30 Oct 2008
ح35: حديث أبي هريرة: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا...) م
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
35- عَنْ أَبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُم عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقوَى هَهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِه ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
ترجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ: تقدَّمَتْ في الحديثِ التَّاسِعِ.
الشَّرحُ:
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَحَاسَدُوا))
: وَلاَ يَتَمَنَّ بَعْضُكُمْ زَوَالَ نِعْمَةِ بَعْضٍ؛ لأَنَّ ذَلِكَ
يُوجِبُ الاعْتِرَاضَ عَلى اللهِ فِيمَا قَسَمَ بِحِكْمَتِهِ وَقَضَى،
وَيُثِيرُ العَدَاوَةَ والغِيبَةَ والنَّمِيمَةَ، وَيُوقِعُ صَاحِبَهُ في
الهَمِّ والغَمِّ، فالحاسِدُ مُعَذَّبٌ بِحَسَدِهِ، وَالْمَحْسُودُ
مُنَعَّمٌ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ. ((وَلاَ تَبَاغَضُوا)):
وَلاَ يُبْغِضْ بَعْضُكُم بَعْضًا، أَوْ لا تَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ
التَّبَاغُضَ؛ فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ مَفَاسِدُ جَمَّةٌ في
الدُّنيا، وَوَبَالٌ في العُقْبَى. ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)) بِأُخُوَّةِ الإِسْلاَمِ، وَمُرَاعَاتُهَا أَوْكَدُ من أُخُوَّةِ الأَنْسَابِ، (لاَ يَظْلِمُهُ) بِنَفْسِهِ بِوَجْهٍ مَا، (وَلاَ يَخْذُلُهُ) أَيْ: لا يَتْرُكُ نَصْرَهُ إِنْ رَآهُ مَظْلُومًا، (وَلاَ يَكْذِبُهُ) مِنَ التَّكْذِيبِ، أَيْ: لا يَنْسِبُهُ إلى الكَذِبِ، إذا صَدَقَ فِي كَلاَمِهِ.
((وَلاَ تَنَاجَشُوا)): ولا يَنْجُشْ بَعْضُكُم لِبَعْضٍ.
والنَّجَشُ في اللُّغَةِ: الخَدِيعَةُ.
وفي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ في الثَّمَنِ المَدْفُوعِ في العُرُوضِ للبَيْعِ، لِيَغُرَّ غَيْرَهُ وَيَخْدَعَهُ، وهُوَ حَرَامٌ.
((وَلاَ تَدَابَرُوا)):
وَلاَ يُعْرِضْ بَعْضُكُمْ عَنْ بعضٍ، بَلْ يُقْبِلُ بَعْضُكُمْ إلى
بَعْضٍ بِوُجُوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ وَقُلُوبٍ عَنِ الحِقْدِ وَالعَدَاوَةِ
مُطَهَّرَةٍ، وَأَلْسِنَةٍ حُلْوَةٍ. ((وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ))،
بأَنْ يَقُولَ أَحَدُكُمْ لِمَنْ سَاوَمَ بائِعًا مَتَاعَهُ: اتْرُكْنَا
وَأَنَا أَبِيعُكَ مِثلَ مَا تُريدُ بِأَرْخَصِ الثَّمَنِ، أَوْ يَقُولَ
لِمَنَ أَرَادَ بَيْعَ مَتَاعِهِ مِنْ رَجُلٍ: اتْرُكْنَا وَأَنَا
أَشْتَرِي مِنْكَ بِأَعْلَى الثَّمَنِ.
وكلُّ ذَلِكَ يُنَافِي أُخُوَّةَ الإِسْلامِ؛ إذِ المُؤْمِنُ يُحِبُّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ))
أَيْ: تَعَامَلُوا مَعَ اللهِ مُعَامَلَةَ العُبُودِيَّةِ الصِّرْفَةِ،
بِأَنْ تَأْخُذُوا بِمَأْمُورَاتِهِ وَتَدَعُوا مَنْهِيَّاتِهِ، وَتَقِفُوا
عندَ حُدُودِهِ، وَتَحَبَّبُوا إليهِ بِمَا يُوجِبُ حُبَّهُ وَيُبْعِدُ
عَنْ غَضَبِهِ، بِتَرْكِ مَا يُوجِبُهُ.
((إِخْوَانًا))
وَلْيُعَامِلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مُعَامَلَةَ الأُخُوَّةِ الصَّادِقَةِ
بأَنْ يُرِيدَ لَهُ مِنَ الخيرِ مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ
مِنَ السُّوءِ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَكُونُ الإنسَانُ هَكَذَا
إلاَّ إذَا ذَهَبَتْ عَنْهُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَغَلَبَ عليهِ النِّسْبَةُ
الرَّبَّانِيَّةُ.
أَوْ مِنَ الْكَذِبِ: أَيْ: لا يَتَكَلَّمُ مَعَهُ بَكَذِبٍ.
((وَلاَ يَحْقِرُهُ)) وَلاَ يُعَظِّمُ نَفْسَهُ عَلَيهِ.
أَصلُ ((التَّقْوَى)) الذي يُوجِبُ الْكَرَامَةَ عندَ اللهِ تَعَالى على قَدْرِ مَرَاتِبِهِ، كائِنًا ((هَا هُنَا)) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
((بِحَسْبِ امْرِئٍ)) أَيْ: يَكْفِيهِ (مِنَ الشَّرِّ) إنْ كَانَ طَالِبَهُ، (أَنْ يَحْقِرَ) تَحْقِيرُهُ (أَخَاهُ المُسْلِمَ)، قالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجُرَات: 13]
وَالتَّقْوَى أَمْرٌ مُبَطَّنٌ، لاَ يَطَّلِعُ عليهِ كَمَا يَنْبَغِي،
إلاَّ اللهُ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، فَكَمْ مِنْ دَنِيٍّ في الظَّاهِرِ عِندَ
اللهِ مِنَ المُكْرَمِينَ، وكَمْ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ النَّاسِ وعِنْدَ
اللهِ منَ المُهَانِينَ.
فَيَنْبَغِي للعاقلِ أَنْ لا يَحْقِرَ عَبِيدَ رَبِّهِ، بَلْ يَرَى نَفْسَهُ أَحْقَرَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ.
فإنْ
قُلْتَ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَحْقَرَ مِنْ أَهلِ البِدَعِ
والعِصْيَانِ والكُفْرَانِ، مَعَ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ بالسُّنَّةِ
والطَّاعَةِ والإيمانِ، وَأَهَانَهُمْ بِأَضْدَادِهَا؟
قُلْتُ:
يُحْتَمَلُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ المُبْتَدِعَ سُنِّيًّا، وَالْعَاصِيَ
مُطِيعًا، والكَافِرَ مُسْلِمًا، وَيَرْزُقُهُم حُسْنَ الخَاتِمَةِ،
وَيَرْزُقُ هذَا سُوءَ الخَاتِمَةِ، وَيَقْلِبُهُ مِنَ الخيرِ إلى
الضُّرِّ؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، وَالْخَلْقَ خَلْقُهُ، والقُلوبَ في
يَدِهِ، والأمرَ إليهِ.
ألاَ تَرَى كَيْفَ تَرَدَّى إِبْلِيسُ مِنْ أهلِ الْعِلِّيِّينَ وَجَعَلَهُ أَسْفَلَ السَّافِلِينَ؟
((كُلُّ الْمُسْلِمِ)) أَيْ: المُسْلِمُ بِجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بهِ (عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ) قَتْلُهُ مِنْ غَيرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ حَرَامٌ عليهِ، (وَ) أَخْذُ (مَالُهُ) بِغَيْرِ الحَقِّ، حَرَامٌ عليهِ (وَ) التَّكَلُّمُ في (عِرْضِهِ) مِنْ غَيْرِ مُجَوِّزٍ شَرْعِيٍّ حَرَامٌ عليهِ.
وَ
قدْ تَرَكَ غَالِبُ الخَلْقِ العَمَلَ بِهِ، فكَمْ مِنْ أَنْفُسٍ تُقْتَلُ
ظُلْمًا، وَأَمْوَالٍ تُؤْخَذُ طُغْيَانًا وَغَصْبًا، وَأَعْرَاضٍ تُهْتَكُ
عُدْوَانًا، وَاللهُ الحَافِظُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ الخامسُ وَالثلاثونَ
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا
تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا
يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا
يَخْذُلُهُ، وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا
-وَيُشِيرُ إِلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ
أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. موضوعُ الحديثِ: الأخلاقُ الإِسلاميَّةُ وَحُقُوقُ المُسْلِمِ.
المفرداتُ: ((لا تَحَاسَدُوا)): أَصْلُهَا لا تَتَحَاسَدُوا، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ تَخْفِيفاً.
وَالحَسَدُ:
هوَ تَمَنِّي زَوَالِ النعمةِ عَن الغيرِ، وَهوَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ اتَّصَفَ
بهِ الشيطانُ وَابنُ آدَمَ وَاليهودُ وَالمنافقونَ، وَسَبَبُهُ الغضبُ
وَالحقدُ، وَضَرَرُهُ على صَاحِبِهِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِهِ على الغيرِ،
وَعَوَاقِبُهُ وَخِيمَةٌ؛ فهوَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ معَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَمَرَضٌ للقلبِ، وَاعتراضٌ على قضاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَعَدَمُ
الرِّضَا بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، وَالإِصابةُ بداءِ الأُمَمِ،
وَعَدَمُ أداءِ حقوقِ المسلمِينَ.
وَمنهُ
المَحْمُودُ، وَهوَ الغِبْطَةُ: وَهيَ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ لهُ مِثْلُ
مَا لأَخِيهِ مِنْ غيرِ تَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْ أَخِيهِ.
((ولا تَنَاجَشُوا)): النَّجْشُ هوَ الزيادةُ، وَالمرادُ:
الزيادةُ في البيعِ لا مِنْ أَجْلِ الشراءِ، لكنْ مِنْ أجلِ نَفْعِ
البائعِ وَالإِضرارِ بالمُشْتَرِي. وَهذا لا يَجُوزُ؛ لأنَّهُ مِن الضررِ
المَنْهِيِّ عنهُ. وَقِيلَ: المرادُ الخِدَاعُ في جميعِ المعاملاتِ مِنْ
غِشٍّ وَاحْتِيَالٍ وَغَيْرِهَا. وَفي النَّهْيِ حِمَايَةٌ للأنفسِ
وَحمايَةٌ للأموالِ وَحمايَةٌ للغيرِ.
((ولا تَبَاغَضُوا)): أيْ لا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ التَّبَاغُضِ فَيُبْغِضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، بلْ يُحِبُّهُ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحُجُرَات: 10]. وَالشيطانُ يَسْعَى إِلى تَبْغِيضِ بَعْضِهِمْ إِلى بعضٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91 ].
وَقدْ
يَئِسَ أنْ يَعْبُدَهُ الناسُ في جزيرةِ العَرَبِ، وَلكنْ في التَّحْرِيشِ
بينَهُم. وَقدْ أَلَّفَ الإِسلامُ بينَ القلوبِ حتَّى أَصْبَحَ المؤمنونَ
إِخْوَةً يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُؤْثِرُهُ على نَفْسِهِ كَمَا
حَصَلَ بينَ المهاجرينَ وَالأنصارِ وَغيرِهِم.
وَمِنْ أَسْبَابِ التَّبَاغُضِ:
النَّمِيمَةُ بينَ الناسِ وَالسُّخْرِيَةُ وَالتَّنَابُزُ بالألقابِ وَغيرُهَا.
((ولا تَدَابَرُوا)):
التَّدَابُرُ: هوَ التَّهَاجُرُ وَالتَّقَاطُعُ، وَمعناهُ: أيْ لا
يُوَلِّي أَحَدُكُم الآخرَ دُبُرَهُ مِنْ إِعْرَاضِهِ عنهُ وَكراهِيَتِهِ
لهُ مِنْ أجلِ دُنْيَا وَعَرَضٍ زَائِلٍ، وَيُقَاطِعُهُ وَيَهْجُرُهُ،
وَالتَّدَابُرُ مُحَرَّمٌ، وَسَبَبٌ في رَفْعِ الخيرِ، وَحِرْمَانٌ مِنْ
عَرْضِ العملِ على اللَّهِ تَعَالَى.
وَالهَجْرُ
صِفَةُ أهلِ النارِ؛ لأنَّهُم في جَهَنَّمَ يَتَخَاصَمُونَ، كُلَّمَا
دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، وَإِنَّمَا يَأْلَفُهُ وَيُوَاجِهُهُ
وَيُقَابِلُهُ، وَهذهِ صفةُ أهلِ الجنَّةِ، على سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
(1) ((ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)):
أيْ لا يَبِيعُ سِلْعَةً بَاعَهَا أَخُوهُ المُسْلِمُ فَيَجْعَلَ
المُشْتَرِيَ يَتْرُكُ السلعةَ الأُولَى، وَيَجْعَلَ البائعَ يَبْغَضُ
المُشْتَرِيَ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ بالبيعِ، وَيَبْغَضُ مَنْ دَخَلَ في
العقدِ، فَيَقُولُ: أَبِيعُكَ سِلْعَةً أَحْسَنَ مِنْ هذهِ السلعةِ أَوْ
أَرْخَصَ منها، فَيَكُونُ في ذلكَ تَعَدٍّ على حقِّ الغيرِ وَزَرْعٌ
للأحقادِ، وَهذا لا يَجُوزُ.
(2) ((وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً)): أَمَرَ
بأنْ يَلْتَزِمَ الإِنسانُ العبوديَّةَ للَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ
مُقْتَضَيَاتِهَا أنْ يَعْرِفَ حقَّ الأُخُوَّةِ في اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحُجُرات: 10 ]، وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ...)) الحديثَ.
وَقالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا...)) الحديثَ.
((المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ)):
هذهِ أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَهيَ أَقْوَى العُرَى وَأَعْظَمُ الروابطِ؛
لِدَوَامِهَا وَمَتَانَتِهَا وَقُوَّتِهَا. وَأُخُوَّةُ الدينِ أَقْوَى
مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ؛ لأنَّها تَرْبِطُهُمْ بِرَبٍّ وَاحدٍ، وَبِدِينٍ
وَاحدٍ، وَبِنَبِيٍّ وَاحدٍ، وَبِطَرِيقٍ وَاحدٍ، وَبِكِتَابٍ وَاحدٍ،
وَهيَ أُخُوَّةُ القلوبِ وَقُوَّةُ المسلمينَ، وَالأُخُوَّةُ الدائمةُ بها
يَنَالُ الإِنسانُ أَوْثَقَ عُرَى الإِيمانِ وَطَعْمَ الإِيمانِ وَكمالَ
الإِيمانِ وَحلاوةَ الإِيمانِ، أَهْلُهَا وُجُوهُهُمْ يومَ القيامةِ نُورٌ،
وَعلى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، يُظِلُّهُم اللَّهُ في ظِلِّهِ
وَيُحِبُّهُمْ، وَيَعِيشُونَ الحياةَ الطَّيِّبَةَ وَيَدْخُلُونَ الجنَّةَ.
وَهكذا
كانَ الصحابةُ، فقدْ قَالَ مُصْعَبٌ لأخِيهِ عُزَيْزٍ في بَدْرٍ وَهوَ
أَسِيرٌ معَ أَحَدِ المُسْلِمِينَ، وَقدْ ذَكَّرَهُ بِأُخُوَّتِهِ:
(اخْسَأْ لَسْتَ أَخِي، أَخِي هُوَ الَّذِي يَقُودُكَ).
((لا يَظْلِمُهُ)): مَضَى معنَى الظُّلْمِ في حديثِ أبي ذَرٍّ: ((فَلا تَظَالَمُوا)).
((ولا يَخْذُلُهُ)):
أيْ لا يَتْرُكُ نَصْرَهُ، بلْ يَنْصُرُهُ، وَيُدَافِعُ عنهُ، وَيَأْخُذُ
لهُ حَقَّهُ، وَيُعْطِيهِ حَقَّهُ المَطْلُوبَ لهُ. وَنَصْرُ المَظْلُومِ
وَاجِبٌ، وَفي الحديثِ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً))، وَفي الآخَرِ: ((وَمَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ المُسْلِمِ كَانَ حِجَاباً لَهُ مِنَ النَّارِ)).
((ولا يَكْذِبُهُ)): أيْ لا يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَلوْ مَازِحاً وَيُضَيِّعُ حَقَّهُ بالكَذِبِ.
وَالكذبُ:
الإِتيانُ بما يُخَالِفُ الواقعَ، وَهوَ صفةٌ ذميمةٌ اتَّصَفَ بها
أَرَاذِلُ الخَلْقِ مِن الشياطينِ وَاليهودِ وَالنَّصَارَى وَالكَفَرَةِ
وَالمُلْحِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ، وَهوَ يَهْدِي إِلى الفجورِ، وَالفجورُ
يَهْدِي إِلى النارِ، وَالمُؤْمِنُ لا يَكْذِبُ.
((ولا يَحْقِرُهُ)):
أيْ لا يَهْضِمُهُ حَقَّهُ، وَلا يَسْخَرُ بهِ، وَلا يَسْتَهْزِأُ بهِ،
وَلا يَعِيبُهُ، وَلا يَسْتَصْغِرُ شَأْنَهُ وَيَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ؛
فإِنَّ أَكْرَمَ العِبَادِ التَّقِيُّ، ((وَرُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ))، وَالمَوَازِينُ بالتَّقْوَى.
(3) ((التَّقْوَى هَا هُنَا)):
فيهِ فَضْلُ التَّقْوَى، وَأَهَمِّيَّةُ وُجُودِهَا في القلبِ، فهيَ خيرُ
لِبَاسٍ وَخَيْرُ زَادٍ، وَأَشَارَ إِلى صَدْرِهِ؛ لأنَّ القلبَ في الصدرِ،
وَإِذا صَلَحَ القلبُ صَلَحَ البدنُ، وَوُجُودُ التَّقْوَى في القلبِ
وُجُودٌ في البدنِ كُلِّهِ.
