللَّهُ تَعَالَى لم يُكَلِّفِ الناسَ إِلاَّ مَا يَسْتَطِيعُونَ في العباداتِ، فليسَ في الدِّينِ ضَرَرٌ وَلا ضِرَارٌ، فَمَنَعَ الضررَ عَن المريضِ مِن الطهارةِ بالماءِ، وَأَبَاحَ لهُ التَّيَمُّمَ وَأَذِنَ لهُ بالصلاةِ قَاعِداً، وَأَذِنَ لهُ بالفِطْرِ حالَ السفرِ وَالمَرَضِ وَالقضاءِ وَنحوِ ذَلِكَ.
الفوائدُ:
1- يُسْرُ الإِسلامِ وَسُهُولتُهُ.
2- النهيُ عَن الضررِ بالغيرِ.
3- الحثُّ على الإِيثارِ.
4- مُرَاعَاةُ شعورِ الآخرِينَ.
5- حُبُّ الخيرِ للغَيْرِ.
6- فَضْلُ دَفْعِ الأَذَى.
7- شِدَّةٌ إِثْمِ المُضَارُّ.
8- تَحْرِيمُ أَخْذِ حُقُوقِ الغَيْرِ.
9- جَوَازُ المُطَالَبَةِ بالحقِّ.
10- الإِسلامُ دِينٌ وَسَطٌ.
11- النهيُ عَن التَّنَطُّعِ في الدِّينِ.
12- الحَذَرُ مِن التَّسَاهُلِ بأمرِ الشرعِ.
13- المؤمنونَ كالجَسَدِ الواحدِ.
14- الدِّينُ حِمَايَةٌ للنفسِ وَالغيرِ.
15- وُجُوبُ أداءِ حقوقِ الغيرِ.

هيئة الإشراف

#5

20 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح


قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (

(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ: مرَّ قولُ أبي داودَ أنَّهُ مِن الأحاديثِ الَّتي يَدورُ عليها الفقهُ.
فهذا الحديثُ يُؤَصِّلُ قاعدةَ (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) للفقهاء لِقياسِ الأمورِ عليها، وخاصَّةً فيما يُستجدُّ مِن الأمورِ، مثلا مَنْ حكَمَ علَى الدُّخانِ بأنَّهُ حرامٌ كانَ مِن ضمنِ أدلَّتِهِ هذه القاعدةُ (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)؛ لأنـَّهُ لم يكنْ موجودًا في زمنِ التَّشريعِ.
تعريفُ الضَّررِ والضِّرارِ: الضَّررُ ضدُّ النَّفعِ، وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ
(لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ).
لا ضررَ: أي لا يضرُّ الرَّجلُ أخاهُ ابتداءً وهو ضدُّ النَّفعِ منه.
ولا ضرارَ: أي لا يضارُّ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَهُ جزاءً. فالضِّرارُ منهما معًا والضَّررُ فعلُ واحدٍ منهما، ومعنَى الحديثِ:
لا يَدخلُ الضَّررُ علَى الَّذي ضرَّهُ ولكنْ يعفُو عنه، ا هـ.
فابنُ منظورٍ فرَّقَ بينَ الضَّررِ والضِّرارِ وهذا هو المشهورُ.
ومِن العلماءِ مَن لم يفرِّقْ بينهما فقالَ: هما لفظانِ بمعنًى واحدٍ تَكلَّمَ بهما علَى وجهِ التَّأكيدِ.
قالَ ابنُ رجبٍ بعدَ أن نقلَ أقوالَ أهلِ العلمِ في هذين اللفظينِ: (وبكلِّ حالٍ، فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نفَى الضَّررَ والضِّرارَ بغيرِ حقٍّ).
تحريمُ ضَررِ المسلمِ: دلَّ الحديثُ علَى أنَّهُ لا يَجوزُ للمسلمِ أنْ يَضُرَّ أحدًا بغيرِ حقٍّ، فلا يَضُرَّ مَن ضرَّهُ، أو يَسُبَّ مَن سبَّهُ، ولا يضربَ مَن ضَرْبَهُ، بل يَطلبُ حقَّهُ مَن الحاكمِ مَن غيرِ مَسبَّةٍ.
وأكَّدَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهيَ عن ضَررِ المسلمينَ في أكثرَ من مَوْضِعٍ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ))، وضَرُّ المسلمِ بعرضِهِ أو مالِهِ أو نفسِهِ مِن أعظمِ الظُّلمِ الَّذي حرَّمَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويهِ عن ربِّهِ:((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَّالَمُوا)).

أنواعُ الضَّررِ:
يكونُ قصدُ المكلَّفِ بضررِهِ للآخرِ علَى وجهينِ:
- الوجهُ الأوَّلُيكونُ ليسَ له قصدٌ سوَى الضَّررِ بالعبادِ، وهذا لا شكَّ في قبحِهِ وتحريمِهِ.
- الوجهُ الثَّاني يكونُ له غَرضٌ صحيحٌ مشروعٌ، وبسبِبِهِ يضرُّ الآخرينَ.


1 - الوجهُ الأوَّلُ له مظاهرُ كثيرةٌ منها:
- الإِضرارُ في الوصيَّةِ، قالَ تعالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}، ووجهُ الإضرارِ أن يخصَّ بعضَ الورثةِ أكثرَ مَن نصيبِهِ، فيَتضرَّرُ باقي الورثةِ، وهذه الوصيَّةُ لا تنفذُ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ))، إلاَّ إذا أجازَهَا الورثَةُ.
أو أن يَخُصَّ أجنبيًّا بأكثرَ مَن الثُّلثِ فيَتضرَّرَ الورثةُ بذلِكَ، وهذه الوصيَّةُ لا تنفذُ إلاَّ بإجازةِ الورثةِ؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سألَهُ سعدٌ، (قالَ: يا رسولَ اللهِ، أنا ذو مالٍ ولا يرثُنِي إلاَّ ابنةٌ، أفأتصدَّقُ بثُلُثَيْ مالي؟ قالَ: ((لا))فقلْتُ: بالشَّطرِ؟)قالَ: ((لا))، ثمَّ قالَ: ((الثُّلثِ، والثُّلثُ كبيرٌ - أو كثيرٌ - إنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)).
وإذا أوصَى بالثُّلثِ لأجنبيٍّ بقصدِ المضارَّةِ بالورثةِ، فإنَّهُ يَأْثَمُ بقَصْدِهِ هذا، وتنفذُ كما قالَ الجمهورُ.

- الرَّجعةُ في النِّكاحِ: قالَ تَعالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فمَنْ قَصَدَ بالرَّجعةِ الْمُضارَّةَ بالمرأةِ أَثِمَ بذلِكَ، كما كانَ يفعلُ الجاهليُّونَ: يطلِّقُ امرأتَهُ فإذا قاربَت انتهاءَ العدَّةِ راجعَهَا، وهكذا فتكونُ بذلك معلَّقةً لا هي مطلَّقةٌ ولا مُمسَكَةٌ.

- الإيلاءُ: وهو حَلِفُ الرَّجلِ علَى أن لا يجامعَ زوجتَهُ، وكانَ الجاهليُّونَ يحلفُ أحدُهُم أن لا يجامعَ زوجتَهُ سنةً وسنتين، ويقصدُ بذلِكَ الإضرارَ بها، فتكونَ بذلك معلَّقَةً لا هي مطلَّقَةٌ ولا هي زوجتُهُ، فوضعَ الإسلامُ حدًّا لهذا الضَّررِ فعيَّنَ مدَّةَ الإيلاءِ أربعةَ أشهرٍ فقطْ، فإنْ رجَعَ أثناءَهَا أو في آخرِهَا كفَّرَ عن يمينِهِ وإلا طلَّقَها، قالَ تَعالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
- الرَّضاعةُ : قالَ تَعالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}،قالَ القرطبيُّ في تفسيرِ هذه الآيَةِ: (لا تأبَى الأمُّ أن ترضعَهُ إضرارًا بأبيهِ أو تطلبَ أكثرَ مَن أجرِ مثلِهَا، ولا يحلُّ للأبِ أن يمنعَ الأمَّ مَن ذلك مع رغبتِهَا في الإرضاعِ، هذا قولُ جمهورِ المفسِّرينَ).
- الضَّررُ في البيعِ: نهَى الإسلاُم عن كلِّ أنواعِ البيوعِ الَّتِي فيها ضررٌ بعبادِ اللهِ، فنَهَى عن بيعِ العينةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا تبايعتـُمْ بالعينةِ إلَى أنْ قالَ: سلَّطَ اللهُ عليكُمْ ذلاً لا ينزعُهُ حتَّى ترجعُوا إلَى دينِكُمْ))، كما نهَى عن بيعِ الحصاةِ، وعن بيعٍ الغررِ، كما نَهَى عن التَّفرقَةِ بينَ الوالدةِ وولدِهَا في البيعِ، فإذا كانَ ولدُهَا صغيرًا حرامٌ بالاتِّفاقِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قاعدةٌ أصوليَّةٌ: هذا الحديثُ ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)) قاعدةٌ أصوليَّةٌ.

