29 Oct 2008
ح27: حديث النواس بن سمعان: (البر حسن الخلق...) أ مي
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
27- عن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ , وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليْهِ النَّاسُ)).
وعن وابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍرَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: أتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ.
قالَ: ((اسْتَفْتِ
قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأنَّ
إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكََ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي
الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)). حَديثٌ حَسَنٌ رُوِّينَاهُ في (مُسْنَدَيِ الإمامَيْنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ والدَّارِمِيِّ) بإسنادٍ حَسَنٍ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )) .رواه مسلم(1) .وعن وا بصة بن معبد رضى الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) قلت : نعم ؛ قال : (( استفت قلبك ؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن اليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك ))(2) .
قال الشيخ - رحمه الله - حديث حسن ، رويناه في مسندي الإمام أحمد بن حنبل ، و الدارمي بإسناد حسن .
الشرح (1) أخرجه مسلم- كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تفسير البر والإثم، (25539،(14).
قوله ( البر) أي الذي ذكره الله تعالى في القرآن فقال: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [المائدة: الآية2] والبر كلمة تدل على كثرة الخير .
( حسن الخلق )
أي حسن الخلق مع الله ، وحسن الخلق مع عباد الله ، فأما حسن الخلق مع الله
فان تتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم ، وأن لا يكون في نفسك حرج منها
ولا تضيق بها ذرعا ، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك
تقابل هذا بصدر منشرح.
وأيضا حسن الخلق مع الله
في أحكامه القدرية ، فالإنسان ليس دائما مسرورا حيث يأتيه ما يحزنه في ماله
أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه والذي قدر ذلك هو الله عز وجل فتكون
حسن الخلق مع الله ، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه .
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه : بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى ، وطلاقة الوجه .
وهذا هو البر والمراد به البر المطلق ، وهناك بر خاص كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بالمال والبدن والجاه وسائر الإحسان .
وهل يدخل بر الوالدين في قوله ( حسن الخلق )؟
فالجواب : نعم يدخل لأن بر الوالدين لا شك أنه خلق حسن محمود كل أحد يحمد فاعله عليه .
(والإثم ) هو ضد البر لأن الله تعالى قال : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة: الآية2] فما هو الإثم ؟
(الإثم ما حاك في نفسك ) أي تردد وصرت منه في قلق ((وكرهت أن يطلع عليه الناس))
لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك وهذه
الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما
كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المتمردون الخارجون عن
طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل
المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه
سليما طاهرا نقيا ؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع
تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه ، وهذا ضابط وليس بقاعدة ، أي علامة
على الإثم في قلب المؤمن .
من فوائد الحديث :
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .
2. الحث على حسن الخلق وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر .
فإن قال قائل : وهل البر ينافي الغضب لله عز وجل ؟ يعني لو غضبت على إنسان وشددت عليه فهل ذلك ينافي البر وحسن الخلق ؟
الجواب :
إن ذلك لا ينافي حسن الخلق ، بل هذا من حسن الخلق لأن المقصود به التربية
والتوجيه ، فهو من حسن الخلق ؛ ولهذا كان النبي صلي الله عليه وسلم لا
ينتقم لنفسه ؛ لكن إذا انتهكت محارم الله عز وجل كان أشد الناس فيها(3) .
3. إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم
بل يتردد فيه لقوله: ((والإثم ما حاك في نفسك ))
وهو يخاطب النواس بن سمعان وأمثاله وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه شيء هل
هو إثم أو غير إثم أن يدع هذا حتى يتبين لقوله صلى الله عليه وسلم: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )(4) ولا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام(5) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4. إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله: ((وكرهت أن يطلع عليه الناس ))
أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس
من يفتخر ويفاخر بالمعصية كما يوجد في الفسقة الذين يذهبون
إلى بلاد كلها فجور وخمور
ثم يأتي مفتخرا فيتحدث أنه فجر بكم إمرأة ، وأنه شرب كم كأسا من الخمر
فتكون السئية عنده حسنة ، ويكون مستهترا بأحكام الله عز وجل ، ومثل هذا
يستتاب فإن تاب وإلا قتل . لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله عز وجل، يأتي
يتبجح بما وصفه الله بأنه فاحشة كالزنى ويأتي يتبجح بشرب من لعن النبي صلي
الله عليه وسلم شاربه فأين الدين وأين الإيمان .
وإذا عومل مثل هذا بما يستحق ارتدع كثير من الناس عن مثل هذه الأمور . والله المستعان .
عن وابصة الأسدي قال: أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم
إلا سألته عنه وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا :
إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : دعوني فأدنوا منه ،
فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه قال : ( دعو وابصة، أدن يا وابصة ) مرتين أو ثلاثا قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال :( يا وابصة أخبرك أو تسألني ؟) قلت : لا ، بل أخبرني فقال :(( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) فقال : نعم ؛ فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول : (( يا وابصة استفت قلبك ؛ واستفت نفسك ) ثلاث مرات ( البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))(6) .
قوله: ( جئت تسأل عن البر )
قلت: نعم هذه جملة خبرية في ظاهرها ولكنها استفهامية في معناها فمعنى (
جئت تسأل عن البر ) يعني أجئت تسال عن البر ؟
والجملة الخبرية تأتي بمعني الأستفهام كثيرا قال الله عز وجل : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء:21] فجمله (هُمْ يُنْشِرُونَ) جملة استفهامية حذفت منها همزة الإستفهام والتقدير : أهم ينشرون حتى يتخذوهم آلهة ولهذا ينبغي للقارئ ألا يصل قوله (هُمْ يُنْشِرُونَ) بقوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء:21] يقول: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ) (هُمْ يُنْشِرُونَ) حتى يتبين المعنى لأنك لو وصلت لظن السامع أنها صفة لـ: آلهة .
فإن قال قائل : كيف وقع في قلب النبي صلي الله عليه وسلم أن هذا الرجل جاء يسأل عن البر ؟
فالجواب :
قضايا الأعيان لا يسأل عنها ، هذه قضية عين يحتمل أن النبي صلى الله عليه
وسلم بلغه أن وابصة رضي الله عنه يسأل عن البر ، فلما أتى إليه قال له: ( أجئت تسأل عن البر) ويحتمل أن هذا من فراسة النبي صلى الله عليه وسلم فالمهم: أن قضايا الأعيان يصعب جدا أن يدرك الإنسان أسبابها .
( قلت نعم قال : استفت قلبك ) أي اسأل والاستفتاء طلب الافتاء وهو بمعنى الخبر لأن الافتاء إخبار عن حكم شرعي فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم على قلبه .
( البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس) اطمأن يعني : استقر ومنه الحديث : ( اركع حتى تطمئن راكعا )(7)
أي تستقر فما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس أيضا
لا تحدثك نفسك بالخروج عنه فهذا هو البر ولكن لمن قلبه سليم ونيته صادقه .
أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تجده إذا
شرع في البر يضيق ذرعا ويسرع هربا حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه
وتطمئن نفسه إلى البر .
( والإثم ما حاك في النفس ) أي تردد فيها (وتردد في الصدر ) يعني في القلب لأنه قال : ( البر ما اطمأنت إليه نفسك وأطمأن إليه القلب ) .
( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) هذا من باب التوكيد يعني حتى لو أفتاك وأفتاك وأفتاك فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك لم يطمئن ولم يستقر فلا تلتفت للفتوى .
من فوائد الحديث :
1. حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يتقدم للسائل بما في نفسه ليستريح ويطمئن لقوله ( جئت تسأل عن البر ؟) .
2. جواز حذف همزة الإستفهام إذا دل عليها الدليل ، لكن هذا ليس حكما شرعيا إنما هو حكم لغوي .
3.
أن (نعم) جواب لإثبات ما سئل عنه فقول وابصة رضي الله عنه (نعم ) أي جئت
أسأل عن البر ؛ ولهذا لو أجاب الإنسان بها من سأله عن شيء فمعناها إثبات
ذلك الشيء .
4.
جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه
ونفسه ممن استقام دينه ؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية .
5. أن الصوفية وأشباههم استدلوا بهذا الحديث على أن الذوق دليل شرعي يرجع إليه لأنه قال : (استفت قلبك) فما وافق عليه القلب فهو بر.
فيقال : هذا لا يمكن لأن الله تعالى أنكر على من شرعوا دينا لم يأذن به الله، ولا يمكن أن يكون ما أنكره الله حقا أبدا .
ثم إن الخطاب هنا لرجل
صحابي حريص على تطبيق الشريعة فمثل هذا يؤيده الله عز وجل ويهدي قلبه حتى
لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله عز وجل
6. أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا ؛ فإن كثيراً
من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك ؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن يسأل عالما آخر ؟
الجواب : نعم بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول .
7. أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس لأن الناس
قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق فالمدار على الأدلة الشرعية والله الموفق .
(2) اخرجه الإمام أحمد في المسند (4/228) والدارمي (2/245-246) وأبو يعلى (1586،1857).
(3)
أخرجه مسلم – كتاب: الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام
واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، (2327)،(20)
(4)
أخرجه النسائي – كتاب: الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهة، (5711).
والترمذي – كتاب: صفة القيامة، باب،(2518). والإمام أحمد – في مسند
المكثرين عن أنس بن مالك، (12578)
(5)
أخرجه البخاري- كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، (52). ومسلم –
كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599)،(107)
(6)
رواه أحمد (17320)، و(17315) بلفظ: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت
إليه النفس". والدارمي – كتاب: البيوع، باب: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك،
(2438)
(7)
أخرجه البخاري- كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام
والمأموم(757)،ومسلم – كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة،
وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها،
(397)،(45)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السنيدي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(2) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيَّيْنِ:
1 -النَّوَّاسُ-
بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الوَاوِ- بنُ سِمْعَانَ- بِفَتْحِ السينِ
وكَسْرِهَا، والكَسْرُ أَشْهَرُ- بنِ خَالِدٍ الْكِلاَبِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ
سَكَنَ الشَّامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. 2 -وَابِصَةُ
بنُ مَعْبَدِ بنِ عُتْبَةَ الْجُهَنِيُّ صَحَابِيٌّ، قُبِرَ بالرَّقَّةِ،
وَعُمِّرَ إلى سَنَةِ تِسْعِينَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ-. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. الأمورُ ثَلاَثةٌ:
الشَّرحُ:
عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((البِرُّ))مُعْظَمُهُ ((حُسْنُ الخُلُقِ))مَعَ
الخَلْقِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ فيهِ عَنِ الحَقِّ، أَوِ البِرُّ كُلُّهُ
حُسْنُ المُعَامَلَةِ مَعَ اللهِ تَعَالَى و مَعَ الخَلْقِ، ((وَالإِثْمُ مَا حَاكَ)) تَرَدَّدَ ((في النَّفْسِ)): في القَلبِ، ((وَكَرِهْتَ)) تَدَيُّنًا ((أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))،
كَأَنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ قَلْبَهُ صَافٍ
يَضْطَرِبُ عِندَ إرادَةِ الإِثْمِ، وَيَطْمَئِنُّ عِنْدَ إرَادَةِ
غَيْرِهِ، فَجَعَلَ ذلكَ قَاعِدَةً لَهُ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الخَيرِ
والشَّرِّ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ القَلْبَ الصَّافِيَ عَنْ أَدْنَاسِ
الأَوْزَارِ يَضْطَرِبُ عندَ إِرَادَتِهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ
يَرْتَكِبَ الحَرَامَ، وَيَتْرُكَ المَأْمُورَ، وَيَقُولَ: قَلْبِي لاَ
يَضْطَرِبُ مِنْ ذلكَ، فلَوْ كَانَ ذَنْبًا لاَضْطَرَبَ مِنْهُ.