((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشرِّ)): أيْ يَكْفِيهِ مِن الشَّرِّ.
((حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)): دَمُهُ حَرَامٌ، فلا يَجُوزُ سَفْكُ دَمِهِ، وَلوْ سَفَكَهُ لَعُوقِبَ.
وَحَرَامٌ مَالُهُ، وَلوْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ لَرُبَّمَا قُتِلَ عندَ قَطْعِ الطريقِ.
وَحَرَامٌ
العِرْضُ، وَلو انْتَهَكَ عِرْضَهُ لَقُتِلَ حَدًّا إِنْ كانَ مُحْصَناً،
أَوْ جَلْداً إِنْ لمْ يَكُنْ مُحْصَناً، وَحُكْمُهُ حَدًّا القَذْفُ. وَ(العِرْضُ): مَكَانُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِن الإِنسانِ.
الفَوَائِدُ:
1- تَحْرِيمُ الحَسَدِ.
2- وُجُوبُ سلامةِ الصدرِ.
3- الحَذَرُ مِن الغَضَبِ.
4- مشروعيَّةُ الغِبْطَةِ.
5- التحذيرُ مِن التَّشَبُّهِ بالأعداءِ.
6- الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
7- تَحْرِيمُ النَّجْشِ.
8- وُجُوبُ التعاملِ الحَسَنِ بينَ المُسْلِمِينَ.
9- النَّهْيُ عَن الإِضرارِ بالغَيْرِ.
10- التَّحْذِيرُ مِن التَّبَاغُضِ.
11- وُجُوبُ الأُلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ بينَ المسلمينَ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
الحديثُ
ذو نفعٍ عظيمٍ وفوائدَ كثيرةٍ، أمرَ بالأخوَّةِ ووضعَ بعضَ أسسِهَا،
وحذَّرَ ممَّا يقضي عليها مَن حسدٍ، وخداعٍ، وتباغضٍ، وتدابرٍ، واحتقارِ
الآخرينَ، وغيرِها مَن الآفاتِ الَّتي تَقضِي علَى الأخوَّةِ والمحبَّةِ.
كما دلَّ علَى حرمةِ مالِ وعرضِ ونفسِ المسلمِ، وهذه الثَّلاثَةُ لا يقومُ مجتمعٌ آمنٌ إلاَّ بِحِفْظِهَا.
الحسدُ: تمَنِّي زوالِ النِّعمةِ، مثلُ أن يرَى رجلٌ لأخيهِ نعمةً أو فضلاً، فيَتمنَّى أن تَزولَ عنه وتكونَ له دونَ أخيهِ. وهذا
مرضٌ عظيمٌ نادرٌ أن يسلمَ منه عبدٌ، وذلك أنَّ الإنسانَ يكرهُ أن يفوقَهُ
أحدٌ في شيءٍ، فيجبُ علَى المسلمِ أن يَسعَى لتزكيَةِ نفسِهِ مَن هذا
الدَّاءِ الخبيثِ. ألاقلْ لمن ظَلـَّ لي حاسداً ** أتدرِي علَى مَن أسأتَ الأدبْ وقالَ القرطبيُّ: (لأنَّ فيهِ تسفيهَ الحقِّ سبحانَهُ، وأنَّهُ أنعمَ علَى مَن لا يَستحقُّ). الحسدُ يَقْضِي علَى أقوَى الرَّوابطِ: الحسدُ
صَدَّ إبليسَ عن الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ، فهو حسدَ آدمَ عليهِ
السَّلامُ علَى ما أَنْعَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهِ وسعَى لإِزالةِ هذه
النّعمةِ منه، ووصلَ إلَى مرادِهِ وتسبَّبَ في شقاءِ ذريَّتِهِ، عليهِ
لعنةُ اللهِ إلَى يومِ الدِّينِ. واخْتَلَفُوا في حكمِ البيعِ، فمنهُمْ مَن قالَ بفسادِهِ. وقولـُهُ عزَّ وجلَّ:{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}. (3) البغضاءُ: البُغضُ
في اللهِ لا يدخلُ في النَّهيِ الواردِ في الحديثِ؛ لأنَّهُ مِن أوثقِ
عرَى الإيمانِ أن يَبْغضَ المؤمنُ أعداءَ اللهِ ورسولِهِ المعادينَ
لدينِهِ، وأن يبغضَ الظَّلَمَةَ والفسَقَةَ علَى قدرِ فسوقِهِم وظلمِهِم،
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ؛ فَقَد اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)). (4) التَّدابرُ: (7) التَّقوَى: فوائدُ مِن الحديثِ:
والحسدُ حرامٌ، وذلك لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَحَاسـَدُوا)).
والحكمةُ
في تحريمِهِ: أنَّهُ اعتراضٌ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ، فلسانُ حالِ الحاسدِ
يقولُ: كيفَ تَنعمُ يا ربُّ علَى فلانٍ بجاهٍ أو مالٍ أو نعمةٍ ولم تنعِمْ
عليَّ؟ لذلك أَنْشَدَ بعضُهُم:
أسأْتَ على اللهِ في حُكمِهِ ** لأنَّكَ لم ترضَ لي ماوَهَبْ
فأخزاكَ ربِّي بأن زادَنِي ** وسدَّ عليك وُجوهَ الطَّلبْ
والحسَّادُ أضرابٌ:
1 - فمن الحسَّادِ مَن يسعَى لزوالِ النِّعمةِ عن المحسودِ، وذلك بالبَغْيِ عليهِ بالقولِ أو الفعلِ، ثمَّ يسعَى لنقلِ ذلك لنفسِهِ.
2 - ومنهم مَن يسعَى لزوالِ النِّعمةِ عن المحسودِ بقولِهِ وفعلِهِ مَن غيرِ نقلِهَا إلَى نفسِهِ، وهذا مِن أخبثِهِمَا.
3 - ومنهم مَن إذا حسدَ أخاهُ لم يعملْ بمقتضَى حسدِهِ ولم يبغِ علَى المحسودِ بقولٍ أو فعلٍ، وهذا له حالتانِ:
أ - أن يكونَ مغلوبًا علَى أمرِهِ في هذا الدَّاءِ، وهذا لا يأثَمُ.
ب -
أن يحدِّثَ نفسَهُ بالحسدِ اختيارًا ويكونَ مُسْتَرْوِحًا بذلك، دونَ أن
يُحاسِبَ نفسَهُ ويُؤَنِّبَهَا علَى ذلك، وهل يعاقَبُ علَى ذلكَ؟ فيهِ
خلافٌ بينَ أهلِ العلمِ، فمنهُمْ مَن يَرَى أنَّهُ يأثمُ، ومنهم مَن لا
يَرَى ذلِكَ.
4 -
وبعضُهُم إذا وجدَ في نفسِهِ الحسدَ اجتهدَ علَى إزالتِهِ وأحسنَ للمحسودِ
بإظهارِ فضائلِهِ أمامَ الآخرينَ، ودعَا له في ظهرِ الغيبِ، فهذا فعلٌ
محمودٌ وهو دَلالةٌ علَى الإيمانِ.
الحسدُ خُلقُ أهلِ الكتابِ:
قالَ تَعالَى: {وَدَّ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}.
فأهلُ
الكتابِ مِن يهودٍ ونصارَى يتمنَّوْنَ أن نرتدَّ عن إسلامِنَا مع علمِهِم
بأنَّهُ الدِّينُ الحقُّ، ويثيرونَ الشُّبهاتِ الواهيَةَ لصدِّ النَّاسِ عن
مَنهجِ اللهِ، ويُؤَلِّبونَ سلاطينَ الأرضِ علَى النَّيْلِ مَن دعاةِ
الإسلامِ في مختلَفِ أقطارِ المسلمينَ، والسَّببُ في ذلك الحسدُ الَّذي
تَغَلْغَلَ في سُوَيْدَاءِ قلوبِهِم المريضةِ.
وقالَ تَعالَى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
والمقصودُ
بهم اليهودُ، حسدُوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى ما
مُنَّ عليهِ به مِن الرِّسالةِ وغيرِهَا، وحسدُوا أصحابَهُ علَى الإيمانِ
بهِ.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهِدٌ وغيرُهُمَا: (حسدُوهُ علَى النُّبوَّةِ، وأصحابَهُ علَى الإيمانِ بهِ).
ولا
زالَ أبناءُ القردَةِ والخنازيرِ وأذنابُهُم يسعَوْنَ في الصّدِّ عن منهجِ
اللهِ بقولِهِم وبفعلِهِم، وذلك بسببِ الحسدِ الَّذي سوَّدَ قلوبَهُمْ
فأعمَاهَا عن الحقِّ.
حسدَ أبناءُ يعقوبَ أخاهم يوسفَ عليهِ السَّلامُ، وكانوا سببًا فيما تعرَّضَ إليهِ مَن محنٍ ومصائبَ.
فألقُوهُ في غيابةِ الجبِّ وعرَّضُوهُ للرِّقِّ ثمَّ السِّجنِ، والسَّببُ في ذلك حسدُوهُ علَى محبَّةِ يعقوبَ لهُ.
قالَ تَعالَى: {إِذْ
قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ
إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
كما أخبرَنَا سبحانَهُ بأنَّ الأخَ قتلَ أخاهُ، والسَّببُ في ذلك الحسدُ، كيفَ يَقبلُ اللهُ منه قربانًا ولم يتقبَّلْ منْهُ؟
قالَ تَعالَى: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ
لأََقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ هذه الآياتِ الكريماتِ:
يقولُ
تَعالَى مُبَيِّنًا وخيمَ عاقبةِ البغيِ والحسدِ والظُّلمِ في خبر ابنيْ
آدمَ لصُلبِهِ - في قولِ الجمهورِ - وهما: هابيلُ وقابيلُ، كيفَ عدا
أحدُهُمَا علَى الآخرِ، فقتلَهُ بَغْيًا عليهِ وحسدًا له، فيما وهبَهُ
اللهُ مِن النِّعمةِ وتقبُّلِ القربانِ الَّذي أخلصَ فيهِ للهِ عزَّ وجلَّ،
ففازَ المقتولُ بوضعِ الآثامِ والدُّخولِ إلَى الجنَّةِ، وخابَ القاتلُ
ورجعَ بالصَّفقةِ الخاسرةِ في الدُّنيا والآخرةِ.
قالَ تَعالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}
أيْ: واقصُصْ علَى هؤلاءِ البُغاةِ الحسدَةِ، إخوانِ الخنازيرِ والقردةِ -
مِن اليهودِ وأمثالِهِم وأشباهِهِم - خبرَ ابنيْ آدمَ، وهما هابيلُ
وقابيلُ فيما ذكرَ غيرُ واحدٍ مَن السَّلفِ والخلفِ.
وكانَ
مِن خبرِهِمَا فيما ذكرَهُ غيرُ واحدٍ مَن السَّلفِ والخلفِ: أنَّ اللهَ
تعالَى كانَ قدْ شرَعَ لآدمَ عليهِ السَّلامُ أن يزوِّجَ بناتِهِ مَن بنيهِ
لضرورةِ الحالِ، ولكنْ قَالُوا كان يولَدُ له في كلِّ بطنٍ ذكرٌ وأنثَى،
فكانَ يزوِّجُ أنثَى هذا البطنِ لذكرِ البطنِ الآخرِ، وكانت أختُ هابيلَ
دميمةً، وأختُ قابيلَ وَضيئةً، فأرادَ أن يستأثرَ بها علَى أخيهِ، فأبَى
آدمُ ذلك إلاَّ أن يُقرِّبَا قُربانًا، فمَن تُقُبِّلَ منه فهي له،
فقرَّبَا فتُقُبِّلَ مِن هابيلَ ولم يُتقبَّلْ مِن قابيلَ، فكانَ مِن
أمرِهِمَا ما قصَّ اللهُ في كتابِهِ.
هذه
عاقبةُ الحسدِ عندمَا يَتغلغلُ في القلوبِ يؤدِّي إلَى تمزيقِ أقوَى
الرَّوابطِ بينَ البشرِ، لذلك حذَّرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمَّتَهُ مِن هذا الدَّاءِ الخبيثِ لأنَّهُ يُفَرِّقُ الجمْعَ،
ويَنشرُ الشَّحناءَ والبغضاءَ بينَ الأمَّةِ، وهذا يُؤدِّي إلَى
التَّفَرُّقِ والشَّتاتِ والضَّعْفِ والانهيارِ.
لذلك قالُوا: أوَّلُ ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به في الأرضِ الحسدُ حينَ حَسدَ قابيلُ أخاهُ هابيلَ.
قالَ تَعالَى:{إِذْ
قالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعَالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.
لذلِكَ قالُوا: الحسدُ أوَّلُ ذنبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ في السَّماءِ وذلك حينَ حسدَ إبليسُ آدمَ عليهِ السَّلامُ.
فضلُ مَن زكَتْ نفسُهُ مَن الحسدِ:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: كنَّا جلوسًا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))،
فطلعَ رجلٌ مَن الأنصارِ تَنْطُفُ لحيتُهُ مَن وضوئِهِ قد علَّقَ نعليهِ
بيدِهِ الشِّمالِ، فلمَّا كانَ الغدُ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مثلَ ذلك، فطلعَ ذلك الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأولَى، فلمَّا
كانَ اليومُ الثَّالثُ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مثلَ مقالَتِهِ أيضًا، فطلَعَ ذلك الرَّجلُ علَى مثلِ حالِهِ الأوَّلِ،
فلمَّا قامَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عبدُ
اللهِ بنُ عمرٍو، فقالَ: إنِّي لاحَيْتُ أبي، فأَقْسَمْتُ أنِّي لا
أَدْخُلُ عليهِ ثلاثًا، فإن رأيْتَ أن تُؤْوِيَنِي إليك حتَّى تَمْضِيَ
فعلْتَ.
قالَ:
نعم، قالَ أنسٌ: فكانَ عبدُ اللهِ يحدِّثُ أنَّهُ باتَ معهُ تلك الثَّلاثَ
اللياليَ فلم يرَهُ يقومُ مَن الليلِ شيئًا، غيرَ أنَّهُ إذا تعارَّ
تقلَّبَ علَى فراشِهِ ذكرَ اللهَ عزَّ وجلَّ وكبَّرَ حتَّى صلاةِ الفجرِ،
قالَ عبدُ اللهِ: غيرَ أنِّي لم أَسْمَعْهُ يقولُ إلاَّ خيرًا، فلمَّا
مَضَتِ الثَّلاثُ الليالي وَكِدْتُ أن أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قلتُ: يا عبدَ
اللهِ، لم يكنْ بينِي وبينَ أبي غَضَبٌ ولا هجرَةٌ، ولكنْ سَمِعْتُ رسولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ لك ثلاثَ مرَّاتٍ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))،
فطلعْتَ أنت الثَّلاثَ مرَّاتٍ، فأَرَدْتُ أنْ آوِيَ إليكَ فأَنْظُرَ ما
عَمَلُكَ، فأقتديَ بكَ، فلم أرَكَ عَمِلْتَ كبيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغَ بك
ما قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالَ: ما هو إلاَّ
ما رأيْتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني فقالَ: ما هو إلاَّ ما رأيْتَ، غيرَ
أنِّي لا أجدُ في نفسِي لأحدٍ مَن المسلمينَ غِشًّا، ولا أَحْسُدُ أحدًا
علَى خيرٍ أعطاهُ اللهُ إيَّاهُ، فقالَ عبدُ اللهِ: هذه الَّتي بلغَتْ بكَ.
ففي
الحديثِ دَلالةٌ علَى فضلِ مَن زَكَتْ نفسُهُ مِن الحسدِ، وهذا السَّببُ في
تبشيرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الصَّحابيِّ
الجليلِ بالجنَّةِ.
الحسدُ المحمودُ:
أن يَتمنَّى المسلمُ ما منَّ اللهُ به علَى أخيهِ مِن نعمةٍ مِن غيرِ
تمنِّي زوالِهَا عنْهُ، وهذا يُعرَفُ بالغبطةِ، ولعلَّهُ يندرجُ تحتَ بابِ
المنافسةِ، قالَ تَعالَى: {وَفِي ذلِكِ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وهذا النَّوعُ مِن الحسدِ مشروعٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
حَسَدَ إلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتاهُ اللهُ القرآنَ فهو يتلُوهُ
آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٍ آتاهُ اللهُ مالاً فهو يُنفقُهُ
آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ)).
(2) النَّجشُ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَنَاجَشـُوا))،
ذهبَ جمعٌ مَن أهلِ العلمِ إلَى تفسيرِهِ بالنَّجشِ في البيعِ، وهو: أن
تُعرضَ السِّلعةُ في السُّوقِ فيزيدُ في سعرِهَا مَن لا يُريدُ شراءَهَا،
وإنَّمَا قَصدَ بذلك نفعَ البائعِ وضرَّ المشترِي بزيادةِ الثَّمنِ، وهذا
حرامٌ.
ثَبَتَ في (الصَّحيحين): أَنـَّهُ نَهَى عَنِ النَّجشِ.
وقالَ ابنُ أبي أَوْفَى: النَّاجِشُ: آكلُ ربًا خائنٌ.
وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ: أَجْمَعُوا علَى أنَّ فاعلَهُ عاصٍ للهِ.
ومنهم مَنْ قالَ بصحَّةِ البيعِ، وهذا ما عليهِ أكثرُ الفقهاءِ، كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ في روايَةٍ عنه.
-ومِن
الفقهاءِ مَن فسَّرَ النَّجشَ بأعمَّ مِن ذلك؛ لأنَّ أصلَ النَّجشِ إثارةُ
الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادَعَةِ، ولهذا سُمِّيَ النَّاجشُ في
البيعِ بهذا، وكما يُسَمَّى الصَّيَّادُ باللغةِ ناجشًا لأنَّهُ يَصيدُ
بحيلةٍ وخِداعٍ.