ومِن فروعِهَا الفقهيَّةِ: أنَّهُ لو أَتْلَفَ أحدٌ مالَ الآخرِ، لا يَجوزُ للآخرِ أن يُتْلِفَ مالَ أخيهِ مَن بابِ المعامَلَةِ بالْمِثْلِ؛ لأنَّ في هذا توسيعًا لدائرةِ الضَّررِ دونَ فائدةٍ، والبادي بالإتلافِ ضامنٌ ما أَتْلَفَ.
ومِن فروعِ هذه القاعدةِ:
1: الضَّررُ يُدْفَعُ بقدرِ الإمكانِ: ومعناهُ أنَّهُ يَجِبُ إزالةُ الضَّررِ الَّذي وقعَ وإزالةُ الآثارِ المترتِّبَةِ بسببِ وقوعِهِ، مثلُ أن يَصُبَّ الْمِيزَابُ علَى الطَّريقِ فيُؤذيَ المارَّةَ، في هذه الحالةِ يجبُ إزالتُهُ، وصاحبُهُ ضامنٌ ما أَتْلَفَ.

2: (الضَّررُ يُزَالُ) ومعناهَا يجبُ دفعِ الضَّررِ قبلَ وقوعِهِ؛ لأنَّ هذا أسهلُ مَن رفعِهِ بعدَ الوقوعِ.

3: (الضَّررُ لا يُزالُ بمثلِهِ) ومعناهُ لا يَجوزُ رفعُ ضررٍ واقعٍ بإحداثِ ضررٍ مثلِهِ أو أكبرَ منهُ.
4: الضَّررُ الأشدُّ يُزَالُ بالضَّررِ الأخفِّ: ومعناها يَجوزُ للحاكمِ أن يأخُذَ مَن الأغنياءِ أكثرَ مَن الزَّكاةِ إذا كانتِ الزَّكاةُ لا تَكْفِي حاجةَ الفقراءِ.
وبمعنَى هذه القاعدةِ (يختارُ أهونَ الشَّرَّينِ) إذا تعارضَتْ مفسدتَانِ روعِيَ أعظمُهَا ضررًا.
5: يتحمَّلُ الضَّررُ الخاصُّ لدفعِ ضررٍ عامٍّ فيجوزُ للحاكمِ إجبارُ المحتكِرينَ علَى البيعِ بثمنِ السُّوقِ، ولو كانَ فيهِ ضررٌ عليهم؛ لأنَّ دفعَ الضَّررِ العامِّ يُقدَّمُ علَى ضررِهِم الخاصِّ.
6: درءُ المفاسدِ مقدَّمٌ علَى جلبِ المصالِحِ إذا كانَ هناكَ تعارضٌ بينَ مفسدةٍ ومصلحةٍ وجبَ دفعُ المفسدةِ ولو ضاعتِ المصلحةُ.
7: إذا تعارضَ المانعُ والْمُقتضِي يُقدَّمُ المانعُ.
بمعنَى إذا كانَ هناكَ لأمرٍ محاذيرُ تتطلَّبُ منعَهُ، ودوافعُ تَقتضي السَّماحَ به فهنا يقدَّمُ المنعُ.
مثلُ أن يُمنعَ الشَّريكُ مَن التَّصرُّفِ في المالِ المشترَكِ فيهِ علَى وجهِ يضرُّ بشريكِهِ، وذلك أنَّ حقَّ الشَّريكِ مانعٌ له مَن التَّصرُّفِ. وإن كانَ حقُّ الشَّركةِ مقتضيًا صحَّةَ تصرُّفِهِ.
8: الضَّررُ لا يكونُ قديمًا.
بمعنَى: كلُّ ما فيهِ ضررٌ يُزالُ، سواءٌ كانَ حديثًا أو قديمًا، مثلَ أن يكونَ للمكلَّفِ بناءٌ تطلُّ منه نافذةٌ علَى أرضِ جارِهِ، فلو بنَى جارُهُ وكانتْ هذه المنافذُ تطِلُّ علَى نسائِهِ وعوراتِهِ فيجبُ إزالتُهَا ولا عبرةَ بقدمِهَا هُنا.
أمَّا ما كان قديمًا في أيدي المكلَّفينَ وفيهِ نفعٌ لهم، ولا مضرَّةَ فيهِ للآخرينَ، فهنا للقدمِ اعتبارٌ، ويكونُ انتفاعُهُم مشروعًا، وهنا قاعدةُ (القديمُ يُتْرَكُ علَى قدمِهِ).
2 - الوجهُ الثَّانِي: هو أن يتصرَّفَ المكلَّفُ في ملكِهِ، وبسببِ هذا التَّصرُّفِ يَتضرَّرُ الآخرونَ دونَ قصدٍ مضرَّةِ الآخرينَ. مثلُ أن يَتصرَّفَ علَى طريقةٍ غيرِ مُعتادَةٍ ومألوفةٍ، مثلُ أن يضرِمَ نارًا في أرضِهِ في يومٍ شديدِ الرِّيحِ فيحترقُ ما حولَهُ، ففي هذه الحالةِ هو ضامنٌ لما أتلفَ.
- ومثلُ أن يَتصرَّفَ بطريقةٍ معتادةٍ مألوفةٍ، مثلُ أنْ يحفرَ بئرًا في أرضِهِ، فيسحبَ ماءَ بئرِ جارِهِ، ومثلُ أنْ يبنيَ علَى أرضِهِ بناءً عاليًا يمنعُ الشَّمسَ والضُّوءَ عن جارِهِ ويكشِفُ عورَتَهُ، في هذه الحالةِ اختلفتْ أنظارُ أهلِ العلمِ، فمنهُمْ مَن منعَ كأحمدَ بنِ حنبلٍ، ووافقَهُ مالكٌ في بعضِ الصُّوَرِ، وهذا موافِقٌ لكثيرٍ من الأدلَّةِ الَّتي تَنْهَى عن ضررِ المسلمِ وتأمرُ بالإحسانِ إليهِ وترغِّبُ بإيثارِهِ.
أن يَمنعَ جارَهُ مِن الانتفاعِ بملكِهِ، فإنْ كانَ الاِنتفاعُ يضرُّ بملكِهِ مثلَ أن يكونَ له جدارٌ ضعيفٌ لا يحملُ أكثرَ ممَّا عليهِ فلَهُ أن يمنعَ جارَهُ مِن التَّصرُّفِ فيهِ، وإذا كانَ لا يضرُّ فلا يَجوزُ له الْمَنْعُ، عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)).

هيئة الإشراف

#6

20 Nov 2008

جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي


قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (

(1) حديثُ أبي سعيدٍ لم يُخَرِّجْهُ ابنُ ماجَهْ، إنما خَرَّجَهُ الدارقُطنيُّ، والحاكمُ، والبيهقيُّ، مِن روايَةِ عُثمانَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُثمانَ بنِ رَبيعةَ، حَدَّثنا الدراوَرْدِيُّ، عن عمرِو بنِ يحيَى الْمَازنيِّ، عن أبيهِ، عن أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَرَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ)).

وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإسنادِ علَى شَرْطِ مُسلمٍ.
وقالَ البيهقيُّ: تَفرَّدَ به عُثمانُ، عن الدراورديِّ.
وَخَرَّجَهُ مالكٌ في (الموَطَّأِ)، عن عمرِو بنِ يَحْيَى، عن أبيهِ مُرْسَلاً.
قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: لم يُخْتَلَفْ عن مالِكٍ في إِرسالِ هذا الحديثِ، قالَ: (ولا يُسْنَدُ مِن وجهٍ صحيح) ثم خَرَّجَهُ مِن روايَةِ عبدِ الملِكِ بنِ مُعاذٍ النَّصِيبِيِّ، عن الدراورديِّ مَوصولاً، والدراورديُّ كان الإِمامُ أحمدُ يُضَعِّفُ ما حَدَّثَ به مِن حِفْظِهِ، ولا يَعْبَأُ به، ولا شَكَّ في تقديمِ قولِ مالكٍ علَى قولِهِ.
وقالَ خالدُ بنُ سعدٍ الأَنْدَلُسيُّ الحافظُ: لم يَصِحَّ حديثُ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)) مُسْنَدًا.
وأمَّا ابنُ مَاجَهْ فخَرَّجَهُ مِن روايَةِ فُضيلِ بنِ سليمانَ، حَدَّثَنا موسَى بنُ عُقبةَ، حَدَّثَنِي إسحاقُ بنُ يَحْيَى بنِ الوليدِ، عن عُبادةَ بنِ الصامتِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ))، وهذا مِن جُملةِ صَحيفةٍ تُرْوَى بهذا الإِسنادِ، وهي مُنقَطِعةٌ مأخوذةٌ مِن كتابٍ، قالَهُ ابنُ الْمَدِينيِّ وأبو زُرْعةَ وغيرُهما، وإسحاقُ بنُ يحيَى قيلَ: هو ابنُ طَلحةَ، وهو ضعيفٌ لم يَسْمَعْ مِن عُبادةَ، قالَهُ أبو زُرعةَ وابنُ أبي حاتمٍ والدارقُطنيُّ في مَوْضِعٍ.
وقيلَ: إنه إسحاقُ بنُ يَحْيَى بنِ الوليدِ بنِ عُبادةَ، ولم يَسْمَعْ أيضًا مِن عُبادةَ، قالَهُ الدارقُطنيُّ أيضًا.