(وعَنْ
وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَتَيْتُ رسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ) قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ
بِمَقْصُودِي: إِظْهَارًا لِلْمُعْجِزَاتِ، وَزِيَادَةً لِإِيقَانِي
وَإِيمَانِي: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ))مَا هُوَ؟(قُلْتُ: نَعَمْ)، جِئْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ.
((قَالَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ)) وَعَوِّلْ على مَا يَقَعُ فيهِ، ((البِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ)):
سَكَنَتْ إليهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إليهِ القَلْبُ الطَّاهِرُ عنِ
الأَدْنَاسِ، فَمَا اطْمَأَنَّ إليهِ قَلْبُكَ، فَافْعَلْهُ فَإِنَّهُ
بِرٌّ، ((وَالإِثْمُ مَا حَاكَ))اضْطَرَبَ ((في النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ))ولَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ، فَمَا حَاكَ في قَلْبِكَ فَاتْرُكْهُ، ((وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ))بِبِرِّيَّةِ مَا حَاكَ في صَدْرِكَ، وَإِثْمِيَّةِ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُكَ ((وَأَفْتَوْكَ))
بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَلاَ تُقَلِّدْهُمْ فِيهِ؛ لأَِنِّي
أَعْطَيْتُكَ قَاعِدَةً، تُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَ البِرِّ وَالإِثْمِ.
1 - أَمْرٌ ظَاهِرُهُ بِرِّيَّتُهُ فَلاَ يُتْرَكُ وَإِنْ حَاكَ في الصَّدْرِ.
2 - وَأَمرٌ ظَاهِرُهُ إِثْمِيَّتُهُ فَلاَ يُرْتَكَبُ، وَإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ.
3 -
وَأَمْرٌ مُشْتَبِهٌ حَالُهُ، فذَاكَ الَّذِي يُسْتَفْتَى فِيهِ الْقَلْبُ
النَّقِيُّ عَنْ أَقْذَارِ الأَوْزَارِ؛ فَإِنَّهُ يَطْمَئِنُّ إلى
الخَيْرِ، وَيَنْفِرُ عَنِ الضُّرِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ السابعُ وَالعشرونَ
وعنْ وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((اسْتَفْتِ
قَلْبَكَ: البِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ
إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي
الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ)). أَوَّلاً:مُعَامَلَةُ الخَالِقِ، وَذلكَ بِفِعْلِ جميعِ الطاعاتِ الظاهرةِ وَالباطنةِ، وَيقولُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ...} الآيَةَ [البقرة: 177]. وَعلى
هذا يُحْمَلُ حُسْنُ الخُلُقِ؛ أي: التَّخَلُّقُ بأخلاقِ الشريعةِ،
وَالتَّأَدُّبُ بآدابِ اللَّهِ التي أَدَّبَ بِهَا عِبَادَهُ في كتابِهِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، وَالحديثِ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ).
عن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
دَرَجَةُ الحديثِ:
حديثُ النَّوَّاسِ صَحِيحٌ، أمَّا حديثُ وَابِصَةَ ففيهِ ضَعْفٌ يَتَقَوَّى بِرِوَايَاتٍ أُخْرَى تُوصِلُهُ للحَسَنِ لِغَيْرِهِ.
الراوِي:
هوَ
النَّوَّاسُ بنُ سَمْعَانَ بنِ خَالِدٍ الكِلابِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ مَعْدُودٌ في الشَّامِيِّينَ، وَلهُ سَبْعَةَ عَشَرَ
حَدِيثاً.
وَوَابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ، سَكَنَ الرَّقَّةَ وَمَاتَ بها، وَلهُ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثاً.
موضوعُ الحديثِ:
تَعْرِيفُ البرِّ وَالإِثمِ.
المفرداتُ:
(البِرُّ):
كَلِمَةٌ جامعةٌ لجميعِ أفعالِ الخيرِ كالعباداتِ وَخِصَالِ المعروفِ
كالمُعَامَلاتِ، مِن البَرِّ: وَهوَ المكانُ المُتَّسِعُ؛ لاتِّسَاعِ هذهِ
الكلمةِ في مَعْنَاهَا؛ إِذْ تَشْمَلُ الخيرَ كُلَّهُ وَالمعروفَ كُلَّهُ
وَالطاعاتِ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ.
وَفُسِّرَ
(البِرُّ) في حديثِ النَّوَّاسِ بِحُسْنِ الخُلُقِ، وَفي حديثِ وَابِصَةَ
بما اطْمَأَنَّتْ إِليهِ النفسُ، وَفي حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ بالحَلالِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التفسيرُ للبِرِّ؛ لأنَّ البِرَّ يُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ:
ثانياً:مُعَامَلَةُ
الخَلْقِ بالإِحسانِ إِليهم، مِثْلُ: بِرِّ الوالِدَيْنِ، وَبِرِّ
الأرحامِ، وَمنهُ الحَجُّ المَبْرُورُ؛ إِذْ فُسِّرَ (بِإِطْعَامِ
الطَّعَامِ وَإِفْشَاءِ السَّلامِ وَطِيبِ الْكَلامِ). وَيقولُ ابنُ
عُمَرَ: (الْبِرُّ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلامٌ لَيِّنٌ).
وإِذا قُرِنَ بالتَّقْوَى كَمَا في قولِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: 2]، فَالمُرَادُ بـ(البِرِّ):
مُعَامَلَةُ الخَلْقِ بالإِحسانِ، وَالمُرَادُ بـالتَّقْوَى: مُعَامَلَةُ
الحَقِّ بِفِعْلِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي. وَقدْ يُرَادُ بـ(البرِّ)
فِعْلُ الواجباتِ وَبـالتَّقْوَى تَرْكُ المُحَرَّمَاتِ، وَالأَوْلَى أَنْ
يَكُونَ البِرُّ مُعَامَلَةَ الحَقِّ وَالخَلْقِ لِيَشْمَلَ كُلَّ خَيْرٍ.
(حُسْنُ الخُلُقِ):
الحُسْنُ: ضِدُّ القُبْحِ، وَيَشْمَلُ حُسْنَ القلبِ وَسلامتَهُ مِنْ كلِّ
ضَغِينَةٍ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ وَبَغْضَاءَ، وَحُسْنَ اللسانِ بالكلامِ
الطَّيِّبِ، وَحُسْنَ الأفعالِ مِنْ بَذْلِ المَعْرُوفِ وَالإِحسانِ
وَلِينِ الجانبِ وَبَذْلِ المالِ وَطَلاقَةِ الوجهِ وَكَفِّ الأَذَى
وَبَذْلِ الخَيْرِ، وَأنْ يُحِبَّ للناسِ ما يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ. وَ(الخُلُقِ)؛ أي: السَّجِيَّةِ وَالمُرُوءَةِ وَالطَّبْعِ وَالعادَةِ.
فَأَمَّا السَّجِيَّةُ أي: الفطرةُ التي فُطِرَ عليها.
وَأمَّا المُرُوءَةُ فَحُسْنُ التعاملِ معَ الناسِ.
وَأمَّا الطبعُ فَانْطِبَاعُ الناسِ بالخيرِ جِبِلَّةً أَوْ تَعَلُّماً.
وَأمَّا العَادَةُ فَتَعَوُّدُ الخيرِ وَبَذْلُهُ.
والخُلُقُ يَنْقَسِمُ إِلى قِسْمَيْنِ:
1-جِبِلَّةٌ
جُبِلَ الإِنسانُ عَلَيْهِ، وَهيَ نعمةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بها على العبدِ.
وَالإِنسانُ لا يَسَعُ الناسَ بِمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَلكنَّهُ يَسَعُهُمْ
بأَخْلاقِهِ، وَقدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحْسَنَ الناسِ خُلُقاً.
2-مُكْتَسَبٌ
مِن القرآنِ وَالسُّنَّةِ وَأخلاقِ الصالحِينَ، فَيُزَادُ مِن الخيرِ
وَيُبْتَعَدُ مِن الشرِّ، وَقدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ الناسِ خُلُقاً، وَكانَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاقاً))، وَيقولُ: ((مَا
مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ،
وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ
الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ)).
(ما حَاكَ في نَفْسِكَ):
أيْ تَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وَأَحْدَثَ فيهِ حَرَجاً وَضِيقاً
وَاضْطِرَاباً، فَكَأَنَّ حَكَّهُ في الصَّدْرِ يَدُلُّ على انْحِرَافٍ عَن
الطريقِ المستقيمِ، وَهذا بعَكْسِ البِرِّ الذي هوَ ما اطْمَأَنَّتْ
إِليهِ النفسُ وَسَكَنَتْ وَاتَّسَعَ الصدرُ؛ إِذْ هوَ سَعَةٌ كَسَعَةَ
البرِّ. وَهذا يُشْبِهُ المُتَشَابِهَ الذي لا يَدْرِي الإِنسانُ أَحَلالٌ
هوَ أمْ حَرَامٌ، وَيُشْبِهُ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ)). وَهذهِ علامةٌ داخليَّةٌ للإِثمِ.
(وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ):
هذهِ العلامةُ الخارجيَّةُ للإِثمِ؛ أيْ: لا تَرْغَبُ أنْ يَرَاهُ الناسُ
مِنْكَ لِعَدَمِ مَحَبَّتِهِ منهم. وَإِنَّ المروءةَ أَنْ يَفْعَلَ
الإِنسانُ مَا يَحْمَدُهُ الناسُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكَ مَا يَذُمُّهُ الناسُ
عَلَيْهِ؛ لأنَّ الطِّبَاعَ السليمةَ مَفْطُورَةٌ على الإِسلامِ، فَمَا
رَآهُ المسلمونَ حَسَناً فهوَ حَسَنٌ، وَما رَآهُ المسلمونَ سَيِّئاً فهوَ
سَيِّئٌ.
وَبهذا يَكُونُ للإِثمِ عَلامَتَانِ:
1-دَاخِلِيَّةٌ: وَهيَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الأمرُ في النفسِ وَيَتْرُكَ فيها قَلَقاً وَنُفُوراً.
2- خَارِجِيَّةٌ: وَهيَ أنْ يَكْرَهَ اطِّلاعَ الناسِ عَلَيْهِ.
(جِئْتَ تَسْأَلُ عَن البِرِّ):
هذا مِنْ مُعْجِزَاتِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ
أَخْبَرَهُ بِمَا يُرِيدُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بإِعْلامِ اللَّهِ
تَعَالَى لهُ.
(اسْتَفْتِ قَلْبَكَ):
أي اطْلُب الفَتْوَى مِنْ قَلْبِكَ مَا دَامَ على صَفَاءِ فِطْرَتِهِ لمْ
تُدَنِّسْهُ آفَاتُ الهَوَى؛ فإِنَّهُ بالفِطْرَةِ يَنْظُرُ بِنُورِ
اللَّهِ وَعلى صراطِ اللَّهِ، وَيَتَّبِعُ رُسُلَ اللَّهِ.
وَخَصَّ
القلبَ؛ لأنَّهُ مكانُ الإِيمانِ وَالتَّقْوَى وَالصَّلاحِ، وَبهِ يُوزَنُ
العَبْدُ، وَهوَ مكانُ نَظَرِ الربِّ، وَزَادُهُ خَيْرُ زَادٍ،
وَلِبَاسُهُ خَيْرُ لِبَاسٍ.
(مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ):
أيْ سَكَنَتْ إِليهِ، وَرَضِيَتْ بهِ، وَأَحَبَّتْهُ، وَفَرِحَتْ بِهِ،
وَتَلَذَّذَتْ بهِ، وَسَارَعَتْ إِليهِ، وَتَمَنَّتْ بَقَاءَهُ. وَهذهِ
السكينةُ وَالثباتُ على الحقِّ؛ لأنَّها مَفْطُورَةٌ على ذلكَ.
(وإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ):
أيْ وَإِنْ قَالَ لَكَ الناسُ غيرَ ذلكَ مِمَّنْ هُم مِنْ أهلِ الجهلِ
وَأهلِ الشرِّ وَالفسادِ، الذينَ لا يُصْلِحُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَكَيْفَ
يُصْلِحُونَ غَيْرَهُمْ؟!
وَأمَّا
أهلُ العلمِ وَالاجتهادِ فَهُم الذينَ يُسْأَلُونَ، وَهُم الذينَ يُسْمَعُ
قَوْلُهُمْ؛ لأنَّهُم أَهْلُ عِلْمٍ وَأهلُ دِرَايَةٍ وَرِوَايَةٍ
وَحَقٍّ، وَيُرِيدُونَ الخيرَ للناسِ، وَلا يُرِيدُونَ الأهواءَ، قَالَ
تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}[النحل: 43].
الخُلاصةُ:وَبهذا
يَتَبَيَّنُ لنا البرُّ وَالإِثْمُ وَيَظْهَرُ مَعْنَاهُمَا، وَأنَّ
كُلاًّ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بالقلبِ. فَمَا سَكَنَ إِليهِ القَلْبُ
وَأَحَبَّهُ وَنَتَجَ عنهُ الالتزامُ بالأوامرِ وَتَرْكُ النَّوَاهِي
وَمعاملةُ الناسِ بالحُسْنَى فهوَ مِن البرِّ؛ لاتِّسَاعِ مَفْهُومِهِ
وَكَثْرَةِ خيرِهِ، وَما تَرَدَّدَ في النفسِ وَضَاقَ بهِ الصدرُ
وَكَرِهَتْهُ الفِطْرَةُ وَأَبْغَضَهُ الناسُ فهوَ مِن الإِثمِ الذي
تَضِيقُ بهِ النفوسُ السليمةُ، وَتَأْبَاهُ الفِطَرُ السليمةُ،
وَيَكْرَهُهُ الناسُ.
الفَوَائِدُ:
1-كَثْرَةُ أبوابِ الخيرِ.
2- وُجُوبُ البرِّ في حقوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
3-وُجُوبُ البرِّ للمَخْلُوقِينَ.
4- فَضْلُ حُسْنِ الخُلُقِ.
5- الدِّينُ المُعَامَلَةُ.
6- الحثُّ على الحسنةِ في كلِّ شيءٍ.
7-حِمَايَةُ الفِطْرَةِ مِن الآثَامِ.
8- كَمَالُ الإِنسانيَّةِ بِوُجُودِ الفِطْرَةِ.
9- مُحَارَبَةُ الشَّيْطَانِ للفِطْرَةِ.
10-التَّحْذِيرُ مِن الإِثْم
11-تَرْكُ الشيءِ عندَ التَّرَدُّدِ فيهِ.
12-القلوبُ السليمةُ مِقْيَاسُ الخيرِ وَالشرِّ.
13-العَدْلُ في مُعاملةِ الناسِ.
14-مُعَامَلَةُ الناسِ بالحُسْنَى.
15-اعْتِبَارُ المُرُوءَةِ في الأخلاقِ.
16-طَلَبُ النَّجَاةِ (بِسُؤَالِهِ عَنِ البِرِّ).
17-طُمَأْنِينَةُ القلبِ السليمِ للخيرِ.
18-نُفُورُ القلبِ السليمِ مِن الشرِّ.
19-سُؤَالُ أَهْلِ العلمِ.
20-الحَذَرُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ.
21-العِلْمُ أَفْضَلُ مِن العبادةِ.
22-بَيَانُ البرِّ وَالإِثمِ.
23-وُضُوحُ الدِّينِ كُلِّهِ.
24-إِبْلاغُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأُمَّةِ.
25-كَمَالُ الشريعةِ.
26- الرَّدُّ على أهلِ البِدَعِ.
27-التَّرْغِيبُ في الخيرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِن الشرِّ.
28-الإِيمانُ بِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
29-بَلاغَةُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(2) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ ابنُ
حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: (هذا الحديثُ مِنْ جوامعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بلْ مِنْ أَوْجَزِهَا؛ إذ الْبِرُّ كلمةٌ جامعةٌ
لجميعِ أفعالِ الخيرِ وخِصَالِ المعروفِ، والإثمُ كلمةٌ جامعةٌ لجميعِ
أفعالِ الشَّرِّ والقبائحِ كبيرِهَا وصغيرِهَا؛ ولهذا السَّببِ قابَلَ
النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينَهُمَا وجَعَلَهُمَا
ضِدَّيْنِ). وقالَ
ابنُ حَجَرٍ الهيتميُّ:( الْبِرُّ كلمةٌ جامعةٌ لجميعِ أفعالِ الخيرِ
وخِصالِ المعروفِ. وهذا تعريفٌ شاملٌ، ففي حديثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ
عَرَّفَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وفي حديثِ
وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ عَرَّفَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما
اطْمَأَنَّتْ إليهِ النَّفْسُ. الإثْمُ: الذَّنْبُ، وقيلَ: هوَ أنْ يعملَ ما لا يَحِلُّ لهُ.
تعريفُ الْبِرِّ:
الْبِرُّ:الطـَّاعةُ
والصِّدقُ. قالَ العلماءُ: البرُّ يَكونُ بمعنى الصِّلَةِ، وبمعنى
اللُّطْفِ والْمَبَرَّةِ وحُسْنِ الصُّحبَةِ والعِشْرَةِ، وبمعنى
الطَّاعةِ. وهذهِ الأمورُ هيَ مَجامِعُ حُسْنِ الْخُلُقِ.
فالْبِرُّ يُطْلَقُ ويُرادُ بهِ مُعَامَلةُ العِبادِ بالإحسانِ إليهم؛ مثلُ الإحسانِ للوالدَيْنِ وغيرِهِمْ.
ويُطْلَقُ البرُّ كذلكَ ويُرادُ بهِ فِعْلُ جميعِ الطَّاعاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، قالَ تعالى: {وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
وإذا قُرِنَ الْبِرُّ بالتَّقوى، كما قالَ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}،
يكونُ معنى الْبِرِّ مُعَامَلَةَ العِبادِ بالْحُسنى، ويكونُ معنى
التَّقوى طاعةَ اللهِ فيما أَمَرَ والابتعادَ عمَّا نَهَى عنْهُ. وقدْ
يكونُ معنى الْبِرِّ فعلَ الواجباتِ، ومعنى التـَّقوى الابتعادَ عن
الْمَنْهِيَّاتِ.
وقالَ القرطبيُّ: (الإِثمُ الفعلُ الَّذي يَستحقُّ عليهِ صاحبُهُ الذَّمَّ).
وقالَ ابنُ حَجَرٍ الهيتميُّ: (والإثمُ كلمةٌ جامعةٌ لجميعِ أفعالِ الشَّرِّ والقبائحِ؛ كبيرِهَا وصغيرِهَا).
وفي هذا الحديثِ بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضَ علاماتِ الإثْمِ:
الأُولى:داخليَّةٌ، وهيَ شعورُ المرءِ بقلقٍ واضطرابٍ في نفسِهِ ونفورٍ وبُغْضٍ لهُ. قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ)).
ومعنى ذلكَ: تَرَدَّدَ في النَّفْسِ اضْطِرَابٌ وقلقٌ ونُفورٌ، فلمْ يَنشَرِحْ لهُ الصَّدرُ، ولمْ يَطْمَئِنَّ إليهِ القلبُ.
وفي روايَةِ وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ: قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ)). ومعنى ذلكَ: أي: اضْطَرَبَ منهُ القلبُ ولمْ يَسْكُنْ إليهِ.
الثَّانيَةُ:خارجيَّةٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَكَرِهـْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)). قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ).
معنى هذا أنَّ ما لمْ تَطْمَئِنَّ لهُ القلوبُ مِن الفتوى فهوَ إِثْمٌ،
وإنْ أَفْتَاهُ المُفْتُونَ بأنَّهُ ليسَ بإثمٍ؛ لأنَّهُم يُصْدِرُونَ
فَتَاوَاهُمْ على ظاهرِ الأمورِ لا بَوَاطِنِهَا، والإنسانُ أَعْلَمُ
بباطنِهِ مِنْ غيرِهِ. وهذا يكونُ لِمَنْ نَوَّرَ اللهُ قلبَهُ بنورِ الإيمانِ، ومَنَّ عليهِ بطَهارَةِ النَّفْسِ.
كراهيَةُ
نَظَرِ أهْلِ الفَضْلِ مِن النَّاسِ علامةُ الإثمِ، بشَرْطِ أنْ يكونَ
دافعُ كَرَاهِيَتِهِ دِينيًّا، لا كَرَاهيَةً عاديَّةً.
وإذا
اجتمعَ عندَ الفعلِ كراهيَةُ نظرِ النَّاسِ معَ القلقِ والاضطرابِ
النَّفسيِّ وعدمِ اطمئنانِ القلبِ كانَ هذا مِنْ أَوْضَحِ مَراتبِ مَعرفةِ
الإثمِ، وخاصَّةً عندَ الاشتباهِ.
وتكونُ فتوى المفتِي لهُ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ أوْ مَيْلِ هوًى مِنْ غيرِ دليلٍ شرعيٍّ.
مِثْلُ:
ما قالَ النَّوويُّ: الهديَّةُ إذا جَاءَتْكَ مِنْ شخصٍ غالبُ مالِهِ
حرامٌ، وتردَّدَت النَّفسُ في حِلِّهَا، وأَفْتَاكَ المُفْتِي بحِلِّ
الأكلِ، فإنَّ الفتوى لا تُزيلُ الشُّبْهَةَ.
وكذلكَ
إذا أَخْبَرَتْهُ امرأةٌ بأنَّهُ ارْتَضَعَ معَ فُلانةٍ، فإنَّ المُفْتِيَ
إذا أَفْتَاهُ بجوازِ نِكاحِهَا لعدمِ استكمالِ النِّصابِ، لا تكونُ
الفتوى مُزيلةً للشُّبهةِ، بلْ يَنْبَغِي الوَرَعُ وإنْ أَفْتَاهُ
النَّاسُ.
أمَّا
إذا كانتْ فتوى المفتِي تَستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ، فيَجبُ على المرءِ أنْ
يَتقيَّدَ بها وإنْ لمْ يَطمئِنَّ قلبُهُ. مثالُ ذلكَ: الرُّخصةُ بالفِطرِ
في السَّفرِ والمرضِ، وقَصْرِ الصَّلاةِ، ونَحْوِ ذلكَ ممَّا قدْ لا ينشرحُ
لهُ الصَّدرُ. ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ أصحابَهُ بفَسْخِ الحجِّ إلى عُمرةٍ، ولمْ تَنشرحْ صدورُهُم إلى
ذلكَ، وكَرِهَ بعضُهُمْ ذلكَ. وكذلكَ أمرَهُمْ بنحرِ الْهَدْيِ
والتَّحلُّلِ مِنْ عُمرةِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعضُهُم كرِهَ ذلكَ.