فمعنَى قولِهِ عندَ هؤلاء ((وَلاَ تَنَاجـَشـُوا)): أي لا تَخْدَعـُوا بعضـَكم، ولا يَخْتـَلْ بعضُكُم بعضًا بالمكرِ والاحتيالِ.
وهذا الفهمُ تَشهدُ له نصوصٌ أُخرَى، منها قولُهُ: ((مَنْ غَشـَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).
فمَن مكرَ بإخوانِهِ فعاقبةُ مكرِهِ وخداعِهِ سوفَ تنزلُ به، وممَّا قيلَ قديمًا: (مَن حفرَ لأخيهِ حفرةً وقعَ فيها).
وقالَ القرطبيُّ معقِّبًا علَى هذه الآيَةِ: (وفي هذا أبلغُ تحذيرٍ مِن التَّخلُّقِ بهذه الأخلاقِ الذَّميمةِ).
ولكنْ
ممَّا يَنْبَغِي التَّنبيهُ عليهِ أنَّ المكرَ والخداعَ في الكفَّارِ
المخادِعِينَ للهِ ولرسولِهِ وللمؤمنينَ يجوزُ ولا حرجَ علَى المؤمنينَ في
ذلك، ويشهدُ لذلك قولُهُ عليهِ السَّلامُ: ((الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)).
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَبَاغَضـُوا))،
نُهِينَا أن نَقعَ بأسبابِ التَّباغضِ؛ لأنَّهُ نقيضُ الحبِّ الَّذي
أمرَنَا الإسلامُ بهِ، وهو لغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ يكونُ حرامًا.
- حرَّمَ الإسلامُ كلَّ ما يُفضِي إلَى البغضاءِ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وفي الآيَةِ
دليلٌ علَى أنَّ كلَّ ما ينشرُ البغضاءَ بينَ المسلمينَ حرامٌ، كما حرَّمَ
الغيبةَ والنَّميمةَ والظُّلمَ والغشَّ؛ لأنَّ كلَّ هذا يعكِّرُ صفوَ
الأخوَّةِ، وينشرُ الشَّحناءَ والبغضاءَ بين المسلمينَ، وأمرَ بكلِّ ما
يفضِي إلَى المحبَّةِ، بل رخَّصَ في الكذبِ عندَ الإصلاحِ بينَ النَّاسِ.
انتشارُ
المحبَّةِ والألفةِ بينَ المسلمينَ نعمةٌ عظيمةٌ، لذلك ذكَّرَ اللهُ
رسولَهُ والمؤمنينَ بهذه النِّعمةِ حتَّى يقومُوا بشكرِهَا ويستقيموا
عليها، قالَ تَعالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
وقالَ: {هُوَ
الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَدَابَرُوا)).
قالَ
أبو عبيدَةَ: التَّدابرُ: المصادَمةُ والْهُجرانُ، مأخوذٌ مِن أن يولِّيَ
الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَهُ، ويُعْرِضَ عنه بوجهِهِ، وهو التَّقاطُعُ.
والتَّدابرُ
مِن أَجْلِ الدُّنيا واتِّباعِ حظوظِ النَّفسِ والهوَى لا يَحِلُّ للمسلمِ
أن يَهْجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثةِ أيَّامٍ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ
أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ
هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)).
أمَّا الهجرانُ مِن أجلِ الدِّينِ فيجوزُ أكثرَ مِن ثلاثةِ أيَّامٍ، نصَّ عليهِ الإمامُ أحمدُ
رحمَهُ اللهُ، والحجَّةُ في ذلك قصَّةُ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفُوا
وهم: كعبُ بنُ مالكٍ، وهلالُ بنُ أميَةَ، ومُرارةُ بنُ الرَّبيعِ
العُمَرِيُّ.
وهجرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءَهُ شهرًا.
وذكرَ
الْخَطَّابِيُّ أنَّ هجرانَ الوالدِ لولدِهِ والزَّوجِ لزوجتِهِ، وما كان
في معنَى ذلك تأديبًا تجوزُ الزِّيادةُ فيهِ علَى الثَّلاثَةِ أيَّامٍ.
(5) البيعُ علَى البيعِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ يَبـِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)).
قالَ النَّوويُّ في شرحِهِ للحديثِ:
أنْ يَبيعَ أحدُ النَّاسِ سلعةً مِن السِّلَعِ بشرطِ الخيارِ للمشترِي،
فيجيءُ آخرُ يَعْرِضُ علَى هذا أن يَفسخَ العقدَ ليَبيعَهُ مثلَ ما اشتراهُ
بثَمنٍ أقلَّ.
وصورةُ
الشِّراءِ علَى شراءِ الآخَرِ أن يكونَ الخيارُ للبائعِ، فيَعرضُ عليهِ
بعضُ النَّاسِ فَسْخَ العقدِ علَى أن يشتريَ منه ما باعَهُ بثمنٍ أعلَى،
وهذا الصَّنيعُ في حالةِ البيعِ أو الشِّراءِ صنيعٌ آثمٌ، منهيٌّ عنه،
ولكنْ لو أقدَمَ عليهِ بعضُ النَّاسِ وباعَ أو اشترَى يَنعقدُ البيعُ
والشِّراءُ عندَ الشَّافعيَّةِ وأبي حنيفةَ، وآخرين مِن الفقهاءِ.
والنَّهيُ
هنا علَى الصَّحيحِ للتَّحريمِ وليسَ للتَّنزيهِ، والحكمةُ في التَّحريمِ
لوجودِ الإضرارِ والإيذاءِ، ولِمَا يُؤَدِّي ذلك لنَشْرِ البَغضاءِ
والشَّحناءِ بينَ المسلمينَ.
(6) الأخوَّةُ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا))،
يأمرُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نكونَ إخوةً
متحابِّينَ، وعبيدًا للهِ، مجتنبِينَ ما نهانَا اللهُ عنه مِن حسدٍ وتباغضٍ
وتدابرٍ وبيعٍ علَى بعضِنَا البعضِ، ممتثلينَ ما أمرَنَا به مِن الأخذِ
بالأسبابِ الَّتي توثِّقُ عرَى الأخوَّةِ والمحبَّةِ، مِن تزاورٍ، وتهادٍ،
وإفشاءِ السَّلامِ، والقيامِ بأداءِ حقوقِ بعضِنَا البعضِ.
حقوقُ أخوَّةِ الإسلامِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ))، يُبيِّنُ لنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهمَّ حقوقِ أخوَّةِ الإسلامِ:
1 -
يَحْرُمُ علَى المسلمِ أن يظلمَ أخاهُ بأيِّ نوعٍ مِن الظُّلمِ سواءٌ
بيدِهِ، أو مالِهِ، أو عرضِهِ، وسبقَ الكلامُ عن حرمةِ الظُّلمِ أثناءَ
شرحِ الحديثِ الرَّابعِ والعشرينَ.
2 - يَحْرُمُ علَى المسلمِ أن يخذلَ أخاهُ وهو يقدرُ علَى نصرتِهِ، قالَ تعالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا))، قالُوا: يا رسولَ اللهِ، هذا ننصرُهُ مَظلومًا، فكيف نَنصرُهُ ظالمًا؟! قالَ: ((تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ)).
3 -
الصِّدقُ مع المسلمِ في الحديثِ؛ لأنَّ الصِّدقَ شعارُ المتَّقينَ، وهو
طريقُ البرِّ وهو يهدِي إلَى دارِ السَّلامِ، فلا يحلُّ للمسلمِ أن يحدِّثَ
أخاهُ حديثًا هو مصدِّقٌ له وهو كاذبٌ عليهِ.
4 -
لا يحلُّ للمسلمِ أن يَحتقرَ أخاهُ فيقلِّلَ مِن شأنِهِ؛ لأنَّ المسلمَ له
قيمةٌ عندَ اللهِ مهما كانَ أصلُهُ أو وضعُهُ الماديُّ، واحتقارُ المسلمِ
ذنبٌ عظيمٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ))، واحتقارُ المسلمينَ علامةُ المتكبِّرِ المذمومِ عندَ اللهِ ورسولِهِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)).
التَّقوَى:
اجتنابُ غضبِ اللهِ وعقابِهِ بامتثالِ أوامرِهِ واجتنابِ نواهيهِ، وهو
الميزانُ الَّذي يَتفاضَلُ به النَّاسُ عندَ اللهِ تعالَى، قالَ تَعالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
ومَقَرُّ التَّقوَى القلبُ، قالَ تَعالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)). وإذا كان مقرُّ التَّقوَى القلبَ فلا يطَّلعُ علَى حقيقتِهَا إلاَّ عَلاَّمُ الغيوبِ، قالَ تَعالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
(8) حُرمةُ المسلمِ:
جَعَلَ الإسلامُ لدماءِ المسلمينَ وأعراضِهِم وأموالِهِم حُرمةً، ووَضعَ
مِن التَّشريعاتِ ما يَضمَنُ لهم هذه الحقوقَ الأساسيَّةَ لقيامِ المجتمَعِ
الآمِنِ، لذلك كثيرًا ما يُكرِّرُ وَعْظَهُ بِحُرمةِ الدَّمِ والمالِ
والعِرضِ في الْمَجَامِعِ العامَّةِ العظيمةِ؛ وذلك لأهمِّيَّتِهَا، خَطَبَ
بها في يومِ عَرفةَ، ويومِ النَّحرِ، واليومِ الثَّاني مِن أيَّامِ
التَّشريقِ.
1 - فيهِ الإشارةِ إلَى عظمِ القلبِ؛ لأنَّهُ مَنبعُ خوفِ اللهِ وخشيتِهِ.
2 - التَّقوَى والنِّيَّةُ الصَّالحةُ هو المقياسُ الَّذِي يَزِنُ اللهُ به عبادَهُ ويحكُمُ عليهِمْ بِمُقتضَاهُ.
3 - الإسلامُ: عقيدةٌ، وعبادةٌ، وأخلاقٌ، ومعامَلةٌ.
4 - الإسلامُ يُحاربُ الأخلاقَ الذَّميمةَ؛ وذلك لأثرِهَا السَّيِّئِ علَى المجتمَعِ الإسلاميِّ.
جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية أبي سعيدٍ مولى عبد الله بن عامر بن
كُرَيز عن أبي هريرة، وأبو سعيد هذا لا يعرَفُ اسمُه، وقد روى عنه غيرُ
واحدٍ، وذكره ابن حبان في (ثقاته)، وقال ابن المديني: هو مجهول.
وروى
هذا الحديث سفيان الثوري، فقال فيه: عن سعيد بن يسار، عن أبي هُريرة، ووهم
في قوله: سعيد بن يسار، إنَّما هو: أبو سعيد مولى ابنِ كُريز، قاله أحمد
ويحيى والدَّارقطني، وقد رُوِي بعضُه من وجه آخر. وخرَّج أبو داود من قوله: ((كُلُّ المُسْلِم)) إلى آخره. وخرَّج الإمام أحمد من حديث واثلةَ بنِ الأسقعِ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((كُلُّ
المُسْلِم عَلَى المُسْلِم حَرامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ،
المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُه وَلاَ يَخذُلُهُ، وَالتَّقْوى
هَاهُنا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى القَلْبِ - وَحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ
الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ)). وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن، كقوله تعالى: {وَدَّ
كَثيرٌ مِنْ أَهلِ الكِتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعدِ إيمانِكُم
كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِنْ بَعدِ ما تَبيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ} [البقرة: 109]. أحدهما: أن لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوباً على ذلك، فلا يأثمُ به. وقسم
آخر إذا وجدَ من نفسه الحسدَ، سعى في إِزالته، وفي الإحسان إلى المحسود
بإسداءِ الإحسانِ إليه، والدُّعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وَجَدَ له
في نفسه مِنَ الحسدِ حتَّى يبدلَه بمحبَّة أن يكونَ أخوه المسلمُ خيراً
منه وأفضلَ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإِيمان، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ
الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). قال ابنُ عبد البرِّ: أجمعوا أن فاعلَه عاصٍ لله عزّ وجلّ إذا كان بالنَّهي عالماً.
وخرَّجه الترمذي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((المُسْلِم
أَخُو المُسْلِم، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، كُلُّ
المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ،
التَّقْوى هَاهُنا، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخاهُ
المُسْلِم)).
وخرَّجاه في (الصحيحين) من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلا تَدابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْواناً)).
وخرَّجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة.
وخرَّج أبو داود آخره فقط.
وفي (الصحيحين) من حديث ابن عمرَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُه وَلاَ يُسْلِمُهُ)).
وخرَّجه الإِمامُ أحمد، ولفظه: ((المُسْلِمُ
أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُه وَلاَ يَخذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ،
وَبِحَسْبِ المَرْءِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ)).
وفي (الصحيحين) عن أنس عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً)).
ويُروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعاً وموقوفاً.
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((لاَ تَحَاسَدُوا)) يعني: لا يحسُدْ بعضكم بعضاً، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر، وهو أن الإِنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ من جنسهِ في شيءٍ من الفضائل.
ثم ينقسم الناس بعدَ هَذا إلى أقسام:
فمنهم: من يسعى في زوال نعمةِ المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل.
ثمَّ منهم : من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه.
ومنهم:
من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما
وأخبثهما، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس حيث
حسدَ آدمَ عليه السلام لمَّا رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده،
وأسجد له ملائكتَه، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ، وأسكنه في جواره، فما زال
يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها.
ويروى
عن ابن عمرَ أنَّ إبليسَ قال لنوح: اثنتان بهما أُهلك بني آدم: الحسد،
وبالحسد لُعِنتُ وجُعلتُ شيطاناً رجيماً، والحرص [وبالحرص] أُبيح آدمُ
الجنةَ كلَّها، فأصبتُ حاجتي منه بالحرص، خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54].
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث الزُّبير بن العوَّام، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((دَبَّ
إِلَيْكُم دَاءُ الأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُم: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ،
وَالبَغْضَاءُ هِيَ الحَالِقَة، حَالِقَةُ الدِّينِ لا حالِقَةُ الشَّعْرِ،
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،
أَوَلاَ أُنَبِّئُكُم بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُم؟ أَفْشُوا
السَّلامَ بَيْنَكُم)).
وخرَّج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((إِيَّاكُم وَالحَسَدَ، فَإِنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ، أَوْ قَالَ: العُشْبَ)).
وخرَّج الحاكم وغيرُه من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((سَيُصِيبُ أُمَّتي داءُ الأُمَمِ))، قالوا: يا نبيَّ الله، وما داءُ الأمم؟ قال: ((الأَشَرُ
وَالبَطَرُ، والتَّكاثرُ والتَّنافُسُ في الدُّنيا، وَالتَّباغُضُ،
وَالتَّحاسُدُ حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ ثُمَّ الهَرجُ)).
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ.
وقد رُوي عن الحسن أنه لا يأثمُ بذلك، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين:
والثاني:
من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى
تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية، وفي
العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إن شاء الله
تعالى، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول،
فيأثم بذلك.
وقسم
آخر إذا حسد، لم يتمن زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله،
ويتمنَّى أن يكونَ مثله، فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً، فلا خيرَ في ذلك،
كما قال الَّذينَ يُرِيدُونَ الحياةَ الدُّنيَا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارونُ} [القصص: 79]، وإن كانت فضائلَ دينيَّةً، فهو حسن، وقد تمنَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم الشَّهادة في سبيل الله عزّ وجلّ.
وفي (الصحيحين) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ
حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَهُوَ
يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ
القُرْآنَ، فَهُوَ يَقومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهارِ))، وهذا هو الغبطة، وسماه حسداً من باب الاستعارة.
(2) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَلاَ تَنَاجَشُوا)):
فسره كثيرٌ من العلماء: النَّجَشِ في البيع، وهو: أن يزيدَ في السِّلعة من
لا يُريدُ شِراءَها، إمَّا لنفع البائع بزيادةِ الثَّمن له، أو بإضرارِ
المشتري بتكثير الثمن عليه.
وفي (الصحيحين) عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أنَّه نهى عن النَّجش.
وقال ابن أبي أوفى: النَّاجش: آكلُ ربا خائنٌ، ذكره البخاري.
واختلفوا
في البيع، فمنهم من قال: إنَّه فاسدٌ، وهو روايةٌ عن أحمد، اختارها طائفةٌ
من أصحابه، ومنهم من قال: إن كان الناجشُ هو البائعَ، أو من واطأه البائع
على النَّجش فسد، لأنَّ النَّهيَ هُنا يعودُ إلى العاقدِ نفسِه، وإن لم يكن
كذلك، لم يفسُد، لأنَّه يعودُ إلى أجنبيٍّ.
وكذا
حُكِي عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه علَّل صحة البيع بأن البائعَ غيرُ النَّاجش،
وأكثرُ الفقهاء على أن البيعَ صحيحٌ مطلقاً وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ
والشَّافعيِّ وأحمد في رواية عنه، إلاَّ أن مالكاً وأحمد أثبتا للمشتري
الخيارَ إذا لم يعلم بالحال، وغُبنَ غَبناً فاحشاً يخرج عن العادة، وقدَّره
مالكٌ وبعضُ أصحاب أحمد بثلث الثَّمنِ، فإن اختارَ المشتري حينئذٍ الفسخَ،
فله ذلك، وإن أراد الإِمساكَ، فإنَّه يحطُّ ما غُبِنَ به من الثَّمن، ذكره
أصحابنا.
ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُّ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة:
إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في
البيع ناجشاً، ويسمَّى الصَّائدُ في اللغة ناجشاً، لأنَّه يُثير الصَّيد
بحيلته عليه، وخِداعِه له، وحينئذٍ، فيكونُ المعنى: لا تتخادَعوا، ولا
يُعامِلْ بعضُكُم بعضاً بالمكرِ والاحتيال.