وذَكَرَهُ ابنُ عَدِيٍّ في كتابِهِ (الضُّعفاءِ) وقالَ: (عامَّةُ أحاديثِهِ غيرُ مَحفوظةٍ).
وقيلَ: إنَّ موسَى بنَ عُقبةَ لم يَسمعْ منه، وإنَّما روَى هذه الأحاديثَ عن أبي عَيَّاشٍ الأسديِّ عنه، وأبو عَيَّاشٍ لا يُعْرَفُ.
وَخَرَّجَهُ ابنُ ماجهْ أيضًا مِن وجهٍ آخَرَ مِن روايَةِ جابرٍ الْجُعْفيِّ، عن عِكرمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ))، وجابرٌ الجُعْفيُّ ضَعَّفَهُ الأكثرون، وَخَرَّجَهُ الدارقُطنيُّ مِن روايَةِ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ، عن داوُدَ بنِ الْحُصَيْنِ، عن عِكرمةَ، وإبراهيمُ ضَعَّفَهُ جماعةٌ، ورواياتُ داوُدَ عن عِكرمةَ مَناكيرُ.
وخَرَّجَ الدَّارقُطنيُّ مِن حديثِ الواقديِّ: حَدَّثنا خارجةُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ سُليمانَ بنِ زيدِ بنِ ثابتٍ، عن أبي الرِّجالِ، عن عَمرةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ))، والواقديُّ مَتروكٌ، وشيخُهُ مُختلَفٌ في تَضعيفِهِ.
وَخَرَّجَهُ الطبرانيُّ مِن وجهين ضَعيفينِ أيضًا، عن القاسمِ، عن عائشةَ.
وخرَّج الطبرانيُّ أيضًا مِن روايَةِ مُحَمَّدِ بنِ سَلَمَةَ، عن ابنِ إسحاقَ، عن مُحَمَّدِ بنِ يحيَى بنِ حِبَّانَ، عن عمِّهِ واسعِ بنِ حِبَّانَ، عن جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ في الإِسْلامِ))، وهذا إسنادٌ مُقارِبٌ وهو غريبٌ، لكن خَرَّجَهُ أبو داوُدَ في (الْمَراسيلِ) مِن روايَةِ عبدِ الرحمنِ بنِ مَغْراءَ، عن ابنِ إسحاقَ، عن مُحَمَّدِ بنِ يحيَى بنِ حِبَّانَ، عن عمِّهِ واسعٍ مُرْسَلاً، وهو أَصَحُّ.
وخَرَّجَ الدارقُطنيُّ مِن روايَةِ أبي بكرِ بنِ عَيَّاشٍ، قالَ: أُراهُ عن ابنِ عَطاءٍ، عن أبيهِ، عن أبي هُريرةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا ضَررَ وَلا ضَرُورَةَ، وَلا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى حَائِطِهِ))، وهذا الإِسنادُ فيهِ شَكٌّ، وابنُ عَطاءٍ: هو يَعقوبُ، وهو ضَعيفٌ.
ورَوَى كثيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)) قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: إسنادُهُ غيرُ صحيحٍ.
قلتُ: كثيرٌ هذا يُصَحِّحُ حديثَهُ التِّرمذيُّ، ويقولُ البخاريُّ في بعضِ حديثِهِ: هو أَصَحُّ حديثٍ في البابِ، وحَسَّنَ حديثَهُ إبراهيمُ بنُ المنذِرِ الحِزاميُّ، وقالَ: هو خيرٌ مِن مَراسيلِ ابنِ الْمُسَيِّبِ، وكذلك حَسَّنَهُ ابنُ أبي عاصمٍ، وتَرَكَ حديثَهُ آخَرُونَ، منهم الإِمامُ أحمدُ وغيرُهُ، فهذا ما حَضَرَنا مِن ذِكْرِ طُرُقِ أحاديثِ هذا البابِ.


وقد ذَكَرَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ بعضَ طُرُقِهِ تَقْوَى ببعضٍ، وهو كما قالَ، وقد قالَ البيهقيُّ في بعضِ أحاديثِ كثيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: (إذا انْضَمَّتْ إلَى غيرِها مِن الأسانيدِ التي فيها ضَعفٌ قَوِيَتْ).
وقالَ الشافعيُّ في الْمُرْسَلِ: (إنَّهُ إذا أُسْنِدَ مِن وَجهٍ آخَرَ، أو أَرْسَلَهُ مَن يَأْخُذُ العِلْمَ عن غيرِ مَن يَأْخُذُ عنه الْمُرْسَلَ الأوَّلَ، فإنَّهُ يُقْبَلُ).
وقالَ الجُوزْجانِيُّ: (إذا كان الحديثُ الْمُسْنَدُ مِن رجلٍ غيرِ مُقْنِعٍ - يعني: لا يُقْنَعُ برواياتِهِ - وشَدَّ أركانَهُ المراسيلُ بالطرُقِ المقبولةِ عند ذَوِي الاختيارِ، استُعْمِلَ واكتُفِيَ به، وهذا إذا لم يُعارَضْ بالْمُسْنَدِ الذي هو أَقْوَى منه).
وقد اسْتَدَلَّ الإمامُ أحمدُ بهذا الحديثِ، وقالَ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)).
وقالَ أبو عمرِو بنُ الصلاحِ: هذا الحديثُ أَسنَدَهُ الدارقُطنيُّ مِن وُجوهٍ، ومجموعُها يُقَوِّي الحديثَ ويُحَسِّنُهُ، وقد تَقَبَّلَهُ جماهيرُ أهلِ العِلْمِ، واحْتَجُّوا به، وقولُ أبي داوُدَ: إنَّهُ مِن الأحاديثِ التي يَدورُ الفِقْهُ عليها، يُشْعِرُ بكونِهِ غيرَ ضَعيفٍ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وفي المعنَى أيضًا حديثُ أبي صِرْمَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ))، خَرَّجَهُ أبو داوُدَ، والتِّرمِذيُّ، وابنُ ماجهْ.
وقالَ التِّرمِذيُّ: حَسَنٌ غَريبٌ.
وخَرَّج التِّرمذيُّ بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ)).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)).
هذه الروايَةُ الصحيحةُ، ضِرارَ بِغيرِ همزةٍ، ورُوِيَ ((إِضْرَارَ)) بالهمزةِ، وَوَقَعَ ذلك في بعضِ رواياتِ ابنِ ماجهْ والدارقُطنيِّ، بل وفي بعضِ نُسَخِ (الْمُوَطَّأِ)
وقد أَثْبَتَ بعضُهم هذه الروايَةَ وقالَ: يُقالُ: ضَرَّ وأَضَرَّ بمعنًى، وأَنْكَرَها آخَرونَ، وقالُوا: لا صِحَّةَ لها.
واخْتَلَفوا: هل بَينَ اللفظتينِ - أعنِي الضَّررَ والضرارَ - فَرْقٌ أمْ لا؟
فمنهم مَن قالَ: هما بمعنًى واحدٍ علَى وَجهِ التأكيدِ، والمشهورُ أنَّ بينَهما فَرْقًا.
ثم قيلَ: إنَّ الضَّررَ هو: الاسمُ، والضِّرارَ: الفعلُ، فالمعنَى أنَّ الضرَرَ نفسَهُ مُنتفٍ في الشَّرعِ، وإدخالَ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ كذلك.
وقيلَ: الضَّررُ: أن يُدْخِلَ علَى غيرِهِ ضَررًا بما يَنتفعُ هو به، والضِّرارُ: أن يُدخِلَ علَى غيرِهِ ضَررًا بما لا مَنْفَعةَ له به، كمَن مَنَعَ ما لا يَضُرُّهُ ويَتضرَّرُ به الممنوعَ، ورجَّحَ هذا القولَ طائفةٌ، منهم: ابنُ عبدِ الْبَرِّ، وابنُ الصَّلاحِ.
وقيلَ: الضَّررُ: أن يَضُرَّ بِمَن لا يَضُرُّهُ، والضِّرارُ: أن يَضُرَّ بِمَن قد أَضَرَّ به علَى وجهٍ غيرِ جائزٍ.
وبكلِّ حالٍ: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إنما نَفَى الضرَرَ والضِّرارَ بغيرِ حَقٍّ.
فأمَّا إدخالُ الضرَرِ علَى أحدٍ بِحَقٍّ، إمَّا لكونِهِ تَعَدَّى حدودَ اللَّهِ، فيُعاقَبُ بقَدْرِ جَريمتِهِ، أو كونِهِ ظَلَمَ غيرَهُ، فيَطلبُ المظلومُ مُقابَلَتَهُ بالعَدْلِ، فهذا غيرُ مُرادٍ قَطْعًا.
وإنما المرادُ: إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ، وهذا علَى نَوعينِ:
أحدُهما: أن لا يكونَ في ذلك غَرَضٌ سِوَى الضَّررِ بذلك الغيرِ، فهذا لا رَيْبَ في قُبْحِهِ وتحريمِهِ.
وقد وَرَدَ في القرآنِ النَّهيُ عن الْمُضَارَّةِ في مَوَاضِعَ منها: في الوَصِيَّةِ، قالَ اللَّهُ تعالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12].
وفي حديثِ أبي هُريرةَ المرفوعِ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، فَيُضَارُّ فِي الْوَصِيَّةِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ))، ثم تلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلَى قولِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 13 - 14]، وقد خَرَّجَهُ التِّرمِذِيُّ وغيرُهُ بمعناهُ.

وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: الإِضرارُ في الوَصِيَّةِ مِن الكبائرِ، ثم تلا هذه الآيَةَ.
والإِضرارُ في الوَصيَّةِ تارةً يكونُ بأنْ يَخُصَّ بعضَ الورثةِ بزِيادةٍ علَى فَرْضِهِ الَّذي فرَضَهُ اللَّهُ له، فيَتضرَّرَ بقيَّةُ الوَرَثَةِ بتخصيصِهِ، ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)).
وتَارةً بأن يُوصِيَ لأَِجنبيٍّ بزيادةٍ علَى الثُّلُثِ، فتَنْقُصَ حقوقُ الوَرَثَةِ، ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)).