والْخُلاصةُ
ما وَرَدَ بهِ نصٌّ شرعيٌّ يَجِبُ الانقيادُ لهُ، سواءٌ كَرِهَتْهُ
النَّفسُ واضْطَرَبَ القلبُ بهِ أمْ لا. قالَ تَعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
مَنْزِلةُ الأخلاقِ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ)، بمعنى: حُسْنُ الخلقِ أعظمُ خِصالِ الْبِرِّ. كمَا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الْحَجُّ عَرَفَةُ))، بمعنى: رُكْنُهُ العظيمُ الَّذي لا يَتِمُّ إلاَّ بهِ.
والمقصودُ
بالأخلاقِ جميعُ ما دعَا لهُ القرآنُ مِنْ فضائلَ؛ لأنَّ السَّيِّدَةَ
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: "كانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ القرآنَ"، بمعنى أنْ يَتأَدَّبَ بآدابِهِ فيمتثِلَ أوامرَهُ،
ويبتعدَ عنْ نواهيهِ؛ لذلكَ أثنى اللهُ عزَّ وجلَّ على رسولِهِ قالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
فَمَنْ أرادَ أنْ يَسْمُوَ خُلُقُهُ فعليهِ أنْ يَتَّبعَ رسولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَأَدُّبِهِ معَ ربِّهِ عزَّ وجلَّ
وبمُعَامَلَتِهِ للنَّاسِ، قالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
فوائدُ الحديثِ:
1-في الحديثِ إشارةٌ إلى مَنْزِلَةِ القلبِ وَاسْتِفْتَائِهِ.
2-الدَّافعُ لتشريعاتِ السَّماءِ الدَّافعُ الدَّاخليُّ. وهذا بخلافِ القوانينِ الوضعيَّةِ؛ فإنَّ الْوَازِعَ فيها خارجيٌّ.
3-في
الحديثِ إشارةٌ عظيمةٌ إلى مَنْزِلَةِ القلبِ، وأنَّهُ إذا صَلَحَ
واستقامَ وَوَعَى أُصُولَ الدِّينِ وقواعدَهُ يكونُ حُكْمُهُ في مقامِ
المُشْتَبِهِ صحيحًا، فما اطْمَأَنَّ لهُ بِرٌّ وخيرٌ، وما كَرِهَهُ إثمٌ
وشَرٌّ.
4-في
الحديثِ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ في بعضِ الأمورِ، مثلِ الشُّبُهاتِ
وغيرِهَا، يَرْجِعُ إلى قلبِهِ إذا أرادَ الإقدامَ على فعلِ شيءٍ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(2)أمَّا
حديثُ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ، فخَرَّجَهُ مسلِمٌ مِنْ روايَةِ
معاويَةَ بنِ صالحٍ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، عنْ
أبيهِ، عن النَّوَّاسِ. ومعاويَةُ وعبدُ الرحمنِ وأَبُوهُ تَفَرَّدَ
بتخريجِ حَدِيثِهم مُسلمٌ دونَ البخاريِّ.
وأمَّا
حديثُ وَابِصَةَ، فخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ مِنْ طريقِ حَمَّادِ بنِ
سَلَمَةَ عن الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ السلامِ، عنْ أيُّوبَ بنِ عبدِ اللَّهِ
بنِ مِكْرِزٍ، عنْ وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ قالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُريدُ أَنْ لا أَدَعَ شَيْئًا
مِن الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلا سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقالَ لِي: ((ادْنُ يَا وَابِصَةُ))، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبتَهُ.
فَقالَ: ((يَا وَابِصَةُ، أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْهُ، أَوْ تَسْأَلُنِي؟)).
قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي. قالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ)).
قُلْتُ: نَعَمْ.
فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلاثَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي ويقولُ: ((يَا
وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ
الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي
الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ
وَأَفْتَوْكَ)). وفي روايَةٍ أُخْرَى للإِمامِ أحمدَ، أنَّ الزُّبيرَ لمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أيُّوبَ، قالَ: وحَدَّثَنِي جُلساؤُهُ، وقدْ رَأَيْتُهُ. ففي إسنادِ هذا الحديثِ أَمْرَانِ يُوجِبُ كلٌّ منهما ضَعْفَهُ:
أحدُهما: انقطاعُهُ بينَ الزُّبيرِ وأيُّوبَ؛ فإنَّهُ رواهُ عنْ قَومٍ لمْ يَسْمَعْهُم.
والثاني: ضَعْفُ
الزُّبيرِ هذا، قالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: روى أحاديثَ مَناكيرَ، وضَعَّفَهُ
ابنُ حِبَّانَ أيضًا، لكنَّهُ سَمَّاهُ أيُّوبَ بنَ عبدِ السلامِ،
فأَخْطَأَ في اسْمِهِ. ولهُ طَرِيقٌ آخَرُ عنْ وَابِصَةَ خَرَّجَهُ
الإِمامُ أحمدُ أيضًا مِنْ روايَةِ مُعاويَةَ بنِ صالحٍ، عنْ أبي عبدِ
اللَّهِ السُّلَمِيِّ قالَ: سَمِعْتُ وَابِصَةَ، فذَكَرَ الحديثَ
مُخْتَصَرًا، ولفظُهُ: قالَ: ((الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ)).
والسُّلَمِيُّ هذا، قالَ عَلِيُّ بنُ الْمَدِينِيِّ: هوَ مَجهولٌ.
وخَرَّجَهُ
البَزَّارُ والطبرانيُّ، وعندَهما أبو عبدِ اللَّهِ الأَسدِيُّ. وقالَ
البَزَّارُ: (لا نَعْلَمُ أحدًا سَمَّاهُ)، كذا قالَ. وقدْ سُمِّيَ في بعضِ
الرواياتِ مُحَمَّدًا.
قالَ
عبدُ الغنيِّ بْنُ سعيدٍ الحافظُ: (لوْ قالَ قائلٌ: إنَّهُ مُحَمَّدُ بنُ
سعيدٍ المَصْلُوبُ، لَمَا دَفَعْتُ ذلكَ)، والمَصْلُوبُ هذا صَلَبَهُ
المنصورُ في الزَّنْدَقَةِ، وهوَ مَشهورٌ بالكَذِبِ والوَضْعِ، ولكِنَّهُ
لمْ يُدْرِكْ وَابِصَةَ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
_
وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وبعضُ طُرُقِهِ جَيِّدَةٌ، فخَرَّجَهُ
الإِمامُ أحمدُ وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ طريقِ يَحْيَى بنِ أبي
كَثيرٍ، عنْ زيدِ بنِ سَلامٍ، عنْ جدِّهِ مَمْطُورٍ، عنْ أبي أُمَامَةَ
قالَ: قالَ رَجُلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ما الإِثْمُ؟
قالَ: ((إِذَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ)).
وهذا إسنادٌ جيِّدٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ؛ فإنَّهُ خَرَّجَ حديثَ يَحْيَى
بنِ أبي كثيرٍ عنْ زيدِ بنِ سَلامٍ، وأَثْبَتَ أحمدُ سَمَاعَهُ منهُ، وإنْ
أَنْكَرَهُ ابنُ مَعِينٍ.
_
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ روايَةِ عبدِ اللَّهِ بنِ العلاءِ بنِ
زَبْرٍ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ مِشْكَمٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا ثَعْلَبَةَ
الْخُشَنِيَّ يقولُ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَا يَحِلُّ
لِي وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ.
فَقالَ:
((الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ
الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ
يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ)).
وهذا أيضًا إسنادٌ جَيِّدٌ، وعبدُ اللَّهِ بنُ العلاءِ بنِ زَبْرٍ ثِقَةٌ
مَشهورٌ، وخَرَّجَهُ البخاريُّ. ومسلِمُ بنُ مِشْكَمٍ ثقةٌ مَشهورٌ أيضًا.
_
وخَرَّجَ الطبرانيُّ وغيرُهُ بإسنادٍ ضعيفٍ مِنْ حديثِ واثلةَ بنِ
الأسْقَعِ قالَ: قُلْتُ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
أَفْتِنِي عنْ أَمْرٍ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قالَ: ((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ))، قُلْتُ: كَيفَ لِي بِذَاكَ؟
قالَ: ((تَدَعُ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ)).
قُلْتُ: وَكَيْفَ لِي بِذَاكَ؟
قالَ: ((تَضَعُ يَدَكَ عَلَى قَلْبِكَ؛ فَإِنَّ الْفُؤَادَ يَسْكُنُ لِلْحَلالِ، وَلا يَسْكُنُ لِلْحَرَامِ)). ويُرْوَى نحوُهُ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ بإسنادٍ ضعيفٍ أيضًا.
_
وروى ابنُ لَهِيعَةَ، عنْ يَزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، أنَّ سُوَيْدَ بنَ قيسٍ
أَخْبَرَهُ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ مُعاويَةَ، أنَّ رَجُلاً سألَ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ
لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟
وَرَدَّدَ عَلَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ، كُلَّ ذَلِكَ يَسْكُتُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ قالَ: ((أَيْنَ السَّائِلُ؟)).
فقالَ: أَنَا ذا يا رسولَ اللَّهِ، فَقالَ بِأَصَابِعِهِ: ((مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ)).
خَرَّجَهُ أبو القاسمِ البَغَوِيُّ في (مُعْجَمِهِ)، وقالَ: (لا أَدْرِي
عَبْدُ الرحمنِ بنُ مُعاويَةَ سَمِعَ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ أمْ لا، ولا أَعْلَمُ لهُ غيرَ هذا الحديثِ).
قُلْتُ:
هوَ عبدُ الرحمنِ بنُ مُعاويَةَ بنِ حُدَيْجٍ، جاءَ مَنْسُوبًا في كتابِ
(الزُّهْدِ) لابنِ الْمُبارَكِ. وعبدُ الرحمنِ هذا تَابِعِيٌّ مَشهورٌ،
فحديثُهُ مُرْسَلٌ.
_
وقدْ صَحَّ عن ابنِ مَسعودٍ أنَّهُ قالَ: (الإِثْمُ حَوَازُّ القُلُوبِ).
واحتجَّ بهِ الإِمامُ أحمدُ، _ ورواهُ عنْ جريرٍ، عنْ منصورٍ، عنْ
مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عنْ أبيهِ قالَ: قالَ عبدُ اللَّهِ:
(إِيَّاكُمْ وَحُزَّازَ القُلُوبِ، وما حَزَّ في قَلْبِكَ مِنْ شيءٍ
فَدَعْهُ).
_ وقالَ أبو الدرداءِ: (الْخَيْرُ في طُمأنينةٍ، والشرُّ في رِيبَةٍ).
_
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ مِنْ وَجْهٍ مُنْقَطِعٍ، أنَّهُ قيلَ لهُ:
(أَرَأَيْتَ شيئًا يَحِيكُ في صُدُورِنا، لا نَدْرِي أحلالٌ هوَ أمْ
حَرَامٌ؟)
فقالَ: (إيَّاكُمْ والحَكَّاكَاتِ؛ فَإِنَّهُنَّ الإِثمُ).
والْحَزُّ والْحَكُّ مُتقارِبانِ في المعنى، والمرادُ: ما أَثَّرَ في القلْبِ ضِيقًا وحَرَجًا، ونُفورًا وكَراهةً.
_ وفي حديثِ بَهْزِ بنِ حَكيمٍ عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ أنَّهُ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟
قالَ: ((أُمَّكَ)).
قالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قالَ: ((ثُمَّ أَبَاكَ)).
قالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قالَ: ((ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأقْرَبَ)).