وإنَّما
يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم: إمَّا بطريقِ الأصالة،
وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه، ودخولُه عليه، وقد
قال الله عز وجل: {وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
وفي حديث ابن مسعودٍ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالمَكْرُ وَالخِداعُ فِي النَّارِ)).
وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديث أبي بكر الصدِّيق المرفوع: ((مَلْعونٌ مَنْ ضَارَّ مُسْلِماً أَوْ مَكَرَ بِهِ)) خرَّجه الترمذيُّ.
فيدخل
على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ
ونحوه، كتدليس العيوب، وكِتمانها، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْنِ
المسترسل الذي لا يَعرِفُ المماكسة، وقد وصف الله في كتابه الكفَّار
والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم، وما أحسنَ قول أبي العتاهية:
لـَيس دُنيا إلاَّ بديـنٍ ولـَيـْسَ ** الدِّين إلاَّ مكارمُ الأَخـْلاقِ وإنما يجوزُ المكرُ بمن يجوزُ إدخالُ الأذى عليه، وهم الكفَّارُ المحاربون، كما قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((الحَرْبُ خُدْعَةٌ)). وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى: {واذْكُروا نِعْمَةَ الله عَلَيكُم إِذْ كُنْتُم أَعْداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوِبكُم فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوانَاً} [آل عمران: 103]، وقال: {هُوَ
الَّذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤمِنينَ. وَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِهِمْ
لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأَرضِ جَميعَاً ما أَلَّفْتَ بَيْنََ قُلُوِبهِم
وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم} [الأنفال: 62 - 63]. (4) وقوله: ((وَلاَ تَدَابَرُوا)) قال أبو عبيد: التَّدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يُولِّي الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَه، ويُعرِض عنه بوجهه، وهو التَّقاطع. وخرَّج أبو داود من حديث أبي خراش السُّلميِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)). وفرَّق
بعضُهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: تزول الهجرةُ بينهم
بمجرَّد السَّلام، بخلافِ الأقارب، وإنَّما قال هذا لوجوب صلة الرَّحِمِ. ومعنى البيع على بيع أخيه: أن يكونَ قد باع منه شيئاً، فيبذُلَ للمشتري سلعتَه ليشتريها، ويفسخ بيعَ الأوَّلِ. وفي (مسند البزار) عن أنس عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((تَهَادُوا، فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخيمَةَ)). وخرَّج الإِمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه عن النَبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((مَنْ
أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يَنْصُرَهُ، أَذَلَّهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الخلائقِ يَوْمَ القِيَامَةِ)). وخرج الطبراني من حديث ابنِ عباس عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ يَتَناجى اثْنانِ دُونَ الثَّالثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي المُؤْمِنَ، وَاللهُ يَكْرَهُ أَذَى المُؤْمِنِ)).
إنَّماالمـَكْرُ والخَديعَةُ في النَّارِ** هُمَا مِنْ خِصالِ أَهْلِ النِّفاقِ
(3) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَلاَ تَباغَضُوا)):
نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله، بل على أهواءِ النُّفوسِ،
فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً، والإِخوةُ يتحابُّونَ بينهم، ولا
يتباغضون، وقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ
تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلا أَدُلُّكُم عَلَى شَيْءٍ إِذَا
فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُم؟ أَفْشُوا السَّلام بَيْنَكُم)). خرَّجه مسلم.
وقد ذكرنا فيما تقدَّم أحاديثَ في النَّهي عن التَّباغُض والتَّحاسد.
وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال: {إِنَّمَا
يُريدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوةَ وَالبَغْضَاءَ فِي
الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُم عَنْ ذِكرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ
فَهَلْ أَنتُمْ مُنْتَهونَ} [المائدة: 91].
ولهذا
المعنى حرم المشي بالنَّميمة، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء،
ورُخِّصَ في الكذب في الإِصلاح بين النَّاس، ورغَّب الله في الإِصلاح
بينهم، كما قال تعالى: {لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بصَدَقَةٍ أَوْ مَعرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ
بَيْنَ النَّاسِ ومَنْ يَفعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ
نُؤتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114]، وقال: {وإِنْ طَائِفَتان مِنَ المُؤمِنينَ اقْتَتلُوا فَأَصْلِحوا بَينَهُما} [الحجرات: 9]، وقال: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم} [الأنفال: 1].
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُّ من حديث أبي الدرداء، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((أَلاَ أُخْبِرُكُم بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاةِ وَالصِّيامِ وَالصَّدَقَةِ؟))قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((صَلاحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحالِقَةُ)).
وخرَّج الإمام أحمد وغيرُه من حديث أسماءَ بنتِ يزيد، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((أَلا أُنبِّئُكُم بِشِرارِكُم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشَّاؤونَ بِالنَّميمَةِ، المُفَرِّقونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ للبُرَءَاءِ العَنَتِ)).
وأمَّا
البغض في الله، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلاً في النَّهي، ولو ظهر
لرجل من أخيه شرٌّ، فأبغضه عليه، وكان الرَّجُل معذوراً فيه في نفس الأمر،
أثيب المبغضُ له، وإن عُذِرَ أخوه، كما قال عمر: (إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم بين أظهُرنا، وإذ ينزل الوحيُ،
وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّم قدِ انطُلِقَ به، وانقطعَ الوحيُ، فإنَّما نَعْرفكم بما
نَخْبُركم، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيراً ظننَّا به خيراً، وأحببناه عليه،
ومَنْ أظهر منكم شرَّاً، ظننا به شراً، وأبغضناه عليه، سرائرُكم بينكم
وبينَ ربِّكم عز وجل).
وقال
الربيع بن خُثَيْم: (لو رأيت رجلاً يُظهر خيراً، ويُسرُّ شرَّاً، أحببتَه
عليه، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ، ولو رأيت رجلاً يُظهر شرَّاً، ويسرُّ
خيراً أبغضته عليه، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ).
ولمَّا
كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين، وكثرَ تفرُّقُهم، كثُر بسبب ذلك
تباغُضهم وتلاعُنهم، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّهَ يُبغض لله، وقد يكون في
نفسَ الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متَّبِعاً لهواه،
مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك
إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحق، وهذا الظنُّ
خطأٌ قطعاً، وإن أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولفَ فيه، فهذا
الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ، وقد يكون الحاملَ على الميلِ إليه مجرَّدُ الهوى،
أو الإِلفُ، أو العادة، وكلُّ هذا يقدح في أن يكون هذا البغضُ لله،
فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ، وما
أشكل منه، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ
البُغض المُحرَّمِ.
وهاَهنا
أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له، وهو أن كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد
يقولُ قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهداً فيه، مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً
عنه خطؤه فيه، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدَّرجة،
لأنه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله، بحيث إنَّه لو
قاله غيرُه منْ أئمَّة الدِّينِ، لما قبلَهُ، ولا انتصر له، ولا والى من
وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظنُّ أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ
بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ
للحقِّ، وإن أخطأ في اجتهاده، وأمَّا هذا التَّابعُ، فقد شابَ انتصارَه لما
يظنُّه الحقَّ إرادة علوِّ متبوعه، وظهور كلمته، وأن لا يُنسَبَ إلى
الخطأ، وهذه دسيسةٌ تَقْدَحُ في قصد الانتصار للحقِّ، فافهم هذا، فإنَّه
فَهْمٌ عظيم، والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
وخرَّج مسلم من حديث أنسٍ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لا تَحَاسدُوا، ولا تَباغَضُوا، وَلا تَقاطَعُوا، وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ))، وخرَّجه أيضاً بمعناه من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم.
وفي (الصحيحين) عن أبي أيوب، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لا
يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيَانِ،
فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ
بِالسَّلامِ)).
وكلُّ هذا في التَّقاطع للأمورِ الدُّنيويَّة.
فأمَّا
لأجل الدِّين، فتجوزُ الزِّيادةُ على الثلاثِ، نصَّ عليه الإِمام أحمدُ،
واستدلَّ بقصَّةِ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفوا، وأمر النبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّم بهجرانهم لمَّا خاف منهمُ النِّفاق، وأباح هِجران أهلِ
البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء.
وذكر
الخطابي أنَّ هِجران الوالدِ لولده، والزَّوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك
تأديباً تجوزُ الزِّيادةُ فيه على الثَّلاث، لأن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّم هجر نساءه شهراً.
واختلفوا: هل ينقطع الهِجران بالسَّلام؟
فقالت
طائفة: يَنقَطِعُ بذلك، ورُوي عن الحسن ومالكٍ في رواية ابن وهبٍ، وقاله
طائفةٌ من أصحابنا، وخرَّج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال: ((لاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِناً فَوْقَ ثَلاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاثٌ،
فَلْيَلْقَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ،
فَقَدِ اشْتَرَكا فِي الأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَدْ
بَاءَ بِالإِثْمِ، وَخَرَجَ المُسلِّمُ مِنَ الهِجْرَةِ))، ولكن هذا
فيما إذا امتنع الآخرُ من الرَّدِّ عليه، فأمَّا معَ الرَّدِّ إذا كان
بينهما قبل الهجرِة مودَّةٌ، ولم يعودا إليها، ففيه نظر.
وقد
قال أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن السَّلام: يقطعُ الهِجران؟ فقال: قد
يُسلم عليه وقد صَدَّ عنه، ثم قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم
يقول: ((يَلْتَقيانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا))، فإذا كان قد عوَّده أن يُكلِّمه أو يُصافحه.
وكذلك رُويَ عن مالكٍ أنَّه لا تنقطعُ الهجرة بدونِ العود إلى المودَّة.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُم عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)) قد تكاثرَ النَّهي عَنْ ذلك، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ يَبيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخيهِ)).
وفي رواية لمسلم: ((لا يَسُمِ المُسْلمُ عَلَى سَوْمِ المُسْلِمِ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ)). وخرَّجاه من حديث ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخيهِ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ)). ولفظه لمسلم.
وخرَّج مسلم من حديث عقبة بن عامر، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((المُؤْمِنُ
أَخُو المُؤْمِنِ، فَلا يَحِلُّ للمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتاعَ عَلَى بَيْعِ
أَخيهِ، وَلا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخيهِ، حَتَّى يَذَرَ)).
وهذا
يدلُّ على أن هذا حق للمسلم على المسلم، فلا يُساويه الكافر في ذلك، بل
يجوزُ للمسلم أن يبتاعَ على بيع الكافر، ويَخطُبَ على خِطبته، وهو قولُ
الأوزاعيِّ وأحمدَ، كما لا يثبتُ للكافر على المسلم حقُّ الشُّفعة عنده،
وكثيرٌ من الفُقهاء ذهبوا إلى أنَّ النَّهي، عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر.
واختلفوا: هلِ النَّهيُ للتَّحريم، أو للتَّنزيه، فمِنْ أصحابنا من قال: هو للتَّنزيه دونَ التَّحريم، والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماء: أنَّه للتَّحريمِ.
واختلفوا: هل يصحُّ البيع على بيعِ أخيه، أوِ النِّكاحُ على خِطبته؟
فقال أبو حنيفة والشافعيُّ وأكثرُ أصحابنا: يَصِحُّ، وقال مالك في
النِّكاح: إنَّه إن لم يدخل بها، فُرِّقَ بينهما، وإن دخل بها لم يُفرَّقْ.
وقال أبو بكر مِنْ أصحابنا في البيع والنِّكاحِ: إنَّه باطلٌ بكلِّ حالٍ، وحكاه عن أحمد.
وهل
يختصُّ ذلك بما إذا كان البذلُ في مدَّة الخيار، بحيث يتمكَّن المشتري مِنَ
الفسخِ فيه، أم هو عامٌّ في مدَّةِ الخيار وبعدَها؟ فيه اختلاف بين
العلماء، قد حكاه الإمامُ أحمد في رواية حرب، ومال إلى القول بأنَّه عامٌّ
في الحالينِ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا.
ومنهم
من خصَّه بما إذا كان ذلك في مدَّة الخيار، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد في رواية
ابن مشيش، ومنصوصُ الشَّافعي، والأوَّلُ أظهرُ، لأنَّ المشتري وإن لم
يتمكَّنْ من الفسخ بنفسه بعد انقضاء الخيار فإنَّه إذا رغب في ردِّ
السِّلعة الأُولى على بائعها، فإنه يتسبَّب إلى ردِّها عليه بأنواع من
الطُّرق المقتضية لضَرره، ولو بالإلحاح عليه في المسألة، وما أدَّى إلى
ضررِ المسلم، كان محرماً والله أعلم.
(5) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وكونوا عباد الله إِخواناً)):
هذا ذكره النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم كالتعليل لِما تقدَّم،
وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم إذا تركُوا التَّحاسُدَ، والتَّناجُشَ،
والتَّباغُضَ، والتدابرَ، وبيعَ بعضِهم على بيعِ بعضٍ، كانوا إِخواناً.
وفيه
أمر باكتساب ما يصيرُ المسلمون به إخواناً على الإِطلاق، وذلك يدخلُ فيه
أداءُ حقوقِ المسلم على المسلم مِنْ ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وعيادة
المريض، وتشييع الجنازة، وإجابةِ الدَّعوة، واَلابتداء بالسلام عندَ
اللِّقاء، والنُّصح بالغيب.
وفي (الترمذي) عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((تَهادُوا، فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ)). وخرَّجه غيرُه، ولفظه: ((تَهَادُوا تَحَابُّوا)).
وُيروى عن عمربن عبد العزيز - يرفعُ الحديثَ - قال: ((تَصَافَحُوا، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الشَّحْناءَ، وَتَهَادَوْا)).
وقال الحسن: المصافحةُ تزيد في الودِّ.
وقال
مجاهد: (بلغني أنه إذا تراءى المتحابَّان، فضحك أحدُهما إلى الآخر،
وتصافحا، تحاتت خطاياهما كما يتحاتُّ الورقُ من الشجر، فقيل له: إنَّ هذا
ليسيرٌ مِنَ العمل، قال: تقولُ يسيرٌ والله يقولُ: {لَوْ أَنْفقْتَ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَينَ قُلوبِهِم وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم إنَّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]).
(6) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَكذِبُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ)). هذا مأخوذ من قوله عزّ وجل: {إِنَّما المُؤْمِنُونَ إِخْوةٌ فَأَصْلِحوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]،
فإذا كان المؤمنون إخوةً، أُمروا فيما بينهما بما يُوجب تآلُفَ القلوب
واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوب واختلافَها، وهذا من ذلك.
وأيضاً،
فإنَّ الأخَ مِنْ شأنه أن يوصِلَ إلى أخيه النَّفع، ويكفَّ عنه الضَّرر،
ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كفُّه عَن الأَخِ المسلم الظُّلم، وهذا لا
يختصُّ بالمسلم، بل هو محرَّمٌ في حقَّ كلِّ أحَدٍ، وقد سبق الكلام على
الظُّلم مستوفى عند ذكر حديث أبي ذرٍّ الإِلهي: ((يَا عِبادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُم مُحَرَّماً، فَلاَ تَظَالَمُوا)).
ومِنْ ذلك: خِذلانُ المسلم لأخيه، فإنَّ المؤمن مأمورٌ أن يَنصُرَ أخاه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً))، قال: يا رسولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلوماً، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قالَ: ((تَمْنَعُهُ عَنِ الظُّلْم، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)).
خرَّجه البخاري بمعناه من حديث أنس، وخرَّجه مسلم بمعناه من حديث جابر.
وخرَّج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابرِ بن عبد الله، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((ما
مِن امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ
فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلاَّ خَذَلَهُ
اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِن امرئٍ يَنْصُرُ
مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ
فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ
نُصْرَتَهُ)).
وخرَّج البزار من حديث عِمران بن حُصين، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالغَيْبِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ)).
ومن
ذلك: كذِبُ المسلم لأخيه، فلا يَحِلُّ له أن يُحدِّثه فيكذبه، بل لا
يُحدِّثه إلاَّ صدقاً، وفي (مسند الإِمام أحمد) عن النَّوَّاس بن سمعان، عن
النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال:((كَبُرَتْ خِيانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثاً هُوَ لَكَ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ)).
ومن ذلك: احتقارُ المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئٌ عن الكِبْرِ، كما قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))خرَّجه مسلم من حديث ابن مسعود، وخرَّجه الإِمام أحمد، وفي رواية له: ((الكِبْرُ سَفَهُ الحَقِّ، وَازْدِراءُ النَّاسِ))، وفي رواية: ((وَغَمْصُ النَّاسِ))، وفي رواية زيادة: ((فَلا يَراهُم شَيْئاً)) وغمص النَّاس: الطَّعنُ عليهم وازدراؤهم، وقال الله عز وجلّ: {يا
أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمِ عَسَى أَنْ
يَكونُوا خَيْراً مِنهُم ولا نِسَاءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ
خَيراً مِنهُنَّ} [الحجرات: 11]، فالمتكبر
ينظرُ إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النَّقصِ، فيحتقرهم ويزدريهم،
ولا يراهم أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقهم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحد منهم الحقَّ
إذا أورده عليه.
(7) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((التَّقْوى هَاهُنا))
يشير إلى صدره ثلاثَ مراتٍ: فيه إشارةٌ إلى أن كرم الخَلْق عند الله
بالتَّقوى، فربَّ من يحقِرُه النَّاس لضعفه، وقلَّةِ حظِّه من الدُّنيا،
وهو أعظمُ قدراً عند الله تعالى ممَّن له قدرٌ في الدُّنيا، فإنَّ النَّاسَ
إنَّما يتفاوتُون بحسب التَّقوى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات: 13]، وسئل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قال: ((أَتْقَاهُم للهِ عَزَّ وَجَلَّ)). وفي حديث آخر: ((الكَرَمُ التَّقْوَى)).