ومتَى وَصَّى لوارثٍ أو لأَِجْنَبِيٍّ بزيادةٍ علَى الثُّلُثِ، لم يُنَفَّذْ ما وَصَّى به إلا بإجازةِ الوَرَثَةِ، وسَواءٌ قَصَدَ الْمُضارَّةَ أو لم يَقْصِدْ، وأمَّا إن قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بالوصيَّةِ لأجنبيٍّ بالثلُثِ، فإنَّهُ يَأْثَمُ بقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وهل تُرَدُّ وَصيَّتُهُ إذا ثَبَتَ ذلك بإقرارِهِ أمْ لا؟ حَكَى ابنُ عَطِيَّةَ روايَةً عن مالِكٍ أنَّها تُرَدُّ، وقيَل: إنَّهُ قِياسُ مَذْهَبِ أحمدَ.
ومنها: في الرَّجعةِ في النِّكاحِ، قالَ تعالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْروفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، وقالَ: {وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228]، فَدَلَّ ذلك علَى أنَّ مَن كان قَصْدُهُ بالرَّجعةِ الْمُضارَّةَ، فإنَّهُ آثِمٌ بذلك، وهذا كما كانوا في أوَّلِ الإِسلامِ قبلَ حَصْرِ الطَّلاقِ في ثلاثٍ يُطلِّقُ الرَّجلُ امرأتَهُ ثم يَترُكُها حتَّى تُقارِبَ انقضاءَ عِدَّتِها، ثمَّ يُراجِعُها، ثمَّ يُطلِّقُها، ويَفعلُ ذلك أبدًا بغيرِ نِهايَةٍ، فيَدَعُ المرأةَ لا مُطلَّقةً ولا مُمْسَكَةً، فأَبْطَلَ اللَّهُ ذلك، وحَصَرَ الطَّلاقَ في ثلاثِ مَرَّاتٍ.
وذَهَبَ مالكٌ إلَى أنَّ مَن راجَعَ امرأتَهُ قبلَ انقضاءِ عِدَّتِها، ثم طَلَّقها مِن غيرِ مَسيسٍ أنَّهُ إن قَصَدَ بذلك مُضارَّتَها بتطويلِ الْعِدَّةِ، لم تَستأنِف العِدَّةَ، وبَنَتْ علَى ما مَضَى منها، وإن لم يَقْصِدْ بذلك، اسْتَأْنَفَت عِدَّةً جديدةً.
وقيلَ: تَبْنِي مُطْلَقًا، وهو قولُ عطاءٍ وقَتادةَ، والشَّافعيِّ في القديمِ، وأحمدَ في روايَةٍ.
وقيلَ: تَستأنِفُ مُطْلَقًا، وهو قولُ الأكثرين، منهم: أبو قِلابةَ، والزُّهْرِيُّ، والثوريُّ، وأبو حَنيفةَ، والشَّافعيُّ في الجديدِ، وأحمدُ في روايَةٍ، وإسحاقُ، وأبو عُبيدٍ، وغيرُهم.
ومنها في الإِيلاءِ: فإنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُدَّةَ الْمُؤْلِي أربعةَ أشهرٍ إذا حَلَفَ الرجُلُ علَى امتناعِ وَطْءِ زوجتِهِ، فإنَّهُ يُضْرَبُ له مُدَّةُ أربعةِ أَشْهُرٍ، فإن فاءَ ورَجَعَ إلَى الْوَطْءِ كان ذلك تَوبتَهُ، وإن أَصَرَّ علَى الامتناعِ لم يُمَكَّنْ مِن ذلك.
وفيهِ قولانِ للسَّلَفِ والْخَلَفِ:
أحدُهما: أنَّها تُطَلَّقُ عليهِ بِمُضِيِّ هذه الْمُدَّةِ.
والثاني: أنَّهُ يُوقَفُ، فإن فاءَ وإلا أُمِرَ بالطَّلاقِ، ولو تَرَكَ الوَطءَ لقَصْدِ الإِضرارِ بغيرِ يَمِينٍ مُدَّةَ أربعةِ أَشْهُرٍ، فقالَ كثيرٌ مِن أصحابِنا: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤلِي في ذلك، وقالُوا: هو ظاهرُ كلامِ أحمدَ.
وكذا قالَ جماعةٌ منهم: إذا تَرَكَ الوَطْءَ أربعةَ أشهرٍ لغيرِ عُذْرٍ، ثم طَلَبَت الفُرقةَ، فُرِّقَ بينَهما بِناءً علَى أنَّ الوطءَ عندَنا في هذه الْمُدَّةِ واجبٌ.
واخْتَلَفوا: هل يُعتَبَرُ لذلك قَصْدُ الإِضرارِ أم لا يُعتبرُ؟
ومَذهبُ مالِكٍ وأصحابِهِ إذا تَرَكَ الْوَطْءَ مِنْ غيرِ عُذرٍ، فإنَّهُ يُفْسَخُ نِكاحُهُ، مع اختلافِهم في تَقديرِ الْمُدَّةِ.
ولو أطالَ السَّفَرَ مِنْ غيرِ عُذْرٍ، وطَلَبَت امرأتُهُ قُدومَهُ فأَبَى، فقالَ مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ: يُفرِّقُ الحاكمُ بينَهما، وقَدَّره أحمدُ بسِتَّةِ أشهرٍ، وإسحاقُ بِمُضِيِّ سَنتينِ.
ومنها في الرَّضاعِ: قالَ تعالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَولُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].
قالَ مجاهِدٌ في قولِهِ: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[البقرة: 233].
قالَ: (لا يَمْنَعُ أمَّهُ أنْ تُرْضِعَهُ ليُحْزِنَها).
وقالَ عطاءٌ وقَتادةُ والزُّهْرِيُّ وسُفيانُ والسُّدِّيُّ وغيرُهم: إِذا رضِيَتْ ما يَرْضَى به غيرُها فهي أَحَقُّ به، وهذا هو المنصوصُ عن أحمدَ، ولو كانت الأُمُّ في حِبالِ الزَّوجِ.
وقيلَ: إن كانتْ في حِبالِ الزوجِ فله مَنْعُها مِنْ إرضاعِهِ، إلا أن لا يُمْكِنَ ارْتِضَاعُهُ مِن غيرِها، وهو قولُ الشَّافعيِّ وبعضِ أصحابِنا، لكن إنَّما يَجوزُ ذلك إذا كان قَصْدُ الزوجِ به توفيرَ الزوجةِ للاستمتاعِ، لا مُجرَّدَ إدخالِ الضَّررِ عليها.
وقولُهُ: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، يَدخُلُ فيهِ أنَّ المطلَّقَةَ إذا طَلَبَتْ إرضاعَ ولَدِها بأُجْرَةِ مِثْلِها، لَزِمَ الأبَ إجابتُها إلَى ذلك، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ. هذا منصوصُ الإمامِ أحَمدَ، فإن طَلَبَتْ زيادةً علَى أُجرةِ مثلِها زيادةً كثيرةً، ووَجَدَ الأبُ مَن يُرْضِعُهُ بأُجرةِ الْمِثْلِ، لم يَلْزَمِ الأبَ إجابتُها إلَى ما طَلَبَتْ؛ لأنَّها تَقْصِدُ الْمُضارَّةَ، وقد نَصَّ عليهِ الإِمامُ أحمدُ.
ومنها في البيعِ: وقد وَرَدَ النَّهيُ عن بيعِ الْمُضْطَرِّ، خَرَّجَهُ أبو داوُدَ مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فقالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قالَ اللَّهُ تعالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ويُبايعُ الْمُضْطَرُّونَ، وقد نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعِ الْمُضْطَرِّ.
وَخَرَّجَهُ الإِسماعيليُّ، وزادَ فيهِ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ تَعُودُ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَإِلا فَلا تَزِيدَنَّهُ هَلاكًا إِلَى هَلاكِهِ))، وَخَرَّجَهُ أبو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ بمعناهُ مِن حديثِ حُذَيفةَ مَرفوعًا أيضًا.
وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ مَعْقِلٍ: (بَيْعُ الضَّرورةِ رِبًا).
وقالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أحمدُ عن بيعِ الْمُضْطَرِّ، فكَرِهَهُ، فقيلَ له: كيف هُو؟
قالَ: (يَجيئكَ وهو مُحتاجٌ، فتَبيعُهُ ما يُساوِي عشرةً بعِشرينَ).
وقالَ أبو طالبٍ: قيلَ لأحمدَ: إن رَبِحَ بالعشرةِ خمسةً؟
فكَرِهِ ذلك، وإن كان المشترِي مُسْتَرْسِلاً لا يُحْسِنُ أن يُمَاكِسَ، فباعَهُ بغَبْنٍ كثيرٍ، لم يَجُزْ أيضًا.