ومِنْ هذا المعنى: قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ))، وفي (الْمُسْنَدِ) أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عنْ بِرِّ الْحَجِّ، فقالَ: ((إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ)).
وفي روايَةٍ أُخْرَى: ((وَطِيبُ الْكَلامِ)).
وكانَ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يقولُ: (الْبِرُّ شيءٌ هَيِّنٌ: وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ لَيِّنٌ).
وإذا قُرِنَ الْبِرُّ بالتَّقوى، كما في قولِهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:
2]، فقدْ يكونُ المرادُ بالْبِرِّ مُعامَلَةَ الْخَلْقِ بالإِحسانِ،
وبالتَّقْوَى مُعامَلَةَ الحقِّ بفِعْلِ طَاعَتِهِ، واجتنابِ
مُحَرَّماتِهِ، وقدْ يكونُ أُريدَ بالْبِرِّ فِعْلُ الواجباتِ، وبالتقوى
اجتنابُ الْمُحرَّماتِ.
وقولُهُ تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2].
قدْ يُرادُ بالإِثمِ المعاصِي، وبالْعُدْوَانِ ظُلْمُ الْخَلْقِ.
وقدْ
يُرادُ بالإِثمِ ما هوَ مُحَرَّمٌ في نَفْسِهِ؛ كالزِّنَى والسَّرِقَةِ
وشُرْبِ الخمرِ، وبالعُدوانِ تَجَاوُزُ ما أُذِنَ فيهِ إلى ما نُهِيَ عنهُ
مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فيهِ؛ كقَتْلِ مَنْ أُبيحَ قَتْلُهُ لِقِصاصٍ،
ومَنْ لا يُباحُ، وأَخْذُ زيادةٍ على الواجبِ مِن الناسِ في الزكاةِ
ونحوِها، ومُجاوَزَةُ الْجَلْدِ الذي أُمِرَ بهِ في الحدودِ، ونحوِ ذلكَ.
والمعنى الثاني مِنْ معنى الْبِرِّ: أنْ يُرادَ بهِ فعلُ جميعِ الطاعاتِ الظاهِرَةِ والباطنةِ، كقولِهِ تعالى: {وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهَ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177].
وقدْ
يكونُ جَوابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في حديثِ
النَّوَّاسِ شَامِلاً لهذهِ الْخِصالِ كُلِّها؛ لأنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قدْ
يُرادُ بهِ التَّخَلُّقُ بأخلاقِ الشريعةِ، والتَّأَدُّبُ بآدابِ اللَّهِ
التي أَدَّبَ بها عِبادَهُ في كتابِهِ، كما قالَ تعالى لرسولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 2].
وقالَتْ
عائشةُ: (كانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ،
يَعني: أنَّهُ يَتَأَدَّبُ بآدابِهِ، فيَفْعَلُ أوامرَهُ ويَجْتَنِبُ
نَواهِيَهُ، فصارَ العملُ بالقرآنِ لهُ خُلُقًا كالْجِبِلَّةِ والطَّبيعةِ
لا يُفارِقُهُ، وهذا أَحسنُ الأخلاقِ وأَشْرَفُها وأَجْمَلُها).
وقدْ قيلَ: (إنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ).
وأمَّا في حديثِ وابصةَ، فقالَ: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفُسُ)).
وفي روايَةٍ: ((مَا انْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ)).
وفَسَّرَ
الحلالَ بنحوِ ذلكَ في حديثِ أبي ثَعلبةَ وغيرِهِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ
اللَّهَ فَطَرَ عِبادَهُ على مَعرِفَةِ الحقِّ، والسُّكُونِ إليهِ
وقَبُولِهِ، ورَكَّزَ في الطِّباعِ مَحَبَّةَ ذلكَ، والنفورَ عنْ ضِدِّهِ.
وقدْ يَدْخُلُ هذا في قولِهِ في حديثِ عِياضِ بنِ حِمَارٍ: ((إِنِّي
خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ، فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ
لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا))،
وقولُهُ: ((كُلُّ
مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً
جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟)) قالَ أبو هُريرةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}.
ولهذا سَمَّى اللَّهُ ما أَمَرَ بهِ مَعْرُوفًا، وما نَهَى عنهُ مُنْكَرًا، فقالَ: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}[النحل: 90].
وقالَ في صفةِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف:
157]، وأَخْبَرَ أنَّ قلوبَ المؤمنينَ تَطْمَئِنُّ بذِكْرِهِ، فالْقَلْبُ
الذي دَخَلَهُ نورُ الإِيمانِ، وانْشَرَحَ بهِ وانْفَسَحَ، يَسْكُنُ
للحَقِّ، ويَطْمَئِنُّ بهِ ويَقْبَلُهُ، ويَنْفِرُ عن الباطلِ ويَكْرَهُهُ
ولا يَقْبَلُهُ.
قالَ
مُعاذُ بنُ جَبَلٍ: (أُحَذِّرُكم زَيْغَةَ الحكيمِ؛ فإنَّ الشيطانَ قدْ
يَقولُ كلمةَ الضلالةِ على لسانِ الحكيمِ، وقدْ يقولُ المنافِقُ كَلِمَةَ
الحقِّ.
فقِيلَ لِمُعاذٍ: ما يُدْرِينِي أنَّ الحكيمَ قدْ يقولُ كلمةَ الضلالةِ، وأنَّ المنافِقَ يقولُ كلمةَ الْحَقِّ؟
قالَ:
اجْتَنِبْ مِنْ كلامِ الحكيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ التي يُقالُ: ما هذهِ؟ ولا
يُثْنِيَنَّكَ ذلكَ عنهُ؛ فإنَّهُ لَعَلَّهُ أنْ يُرَاجِعَ. وتَلَقَّ
الحقَّ إذا سَمِعْتَهُ؛ فإنَّ على الحقِّ نُورًا). خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ.
وفي روايَةٍ لهُ قالَ: (بلْ ما تَشابَهَ عليكَ مِنْ قولِ الحكيمِ حتَّى تَقُولَ: ما أرادَ بهذهِ الكلمةِ؟)
فهذا
يَدُلُّ على أنَّ الحقَّ والباطلَ لا يَلْتَبِسُ أَمْرُهما على المؤمنِ
البصيرِ، بلْ يَعْرِفُ الحقَّ بالنُّورِ الذي عليهِ، فَيَقْبَلُهُ
قَلْبُهُ، ويَنفِرُ عن الباطلِ فيُنْكِرُهُ ولا يَعْرِفُهُ. ومِنْ هذا
المعنى قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((سَيَكُونُ
فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا
أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ))، يعني: أنَّهم يَأْتُونَ بما تَسْتَنْكِرُهُ قلوبُ المؤمنينَ ولا تَعْرِفُهُ. وفي قولِهِ: ((أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ))،
إشارةٌ إلى أنَّ ما اسْتَقَرَّتْ مَعرِفتُهُ عندَ المؤمنينَ معَ تَقادُمِ
العهدِ وتَطاوُلِ الزَّمانِ، فهوَ الْحَقُّ، وأنَّ ما أُحْدِثَ بعدَ ذلكَ
مِمَّا يُسْتَنْكَرُ، فلا خيرَ فيهِ.
فدَلَّ
حديثُ وابصةَ وما في معناهُ على الرجوعِ إلى القلوبِ عندَ الاشتباهِ، فما
إليهِ سَكَنَ القلبُ، وانْشَرَحَ إليهِ الصَّدرُ، فهوَ الْبِرُّ والحلالُ،
وما كانَ خِلافَ ذلكَ فهوَ الإِثمُ والحرامُ.
وقولُهُ في حديثِ النَّوَّاسِ: ((الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))،
إشارةٌ إلى أنَّ الإِثمَ ما أَثَّرَ في الصدْرِ حَرَجًا وضِيقًا، وقَلَقًا
واضْطِرَابًا، فلمْ يَنْشَرِحْ لهُ الصَّدرُ، ومعَ هذا فهوَ عندَ النَّاسِ
مُسْتَنْكَرٌ؛ بحيثُ يُنكِرونَهُ عندَ اطِّلاعِهم عليهِ.
وهذا أعلى مَراتبِ مَعرِفةِ الإِثمِ عندَ الاشتباهِ، وهوَ ما اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ على فاعلِهِ وغيرِ فاعلِهِ.
ومِنْ
هذا المعنى قولُ ابنِ مسعودٍ: (ما رَآهُ المؤمنونَ حَسَنًا فهوَ عندَ
اللَّهِ حَسَنٌ، وما رآهُ المؤمنونَ قَبيحًا فهوَ عندَ اللَّهِ قَبيح)ٌ.
وقولُهُ في حديثِ وابصةَ وأبي ثَعْلَبَةَ: ((وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ))،
يعني: أنَّ ما حَاكَ في صَدْرِ الإِنسانِ فهوَ إثمٌ، وإنْ أَفْتَاهُ
غيرُهُ بأنَّهُ ليسَ بإثمٍ. فهذهِ مَرتبةٌ ثانيَةٌ، وهوَ أنْ يكونَ الشيءُ
مُسْتَنْكَرًا عندَ فاعلِهِ دونَ غيرِهِ، وقدْ جَعَلَهُ أيضًا إِثْمًا،
وهذا إنَّما يكونُ إذا كانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بالإِيمانِ،
وكانَ المُفْتِي يُفْتِي لهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أوْ مَيْلٍ إلى هَوًى مِنْ
غيرِ دَليلٍ شَرْعِيٍّ.
فأَمَّا
ما كانَ معَ الْمُفْتِي بهِ دليلٌ شَرْعِيٌّ، فالواجبُ على الْمُسْتَفْتِي
الرُّجوعُ إليهِ، وإنْ لمْ يَنشرحْ لهُ صَدْرُهُ. وهذا كالرُّخَصِ
الشرعيَّةِ، مثلِ الفِطْرِ في السفَرِ والمرَضِ، وقَصْرِ الصَّلاةِ في
السفَرِ، ونحوِ ذلكَ ممَّا لا يَنْشَرِحُ بهِ صُدورُ كثيرٍ مِنَ
الجُهَّالِ، فهذا لا عِبْرَةَ بهِ.
وقدْ
كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أحيانًا يَأْمُرُ أصحابَهُ
بما لا تَنْشَرِحُ بهِ صُدُورُ بعضِهم، فيَمتنعونَ مِنْ فِعْلِهِ،
فيَغْضَبُ مِنْ ذلكَ، كما أَمَرَهم بفَسْخِ الْحَجِّ إلى العُمْرَةِ،
فكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ منهم، وكما أَمَرَهم بنَحْرِ هَدْيِهِم،
والتَّحلُّلِ مِنْ عُمرةِ الحُدَيْبِيَةِ، فكَرِهُوهُ، وكَرِهُوا
مُقاضاتَهُ لقُرَيْشٍ على أنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ، وعلى أنَّ مَنْ
أَتَاهُ منهم يَرُدُّهُ إليهم.
وفي الجُمْلَةِ، فما وَرَدَ النصُّ بهِ فليسَ للمؤمنِ إلا طاعةُ اللَّهِ ورسولِهِ، كما قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36].
ويَنبغِي
أنْ يُتَلَقَّى ذلكَ بانشراحِ الصَّدرِ والرِّضا؛ فإنَّ ما شَرَعَهُ
اللَّهُ ورسولُهُ يَجِبُ الإيمانُ والرِّضَا بهِ والتَّسليمُ لهُ، كما قالَ
تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].
وأمَّا
ما ليسَ فيهِ نَصٌّ مِن اللَّهِ ورسولِهِ ولا عَمَّنْ يُقْتَدَى بقولِهِ
مِن الصحابةِ وَسَلَفِ الأمَّةِ، فإذا وَقَعَ في نَفْسِ المؤمنِ
الْمُطْمَئِنِّ قلبُهُ بالإِيمانِ، الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بنورِ
الْمَعرفةِ واليقينِ منهُ شيءٌ، وحَكَّ في صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوجودةٍ،
ولمْ يَجِدْ مَنْ يُفتِي فيهِ بالرُّخْصَةِ إلا مَنْ يُخْبِرُ عنْ
رَأْيِهِ، وهوَ مِمَّنْ لا يُوثَقُ بعِلْمِهِ وبِدِينِهِ، بلْ هوَ معروفٌ
باتِّباعِ الْهَوَى، فَهُنَا يَرْجِعُ المؤمنُ إلى ما حَكَّ في صَدْرِهِ،
وإنْ أَفْتَاهُ هؤلاءِ الْمُفْتُونَ.
وقدْ نَصَّ الإِمامُ أحمدُ على مِثْلِ هذا، قالَ الْمَرْوَزِيُّ في (كتابِ الْوَرَعِ):
قُلْتُ لأبي عبدِ اللَّهِ: (إنَّ القَطيعةَ أَرْفَقُ بِي مِنْ سائرِ الأسواقِ، وقدْ وَقَعَ في قلبِي مِنْ أَمْرِها شيءٌ).
فقالَ: أَمْرُها أَمْرٌ قَذِرٌ مُتَلَوِّثٌ، قُلْتُ: فتَكْرَهُ العملَ فيها؟
قالَ: دعْ ذا عنكَ إنْ كانَ لا يَقَعُ في قَلْبِكَ شيءٌ.
قُلْتُ: قدْ وَقَعَ في قلبِي منها.
قالَ: قالَ ابنُ مسعودٍ: (الإِثمُ حَوَازُّ القُلُوبِ).
قُلْتُ: إنَّما هذا على الْمُشاوَرَةِ؟
قالَ: أيُّ شيءٍ يَقَعُ في قلبِكَ؟
قُلْتُ: قد اضْطَرَبَ عَلَيَّ قَلْبِي، قالَ: (الإِثمُ حَوَازُّ القُلُوبِ).
وقدْ سَبَقَ في شرْحِ حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
وفي شرْحِ حديثِ الحسَنِ بنِ عَلِيٍّ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ)).
وشرْحِ حديثِ: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) شيءٌ يَتعلَّقُ بتفسيرِ هذهِ الأحاديثِ المذكورةِ ها هُنا.
وقدْ ذَكَرَ طَوائفُ مِنْ فُقهاءِ الشافعيَّةِ والْحَنَفِيَّةِ المُتَكَلِّمينَ في أُصُولِ الفقهِ
مسألةَ الإلهامِ: هلْ هوَ حُجَّةٌ أمْ لا؟
وذَكَرُوا فيهِ اختلافًا بينَهم.
وذَكَرَ
طائفةٌ مِنْ أصحابِنا أنَّ الكَشْفَ ليسَ بطريقٍ للأَحْكَامِ، وأَخَذَهُ
القاضي أبو يَعْلَى مِنْ كلامِ أحمدَ في ذَمِّ المتكلِّمينَ في الوَساوِسِ
والْخَطَراتِ.
وخالَفَهم
طائفةٌ مِنْ أصحابِنا في ذلكَ. وقدْ ذَكَرْنا نصَّ أحمدَ ها هُنا
بالرُّجوعِ إلى حَوَازِّ القُلُوبِ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُهُ
المتكلِّمينَ على الوَساوسِ والْخَطَراتِ مِن الصوفيَّةِ؛ حيثُ كانَ
كلامُهم في ذلكَ لا يَسْتَنِدُ إلى دَليلٍ شرعيٍّ، بلْ إلى مُجرَّدِ رَأْيٍ
وذَوْقٍ، كما كانَ يُنْكِرُ الكلامَ في مسائلِ الحلالِ والحرامِ
بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ مِنْ غيرِ دَليلٍ شَرْعِيٍّ.
فأمَّا
الرُّجوعُ في الأمورِ الْمُشْتَبِهَةِ إلى حَوازِّ القلوبِ، فقدْ دَلَّتْ
عليهِ النُّصوصُ النَّبَوِيَّةُ وفتاوى الصحابةِ، فكيفَ يُنْكِرُهُ الإمامُ
أحمدُ بعدَ ذلكَ، لا سِيَّما وقدْ نَصَّ على الرُّجوعِ إليهِ مُوافَقَةً
لهم؟!
وقدْ سَبَقَ حديثُ: ((إِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ))،
فالصَّدْقُ يَتَمَيَّزُ مِن الكَذِبِ بسُكونِ القَلْبِ إليهِ
ومَعرِفَتِهِ، وبنفورِهِ عن الكذِبِ وإنكارِهِ، كما قالَ الربيعُ بنُ
خُثَيْمٍ: (إنَّ للحديثِ ضَوْءًا كضوءِ النَّهارِ تَعْرِفُهُ، وظُلْمَةً
كظُلمةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ).
_
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ رَبِيعَةَ، عنْ عبدِ الملِكِ بنِ سعيدِ
بنِ سُوَيْدٍ، عنْ أبي حُمَيْدٍ وأبي أُسَيْدٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا سَمِعْتُمُ
الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ
وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنَا أَوْلاكُمْ
بِهِ. وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلوبُكُمْ،
وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ
مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ)). وإسنادُهُ قدْ
قيلَ: إنَّهُ على شَرْطِ مُسلِمٍ؛ لأنَّهُ خَرَّجَ بهذا الإِسنادِ
بعَيْنِهِ حَدِيثًا، لَكِنَّ هذا الحديثَ مَعْلُولٌ؛ فإنَّهُ رواهُ بُكيرُ
بنُ الأَشَجِّ، عنْ عبدِ الْمَلِكِ بنِ سعيدٍ، عنْ عَبَّاسِ بنِ سَهْلٍ،
عنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ مِنْ قولِهِ، قالَ البخاريُّ: وهوَ أَصَحُّ.
_
وروى يحيى بنُ آدمَ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ، عنْ سعيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عنْ
أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا
حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ، وَلا تُنْكِرُونَهُ،
فَصَدِّقُوا بِهِ؛ فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ وَلا يُنْكَرُ. وَإِذَا
حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلا تَعْرِفُونَهُ، فَلا
تُصَدِّقُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلا يُعْرَفُ)).
وهذا الحديثُ معلولٌ أيضًا، وقد اخْتُلِفَ في إسنادِهِ على ابنِ أبي
ذِئْبٍ، ورواهُ الْحُفَّاظُ عنهُ، عنْ سعيدٍ مُرْسَلاً. والْمُرْسَلُ أصحُّ
عندَ أئمَّةِ الحفَّاظِ؛ منهم: ابنُ مَعِينٍ والبخاريُّ وأبو حاتمٍ
الرَّازِيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ، وقالَ: (ما رَأَيْتُ أحدًا مِنْ عُلماءِ
الحديثِ يُثْبِتُ وَصْلَهُ).
وإنَّمَا
تُحْمَلُ مِثلُ هذهِ الأحاديثِ -على تَقْدِيرِ صِحَّتِها- على مَعْرِفَةِ
أئِمَّةِ الحديثِ الْجَهَابِذَةِ النُّقَّادِ، الذينَ كَثُرَتْ
مُمَارَسَتُهم لكلامِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وكلامِ
غيرِهِ، ولِحَالِ رُوَاةِ الأحاديثِ، ونَقَلَةِ الأخبارِ، ومَعْرِفَتِهم
بصِدْقِهم وكَذِبِهم وحِفْظِهم وضَبْطِهم؛ فإنَّ هؤلاءِ لهم نَقْدٌ خاصٌّ
في الحديثِ يَخْتَصُّونَ بِمَعْرِفَتِهِ، كما يَخْتَصُّ الصَّيْرَفِيُّ
الحَاذِقُ بِمَعرفةِ النُّقودِ؛ جيِّدِها ورَدِيئِها، وخالِصِها
ومَشُوبِها، وَالْجَوْهَرِيُّ الحاذقُ في مَعرِفَةِ الْجَوْهَرِ
بانْتِقَادِ الجواهرِ.
وكُلٌّ
مِنْ هؤلاءِ لا يُمْكِنُ أنْ يُعبِّرَ عنْ سببِ مَعْرِفَتِهِ، ولا يُقيمَ
عليهِ دليلاً لغَيْرِهِ، وآيَةُ ذلكَ أنَّهُ يُعْرَضُ الحديثُ الواحدُ على
جماعةٍ مِمَّنْ يَعْلَمُ هذا العِلْمَ، فيَتَّفِقُونَ على الجوابِ فيهِ
مِنْ غيرِ مُوَاطَأَةٍ.
وقد
امْتُحِنَ هذا منهم غيرَ مَرَّةٍ في زَمَنِ أبي زُرْعَةَ وأبي حاتمٍ،
فَوُجِدَ الأمرُ على ذلكَ، فقالَ السَّائِلُ: أشْهَدُ أنَّ هذا العِلْمَ
إِلْهَامٌ.
قالَ
الأعمشُ: (كانَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ صَيْرَفِيًّا في الحديثِ، كُنْتُ
أَسْمَعُ مِن الرِّجالِ، فأَعْرِضُ عليهِ ما سَمِعْتُه)ُ.
وقالَ
عمرُو بنُ قَيْسٍ: (يَنبغِي لصاحبِ الحديثِ أنْ يكونَ مِثلَ
الصَّيْرَفِيِّ الذي يَنتقدُ الدراهمَ؛ فإنَّ الدراهمَ فيها الزَّائِفُ
والبَهْرَجُ، وكذلكَ الحديثُ).
وقالَ
الأوزاعيُّ: (كُنَّا نَسْمَعُ الحديثَ فنَعرِضُهُ على أصحابِنا كما
نَعرِضُ الدِّرْهَمَ الزَّائفَ على الصَّيَارِفَةِ، فما عَرَفُوا أَخَذْنا،
وما أَنْكَرُوا تَرَكْنَا).
_ وقيلَ لعبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ: (إنَّكَ تقولُ للشيءِ: هذا صحيحٌ، وهذا لمْ يَثْبُتْ، فَعَنْ مَنْ تقولُ ذلكَ؟
فقالَ:
أَرَأَيْتَ لوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فأَرَيْتَهُ دراهِمَكَ، فقالَ: هذا
جَيِّدٌ، وهذا بَهْرَجٌ، أَكُنْتَ تَسألُهُ عنْ مَنْ ذلكَ، أوْ كُنْتَ
تُسَلِّمُ الأمْرَ إليهِ؟
قالَ: لا، بلْ كُنْتُ أُسَلِّمُ الأمرَ إليهِ.
قالَ: فهذا كذلكَ لِطُولِ الْمُجَالَسَةِ والْمُناظَرَةِ والْخُبْرِ به).
_
وقدْ رُوِيَ نحوُ هذا المعنى عن الإمامِ أحمدَ أيضًا، وأنَّهُ قيلَ لهُ:
(يا أبا عبدِ اللَّهِ، تقولُ: هذا الحديثُ مُنْكَرٌ، فكيفَ عَلِمْتَ ولمْ
تَكْتُب الحديثَ كُلَّهُ؟
قالَ:
مَثَلُنَا كمَثَلِ ناقدِ الْعَيْنِ، لمْ تَقَعْ بِيَدِهِ العَيْنُ
كُلُّها، وإذا وَقَعَ بيَدِهِ الدينارُ يَعْلَمُ أنَّهُ جَيِّدٌ، وأنَّهُ
رَدِيء).
_ وقالَ ابنُ مَهْدِيٍّ: (مَعرِفةُ الحديثِ إلهام)ٌ. وقالَ: (إنكارُنا الحديثَ عندَ الْجُهَّالِ كَهَانَةٌ).
_
وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ: (مَثَلُ مَعرِفةِ الحديثِ كمَثَلِ فَصٍّ
ثَمَنُهُ مِائَةُ دِينارٍ، وآخَرَ مِثْلُهُ على لَوْنِهِ، ثَمَنُهُ
عَشَرَةُ دَراهِمَ، قالَ: (وكما لا يَتَهَيَّأُ للنَّاقِدِ أنْ يُخْبِرَ
بسَبَبِ نَقْدِهِ، فكذلكَ نحنُ رُزِقْنَا عِلْمًا لا يَتَهَيَّأُ لنا أنْ
نُخْبِرَ كيفَ عَلِمْنَا بأنَّ هذا حديثٌ كَذِبٌ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكَرٌ،
إلا بما نَعْرِفُهُ). قالَ: (وتُعْرَفُ جَوْدَةُ الدِّينارِ بالقِياسِ إلى
غيرِهِ، فإنْ تَخَلَّفَ عنهُ في الْحُمْرَةِ والصَّفاءِ عُلِمَ أنَّهُ
مَغشوشٌ. ويُعْلَمُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ بالقياسِ إلى غيرِهِ، فإنْ
خَالَفَهُ في الْمَائِيَّةِ والصَّلابةِ، عُلِمَ أنَّهُ زُجَاجٌ. ويُعلَمُ
صِحَّةُ الحديثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وأنْ يكونَ كلامًا يَصْلُحُ
مِثْلُهُ أنْ يكونَ كلامَ النُّبُوَّةِ، ويُعرَفُ سَقَمُهُ وإِنْكَارُهُ
بتَفَرُّدِ مَنْ لمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ برِوَايَتِهِ)، واللَّهُ
أَعْلَمُ.
وبكُلِّ
حالٍ، فالْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ العارفونَ بعِلَلِ الحديثِ أفرادٌ
قليلٌ مِنْ أهلِ الحديثِ جِدًّا. وأوَّلُ مَن اشْتُهِرَ بالكلامِ في نَقْدِ
الحديثِ ابنُ سِيرينَ، ثمَّ خَلَفَهُ أيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ.
وأَخَذَ
ذلكَ عنهُ شُعْبَةُ، وأَخَذَ عنْ شُعْبَةَ يحيى الْقَطَّانُ وابنُ
مَهْدِيٍّ. وأَخَذَ عنهما أَحْمَدُوعَلِيُّ بنُ الْمَدِينِيِّ، وابنُ
مَعِينٍ. وأَخَذَ عنهم مِثْلُ البخاريِّوأبي دَاوُدَ وأبي زُرْعَةَ وأبي
حاتمٍ.
_
وكانَ أبو زُرْعَةَِ في زَمانِهِ يقولُ: (قَلَّ مَنْ يَفْهَمُ هذا، وما
أَعَزَّهُ إذا دَفَعْتَ هذا عنْ واحدٍ أو اثنَيْنِ، فما أَقَلَّ مَنْ
تَجِدُ مَنْ يُحْسِنُ هذا).
ولَمَّا
ماتَ أبو زُرْعَةَ، قالَ أبو حاتمٍ: (ذَهَبَ الذي كانَ يُحْسِنُ هذا -يعني
أبا زُرعةَ- ما بَقِيَ بمِصْرَ ولا بالعراقِ واحدٌ يُحْسِنُ هذا). وقيلَ
لهُ بعدَ موتِ أبي زُرْعَةَ: (تَعْرِفُ اليومَ أحدًا يَعْرِفُ هذا؟ قالَ:
(لا).
وجاءَ
بعدَ هؤلاءِ جماعةٌ؛ منهم: النَّسائيُّوالعُقَيْلِيُّ وابنُ عَدِيٍّ
والدَّارَقُطْنِيُّ، وقَلَّ مَنْ جَاءَ بعدَهم مِمَّنْ هوَ بارِعٌ في
مَعرِفَةِ ذلكَ، حتَّى قالَ أبو الفَرَجِ بنُ الْجَوزيِّ في أوَّلِ
كِتابِهِ (الْمَوضوعاتِ): (قدْ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُ هذا، بلْ عُدِمَ).
واللَّهُ أَعْلَمُ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
((البرُّ: حُسْنُ الخُلق والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أنّ يطَّلع عليه الناس)) رواه مسلم. قال: (استفتِ قلبك. والأثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حديث حسن رويناه في (مسندي الإمامين): أحمد بن حنبل والدارمي، بإسناد حسن.
وعن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: أتيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ((جئت تسألُ عن البر؟. ))
قلت: نعم!
البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.
الشيخ:
هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو حديث (النواس) -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق))
(البرُّ) أنواع:
فيكون البرُّ في ما بين العبد وبين ربَّه -جل وعلا-، ويكون البرُّ في ما بين العبد وبين الناس.
فالبرُّ
الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل
وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر واجتناب النهي، كما قال جلّ وعلا -في سورة
البقرة-: {ولكنّ البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكةِ والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة}..
الآية، فذكر البرّ الذي يجب على العبد لله -جل وعلا- فهذا النوع من البر
يأتي في القرآن كثيراً، والله -جل وعلا- هو الذي جعل هذا بِرّاً، فالعبد من
أهل البر، إذا قام بما جاء في هذه الآية فيُقال: (هذا من الأبرار إذا
امتثل ما في هذه الآية، وابتعد عمّا يكرهه اللهُ -جل وعلا).
والقسم الثاني من البر:البر مع الخلق، وهذا جِماعُهُ: حُسْنُ الخُلقُ، ولهذا قال عليه الصلاةُ والسلام: ((البر حُسْن الخُلق)) فجمَع البر في عبارة وجيزة وهي حُسْنُ الخُلق.
وَحُسْنُ
الخُلُق يجمعُهُ أَنّهُ:بَذْلُ النَّدى، وكفُّ الأذى، وأَن تحسِنَ إلى
الخلق، وأن تجزيَ بالسيئة الحسنة، وأن تُعامل الناس بما فيه عَفو عن
المُسيء وكظْمُ للغيظ وإحسان للخَلق، فمن كان باذِلاً للندى، غير منتصرٍ
لنفسه، كافاً الأذى، مقدماً المعروف للخلْق؛ فهو من ذوي حُسْن الخلق فيما
بين الناس. فإن جمع إليه ما يُستحبُ من ذلك، وما يجبُ من حقوق العباد؛ كان
حُسْنَ الخُلق عنده شرعياً.
فإذاً: حُسْنُ الخُلق الذي يكون فيه امتثال بما جاء في الشرع، من صفات عباد الله، المؤدين لحقوقه، وحقوق عباده؛ هذا يكون معه البر.
فالبرُّ إذاً: درجات؛لأنّ الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر… إلخ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. إلخ؛ هذا درجات، ومعاملة الخلق درجات.
فتحصّل من هذا: أنّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق)) أنّ درجة البرِّ تختلفُ باختلاف حُسْن الخلق، والبر أن تؤدي حقوق الخلق الواجبة والمستحبة.
قال: ((والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس)).
عرَّف الإثم وهو:ما
يُقابل البر بشيئين شيء ظاهر، وشيء باطن. وهذا من الميزان الذي يُمكنُ
تطبيقهُ، وهو عليه الصلاة والسلام الرؤوف الرحيم بهذه الأمة فقال لك: ((الإثم ما حاك في نفسك)) هذا أمرٌ باطن، ((وكرهت أن يطلع عليه الناس)) وهو الأمْر الظاهر، فإذا أتيت إلى شيء مُشتبهٍ عليك، فحاك في نفسك: هل هذا من الإثم، أم من البر؟
وتردّدت فيه، ولم تعلم أنّه من البر، وانضم إلى ذلك الظاهر أنَّكَ لو فعلته كرهت أن يطّلع عليه الناس، فهذا هو الإثم.
فالإثم يجمعُه شيئان:
- شيءٌ باطن مُتعلِّق بالقلب: (وهو: أنه يحوك في النفس وتتردّد في فعله النفس).
- وفي الظاهر يكرهُ أنَّهُ لو عمله أن يطلع عليه الناس فهذا يدل على أنَّهُ إثم.
وهذا وصْفٌ عظيم منه -عليه الصلاة والسلام- للبر والإثم.
فالبر: حُسْنُ الخُلق ببذل النّدى، وكفِّ الأذى، والعفْو عن المسيء، والصَّفح عن المخطئ في حقك.
والإثم: ما حاك في نفسك وجْهُه، وكرهت أن يطّلع عليه الناس فيما لو فعلته ظاهراً.
في الرواية الأخرى: عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((جئت تسألُ عن البر؟
فقلت: نعم.
قال: استفت قلبك، البر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وترَّدد في الصدر)).
ذكرتُ لكم أن البر نوعان:
برٌّ متعلِّقٌ بحق الله.
وبرٌّ متعلِّق بحق العباد.
فالحديث الأول ذكرَ فيه -عليه الصلاة والسلام- البرُّ المتعلق بحقّ الناس، فقال: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق)) وهنا ذَكَرَ البرَّ بعامَّة: فقال: ((استفت قلبك)) عن البرّ؛ هل هذا الشيء من البرِّ، أم ليس من البرّ؟ هل هو من الطاعة، أم ليس من الطاعة؟
استفت قلبك؛ (البرُّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) يعني: أنه لم يصل في القلب تردُّد من هذا الشيء المعين، ولا يكرهُ أن يُطْلع عليه الناس وهذا يعمُ جميع أنواع الطاعات.
وقابله بالإثم حيثُ قال: ((والإثم: ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)) فعرف
الإثم أوجـعل -عليه الصلاة والسلام- علامة للإثمِ؛ بأنه: ما حاك في النفس
وتردّد في الصدر -على نحو ما ذكرنا- وإن أفتاك الناس وأفتوك.
ولهذا يدخُل في ذلك جميع الأنواع المشتبهة، التي تدخُل في المتشابهات التي ذكرناها في حديث النعمان بن بشير.
فالإثم
الشيءُ يحيك في الصدر، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأنَّ المسلم بإيمانه،
ودينه، وتقواه، تطمئن نفسه إلى ما فيه الطاعة، وأمَّا ما فيه شُبْهة، أو ما
فيه حرام؛ فيجد أنّه خائِفٌ منه، أو أنّهُ متردد فيه، ولا يستأنِس لشيء
فيه تعريض لمحرَّم، أو اشتباهُ؛ لأنه قد يقعُ في الحرام.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((والإثمُ ما حاك في النفس وتردّد في الصدّر وإن أفتاك الناس وأفتوك)) هنا قال: ((وإن أفتاك الناس))
يعني: قد تذهبُ إلى مُفْتٍ تستفتيه في شأْنِك، ويُفتيك بأنَّ هذا لا بأس
به، ولكن يبقى في صدرك التردد، والمفتي إنما يتكلمُ بحسب الظاهر، يفتي بحسب
ما يظهر له من السؤال، وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يُبدها، أو
لم يستطع أن يبديها بوضوح، فيبقى هو الحَكمُ على نفسه، والتكليفُ مُعلق به،
وإناطَةُ الثواب والعقاب معلقة بعمله هو.
فإذا
بقي في نفسه تَردُّد، ولم تطمئن نفسه إلى إباحةِ من أباح له الفعل؛ فعليه
أن يأْخُذ بما جاء في نفسه؛ من جَهةِ أنّه يمتنع عن المشتبهات، أو عمَّا
تردَّد في الصدر.
وهنا
يبحث العلماء بحْثاً معلوماً يطول، وهو بحث أُصولي وكذلك فقهي؛ في أنّ ما
يتردَّد في الصدر ويحيكُ فيه ولا يطمئن إليه القلب؛ هل هو إثم بإطلاق، أم
أنّ بعضَ أنواعه إثم؟
والتحقيق في هذا: أنَّ المسألة فيها تفصيل:
الحالة الأولى: أن
يكون التردد الذي في النفس واقعاً عن جَهْلٍ من صاحِبهِ بالحكم الشرعي أو
بالسنة، فهذا لو تردد في شيءٍ جاء النص بحُسْنِه، أو بإباحته، أو بالأمر
به؛ فإنه يكونُ عاصياً ملوماً لو لم يمتثل للسنة. وقد جاء في (صحيح
مسلم): أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمر ناساً بالإفطار في السَّفر،
فبقي منهم بقية لم يفطُروا، فقيل للنبي -عليه الصلاة والسلام- إنَّ أناساً
لم يُفطروا، فقال: ((أَولئكَ العُصاة أولئك العُصاة)).
فهذا
يدل على أنَّ الأمر إذا كان من السنة بوضوح؛ فإنَّ ترْكهُ لتردد في
الصّدرأنَّ هذا من الشيطان؛ فلا اعتبار لهذا النوع، يكون في سفر، يقول: أنا
لن أقصر.
في نفسي شيء من أن أقصر، مع توافُر الشروط بما دلت عليه السنة بوضوح؛ فإنَّ هذا التردّدُ لا وجه له.
كذلك:شيء
دلّ القرآن الكريم، أو دلت السنة على مشروعيته ثم يبقى تردُّد، فهذا لم
يستسلم أولم يعلم حكم الله -جل وعلا-، فلا قيمة لهذا النوع.
الحالة الثانية:أن يقع التردُّد من جهة اختلاف المفتين، اختلاف المجتهدين في مسألة.
في
تنزيل واقعة هذا المُستفتي على النصوص؛ فمنهم من أفتاهُ بكذا، ومنهم من
أفتاهُ بكذا؛ فهذا ليس الإثم في حقه أن يبقى مع تردُّد نفسه، ليس الإثم في
حقه أن يُزيل تردد نفسه، وليس البر في حِقه أن يعمل بما اطمأنت إليه نفسه
خارجاً عن القولين؛ بل البر في حقَّهِ: ما اطمأنت إليه نَفسه من أحد
القولين؛ لأنه لا يجوز للعامي، أن يأخُذ بقول نفسه مع وجود عالم يستفتيه؛
بل إذا استفتى عالماً، وأوضحَ له أمْرَهُ فأفْتاهُ، فإنَّ عليه أن يفعل ما
أفتاه العالِم به.
فإذا اختلف المُفتون فإنَّه يأْخذ بفتوى الأعلم الأفقه بحاله.
الحالة الثالثة:وهي
التي يُنزلُ عليها هذا الحديث، وهي: أنه يستفتي المُفتي، فَيُفتى بشيءٍ لا
تطمأن نفسه لصوابه فيما يتعلقُ بحالته، فيبقى متردداً يخشى أنّه لم يُفهم،
يقول: (هذا أفتاني لكن المسألة فيها أشياء أخر لم يستبنها) يقول: (المُفتي
لم يستفصل مني) يكون المفتي ما استوعب المسألة من جهاتها؛ فإفتاء المُفتي
للمكلف لا يرفَعُ التكليف عنه في مثل هذه الحال، وإنما ينجو بالفتوى إذا
أوضح مُرادَه بدون التباس فأفتي؛ فإنه يكون قد أدّى الذي عليه بسؤال أهل
العلم امتثالاً لقول الله -جل وعلا-: {فاسألوا أهل الذكر إن كُنْتم لا تعلمون}.
وأمَّا إذا لم يُفصِّل،أو
لم يستفصل المفتي، أوْ لم يحسن فهْم المسألة؛ فاستعجل وأفتى، وبقي في قلْب
المستفتي شيء من الرَّيب، من جهة أنَّ المُفتي لم يفهم كلامه لم يفهم
حاله، أو أَنَّ هناك من حاله مالم يستطع بيانهُ؛ فإنَّ هذا يدخلُ في هذا
الحديث بوضوح.
فالإثم:ما حاك في النفس وتردد في الصّدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.
فإذاً:الأحوال -كما قال أهل العلم- ثلاثة:
اثنان منها لا تدخل في ذلك، وهي:
الأولى: نعيدها باختصار.
الأولى:
ما ورد النص به، فإنه لا يجوز أن يبقى في النفس تردُّد مع ورود النص من
الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم في مسألة، أو إجماع أهل السنة في
مسألة.
والثاني: أن يختلف المفتون، وقد أوضح لهم حاله؛ فإن عليه أن يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه فمنهم، أو من تطمئن نفسه بفتواه.
والحال الثالثة: أنَّهُ لم يُحسن إبداء مسألة، أو لم يستفصل المُفتي؛ فرجَع الأمرُ فيما بينه وبين المُفتي إلى عدم وضوحٍ في موافقة حكم الله في المسألة؛ فإنه يترك الأمر ويخرج من الخلاف، استبراء لدينه ورغْبةً بزوال تعرضه للإثم.
الكشاف التحليلي
حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه -مرفوعاً-: (البر حسن الخلق)
ترجمة النواس بن سمعان رضي الله عنه
تخريج حديث النواس بن سمعان
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
آثار في معنى حديث النواس
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق)
بيان معنى (البر)
إطلاقات (البر):
الإطلاق الأول: الإحسان إلى الخلق
الإطلاق الثاني: جميع الطاعات الظاهرة والباطنة
أقسام (البر) باعتبار متعلقه:
القسم الأول: بر متعلق بحق الله تعالى
القسم الثاني: بر متعلق بحقوق العباد
معنى (البر) إذا اقترن بالتقوى
تعريف حسن الخلق
أقسام الخُلُق:
القسم الأول: خلق جبلي
القسم الثاني: خلق مُكْتَسَبٌ
معنى قول عائشة: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)
تعريف (الإثم)
علامات الإثم:
1- َتَردُّده في النفسِ
2- كراهية اطِّلاع الناسِ عَلَيْهِ
الحق والباطل لا يشتبه أمرهما على المؤمن البصير
ذكر بعض الآثار في هذا المعنى
من وسائل معرفة الإثم عند الاشتباه: استنكار الناس لفعله
شرح حديث وابصة بن معبد-مرفوعاً-: (استفت قلبك؛ البرُّ ما اطمأنَّت إلَيْهِ النَّفس...)
تخريج حديث وابصة
ترجمة وابصة
المعنى الإجمالي لحديث وابصة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟)
في هذا الحديث دليل من دلائل النبوة
شرف السؤال يدل على شرف نفس السائل
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس)
معنى استفتاء القلب
من الذي يسوغ له استفتاء قلبه
استفتاء القلب في الأمور المشتبهة دلت عليه النصوص النبوية وفتاوى الصحابة
مسألة: هل الإلهام حجة؟
حال المؤمن مع الأمر والنهي
معرفة القلوب لصدق الحديث وكذبه
ذكر بعض أحوال الحفاظ في نقد الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس)
مسألة: هل كل ما حاك في النفس إثم؟
أنواع ما قد يحيك في النفس:
النوع الأول: ما ورد به النص، أو انعقد عليه الإجماع
حكمه: تجب معالجة هذا التردد، إذ لا يجوز أن يبقى في النفس تردُّد مع ورود النص
النوع الثاني: ما كان ناتجاً عن اختلاف المفتين
حكمه: يأخذ بفتوى من يرضى علمه ودينه وتطمئن نفسه لفتواه
النوع الثالث: أن يخشى المستفتي عدم وضوح مسألته للمفتي
يجب على المستفتي أن يجتهد في إيضاح السؤال لأهل العلم
لا يجوز للمفتي أن يستعجل بالإجابة قبل فهم المسألة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أفتاك الناس وأفتوك)
الفتوى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً
إذا لم يبين المستفتي مسألته فلا حجة له في فتوى المفتي
التحذير من فتاوى العامة
بيان أن القول الحق واحد
وجوب اتباع الحق بدليله وإن لم ينشرح له الصدر بادئ الأمر
متى يلزم المستفتي اتباع قول المفتي؟
1- إذا وثق من فهمه للمسألة
2- إذا كان دليله صحيحاً
3- إذا كان استدلاله صائباً
التقليد مرتبة دون مرتبة الاتباع
بعض الناس فرضه الاجتهاد، وبعضهم فرضه الاتباع، وبعضهم فرضه التقليد
متى تجوز مخالفة فتوى المفتي؟
إذا اختلت أحد الأركان الثلاثة السابقة لم يلزم قبول قول المفتي
من فوائد حديث النواس ووابصة:
فضل حسن الخلق
التحذير من الإثم
للإثم علامات يعرف بها
النفوس السوية مقياس الخير والشر
بيان البر والإثم
الفطرة على الاطمئنان إلى البر والنفرة من الإثم
العناصر
حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه -مرفوعاً-: (البر حسن الخلق)
ترجمة النواس بن سمعان رضي الله عنه
تخريج حديث النواس بن سمعان
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
آثار في معنى حديث النواس
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق)
بيان معنى (البر)
إطلاقات (البر):
أقسام (البر) باعتبار متعلقه
معنى (البر) إذا اقترن بالتقوى
تعريف حسن الخلق
الفرق بين الخلق الجبلي والخلق المكتسب
معنى قول عائشة: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)
تعريف (الإثم)
علامات الإثم
الحق والباطل لا يشتبه أمرهما على المؤمن البصير
ذكر بعض الآثار في هذا المعنى
من وسائل معرفة الإثم عند الاشتباه: استنكار الناس لفعله
شرح حديث وابصة بن معبد-مرفوعاً-: (استفت قلبك؛ البرُّ ما اطمأنَّت إلَيْهِ النَّفس...)
تخريج حديث وابصة
ترجمة وابصة
المعنى الإجمالي لحديث وابصة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟)
في هذا الحديث دليل من دلائل النبوة
شرف السؤال يدل على شرف نفس السائل
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس)
معنى استفتاء القلب
من الذي يسوغ له استفتاء قلبه
استفتاء القلب في الأمور المشتبهة دلت عليه النصوص النبوية وفتاوى الصحابة
مسألة: هل الإلهام حجة؟
حال المؤمن مع الأمر والنهي
معرفة القلوب لصدق الحديث وكذبه
ذكر بعض أحوال الحفاظ في نقد الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس)
مسألة: هل كل ما حاك في النفس إثم؟
أنواع ما قد يحيك في النفس
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أفتاك الناس وأفتوك)
الفتوى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً
إذا لم يبين المستفتي مسألته فلا حجة له في فتوى المفتي
التحذير من فتاوى العامة
بيان أن القول الحق واحد
وجوب اتباع الحق بدليله وإن لم ينشرح له الصدر بادئ الأمر
متى يلزم المستفتي اتباع قول المفتي؟
التقليد مرتبة دون مرتبة الاتباع
بعض الناس فرضه الاجتهاد، وبعضهم فرضه الاتباع، وبعضهم فرضه التقليد
متى تجوز مخالفة فتوى المفتي؟