والتَّقوى أصلُها في القلب، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ} [الحج: 32]. وقد سبق ذكر هذا المعنى في الكلام على حديث أبي ذرٍّ الإِلهي عند قوله: ((لَوْ
أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى
أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي
شَيْئاً)).
وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلاَّ الله عز وجل، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَأَمْوالِكُم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُم))
وحينئذٍ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورة حسنة، أو مالٌ، أو جاهٌ، أو
رياسةٌ في الدنيا، قلبه خراباً من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك
قلبُه مملوءاً مِنَ التَّقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى، بل ذلك هو
الأكثر وقوعاً، كما في (الصحيحين) عن حارثةَ بن وهب، عن النبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((أَلا
أُخْبِرُكُم بِأَهْلِ الجَنَّةِ: كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ
عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُم بِأَهْل النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ
جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ)).
وفي (المسند) عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((أَمَّا
أَهْلُ الجَنَّةِ، فَكُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعَّفٍ، أَشْعَثَ، ذي طِمْرَيْنِ،
لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ؛ وَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ، فَكُلَّ
جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ جَمَّاعٍ، مَنَّاعٍ، ذي تَبَعٍ)).
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((تَحَاجَّتِ
الجنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرينَ
وَالمُتَجَبِّرينَ، وَقَالتِ الجنَّةُ: لاَ يَدْخُلُني إِلاَّ ضُعَفاءُ
النَّاسِ وَسَقَطُهُم، فَقالَ الله للجنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتي أَرْحَمُ بك
مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادي، وَقَالَ للنَّارِ: أَنْتِ عَذابِي، أُعَذِّبُ بِكِ
مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبادي)).
وخرَّجه الإِمام أحمد من حديث أبي سعيدٍ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((افْتَخَرَتِ
الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالتِ النَّارُ: يَا رَبِّ، يَدْخُلُني
الجَبَابِرَةُ وَالمُتَكَبِّرونَ وَالمُلوكُ وَالأَشْرافُ: وَقَالَتِ
الجنَّةُ: يا ربِّ، يَدْخُلُني الضُّعَفاءُ وَالفُقَراءُ وَالمَساكينُ))وذكر الحديثَ.
وفي
(صحيح البخاري) عن سهل بن سعد، قال: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رسولِ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِندَهُ جَالسٍ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟))فقالَ
رَجلٌ منْ أَشرافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَن
يُنكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ
لقولِهِ، قال: فَسَكَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، ثُمَّ
مَرَّ رَجُلٌ آخر، فَقَالَ لَهُ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ
وَسَلَّم: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟))، قال: يا
رسول الله، هَذَا رَجُلٌ مِن فقراءِ المُسْلِمينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ
خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّع، وَإِنْ قَالَ
أَنْ لا يُسْمَعَ لقولِهِ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((هَذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا))).
وقال محمد بنُ كعب القُرَظيُّ في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعتِ الواقِعَةُ. لَيْسَ لِوقْعَتِها كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 1 - 3]، قال: تَخفِضُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مرتفعين، وترْفَعُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مخفوضين.
(8) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم:((بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخاهُ المُسْلِمَ))،
يعني: يكفيه مِنَ الشَّرِّ احتقارُ أخيه المسلم، فإنَّه إنما يحتقرُ أخاه
المسلم لتكبره عليه، والكِبْرُ من أعظمِ خِصالِ الشَّرِّ، وفي (صحيح مسلم)
عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أنه قال: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).
وفيه أيضاً عنه أنه قال: ((العزُّ إِزَارُهُ وَالكِبْرُ رِداؤُهُ، فَمَنْ نَازَعَني عَذَّبْتُهُ)) فمنازعته الله صفاته التي لا تليقُ بالمخلوق، كفى بها شرّاً.
وفي (صحيح ابن حبان) عن فَضالة بنِ عُبيدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((ثَلاثةٌ
لاَ يُسْأَلُ عَنْهُم: رَجُلٌ يُنازِعُ اللهَ إِزَارَهُ، وَرَجُلٌ
يُنازِعُ اللهَ رِداءَهُ، فَإِنَّ رِداءَهُ الكِبْرِياءُ، وَإِزَارُهُ
العِزُّ، وَرَجُلٌ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالى وَالقُنوطِ مِنْ
رَحْمَةِ اللهِ)).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُم)) قال
مالك: (إذا قال ذلك تحزُّناً لِما يرى في الناس، يعني في دينهم فلا أرى به
بأساً، وإذا قال ذلك عُجباً بنفسه، وتصاغُراً للناس، فهو المكروهُ الذي
نُهي عنه). ذكره أبو داود في (سننه).
(9) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)) هذا
ممَّا كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يخطب به في المجامع
العظيمةِ، فإنَّه خطب به في حَجّةِ الوداع يومَ النَّحر، ويومَ عرفةَ،
واليوم الثاني من أيَّام التَّشريق، وقال: ((إِنَّ
دِماءَكُم وَأَمْوَالَكُم وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرامٌ، كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُم هَذَا، فِي شَهْرِكُم هَذَا، فِي بَلَدِكُم هَذَا)). وفي رواية للبخاري وغيره: ((وَأبْشَارَكُم)).
وفي رواية: فأعادها مراراً، ثم رفع رأسه، فقال:((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)).
وفي رواية: ثم قال: ((أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغائِبَ)).
وفي رواية للبخاري: ((فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُم دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُم وَأَعْرَاضَكُم إِلاَّ بِحَقِّها)).
وفي رواية:
((دِمَاؤُكُم وَأَمْوَالُكُم وَأَعْرَاضُكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ، مِثْلُ
هَذَا اليومِ، وَهَذَا البَلَدِ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، حَتَّى دَفْعَةٌ
يَدْفَعُها مُسْلِمٌ مُسْلِماً يُريدُ بِهَا سُوءاً حَرامٌ)).
وفي رواية قال: ((المُؤْمِنُ
حَرَامٌ عَلَى المُؤْمِنِ، كَحُرْمَةِ هَذَا اليَوْمِ لَحْمُهُ عَلَيْهِ
حَرَامٌ أَنْ يَأْكُلَه وَيَغْتَابَهُ بِالغَيْبِ، وَعِرْضُهُ عَلَيْهِ
حَرَامٌ أَنْ يَخْرِقَهُ، وَوَجْهُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَلْطِمَهُ،
وَدَمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَسْفِكَهُ، وَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ
يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعْنِتُهُ)).
وفي
(سنن أبي داود) عن بعضِ الصَّحابة أنَّهم كانوا يسيرونَ مَعَ النَّبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضُهم إلى حبلٍ
معه، فأخذها ففزِعَ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً)).
وخرَّج أحمد وأبو داود والترمذي عن السائب بن يزيد، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ يَأْخُذْ أَحَدُكُم عَصَا أَخِيهِ لاَعِباً جَادَّاً، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخيهِ، فَلْيَرُدَّها إِلَيْهِ)).
قال
أبو عبيد يعني أن يأخذ متاعه لا يريد سرقتَه، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ
عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادٌّ في إدخال الأذى والروع عليه.
وفي (الصحيحين) عن ابنِ مسعودٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((إِذَا كُنْتُم ثَلاثَةٌ، فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ)) ولفظه لمسلم.
وخرَّج الإمام أحمد من حديث ثوبان، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((لاَ
تُؤْذُوا عِبادَ اللهِ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُم، وَلاَ تَطْلُبُوا
عَوْرَاتِهِم، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخيهِ المُسْلِمِ، طَلَبَ
اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ)).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم سُئِلَ عنِ الغيبة، فقال: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ))، قال: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ فِيهِ مَا أَقولُ؟ فَقَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدْ بَهَتَّهُ)).
فتضمَّنت
هذه النُّصوص كلُّها أنَّ المسلمَ لا يحِلُّ إيصالُ الأذى إليه بوجهٍ مِنَ
الوجوهِ من قولٍ أو فعلٍ بغيرِ حقٍّ، وقد قال الله تعالى: {والَّذينَ يُؤذُونَ المُؤْمِنينَ والمُؤْمِناتِ بِغَيرِ ما اكتَسَبوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهتَاناً وإِثْماً مُبيناً}[الأحزاب: 58]
وإنما جعلَ الله المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي (الصحيحين) عن
النعمان بن بشير، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((مَثَلُ
المُؤْمِنينَ فِي تَوَادِّهِم وَتَراحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم، مَثَلُ
الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ
بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ)).
وفي رواية لمسلم: ((المُؤْمِنونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ)).
وفي رواية له أيضاً: ((المُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ، اشْتَكى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ)).
وفيهما عن أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كَالبُنْيانِ، يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضاً)).
وخرَّج أبو داود من حديث أبي هُريرة، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قال: ((المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ، المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ)). وخرَّجه الترمذي، ولفظه: ((إِنَّ أَحَدَكُم مِرْآةُ أَخيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذىً، فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ)).
قال
رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبيرَ المسلمين عندَك أباً، وصغيرهم ابناً،
وأوسَطَهم أخاً، فأيُّ أولئك تُحبُّ أن تُسيء إليه؟ ومن كلام يحيى بن معاذ
الرازي: ليكن حظُّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه، فلا تضرَّه، وإن لم
تُفرحه، فلا تَغُمَّه، وإن لم تمدحه فلا تَذُمَّه.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا
تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع
بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله،
ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ
من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله،
وعرضه)) رواه مسلم.
الشيخ:
هذا الحديث أصلٌ في حق المسلم على المسلم، وفيما ينبغي أن يكون بين المسلمين من أنواع التعامل. ولهذا فحقيقة الحسد:
اعتراضٌ على قضاء الله -جل وعلا- وعلى قدره ونعمته، ولهذا كان الحسد يأكل
الحسنات كما تأكل النار الحطب، فليس الحسد مقتصراً، على أنَّهُ يأثم به
صاحبه فقط بل يُذهب بعض حسنات صاحبه؛ لأنهُ ينطوي على اعتقاد خبيث، وعلى ظن
سوءٍ بالله -جل وعلا- حيث قام في قلبه أنَّ هذا ليس بأهلٍ لفضل الله -جلّ
وعلا- ونعمته، ونحو هذا ما يستعمله بعض العامَّة، حيث يقول بعضهم: هذا حرام
أن يُعطى كذا وكذا، قال بعدها -عليه الصلاة والسلام-: ((ولا تدابروا))
يعني لا تسْعَوا في قوْلٍ أو عملٍ تكونوا معه متقاطعين؛ لأنَّ التدابر أن
يفترق الناس كلٌ يُولِّي الآخر دُبرَهُ وهذا يعني القطيعة والهجران، وهجر
المسلم وقطعه حرام إذا كان لأمرٍ دُنيوي.
قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا…)) الحديث، قوله: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا...) إلخ، هذا نهي وكما هو معلوم: أنَّ النهي يفيد التحريم في مثل هذا فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تحاسدوا))
يعني أنَّ الحسد محرم وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها بيانُ تحريم الحَسد
وأنَّهُ (يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، وكذلك التناجش محرم وقد نهى
النبي -صلى الله عليه وسلم-عن النّجْش وعن النَجش في غير ما حديث، وكذلك
التباغض والتدابر وأشباه هذا، مما يُزيل المحبة أو يزيل الألفة بين
المسلمين، فإنهُ ممنوع منع تحريم، قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا تحاسدوا): الحسد فُسر بعدة تفسيرات ومنها:
أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير.
وأيضاً من الحسد أن يعتقد أن هذا الذي أنعم الله عليه ليس بأهْلٍ لهذه النعمة ولا يستحق فضل الله جل وعلا.
هذا
حرام أن تكون عندهُ هذه النعمة، هذا حرام أن يكون عنده المال، وأشباه ذلك
ممَّا فيه ظنُّ سوء بالله -جل وعلا- واعتراض على قدر الله وعلى نعمته وعلى
رزقه الذي يصرفه كيف يشاء، فالواجب إذاً على المسلم أن يفرحَ لأخيه المسلم
بما أَنعم الله عليه وقد مر معنا في الحديث: (لايؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحبُ لنفسه)،
والحسدُ بضدِّ ذلك، فإنَّ الحاسد لا يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، بل إمَّا
أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه، أو أنه يعتقد ويظن أنَّ أَخاهُ ليس بأهلٍ
لما أعطاهُ الله -جل وعلا-.
(1) قال: (ولا تناجشوا)
وهذا أيضاً يدل على تحريم النَّجْش، وقد تقرر في الأصول أنَّ النهي إذا
تسلط على المضارع فإنه يعم أنواع المصدر؛ لأنَّ المضارع عبارة عن حدث وزمن،
فتسلَّط النهي على الحدث، والحدث نكرة؛ فعمَّ أنواعه، فإذاً: نقول هنا في
قوله: ((لا تحاسدوا)): يعمُّ جميع أنواع الحسد وقوله: ((ولا تناجشوا)):
يعمُّ جميع أنواع النَّجْش -بالسكون- أو النَّجش -بالتحريك- والنَّجَش أو
النجْش فُسِّر بعدَّةِ تفسيرات، وأعمها التفسير اللغوي، وهو أن النَّجْش أن
يسعى في إبطال الشيءِ بمكرٍ واحتيالٍ وخديعة، أو هو السَّعي بالمكر
والخداع والحيلة، وهذا عام يشمل جميع أنواع التعامل مع المسلمين.
فإذاً قوله: ((ولا تناجشوا))
أي: لا يسعى بعضكم مع بعضٍ بالخداع والحيلة والمواربة وأشباه ذلك من
الصفات المذمومة، ويدخلُ في هذا: النَّجْش الخاص، وهو المستعمل في البيع
بأن يزيد في السلعة من لا يرغب في شرائها؛ لأن هذا سَعْيٌ في ازدياد
السِّعر بمكر وحيلة وخداع، فسمِّي ذلك بالنَّجَش أو النَّجْش لأنه فيه
المكر والخداع والحيلة، فيُمنع ويُحرم أن يسعى المسلم مع إخوانه المسلمين
بالحيلة والخداع والمكر بأيِّ نوع، بل المُسلمُ مع إخوانه يسير على نية
طيبة، وعلى أن يُحبَّ لهم ما يحب لنفسه، وألا يخدعهم ولا يُغرِّر بهم بل
يكون معهم كما يُحب أن يكونوا معه، وزيادة المرء في السعر -وهو لا يريد
الشراء حين السوم على السلعة- هذا من أنواع الخِداع والحيلة ولهذا فهو منهي
عنه ومحرَّم يأثمُ به صاحبه إثم المحرمات.
(2) قال: ((ولا تباغضوا)):
والتباغض هنا أيضاً عام في كلِّ ما يكون سبباً لحدوث البغضاء؛ من الأقوال
والأعمال، فكلُّ قول يؤدي إلى البغض فأنت منهي عنه، وكل فِعْلٍ يُؤدي إلى
التباغض فأنت منهي عنه، فالمؤمن مأمور بأن يسعى بما فيه المحبة بين إخوانه
المؤمنين، وأمَّا ما فيه التباغض فهو حرام أن يسعى فيه بقوله أو قلمه أو
كلامه أو عمله أو تصرُّفاته -إشارته أو لحْظِه- حتى إنَّ الرَّجُل لا يسوغ
له أن يُبغضَ أي مسلم؛ لأنَّهُ قد أَحبَّهُ لما معه من الإسلام والتوحيد،
وهذا يجبُرُ غيره، وإن أبغضهُ بُغضاً دينياً فهذا لا حرج فيه، ولكن البغض
الدنيوي هو الذي نُهيَ عَنْه هنا، فسَببُ البغض إذا كان دينياً مشروعاً
فهذا مطلوب ولا بأس به لكن بالنسبة للمسلم فإنَّهُ لا يُبغض بالجملةَ بل
يجتمع في حق المؤمن أو في حق المسلم ما يكون معهُ الحبُّ له، وهو ما معه من
الإيمان والتوحيد والطاعة، وما يكون معه البغض له وهو ما قد يكون يقترفه
من الإثم والعصيان.
فإذاً في المؤمن والمسلم يجتمع الموجبان في الدين: الحبُّ والبغض، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هنا قال: ((لا تباغضوا))
قال العلماء: هذا في السَّعي فيما فيه التباغض في أمر الدنيا، أمَّا إذا
كان لأمرٍ شرْعي وديني فإن هذا مطلوب ولا يدخل في هذا النهي الرجل مع أهله
ينبغي له أن يسعى فيما فيه المودة والمحبة، وألا يبغض وإذا حصلت البغضاء
فإنهُ ينظر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يفركُ مؤمن مؤمنةً إن سَخِطَ منها خُلقاً رَضيَ منها خُلُقاً آخر)
يعني لا يبغض مؤمن مؤمنة، وهكذا قاعدة عامة أنَّ المؤمن لا يسوغُ لهُ أن
يبغض مؤمناً يعني بعامَّة بل ينظر إليه إن حصل في قلبه بغضاء فينظرُ إلى
أخيه المؤمن وينظر ما معه من الخير والإيمان والطاعة فيُعظم جانب طاعته لله
على نصيب نفسه وحظِّ نفسه فتنقلب البغضاء عندهُ هَوْناً ما ولا يكون
بغيضاً له بُغْضاً تامّاً أو ما يوجبُ المقاطعة أو المدابرة.
فالهجر ينقسم إلى قسمين:
هجر لأمر الدين وهذا
له أحكامه المختصة وضابطها: أنه يجوز هجْرُ المسلم لأجل الدين إذا كان فيه
مصلحةٌ لذلك الهجْر، وهذا كما هَجَر النبي -صلى الله عليه وسلم- المخلفين
الثلاثة في غزوة تبوك، وأمثال ذلك.