قالَ أحمدُ: الخِلابةُ: الْخِداعُ، وهو أن يَغْبِنَهُ فيما لا يَتغابَنُ النَّاسُ في مِثْلِهِ؛ يَبيعُهُ ما يُساوِي دِرْهمًا بخمسةٍ، ومَذهبُ مالكٍ وأحمدَ أنَّهُ يَثْبُتُ له خِيارُ الفَسْخِ بذلك.
ولو كان مُحتاجًا إلَى نقدٍ فلم يَجِدْ مَن يُقْرِضُهُ، فاشتَرَى سِلعةً بثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ في ذِمَّتِهِ، ومَقصودُهُ بَيْعُ تلك السلْعَةِ، ليَأْخُذَ ثَمَنَها، فهذا فيهِ قولانِ للسلَفِ، ورَخَّصَ أحمدُ فيهِ في روايَةٍ، وقالَ في روايَةٍ: أَخْشَى أن يكونَ مُضْطَرًّا؛ فإن باعَ السِّلعةَ مِن بائعِها له، فأَكثرُ السلَفِ علَى تحريمِ ذلك، وهو مَذهبُ مالكٍ وأبي حَنيفةَ وأحمدَ وغيرِهم.
ومِن أنواعِ الضَّرَرِ في البُيوعِ: التَّفريقُ بينَ الوالدةِ ووَلَدِها في البيعِ، فإن كان صَغيرًا، حَرُمَ بالاتِّفاقِ، وقد رُويَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ:

((مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، فإن رَضِيَت الأُمُّ بذلك، ففي جَوازِهِ اختلافٌ، ومسائلُ الضرَرِ في الأحكامِ كثيرةٌ جِدًّا، وإنما ذَكَرْنا هذا علَى وَجْهِ الْمِثالِ.
والنوعُ الثاني: أن يكونَ له غَرَضٌ آخَرُ صَحيحٌ، مِثلُ أن يَتصرَّفَ في مُلْكِهِ بما فيهِ مَصلحةٌ له، فيَتَعَدَّى ذلك إلَى ضَرَرِ غيرِهِ، أو يَمْنَعَ غيرَهُ مِن الانتفاعِ بِمُلْكِهِ تَوفيرًا له، فيَتضرَّرَ الممنوعُ بذلك.
فأمَّا الأوَّلُ وهو التصرُّفُ في مُلْكِهِ بما يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غيرِهِ: فإن كان علَى غيرِ الوجهِ الْمُعتادِ، مِثلُ أن يُؤَجِّجَ في أَرْضِهِ نارًا في يومٍ عاصفٍ، فيَحترِقَ ما يَلِيهِ، فإنه مُتَعَدٍّ بذلك، وعليهِ الضَّمانُ، وإن كان علَى الوجهِ الْمُعتادِ، ففيهِ للعُلماءِ قولانِ مَشهورانِ:
أحدُهما: لا يُمْنَعُ مِن ذلك، وهو قولُ الشَّافعيِّ وأبي حَنيفةَ وغيرِهما.
والثاني: الْمَنْعُ، وهو قولُ أحمدَ، ووَافَقَهُ مالكٌ في بعضِ الصُّوَرِ؛ فمِن صُوَرِ ذلك: أنْ يَفْتَحَ كُوَّةً في بِنائِهِ العالي مُشرِفَةً علَى جارِهِ، أو يَبْنِيَ بِناءً عاليًا يُشرِفُ علَى جارِهِ ولا يَسْتُرُهُ، فإنه يُلْزَمُ بسَتْرِهِ، نصَّ عليهِ أحمدُ، ووافَقَهُ طائفةٌ مِن أصحابِ الشافعيِّ.
قالَ الرُّويانيُّ منهم في كتابِ (الْحِلْيَةِ): يَجتهدُ الحاكمُ في ذلك، ويَمنعُ إذا ظَهَرَ له التعنُّتُ، وقَصْدُ الفسادِ، قالَ: وكذلك القولُ في إطالةِ البناءِ ومَنْعِ الشمسِ والقمرِ.
وقد خَرَّجَ الخرائطيُّ وابنُ عدِيٍّ بإسنادٍ ضعيفٍ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ مَرفوعًا حديثًا طويلاً في حقِّ الجارِ، وفيهِ: ((وَلا يَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَيَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلا بِإِذْنِهِ)).
ومنها أن يَحْفِرَ بِئْرًا بالقُربِ مِن بئرِ جَارِهِ، فيَذْهَبَ ماؤُها، فإنها تُطَمُّ في ظاهِرِ مَذهبِ مالكٍ وأحمدَ، وخَرَّجَ أبو دَاوُدَ في (الْمَراسيلِ) مِن حديثِ أبي قِلابةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَضَارُّوا فِي الْحَفْرِ، وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَ الرَّجلُ إِلَى جَنْبِ الرَّجُلِ لِيَذْهَبَ بِمَائِهِ)).

ومنها أن يُحْدِثَ في مُلْكِهِ ما يَضُرُّ بِمُلْكِ جارِهِ مِن هزٍّ أو دَقٍّ ونحوِهما، فإنه يُمْنَعُ منه في ظاهِرِ مَذهبِ مالكٍ وأحمدَ، وهو أحدُ الوُجوهِ للشافعيَّةِ.

وكذا إذا كان يَضُرُّ بالسُّكَّانِ، كما له رائحةٌ خَبيثةٌ، ونحوِ ذلك.

ومنها: أن يكونَ له مِلكٌ في أرضِ غيرِهِ، ويَتضرَّرُ صاحبُ الأرضِ بدخولِهِ إلَى أرضِهِ، فإنه يُجْبَرُ علَى إزالتِهِ ليَنْدَفِعَ به ضَررُ الدخولِ.
وخَرَّجَ أبو داوُدَ في (سُنَنِهِ) مِن حديثِ أبي جَعفرٍ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ أنه حَدَّثَ، عن سَمُرةَ بنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَضُدٌ مِن نَخْلٍ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَعَ الرَّجُلِ أَهْلُهُ، فَكَانَ سَمُرَةُ يَدْخُلُ إِلَى نَخْلِهِ، فَيَتَأَذَّى بِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُناقِلَهُ فَأَبَى، فَأَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبيعَهُ فَأَبَى، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُناقِلَهُ فَأَبَى، قالَ: ((فَهَبْهُ لَهُ وَلَكَ كَذَا وَكَذَا)) أَمْرًا رَغَّبَهُ فِيهِ، فَأَبَى، فَقالَ: ((أَنْتَ مُضَارٌّ))، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَنْصَارِيِّ: ((اذْهَبْ فَاقْلَعْ نَخْلَهُ))، وقد رُوِيَ عن أبي جَعْفَرٍ مُرْسَلاً.
قالَ أحمدُ في روايَةِ حَنْبَلٍ بعدَ أن ذُكِرَ له هذا الحديثُ: كلُّ ما كان علَى هذه الْجِهةِ، وفيهِ ضَرَرٌ يُمْنَعُ مِن ذلك، فإنْ أجابَ وإلا أَجْبَرَهُ السُّلطانُ، ولا يَضُرُّ بأخيهِ في ذلك، فيهِ مِرْفَقٌ له.
وخرَّجَ أبو بكرٍ الْخَلالُ مِن روايَةِ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عقيلٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سَلِيطِ بنِ قيسٍ، عن أبيهِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ في حَائِطِهِ نَخْلةٌ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَكَانَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ لا يَريمُها غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الحائطِ، فَأَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ النَّخْلَةِ: ((خُذْ مِنْهُ نَخْلَةً مِمَّا يَلِي الحَائِطَ مَكَانَ نَخْلَتِكَ))، قالَ: لا وَاللَّهِ، قالَ: ((فَخُذْ مِنِّي ثِنْتَينِ))، قالَ: لا وَاللَّهِ، قالَ: ((فَهَبْهَا لِي))، قالَ: لا واللَّهِ، قالَ: فَرَدَّدَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى، فَأَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُ نَخْلَةً مَكَانَ نَخْلَتِهِ.
وخَرَّجَ أبو داوُدَ في (الْمَراسِيلِ) مِن روايَةِ ابنِ إسحاقَ، عن مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ حِبَّانَ، عن عمِّهِ واسعِ بنِ حِبَّانَ، قالَ: كانَ لأَبِي لُبابَةَ عِذْقٌ فِي حَائِطِ رَجُلٍ فَكَلَّمَهُ، فَقالَ: إِنَّكَ تَطَأُ حَائِطي إِلَى عِذْقِكَ، فَأَنَا أُعْطيكَ مِثْلَهُ فِي حَائِطِكَ، وَأَخْرِجْهُ عَنِّي، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَكَلَّمَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فقالَ: ((يَا أَبَا لُبَابَةَ، خُذْ مِثْلَ عِذْقِكَ فَحُزْهَا إِلَى مَالِكَ، وَاكْفُفْ عَنْ صَاحِبِكَ مَا يَكْرَهُ))، فقالَ: مَا أَنا بِفَاعِلٍ، فقالَ: ((اذْهَبْ، فَأَخْرِجْ لَهُ مِثْلَ عِذْقِهِ إِلَى حَائِطِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ فَوْقَ ذَلِكَ بِجِدارٍ، فَإِنَّهُ لا ضَرَرَ فِي الإِسْلامِ وَلا ضِرَارَ)).
ففي هذا الحديثِ والذي قَبلَهُ إجبارُهُ علَى الْمُعاوَضَةِ حيث كان علَى شَريكِهِ أو جارِهِ ضَرَرٌ في تَرْكِهِ، وهذا مِثلُ إيجابِ الشُّفعةِ لدَفْعِ ضَرَرِ الشريكِ الطَّارئِ.
ويُسْتَدَلُّ بذلك أيضًا علَى وُجوبِ العِمارةِ علَى الشَّريكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ العِمارةِ، وعلَى إيجابِ البيعِ إذا تَعذَّرَتِ الْقِسْمَةُ، وقد وَرَدَ مِن حديثِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بكرٍ، عن أبيهِ مَرفوعًا: ((لا تَعْضِيَةَ فِي الْمِيرَاثِ إِلا مَا احْتَمَلَ الْقَسْمَ))، وأبو بكرٍ: هو ابنُ عمرِو بنِ حزمٍ، قالَهُ الإمامُ أحمدُ، فالحديثُ حينئذٍ مُرْسَلٌ، والتعْضِيَةُ: هي القِسمةُ. ومتَى تَعذَّرَتِ القِسمةُ، لكونِ الْمَقسومِ يَتضرَّرُ بقِسمتِهِ، وطَلَبَ أحدُ الشَّريكين الْبَيعَ، أُجْبِرَ الآخَرُ، وقُسِمَ الثَّمَنُ، نصَّ عليهِ أحمدُ، وأبو عُبيدٍ، وغيرُهما مِنَ الأَئِمَّةِ.
وأمَّا الثاني - وهو مَنْعُ الْجَارِ مِن الانتفاعِ بِمُلْكِهِ والارتفاقِ به - فإن كان ذلك يَضُرُّ بِمَن انْتَفَعَ بِمُلْكِهِ، فله الْمَنْعُ، كمَن له جِدَارٌ واهٍ لا يَحتمِلُ أن يُطْرَحَ عليهِ خشَبٌ، وأمَّا إن لم يَضُرَّ به، فهل يَجِبُ عليهِ التمكينُ ويَحْرُمُ عليهِ الامتناعُ أم لا؟ فمَن قالَ في القِسْمِ الأَوَّلِ: لا يُمْنَعُ المالِكُ مِنَ التَّصرُّفِ في مُلْكِهِ، وإن أَضَرَّ بجارِهِ، قالَ هنا: للجارِّ الْمَنْعُ مِنَ التَّصرُّفِ في مُلْكِهِ بغيرِ إذنِهِ، ومَن قالَ هناك بالْمَنْعِ،فاختَلَفُوا ها هنا علَى قَوْلَيْنِ:

أحدُهما: الْمَنْعُ ها هنا، وهو قولُ مالِكٍ.

والثاني: أنه لا يَجوزُ الْمَنْعُ، وهو مَذهبُ أحمدَ في طَرْحِ الْخَشَبِ علَى جِدارِ جارِهِ، ووَافَقَهُ الشافعيُّ في القديمِ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وداوُدُ، وابنُ الْمُنْذِرِ، وعبدُ الملِكِ بنُ حَبيبٍ المالكيُّ، وحكاهُ مالكٌ عن بعضِ قُضاةِ المدينةِ.
وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِهِ)).
قالَ أبو هُريرةَ: (ما لي أراكم عنها مُعرِضينَ، واللَّهِ لأََرمِيَنَّ بها بَيْنَ أكتافِكُم).
وقَضَى عمرُ بنُ الْخَطَّابِ علَى محمَّدِ بنِ مَسلمةَ أن يُجْرِيَ ماءَ جارِهِ في أَرْضِهِ، وقالَ: لَتَمُرَّنَّ به ولو علَى بَطْنِكَ.
وفي الإجبارِ علَى ذلك روايتانِ عن الإمامِ أحمدَ، ومَذهبُ أبي ثَوْرٍ الإجبارُ علَى إجراءِ الماءِ في أرضِ جارِهِ إذا أَجراهُ في قَنًى في باطنِ أَرْضِهِ، نَقَلَهُ عنه حربٌ الْكِرْمَانيُّ.
ومما يُنْهَى عن مَنْعِهِ للضَّررِ:

منعُ الماءِ والكَلأَِ، وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلأََ)).
وفي (سُننِ أبي دَاوُدَ) أنَّ رَجُلاً قالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قالَ: ((الْمَاءُ))، قالَ: يَا نَبيَّ اللَّهِ، ما الشيءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قالَ: ((الْمِلْحُ))، قالَ: ما الشيءُ الذي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قالَ: ((أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ)).

وفيهِ أيضًا: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلأَِ)).
وذَهَبَ أكثرُ العُلماءِ إلَى أنَّهُ لا يُمنَعُ فضلُ الماءِ الجاري والنَّابعِ مُطْلَقًا، سواءٌ قيلَ: إنَّ الماءَ مِلْكٌ لِمَالِكِ أرضِهِ أمْ لا، وهذا قولُ أبي حَنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي عُبيدٍ، وغيرِهم.
والمنصوصُ عن أحمدَ وجوبُ بذلِهِ مَجَّانًا بغيرِ عِوَضٍ للشُّربِ، وسَقْيِ البهائمِ، وسَقْيِ الزروعِ، ومَذهبُ أبي حَنيفةَ والشافعيِّ: لا يَجِبُ بذلُهُ للزُّروعِ.
واخْتَلَفُوا: هل يَجِبُ بَذْلُهُ مُطْلَقًا، أو إذا كان بقُرْبِ الْكَلأَِ، وكان مَنْعُهُ مُفْضِيًا إلَى مَنْعِ الكلأِ؟
علَى قولينِ لأصحابِنا وأصحابِ الشافعيِّ.
وفي كلامِ أحمدَ ما يَدُلُّ علَى اختصاصِ الْمَنْعِ بالقُرْبِ مِن الكلأِ.
وأَمَّا مَالِكٌ، فلا يَجِبُ عندَهُ بذلُ فَضْلِ الماءِ الْمَملوكِ بِمِلْكِ مَنْبَعهِ ومَجراهُ إلا للمُضْطَرِّ كالْمَحازِ في الأَوعيَةِ، وإنما يَجِبُ عندَهُ بذلُ فَضْلِ الماءِ الذي لا يُمْلَكُ.
وعندَ الشافعيِّ: حُكْمُ الكلأِ كذلك يَجوزُ مَنْعُ فضلِهِ إلا في أرضِ المَوَاتِ.
ومَذهبُ أبي حَنيفةَ، وأحمدَ، وأبي عُبيدٍ: أنَّهُ لا يُمْنَعُ فضلُ الكلأِ مُطْلَقًا، ومنهم مَن قالَ: لا يَمْنَعُ أحدٌ الماءَ والكلأَ إلا أهلُ الثغورِ خَاصَّةً، وهو قولُ الأوزاعيِّ؛ لأنَّ أهلَ الثُّغورِ إذا ذَهَبَ ماؤُهم وكَلَؤُهم لم يَقْدِرُوا أن يَتَحَوَّلوا مِن مَكانِهم مِن وراءِ بَيضَةِ الإِسلامِ وأهلِهِ.

وأمَّا النَّهيُ عن مَنْعِ النارِ، فحَمَلَهُ طائفةٌ مِن الفُقهاءِ علَى النَّهيِ عن الاقتباسِ منها دُونَ أعيانِ الْجَمْرِ، ومِنهم مَن حَمَلَهُ علَى مَنْعِ الحجارةِ الْمُورِيَةِ

للنَّارِ، وهو بعيدٌ، ولو حُمِلَ علَى مَنْعِ الاستضاءةِ بالنَّارِ وبَذْلِ ما فَضَلَ عن حاجةِ صاحبِها لِمَنْ يَستدفئُ بها، أو يُنْضِجُ عليها طعامًا ونحوَهُ، لم يَبْعُدْ.
وأمَّا الْمِلْحُ فلعلَّهُ يُحْمَلُ علَى مَنْعِ أَخْذِهِ مِنَ الْمَعادِنِ الْمُباحَةِ؛ فإنَّ الْمِلحَ مِنَ الْمَعادِنِ الظَّاهِرةِ، لا يُملَكُ بالإِحياءِ ولا بالإِقطاعِ، نصَّ عليهِ أحمدُ.
وفي (سُننِ أبي دَاوُدَ) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ رَجُلاً المِلْحَ، فَقيلَ لَهُ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّهُ بِمَنزِلةِ الماءِ الْعِدِّ، فانْتَزَعَهُ منه.

ومما يَدْخُلُ في عمومِ قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ)) أنَّ اللَّهَ لم يُكَلِّفْ عِبادَهُ فِعْلَ ما يَضُرُّهم ألْبَتَّةَ؛ فإنَّ ما يَأْمُرُهم به هو عينُ صلاحِ دينِهم ودُنياهم، وما نَهاهُم عنه هو عينُ فَسادِ دينِهم ودُنياهم، لكنه لم يَأْمُرْ عِبادَهُ بشيءٍ هو ضارٌّ لهم في أبدانِهم أيضًا، ولهذا أَسقطَ الطَّهارةَ بالماءِ عن المريضِ، وقالَ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
وأَسقطَ الصيامَ عن المريضِ والمسافِرِ، وقالَ: {يُريِدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وأَسْقَطَ اجتنابَ مَحظوراتِ الإِحرامِ، كالْحَلْقِ ونحوِهِ عمَّن كان مَريضًا، أو به أَذًى مِن رأسِهِ، وأَمَرَ بالْفِديَةِ.
وفي (المسنَدِ) عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: قيلَ لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: أيُّ الأديانِ أحبُّ إلَى اللَّهِ؟ قالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)).
ومِن حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ)).
ومِن هذا المعنَى ما في (الصحيحين) عن أَنَسٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَمْشِي، قيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ ماشيًا، فقالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهِ، فَلْيَرْكَبْ))، وفي روايَةٍ: ((إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ)).
وفي (السُّنَنِ) عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ، أنَّ أُختَهُ نَذَرَتْ أن تَمْشِيَ إلَى البيتِ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا فَلْتَرْكَبْ)).
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في حُكْمِ مَن نَذَرَ أن يَحُجَّ ماشيًا، فمِنهم مَن قالَ: لا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وله الرُّكوبُ بكلِّ حالٍ، وهو روايَةٌ عن أحمدَ والأوزاعيِّ.
وقالَ أحمدُ: يَصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ.
وقالَ الأوزاعيُّ: عليهِ كَفَّارةُ يَمينٍ، والمشهورُ أنه يَلْزَمُهُ ذلك إن أطاقَهُ، فإن عَجَزَ عنه.
فقيلَ: يَرْكَبُ عندَ العَجْزِ، ولا شيءَ عليهِ، وهو أحدُ قَوْلَيِ الشَّافعيِّ.
وقيلَ: بل عليهِ - مع ذلك - كَفَّارةُ يَمينٍ، وهو قولُ الثَّوريِّ وأحمدَ في روايَةٍ.