والقسم الثاني:الهجْرُ
لغرض دنيوي؛ أن يَهجُر المسلمُ أخاهُ للدنيا لإيذاء آذاهُ، أو لشيءٍ وقع
في قلبه عليه، فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى
ثلاثةِ أيام، وما بعدها فحرامٌ عليه أن يهجَرهُ، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة
والسلام- أنهُ قال: ((لا يهجر مسلم أخاهُ فوق ثلاث يلتقيان فيعرضُ هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأُ بالسلام))،
قال العلماء: الهِجرانُ إلى ثلاث مأذْونٌ به في أمْرِ الدنيا يعني: إذا
كان هذا -لحظِّ نفسك- وخيرُ الرجلين الذي يبدأُ بالسلام، أمَّا أمور الدين
فهذه بحسب المصلحة -كما ذكرنا في القسم الأول- قد يكون هِجْراناً إلى أسبوع
أو إلى شهر أو يوم بحسب ما تقضي به مصلحة المَهجور. قال: ((ولا يَبع بعضكم على بَيع بَعْض))
وهو مثلاً: أن يقول لِمن أراد أن يشتري سِلْعَةً بعشرة: أنا أعطيك مثلها
بِتسعة، أو لِمن أرادَ أنْ يبيع سِلْعةً بعشرة: أنا أخذها منك بإحدى عشر
وأشباه ذلك، يعني أنه يُغريه بألا يشتري من أخيه أو أن يبيع عليه ففي هاتين
الصورتين حصل بَيعٌ على بيع المسلم، وهنا حَرَّم النبي -صلى الله عليه
وسلم- ذلك بقوله: ((ولا يَبع بعضكم على بَيع بَعْض))
وهذا مشروطٌ بأن الذي يعرضُ الشِّراء من هذا الذي يريدُ أن يبيع شيئاً، أو
يعرضُ البيع لهذا الذي يريدُ أن يشتري شيئاً بأكثر في الأول وأقل في
الثاني؛ هذا مشروطٌ بأنه حصل بين الأول ومن يريدُ أن يبيعه أو أن يشتري منه
انفصال وتراض؛ مثلاً: يأتي إلى صاحب دكان ويقول: أنا أريد أشتري هذه،
فيتفاصلان على أنه سيشتريها بكذا وهذا راض سيشتريها، فيأتي أحدٌ ويقول
تعالَ أنا أعطيك مثلها بكذا وكذا بأنقص أو أشباه ذلك، فإذا كان هناك رضىً
من البائع للسلعة على من يبيع عليه أو رضىً ممن يشتري وتفاصل بينه وبين من
أراد الشراء منه أو البيع عليه؛ فإنه هنا يَحرمُ أن يدخل أحدٌ، فيتدخل في
هذا المبيع وهنا تمت مقدِّمات العقد بالاتفاق على الثمن والعزم على الشراء؛
فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يدخل، ونفهم من هذا أنه لو تدخل قبل أن يعقد هذا
وهذا، ما دام أنه في فترة النظر انتقل من الدكان إلى دكان وأشباه ذلك؛ فهذا
لا بأس به، فيشرط التحريم البيع على بيع أخيه بما كان فيه تفارق بالقول،
أو انفصال بالقول بالعزم على الشراء أو العزم على البيع، إذا حصل العزم
وأجابه البائع أو المشتري فإنه لا يجوز التدخل في ذلك، في أمثالها؛ مثل: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)،
فإن المرء إذا تقدم إلى أحد خاطباً، وسمع به فلان من الناس، سمِعَ أن
فلاناً خطب، فإن ردوا عليه بالرضا فإنه لا يجوز لأ حد أن يأتي ويقول: أنا
أريد ابنتكم -ممن علم أنهم أجابوه ورضوا به- لكن قبل أن يجيبوه بالرضا له
أن يدخل كخاطبٍ من الخطاب وهكذا في هذه المسألة في قوله: ((ولا يَبع بعضكم على بَيع بَعْض)). المقصود:
أنه يجب أن يرد المظالم وفي الغيبة تفصيل للعلماء؛ من أنه إذا كان ذِكْره
لمن اغتابه يؤدي إلى حصول منازعة ومشاقة في إخباره بغيبته إياه وطلبهِ
تحليله؛ فإنه يترك هذا الإخبار ويكتفي منه بالاستغفار له وكثرة الدعاء له،
لعلها أن تشفع له في تكفير غيبته أو النيل منه، وهذا من السنن التي ينبغي
لنا أن نتعاهدها؛ بأن يحلل بعضنا بعضاً، وإذا سأل أحد أخاهُ أن يحللهُ
فيستحب له أن يقول: حللك الله، وأنت في حل منِّي، وأشباه ذلك دون سؤال له؛
ماذا قلت؟ وماذا فعلت؟ وبأيِّ شيءٍ اعتديت علي؟ وأشباه ذلك كما قرره
العلماء.
قال عليه الصلاة والسلام بعدها: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) يعني: حققوا أخوة الدين إذ قال جل وعلا: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، وقال جل وعلا: {إنما المؤمنون اخوة}.
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره) ((لا يظلمه)):
يعني لا يظلمه في ماله، ولا يظلمه في عرضه، ولا يظلمه، في أهله، ولا يظلمه
في أي أمر اختص به، بل يعدل معه، ويكون خليفته في ماله وأهله وعرضه، ولهذا
جاءت الشريعة وهذا من محاسنها العظيمة بأن يتحلل المرء من إخوانه فيما وقع
منه عليهم من المظالم وقد ثبت في الصحيح (صحيح أبي عبدالله البخاري) أنه
-عليه الصلاة والسلام- قال: ((من كانت عنده لأخيه مَظْلِمةٌ -بكسر الام- في مالٍ أو عرضٍ فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون يومٌ لا درهم فيه ولا دينار)) يعني من اغتاب أو من وقع في عرض إخوانه، أو من اعتدى على بعضه، فعليه أن يرد هذه المظالم، فإن كان في ردها مشقة عليه فيوسّط أحداً.
قال: ((ولا يخذله)):
الخذلان: ترك الإعانة والنُّصرة، والمسلم وليُّ المسلم، محب له، ناصر له،
وخذل المسلم للمسلم وخذلانه له ينافي عَقْد المولاةُ الذي بينهما، ولهذا
تضمن عقد الموالاة في قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} أنَّ خذْل المسلم للمسلم لا يجوز إذا كان في مقدرته أن يعينه وأن ينصره ولو بالدعاء.
قال: ((ولا يكذبه))
يعني: لا يقول له: أنت كاذب، وكلما أخبره بخبر قال: هذا كاذب، وأنت كاذب؛
لأنَّ الأصل في المسلم أنهُ لا يكذب، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- ((أنه قيل له: أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل له: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل له: أيكذبُ المؤمن؟ قال: لا))لأنَّ
الكذب خصْلَةٌ تستحكم من صاحبها وتستمرُّ معه، فيكون معه خَصلة من خصال
النفاق، وأما ما يقع من زنى الشهوة ومن سرقة الشهوة وأشباه ذلك؛ فإنها
عارضٌ يعرضُ ويزول، ويرتفع معه الإيمان حتى يكون فوق صاحبه كالظلة ثم إذا
فارق المعصية عاد إليه، وأمّا الكذب فإنه إذا استمَر بصاحبه فإنه يدل ويهدي
إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ((ولا يكذبه)) يدخل فيه أن يكذَّبه في الحديث.
قال: ((ولا يحقره))يعني:
لا يحتقر المسلم أخاهُ المسلم بأن يعتقد أو يأتي في خاطِره أن هذا وضيع،
وأنّ هذا أقلُّ قدراً منهُ، وأن هذا مَرْذول؛ إمَّا لأجْل نسبٍ، أو لأجل
صناعةٍ، أو لأجل بلدٍ، أو لأجْل معنى من المعاني، بل الإسلام هو الذي رفع
المسلم وجعله مُكرَّماً مخصوصاً من بين المخلوقات، ولهذا فإن المسلم عند
الله -جل وعلا- كريمٌ عزيز، وتحقير المسلم يُخالفُ أصْلَ احترام المسلم لما
معه من التوحيد والإيمان، فهذا البدن الذي أمامك -بدنُ المسلم- يحملُ
عقيدة توحيد وحسن ظنٍ بالله ومعرفة بالله وعلمٍ بالله بحسب ما عنده من
الإسلام والإيمان والعلم، وهذا ينبغي معه ألا يحتقر، بل يُحترم لما معه من
الإيمان والصلاح، وهذا يتفاوتُ الناس فيه كلما كان الإيمان والصلاح
والإسلام والتوحيد والطاعة والسنة أعظم في المرْءِ المسلم كان أولى بأن
يكرم ويُعزّ، وأن يُبْتعد عن احتقاره، ويُقابله المشرك؛ فإنه مهما كان من
ذوي المال أو ذوي الجاه أو ذوي الرِّفعة فإنّ جَسدهُ فيه روحٌ خبيثةٌ حَملت
الشرك بالله والاستهزاء بالله ومسبة الله جل وعلا، والمحِبُّ لله جل وعلا
يَكَرهُ ويحتقِرُ هذا الذي معه الاستهزاء بالله والنيل من الله جل وعلا
وادعاء الشريك معه.
فإذاً يعظم المسلم أخاه المسلم ويحترمه ولا يحتقره؛ بما معه من الإيمان والتوحيد.
قال: ((التقوى هاهنا -ويُشير إلى صدرهُ ثلاث مرات-)) التقوى محلُّها القلب وهذا معنى إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدْره ثلاث مرات.
قال: ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرْضه))
دمُ المسلم حرامٌ أن يُسفكَ بغير حق، وكذلك ماله حرامٌ أن يُؤخذَ بغير حق،
وكذلك عِرضُهُ حرامُ أن يُنال منه بغير حق، فالنيل من الأعراض بالغيبة
والنميمة، أو أن ينال من أهل الرَّجل، أو من أسرته، أو أن يتصرف في ماله
بغير إذنه، أو أن يأخذ ماله، أو أن يعتدي على شيء من أملاكه، وكذلك أن
يعتدي على دمه -وهذا أعظمه- هذا كلُّه حرام، والشريعة جاءت بتحقيق هذا
الأمر فيما بين المسلمين، وفي مجتمع الإسلام؛ بأن تكون الدماء حرام
والأموال حرام والأعراض حرام.
وقد ثبت في (الصحيح) في حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- قال في خطبته يوم عرفه: ((ألا إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمةِ يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)).
الكشاف التحليلي
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا...)
* تخريج الحديث
* موضوع الحديث
* منزلة الحديث
* المعنى الإجمالي للحديث
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا...)
* معنى النهي في الحديث
* معنى (الحسد)
* ما تفيده صيغة (تفاعلوا)
* النهي عن الحسد دليل على إمكان تركه
* حقيقة (الحسد) اعتراض على القضاء والقدر
* أنواع الحسد
* الفرق بين الحسد الجبلي والحسد المكتسب
* أقسام الناس في الحسد:
- القسم الأول: من يسعى في زوال نعمةِ المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل
حكم القسم الأول
- القسم الثاني: من لا يعمل بمقتضى حسده، ولا يبغي على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ، وله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكونَ مغلوبًا علَى أمرِهِ في هذا الدَّاءِ
حكم الحالة الأولى من القسم الثاني
الحالة الثانية: أن يسترسل مع نفسه في الحسد ولا يجاهد نفسه على تركه
حكم الحالة الثانية من القسم الثاني
- القسم الثالث: من لا يتمنى زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله
حكم القسم الثالث
- القسم الرابع: من يسعى في الإحسان إلى المحسود
حكم القسم الرابع
* مراتب ترك الحسد:
- المرتبة الأولى: ترك الحسد القلبي والسعي في معالجة آثاره
أصحاب هذه المرتبة بأفضل المنازل
- المرتبة الثانية: مجاهدة النفس على ترك الحسد القلبي
- المرتبة الثالثة: ترك العمل بمقتضى الحسد مع بقائه في القلب
- المرتبة الرابعة: مجاهدة النفس على ترك العمل بمقتضى الحسد القلبي
* فضل من سلم من الحسد
* ذم الحسد
* ذكر بعض مفاسد الحسد
* الحسد من خلق إبليس ومن ذنوبه الأولى
* الحسد من صفات اليهود
* الحسد هو داء الأمم قبلنا
* الحسد ينافي مقتضى الأخوة الإسلامية
* معالجة الحسد
* نشر المحبة بين المسلمين
* ذكر الحسد المحمود
* معنى الغبطة
* الفرق بين الحسد والغبطة
* سبب تسمية الغبطة حسداً
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا)
* بيان معنى (النجش)
* تعريف (النجش) لغة
* (النجش) على معناه اللغوي يدخل فيه جميع أنواع المعاملات المنهي عنها
* تعريف (النجش) شرعا
* الخلاف في فساد بيع الناجش
* ذكر بعض مفاسد (النجش)
* النجش من المكر والخديعة
* تحريم المكر بالمسلم
* (النجش) من الإضرار بالمسلمين
* (النجش) مخالف لمقتضى عقد الأخوة الإسلامية
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تباغضوا)
* معنى (التباغض)
* أنواع البغض:
النوع الأول: البغض المحمود
البغض المحمود هو ما كان لله تعالى
البغض في الله من أوثق عرى الإيمان
المؤمن يثاب على حبه وبغضه في الله وإن أخطأ الظن
البغض المحمود ليس داخلاً في البغض المنهي عنه
النوع الثاني: البغض المذموم
البغض المذموم هو ما كان لأجل الدنيا
* بغض العاصي الموحد في ذات الله لا يوجب بغضه مطلقاً
* من تلبيس إبليس اتباع الظن في البغض
* أصل البغض في القلب
* الحكمة من النهي عن التباغض
* سبب كثرة التباغض
* النهي عن التباغض على مرتبتين:
المرتبة الأولى: النهي عن فعل ما يوجب التباغض
المرتبة الثانية: النهي عن إضمار البغض للمسلم بغير حق
* سمو تعاليم الدين الإسلامي
* نشر المحبة بين المسلمين من مقاصد الشريعة الإسلامية
لتحقيق هذا المقصد رتبت أحكام كثيرة منها:
1- النهي عن الوقوع في أسباب التباغض كشرب الخمر ولعب الميسر
2- تحريم الغيبة والنميمة
3- الأمر بإصلاح ذات البين
4- الأمر بإفشاء السلام
5- تحريم التدابر والتقاطع وهجر المسلم
6- تحريم السخرية والتنابز بالألقاب
7- تحريم التجسس واتباع الظن
* طمع الشيطان في التحريش بين المسلمين
* وسائل معالجة التباغض
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تدابروا)
* بيان معنى (التدابر)
* أصل (التدابر) في اللغة
* الفرق بين التدابر والتقاطع
* ذكر بعض صور (التدابر)
* معنى النهي عن (التدابر)
* ذم (التدابر)
* أحاديث في ذم هجر المسلم
* ذكر بعض مفاسد (التدابر)
* أقسام (الهجر):
القسم الأول: الهجر لأمر ديني
ضابط الهجر لأجل الدين
الهجر لأجل الدين يجوز فيه الزيادة على ثلاثة أيام
القسم الثاني: الهجْرُ لغرض دنيوي
الهِجرانُ المأذُونُ به في أمْرِ الدنيا إلى ثلاثةِ أيام، وما بعدها حرام
* الخلاف في انقطاع الهجر بالسلام
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)
* معنى بيع الرجل على بيع أخيه
* حكم بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه
* هل النهي في الحديث للتحريم أو للتنزيه؟
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أنه للتحريم
* الخلاف في صحة بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه
* دلالة الحديث على أن هذا الحكم من الأحكام الخاصة بين المسلمين
* الكافر لا يُساوي المسلم في هذا الحق
* كثرة الأحاديث في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا)
* معنى الأمر في الحديث
* تضمن الحديث للأمر بالوسائل الجالبة للمحبة بين المسلمين
* ذكر بعض الأسباب الجالبة للمحبة بين المسلمين:
1- إفشاء السلام
2- التهادي
3- التصافح
4- التبسم في وجه المسلم
* تضمن الحديث للأمر بالتواضع
* وجهان في إعراب قوله: (عباد الله):
الوجه الأول: النصب على النداء
الوجه الثاني: النصب على خبرية كان
* معنى (الأخوة)
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم)
* بيان مقتضيات الأخوة وواجباتها
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه)
* إخراج النهي مخرج النفي أبلغ في النهي
* تحريم ظلم المسلم للمسلم
* دلالة الحديث على عموم النهي عن الظلم في كل شيء
* النفي إذا تسلط على الفعل المضارع دل على العموم
* الله تعالى عدل يحب العدل ويأمر به، ويكره الظلم وينهى عنه
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله)
* معنى الخذلان
* شرح حديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)
* الترهيب من خذلان المسلم
* عظم ثواب نصرة المؤمن
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه)
* معنى الكذب
* الترهيب من الكذب
* الكذب يكون في القول وفي العمل
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره)
* معنى الاحتقار
* سبب الاحتقار: الكِبْر
* بيان معنى (الكِبْر)
* الترهيب من (الكِبْر)
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا)
* بيان معنى (التقوى)
* عِظَمُ منزلة التقوى
* أصل التقوى في القلب
* التعليم بالإشارة
* تكرار المسائل المهمة في العلم
* الخصال المتقدمة في الحديث من خصال التقوى
* صفات أهل الجنة
* صفات أهل النار
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)
* معنى قوله: (بحسب)
* ذكر بعض صور الاحتقار
* شرح حديث: (من قال: هلك الناس؛ فهو أهلكهم)
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)
* عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الجامعة
* ما تفيده صيغة العموم (كل)
* تحريم إيذاء المسلم بأي وجه من الوجوه، ومن ذلك:
1- سفك دمه
2- غيبته
3- النم عليه
4- دفعه دفعة تعنته
5- ترويعه
6- أخذ عصاه بغير إذنه
7- تناجي اثنين دون الثالث
8- تعيير المسلم
9- تطلب عورته
10- ذكره بما يكره، ويشمل: الغيبة والبهتان
* الترهيب من إيذاء المسلم
* تحريم سفك دم المسلم بغير حق
* تحريم أكل مال المسلم بغير حق
* ذكر بعض صور أكل مال المسلم بغير حق
* تحريم النيل من عرض المسلم
* ذكر بعض صور النيل من عرض المسلم
* ذكر بعض أخلاق الأخوة الإيمانية:
1- التعاطف والتواد
2- التناصح
3- التناصر
4- التراحم
* وصايا السلف في التعامل بين المسلمين
* من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
- تَحْرِيمُ الحسد
- تحريم النجش
- تحريم التباغض والتدابر
- تحريم بيع الرجل على بيع أخيه
- بيان واجبات الأخوة الإسلامية
- تحريم إيذاء المسلم بأي وجه من الوجوه
- الترهيب من احتقار المسلم
- عصمة دم المسلم وماله وعرضه
- التعليم بالإشارة
- تكرار المسائل المهمة في العلم
العناصر
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا...)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا...)