وقيلَ: بل عليهِ دمٌ، قالَهُ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ، منهم: عطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والحسَنُ، واللَّيثُ، وأحمدُ في روايَةٍ.
وقيلَ: يَتصدَّقُ بكِراءِ ما رَكِبَ، ورُوِيَ عن الأوزاعيِّ، وحَكاهُ عن عطاءٍ.
ورُوِيَ عن عَطاءٍ: يَتصدَّقُ بقَدْرِ نَفقتِهِ عندَ البيتِ.

وقالَتْ طائفةٌ مِن الصَّحابةِ وغيرِهم: لا يُجْزِئُهُ الرُّكوبُ، بل يَحُجُّ من قابِلٍ، فيَمْشِي ما رَكِبَ، ويَركبُ ما مَشَى، وزاد بعضُهم:

وعليهِ هَدْيٌ، وهو قولُ مالكٍ إذا كان ما رَكِبَهُ كثيرًا.

وممَّا يَدْخُلُ في عمومِهِ أيضًا:
أنَّ مَن عليهِ دَيْنٌ لا يُطالَبُ به مع إعسارِهِ، بل يُنْظَرُ إلَى حالِ إيسارِهِ، قالَ تعالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وعلَى هذا جمهورُ العلماءِ خِلافًا لشُريحٍ في قولِهِ: إنَّ الآيَةَ مُختصَّةٌ بدُيونِ الرِّبا في الجاهليَّةِ، والجمهورُ أَخَذُوا باللَّفظِ العامِّ، ولا يُكلَّفُ الْمَدِينُ أن يَقْضِيَ مما عليهِ في خُروجِهِ مِن مِلْكِهِ ضَرَرٌ، كثيابِهِ ومَسكنِهِ الْمُحْتَاجِإليهِ، وخادِمِهِ كذلك، ولا ما يَحتاجُ إلَى التجارةِ به لِنفقتِهِ ونَفقةِ عِيالِهِ، هذامَذهبُ الإِمامِ أحمدَ.

هيئة الإشراف

#7

20 Nov 2008

شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (

القارئ:
(وعن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني مسنداً، ورواه مالك في (الموطأ) مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضاً.

الشيخ:
هذا الحديث وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاماً كثيرة وقاعدةً من قواعد الدين عظيمة.
ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه؛ هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال، وقد أشار لك النووي _رحمه الله_ إلى بعض هذا الاختلاف والصواب أنه حديث حسن كما قال النووي -رحمه الله تعالى- لكثرة شواهده، والإرسال فيه لا يُعلُّ الوصل، لأنَّ لكل منهما جهة بما هو معروف في علل الحديث وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل.

قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقوله: ((لاضرر)) (لا) هنا نافية للجنس ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطاً على شيء، وقد تسلَّط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر؟

((لا)) النافية للجنس تطلبُ خبراً -كما هو معلوم- وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيراً إذا كان خبرها معلوماً يعني إذا كان يُدرك فلا يُذكر اختصاراً للكلام فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عِدة أحاديث كقوله مثلاً: (لا عَدوْى ولا طيرة ولا هَامة ولا صَفَر ولا نوء ولا غول..) كلُّ هذه أين أخبارها؟ الخبر غير مذكور، (لاإله إلا الله) خبر (لا) النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر كما قال ابن مالك في (الألفية)في آخر باب (لا) النافية للجنس:

وشاع في ذا البابِ إسقاط الخبر = إذا المرادُ مع سقوطه ظهر

فهنا يَشيع إسقاط خبر (لا) النافية للجنس إذا كان المُرادُ معلوماً، إذا تقررّ هذا فما المراد هنا؟ المراد أنهُ لا ضرر في الشرع، لا ضَرر كائن في الشريعة.
وهذا النفي مُنصب على جهتين:

جهة العبادات.
وجهة المعاملات وما بعدها.

أمّا جهة العبادات فإن الشريعة لم يأتِ فيها عبادة يحصلُ بها للمرء ضرر، فإذا: لاَ ضَررَ في الشرع يعني أنَّ الضَّرر منتف شرعاً فيما شُرِع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يُشرعْ لنا شيء فيه ضَرر على العبد، ولا مُضارَّة على العبد فمثلاً إذا نظرت: المريض يُصلي قائماً فإن تضررَ بالقيام صلى قاعداً، يتطهر بالماء فإن كان الماء يضرهُ ينتقل منه إلى التراب، وهكذا في أشياء متنوعة.

فإذاً هذا القسم الأول: أن الضَّرر منتفٍ شرعاً؛وانتفاؤهُ في العبادات بأنهُ لم تُشْرع عبادة فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضَّرر جاء التخفيف.
والقسم الثاني: نفىُ الضَّرر شرعاً في أمور المعاملات، والأمور الاجتماعية من النكاح وتوابعه… إلخ، وهذه كلُّها أيضاً في تشريعات الإسلام نُفِيَ فيها الضَّرر من جهة التشريع، فقال -جل وعلا- مثلاً في:
بيان العلاقة الزوجية قال: {ولا تمسكوهنّ ضِراراً لتعتدوا}.

وقال في الرضاعة: {لا تُضارَّ والدةٌ بولدها ولا مولود له بولده}
وقال-جل وعلا- في الوصية: {من بعد وصيةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضار} فإذاً في أحكام الشريعة جاء نفى الضَّررِ في نفس الأحكام وهذا من جهة الشارع.
النوع الثاني من القسم الثاني يعني في المعاملات: أنّه طُلب بهذا النص نفي الضّرر والضرار من العباد؛ يعني أن العبد أيضاً إذْ نُفي وجودُ الضَّرر والضرار شرعاً فهم أيضاً لا يجوزُ لهم أن يسْعَوْا في الضرر ولا في الضرار لأنَّ هذا منفي شرعاً فتحصَّل لنا أنّ دخول هذا النفي: (لاضرر ولا ضرار) في المعاملات رَجع إلى جهتين:

الجهة الأولى: جهة التشريع.
والجهة الثانية: جهة المكلف، فالمكلف لا يسعى في شيء فيه ضَرر ولا ضِرار؛ لأنَّ الله -جل وعلا- نفى وجود الضّرر شرْعاً بقول المُصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لاضرر ولاضِرار)).
إذا تبين هذا فما معنى الضرر وما معنى الضرار؟

اختلفت عبارات العلماء في ذلك وفي الفرق بين الضَّرر والضرار.
فمنهم من قال أن الضَّرر والضرار واحد لكن كُرر للتأكيدِ، فالضرر والضرار بمعنى واحد: وهو إيصال الأذى للغير.

وقال آخرون من أهل العلم الضَّرر والضرار مختلفان فالضَّرر هو الاسم والضرار هو الفعل، يعني: نفى وجود الضرر ونفى فعل الضرر. فيكون على هذا القول:
الأول: متجه إلى الشرع بنفي الضَّرر في الشريعة.

والثاني: متجه إلى المكلف فلا فعْلَ للضَّرر والإضرار مأذونٌ به شرعاً، ويؤيَّدُ هذا بأنه جاء في بعض الروايات: (لاضَرَر ولا إضرار) يعني بالغير.
وقال آخرون من أهل العلم -وهو، القول الثالث-: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير بما فيه منفعة للموصِل، والضِّرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه، يعني أن الضرّر على هذا القول هو أن تُضر بأحدٍ لكي تنتفع فإذا وصله ضرر أذى معين انتفعت أنت بذلك إمَّا في الأمور المالية أو غيرها، والنوع الثاني الذي هو الضِّرار: أن توصل الأذى -نسألُ الله العافية- دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة: ابن الصلاح وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلمِ، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور منها: أنَّ فيه تفريقاً بين الضَّرر والضَّرار والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.

والثاني: أنّ لفظ الضَّرر يختلف عن لفظ الضرار في أنَّ الضَّرر ظاهر منه أنَّ الموصل لهذا الضَّرر منتفع به.
وأمَّا المُضار بالشيءِ فإنَّهُ غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا أيضاً -من جهة اللغة- بيِّن، ومنها أيضاً -يعني ممَّا يَترجَّح به هذا المعنى- أنَّ الأفعال مختلفة ولا ضَرر ولا ضِرار إذا انتفى في الشرع يعني أنه لن يصل الأذى إلى المكلف أو نُفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعاً وهذا يتضح مع تقسيم يأتي، وإذا قلنا إنه لا ضرر في الشريعة، أي يَصلُ أذى لأحد لانتفاع المؤذي فإن الله -جل وعلا- لا ينتفع بأذى عباده بل هو سبحانه يبتليهم لحكمةٍ يعلمها -جل وعلا-.