معنى النهي في الحديث
معنى (الحسد)
ما تفيده صيغة (تفاعلوا)
النهي عن الحسد دليل على إمكان تركه
حقيقة (الحسد) اعتراض على القضاء والقدر
أقسام الناس في الحسد
فضل من سلم من الحسد
ذم الحسد
ذكر بعض مفاسد الحسد
ذكر الحسد المحمود
معنى الغبطة
الفرق بين الحسد والغبطة
سبب تسمية الغبطة حسداً
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا)
بيان معنى (النجش)
الخلاف في فساد بيع الناجش
ذكر بعض مفاسد (النجش)
تحريم المكر بالمسلم
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تباغضوا)
معنى (التباغض)
أنواع البغض
من تلبيس إبليس اتباع الظن في البغض
أصل البغض في القلب
الحكمة من النهي عن التباغض
سبب كثرة التباغض
النهي عن التباغض على مرتبتين:
المرتبة الأولى: النهي عن فعل ما يوجب التباغض
المرتبة الثانية: النهي عن إضمار البغض للمسلم بغير حق
سمو تعاليم الدين الإسلامي
نشر المحبة بين المسلمين من مقاصد الشريعة الإسلامية
طمع الشيطان في التحريش بين المسلمين
البغض في الله ليس من التباغض المنهي عنه
وسائل معالجة التباغض
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تدابروا)
بيان معنى (التدابر)
معنى النهي عن (التدابر)
أقسام (الهجر)
القسم الأول: الهجر لأمر ديني
ضابط الهجر لأجل الدين
الهجر لأجل الدين يجوز فيه الزيادة على ثلاثة أيام
القسم الثاني: الهجْرُ لغرض دنيوي
الهِجرانُ المأذُونُ به في أمْرِ الدنيا إلى ثلاثةِ أيام، وما بعدها حرام
الخلاف في انقطاع الهجر بالسلام
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)
معنى بيع الرجل على بيع أخيه
حكم بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه
هل النهي في الحديث للتحريم أو للتنزيه؟
الخلاف في صحة بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه
دلالة الحديث على أن هذا الحكم من الأحكام الخاصة بين المسلمين
كثرة الأحاديث في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا)
معنى الأمر في الحديث
تضمن الحديث للأمر بالوسائل الجالبة للمحبة بين المسلمين
ذكر بعض الأسباب الجالبة للمحبة بين المسلمين
معنى (الأخوة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم)
بيان مقتضيات الأخوة وواجباتها
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه)
تحريم ظلم المسلم للمسلم
دلالة الحديث على عموم النهي عن الظلم في كل شيء
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله)
معنى الخذلان
شرح حديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)
الترهيب من خذلان المسلم
عظم ثواب نصرة المؤمن
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه)
معنى الكذب
الترهيب من الكذب
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره)
معنى الاحتقار
سبب الاحتقار: الكِبْر
بيان معنى (الكِبْر)
الترهيب من (الكِبْر)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا)
بيان معنى (التقوى)
عِظَمُ منزلة التقوى
أصل التقوى في القلب
صفات أهل الجنة
صفات أهل النار
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)
معنى قوله: (بحسب)
ذكر بعض صور الاحتقار
شرح حديث: (من قال: هلك الناس؛ فهو أهلكهم)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)
عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الجامعة
ما تفيده صيغة العموم (كل)
الترهيب من إيذاء المسلم
تحريم سفك دم المسلم بغير حق
تحريم أكل مال المسلم بغير حق
ذكر بعض صور أكل مال المسلم بغير حق
تحريم النيل من عرض المسلم
ذكر بعض صور النيل من عرض المسلم
ذكر بعض أخلاق الأخوة الإيمانية
وصايا السلف في التعامل بين المسلمين
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الخامس والثلاثون
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
((لاَ تَحَاسَدوا، وَلاَتَنَاجَشوا، وَلاَ تَبَاغَضوا، وَلاَ تَدَابَروا،
وَلاَ يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ، وَكونوا عِبَادَ اللهِ
إِخوَانَاً، المُسلِمُ أَخو المُسلم، لاَ يَظلِمهُ، وَلاَ يَخذُلُهُ، وَلا
يكْذِبُهُ، وَلايَحْقِرُهُ، التَّقوَى هَاهُنَا -وَيُشيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلاَثَ مَراتٍ- بِحَسْبِ امرىء مِن الشَّرأَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسِلمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَام دَمُهُ وَمَالُه وَعِرضُه)) (1) رواه مسلم (1) أخرجه مسلم – كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (2564)،(32)
الشرح
قوله: "لا تَحَاسَدوا" أي: لا يحسد بعضكم بعضاً.
وما هو الحسد؟
قال بعض أهل العلم: الحسد
تمني زوال نعمة الله عزّ وجل على الغير، أي أن يتمنى أن يزيل نعمته على
الآخر، سواء كانت النعمة مالاً أو جاهاً أو علماً أو غير ذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الحسد: كراهة ما أنعم الله به على الغير وإن لم يتمن الزوال.
ومن المعلوم أن من لازم
الكراهة أن يتمنى الزوال، لكن كلام الشيخ-رحمه الله - أدق، فمجرد ما تكره
أن الله أنعم على هذا الرجل بنعمة فأنت حاسد.
"وَلا تَنَاجَشوا"
أي لا ينجش بعضكم على بعض، وهذا في المعاملات، ففي البيع المناجشة: أن
يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، لكن يريد الإضرار بالمشتري أو نفع
البائع، أو الأمرين معاً .
مثال ذلك:عرضت
سلعة في السوق فسامها رجل بمائة ريال، هذا الرجل السائم تعدى عليه رجل آخر
وقال:بمائة وعشرة قصده الإضرار بهذا السائم وزيادة الثمن عليه، فهذا نجش.
ورجل آخر رأى رجلاً يسوم
سلعة وليس بينه وبين السائم شيء، لكن السلعة لصديق له، فأراد أن يزيد من
أجل نفع صديقه البائع، فهذا حرام ولا يجوز.
ورجل ثالث: أراد الإضرار بالمشتري ونفع البائع فهذا أيضاً حرام.
قال: "وَلا تَبَاغَضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضاً ، والبغضاء لا يمكن تعريفها، تعريفها لفظها:كالمحبة والكراهة، والمعنى: لا تسعوا بأسباب البغضاء.
وإذا وقع في قلوبكم بغض لإخوانكم فاحرصوا على إزالته وقلعه من القلوب.
"وَلا تَدَابَروا" إما في الظهور بأن يولي بعضكم ظهر بعض، أو لا تدابروا في الرأي، بأن يتجه بعضكم ناحية والبعض الآخر ناحية أخرى.
"وَلاَ يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ"
مثال ذلك:رأيت رجلاً باع على آخر سلعة بعشرة، فأتيت إلى المشتري وقلت: أنا
أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيراً منها بعشرة،فهذا بيع على بيع أخيه، وهو
حرام.
"وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوانَاً" أي صيروا مثل الإخوان، ومعلوم أن الإخوان يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.
وقوله: "عِبَادَ اللهِ" جملة اعتراضية، المقصود منها الحث على هذه الإخوة .
ثم قال: "المُسلِمُ أَخو المُسلِمِ" أي مثل أخيه في الولاء والمحبة والنصح وغير ذلك.
" لاَ يَظلِمهُ" أي لا ينقصه حقه بالعدوان عليه، أو جحد ما له ، سواء كان ذلك في الأمور المالية ،أو في الدماء، أو في الأعراض، في أي شيء.
" وَلاَ يَخذُلُهُ" أي لا يهضمه حقه في موضوع كان يحب أن ينتصر له.
مثاله:أن يرى شخصاً
مظلوماً يتكلم عليه الظالم، فيقوم هذا الرجل ويزيد على الذي يتكلم عليه ولا
يدافع عن أخيه المخذول ، بل الواجب نصر أخيه.
"ولا يكذبه" أي لا يخبره بالكذب، الكذب القولي أو الفعلي.
مثال القولي:أن يقول حصل كذا وكذا وهو لم يحصل.
ومثال الفعلي:
أن يبيع عليه سلعة مدلسة بأن يظهر هذه السلعة وكأنها جديدة، لأن إظهاره
إياها على أنها جديدة كأنه يقول بلسانه هي جديدة، فلا يحل له أن يكذبه لا
بالقول ولا بالفعل.
" وَلاَ يَحْقِرُهُ" أي لا يستصغره، ويرى أنه أكبر منه، وأن هذا لا يساوي شيئاً,
ثم قال:"التَّقوى هَاهُنا" يعني تقوى الله عزّ وجل في القلب وليست في اللسان ولا في الجوارح، وإنما اللسان والجوارح تابعان للقلب.
"وَيُشيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلاثَ مِرَاتٍ" يعني قال: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، تأكيداً لكون القلب هو المدبر للأعضاء.
ثم قال: "بِحَسبِ امرُىءٍ مِنَ الشَّرِّ" الباء هذه زائدة، وحسب بمعنى كافٍ و "أَن يَحْقِرُهُ" مبتدأ والتقدير حقر أخيه كافٍ في الشر، وهذه الجملة تتعلق بقوله: "وَلا يحَقِرَهُ" أي يكفي الإنسان من الإثم أن يحقر أخاه المسلم، لأن حقران أخيك المسلم ليس بالأمر الهين.
"كُل المُسلِم عَلَى المُسلِم حَرَام" ثم فسر هذه الكلية بقوله: "دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ" يعني أنه لا يجوز انتهاك دم الإنسان ولا ماله ولا عرضه،كله حرام.
من فوائد هذا الحديث:
1-أن هذا الحديث العظيم ينبغي للإنسان أن يسير عليه في معاملته إخوانه، لأنه يتضمن توجيهات عالية من النبي صلى الله عليه وسلم.
2. تحريم الحسد لقوله "لاَ تَحَاسَدوا".
وهل النهي عن وقوع الحسد من الجانبين ، أو من جانب واحد؟
الجواب: من جانب واحد، يعني لو فرضنا إنساناً يريد أن يحسد أخاه وذاك قلبه سليم لا يحسد صار هذا حراماً، فيكون التفاعل هنا في قوله "لا تَحَاسَدوا" ليس من شرطه أن يكون من الجانبين،كما إذا قلت: لا تقاتلوا يكون القتال من الجانبين.
فإن قال قائل: ما يرد على القلب أحياناً من محبة كون الإنسان أعلى من أخيه، فهل يدخل في الحسد؟
فالجواب: لا،
لأن الرجل لم يكره نعمة الله عزّ وجل على هذا العبد، لكن أحب أن يفوقه،
وهذا شيء طبيعي، ولذلك لما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه
السؤال: أن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، كلهم لم يعرفوها، ذكروا أشياء
من الشجر لكنها لم تكن إياه، وابن عمر رضي الله عنهما يقول: وقع في قلبي
أنها النخلة، ولكني أصغر القوم فلم أتكلم، قال أبوه: وددت أنك قلت هذا (2) ، لأنه إذا قالها تفوق على الحاضرين.
فإن وقع في قلبه حسد لشخص ولكنه يدافعه ولم يعتد على الشخص، فهل يؤاخذ به؟
الجواب: لا
يؤاخذ، لكنه ليس في حال الكمال، لأن حال الكمال أن لا تحسد أحداً، وأن ترى
نعمة الله عزّ وجل على غيرك كنعمته عليك، لكن الإنسان بشر قد يقع في قلبه
أن يكره ما أنعم الله به على هذا الشخص من علم أو مال أو جاه أو ما أشبه
ذلك، لكنه لا يتحرك ولا يسعى لإضرار هذا المحسود، فنقول: هذا ليس عليه شيء،
لأن هذا أمر قد يصعب التخلص منه، إلا أنه لو لم يكن متصفاً به لكان أكمل
وأطيب للقلب، وفي الحديث "إِذَا ظَنَنتَ فَلاَ تُحَقق، وَإِذَا حَسَدتَ فَلاَ تَبغِ"(3).
فمن الناس من إذا حسد بغى
فتجده مثلاً يتكلم في الشخص المرموق عند الناس الذي يعتبر رمزاً للإنفاق في
سبيل الله وفي الصدقات، ثم يأخذ بمدحه ويقول:لكنه يتعامل بالربا، فإذا قال
هذه الكلمة معناها أنه أهبط ميزانه عند الناس، وهذا حسد ببغي والعياذ
بالله.
وكذلك مع العلماء، وأكثر
ما يكون الحسد بين المتفقين في مهنة، كالحسد بين العلماء، والحسد بين
التجار، والحسد بين أهل الصنائع، هذا الغالب، وإلا فمن المعلوم أنه لا يأتي
نجار مثلاً يحسد عالماً.
والحسد على مراتب:
الأولى: أن يتمنى أن يفوق غيره، فهذا جائز، بل وليس بحسد.
الثانية:أن
يكره نعمة الله عزّ وجل على غيره،ولكن لا يسعى في تنزيل مرتبة الذي أنعم
الله عزّ وجل عليه ويدافع الحسد، فهذا لا يضره، ولكن غيره أكمل منه.
الثالثة:أن يقع في قلبه الحسد ويسعى في تنزيل مرتبة الذي حسده، فهذا هو الحسد المحرم الذي يؤاخذ عليه الإنسان.
والحسد من خصال اليهود،كما قال الله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 109] قال الله تعالى في ذمهم (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء:54] .
والحسد يضر
صاحبه لأن الحاسد لا يبقى مسروراً -والعياذ بالله- إذ إن نعم الله على
العباد تترى ولا منتهى لها، وهذا الرجل كلما رأى نعمة من الله على غيره زاد
غماً وهماً.
والحسد اعتراض على قدر الله عزّ وجل لأنه يريد أن يتغير المقدور، ولله الحكمة فيما قدره.
والحسد في الغالب تحدث فيه
معاصٍ:كالعدوان على الغير، والمخاصمة، ونشر المعائب وغير ذلك، ولهذا يجب
على المسلم أن يتجنبه كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
3. تحريم المناجشة ولو من جانب واحد،وسبق أن النجش في البيع:هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وضربنا لهذا أمثلة.
ولكن لو أن الرجل يزيد في
السلعة من أجل أن يربح منها، بمعنى أنه لا يريدها، بل يريد الربح منها،فلما
ارتفع سعرها تركها، فهل يعد هذا نجشاً؟
الجواب:لا
يعد هذا نجشاً، لأن هذا له غرض صحيح في الزيادة، وهو إرادة التكسب،كما لو
كان يريد السلعة، وهذا يقع كثيراً بين الناس، تُعرَض السلعة والإنسان ليس
له رغبة فيها ولا يريدها، ولكن رآها رخيصة فجعل يزيد فيها حتى إذا بلغت
ثمناً لا يرى معه أن فيها فائدة تركها، فنقول: هذا لا بأس به، لأنه لم يرد
إضرار الآخرين إنما ظن أن فيها فائدة فلما رأى أن لا فائدة تركها.
4. النهي عن التباغض،وإذا نُهي عن التباغض أمر بالتحاب، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مفيدة لشيئين:
الأول: النهي عن التباغض، وهو منطوقها.
والثاني:الأمر بالتحاب، وهو مفهومها.
ولكن إذا قال قائل:
كيف نتصرف في التباغض، والبغضاء والمحبة ليست باختيار الإنسان، ولهذا لما
ذكر العلماء -رحمهم الله- أن الرجل المتزوج لأكثر من واحدة يلزمه العدل
قالوا: إلا في المحبة ، وعللوا ذلك بأن المحبة لا يمكن السيطرة عليها وكذلك
البغضاء؟
فالجواب على هذا:
أن نقول:المحبة لها أسباب، والبغضاء لها أسباب، فابتعد عن أسباب البغضاء
وأكثر من أسباب المحبة ، فمثلاً إذا كنت أبغضت شخصاً لأنه عمل عملاً ما،
فاذكر محاسنه حتى تزيل عنك هذه البغضاء، وإلا ستبقى على ما أنت عليه من
بغضائه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَفرك مؤمِن مؤمِنَة إِن كَرِهَ مِنهَا خُلُقَاً رَضيَ مِنهَا خُلُقاً آخر"(4) أي لا يبغض الرجل زوجته لأنها أساءت في خلق واحد، بل يقارن:إن كره خلقاً منها رضي منها خلقاً آخر.
كذلك المحبة:يذكر بقلبه ما يكون سبباً لمحبة الرجل من الخصال الحميدة والآداب العالية وما أشبه ذلك.
فالبغضاء لها سبب والمحبة لها سبب، فليفعل أسباب المحبة وليتجنب أسباب البغضاء.
5. النهي عن التدابر،سواء بالأجسام أو بالقلوب.
التدابر بالأجسام بأن يولي الإنسان ظهره ظهر أخيه، لأن هذا سوء أدب، ويدل على عدم اهتمامه به، وعلى احتقاره له، ويوجب البغضاء.
والتدابر القلبي بأن يتجه كل واحد منا إلى جهة أخرى، بأن يكون وجه هذا يمين ووجه هذا شمال، ويتفرع على هذا:
وجوب الاجتماع على كلمة
واحدة بقدر الإمكان، فلنقرب الهوة بيننا حتى نكون على هدف واحد ،وعلى منهاج
واحد، وعلى طريق واحد،وإلا حصل التدابر .
وانظر الآن الأحزاب الموجودة في الأمم كيف هم متدابرون في الواقع، كل واحد يريد أن يقع الآخر في شرك الشر، لأنهم متدابرون.
فالتدابر حرام، ولا سيما التدابر في القلوب،لما يترتب عليه من الفساد.
6. تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، ومثاله سبق ذكره في الشرح.
وهل هذا يشمل ما كان بعد زمن الخيار، وما كان في زمن الخيار، أو خاص فيما إذا كان ذلك في زمن الخيار؟
الجواب:في هذا للعلماء قولان:
القول الأول:إن تحريم البيع على بيع أخيه إذا كان هناك خيار، لأنه إذا كان هناك خيار تمكن من فسخ البيع، وأما إذا لم يكن خيار فلا حرج.
وأضرب لهذا مثلاً: زيد باع
سلعة على عمرو بمائة ريال، وجاء بكر وقال لعمرو:أنا أعطيك مثلها بتسعين
ريالاً، فهل هذا حرام،سواء كان في زمن الخيار أو بعد زمن الخيار، أو خاص
بزمن الخيار؟
ننظر:إذا كان البائع قد
أعطى المشتري مهلة ثلاثة أيام خيار، وبكر جاء إلى عمرو في هذه
المدة،وقال:أنا أعطيك مثلها بتسعين، هنا يتمكن عمرو من فسخ البيع لأنه يوجد
خيار.
أما إذا لم يكن خيار بأن
باع زيد على عمرو هذه السلعة بمائة ريال وتقابضا، ولا خيار بينهما، ثم جاء
بكر بعد ذلك، وقال لعمرو: أنا أعطيك مثلها بتسعين ريالاً، فهل هذا حرام أو
ليس بحرام؟
اختلف في هذا العلماء رحمهم الله فمنهم من قال: إن هذا حرام لعموم قوله: "وَلا يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ" ، ومنهم من قال:إنه ليس بحرام،لأنه لا خيار للمشتري، فلو أراد أن يفسخ البيع ويعقد مع بكر لم يحصل له ذلك.
والصحيح أنه عام لما كان
بعد زمن الخيار أو قبله، لأنه إذا كان قبل زمن الخيار فالأمر واضح بأن يفسخ
البيع ويشتري من الثاني، لكن بعد زمن الخيار أيضاً لا يجوز، لأنه يترتب عليه مفاسد:
أولاً: أن المشتري يكون في قلبه حقد على البائع، ويقول: هذا الرجل غلبني وخدعني.
ثانياً:أن المشتري يندم ويقول: كيف أشتري هذا بمائة وهو بتسعين، وإدخال الندم على المسلم محرم.
ثالثاً: أنه ربما يسعى المشتري إلى إحداث عيب في السلعة، أو إلى دعوى اختلال شرط من الشروط من أجل أن يفسخ البيع.
فلذلك كان القول الراجح في هذه المسألة:إن بيع المسلم على المسلم حرام، سواء كان في زمن الخيار أو بعد زمن الخيار .
وهل يقال:إن شراء الإنسان على شراء أخيه كبيعه على بيع أخيه؟
فالجواب: نعم،
إذ إن المعنى واحد، ومثال الشراء على شراء أخيه، أن يبيع زيد على عمرو
سلعة بمائة، فيذهب بكر إلى زيد- البائع - ويقول:أنا أشتريها منك بمائة
وعشرين، فهذا حرام لما فيه من العدوان، وإحداث العداوة والبغضاء والنزاع
بين الناس.
وسبق لنا: هل هذا خاص في زمن الخيار أو هو عام؟ وبينَّا أن القول الراجح إنه عام.
7. وجوب الأخوة الإيمانية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانَاً".
ولكن كيف يمكن أن يحدث الإنسان هذه الأخوة؟
فالجواب: أن يبتعد عن كل تفكير في مساوئ إخوانه، وأن يكون دائماً يتذكر محاسن إخوانه،حتى يألفهم ويزول ما في قلبه من الحقد.
ومن ذلك: الهدايا، فإن الهدية تُذهِب السخيمة وتوجب المودة.
ومن ذلك:الاجتماع
على العبادات ولا سيما على الصلوات الخمس والجمع والأعياد، فإن هذا يوجب
المودة والأخوة، والأسباب كثيرة، والموانع كثيرة أيضاً، لكن يجب أن يدافع
الموانع.
8. أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن نكون إخواناً بيّن حال المسلم مع أخيه
9. أن المسلم على المسلم حرام : دمه و ماله و عرضه.
10. أنه لا يجني عليه بأي جناية تريق الدم أو بأي جناية تنقص المال، سواء كان بدعوى ما ليس له أو بإنكار ما عليه.
11. تحريم عرض المسلم، يعني غيبته، فغيبة المسلم حرام، وهي من كبائر الذنوب كما قال ابن عبد القوي في منظومته:
وقد قيل صغرى غيبة ونميمة وكلتاهما كبرى على نص أحمد
والغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها: "ذكرك أخاك بما يكره في غيبته"(5)
فإن كان في حضوره فهو سب وليس بغيبة، لأنه حاضر يستطيع أن يدافع عن نفسه،
وقد شبهها الله عزّ وجل بأكل لحم الميت تقبيحاً لها حتى لا يقدم أحد عليها.
واعلم أن الغيبة تختلف
مراتبها باختلاف ما ينتج عنها، فغيبة الأمراء أعظم من غيبة عامة الناس، لأن
غيبتهم تؤدي إلى كراهتهم، وإلى التمرد عليهم، وإلى عدم تنفيذ أوامرهم التي
يجب تنفيذها، وربما تؤدي إلى الخروج المسلح عليهم، فيحصل بذلك من الشر ما
الله به عليم.
كذلك أيضاً غيبة العلماء
أشد من غيرهم، لأن غيبة العلماء تتضمن الاعتداء على أشخاصهم، وتتضمن
الاعتداء على ما يحملونه من الشريعة، لأن الناس إذا خف ميزان العالم عندهم
لم يقبلوا منه.
ولذلك أحذركم ما حذرتكم به
من قبل، من أولئك القوم الذين أعتبرهم مفسدين في الأرض، فيأتون في المجالس
يغتابون فلاناً وفلاناً، مع أنك لو فكرت لوجدت عندهم من العيوب أكثر مما
يعيبون به هذا الشخص، احذروا هؤلاء، لا تركنوا إليهم وانبذوهم من مجالسكم
نبذاً، لأنهم مفسدون في الأرض،سواء قصدوا أو لم يقصدوا، فالفساد متى حصل
فصاحبه مفسد، لكن مع نية الإفساد يكون ضرره أكثر وأعظم .
كما أن التشبه بالكفار مثلاً متى حصل ولو بغير قصد التشبه ثبت حكمه، ومع نية التشبه يكون أعظم.
12. أنه لا يحل ظلم المسلم بأي نوع من أنواع الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "مَنْ تَعَدُّونَ المُفلِسَ فيكُم؟" قَالوا: الذي لَيسَ عِندَهُ دِرهَم وَلاَ دينَار - أَو وَلاَ مَتَاع- قَالَ: "المُفلِس
مَنْ يَأتي يَومَ القيامَةِ بِحَسَنَات ٍأَمثَالِ الجِبَالِ، فَيَأَتي
وَقَد ضَرَبَ هَذا، وَشَتَمَ هَذا، وَأَخَذَ مَالَ هَذا، فَيَأخُذُ هَذا
مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذا مِنْ حَسَنَاتِهِ،وَهَذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِن
لَمْ يَبقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيء أُخِذَ مِنْ سَيئَاتِهِم فَطُرِحَ
عَلَيهِ ثُمَ طُرِحَ في النَّارِ"(6).
13. وجوب نصرة المسلم، وتحريم خذلانه، لقوله:"وَلاَيَخذلهُ" ويجب نصر المسلم،سواء كان ظالماً أو مظلوماً،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انصُر أَخَاكَ ظَالِمَاً أَو مَظلُومَاً" قَالوا: يَارَسُول الله هَذا المَظلوم، فَكَيفَ نَنصُرُ الظَالِمَ؟ قَالَ: "تَمنَعهُ مِنْ الظلم فَذلِكَ نَصرُكَ إيَّاهُ"(7) وأنت إذا منعته من الظلم فقد نصرته على نفسه، وأحسنت إليه أيما إحسان.
14.
وجوب الصدق فيما يخبر به أخاه، وأن لا يكذب عليه، بل ولا غيره أيضاً، لأن
الكذب محرم حتى ولو كان على الكافرين، لكن ذكره في حق المسلم لأن السياق في
ذلك.
فإن قال قائل: ما تقولون في التورية؟
فالجواب: التورية فيها تفصيل:
1. إن أدت إلى باطل فهي حرام.
2. إن أدت إلى واجب فهي واجبة.
3. إن أدت إلى مصلحة أو حاجة فجائزة.
4.-أن لا يكون فيها هذا ولا هذا ولا هذا،فاختلف العلماء فيها: هل تجوز أو لا تجوز؟
والأقرب أنه لا يجوز الإكثار منها، وأما فعلها أحياناً فلا بأس لا سيما إذا أخبر صاحبه بأنه مورٍّ، لنضرب لهذا أمثالاً خمسة:
المثال الأول في التورية المحرمة التي تؤدي إلى الباطل:
تخاصم شخصان عند القاضي فقال أحدهما لي في ذمة فلان ألف ريال، فهذه دعوى،
فأنكر المدعى عليه فنقول للمدعي:هات البينة.فقال:ليس عندي بينة، فإذا قال
هذا توجهت اليمين على المدعي عليه، فأقسم المدعى عليه قال: والله ما له
عندي شيء.
وأراد بـ ( ما) اسم
الموصول، اسم الموصول يعني: الذي ، أي الذي له عندي شيء، وهو صحيح، أن ألف
ريال شيء، فهذه تورية حرام لأنها تؤدي إلى محرم، أي أكل المال بالباطل.
ثم إن هذا الرجل لا ينجو في الآخرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَمينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ"(8) .
المثال الثاني: التورية الواجبة:مثل
أن يسأل ظالم عن مكان شخص يريد أن يقتله، فسأل رجلاً،وقال:أتدري أين فلان؟
وهو يدري أنه في المكان الفلاني، فقال: لا أدري وينوي لا أدري عن كل
أحواله، فقال له: هل هو في هذا البيت؟ وهو يدري أنه في البيت، فقال:ليس في
البيت،وينوي ليس في السطح مثلاً أو ليس في الدور الأسفل، أوليس في الحجرة
الفلانية .
فهذه التورية حكمها الوجوب، لأن فيها إحياء نفس.
المثال الثالث:أن تكون التورية لمصلحة:سأل رجل عن شخص في حلقة علم فقال الحاضرون:ليس هاهنا.ويشيرون إلى شيء ليس هو فيه، بل هو في مكان آخر،فهذه مصلحة.
ويذكر أن الإمام أحمد
-رحمه الله - كان في جلسة فجاء رجل يسأل عن المروذي، فقال الإمام أحمد:ليس
المروذي هاهنا،وما يصنع المروذي هاهنا.وأشار إلى يده، يعني أنه ليس في يده
وهو ليس في يده، لكنه حاضر.
المثال الرابع:أن تكون التورية لحاجة:
كأن يلجئك رجل في سؤال عن أمور بيتك، وأنت لا تريد أن تخبره عن أمور بيتك،
فهنا تحتاج إلى التورية،فإذا قال مثلاً: أنت تفعل في بيتك كذا وكذا ، وأنت
لا تحب أن يطلع على هذا، فتقول:أنا لا أفعل. وتنوي لا تفعل في زمن لست
تفعل فيه هذا الذي سأل عنه، فالزمن متسع فمثلاً:أنت تفعله في الضحى
فتقول:أنا لا أفعل هذا يعني في الصباح والمساء، فهذه حاجة.
المثال الخامس: أن لا تكون التورية لحاجة ولا لمصلحة ولا واجب ولا حرام، فهذه مختلف فيها،
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لا تحل التورية ، وقال إنها
حرام،لأن التورية ظاهرها يخالف باطنها، إذ إن معنى التورية أن ينوي بلفظه
ما يخالف ظاهره، ففيها نوع من الكذب،فيقول:إنها لا تجوز.
وفيها أيضاً مفسدة وهي:أنه
إذا أطلِعَ أن الأمر خلاف ما فهمه المخاطب وصف هذا الموري بالكذب وساء ظنه
فيه وصار لا يصدقه، وصار هذا الرجل يلعب على الناس، وما قاله الشيخ - رحمه
الله تعالى - قوي بلا شك.
لكن لو أن الإنسان فعل ذلك
أحياناً فأرجو أن لا يكون فيه حرج ،لا سيما إن أخبر صاحبه فيما
بعد،وقال:إني قلت كذا وكذا،وأريد كذا وكذا،خلاف ظاهر الكلام،والناس قد
يفعلون ذلك على سبيل المزاح، مثل أن يقول لك صاحبك:متى تزورني؟أنا أحب أن
تزورني، فقلت له:بعد غد،هو سيفهم بعد غد القريب،وأنت تريد بعد غد مالا
نهاية له إلى يوم القيامة، وهذا يؤخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر
رضي الله عنه في صلح الحديبية لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم :ألست
تحدثنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال:نعم،لكني لم أقل هذا العام وإنك آتيه ومطوف به(9).
وجرت لشيخنا عبد الرحمن بن
سعدي - رحمه الله - قصة حول هذا الموضوع،جاءه رجل في آخر شهر ذي الحجة، أي
باقي أيام على انقضاء السنة، وقال له:يا شيخ نريد وعداً، فقال: هذه السنة
لا يمكن أن أواعدك فيها،فظن المتكلم أنها اثنا عشر شهراً، فغضب،ولما رآه
الشيخ غضب فقال له:لم يبق في السنة إلا عشرة أيام أو نحوها، فاقتنع الرجل،
فمثل هذا لا بأس به أحياناً لا سيما إذا أخبر صاحبه.
15. تحريم احتقار المسلم مهما بلغ في الفقر وفي الجهل، فلا تحتقره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أَشعَثَ أَغبَرَ مَدفوعٌ بالأَبوابِ لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ "(10).
أشعث أغبر لا يستطيع أن
ينظف نفسه، مدفوع بالأبواب لا يُفتح له، وإذا فتح له أحد عرف أنه فلان رد
الباب عليه،فدفعه بالباب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ" فكيف تحتقر أخاك المسلم؟!.
ولعل يوماً من الدهر يكون أعلى منك، ولهذا قال الشاعر الجاهلي:
لا تهين الفقير علك أن تر كع يوماً والدهر قد رفعه
تركع يوماً: أي تذل، وهذا أمر مشاهد، كم من أناس كانوا فقراء في أول حياتهم لا يؤبه لهم فصاروا قادة وصاروا أغنياء.
إذاً لا تحقر أخاك
المسلم،حتى لو سألته عن مسألة كلٌّ يفهمها وهو لم يفهمها لا تحتقره، فلعل
الله يفتح عليه ويتعلم من العلم ما يكون به أعلم منك.
16. أن التقوى محلها القلب، لقوله: "التَّقوَى هَاهُنَا،وَأَشَارَ إِلَى صَدرِهِ" يعني في قلبه.
17.
أن الفعل قد يؤثر أكثر من القول في المخاطبات، لأن النبي صلى الله عليه
وسلم بإمكانه أن يقول: التقوى في القلب، لكنه قال: التقوى هاهنا وأشار إلى
صدره، لأن المخاطب يتصور هذه الصورة ويتخيلها في ذهنه، وقد مر علينا أمثلة
من هذا من الصحابة وغيرهم.
18. الرد على أولئك المجادلين بالباطل الذين إذا فعلوا معصية بالجوارح ونُهوا عنها قالوا: التقوى هاهنا ، فما جوابنا على هذا الجدلي؟
جوابنا أن نقول: لو اتقى ما هاهنا لاتقت الجوارح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة إِذَا صَلحَت صَلحَ الجَسَد كُلهُ،وَإِذا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُهُ أَلاَ وَهِيَ القَلب"(11).
19. عظمة احتقار المسلم، لقوله: "بِحَسبِ امرئ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِم".
20- وجوب احترام المسلم في هذه الأمور الثلاثة: دمه وماله و عرضه،والله الموفق.
_______________________________________________________________
(2)
أخرجه البخاري – كتاب: العلم، طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما
عندهم من العلم، (62). ومسلم – كتاب: الجنة والنار، باب: مثل المؤمن مثل
النخلة، (2811)،(64)
(3)أخرجه الطبراني في المعجم الكبير – ج3/ص288، (3227)، وابن عمبر الشيباني في الآحاد والمثاني، ج4/ص18، (1962)
(4) أخرجه مسلم – كتاب: الرضاع، باب: الوصية بالنسائ، (1469)، (61)
(5) أخرجه مسلم – كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الغيبة، (2589)، (70).
(6) أخرجه البخاري – كتاب: البر والصلة والأداب، باب: تحريم الظلمن (2581)،(59)
(7) أخرجه البخاري – كتاب: المظالم، باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، (2444).
(8) أخرجه مسلم – كتاب: الأيمان، باب: يمين الحالف على نية المستحلف، (1653)،(20).
(9) أخرجه البخاري – كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد، (2731)،(2732).
(10) أخرجه مسلم – كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل الضعفاء والخاملين، (2622)، (138).
(11) سبق تخريجه صفحة (105)