فالضَّرر منفي في التشريع وكذلك الإضرار أيضاً منفي في التشريع.
إذا تقرر هذا فإنَّ الضَّرر والضِّرار يعني في عدم اعتباره فيما يدخُل في فعْل المكلف على قسمين:
الأول: أنَّ المكلَّف يُدخِل الضَّرر على غيره وهو لا ينتفع بهذا الإدخال يعني يكون مضارّاً على التعريف هذا، وهذا بإجماع أهل العلم أنه لا يجوز ومحرم يعني أن يضرَّ غيره بما لا نفع له فيه وهو المُضارَّة على تعريفنا وهو الضرار، وهذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة.

الثاني: أن يُدخلَ الضَّرر على مكلَّف آخر على وجه ينتفعُ هو، منه وهذا اختلف فيه العلماء هل يسوغُ مِثلُ هذا أم لا يسوغ؟

فمنهم: من قال إنَّ الحديث دلَّ على أنَّه لا يجوز الضَّرر فإذا أدخل على غيره ضَرراً على وجه ينتفع هو منه فإنَّه دلَّ الحديث على انتفائه فيعني أنَّ هذا غير معتبر، وهذا مذهبُ جماعةٍ من أهل العلم منهم أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- قالوا إن إدخال الضَّرر على أي مسلم ولو لك فيه انتفاع فإنَّه لا يجوز ويجبُ إزالةُ الضَّرر ووجود الضَّمان لو حصل ما يوجبه، مثاله: أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجارُ يتضرر من فتح هذه النوافذ لأنه بها يَطَّلِعُ الجَارُ على حُرُماتِ جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع لأنه قد دخل الضَّرر على الغير، مثلاً: يحتاج إلى أن يعمل شيئاً في بيته يشب ناراً لغرض من الاغراض يتأذى بها جاره، فهذا ضَرر دخل على الجار وصل إليه أذى؛ وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء، هذا الضَّرر منتف ويجبُ رَفعهُ وإذا اشتكى الجار جاره عند القاضي أمره بإزالة ما يلحقه من أذى.

والقول الثاني -وهو قول الإمام أحمد، ووافقه الإمام مالك في بعض المسائل- أنَّ إيصال الضَّرر للغير ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يكون معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة.

والثاني: ألاّ يكون معتاداً والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة فيجوز أن يفعله؛ لأنَّ الناس لا يُمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثَمَّ أذى يُصيبُ الآخر منه، يبني لابد أنه يشب ناراً ويعمل أشياء.. يصل لو رائحة كريهة للآخر؛ لكن هذا شيء معتاد لابدَّ منه، يريد أن يعمر مثلاً بجانب جاره لابد أنه من الصباح وهم يضربون، حتى يتأذى الجار ولا يستطيع الجار أن ينام صباحاً من جرَّاءِ العمل، فهذا عمل معتاد، ومثلُ هذا ولو وصل الضَّرر عند هذا غيرُ منفيِّ لأنَّهُ لا تصلحُ أمُورُ الناس إلا بهذا.
وأمَّا إذا كان إيصال الضَّرر غير معتادٍ في أمرٍ لا مصلحة لك فيه وغير معتاد فإنَّهُ يجبُ إزالتهُ في أشياء كثيرة من الأمثلة مثل ما ذكرنا -سابقاً- الأبواب والشبابيك على الجار؛ عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية.. إلخ، فلا يمنع منه وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملاً يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد فإنه لا يُقر عليه مثل أن يحفر قليباً بجنب قليب صاحِبه فَسَحَبت الماء عليه، والماء لِمن سبق، فهذا يؤمر المتأخر بأن يُزيل هذا الضرر لأنهُ غير معتاد ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأنَّ مصلحة الأول متقدمة عليه، مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته أو يبني فيذهب ويأتي بـ(ديناميت) مثلاً أو بأشياء يتضَّرر معها بيت المجاور بتهدُّمِ بَعْضِه أو بخَلَلٍ في أركانه أو في أسسه أو ما أشبه ذلك فهذا مما لا يكون معتاداً فيُمنع منه وهذا القول؛ قول الإمام أحمد هو التحقيق وهو الصواب؛ لأنَّ العمل جرى عليه، ولأنَّ مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، والبحث في هذا يطول لأنه قاعدة عظيمة يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعيه مثل النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصّل لنا من هذا أنَّ الضَّرر والضِّرار مختلفان وأن هذا له معنى وهذا له معنى، وأنَّه منتفٍ الضَّرر والضرار في التشريع وكذلك يجبُ على العباد أن لا يَضر بعضهم بعضاً، وأنَّ الضَّرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة؛ فهذا لا يجوز باتفاق، والضِّرار الذي لا مصلحة للعبد فيه ولم تجرِ به العادة فهذا أيضاً منفي وأمَّا ما يحصُلُ به نوعُ أذى مع بقاء المصلحة وجَريان العادة بذلك فإنه لا يُنفى شرعاً ولا يجبُ به إزالةُ الضرار.

هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة لأنه داخل أيضاً ضمن قاعدة فقهية وهي: "الضرر يزال" ولها تفريعات كثيرة ربما مر معكم بعضها.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

20 Nov 2008

الكشاف التحليلي


حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -مرفوعاً-: (لا ضرر ولا ضرار)
* تخريج الحديث
* ترجمة الراوي
* درجة الحديث
* منزلة الحديث
* موضوع الحديث
* المعنى الإجمالي للحديث
* ذكر بعض الأحاديث في معنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)
* مفردات الحديث
* (لا) نافية للجنس
* معنى النفي في الحديث
* تقدير خبر (لا)
* بيان معنى (الضرر)
* بيان معنى (الضرار)
* الفرق بين (الضرر) و(الضرار)
* روايات الحديث
* تصحيح رواية (ضرار) على رواية (إضرار)
* مسائل الحديث
* موارد نفي الضرر في الأحكام:
المورد الأول: العبادات
المورد الثاني: المعاملات
* نفي الضرر في الأحكام راجع إلى جهتين:
الجهة الأولى: جهة التشريع
لم يكلف الله تعالى عباده ما يضرهم ويحرجهم
الجهة الثانية: جهة المكلف
متى لزم الضرر ووجدت المشقة على المكلف خفف عنه الحكم
* أنواع إلحاقِ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ:
النوع الأول: أن لا يقصد إلا إلحاق الضرر بغيره
حكم النوع الأول: محرم قبيح لا ريب في قبحه وتحريمه
أدلة تحريمه
أمثلة النوع الأول
النوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، ويلزم منه إلحاق الضرر بغيره
التفصيل في حكم النوع الثاني
أمثلة النوع الثاني
* أقسام إلحاق الضَّرر بالمعصوم:
القسم الأول: أن يكون معتاداً والمصلحةُ فيه ظاهرة
حكم القسم الأول
مثال القسم الأول
القسم الثاني: ألاّ يكون معتاداً والمصلحة فيه غير ظاهرة
حكم القسم الثاني
مثال القسم الثاني
* ذكر بعض صور الإضرار:
1- الإِضرارُ في الوصيَّةِ لِحِرْمَانِ الوَرَثَةِ
2- الرَّجْعَةُ بغير نية الإمساك بالمعروف
3- الإِيلاءُ بأكثر من المدة المحددة شرعاً
إذا امتنع الرجل عن وطء أهله بعد انتهاء مدة الإيلاء فهل يلزم بالطلاق؟
4- الإضرار بالجَارِ، ومن أمثلته:
- أن يحفر بئراً بالقرب من بئر جاره
- أن يحدث في ملكه ما يضر جاره
- أن يكون له ملك منقول في أرض جاره فيتأذى جاره بذلك
- أن يمنع جاره من الانتفاع بملكه والارتفاق به
- أن يمنع جاره فضل الماء الجاري والنابع
5- التفريق بين الوالدة وولدها الرقيقين
* مسائل متفرقة:
- حكم من نذر أن يحج ماشياً
- حكم بيع المضطر
- حكم إنظار المعسر
* ذكر بعض القواعد الأصولية المتفرعة عن هذا الحديث:
1 - الضرر يدفع بقدر الإمكان
2 - الضرر يزال
3 - الضرر لا يزال بمثله
4 - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
5 - يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام
6 - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
7 - إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع
8 - الضرر لا يكون قديمًا
* من فوائد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
- يُسْرُ الإِسلامِ وسماحة تعاليمه
- النهيُ عَن الضرار
- فَضْلُ دَفْعِ الأَذَى
- الأمر بالعدل
- ورود النهي بصيغة النفي
- أن أحكام الشريعة لا تتضمن ضرراً ولا تقر الضرار

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

20 Nov 2008

العناصر


حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -مرفوعاً-: (لا ضرر ولا ضرار)
تخريج الحديث
ترجمة الراوي
درجة الحديث
منزلة الحديث
موضوع الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
ذكر بعض الأحاديث في معنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)
مفردات الحديث
(لا) نافية للجنس
معنى النفي في الحديث
تقدير خبر (لا)
بيان معنى (الضرر)
بيان معنى (الضرار)
الفرق بين (الضرر) و(الضرار)
روايات الحديث
تصحيح رواية (ضرار) على رواية (إضرار)
مسائل الحديث
موارد نفي الضرر في الأحكام: في العبادات والمعاملات
نفي الضرر في الأحكام راجع إلى جهتين: جهة التشريع، وجهة المكلف
أنواع إلحاقِ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ
أقسام الضرر اللاحق بالمعصوم
ذكر بعض صور الإضرار
مسائل متفرقة:
حكم من نذر أن يحج ماشياً
حكم بيع المضطر
حكم إنظار المعسر
ذكر بعض القواعد الأصولية المتفرعة عن هذا الحديث

من فوائد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه