29 Oct 2008
ح28: حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب...) د ت
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
28- عَنْ أَبي نَجِيحٍ العِرْباضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ , فَقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا. قالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا, فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , تَمَسَّكُوا بِهَا , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)). رواهُ أبو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ ، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الثامن والعشرون
عَن
أَبي نَجِيحٍ العربَاضِ بنِ سَاريَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنا
رَسُولُ اللهِ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا
العُيون. فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ
فَأَوصِنَا، قَالَ: (أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى
اللهِ عز وجل وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ،
فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافَاً كَثِيرَاً؛
فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
المّهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ
وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كلّ مُحدثةٍ بدعة، وكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلالَةٌ)(1) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. (1)
أخرجه أبو داود – كتاب: السنة، باب: في لزومالسنة، (4607). والدارمي –
كتاب: المقدمة، باب: اتباع السنة،(96). والترمذي- كتاب: العلم، باب: ما جاء
في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، (2676)
الشرح
قوله:"وَعَظَنا" الوعظ:التذكير بما يلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيباً أو ترهيباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً.
وقوله: "وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) [الأنفال: الآية2] .
" وَذَرَفَت مِنهَا العُيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.
" فَقُلنَا يَا رَسُول الله:كَأنَّها" أي هذه الموعظة "مَوعِظَةَ مُوَدِّعٍ"
وذلك لتأثيرها في إلقائها، وفي موضوعها، وفي هيئة الواعظ لأن كل هذا مؤثر،
حتى إننا في عصرنا الآن تسمع الخطيب فيلين قلبك وتخاف وتبكي، فإذا سمعته
مسجلاً لم تتأثر، فتأثير المواعظ له أسباب منها: الموضوع، وحال الواعظ،
وانفعاله.
" قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: الآية131] فتقوى الله رأس كل شيء.
ومعنى التقوى: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه على علم وبصيرة.
ولهذا قال بعضهم في تفسيرها: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما حرم الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أ ر ض الشوك يحذر ما يرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
" وَالسَّمعُ والطَّاعَة"
أي لولاة الأمر بدليل قوله وَإِن تَأمَّر عَليكُم والسمع والطاعة بأن تسمع
إذا تكلم، وأن تطيع إذا أمر، وسيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد حكم هذه
الجملة العظيمة،لكن انظر أن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالذكر بعد ذكر
التقوى مع أن السمع والطاعة من تقوى الله لأهميتها ولعظم التمرد عليها.
" وَإن تَأمَّر عَلَيكُم" أي صار أميراً "عبد" أي مملوكاً.
"فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم" أي تطول به الحياة "فَسَيَرى"
والسين هنا للتحقيق اختِلاَفاً كَثيراً في العقيدة، وفي العمل ، وفي
المنهج، وهذا الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا طويلاً وجدوا
من الاختلاف والفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان.
ثم أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال: "فَعَلَيكُم بِسَّنتي" أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها ، فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه ،ولا تخرجوا عن شريعته.
" وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين" الخلفاء الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن أبا بكر الصديق رضي
الله عنه هو الخليفة الأول لهذه الأمة، نص النبي صلى الله عليه وسلم على
خلافته نصاً يقرب من اليقين، وعامله بأمور تشير إلى أنه الخليفة بعده.
مثال ذلك: أتته امرأة في حاجة لها فوعدها وعداً، فقالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "ائتِي أَبَا بَكر"(2) وقال :"يَأَبَى اللهُ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنونَ إِلا أَبَا بَكرٍ"(3) وأمر أن تسد جميع الأبواب المشرَّعة على المسجد إلا باب أبي بكر(4)، وجعله خليفته في الصلاة بالمسلمين حين مرض(5)
،وهذه إمامة صغرى،يشير بذلك إلى أنه يتولى الإمامة الكبرى،وجعله أميراً
على الحجيج في السنة التاسعة خلفاً عنه. فهو الخليفة بالنص الذي يقرب من
اليقين.
ثم الخليفة من بعده عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لأنه أولى الناس بالخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي
الله عنه فإنهما صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كثيراً ما يقول:
ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر ،فرأى أبو بكر رضي الله
عنه أن أحق الناس بالخلافة عمر رضي الله عنه.
وخلافة عمر رضي الله عنه
ثابتة شرعاً لأنها وقعت من خليفة،ثم صارت الخلافة لعثمان رضي الله عنه
بمشورة معروفة رتبها عمر رضي الله عنه، ثم صارت بعد ذلك لعلي رضي الله عنه
هؤلاء هم الخلفاء الراشدون لا إشكال فيهم.
وقوله: "المهديين"
صفة مؤكدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا
يمكن رشد إلا بهداية، وعليه فالصفة هنا ليست صفة احتراز ولكنها صفة توكيد
وبيان علة، يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون.
"عَضُّوا عَلَيهَا" أي على سنتي وسنة الخلفاء "بالنَّوَاجِذِ"
وهي أقصى الأضراس ومن المعلوم أن السنة ليست جسماً يؤكل،لكن هذا كناية عن
شدة التمسك بها، أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى
أضراسه.
"وَإيَّاكُم" لما حث على التمسك بالسنة حذر من البدعة.
"وَإيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمور"
أي اجتنبوها،والمراد بالأمور هنا الشؤون، والمراد بالشؤون شؤون الدين،لا
المحدثات في أمور الدنيا،لأن المحدثات في أمور الدنيا منها ما هو نافع فهو
خير، ومنها ما هو ضار فهو شر،لكن المحدثات في أمور الدين كلها شر، ولهذا
قال: "فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة" لأنها ابتدعت وأنشئت من جديد.
"كُل بِدعَةٍ ضَلالَة" أي كل بدعة في دين الله عزّ وجل فهي ضلالة .
من فوائد هذا الحديث:
1.
مشروعية الموعظة، ولكن ينبغي أن تكون في محلها،وأن لا يكثر فيُمِل، لأن
الناس إذا ملوا ملوا الواعظ والموعظة، وتقاصرت هممهم عن الحضور، ولهذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، وكان بعض الصحابة يعظ
أصحابه كل يوم خميس، يعني في الأسبوع مرة.
2.
أنه ينبغي للواعظ أن تكون موعظته مؤثرة باختيار الألفاظ الجزلة المثيرة،
وهذا على حسب الموضوع، فإن كان يريد أن يعظ الناس لمشاركة في جهاد أو نحوه
فالموعظة تكون حماسية، وإن كان لعمل الآخرة فإن الموعظة تكون مرققة للقلوب.
3. أن المخاطب بالموعظة إذا كانت بليغة فسوف يتأثر لقوله: "وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ، وَ ذَرَفَت مِنهَا العُيونُ" .
4. أن القلب إذا خاف بكت العين، وإذا كان قاسياً، نسأل الله عزّ وجل أن يبعدنا وإياكم من قسوة القلب،لم تدمع العين.
5.
أنه جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة، لأن المودع لن يبقى عند
قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذَكر بها بعد ذلك
لقولهم: "كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ موَدِّعٍ" .
6. طلب الإنسان من العالم أن يوصيه،لقولهم رضي الله عنهم "فَأَوصِنَا".
ولكن هل هذا يكون بدون سبب، أو إذا وجد سبب لذلك؟
الظاهر الثاني: بمعنى أنه
ليس كلما قابلت أحداً تقول:أوصني، فإن هذا مخالف لهدي الصحابة فيما يظهر،
لكن إذا وجد سبب كإنسان قام وعظ وبيَّن فلك أن تقول أوصنا وأما بدون سبب
فلا، ومن ذلك السفر، أي إذا أراد الإنسان أن يسافر وقال مثلاً للعالِم
أوصني، فهذا مشروع.
7. أن أهم ما يوصى به العبد تقوى الله عزّ وجل لقوله: "أُوصيكُم بِتَقوَى الله".
8. فضيلة التقوى حيث كانت أهم وأولى وأول ما يوصى به العبد.
9. وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والسمع والطاعة لهم واجب بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) [النساء: الآية59]
فجعل طاعة أولي الأمر في المرتبة الثالثة ولكنه لم يأت بالفعل (أطيعوا )
لأن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ولهذا لو أمر ولاة الأمور بمعصية الله عزّ وجل فلا سمع ولا طاعة.
وظاهر الحديث وجوب السمع
والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله
عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ"(6)
وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي
الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع
ربه.
أما لو أمر بالمعصية فلا
سمع ولا طاعة، لأن رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن
يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة.
10. ثبوت إمرة العبد، لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم عَبدٌ" ولكن هل يلزم طاعة الأمير في كل شيء، أو فيما يتعلق بالحكم؟
الجواب:
الثاني، أي فيما يتعلق بالحكم ورعاية الناس، فلو قال لك الأمير مثلاً: لا
تأكل اليوم إلا وجبتين. أو ما أشبه ذلك فلم يجب عليك أن توافق إلا أنه يحرم
عليك أن تنابذ، بمعنى أن تعصيه جهاراً لأن هذا يفسد الناس عليه.
11.
وجوب طاعة الأمير وإن لم يكن السلطان، لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم"
ومعلوم أن الأمة الإسلامية من قديم الزمان فيها خليفة وهو السلطان، وهناك
أمراء للبلدان، وإذا وجبت طاعة الأمير فطاعة السلطان من باب أولى.
وهنا سؤال يكثر: إذا أمَّر الناس عليهم أميراً في السفر، فهل تلزمهم طاعته؟
فالجواب:
نعم، تلزمهم طاعته، وإذا لم نقل بذلك لم يكن هناك فائدة من تأميره، لكن
طاعته فيما يتعلق بأمور السفر لا في كل شيء، إلا أن الشيء الذي لا يتعلق
بأمور السفر لا تجوز منابذته فيه، مثال ذلك:
لو قال أمير السفر:اليوم
كل واحد منكم يلبس ثوبين لأنه سيكون الجو بارداً. فهنا لا تلزم طاعته، لكن
لا تجوز منابذته بمعنى: لا يجوز لأحد أن يقول لن ألبس ثوبين، لأن مجرد
منابذة ولاة الأمور تعتبر معصية.
12. ظهور آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيرَاً" فقد وقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: وهل يمكن أن نطبق هذه الجملة في كل زمان، بمعنى أن نقول: من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؟
فالجواب: لا نستطيع أن نطبقها في كل زمان، لكن الواقع أن من طال عمره رأى اختلافاً كثيراً.
كان الناس فيما سبق أمة
واحدة، حزباً واحداً، ليس هناك تشتت ولا تفرق ثم اختلفوا، في بلادنا هذه
كان الناس منقادين لأمرائهم، منقادين لعلمائهم حتى إن الرجل يأتي مع خصمه
إلى القاضي وهو يرى أن الحق له فيحكم القاضي عليه، ثم يذهب مطمئن القلب
مستريحاً، وإذا قيل له: يا فلان كيف غلبك خصمك؟ قال:الشرع يُخْلِفُ. والآن
الأمر بالعكس، تجد الخصم إذا حُكِم عليه والحكم حق ذهب يماطل، ويطالب برفع
المعاملة للتمييز، ومجلس القضاء الأعلى وإن كان يرى الحق عليه وليس له لكن
يريد أن يضر بصاحبه، والاختلاف الآن وقع، أحص مثلاً أفكار الناس لا تكاد
تحصيها، منهم من فكره إلحاد، ومنهم من فكره دون ذلك، ومنهم من فكره سيء في
الأخلاق، ومنهم من دون ذلك.
13. وجوب التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، لقوله: "فَعَلَيكُم بِسنَّتي" والتمسك بها واجب في كل حال لكن يتأكد عند وجود الاختلاف.
14. أنه يجب على الإنسان أن يتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ،وجه ذلك: أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن.
15.
أن للخلفاء سنة متبعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فما سنه
الخلفاء الراشدون أُعتبر سنة للرسول صلى الله عليه وسلم بإقراره إياهم،
ووجه كونه أقره أنه أوصى باتباع سنة الخلفاء الراشدين.
وبهذا نعرف سفه هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم متبعون للسنة وهم منكرون لها، ومن أمثلة ذلك:
قالوا: إن الأذان الأول
يوم الجمعة بدعة، لأنه ليس معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما
هو من سنة عثمان رضي الله عنه، فيقال لهم: وسنة عثمان رضي الله عنه هل هي
هدر أو يؤخذ بها مالم تخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب:الثاني
لا شك، عثمان رضي الله عنه لم يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في إحداث
الأذان الأول، لأن السبب الذي من أجله أحدثه عثمان رضي الله عنه ليس
موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي عهد النبي صلى الله عليه
وسلم كانت المدينة صغيرة متقاربة، لا تحتاج إلى أذان أول، أما في عهد عثمان
رضي الله عنه اتسعت المدينة وكثر الناس وصار منهم شيء من التهاون فاحتيج
إلى أذان آخر قبل الأذان الذي عند مجيء الإمام.
وهذا الذي فعله عثمان رضي
الله عنه حق وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن له أصلاً من سنة النبي
صلى الله عليه وسلم وهو أنه في رمضان كان يؤذن بلال وابن أم مكتوم رضي الله
عنه، بلال رضي الله عنه يؤذن قبل الفجر، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم
أن أذانه لا لصلاة الفجر ولكن ليوقظ النائم، ويرجع القائم للسحور(7)، فعثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول من أجل أن يقبل الناس البعيدون إلى المسجد ويتأهبوا فهو إذاً سنة من وجهين:
من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء ورأي عثمان رضي الله عنه خير من رأينا.
ومن جهة أخرى أن له أصلاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
16.
أنه إذا كثرت الأحزاب في الأمة فلا تنتم إلى حزب، فقد ظهرت طوائف من قديم
الزمان مثل الخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة،ثم ظهرت أخيراً إخوانيون
وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك، فكل هذه الفرق اجعلها على اليسار وعليك
بالأمام وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "عَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّة الخُلَفَاء الرَاشِدين"
ولا شك أن الواجب على جميع
المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف لا الانتماء إلى حزب معين يسمى
السلفيين، والواجب أن تكون الأمة الاسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا
التحزب إلى من يسمى ( السلفيون) فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى
(السلفيون) والمطلوب اتباع السلف، إلا أن الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق
إلى الصواب ولكن مشكلتهم كغيرهم أن بعض هذه الفرق يضلل بعضاً ويبدعه
ويفسقه، ونحن لا ننكر هذا إذا كانوا مستحقين، لكننا ننكر معالجة هذه البدع
بهذه الطريقة ، والواجب أن يجتمع رؤساء هذه الفرق، ويقولون: بيننا كتاب
الله عزّ وجل وسنة رسوله فلنتحاكم إليهما لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى
فلان أو فلان، فكلٌّ يخطئ ويصيب مهما بلغ من العلم والعبادة ولكن العصمة في
دين الإسلام.
فهذا الحديث أرشد فيه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلوك طريق مستقيم يسلم فيه الإنسان، ولا
ينتمي إلى أي فرقة إلا إلى طريق السلف الصالح سنة النبي صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين المهديين.
17. الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين تمسكاً تاماً، لقوله: "عضوا عَلَيهَا بالنَّوَاجِذِ".
18.
التحذير من البدع، أي من محدثات الأمور، لأن (إيَّا) في قوله "وَإيَّاكم"
معناها التحذير من محدثات الأمور لكن في الدين، أما في الدنيا إما مطلوب
وإما مذموم حسب ما يؤدي إليه من النتائج.
فمثلاً:
أساليب الحرب وأساليب الاتصالات،وأساليب المواصلات كلها محدثة، لم يوجد
لها نوع فيما سبق، ولكن منها صالح ومنها فاسد حسب ما تؤدي إليه،
فالمُحَذَّر منه المحدث في الدين عقيدة، أو قولاً، أو عملاً، فكل محدثة في
الدين صغرت أو كبرت فإنها بدعة، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن
قال قائل: كيف نجمع بين هذه الكلية العامة الواضحة البينة: "كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعَةٌ" وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوم القِيامَةِ"(8)
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول:أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً"
أي من ابتدأ العمل بالسنة، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره
بعد أن حث على الصدقة للقوم الذين وفدوا إلى المدينة ورغب فيها، فجاء
الصحابة كلٌّ بما تيسر له، وجاء رجل من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها
في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ فَلَهُ أَجرَها وَأَجرُ مَنعَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيامَةِ"
أي ابتدأ العمل سنة ثابتة، وليس أنه يأتي هو بسنة جديدة، بل يبتدئ العمل
لأنه إذا ابتدأ العمل سن الطريق للناس وتأسوا به وأخذوا بما فعل.
الوجه الثاني:أن يقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً"
أي سن الوصول إلى شيء مشروع من قبل كجمع الصحابة المصاحف على مصحف واحد،
فهذا سنة حسنة لاشك، لأن المقصود من ذلك منع التفرق بين المسلمين وتضليل
بعضهم بعضاً.
كذلك أيضاً جمع السنة وتبويبها وترتيبها، فهذه سنة حسنة يتوصل بها إلى حفظ السنة.
إذاً يُحمَل قوله: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ"
على الوسائل إلى أمور ثابتة شرعاً، ووجه هذا أننا نعلم أن كلام النبي صلى
الله عليه وسلم لا يتناقض، ونعلم أنه لو فُتِحَ الباب لكل شخص أو لكل طائفة
أن تبتدع في الدين ما ليس منه لتمزقت الأمة وتفرقت،وقد قال الله عزّ وجل: (إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159]
19.
أن جميع البدع ضلالة ليس فيها هدى، بل هي شر محض حتى وإن استحسنها من
ابتدعها فإنها ليست حسنى، بل ولا حسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَة" ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
وبناءً على هذا يتبين خطأ
من قسم البدع إلى خمسة أقسام أو إلى ثلاثة أقسام، وأنه ليس على صواب، لأننا
نعلم علم اليقين أن أعلم الناس بشريعة الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وأن أنصح الخلق لعباد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أفصح الخلق
نطقاً محمد صلى الله عليه وسلم ،وأن أصدق الخلق خبراً رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، أربعة أوصاف كلها مجتمعة على الأكمل في قول النبي صلى الله
عليه وسلم ثم يأتي مَنْ بعده ويقول: البدعة ليست ضلالة، بل هي أقسام: حسنة ،
ومباحة، ومكروهة، ومحرمة، وواجبة.
سبحان الله العظيم، يعني
لولا إحسان الظن بهؤلاء العلماء لكانت المسألة كبيرة، أن يقسموا ما حكم
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ضلالة إلى أقسام: حسن و قبيح.
إذاً نقول: من ابتدع بدعة وقال: إنها حسنة. فإما أن لا تكون بدعة، وإما أن لا تكون حسنة قطعاً.
مثال ذلك: قالوا من البدع الحسنة جمع المصاحف في مصحف واحد، ومن البدع الحسنة كتابة الحديث، ومن البدع الحسنة إنشاء الدور لطلاب العلم وهكذا.
فنقول هذه ليست بدعة، وهي
حسنة لا شك لكن ليست بدعة، هذه وسيلة إلى أمر مقصود شرعاً، نحن لم نبتدع
عبادة من عندنا لكن أمرنا بشيء ورأينا أقرب طريق إليه هذا العمل فعملناه.
وهناك فرق بين الوسائل
والذرائع وبين المقاصد، لأن جميع الأمثلة التي قالوا: إنها حسنة تنطبق على
هذا، أي أنها وسائل إلى أمر مشروع مقصود.
ومثال آخر قول جماعة: إن الميكرفون الذي يؤدي الصوت إلى البعيد بدعة ولا يجوز العمل به؟
فنقول: هو وسيلة حسنة ، لأنه يوصل إلى المقصود، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم للأذان مَنْ هو أندى صوتاً(9) لأنه يبلغ أكثر، وقال للعباس رضي الله عنه في غزوة حنين: نادى يا عباس لأنه كان صيتاً رضي الله عنه(10) .
إذاً رفع الصوت مطلوب،
وهذه وسيلة من وسائله، ولهذا لما رُكِّبَ الميكرفون (مكبّر الصوت) في
المسجد - الجامع الكبير بعنيزة- أول ما ركب على زمن شيخنا عبد الرحمن بن
سعدي - رحمه الله - خطب في ذلك خطبة وأثنى على الذي أتى به وهو أحد
المحسنين- رحمه الله - وقال: هذا من النعمة. وصدق،وهو من النعمة لأنه وسيلة
إلى أمر مقصود.
كذلك أيضاً الاتصالات، الآن نتصل عن طريق الهاتف إلى أقصى العالم، فهل نقول استعمال هذا الهاتف بدعة لا تجوز؟
الجواب:لا نقول هذا، لأنه وسيلة، وقد يكون إلى خير أو إلى شر.
فعلى كل حال: يجب أن نعرف الفرق بين ما كان غاية وما كان ذريعة.
يوجد أناس أحدثوا أذكاراً يذكرون الله فيها على هيئات معينة، وقالوا: إن قلوبنا ترتاح إلى هذا الشيء، فهل نقول: هذا بدعة حسنة أو لا؟
الجواب:لا، لأنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبد الله عزّ وجل على هذا الوجه، وعلى هذا فقس.
إذاً الواجب علينا أن
نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا بان كل بدعة ضلالة، وأنه لا حسن في البدع تصديقاً
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: ما ادعى صاحبه أنه بدعة حسنة فهو
إما أن لا يكون حسناً وظنه حسناً، وإما أن لا يكون بدعة، أما أن يكون بدعة
وحسناً فهذا لايمكن، ويجب علينا أن نؤمن بهذا عقيدة.
ولا يمكن أن نجادل أهل الباطل في بدعهم إلا بهذا الطريق بأن نقول: كل بدعة ضلالة.
فإن قال قائل:
ماذا تقولون في قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع
الناس في قيام رمضان على إمام واحد، وخرج ليلة من الليالي فوجد الناس يصلون
بإمام واحد فقال: نعمت البدعة هذه(11) فسماها بدعة؟
أجاب بعض العلماء بأن المراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لاالشرعية، ولكن هذا الجواب لا يستقيم، كيف البدعة اللغوية وهي صلاة؟
والصواب أنها بدعة نسبية
بالنسبة لهجران هذا القيام بإمام واحد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
أول من سن القيام بإمام واحد - أعني التراويح - فقد صلى بأصحابه ثلاث ليال
في رمضان ثم تخلف خشية أن تفرض(12)،
وتُرِكَت، وأصبح الناس يأتون للمسجد يصلي الرجل وحده ، والرجلان جميعاً،
والثلاثة أوزاعاً، فرأى عمر رضي الله عنه بثاقب سياسته أن يردهم إلى السنة
الأولى وهي الاجتماع على إمام واحد فجمعهم على تميم الداري وأُبي بن كعب
رضي الله عنهما وأمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشرة ركعة(13) ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة(14).
فيكون قوله: نعمت البدعة
يعني بالبدعة النسبية، أي بالنسبة إلى أنها هجرت في آخر عهد النبي صلى الله
عليه وسلم وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أول خلافة عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ،وإلا فنحن نؤمن بأن كل بدعة ضلالة، ثم هذه الضلالات تنقسم إلى: بدع مكفرة، وبدع مفسقة ، وبدع يعذر فيها صاحبها.
ولكن الذي يعذر صاحبها فيها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصد.
وأضرب مثلاً بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين وهما: النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى .
فالنووي : لا نشك أن الرجل
ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد
مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين )
وهذا يدل على القبول، ولا
شك أنه ناصح، ولكنه - رحمه الله - أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها
مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة لكن هو
غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر،
فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول
الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر.
أرأيتم الرجل الذي أضل
راحلته حتى أيس منها، واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بالناقة على رأسه،
فأخذ بها وقال من شدة الفرح:اللهم أنت عبدي وأنا ربك،وهذه الكلمة كلمة كفر
لكن هو لم يكفر،قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَخطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَح" (15) أرأيتم الرجل يكره على الكفر قولاً أو فعلاً فهل يكفر؟
الجواب:لا، القول كفر والفعل كفر لكن هذا القائل أو الفاعل ليس بكافر لأنه مكره.
أرأيتم الرجل الذي كان
مسرفاً على نفسه فقال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذرُّوني في اليمِّ - أي
البحر - فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين(16)، ظن أنه بذلك ينجو من عذاب الله، وهذا شك في قدرة الله عزّ وجل، والشك في قدرة الله كفر، ولكن هذا الرجل لم يكفر.
جمعه الله عزّ وجل وسأله لماذا صنعت هذا؟ قال: مخافتك. وفي رواية أخرى: من خشيتك، فغفر الله له.
أما الحافظ الثاني: فهو
ابن حجر- رحمه الله - وابن حجر حسب ما بلغ علمي متذبذب في الواقع، أحياناً
يسلك مسلك السلف، وأحياناً يمشي على طريقة التأويل التي هي في نظرنا تحريف.
مثل هذين الرجلين هل يمكن أن نقدح فيهما؟
أبداً، لكننا لا نقبل خطأهما، خطؤهما شيء واجتهادهما شيء آخر.
أقول هذا لأنه نبتت نابتة
قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجوماً عنيفاً، وتقول: يجب إحراق فتح
الباري وإحراق شرح صحيح مسلم، -أعوذ بالله- كيف يجرؤ إنسان على هذا
الكلام، لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين.
والبدعة المكفرة أو المفسقة لا نحكم على صاحبها أنه كافر أو فاسق حتى تقوم عليه الحجة، لقول الله تعالى: (وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص:59]
وقال عزّ وجل: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الاسراء: الآية15] ولو كان الإنسان يكفر ولو لم تقم عليه الحجة لكان يعذب، وقال عزّ وجل: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )[النساء: الآية165] والآيات في هذه كثيرة.
فعلينا أن نتئد وأن لا نتسرع، وأن لا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه رجل مبتدع.
وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة، ونقول: هما من الأشاعرة؟
الجواب:لا، لأن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.
وما أحسن ما كتبه أخونا
سفر الحوالي عما علم من مذهبهم، لأن أكثر الناس لا يفهم عنهم إلا أنهم
مخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات، ولكن لهم خلافات كثيرة.
فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم فلا نقول: إنه أشعري.
أرأيتم لو أن إنساناً من الحنابلة اختار قولاً للشافعية فهل نقول إنه شافعي؟
الجواب:لا نقول إنه شافعي.
فانتبهوا لهذه المسائل
الدقيقة، ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين،
لأن غيبة العالم ليست قدحاً في شخصه فقط، بل في شخصه وما يحمله من الشريعة،
لأنه إذا ساء ظن الناس فيه فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون
المصيبة على الشريعة أكثر.
ثم إنكم ستجدون قوماً
يسلكون هذا المسلك المشين فعليكم بنصحهم، وإذا وجد فيكم من لسانه منطلق في
القول في العلماء فانصحوه وحذروه وقولوا له: اتق الله، أنت لم تُتَعَبَّد
بهذا، وما الفائدة من أن تقول فلان فيه فلان فيه، بل قل: هذا القول فيه كذا
وكذا بقطع النظر عن الأشخاص.
لكن قد يكون من الأفضل أن
نذكر الشخص بما فيه لئلا يغتر الناس به، لكن لا على سبيل العموم هكذا في
المجالس، لأنه ليس كل إنسان إذا ذكرت القول يفهم القائل، فذكر القائل جائز
عند الضرورة، وإلا فالمهم إبطال القول الباطل، والله الموفق.
____________________________________________________________________________
(2)
أخرجه البخاري – كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم
لو كنت متخذاً خليلاً، (3659). ومسلم – كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل
أبي بكر الصديق، (2386)، (10)
(3)
أخرجه البخاري – كتاب: المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع،
(5666).ومسلم – كتاب: فضائل الصحابة، من فضائل أبي بكر الصديق،
(2387)،(11).
(4)
أخرجه البخاري- كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، (466) ومسلم –
كتاب: فضائل الصحابة، من فضائل أبي بكر الصديق، (2382)،(2).
(5)
أخرجه البخاري – كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: (لَقَدْ
كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)، (3385). ومسلم –
كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الغمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من
يصلي بالناس، (420)،(101).
(6)
أخرجه مسلم كتاب: الأمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور
الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، (1847)،(52)
(7)
أخرجه البخاري – كتاب: الأذان، باب: الأذان قبل الفجر، (622). ومسلم –
كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له
الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، (1092)، (38)
(8) أخرجه مسلم – كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأناه حجاب من النار، (1017)، (69)
(9)
أخرجه أبو داود- كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، (499). والترمذي- كتاب:
الصلاة، باب: ما جاء في بدء الأذان، (189). وابن ماجه – كتاب: الأذان
والسنة فيه، باب: بدء الأذان، (706). والإمام أحمد – أول مسند المدنيين عن
عتبان بن مالك، (16591)
(10) أخرجه مسلم- كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين، (17759)
(11) أخرجه البخاري – كتاب: صلاة التروايح، باب: فضل من قام رمضان، (2010)
(12)
أخرجه البخاري – كتاب: أبواب التهجد، باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم
على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، (1139). ومسلم – كتاب: صلاة
المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التروايح، (761)،(177).
(13) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه – ج2/ص162، (7671)
(14)
أخرجه البخاري كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، (994). ومسلم- كتاب:
صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه
وسلم في الليل وأن الوتر ركعة وأن ركعة صلاة صحيحة، (736)،(122)
(15) أخرجه مسلم – كتاب التوبة، باب: الحض على التوبة والفرح بها، (2747)،(7)
(16)
أخرجه البخاري – كتاب: أحاديث الأنبياء، باب، (3481). ومسلم – كتاب:
التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأناه سبقت غضبه، (2756)،(25)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ:
العِرْبَاضُ
بنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ، كانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وهُوَ أَحَدُ
البَكَّائِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ رَابِعُ الإِسْلاَمِ، وَنَزَلَ
حِمْصَ، مَاتَ بعدَ السَّبْعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ. (وَجِلَتْ) خَافَتْ وَرَقَّتْ (مِنْها) لأَِجْلِهَا (القُلوبُ، وَذَرَفَتْ) سَالَتْ (مِنْها)
لِسَمَاعِهَا دُموعُ العُيونِ؛ لأِنَّها خَرَجَتْ مِنْ مِشْكَاةِ
النُّبُوَّةِ، وَقَلْبٍ نَقِيٍّ، وَلِسَانٍ تَقِيٍّ، وَوَقَعَتْ على
قُلُوبٍ صَافِيَةٍ عَنِ الأرجَاسِ، مُشَاهِدَةٍ لِمُحْصِي الأَنْفَاسِ.
الشَّرْحُ:
(فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا) كأَنَّ هذهِ المَوْعِظَةَ البَلِيغَةَ، (مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ) أَحْبَابَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَهُوَ لا يَتْرُكُ في مَوْعِظَتِهِ مَا يَرَاهُ خَيْرًا لأَصحَابِهِ،(فَأَوْصِنَا) بمَا هُوَ نافِعٌ لَنَا في الدَّارَيْنِ.
(( قالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ))
أَنْ تَتَّقُوهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، بِفِعْلِ مَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ
وَتَرْكِ مَا يُبْعِدُ عَنْهُ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَالتَّقْوَى خَيرُ
الزَّادِ لِلمَعَادِ وَسَبَبُ الإِكْرامِ عندَ ربِّ العبَادِ، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[سورة المطففين الآية: 6].
((وَالسَّمْعِ)) لأَقوَالِ وُلاَةِ الأُمُورِ
((والطَّاعَةِ)) في غَيرِ الإثْمِ؛ إذْ لا طاعةَ لِمخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ.
((وَإِنْ تَأَمَّرَ عَليْكُمْ عَبْدٌ))حَبَشِيٌّ
مَمْلُوكٌ، مُتَغَلِّبًا أَوْ نَائِبًا عَنِ الخَلِيفَةِ، فَاسْمَعُوا
لَهُ وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ الإِطَاعَةَ- إِذَا أَمَرَ بِغَيْرِ الإثْمِ -
في الحقيقةِ للهِ الَّذِي أَمَرَ بالطَّاعَةِ لا لَهُ.
((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا))
في أَمْرِ الدينِ، حتَّى يَصِيرَ الناسُ ثلاثةً وَسَبْعِينَ فِرْقَةً
يُكَفِّرُ بَعْضُهُم بَعْضًا أَوْ يَبْتَدِعُونَ أَوْ يَفْسُقُونَ،
وَتَتَعَصَّبُ كُلُّ طائفَةٍ لِمَا تَذْهَبُ إليهِ، وَتُقَاتِلُ على ذلكَ
في أَمْرِ الإِمَارَةِ، حتَّى يَكُونُوا خُلَفَاءَ مُخْتَلِفَةً،
وَأُمَرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ الحقَّ مَعَهُ، مَعَ
أَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِهِمُ الظُّلْمُ وَالبَغْيُ.
فإذَا كانَ الأمرُ كذَلكَ ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ)) من الأَئِمَّةِ المُتَّبَعِينَ، والعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ مِنْ بَعْدِي، ((عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ))بالذَّالِ المُعْجَمَةِ أَي: الأَنْيَابِ.
أَي: اسْتَمْسِكُوا بِهَا
أَشَدَّ الاسْتِمْسَاكِ، ولا تَتْرُكُوهَا أَبَدًا، إذَا أَرَادَ أهلُ
السَّوءِ مِنْكُمْ تَرْكَهَا؛ فإنَّ النَّجَاةَ فيهَا والْهُدَى
بِحَذَافِيرِهِ في التَّعَلُّقِ بِأَذْيَالِهَا.
((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)) أَي: احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الوقُوعِ في البِدَعَاتِ عَمَلاً وَاعْتِقَادًا.
((فإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ)) في الدِّينِ ((ضَلاَلةٌ)) عنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ بِقَدْرِهَا.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ الثامنُ وَالعشرونَ
عَنْ
أَبِي نَجِيحٍ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً
بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ.
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ،
فَأَوْصِنَا. قَالَ: ((أُوصِيكُمْ
بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ
تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ؛ فإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا
بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)). حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَ(الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ):
هُم الذينَ خَلَفُوهُ بعدَ مَوْتِهِ في ولايَةِ أَمْرِ الأُمَّةِ،
وَأوَّلُهُمْ: أَبُو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثمَّ عُثْمَانُ، ثمَّ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
الرَّاوِي:
أبو
نَجِيحٍ العِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
سَكَنَ الشامَ، وَتُوُفِّيَ فِي العامِ الخامسِ وَالسبعِينَ مِن الهجرةِ.
موضوعُ الحديثِ: وُجُوبُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُحَارَبَةِ البِدْعَةِ.
المُفْرَدَاتُ:
(وَعَظَنَا مَوْعِظَةً): الوَعْظُ: هوَ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بالعَوَاقِبِ... وَكانتْ هذهِ الموعظةُ بعدَ صلاةِ الصبحِ.
وَهذا يَدُلُّ على:
أَهَمِّيَّةِ المَوْعِظَةِ وَاخْتِيَارِ الوقتِ المُنَاسِبِ لها،
وَتَخَوُّلِ الناسِ بها، وَحَاجَةِ الناسِ لها، وَتَرْبِيَةِ القلوبِ بها.
وَقدْ كانَ هَدْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المَوَاعِظِ كَمَا يَلِي:
1-كَانَ يَعِظُ أَصْحَابَهُ في غيرِ الخُطَبِ الراتبةِ كَخُطَبِ الجُمَعِ وَالأَعْيَادِ؛ امْتِثَالاً لأمرِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 63].
وَقولِهِ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
2-كانَ يَتَخَوَّلُهُمْ مِن الحِينِ إِلى الحِينِ.
قَالَ
ابْنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كَانَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بالموعظةِ مِن الحينِ كراهةَ السآمَةِ
علينا). وَالتَّخَوُّلُ: التَّعَهُّدُ.
(بَلِيغَةً):
أيْ: مُؤَثِّرَةً، تَبْلُغُ سُوَيْدَاءَ القلبِ وَتُؤَثِّرُ فيهِ،
فَتَكُونُ قدْ بَلَغَتْ أَعْمَاقَ القلبِ؛ لِتُظْهِرَ آثَارَهَا وَتَجْنِيَ
ثِمَارَهَا، وَذلكَ لِعِظَمِ مَعَانِيهَا وَإِيصَالِهَا لقلوبِ
السامِعِينَ.
وَالبلاغةُ في الموعظةِ مُسْتَحْسَنَةٌ؛ لأنَّها أَقْرَبُ إِلى قَبُولِ القلوبِ وَاسْتِجْلابِهَا.
(وَجِلَتْ منها القلوبُ):
الوَجَلُ: هوَ الخوفُ، وَالمرادُ بهِ المحمودُ الذي يَدْعُو إِلى مُراقبةِ
الربِّ وَالعملِ بطاعتِهِ، وَلا تَوْجَلُ القلوبُ إِلاَّ إِذا خَلَتْ مِن
الشواغلِ، وَسَمِعَتْ للخِطَابِ، وَرَغِبَتْ في الثوابِ، وَخَشِيَتْ مِن
العقابِ، وَانْقَشَعَتْ عنها سُحُبُ المعصيَةِ، وَتَنَوَّرَتْ بِنُورِ
الإِسلامِ.
والوَجَلُ للقلوبِ مَحْمُودٌ؛ إِذْ مَدَحَ اللَّهُ أهلَهُ فَقَالَ:{وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} الآيَةَ [الأنفال: 2].
وَقالَ تَعَالَى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} الآيَةَ [الحديد: 16].
_ وَقالَ ثابتٌ البُنَانِيُّ: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَتَى تُسْتَجَابُ دَعْوَتِي. قَالُوا: مَتَى؟
قَالَ: إِذا وَجِلَ قَلْبِي وَاقْشَعَرَّ جِلْدِي وَذَرَفَتْ عَيْنِي).
وَمِثْلُ ذلكَ قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ.
(وَذَرَفَتْ منها العُيُونُ):
(ذَرَفَتْ): بِمَعْنَى سَالَتْ وَفَاضَتْ بالدَّمْعِ مِنْ تَأَثُّرِ
القَلْبِ وَوَجَلِهِ. فَتَأَثُّرُ العينِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثمراتِ تَأَثُّرِ
القلبِ وَرِقَّتِهِ، وَدَمْعُ العينِ مِنْ خشيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
مَحْمُودٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ...} الآيَةَ [المائدة: 83].
وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
(مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ): أيْ مُفَارِقٍ، مِنْ وَدَعَ الشيءَ؛ أيْ: فَارَقَهُ.
وَفَهِمُوا
ذلكَ مِنْ مُبَالَغَتِهِ في تَخْوِيفِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ على خلافِ ما
كَانُوا يَعْهَدُونَهُ فيهِ، أَوْ لأنَّهُ عَرَّضَ بالمفارقةِ؛ إِذْ
زَهَّدَهُمْ في الدُّنيا وَرَغَّبَهُمْ في الآخرةِ.
(فَأَوْصِنَا): أي اعْهَدْ إِلينَا بِوَصِيَّةٍ جامعةٍ كَافِيَةٍ نَنْتَفِعُ بها في الدُّنْيا وَالآخرةِ.
وَفي هذا حِرْصُ الصحابةِ على الخيرِ، وَاغْتِنَامُهُمْ للمواعظِ وَالنَّصَائِحِ، وَالتَّذْكِيرُ بحاجةِ الناسِ لها.
(أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ): مَضَى الكلامُ عَن التَّقْوَى وَثَمَرَاتِهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا في حديثِ أبي ذَرٍّ وَمُعَاذٍ.
(والسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ):
أيْ سَمْعِ أَوَامِرِ وُلاةِ الأمورِ مِن المسلمينَ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ
على الخيرِ، وَيَحْذَرُونَ مِن الشرِّ، وَيُقِيمُونَ الشرعَ،
وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ، وَيَنْهَوْنَ عَن المنكرِ، وَطَاعَتِهِمْ في غيرِ
معصيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا في ذلكَ مِن المصالحِ العاجلةِ
وَالآجِلَةِ، وَاجْتِمَاعِ كَلِمَةِ المسلمينَ، وَإِظهارِ قُوَّتِهِمْ،
وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَأداءِ حُقُوقِهِمْ، وَرَدِّ كَيْدِ عَدُوِّهِمْ،
وَسعادةِ الدنيا، وَتَنْظِيمِ مصالحِ العِبَادِ، وَإِقامةِ الحدودِ
وَغَيْرِهَا.
(وإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ): وَفي بعضِ الرواياتِ: ((وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ)).
وَالمرادُ:
وَإِنْ كَانَت الإِمارةُ في المَوَالِي وَالعَبِيدِ، فَيَجِبُ طَاعَتُهُمْ
فِي غيرِ معصيَةِ اللَّهِ؛ لاجتماعِ الأُمَّةِ وَنَبْذِ الفُرقةِ. أَو
المرادُ ولايَةُ العبيدِ حَقِيقَةً، وَهذا مِمَّا أَطْلَعَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ.
وَلا يُنَافِي هذا القولَ: ((الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ))؛
لأنَّ المقصودَ أَنْ يَكُونَ هذا العَبْدُ الحَبَشِيُّ وَالِياً للإِمامِ
الذي مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ هذا مِنْ بَابِ ضَرْبِ المَثَلِ، مِثْلُ: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ)).
وَالإِمارةُ: هيَ الولايَةُ؛ أيْ: يكونُ الآمِرَ الذي يُطَاعُ، وَالولايَةَ التي يُمْتَثَلُ أَمْرُهَا.
وَالعبدُ: هوَ الرقيقُ، وَاصطلاحاً: عَجْزٌ حُكْمِيٌّ يَقُومُ بالإِنسانِ سَبَبُهُ الكُفْرُ.
وَالحَبَشِيُّ؛ أيْ: مِن الحَبَشَةِ، وَخُصَّ لكثرةِ العبيدِ منهم، أَوْ لأنَّهُم المَعْرُوفُونَ بالعُبُودِيَّةِ، أَوْ لِشِدَّةِ سَوَادِهِمْ.
(فإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً):
فيهِ تَوْطِئَةُ النفوسِ للاستقامةِ على المنهجِ القويمِ وَالثباتِ على
الصراطِ المستقيمِ، وَنَبْذِ الخلافِ وَالفُرْقَةِ، وَالاعتصامِ بحبلِ
اللَّهِ المتينِ، وَتَجَنُّبِ الأهواءِ وَالشهواتِ.
وَهذا
يَدُلُّ على وُقُوعِ الخلافِ وَالافتراقِ في أُصُولِ الدِّينِ وَفروعِهِ،
وَفي الأقوالِ وَالأفعالِ وَالاعتقاداتِ. وَهذا مُوَافِقٌ لقولِهِ: ((وَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً)).
وَسَبَبُ الاختلافِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أُمُورٌ:
منها:
كثرةُ المَعَاصِي، قِلَّةُ الطاعاتِ، الاختلاطُ بالكفَّارِ، تَرْجَمَةُ
كُتُبِ الكُفَّارِ، وُرُودُ الشُّبُهاتِ، الانْغِمَاسُ في المَلَذَّاتِ،
الوُقُوعُ في الشهواتِ، وَغيرُهَا.
(فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المَهْدِيِّينَ): فيهِ أَمْرٌ باتِّبَاعِ السُّنَّةِ عندَ وُرُودِ الفتنةِ وَكثرةِ الخلافِ؛ لأنَّها عِصْمَةٌ وَنَجَاةٌ.
وَالسُّنَّةُ:
هيَ الطريقُ المسلوكةُ، فَيَشْمَلُ ذلكَ التَّمَسُّكَ بما كَانَ عَلَيْهِ
هوَ وَخلفاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِن الاعتقاداتِ وَالأقوالِ وَالأعمالِ،
وَهذهِ السُّنَّةُ الكاملةُ.
وَالخليفةُ: لَقَبٌ لِمَنْ تَوَلَّى إِمْرَةَ المُؤْمِنِينَ.
وَالرَّاشِدُ: هوَ الذي عَرَفَ الحَقَّ وَاتَّبَعَهُ. وَوُصِفَ الخلفاءُ بذلكَ؛ لأنَّهُم عَرَفُوا الحقَّ وَقَضَوْا بهِ.
وَالمَهْدِيُّ:
هوَ الذي عَرَفَ الحقَّ وَاتَّبَعَهُ، وَيُقَابِلُهُ الْغَوِيُّ: وَهوَ
الذي عَرَفَ الحقَّ وَلم يَتَّبِعْهُ، وَالضَّالُّ: هُوَ الذي لمْ
يَعْرِفْهُ بالكُلِّيَّةِ.
(عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ): أيْ تَمَسَّكُوا بها أَشَدَّ التَّمَسُّكِ كَتَمَسُّكِ العَاضِّ بِأَضْرَاسِهِ على الشيءِ لا يَتْرُكُهُ.
وَ(النَّوَاجِذُ): هيَ الأَضْرَاسُ، وَالمرادُ: اثْبُتُوا على هذا المنهجِ القويمِ؛ لِتَسْلَمُوا مِن الأهواءِ وَالشياطينِ.
(وإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ): أي احْذَرُوا ما اسْتُحْدِثَ في الدِّينِ وَليسَ منهُ؛ لأنَّهُ خلافُ السُّنَّةِ، وَقدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))، وَقدْ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ.
(فإِنَّ كلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ): أيْ ما أُحْدِثَ مِمَّا ليسَ في الكتابِ وَالسُّنَّةِ فهوَ بِدْعَةٌ.
وَالبدعةُ:
هيَ ما أُحْدِثَ على خلافِ المشروعِ مِمَّا ليسَ عَلَيْهِ النبيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ.
وَ(كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) يَضِلُّ بها أَهْلُهَا عَن الصراطِ المستقيمِ، وَرُبَّمَا خَرَجُوا بها عَن الإِسلامِ.
الفَوَائِدُ:
1- مَشْرُوعِيَّةُ الوَعْظِ وَالتذكيرِ.
2- الحرصُ على نفعِ الناسِ.
3- جوازُ الموعظةِ بعدَ الصلواتِ.
4- البلاغةُ في الموعظةِ.
5- تَحْرِيكُ القلوبِ بالذِّكْرِ.
6- أَعْظَمُ المواعظِ ما وَجِلَ منهُ القلبُ.
7- فَضْلُ البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
8- ذَكَاءُ الصحابةِ.
9- الاسْتِزَادَةُ مِن الخيرِ.
10- وُجُوبُ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى.
11- أَعْظَمُ الوَصَايَا تَقْوَى اللَّهِ.
12- وُجُوبُ طاعةِ وَلِيِّ الأمرِ في غيرِ مَعْصِيَةٍ.
13- تَحْرِيمُ الخروجِ على الإِمامِ المُسْلِمِ.
14- طَاعَةُ وَلِيِّ الأمرِ عِبَادَةٌ.
15- الإِيمانُ بِمُعْجِزَاتِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
16- الصبرُ على الحقِّ عندَ الفتنةِ.
17- أنَّ سَبَبَ الفتنةِ تَرْكُ السُّنَّةِ وَالخروجُ على الأَئِمَّةِ.
18- وُجُوبُ التَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ.
19- صِحَّةُ الاحتجاجِ بِسُنَّةِ الخلفاءِ الراشِدِينَ.
20- وُجُوبُ مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ.
21- عَدَمُ اجْتِمَاعِ الصحابةِ على ضَلالةٍ.
22- قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إِذا لمْ يُعَارَضْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ.
23- التَّحْذِيرُ مِن البِدَعِ.
24- الحَذَرُ مِن المذاهبِ الهَدَّامَةِ.
25- أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
اشتملَ
الحديثُ علَى وصيَّةٍ عظيمةٍ جامعةٍ شاملةٍ، فأَوْصَى بتَقْوَى اللهِ،
وطاعةِ وُلاةِ الأمرِ، والاعتصامِ بالسُّنَّةِ، والحذرِ مِن الابتداعِ،
فهذه أمورٌ غايَةٌ في الأهميَّةِ، إِذا تمسَّكتْ بها الأمَّةُ سعدَتْ في
دنياهَا وأخرَاهَا.
الوعظُ مِن مهامِّ الدَّاعيَةِ:
مهامُّ
الدَّاعي إلَى اللهِ كثيرةٌ، منها الوعظُ، وإِليكَ بعضَ الأمورِ الَّتي
تَتعلَّقُ بهذه المهمَّةِ، حتَّى يُؤتِيَ الوعظُ ثمارَهُ المرجوَّةَ: 1 - تعريفُ الوعظِ: الوعظُ هو: النُّصحُ، والتَّذكيرُ بالعواقبِ، وقالَ ابنُ سِيدَهْ: هو تذكيرُكَ للإنسانِ بما تُليِّنُ بهِ قلبَهُ مِن ثوابٍ وعقابٍ. 2 -مشروعيَّتُهُ: في الحديثِ دلالةٌ علَى مشروعيَّةِ الوعظِ، مِن فعلِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقالَ تعالَى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}،
يَأْمُرُ اللهُ عزَّ وجلَّ رسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بموعظةِ المنافقينَ لعلَّهُمْ يُفيقون ممَّا هم فيهِ مِن ضلالٍ. وقالَ تعالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}
كذلكَ هذهِ الآيَةُ فيها أمرٌ بدعوةِ الخلقِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ،
كما شرعَ اللهُ عزَّ وجلَّ الموعظةَ أثناءَ نشوزِ الزَّوجةِ، وتمرُّدِهَا
علَى أوامرِ زوجِهَا وإعراضِهَا عنهُ قالَ تَعالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}.
ممَّا تقدَّمَ نخلصُ إلَى أنَّ الموعظةَ مشروعةٌ، وذلكَ لما فيها مِن خيرٍ عظيمٍ قد يحقِّقُهُ اللهُ عزَّ وجلَّ علَى يدِ الواعظِ.
3 - صفةُ الموعظةِ النَّاجحةِ:
أ - انتقاءُ الموضوعِ المناسبِ الَّذي يحتاجُ إليهِ النَّاسُ، فمثلا إذا رأَى إيثارَ النَّاسِ الدُّنيا علَى الآخرةِ وانغماسَهُمْ فيها علَى حسابِ الطَّاعةِ، رغَّبَهُم في الآخرةِ، وزهَّدَهُم في الدُّنيَا.
أمَّا
أنْ يدعوَ - مثلاً - للاقتصادِ في الطَّاعةِ، وهم لا يقومُون بأداءِ
الفروضِ والواجباتِ كما هو مطلوبٌ، فهذا مِن عدمِ الحكمةِ في انتقاءِ
الموضوعِ.
ب - البلاغةُ في الموعظةِ:
الفصاحةُ في المواعظِ مطلوبةٌ، قالَ تعالَى:
{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}،
كما وصفَ الصَّحابةُ مواعظَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَعَظـَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً
بَلِيغَةً).
فعلَى
الواعظِ أن يُوَصِّلَ ما لديهِ مِن معانٍ إلَى السَّامعينَ بأحسنِ صورةٍ
مِن الألفاظِ الدَّالةِ عليها، وأفضلِهَا، وأجملِهَا لدَى الأسماعِ،
وأوقعِهَا في القلوبِ.
ج - اختيارُ الوقتِ والفرصةِ المناسبةِ، بحيثُ يكونُ المستمعُ متفرِّغًا، صافيَ الذِّهنِ، غيرَ مشغولٍ بحاجاتِهِ، والموعظةُ في هذا الحديثِ الَّتي يَتَحدَّثُ عنها الْعِرْبَاضُ كانت بعدَ صلاةِ الفجرِ، وفي هذا الوقتِ يكونُ العبدُ في قمَّةِ نشاطِهِ صافيَ الذِّهنِ.
روَى
الشَّيخانِ عن أبي وائلٍ قالَ: كانَ عبدُ اللهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في
كلِّ خميسٍ فقالَ له رجلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، لَوَدِدْتُ أنَّكَ
ذَكَّرْتَنَا كلَّ يومٍ، قالَ: أمَا إنَّهُ يَمْنَعُنِي مِن ذَلِكَ أنِّي
أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ
كَمَا كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا
بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
د - قِصَرُ الموعظةِ:
عن أبي وائلٍ قالَ: خطبَنَا عمَّارٌ رَضِي اللهُ عَنْهُ فأوجَزَ وأبلغَ، فلمَّا نزلَ قلْنَا: يا أبا اليَقظَانِ، لقد أبلغْتَ وأوجزْتَ، فلو كنْتَ تَنَفَّسْتَ، فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ، وَأَقصِرُوا الْخَطابةَ، فإنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا))، فمِنْ هَدْيِ حبيبِ ربِّ العالمينَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ عدمُ التَّطويلِ؛ لأنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمَلَلِ، والضجَرِ، وضياعِ الفائدةِ الْمَرْجُوَّةِ، وخيرُ الأمورِ الوَسَطُ، فلا تطويلٌ مُمِلٌّ، ولا قِصَرٌ مُخِلٌّ.
4 - صفاتُ الواعظِ المؤثِّرِ:
حتَّى تكونَ الموعظةُ نافذةً إلَى القلوبِ، فتُحْيِيها مِن مَواتِهَا، كما يُحيِي المطرُ الأرضَ الْمَيِّتَةَ، كما قالَ تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
لا بدَّ أنْ تصدرَ مِن واعظٍ يتَّصِفُ بالآتي:
1 - مؤمنٌ بكلامِهِ، متأثِّرٌ به حريصٌ علَى إيصالِهِ لمستمعيهِ، سألَ قومٌ عبدَ اللهِ بنَ المبارَكِ عن سببِ تأثُّرِهِم بهِ، وَعَدَمِ تأثُّرِهِم مِن غيرِهِ أثناءَ الوعظِ، قالَ: (النـَّائِحَةُ الثَّكْلَى لَيْسَتْ كالنَّائِحَةِ الْمُسْتَأْجَرةِ)، وهذا يُؤَدِّي إلَى ظهورِ ذلك علَى مَلامِحِ وجهِهِ، ونبراتِ صوتِهِ وحركاتِهِ.
كانَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وَعظَ علا صوتُهُ، واحمرَّتْ
عينَاهُ، وانتفخَتْ أَوداجُهُ، ويشيرُ بيديْهِ، حتَّى خشيَ عليهِ
الصَّحابةُ أن يَسقطَ مِن منبرِهِ، لذلك كانتْ مواعظُهُ تَنْفُذُ إلَى
قلوبِ أصحابِهِ، كما قالَ العرباضُ: (وَجِلـَتْ منها القلوبُ) أي: خافَتْ، (ذرفـَتْ منها العيونُ) أي: سالـَتْ دموعُهَا.
2 - سلامةُ قلبِهِ مِن الأمراضِ، الَّتي يُبْتَلَى بها القلبُ، فسليمُ القلبِ يَنْفُذُ كلامُهُ إلَى القلوبِ، أمَّا مريضُ القلبِ فلا يَتجاوزُ الأُذُنَيْنِ، لذلك يَجِبُ علَى الواعظِ أن يَجْتَهِدَ علَى إصلاحِ نفسِهِ وقلبِهِ.
3
- أنْ يكونَ قدوةً صالحةً لسامعِيهِ بقولِهِ وفعلِهِ، وذلك أنَّ سامعيهِ
سوفَ يَرْقبُونَ قولَهُ وفعلَهُ، فإذا وَجدُوهُ مخالِفًا لِمَا وَعَظَهُمْ
به احتَقَرُوهُ، وأَعْرَضُوا عنه وعمَّا وَعَظَهُمْ بِهِ.
لذلكَ قالَ شعيبٌ عليهِ السَّلامُ لقومِهِ:{وَمَا أُرِيدُ أنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، وأَنْكَرَ ربُّنَا تَبارَكَ وتعالَى علَى أهلِ الكتابِ، الَّذينَ يَعِظُونَ غيرَهُم ولا يَتَّعِظُونَ، قالَ تَعالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
كمَا بيَّنَ سبحانَهُ وتعالَى بأنَّهُ يبغِضُ منْ خَالفَ فعلُهُ قولَهُ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
موعظةُ مُودِّعٍ: قولُهُ رَضِي اللهُ عَنْهُ: (فقلـْنا: يا رسولَ اللهِ، كأنَّهَا موعظةُ مودِّعٍ)
قالَ ابنُ رجبٍ: يدلُّ علَى أنَّهُ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قد أبلغَ في تلكَ الموعظةِ ما لم يبلغْ في غيرِهَا، فلذلك فهمُوا أنَّهَا
موعظةُ مودِّعٍ، فإنَّ المودِّعَ يستقصِي ما لم يستقصِ غيرُهُ في القولِ
والفعلِ، ولذلك أمرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ
يُصلَّى صلاةُ مودِّعٍ؛ لأنَّهُ مَن استشعَرَ أنَّهُ مودِّعٌ بصلاتِهِ
أَتْقَنَهَا علَى أكملِ وجوهِهَا، وربَّما كانَ قد وقعَ منه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعريضٌ في تلكَ الخطبةِ بالتَّوديعِ، كما عرَّضَ بذلك
في خطبةِ حجَّةِ الوداعِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ أَدْرِي لَعَلـِّي لاَ أَلْقَاكـُمْ بَعْدَ عَامِي هذَا)).
ثانيًا:فضلُ سلَفِ الأمَّةِ:
قولُ العِرْبَاضِ: (وَجِلـَتْ منه القلوبُ، وذرفَتْ منها العيونُ) فيهِ دَلالةٌ علَى طِيبِ مَعْدِنِ الصَّحابةِ، وطهارةِ نفوسِهِم، وسلامةِ قلوبِهِم، واتِّعاظِهِم بكلامِ رسولِهِم، وخوفِهِم ووجلِهِم مِن كلامِ ربِّهِم، وهذه علامةُ الإيمانِ والاستقامةِ والصَّلاحِ.
قالَ تَعالَى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وقالَ تعالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}.
فتَجِبُ
محبَّتُهُم، وإجلالُهُم والتَّرضِّي عنهم، والاقتداءُ بِهِم، فهم سلفُ
الأمَّةِ الَّذينَ نقلُوا لنا كتابَ اللهِ وسنَّةَ نبيِّنَا، فالطَّعنُ
فيهم زندقةٌ وانحرافٌ، كما قالَ أبو زرعةَ: إذا رأيْتَ الرَّجلَ ينتقصُ
أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاعلمْ
أنَّهُ زنديقٌ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَنَا
حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، وإنَّمَا أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسُّننَ أصحابُ
رسولِ اللهِ، وإنَّما يريدونَ أن يجرحُوا شهودَنَا ليبطلُوا الكتابَ
والسُّنَّةَ، والجرحُ بهم أولَى، وهُمْ زنادقةٌ.
وأبو زُرعةَ - الَّذي أَفْتَى بزَندقةِ هؤلاءِ - قالَ عنه أحمدُ بنُ حنبلٍ: ما جازَ الْجِسْرَ أحفظُ مِن أبي زُرعةَ.
الوَصيَّةُ بتقوَى اللهِ:
قولُهُ عليهِ السَّلامُ: (أوصيكُمْ بتقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ)، فتقوَى العبدِ ربَّهُ جلَّ وعلا أنْ يَجعلَ بينَهُ وبينَ ما يخشاهُ مِن ربِّهِ مِن غضبِهِ وسخطِهِ وعقابِهِ وقايَةً تقيهِ مِن ذلِكَ، وهو فعلُ الطَّاعةِ واجتنابُ المعصيَةِ، والتَّقوَى هي وصيَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ للأوَّلينَ والآخرينَ، وهي سببُ خَيْرَيِ الدُّنيا والآخرةِ، وسَبَقَ بيانُ ذلك أثناءَ شَرْحِ الحديثِ الثَّامنَ عشرَ، فلا حاجةَ للتَّكرارِ.
الوصيَّةُ بطاعةِ وُلاةِ الأمرِ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالسـَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ…) يَدلُّ الحديثُ علَى أنَّ طاعةَ وُلاةِ الأمورِ واجبةٌ، كما يشهدُ له قولُهُ جلَّ وعلا:{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وممَّا يَشهدُ له كذلِكَ: عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ أَطَاعـَنـِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى
اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي
فَقَدْ عَصَانِي))، والمقصودُ بوُلاةِ الأمرِ الشَّرعيِّينَ،
الَّذينَ وَصَلوا إليها ضمنَ قواعدِ الشَّرعِ، أمَّا المتسلِّطُونَ علَى
الأمَّةِ بالنَّارِ والحديدِ، فهؤلاء يَنظرُ لطاعتِهِم مِن بابِ المصلَحَةِ
والْمَفْسَدةِ.
1 - طاعةُ وُلاةِ الأمرِ مُقيَّدةٌ بالمعروفِ.
قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي
الْمَعْرُوفِ))، وقالَ:((لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ
الْخَالِقِ)).
عن عِمرانَ والحكَمِ بنِ عمرٍو الغفاريِّ قالَ: ((لاَ طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ اللهَ)).
تَدُلُّ
هذه الرِّواياتُ علَى أنَّهُ يَحْرُمُ علَى المسلمِ أن يَنقادَ لوُلاةِ
الأمرِ بمعصيَةِ اللهِ، وإنَّما تكونُ طاعتُهُم بالمعروفِ، سواءٌ كانُوا
حُكَّامًا، أو عُلماءَ، أو وَالِدَيْنِ.
ومن
هنا يُعلَمُ فسادُ بعضِ المتصوِّفَةِ الَّذينَ ينقادُونَ لشيوخِهِم، ولو
أمرُوهُمْ بمعصيَةِ اللهِ بحجَّةِ أنَّها في الحقيقةِ ليستْ بمعصيَةٍ،
وإنَّ المشايِخَ يرَوْنَ ما لا يَرَى المريدُ.
وفسادُ
بعضِ المقلِّدةِ المتعصِّبينَ، الَّذينَ يؤثرونَ اتِّباعَ كلامِ مذهبِهِم
علَى كلامِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفسادُ
بعضِ الشُّعوبِ، الَّذينَ يطيعونَ حكَّامَهُم ويقرُّونَهُم علَى تحكيمِ
التَّشريعاتِ الَّتي وضعَهَا البشرُ مِن يهودٍ ونصارَى، ويمكثُونَ علَى هذا
الحالِ حتَّى يأتيَهُمُ اليقينُ مِن ربِّهِم دونَ إنكارٍ، فهؤلاءِ علَى
خطرٍ عظيمٍ.
2 - الأئمَّةُ مِن قريشٍ:
قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((النـَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ)).
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ))، فهذه الرِّواياتُ وغيرُهَا تدلُّ علَى أنَّ مِن شروطِ الإمامةِ أنْ يكونَ الإمامُ عربيًّا قريشيًّا.
قالَ
الحافظُ في الفتحِ: ((وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ،
أَنَّ شَرْطَ الإمامِ أنْ يكونَ قُرَشِيًّا)) وقالَ عِياضٌ: ((اشتراطُ كونِ
الإمامِ قرشيًّا مذهبُ العلماءِ كافَّةً، وقدْ عَدُّوهَا في مَسائلِ
الإجماعِ، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ مِن السَّلفِ فيها خِلافٌ وكذلك مَن
بعدَهُمْ في جميعِ الأمصارِ)).
قالَ: ولا اعتدادَ بقولِ الخوارجِ ومنْ وافَقَهُم مِن المعتزلةِ، لِمَا فيهِ مِن مُخالَفةِ المسلمينَ.
وقالَ القرطبيُّ مُعقِّبًا علَى حديثِ ((لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ))
أَخْرَجَهُ البخاريُّ (هذا الحديثُ خبرٌ عن المشروعيَّةِ أيْ: لا تَنْعَقِدُ الإمامةُ الكبرَى إلاَّ لقرشيٍّ مهما وُجِدَ منهم أحدٌ).
أمَّا
غيرُ الإمامةِ الكبرَى، فيَجوزُ توليَةُ غيرِ القرشيِّ، كما أَمَّرَ عبدُ
اللهِ بنُ رواحةَ، وزيدُ بنُ حارثةَ وأسامةُ وغيرُهُم.
أمَّا قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ)
فهو
لا يُنافي ما تقدَّمَ، ولا يجيزُ إمامةَ العبيدِ، وإنَّمَا ذكرَهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى وجهِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وإنْ لم يَصِحَّ
وُقوعُهُ، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا - وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ - بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ))، فإنَّ مِفْحَصَ الْقَطَاةِ لا يكونُ مَسجدًا، ولا يَسعُ فردًا.
أو
يكونُ كلامُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بابِ الإِخبارِ
بالغيبِ، لِمَا سَيَقعُ فيهِ المسلمونَ مِن بُعدٍ عن تعاليمِ دينِهِم
الحنيفِ، فتُوضَعُ الإمامةُ العُظمَى بغيرِ مَوْضِعِهَا، وبهذهِ الحالةِ
يكونُ أمرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطاعَتِهِم مِن بابِ عدمِ
إثارةِ الفتنِ، وذلك أنَّ الخروجَ علَى الحكَّامِ المسلمينَ عادةً يترتَّبُ
عليهِ مِن الفتنِ الَّتي لا يعلمُ عواقبَهَا إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
الوصيَّةُ بلزومِ السُّنَّةِ:
1 - وُقوعُ الخلافِ والفرقةِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنـَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) فيهِ إخبارٌ منه لِمَا سَتَقَعُ فيهِ الأمَّةُ مِن خِلافٍ في أصولِ الدِّينِ وفروعِهِ.
ويَشهدُ
له كذلك عن معاويَةَ بنِ أبي سفيانَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: ألا إنَّ
رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قامَ فينَا، فقالَ: ((أَلاَ
إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ
عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ،
وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ))، وقدْ وَقَعَ ما
أخبرَ به الصَّادقُ المصدوقُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ مِن خلافٍ في
الأصولِ والفروعِ، وظهرَتْ كثيرٌ مِن الفِرَقِ الضَّالَّةِ، كغُلاةِ
المتصوِّفَةِ أصحابِ وَحدةِ الوجودِ، الَّذين يقولُ أحدُهُم: سُبحاني
سُبحاني، ما في الْجُبَّةِ إلاَّ اللهُ، تعالَى اللهُ عمَّا يَقولُ
الظَّالمونَ عُلوًّا كبيرًا.
والرَّافضةُ
الَّذينَ يَتقرَّبونَ إلَى اللهِ بزعمِهِم بمسبَّتِهِم وتكفيرِهِم لأصحابِ
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي كتابِ(مِفتاحِ
الْجِنانِ) - وهذا عندَهُم مِن الكتبِ المعتَمَدَةِ - هذا الدُّعاءُ
الباطلُ، ونصُّهُ: (اللهمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ، والعنْ
صَنَمَيْ قُريشٍ، وجِبْتَيْهِمَا، وطاغوتيهِمَا وابنتيهِمَا.. إلخ)
ويقصدونَ بصنمي قريشٍ الصّدِّيقَ والفاروقَ، رَضِي اللهُ عَنْهُما ولَعنَ
اللهُ مِن لعنَهُمَا في الدُّنيَا والآخرةِ، اللهمَّ آمينَ. وببنتيهِمَا
عائشةَوحَفْصَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُما.
والقَدَرِيَّةُ،
والجبريَّةُ، والخوارجُ الَّذينَ كفَّرُوا عليًّا رَضِي اللهُ عَنْهُ
واستحلُّوا دماءَ المسلمينَ، والمعتزِلةُ، وغيرُهُم.
2 - العاصمُ مِن الخلافِ والفُرقةِ:
التَّمسُّكُ
بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وسنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وفهمُهُمَا كما فَهِمَهُمَا سلفُ الأمَّةِ، الَّذينَ زكَّاهُم
الخبيرُ العليمُ بما توسوسُ به النُّفوسُ، قالَ جلَّ وعلا: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، كما زكَّاهُم حبيبُ ربِّ العالمينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((خيرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - وَاللهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لاَ - قالَ: ثمَّ يَخْلُفُ قومٌ يُحِبُّونَ السِّمَانَةَ، يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا)).
وصَدَقَ
عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما حينَ قالَ: (مَن كانَ
مُسْتَنًّا فليستَنَّ بمنْ قدْ ماتَ، أولئكَ أصحابُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا خِيرَةَ هذه الأمَّةِ، أَبَرَّهَا قلوبًا
وأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وأقلَّهَا تَكلُّفًا، قومٌ اختارَهُم اللهُ لصُحبةِ
نَبِيِّهِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانُوا علَى الهدَى
المستقيمِ واللهِ ربِّ الكعبةِ).
لذلك
أوصانَا رسولُنَا في هذا الحديثِ المباركِ، أن نتمسَّكَ بسنَّتِهِ، وسنَّةِ
الخلفاءِ: أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، رَضِي اللهُ عَنْهُم،
الَّذينَ عرفُوا الحقَّ واتَّبعُوهُ، لذلك وصفَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالرَّاشدينَ، وأن نَعَضَّ عليها بالنَّواجذِ.
والنَّواجذُ:
هي آخرُ الأضراسِ، الَّذي يدلُّ ظهورُهُ علَى العقلِ، والأمُر بالعضِّ
علَى السُّنَّةِ، كنايَةٌ عن شدَّةِ التَّمسُّكِ بهَا، وعدمِ الْحَيْدَةِ
عنها.
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَعَلَيْكـُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ).
3 - التَّحذيرُ مِن البدعِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِيـَّاكـُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلةٌ) .
الأمورُ المحدَثَةُ في الدِّينِ: هي الَّتي ليسَ لها أصلٌ لا مِن كتابٍ ولا سُنَّةٍ، لذلك حَذَّرَنَا منها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهَا سببُ هَلاكِ الأُمَمِ ودَمارِهَا، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))، وسَبَقَ أن مَرَّ شَرْحُ البِدعةِ وخَطَرِهَا والنَّهيِ عن الْمُحْدَثَاتِ في الحديثِ الخامسِ، فلا حاجةَ للإعادةِ.
فوائدُ مِن الحديثِ:
1 - فيهِ الحثُّ علَى الوصيَّةِ عند الوداعِ بما فيهِ مصلحةُ الدُّنيا والآخرةِ.
2 - فيهِ التَّحذيرُ مِن الابتداعِ.
3 - كما فيهِ مَنقبةٌ عظيمةٌ للخلفاءِ الرَّاشدينَ.
4 - ما وقعَتْ به الأمَّةُ في زمانِنَا دليلٌ وشاهدٌ علَى صدقِ ما أخبرَ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا
الحديثُ خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داوُدَ، والتِّرمذيُّ، وابنُ
مَاجَهْ، مِنْ روايَةِ ثَوْرِ بنِ يَزيدَ عنْ خالدِ بنِ مَعْدَانَ، عنْ
عبدِ الرحمنِ بنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ. وفي
رِوايَتِهم أنَّ ذلكَ كانَ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، وكانَ النبيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَهُ في غيرِ الْخُطَبِ
الرَّاتبةِ، كخُطَبِ الْجُمَعِ والأعيادِ. وكانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقْصِرُ خُطْبَتَها، ولا يُطيلُها، بلْ كانَ يُبْلِغُ ويُوجِزُ. وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ
وأبو داوُدَ مِنْ حديثِ الْحَكَمِ بنِ حَزْنٍ قالَ: شَهِدْتُ مَعَ رسولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ، فَقَامَ
مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ كَلِماتٍ خَفِيفاتٍ طَيِّباتٍ مُبَارَكاتٍ. وخَرَّجَ
أبو دَاوُدَ عنْ عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ رجلًا قامَ يومًا فَأَكْثَرَ
القولَ، فقالَ عمْرٌو: لَوْ قَصَدَ في قولِهِ لكانَ خيرًا لهُ، سَمِعْتُ
رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ -أَوْ أُمِرْتُ- أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ)). هذان الوَصْفَانِ بهما مَدَحَ اللَّهُ المؤمنينَ عندَ سَمَاعِ الذِّكْرِ، كما قالَ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأَنفال: 2]. وقالَ: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزُّمَر: 23]. العِرباضُ بنُ سَاريَةَ في حديثِهِ كانتْ بعضَ هذهِ الْخُطَبِ، أوْ شَبيهًا بها مِمَّا يُشْعِرُ بالتوديعِ. وقولُهم: (فَأَوْصِنَا)،
يَعنونَ وَصِيَّةً جامعةً كافيَةً؛ فإنَّهُم لَمَّا فَهِمُوا أنَّهُ
مُوَدِّعٌ اسْتَوْصَوهُ وَصيَّةً يَنْفَعُهم التَّمَسُّكُ بها بَعْدَهُ،
ويكونُ فيها كِفايَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بها، وسَعادةٌ لهُ في الدُّنْيَا
والآخِرَةِ. وأمَّا السَّمعُ والطَّاعةُ لِوُلاةِ أُمورِ المسلمينَ، ففيها
سَعادةُ الدُّنيا، وبها تَنتظِمُ مَصالِحُ العِبادِ في مَعايِشِهم، وبها
يَسْتَعِينُونَ على إظهارِ دينِهم وطاعةِ ربِّهم، كما قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: (إنَّ الناسَ لا يُصْلِحُهم إلَّا إمامٌ بَرٌّ أوْ
فَاجِرٌ، إنْ كانَ فاجرًا عَبَدَ المُؤْمِنُ فيهِ ربَّهُ، وحُمِلَ الفاجِرُ
فيها إلى أَجَلِهِ). وقالَ
الحسَنُ في الأمراءِ: (هُمْ يَلُونَ مِنْ أُمورِنَا خَمْسًا: الْجُمُعَةَ
والجماعةَ والعيدَ والثُّغورَ والحُدُودَ، واللَّهِ ما يَستقيمُ الدِّينُ
إلَّا بِهِمْ وإنْ جارُوا وظَلَمُوا، واللَّهِ لَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بهم
أكثرُ ممَّا يُفْسِدونَ، معَ أنَّ -واللَّهِ- إِنَّ طَاعَتَهم لَغَيْظٌ،
وإنَّ فُرْقَتَهم لكُفْرٌ). وخَرَّج
الإِمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ أيضًا مِنْ حديثِ أبي أُمامةَ قالَ: سَمِعْتُ
رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ في حَجَّةِ
الوَداعِ يقولُ: ((اتَّقُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا
خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ،
وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)). وفي روايَةٍ أُخْرَى أنَّهُ قالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ))، وذَكَرَ الحديثَ بمعناهُ. وقدْ قيلَ: إنَّ العبدَ الْحَبَشِيَّ إنَّما ذُكِرَ على وَجْهِ ضَرْبِ الَمَثَلِ وإنْ لمْ يَصِحَّ وُقوعُهُ، كما قالَ: ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ)). وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ
يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)). وكثيرٌ
مِن العُلماءِ الْمُتأخِّرينَ يَخُصُّ اسمَ السُّنَّةِ بما يَتعلَّقُ
بالاعتقاداتِ؛ لأنَّها أصلُ الدِّينِ، والمخالِفُ فيها على خَطَرٍ عظيمٍ. وفي
ذِكْرِ هذا الكلامِ بعدَ الأَمْرِ بالسَّمعِ والطَّاعةِ لِأُولِي الأَمْرِ
إشارةٌ إلى أنَّهُ لا طاعةَ لأُولِي الأَمْرِ إلَّا في طاعةِ اللَّهِ، كما
صَحَّ عنهُ أنَّهُ قالَ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)). وحَكَمَ
أبو خازمٍ الحنفيُّ في زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بتوريثِ ذَوِي الأرحامِ، ولمْ
يَعْتَدَّ بِمَنْ خالَفَ الخُلفاءَ، ونَفَذَ حُكْمُهُ بذلكَ في الآفاقِ. وكلامُ
أكثرِ السَّلفِ يَدُلُّ على ذلكَ، خُصوصًا عمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ؛ فإنَّهُ رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ مِنْ وُجوهٍ أنَّهُ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ)). وكانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يَتَّبِعُ أَحكامَهُ، ويَسْتَدِلُّ بقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ)). وقالَ
مالكٌ: قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (سَنَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَوُلاةُ الأمرِ مِنْ بعدِهِ سُنَنًا، الأَخْذُ بها
اعتصامٌ بكتابِ اللَّهِ، وقُوَّةٌ على دِينِ اللَّهِ، ليسَ لأحدٍ
تَبْدِيلُها، ولا تَغييرُها، ولا النظَرُ في أَمْرٍ خَالَفَها، مَن
اهْتَدَى بها فهوَ مُهْتَدٍ، ومَن اسْتَنْصَرَ بها فهوَ منصورٌ، ومَنْ
تَرَكَها واتَّبَعَ غيرَ سَبيلِ المؤمنينَ وَلَّاهُ اللَّهُ ما تَوَلَّى،
وأَصْلاهُ جَهَنَّمَ، وسَاءَتْ مصيرًا). فكلُّ
راشدٍ فهوَ مُهْتَدٍ، وكلُّ مُهْتَدٍ هدايَةً تامَّةً فهوَ راشدٌ؛ لأنَّ
الهدايَةَ إنَّما تَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ الحقِّ والعملِ بهِ أيضًا. وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابرٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ يقولُ في خُطبتِهِ: ((إِنَّ
خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)). فمِنْ
ذلكَ قولُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ في قِيامِ
رَمضانَ على إمامٍ واحدٍ في الْمَسجِدِ، وخَرَجَ وَرَآهُم يُصَلُّونَ
كذلكَ، فقالَ:(نِعْمَت البِدْعَةُ هذهِ). ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: (إنْ
كانَتْ هذهِ بِدْعَةً فَنِعْمَت البِدعةُ). ومِنْ ذلكَ:
أذانُ الْجُمُعَةِ الأوَّلُ، زادَهُ عُثمانُ لحاجةِ النَّاسِ إليهِ،
وأَقرَّهُ عَلِيٌّ، واستمرَّ عَمَلُ المسلمينَ عليهِ. ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ
أنَّهُ قالَ: هوَ بِدْعَةٌ، ولعلَّهُ أرادَ ما أرادَ أَبُوهُ في قِيامِ
رمضانَ. ومِنْ ذلكَ: جَمْعُ الْمُصْحَفِ في كتابٍ واحدٍ، تَوَقَّفَ فيهِ زيدُ بنُ ثابتٍ وقالَ لأبي بكرٍ على جَمْعِهِ. وقدْ
كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بكتابةِ الوحيِ،
ولا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يُكْتَبَ مُفَرَّقًا أوْ مَجموعًا، بلْ جَمْعُهُ
صارَ أَصْلَحَ. وكذلكَ: جَمْعُ
عُثمانَ الأمَّةَ على مُصْحَفٍ واحدٍ وإعدامُهُ لِمَا خالَفَهُ خَشْيَةَ
تَفَرُّقِ الأمَّةِ، وقد اسْتَحْسَنَهُ عَلِيٌّ وأكثرُ الصحابةِ، وكانَ
ذلكَ عَيْنَ الْمَصْلَحَةِ. وكذلكَ:
قِتالُ مَنْ مَنَعَ الزكاةَ، تَوَقَّفَ فيهِ عُمَرُ وغيرُهُ حتَّى بَيَّنَ
لهُ أبو بكرٍ أَصْلَهُ الذي يَرْجِعُ إليهِ مِن الشَّريعةِ، فوَافَقَهُ
الناسُ على ذلكَ. وقالَ الْحَسَنُ: (القَصَصُ بدعةٌ، ونِعْمَت البِدْعةُ، كَمْ مِنْ دعوةٍ مُستجابَةٍ، وحاجةٍ مَقْضِيَةٍ، وأخٍ مُستفادٍ). وأمَّا البِدعةُ المحمودةُ
فما وافَقَ السُّنَّةَ، يعني: ما كانَ لها أصلٌ مِن السُّنَّةِ يُرْجَعُ
إليهِ، وإنَّما هيَ بِدعةٌ لُغَةً لا شَرْعًا؛ لِمُوَافَقَتِها السُّنَّةَ.
ما أُحْدِثَ مِمَّا يُخالِفُ كتابًا، أوْ سُنَّةً، أوْ أَثَرًا، أوْ إجماعًا، فهذهِ البِدعةُ الضَّلالُ. وما أُحْدِثَ مِن الْخَيْرِ، لا خِلَافَ فيهِ لواحدٍ مِنْ هذا، وهذهِ مُحْدَثَةٌ غيرُ مَذمومةٍ. وكذلكَ اختلافُهم
في كتابةِ الرَّأيِ في الحلالِ والحرامِ ونحوِهِ، وفي توسِعَةِ الكلامِ في
الْمُعامَلاتِ وأعمالِ القلوبِ التي لمْ تُنقَلْ عن الصَّحابةِ
والتابعينَ. وكانَ الإمامُ أحمدُ يَكْرَهُ أكثرَ ذلكَ. وكأنَّ
مالكًا يُشيرُ بالأهواءِ إلى ما حَدَثَ مِن التَّفَرُّقِ في أُصولِ
الدِّياناتِ مِنْ أَمْرِ الخوارجِ والرَّوَافضِ والْمُرْجِئَةِ ونحوِهم
مِمَّنْ تَكَلَّمَ في تَكفيرِ المسلمينَ، واستباحةِ دِمائِهم وأموالِهم،
أوْ في تَخليدِهم في النارِ، أوْ في تفسيقِ خَواصِّ هذهِ الأُمَّةِ، أوْ
عَكْسِ ذلكَ فزَعَمَ أنَّ المعاصِيَ لا تَضُرُّ أهلَها، أوْ أنَّهُ لا
يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أهلِ التوحيدِ أَحَدٌ. فقومٌ
نَفَوْا كثيرًا ممَّا وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِنْ ذلكَ، وزَعَمُوا
أنَّهُم فَعَلُوهُ تَنْزِيهًا للَّهِ عمَّا تَقْتَضِي العقولُ تَنزيهَهُ
عنهُ، وزَعَمُوا أنَّ لازِمَ ذلكَ مُستحيلٌ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وقومٌ
لمْ يَكْتَفُوا بإِثْبَاتِهِ، حتَّى أَثْبَتُوا بإثباتِهِ ما يُظَنُّ
أنَّهُ لازِمٌ لهُ بالنِّسْبَةِ إلى المخلوقينَ. وهذهِ اللَّوازمُ نَفْيًا
وإثباتًا دَرَجَ صدْرُ الأُمَّةِ على السُّكوتِ عنها.
زادَ أحمدُ في روايَةٍ لهُ وأبو دَاوُدَ: وحُجْرِ بنِ حُجْرٍ الكُلاعيِّ، كِلاهُمَا عن العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ.
وقالَ التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ، وقالَ الحافظُ أبو
نُعَيْمٍ: هوَ حَديثٌ جَيِّدٌ مِنْ صحيحِ حديثِ الشامِيِّينَ، قالَ: ولمْ
يَتْرُكْهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ مِنْ جِهةِ إنكارٍ منهما لهُ، وزَعَمَ
الحاكمُ أنَّ سبَبَ تَرْكِهما لهُ أنَّهُما تَوَهَّما أنَّهُ ليسَ لهُ راوٍ
عنْ خالدِ بنِ مَعْدَانَ غيرَ ثورِ بنِ يزيدَ، وقدْ رواهُ عنهُ أيضًا
بُحَيْرُ بنُ سعدٍ ومُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمِيُّ وغيرُهما.
قُلْتُ: ليسَ الأمرُ كما ظَنَّهُ، وليسَ الحديثُ على
شَرْطِهما؛ فإِنَّهُما لم يُخَرِّجَا لعَبْدِ الرحمنِ بنِ عمرٍو
السُّلَمِيِّ، ولا لِحُجْرٍ الكُلَاعيِّ شيئًا، ولَيْسَا مِمَّن اشْتُهِرَ
بالعلْمِ والروايَةِ.
وأيضًا، فقد اختُلِفَ فيهِ على خالدِ بنِ مَعدانَ،
فرُوِيَ عنهُ كما تَقدَّمَ، ورُوِيَ عنهُ عن ابنِ أبي بِلالٍ، عن
العِرباضِ. وخَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ مِنْ هذا الوجهِ أيضًا.
ورُوِيَ أيضًا عنْ ضَمْرَةَ بنِ حبيبٍ، عنْ عبدِ
الرحمنِ بنِ عمرٍو السُّلَمِيِّ، عن العِرباضِ، خَرَّجَهُ مِنْ طريقِهِ
الإمامُ أحمدُ وابنُ مَاجَهْ، وزادَ في حديثِهِ: ((فَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))، وزادَ في آخِرِ الحديثِ: ((فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ)).
وقدْ أَنْكَرَ طائفةٌ مِن الْحُفَّاظِ هذهِ
الزيادةَ في آخِرِ الحديثِ وقالُوا: هيَ مُدْرَجَةٌ فيهِ، ولَيْسَتْ منهُ.
قالَهُ أحمدُ بنُ صالحٍ الْمِصْرِيُّ وغيرُهُ. وقدْ خَرَّجَهُ الحاكمُ،
وقالَ في حديثِهِ: وكانَ أَسَدُ بنُ وَدَاعَةَ يَزيدُ في هذا الحديثِ:
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ.
وخَرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ أيضًا مِنْ روايَةِ عبدِ
اللَّهِ بنِ العَلاءِ بنِ زَبْرٍ، حَدَّثَنِي يحيى بنُ أبي الْمُطاعِ،
سَمِعْتُ العِرباضَ، فذَكَرَهُ. وهذا في الظاهِرِ إسنادٌ جَيِّدٌ
مُتَّصِلٌ، ورُواتُهُ ثِقاتٌ مَشهورونَ، وقدْ صَرَّحَ فيهِ بالسَّماعِ،
وقدْ ذَكَرَ البُخاريُّ في (تاريخِهِ)، أنَّ يَحْيَى بنَ أبي الْمُطاعِ
سَمِعَ مِن العِرباضِ اعْتمادًا على هذهِ الروايَةِ، إلَّا أنَّ حُفَّاظَ
أهلِ الشَّامِ أَنْكَرُوا ذلكَ وقالُوا: يحيى بنُ أبي الْمُطاعِ لمْ
يَسْمَعْ مِن العِرباضِ، ولمْ يَلْقَهُ، وهذهِ الروايَةُ غَلَطٌ. ومِمَّنْ
ذَكَرَ ذلكَ أبو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وحَكَاهُ عنْ دُحَيْمٍ، وهؤلاءِ
أَعْرَفُ بشُيُوخِهم مِنْ غيرِهم، والبخاريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقَعُ لهُ
في تاريخِهِ أَوْهَامٌ في أخبارِ أهلِ الشامِ.
وقدْ رُوِيَ عن العِرباضِ مِنْ وُجوهٍ أُخَرَ، ورُوِيَ
مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ،
إلَّا أنَّ إِسْنَادَ حديثِ بُرَيْدَةَ لا يَثْبُتُ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
فقولُ العِرباضِ: (وَعَظَنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَوعظةً)، وفي روايَةِ أحمدَ وأبي دَاوُدَ والتِّرمذيِّ: (بَلِيغَةً).
وقدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى بذلكَ فقالَ: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[النساء: 63]، وقالَ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل: 125]،
ولكنَّهُ كانَ لا يُدِيمُ وَعْظَهُم، بلْ يَتَخَوَّلُهُم بهِ أحيانًا، كما
في (الصحيحيْنِ): عنْ أبي وائلٍ قالَ: كانَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ
يُذَكِّرُنا كلَّ يَوْمِ خميسٍ، فقالَ لهُ رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرحمنِ،
إنَّا نُحِبُّ حديثَكَ ونَشْتَهِيهِ، ولَوَدِدْنا أنَّكَ حَدَّثْتَنَا كلَّ
يومٍ، فقالَ: (ما يَمْنَعُني أنْ أُحَدِّثَكم إلَّا كَراهةَ أنْ
أُمِلَّكمْ، إنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ
يَتَخَوَّلُنا بِالمَوْعِظَةِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا).
والبلاغةُ في الْمَوعظةِ مُسْتَحْسَنَةٌ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوبِ واستجلابِها.
والبلاغة: هي التَّوصُّلُ
إلى إفهامِ الْمَعاني الْمَقصودةِ، وإيصالِها إلى قلوبِ السامعينَ بأحسنِ
صُورةٍ مِن الألفاظِ الدَّالَّةِ عليها، وأَفْصَحِها وأَحْلَاها
للأَسْمَاعِ، وأَوْقَعِها في القلوبِ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ:
(كُنْتُ أُصلِّي مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ،
فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا).
وخَرَّجَهُ أبو داوُدَ، ولَفْظُهُ: (كَانَ رَسولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنَّما هُوَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ).
وخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أبي وائلٍ قالَ:
خَطَبَنَا عَمَّارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يا أبا
اليَقْظانِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلُو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ،
فَقالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
يقولُ: ((إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ،
وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ،
وَاقْصِرُوا الْخُطْبَةَ؛ فَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا)).
وقولُهُ: (ذَرَفَتْ مِنْها الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ).
وقالَ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحجِّ: 34 - 35].
وقالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: 16].
وقالَ تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].
وكانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتغيَّرُ
حالُهُ عندَ الْمَوعظةِ، كما قالَ جابِرٌ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ وَذَكَرَ السَّاعَةَ، اشْتَدَّ
غَضَبُهُ، وَعَلا صَوتُهُ، وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ
جَيْشٍ يَقولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ). خَرَّجَهُ مسلِمٌ بمعناهُ.
وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أَنَسٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَت الشَّمسُ، فَصَلَّى
الظُّهرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ،
وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْها أُمورًا عِظامًا، ثُمَّ قالَ: ((مَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لَا
تَسْأَلُونِي عنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ فِي مَقَامِي هَذَا))، قالَ أنَسٌ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ البُكاءَ، وَأَكْثَرَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: ((سَلُونِي))، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ((النَّارُ))، وذكَرَ الحديثَ.
وفي (مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ): عن النُّعمانِ بنِ
بَشيرٍ، أنَّهُ خَطَبَ فقالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يقولُ: ((أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ))،
حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي
هَذَا. قالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ
رِجْلَيْهِ.
وفي (الصحيحيْنِ): عنْ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((اتَّقُوا النَّارَ))، قالَ: وَأَشَاحَ، ثُمَّ قالَ: ((اتَّقُوا النَّارَ))، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قالَ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)).
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ
بنِ سَلَمَةَ، عنْ عَلِيٍّ، أوْ عن الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ قالَ: (كَانَ
رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنا، فَيُذَكِّرُنا
بِأَيَّامِ اللَّهِ، حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَأَنَّهُ
نَذِيرُ قَوْمٍ يُصَبِّحُهُم الأَمْرُ غُدْوَةً، وَكَانَ إِذَا كَانَ
حَدِيثَ عَهْدٍ بِجِبْريلَ لَمْ يَتَبَسَّمْ ضَاحِكًا حَتَّى يَرْتَفِعَ
عَنْهُ).
وخَرَّجَهُ الطبرانيُّ والبزَّارُ مِنْ حديثِ جابرٍ
قالَ: (كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ
الوَحْيُ، أوْ وَعَظَ، قُلْتُ: نَذِيرُ قَوْمٍ أَتَاهُم العَذَابُ، فَإِذَا
ذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ رَأَيْتَ أَطْلَقَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَكْثَرَهُم
ضَحِكًا، وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ).
وقولُهم: (يا رَسولَ اللَّهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا)،
يَدُلُّ على أنَّهُ كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قدْ أَبْلَغَ
في تلكَ الْمَوعظةِ ما لمْ يُبْلِغْ في غَيْرِها؛ فلذلكَ فَهِمُوا أنَّها
مَوعظةُ مُوَدِّعٍ؛ فإنَّ الْمُودِّعَ يَسْتَقْصِي ما لا يَسْتَقْصِي
غيرُهُ في القولِ والفعلِ، ولذلكَ أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ أنْ يُصَلَّى صلاةُ مُوَدِّعٍ؛ لأنَّهُ مَن اسْتَشْعَرَ أنَّهُ
مُودِّعٌ بصلاتِهِ أَتْقَنَها على أكْمَلِ وُجوهِها.
ولرُبَّما كانَ قدْ وَقَعَ منهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ تَعريضٌ في تلكَ الْخُطبةِ بالتَّوديعِ، كما عَرَّضَ
بذلكَ في خُطبتِهِ في حَجَّةِ الوداعِ وقالَ: ((لَا أَدْرِي، لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا))، وطَفِقَ يُوَدِّعُ الناسَ، فقالُوا: هذهِ حَجَّةُ الوَدَاعِ.
ولَمَّا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ إلى المدينةِ جَمَعَ الناسَ بماءٍ بينَ مكَّةَ والمدينةِ يُسَمَّى خُمًّا، وخَطَبَهم فقالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ))، ثمَّ حَضَّ على التمسُّكِ بكتابِ اللَّهِ، ووَصَّى بأهلِ بيتِهِ. خَرَّجَهُ مسلِمٌ.
وفي (الصحيحيْنِ)، ولفظُهُ لِمُسْلِمٍ: عنْ عُقبةَ بنِ
عامرٍ قالَ: صلَّى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى
قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ كَالْمُودِّعِ للأَحْياءِ
وَالأَمْواتِ، فَقالَ: ((إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى
الْحَوْضِ، فَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ،
وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ
أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقْتَتِلُوا،
فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)). قالَ عُقبةُ: فكانتْ آخِرَ ما رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على الْمِنْبَرِ.
وخَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ، ولفظُهُ: صَلَّى رسولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ
ثَمانِ سِنينَ كَالْمُوَدِّعِ للأَحْياءِ وَالأَمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ
الْمِنْبَرَ فقالَ: ((إِنِّي فَرَطُكُمْ،
وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي
لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْكُفْرَ، وَلَكِنِ
الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ أيضًا، عنْ عبدِ
اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ -قالَ ذلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وَلَا
نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ
وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ،
وَتَجَوَّزَ لِي رَبِّي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ، فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ
بِكِتَابِ اللَّهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ)).
فلَعَلَّ الْخُطبةَ التي أشارَ إليها
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ)). فهاتانِ الكلمتانِ تَجْمَعانِ سعادةَ الدُّنيا والآخِرَةِ.
أمَّا التَّقوى، فهيَ كَافِلَةٌ بسعادةِ الآخِرَةِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بها، وهيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ للأوَّلِينَ والآخِرِينَ، كما قالَ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء: 131]. وقدْ سَبَقَ شَرْحُ التقوى بما فيهِ كِفايَةٌ في شَرْحِ حديثِ وَصِيَّةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ.
وخَرَّجَ الْخَلَّالُ في (كِتابِ الإِمارةِ) مِنْ
حديثِ أبي أُمامةَ قالَ: أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ أَصْحابَهُ حِينَ صَلَّوا العِشَاءَ: ((أَنِ احْشُدُوا؛ فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً))، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ قالَ: ((هَلْ حَشَدْتُمْ كَمَا أَمَرْتُكُمْ؟)) قالُوا: نَعَمْ، قالَ: ((اعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟)) ثلاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: ((أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟)) ثلاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) ثلاثًا، ((هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟))
ثلاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ. قالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّ رَسولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سَيَتَكَلَّمُ كَلامًا طَويلًا، ثُمَّ
نَظَرْنا فِي كَلامِهِ، فَإِذَا هُوَ قَد جَمَعَ لَنَا الأَمْرَ كُلَّهُ.
وبهذَيْنِ الأصلَيْنِ وَصَّى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَتِهِ في حَجَّةِ الوَداعِ أيضًا، كما خَرَّجَ
الإِمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِنْ روايَةِ أُمِّ الْحُصَيْنِ
الأَحْمَسِيَّةِ قالَتْ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ في حَجَّةِ الوَداعِ، فسَمِعْتُهُ يقولُ: ((يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ
حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُمْ
كِتَابَ اللَّهِ)). وخَرَّجَ مُسلمٌ منهُ ذِكْرَ السمْعِ والطاعةِ.
وفي (الْمُسْنَدِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ
طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، فَلَهُ
الْجَنَّةُ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ))، وفي روايَةٍ: ((حَبَشِيٌّ))،
هذا مِمَّا تَكاثَرَتْ بهِ الرِّواياتُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ، وهوَ ممَّا اطَّلَعَ عليهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِهِ بعْدَهُ، ووِلايَةِ العَبيدِ علَيْهِم.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)).
وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عنْ أبي ذرٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قالَ: (إِنَّ خَلِيلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا
مُجَدَّعَ الأَطْرافِ).
والأحاديثُ في المعنى كثيرةٌ جِدًّا.
ولا يُنافِي هذا قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ فِي النَّاسِ اثْنَانِ))، وقولُهُ: ((النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ))، وقولُهُ: ((الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ))؛ لأنَّ ولايَةَ العبيدِ قدْ تكونُ مِنْ جِهَةِ إمامٍ قُرَشِيٍّ.
ويَشهدُ لذلكَ ما خَرَّجَهُ الحاكمُ مِنْ حديثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْأَئِمَّةُ
مِنْ قُرَيْشٍ، أَبْرَارُهَا أُمَرَاءُ أَبْرَارِهَا، وَفُجَّارُهَا
أُمَرَاءُ فُجَّارِهَا، وَلِكُلٍّ حَقٌّ، فَآتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ،
وَإِنْ أَمَّرَتْ عَلَيْكُمْ قُرَيْشٌ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا،
فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا))، وإسنادُهُ جَيِّدٌ، ولكِنَّهُ رُوِيَ عنْ عَلِيٍّ مَوقوفًا، وقالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هوَ أَشْبَهُ.
هذا إخبارٌ منهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ بما وَقَعَ في أُمَّتِهِ بعدَهُ مِنْ كَثْرَةِ الاختلافِ في
أصولِ الدِّينِ وفُروعِهِ، وفي الأقوالِ والأعمالِ والاعتقاداتِ، وهذا
مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عنهُ مِن افتراقِ أُمَّتِهِ على بِضْعٍ وسبعينَ
فِرْقَةً، وأنَّها كُلَّها في النَّارِ إلَّا فِرقةً واحدةً، وهيَ مَنْ
كانَ على ما هوَ عليهِ وأصحابُهُ.
وكذلكَ في هذا الحديثِ أَمَرَ عندَ الافتراقِ والاختلافِ بالتَّمَسُّكِ بسُنَّتِهِ وسُنَّةِ الْخُلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِهِ.
والسُّنَّةُ:
هيَ الطريقةُ الْمَسْلُوكَةُ، فيَشملُ ذلكَ التَّمَسُّكَ بما كانَ عليهِ
هوَ وخُلفاؤُهُ الرَّاشدونَ مِن الاعتقاداتِ والأعمالِ والأقوالِ. وهذهِ
هيَ السُّنَّةُ الكاملةُ؛ ولهذا كانَ السلَفُ قديمًا لا يُطْلِقُونَ اسمَ
السُّنَّةِ إلَّا على ما يَشْمَلُ ذلكَ كُلَّهُ، ورُوِيَ معنى ذلكَ عن
الحسَنِ والأوزاعيِّ والفُضيلِ بنِ عِياضٍ.
وفي (الْمُسْنَدِ) عنْ أَنَسٍ، أنَّ مُعاذَ بنَ
جَبَلٍ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَراءُ
لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِكَ، وَلَا يَأْخُذُونَ بِأَمْرِكَ، فَمَا
تَأْمُرُ فِي أَمْرِهِم؟ فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ: ((لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ)).
وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((سَيَلِي
أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ مِنَ السُّنَّةِ وَيَعْمَلُونَ
بِالْبِدْعَةِ، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا))، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنْ أَدْرَكْتُهُمْ كَيْفَ أَفْعَلُ؟ قالَ: ((لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ)).
وفي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
باتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وسُنَّةِ خُلفائِهِ الراشدينَ بعدَ أَمْرِهِ بالسمعِ
والطاعةِ لِوُلاةِ الأُمورِ عُمومًا، دليلٌ على أنَّ سُنَّةَ الْخُلفاءِ
الراشدينَ مُتَّبَعَةٌ كاتِّباعِ سُنَّتِهِ، بخِلافِ غيرِهم مِنْ وُلاةِ
الأُمورِ.
وفي (مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ)، و(جامعِ التِّرمذيِّ)
عنْ حُذيفةَ قالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ جُلوسًا، فقالَ: ((إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي -وَأَشَارَ إِلى أَبِي بكرٍ وعمرَ- وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ))، وفي روايَةٍ: ((تَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ)).
فنَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في آخِرِ عُمُرِهِ على مَنْ يُقْتَدَى بهِ مِنْ بَعْدِهِ.
والخُلفاءُ الراشدونَ الذينَ أَمَرَ بالاقتداءِ بهم: هم أبو بكرٍ وعمرُ وعُثمانُ وعَلِيٌّ؛ فإنَّ في حديثِ سَفِينَةَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا))، وقدْ صَحَّحَهُ الإِمامُ أحمدُ، واحْتَجَّ بهِ على خِلافةِ الأئمَّةِ الأربعةِ.
ونصَّ كثيرٌ مِن الأئمَّةِ على أنَّ عمرَ بنَ عبدِ
العزيزِ خَليفةٌ راشدٌ أيضًا، ويَدُلُّ عليهِ ما خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ
مِنْ حديثِ حُذيفةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَكُونُ
فِيكُمُ النُّبُوَّةُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا
اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى
مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا
عَاضًّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ
أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،
ثُمَّ تَكُونُ خِلَافةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ))، ثمَّ سَكَتَ.
فلمَّا وَلِيَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ دَخَلَ عليهِ رجلٌ فحَدَّثَهُ بهذا الحديثِ، فسُرَّ بهِ وأَعْجَبَهُ.
وكانَ محمَّدُ بنُ سِيرِينَ أحيانًا يُسْأَلُ عنْ شيءٍ مِن الأَشْرِبَةِ، فيقولُ: نَهَى عنهُ إمامُ هُدًى؛ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ.
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في إجماعِ الْخُلفاءِ الأربعةِ: هلْ هوَ إجماعٌ أوْ حُجَّةٌ معَ مُخَالَفَةِ غيرِهم مِن الصَّحابةِ، أمْ لا؟ وفيهِ روايتانِ عن الإمامِ أحمدَ.
ولوْ قالَ بعضُ الخلفاءِ الأربعةِ قَولًا، ولمْ
يُخالِفْهُ منهم أحدٌ، بلْ خالَفَهُ غيرُهُ مِن الصَّحابةِ، فهلْ يُقَدَّمُ
قولُه ُعلى قـولِ غـيـرِهِ؟
فيهِ قولانِ أيضًا للعلماءِ والمنصوصُ عنْ أحمدَ أنَّهُ يُقَدَّمُ قولُهُ على قولِ غيرِهِ مِن الصَّحابةِ، وكذا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وغيرُهُ.
وحكى عبدُ اللَّهِ بنُ عبدِ الْحَكَمِ، عنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: أَعْجَبَنِي عَزْمُ عُمَرَ على ذلكَ، يَعني هذا الكلامَ.
وروى عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ هذا الكلامَ عنْ مالكٍ، ولمْ يَحْكِهِ عنْ عُمَرَ.
وقالَ خَلَفُ بنُ خَلِيفَةَ: شَهِدْتُ عمرَ بنَ عبدِ
العزيزِ يَخْطُبُ النَّاسَ وهوَ خَليفةٌ، فقالَ في خُطْبتِهِ: أَلا إنَّ ما
سَنَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ فهوَ
وَظيفةُ دِينٍ، نَأْخُذُ بهِ، ونَنْتَهِي إليهِ.
وروى أبو نُعَيْمٍ مِنْ حديثِ عَرْزَبٍ الكِنْدِيِّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّهُ سَيَحْدُثُ بَعْدِي أَشْيَاءُ، فَأَحَبُّهَا إِلَيَّ أَنْ تَلْزَمُوا مَا أَحْدَثَ عُمَرُ)).
وكانَ عَلِيٌّ يَتَّبِعُ أحكامَهُ وقَضاياهُ ويقولُ: (إنَّ عُمَرَ كانَ رشيدَ الأمر)ِ.
ورَوَى أَشْعَثُ، عن الشَّعبيِّ قالَ: إذا اخْتَلَفَ
النَّاسُ في شَيْءٍ، فانْظُرْ كيفَ قَضَى فيهِ عُمَرُ؛ فإنَّهُ لمْ يكُنْ
يَقْضِي في أَمْرٍ لمْ يُقْضَ فيهِ قَبْلَهُ حتَّى يُشَاوِرَ.
وقالَ مُجَاهِدٌ: (إذا اختلَفَ الناسُ في شَيْءٍ فانْظُروا ما صَنَعَ عمرُ، فخُذُوا بهِ).
وقالَ أيُّوبُ، عن الشَّعْبِيِّ: انْظُرُوا ما
اجْتَمَعَتْ عليهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ؛ فإنَّ اللَّهَ لمْ يكُنْ
لِيَجْمَعَها على ضَلالةٍ، فإذا اخْتَلَفَتْ فانْظُرُوا ما صَنَعَ عُمَرُ
بنُ الْخَطَّابِ، فخُذُوا بهِ.
وسُئِلَ عِكرمةُ عنْ أُمِّ الوَلَدِ، فقالَ: تُعْتَقُ
بمَوْتِ سَيِّدِها، فقيلَ لهُ: بأيِّ شيءٍ تقولُ؟ قالَ: بالقرآنِ، قالَ:
بأيِّ القرآنِ؟ قالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وَعُمَرُ مِنْ أُولِي الأَمْرِ.
وقالَ وَكيعٌ: إذا اجْتَمَعَ عُمَرُ وعَلِيٌّ على شَيْءٍ فهوَ الأمرُ.
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّهُ كانَ يَحْلِفُ
باللَّهِ: (إنَّ الصِّراطَ المستقيمَ هوَ الذي ثَبَتَ عليهِ عُمَرُ حتَّى
دَخَلَ الجنَّةَ).
وبكُلِّ حالٍ، فما جَمَعَ عُمَرُ عليهِ الصَّحابةَ،
فاجْتَمَعُوا عليهِ في عَصْرِهِ، فلا شكَّ أنَّهُ الحقُّ، ولوْ خالَفَ فيهِ
بعدَ ذلكَ مَنْ خَالَفَ.
كقضائِهِ في مَسائلَ مِن الفرائضِ كالعَوْلِ، وفي زَوْجٍ وأبوَيْنِ وزوجةٍ وأبَوَيْنِ، أنَّ للأُمِّ ثُلُثَ الباقي.
وكَقضائِهِ فيمَنْ جامَعَ في إحرامِهِ أنَّهُ يَمْضِي
في نُسُكِهِ وعليهِ القضاءُ والْهَدْيُ، ومِثلِ ما قَضَى بهِ في امرأةِ
المَفْقُودِ، ووَافَقَهُ غيرُهُ مِن الخُلفاءِ أيضًا.
ومِثلِ ما جَمَعَ عليهِ النَّاسَ في الطَّلاقِ الثَّلاثِ، وفي تَحريمِ مُتْعَةِ النِّساءِ.
ومِثلِ ما فَعَلَهُ مِنْ وَضْعِ الدِّيوانِ، ووَضْعِ
الْخَراجِ على أَرْضِ الْعَذْنُوَةِ، وعَقْدِ الذِّمَّةِ لأهلِ الذِّمَّةِ
بالشُّروطِ التي شَرَطَها عليهم، ونحوِ ذلكَ.
ويَشْهَدُ لصِحَّةِ ما جَمَعَ عليهِ عمرُ الصحابةَ،
فاجْتَمَعُوا عليهِ ولمْ يُخَالَفْ في وقتِهِ، قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((رَأَيْتُنِي فِي الْمَنَامِ
أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ
ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ
ابْنُ الْخَطَّابِ، فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَفْرِي
فَرْيَهُ، حَتَّى رَوَى النَّاسُ، وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ))، وفي روايَةٍ: ((فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ ابْنِ الْخَطَّابِ))، وفي روايَةٍ: ((حَتَّى تَوَلَّى وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ)).
وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عُمَرَ لمْ يَمُتْ حتَّى
وَضَعَ الأمورَ مَوَاضِعَها، واستقامَت الأمورُ؛ وذلكَ لِطُولِ مُدَّتِهِ،
وتَفرُّغِهِ للحوادثِ، واهتمامِهِ بها، بخِلافِ مُدَّةِ أبي بكرٍ؛ فإنَّها
كانتْ قَصيرةً، وكانَ مَشغولًا فيها بالفُتوحِ، وبَعْثِ البُعوثِ للقتالِ،
فلمْ يَتفرَّغْ لكثيرٍ مِن الحوادثِ، ورُبَّما كانَ يَقَعُ في زَمَنِهِ ما
لا يَبْلُغُهُ، ولا يُرْفَعُ إليهِ، حتَّى رُفِعَتْ تلكَ الحوادثُ إلى
عُمَرَ، فرَدَّ النَّاسَ فيها إلى الحقِّ، وحَمَلَهم على الصَّوابِ.
وأمَّا ما لمْ يَجْمَعْ عُمَرُ النَّاسَ عليهِ، بلْ
كانَ لهُ فيهِ رَأْيٌ، وهوَ يُسَوِّغُ لغيرِهِ أنْ يَرَى رَأْيًا يُخالِفُ
رأيَهُ، كمَسائلِ الْجَدِّ معَ الإخوةِ، ومسألةِ طلاقِ الْبَتَّةِ، فلا
يكونُ قولُ عمرَ فيهِ حُجَّةً على غيرِهِ مِن الصَّحابةِ، واللَّهُ
أَعْلَمُ.
وإنَّما وَصَفَ الخلفاءَ بالراشدينَ؛ لأنَّهُم
عَرَفُوا الحقَّ، وقَضَوْا بهِ، فالرَّاشِدُ ضِدُّ الغاوي، والغاوي مَنْ
عَرَفَ الحقَّ وعَمِلَ بخِلافِهِ.
وفي روايَةٍ: ((الْمَهْدِيِّينَ))، يعني: أنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِم للحقِّ، ولا يُضِلُّهم عنهُ.
فالأقسامُ ثلاثةٌ: راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ. فالرَّاشِدُ: عَرَفَ الحقَّ واتَّبَعَه. والغَاوِي: عَرَفَهُ ولمْ يَتَّبِعْهُ. والضالُّ: لمْ يَعْرِفْهُ بالكُلِّيَّةِ.
وقولُهُ: ((عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))، كِنايَةٌ عنْ شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، والنواجِذُ: الأضراسُ.
قولُهُ: ((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))، تحذيرٌ للأمَّةِ مِن اتِّباعِ الأمورِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وأكَّدَ ذلكَ بقولِهِ: ((كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).
والمرادُ بالبدعةِ: ما
أُحْدِثَ ممَّا لا أَصْلَ لهُ في الشريعةِ يَدُلُّ عليهِ، فأمَّا ما كانَ
لهُ أصلٌ مِن الشَّرعِ يَدُلُّ عليهِ فليسَ ببِدعةٍ شَرْعًا، وإن كانَ
بِدْعَةً لُغَةً.
وخَرَّجَ التِّرمذيُّ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ
كثيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ -وفيهِ ضَعْفٌ- عنْ أبيهِ، عنْ
جَدِّهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنِ
ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ
عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ روايَةِ غُضَيْفِ
بنِ الحارثِ الثُّمَالِيِّ قالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عبدُ الملِكِ بنُ
مَرْوانَ فقالَ: إنَّا قدْ جَمَعْنَا الناسَ على أَمْرَيْنِ: رَفْعِ
الأَيْدِي على الْمَنابِرِ يومَ الْجُمُعَةِ، والقَصَصِ بعدَ الصُّبحِ
والعصرِ، فقالَ: أمَا إنَّهُما أَمْثَلُ بِدْعَتِكُم عِنْدِي، ولَسْتُ
بِمُجِيبِكُم إلى شيءٍ منها؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ))، فتَمَسُّكٌ بسُنَّةٍ خيرٌ مِنْ إحداثِ بِدْعَةٍ. وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ مِنْ قولِهِ نَحْوُ هذا.
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))، مِنْ جَوامعِ الكلِمِ لا يَخْرُجُ عنهُ شيءٌ، وهوَ أَصْلٌ عظيمٌ مِنْ أُصولِ الدِّينِ، وهوَ شَبِيهٌ بقولِهِ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))،
فكلُّ مَنْ أَحْدَثَ شيئًا ونَسَبَهُ إلى الدِّينِ، ولمْ يكُنْ لهُ أصلٌ
مِن الدِّينِ يُرْجَعُ إليهِ، فهوَ ضَلالةٌ، والدِّينُ بَريءٌ منهُ،
وسَوَاءٌ في ذلكَ مسائلُ الاعتقاداتِ، أو الأعمالِ، أو الأقوالِ الظاهرةِ
والباطنةِ.
وأمَّا ما وَقَعَ في كلامِ السَّلفِ مِن استحسانِ بعضِ البِدَعِ، فإنَّمَا ذلكَ في البِدَعِ اللُّغوِيَّةِ، لا الشرعيَّةِ.
ورُوِيَ أنَّ أُبَيَّ بنَ كعبٍ قالَ لهُ: إنَّ هذا لمْ
يكُنْ، فقالَ عمرُ: قدْ عَلِمْتُ، ولكِنَّهُ حَسَنٌ. ومُرَادُهُ أنَّ هذا
الفعلَ لم يكُنْ على هذا الوجهِ قبلَ هذا الوقتِ، ولكنْ لهُ أصولٌ مِن
الشَّريعةِ يُرْجَعُ إليها.
فمِنها: أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ يَحُثُّ على قِيامِ رمضانَ،
ويُرَغِّبُ فيهِ، وكانَ النَّاسُ في زَمَنِهِ يَقُومونَ في الْمَسْجِدِ
جَماعاتٍ مُتَفَرِّقةً ووُحْدانًا، وهوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
صلَّى بأصحابِهِ في رمضانَ غيرَ ليلةٍ، ثمَّ امْتَنَعَ مِنْ ذلكَ
مُعَلِّلًا بأنَّهُ خَشِيَ أنْ يُكْتَبَ عليهم، فيَعْجِزُوا عن القيامِ
بهِ، وهذا قدْ أُمِنَ بعدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. ورُوِيَ
عنهُ أنَّهُ كانَ يقومُ بأصحابِهِ لَيَالِيَ الأَفرادِ في العَشْرِ
الأواخرِ.
ومنها:
أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ باتِّباعِ سُنَّةِ
خُلفائِهِ الراشدينَ، وهذا قدْ صارَ مِنْ سُنَّةِ خُلفائِهِ الراشدينَ؛
فإنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عليهِ في زَمَنِ عمرَ وعُثمانَ وعَلِيٍّ.
ومِنْ ذلكَ: القَصَصُ، وقدْ سَبَقَ قولُ غُضَيْفِ بنِ الحارثِ: إنَّهُ بدْعَةٌ.
وإنَّما عَنَى هؤلاءِ بأنَّهُ بِدعةٌ الهَيْئَةَ
الاجتماعيَّةَ عليهِ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمْ يكُنْ لهُ وقتٌ مُعيَّنٌ يَقُصُّ على أصحابِهِ فيهِ
غيرَ خُطَبِهِ الراتِبَةِ في الْجُمَعِ والأعيادِ، وإنَّما كانَ
يُذَكِّرُهم أحيانًا، أوْ عندَ حُدوثِ أمرٍ يَحْتَاجُ إلى التَّذكيرِ
عندَهُ، ثمَّ إنَّ الصحابةَ اجْتَمَعوا على تَعْيينِ وقتٍ لهُ كما سَبَقَ
عن ابنِ مسعودٍ أنَّهُ كانَ يُذَكِّرُ أصحابَهُ كلَّ يومِ خَمِيسٍ.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (حَدِّث
النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ
أَكْثَرْتَ فَثَلَاثًا، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ).
وفي (الْمُسْنَدِ) عنْ عائشةَ، أنَّها وَصَّتْ قَاصَّ أهلِ المدينةِ بِمِثْلِ ذلكَ. ورُوِيَ عنها أنَّها قالَتْ لعُبيدِ بنِ عُمَيْرٍ: حَدِّث النَّاسَ يومًا، ودعِ النَّاسَ يومًا، لا تُمِلَّهم.
ورُوِيَ عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنَّهُ أَمَرَ القاصَّ أنْ يَقُصَّ كلَّ ثلاثةِ أيَّامٍ مَرَّةً.
ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ لهُ: رَوِّح الناسَ ولا تُثْقِلْ عليهم، ودَعِ القَصَصَ يومَ السبتِ ويومَ الثلاثاءِ.
وقدْ روَى الحافظُ أبو نُعَيْمٍ بإسنادِهِ عنْ
إبراهيمَ بنِ الْجُنَيْدِ، [حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بنُ يَحْيَى] قالَ:
سَمِعْتُ الشافعيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عليهِ يقولُ: (البِدعةُ بِدعتانِ: بدعةٌ مَحمودةٌ، وبِدعةٌ مَذمومةٌ، فما وَافَقَ السُّنَّةَ فهوَ محمودٌ، وما خالَفَ السُّنَّةَ فهوَ مذمومٌ).
واحتَجَّ بقولِ عمرَ: (نِعْمَت البِدعةُ هي)َ.
ومُرادُ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَاهُ مِنْ قبلُ: أنَّ البِدعةَ الْمَذمومةَ ما ليسَ لها أصلٌ مِن الشريعةِ يُرْجَعُ إليهِ، وهيَ البدعةُ في إطلاقِ الشرعِ.
وقدْ رُوِيَ عن الشَّافعيِّ كلامٌ آخَرُ يُفَسِّرُ هذا، وأنَّهُ قالَ: والْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ:
وكثيرٌ مِن الأمورِ التي حَدَثَتْ ولمْ يكُنْ قد
اخْتَلَفَ العلماءُ في أنَّها هلْ هيَ بِدعةٌ حَسَنَةٌ حتَّى تَرْجِعَ إلى
السُّنَّةِ أمْ لا؟
فمنها: كتابةُ الحديثِ، نَهَى عنهُ عمرُ وطائفةٌ مِن الصَّحابةِ، ورَخَّصَ فيهِ الأكثرونَ، واسْتَدَلُّوا لهُ بأحاديثَ مِن السُّنَّةِ.
ومنها: كتابةُ تفسيرِ الحديثِ والقرآنِ، كَرِهَهُ قومٌ مِن العُلماءِ، ورَخَّصَ فيهِ كثيرٌ منهم.
وفي هذهِ الأزمانِ التي بَعُدَ العهْدُ فيها بِعُلومِ
السلَفِ يَتعيَّنُ ضَبْطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلكَ كُلِّهِ؛ لِيَتَمَيَّزَ
بهِ ما كانَ مِن العلْمِ مَوجودًا في زمانِهم، وما حَدَثَ مِنْ ذلكَ
بعدَهم، فيُعْلَمَ بذلكَ السُّنَّةُ مِن البِدْعَةِ.
وقدْ صَحَّ عن ابنِ مسعودٍ أنَّهُ قالَ: (إنَّكم قدْ
أَصْبَحْتُم اليومَ على الفِطرةِ، وإنَّكم ستُحْدِثونَ ويُحدَثُ لكم، فإذا
رَأَيْتُمْ مُحْدَثةً فعَلَيْكُم بالْهَدْيِ الأوَّلِ). وابنُ مسعودٍ قالَ
هذا في زَمَنِ الْخُلفاءِ الراشدينَ.
وروى ابنُ مَهْدِيٍّ، عنْ مالِكٍ قالَ: لم يكنْ شيءٌ
مِنْ هذهِ الأهواءِ في عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وأبي
بكرٍ وعمرَ وعثمانَ.
وأَصْعَبُ مِنْ ذلكَ ما أُحْدِثَ مِن الكلامِ في
أفعالِ اللَّهِ تعالى مِنْ قَضائِهِ وقَدَرِهِ، فكَذَّبَ بذلكَ مَنْ
كَذَّبَ، وزَعَمَ أنَّهُ نَزَّهَ اللَّهَ بذلكَ عَن الظُّلْمِ.
وأَصْعَبُ مِنْ ذلكَ ما أُحدِثَ مِن الكلامِ في ذاتِ
اللَّهِ وصِفاتِهِ، ممَّا سَكَتَ عنهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ وأصحابُهُ والتَّابعونَ لهم بإحسانٍ.
وممَّا أُحدِثَ في الأُمَّةِ بعْدَ عصرِ الصحابةِ
والتابعينَ الكلامُ في الحلالِ والحرامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ، وَرَدُّ
كثيرٍ ممَّا وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ في ذلكَ لِمُخَالَفَتِهِ للرَّأيِ
والأَقْيِسَةِ العقليَّةِ.
وممَّا حَدَثَ بعدَ ذلكَ الكلامُ في الحقيقةِ
بالذَّوْقِ والكشْفِ، وزَعَمَ أنَّ الحقيقةَ تُنافِي الشريعةَ، وأنَّ
الْمَعرفةَ وَحْدَها تَكْفِي معَ الْمَحَبَّةِ، وأنَّهُ لا حَاجةَ إلى
الأعمالِ، وأنَّها حِجابٌ، أوْ أنَّ الشَّريعةَ إنَّما يَحتاجُ إليها
العوامُّ، ورُبَّما انْضَمَّ إلى ذلكَ الكلامُ في الذَّاتِ والصِّفاتِ بما
يُعْلَمُ قَطْعًا مُخَالَفتُهُ للكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ سلَفِ
الأُمَّةِ. واللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ: قال: (أوصيكم
بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى
اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسنٌ صحيح.
وعن أبي نجيح العرِباض بن سارية
-رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها
موعظة مودع فأوصنا.
الشيخ :
هذا الحديث أصْلٌ في
بابِه، في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا-، والوصية بذلك والاستمساك
بالسمع والطاعة، وبالسنة، وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدِ النبي
-عليه الصلاة والسلام-.
قال العِرْباضُ بن سارية -رضي الله عنه-: (وعظنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوعظةً).
(الوَعْظُ)
هو:
التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي، فالموعظة
قد تكون بترغيب وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من
عدم امتثال الأمر أو بارتكاب النهي.
وقد جاء ذكر الموعظة في
القرآن في عددٍ من المواضع، والمفسرون فسَّروها بالتذكير باتباع الأمر،
والتذكير باجتناب النهي، قالوا: إنّ لفظ (وَعَظَ) بمعنى جَعل غيره في عظة
،والعظةُ: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو
التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك، فلهذا فُسِّرت الموعظة فيما
جاء في القرآن بأنَّها: امتثال
الأوامر واجتناب النواهي، وإلقاءُ ذلك بشيءٍ من التخويف منهما. وعمَّت
الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيُقال: هذه موعظة إذا ذكَّر بالله
وبالأخرة وبأمر الله ونهيه وبعقوبة المنتهي عن الأمرِ أو المُرتكب للمنهي،
حِين يذكر بِعُقوبته في الآخرة وفي الدنيا صار واعظاً.
المَقصود من هذا أنَّ قوله
هنا: (وعَظنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موعظة وجلت
منها القُلوب وذرفت منها العُيون) سَببُ -وَجَل القُلوب- وسببُ أن العيون
ذَرَفَت، أَنَّها اشتملت على أشياء، منها: التخويف والوعيد، ومنها أنّه
نبههم أنّه سيُفارقهم. فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم بين الإشعار
بمفارقته لهم وبين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا- وبحدوده وأوامره، والتخويف
من مخالفةِ ذلك فقال -رضي الله عنه- وَجِلت منها القُلوب وذرفت منها
العُيون، والوَجلُ -وجل القُلوب- أعظم من خوفها؛ لأنّ الوَجل خوفٌ وزيادة،
وهو الخوف الذي معه اضطراب وتردُّد في هذا الأمر، يعني: أنه خاف منه مع كون
القلب راغباً راهباً في هذا الأمر. فَهُناك الرّهبة والخوف والوَجَل،
وكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كُلُّ واحدة لها مرتبتها.
قال (فقلنا: يا رسول الله!
كأنَّها موعظة مودِّع) يعني: لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه
من أنّها جامعة، فاستشفوا أنها موعظة مُودعٍ لهم، فكأنّه -عليه الصلاة
والسلام- جَمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك إلى أنه ربما فارقهم؛ لأنّه
جَمع أَشياء كثيرة في مكانٍ واحد
قال -عليه الصلاة والسلام- (أوصيكم بتقوى الله عز وجل) والتقوى هي وصيةُ الله للأولين والآخرين .
معنى التقوى : أن تجعل
بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا والآخرة وقاية، وهذه الوقاية
بامتثال أوامِره واجتناب مناهيه والعمل بسنة المُصطفى-صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ،والتقوى في كلِّ مقام بحسبه .
وقد فُسِّرت التقوى بعدَّة تفسيرات، ومن أحْسَنها قولُ :
طلق بن حَبيب -رحمه الله تعالى-:
(أَنَّ التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله تخشى عقاب الله).
فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي.
قال: (والسمع الطاعة)
والسمع و الطاعة حقان لِلإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأنَّ
البيعة عقْدٌ وعَهْدٌ على السَّمع والطاعة، وتحصُلُ بالمباشرة، وتحصلُ
بالإنابة. فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم ومن يُصار إليهم في
الحلِّ والعقد؛ فإنَّ في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن
يسمعوا ويُطيعوا؛ في ذلك مبايعة بقيةِ المسلمين. وعلى هذا جَرت سنَّةُ
المُصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنة الخلفاء الراشدين.
فالسمع والطاعة لا فرق
بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي
للإمام المسلم أو للأمير المسلم فلا دليل له من سنة المصطفى -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا من عمل الصحابة والتابعين ولا من قول أهل السنة
والجماعة أتباع السلف الصالح في عقائدهم.
فالسمع والطاعة للأمير المسلم حقٌ من حقوقه؛ لقول الله -جل وعلا-: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} لكن
السمع والطاعة لا تجبُ له حقاً له استقلال، وإنما هي على وجه التبع، يعني:
أَنَّها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله ولهذا جاء في الأحاديث بيانُ أنَّ
الطاعة إنما هي في المعروف، والمعروفُ هو ما عُرف في الشّرع حُسْنُه، وهو
ما ليس بمعصية. ولهذا جاء في أحاديث أُخر بيان أنّ الطاعة تكون في غير
المعصية وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية
العظيمة منه -عليه الصلاة والسلام- في غير المعصية. فإذا كان في الواجبات؛
فالسمع والطاعة لأمْر الله -جل وعلا- ولحقِّ الله -جل وعلا-؛ لا لحقِّ
الأمير؛ وإذا كان في المُباحات، أو فيما يكون فيه الاجتهاد؛ فهُنا يتوجهُ
السمع والطاعة لحقِّ الإمام أو لحقِّ الأمير.
يعني أَنَّ المسائل ثلاثة:
الحالة الأولى:
ما
وجَبَ بأصل الشرع؛ فإنه يُطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- بذلك، وليست
الطاعةُ في الواجب من حقوقه؛ بل يُطاع لحقّ الله -جل وعلا- في طاعته فيما
أوجَبَ.
والحالة الثانية:
أن
يأمر أو ينهى عن مباح أو فيما فيه اجتهاد أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه
يُطاع هنا لحقّه هو؛ لأنَّ الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.
والحالة الثالثة:
أن
يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأنَّ طاعة الله -جلّ
وعلا- حق مُقدمٌ على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق.
فمثلاً الوالدان والمرأة
لزوجها والإمام وأشباه ذلك، ممّن جَعَل الله -جل وعلا- لهم حقاً في السَّمع
والطاعة؛ فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني فيما جاء في الشريعة أنَّهُ
غير مُحرَّم.
قال
(وإن تأمَّرَ عليكم عبْدٌ ) في قوله (تَأمَّرَ) معنى التغلب (وإن تأمَّرَ
عليكم عبْدٌ) يعني غلب عبْدٌ على الإمارة فدعى لمبايعته أو دعى لأنْ
يُسْمَعَ له ويُطاع، فهُنا يَجبُ أن يسمع له ويُطاع.
فلهذا قال العُلماء: الولايات الشرعية العامَّة تكون بإحدى طريقين:
الطريق الأول: طريق
الاختيار؛ أن يُختار الإمام العام أو أن يختار الأمير، وولاية الاختيار لها
شُروطها إذا كانت لأهل الحلِّ والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط
الشرعية التي جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قُرشيّاً، ومنها أن
يكون عالماً، يُحسْنُ سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في
ولاية الاختيار.
والقسم الثاني: ولاية
التغلُّب، وهو: أن يغلب أميرٌ أو غيرهُ ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض
الشُروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غَلبَ إماماً آخر قبلهُ، فإنه هنا إذا
غَلبَ يُبايع ويُسمع له ويُطاع؛ لأنَّ البيعة هنا أصبحت بيعة تَغلَّب،
والولاية ولاية غلبة وسيف.
فهذا كما أوصى هنا -عليه
الصلاة والسلام- أن يُسمع ويُطاع لِمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في
ولاية الاختيار، حيثُ قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: (وإن تأمر) ونفهم من
التأمر أنه لم يكن ثَمَّ اختيار، فهذه ولاية التغَلُّب، وقال: (إن تأمر
عليكم عبْدٌ) ومعلوم أنَّ العبد لا يُختار لِيَلِي أمور المُسلمين.
فدلَّ هذا على أنَّ ولاية
الغلبة لمن غَلب فتَوَلَّى، يجبُ له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذي
يختار اختياراً، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة، وذلك لأجْل
المصلحة العامة من المسلمين.
وإذا نظرت فإن الاختيار
وقع في تاريخ هذه الأمة على الخُلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي
سفيان رضي الله عنه، وما بعد معاوية من عهدِ يزيد إلى زمَاننا هذا
فالولايات ولايات تَغلُّب؛ لأنَّها تكونت الدّوُيلات، وهذا يُعارض هذا،
فكلها لم تنشأْ كتواترٍ أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية
تغلُّب.
وهذا هو الذي جاء في
الحديث الصحيح أنّه -عليه الصلاة والسلام- قال: (تكون خلافةُ النبوة ثلاثين
عاماً) أو قال: (ثلاثون عاماً خلافةُ نبوة، ثم يكون مُلْكاً عاضَّاً)
يعني أنَّ الخلافة التي
على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاماً بعدهُ -عليه
الصلاة والسلام-، وهي التي انتهت بمقتل عليٍّ -رضي الله عنه-.
وولايةُ معاوية كما هو
معلوم ولايةُ اختيار؛ لأنَّ الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة فاجتمع عليه
الناسُ، وسُمِّي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية -رضي الله
عنه- ، وما بعدهُ أصبحت ولاية تغلُّب.
وأهل السنة والجماعة
أجمعوا -لمّا صنَّفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا- على أنَّ
البيعة منعقدة لمن تغلَّب ودعى الناس إلى إمامته، مع أنَّ الذي يُشترط
للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سِيَّان من جهة حقوق الطاعة
والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه وعدم التنفير عنه وسائر
الحُقوق التي جاءت للأئمَّة والأمراء.
قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: (وأن تأمَّر عليكم عبدٌ فإنَّه) الفاء هذه تعليليَّة.
(فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)
يعني سيرى اختلافاً على الأَمراءِ، فوصيتهُ -عليه الصلاة والسلام- له أنّ
من عاش فرأى الاختلاف فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبدٌ.
وجاء في أحاديث أُخر بيان
بعض هذا الاختلاف وما يحصل من الفُرقة وأشباه ذلك، يجمعها أنّ الاختلاف
اختلافٌ على الدِّين، أو اختلافٌ على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإن
عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلْزمَ السمع والطاعة، فهذه وصيتهُ -عليه
الصلاة والسلام- إذْ قال: (فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)،
والاختلاف الكثير يعني عمَّا كانت عليه سُنَّته -عليه الصلاة والسلام-،
فأوصى فقال: (فعليكم بسنَّتي وسنة الخُلفاء الراشدين المهديين) يعني:
الزموا سنَّتي، فما أوصيتُ به في سُنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد
حين الاختلاف؛ إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى
-صلى الله عليه وسلم-، إذا اختلفوا في الشرائع، في الأحكام، فعليهم أن
يبحثوا في سنة المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، إذا كَثُر الاختلاف بينهم في
أمور الفتن والآراء فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المُصطفى -صلى الله عليه
وسلم- وسنة الخُلفاء الراشدين، فإنَّ فيها النَّجاة.
ولم نَرَ مسألة من المسائل
التي من أَجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كلِّه من أوَّلِه إلى يومنا
هذا، إلا وفي السنة بيانُها، لكن يُؤتى الناس من جهة أَنَّهُم لا يَرغبُون
في السنة، لا يَرغبُون في امتثال وصية المصطفى -صلى الله عليه وسلم-
وأَمْرهِ ونهيه وبيانه، لهذا أوصى عليه الصلاةُ والسلام هذه الوصية
العظيمة، فقال: (فعليكم بسنتي)، والسنَّة بيانٌ للقرآن، فما كان من كلامه
-عليه الصلاة والسلام- وما كان من أفعاله فإن في ذلك السنة، وهي الطريقة
والهدي الذي كان عليه -عليه الصلاة والسلام-. وهذا فيه بيان واضح لمعنى
القرآن حيث قال -جل وعلا-: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون}: في سورة النحل، فقوله: {وأَنزلنا إليك الذِّكر} الذِّكرُ هنا هو سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
قال: (وسنَّة الخُلفاء
الراشدين المهديين) الخلفاء هم الذين خَلفَوا المُصطفى -صلى الله عليه
وسلم- في ولاية الأمْرِ على طريقته -عليه الصلاة والسلام- والخُلفاءُ
الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أَربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي
الله عنهم أجمعين- وَوُصِفُوا بأنَّهُم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرُّشدِ،
والرُّشدُ هو: العلم بالحق والعملُ به، فسُمُّوا راشدين لأنَّهُم كانوا
علماء بالحق عمِلُوا به. وليست هذه الصفة إلاّ لهؤلاء الأربعة.
وفي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-خِلاف، هل يُعدُّ من الخُلفاء الراشدين أم لا يُعدُّ من الخُلفاء الراشدين ؟
والذي عليه نصُّ كثير من
أهل العلم كأحمد وغيرهِ أنَّهُ من الخُلفاء الراشدين؛ لأنَّه عَلِم الحق
فعمل به، وعامَّةُ الولاة ليسوا على ذلك، بل منهم من لا يعلمُ الحق أصلاً،
ومنهم من يعلم الحق فيخالفُه لأهواء وشهوات ونوازع مختلفة فالذين وَصِفوا
بأنَّهُم خُلفَاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبدالله -عليه
الصلاة والسلام- وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفةٌ راشد.
وهنا تنبيه على مقالةٍ
ربما ترِدُ على ألسنة بعض الكتاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة
-رضوان الله عليهم- وغير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة، فيما
نفهم وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز -رحمهُ الله- (إنَّهُ خامسُ الخُلفاء
الراشدين)، وهذا ليس بسديد؛ لأنَّ معاوية -رضي الله عنه- أعظمُ منزلة من
عمر بن عبد العزيز-رحمه الله تعالى-، وإذا كان ثمَّ خامِس للخُلفاء
الراشدين فهو معاوية؛ لأنَّه أحقُّ بهذا الوصْفُ من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعةٌ من أهل العلم بأنَّه خليفة راشد ومعاوية بحسب
الاعتبار أنَّهُ اجتمُع عليه فإنَّهُ خليفةٌ راشد، لكن لمّا جَعَلَ الأمرُ
مُلْكاً في بنيه مُلْكاً في يزيد، كان أهل العلم يُعبّرون عنه بأنه مَلِكٌ
راشد، وخيرُ ملوكِ المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة لأنَّهُ خَلفَ ما
بعدهُ بالحق، وليس ثمَّ خامِس للأربعة الخُلفاء، فإذا قيل إنَّ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -خليفةٌ راشد فهذا حق، ولكن لا يُقال: هو خامِس الخُلفاء الراشدين؛ لأنّ معاوية أحق منه بهذا الوصف لو كان هذا الوصف سائغاً، أما الخُلفاء فهم أربعة، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ثلاثون سنة خِلافة نبوة) فما بعد ذلك إنما هو وصْف لأجل التحبيب في خلال الأمراء وأوصاف الوُلاة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: (المهديين) يعني الذين منَّ الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به.
قال: (عَضُّوا عليها بالنَّواجذ)
وهي: الأضراس، وأشدُ ما يكون الاستمساك إذا أراد المرءُ أن يستمسك بشيء
بأسنانه أن يعَض عليه بأضراسه؛ لأنَّها أشدُّ الأسنان، فقال -عليه الصلاة
والسلام-: (عَضُّوا عليها بالنواجذ) يعني كونوا مُسْتمسكين بها على أشد ما
يكون الاستمساك، الاستمساكُ بسنتهِ عند الاختلاف وسنة الخُلفاء الراشدين
عند الاختلاف، والتقوى والسَّمع والطاعة، فإن في هذا النَّجاة، وهذا مجرب
في كلِّ ما مرَّ بتاريخ الإسلام من تقلباتٍ وفتن، فإن من أخذ بهذه الوصية
نجا في دينه ودنياه.
قال -عليه الصلاة
والسلام-: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدْعة ضلالة) إيَّاكُم: هذا
تحذير ونهيٌ، ومن الصيغ التي يُفهم منها النَّهيُ أو يُعبَّر بها عن
النَّهي صيغة (إياك) وكذا كما قَرَّرهُ علماء الأصول فقوله (وإياكم ومحدثات
الأمور) هذا في معنى قوله لا تأتوا محدثات الأمور، فهو نهيٌ عن مُحدثات
الأمور، والمُحدثات: جَمْعُ مُحْدثة وهي: كُلُّ ما أُحدِث بعدهُ -عليه
الصلاة والسلام- على غير مثال سابقٍ له.
وهذه المُحدثات التي أُحدثت على قسمين:
منها محدثاتٌ من قبيل
المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه
لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها مُحدَثة لغة؛ ولكنها ليست بمحدثة
شرعاً؛ لأنَّ لها الدليل في الشرع، الذي دلَّ على اعتبارها، وهو كونها من
المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرناها في ذلك المقام.
والقِسم الثاني: المحدثات
التي هي في الدين بما أُحدثَ مَع قيام المقتضي لفعله في عهده -صلى الله
عليه وسلم- وتُرِكَ فَمَا تُرِكَ في عهده مِنَ العِبادات أومما يُتقربُ به
إلى الله -جل وعلا- مع قيام المقتضي لفعله ولم يُفعل، فهو مُحْدثةٌ في
الدين وهو بدعة وهذا القسم هو الذي يتوجَّهُ إليه قول المصطفى -صلى الله
عليه وسلم-: (وإياكم ومُحدثات الأمور فإنَّ كل بدعة ضلالة)
وهذا يعني: أن نعْكِس الأمر؛ يكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي
البدع في الشريعة، وأمَّا البدعة من حيثُ هي في اللغة فإنَّها قد تكون ولا
يُنهى عنها في الشَّرع، كما قال عمر حين جمع الناس، على إمام واحد فقال:
(نِعْمةِ البدعةُ هذه) فجعلها بدعة، يعني في اللغة، فليست كلُّ بدْعةٍ في
اللغة بدعةً في الشرع؛ لأنَّها قد تكون بدْعةً لغةً ولا تكون بدْعةً شرعاً؛
لدخولها في تعريف المصالح المُرسلة وما أَشبه ذلك.
أما ما يُتقربُ إلى الله
به من العبادات، وقد قام المقتضي بفعله في عهدهِ -عليه الصلاة والسلام- ولم
يُفعَل؛ فإنه من البدع المُحدثات ومن البدع الضلالة فقال: (فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة) وهذه الكلية من صيغ العموم.
وهذا يدلُّ على إبطال قول
من قال: إنّ من البدع في الدين ما ليس بضلالة، وهو ما أحدثه العِزُّ بن عبد
السلام في الأمَّة من: تقسيم البدعة إلى خمسةِ أقسام: واجبة، ومستحبة،
ومُباحة، ومكروهة، ومحرمة، فَتبعهُ الناس على ذلك وانتشرت البدع على هذا
التقسيم بقوله: إنَّ من البدع ما هو واجب ومن البدع ماهو مُستحب وأشباه
ذلك، وهذا مصادِمٌ لهذا النص، وقولٌ بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان
في مقابلة النص ومصادمته فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا: (فإنَّ كلَّ بدعَةٍ ضلالة) فهذه كلية فمن قال إنَّ ثَّم من البدع ما ليس بضلالة فهو مُخالفٌ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ كل بدعة ضلالة) فما
من بدعةٍ في الدين إلا وهي ضَلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام، على
تعريف البدعة الذي ذكرناه. يخرجُ من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخُل
في البدع كما هو معروف من تعريف البدعة وتعريف المصلحه المرسلة، حيث ذكرنا
لك ذلك مفصلاً في موضعه.
الكشاف التحليلي
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله موعظة...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول الراوي: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)
بيان معنى (الوعظ)
ورود (الوعظ) في القرآن الكريم
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوعظ والتذكير
أهمية الوعظ
آداب الوعظ
سمات الوعظ الناجح:
1 - انتقاءُ الموضوعِ المناسبِ الَّذي يحتاجُ إليهِ النَّاسُ
2 - البلاغة في الموعظة
3 - اختيارُ الوقتِ والفرصةِ المناسبة
4 - قصر الموعظة
صفات الواعظ المؤثر:
1 - أن يكون مؤمنًا بما يدعو إليه
2 - سلامة قلبه من أمراض الشبهات والشهوات
3 - أن يكون قدوةً صالحة لسامعيه بقوله وفعله
شرح قوله: (موعظة بليغة)
معنى البلاغة في الموعظة
البلاغة في الموعظة أقرب إلى استمالة القلوب
شرح قوله: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)
معنى (الوجل)
الفرق بين (الوجل) و(الخوف)
سبب وجل القلوب وذرف العيون
فائدة: هذان الوصفان مدح الله بهما المؤمنين عند سماع الذكر
شرح قوله: (قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا)
دلالة هذه الجملة على عظم بلاغته صلى الله عليه وسلم في تلك الموعظة
حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير
بلاغة موعظة المودع
نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته
مشروعية طلب الوصية
هدي الصحابة رضي الله عنهم في التواصي
من ثمرات التواصي
يجب على من طلبت منه الوصية أن ينصح للمستوصي
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة)
تعريف التقوى
حكم تنفيذ الوصية بالمعروف
تنفيذ الوصية بالمعروف يختلف حكمه باختلاف ما يوصى به
ذكر بعض الأحاديث في الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة
فائدة: هاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة
فائدة: لا فرق بين السمع والطاعة وبين البيعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمَّرَ عليكم عبد حبشي)
تعريف (العبد)
معنى وصف العبد بالحبشي
حكم طاعة ولي الأمر
ما يأمر به ولي الأمر على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما وجَبَ بأصل الشرع
حكمه: يُطاع تبعاً لطاعة الله تعالى
القسم الثاني: أن يأمر بمعصية
حكمه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
القسم الثالث: أن يأمر بما ليس بمعصية ولا واجب
حكمه: تجب طاعته بالمعروف
الولاية العامَّة تكون بأحد أمرين:
الأمر الأول: اختيار من يقوم أمر الولاية باختيارهم
شروط الإمامة الاختيارية
الأمر الثاني: تغلب الحاكم على الرعية
الجمع بين هذا الحديث وحديث: (الإمامة في قريش)
قوله: (تأمر) يدل على أن بيعته بطريق التغلب
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)
هذا الحديث من دلائل النبوة
ما يشمله معنى الاختلاف
ذكر سبب الاختلاف في الأمة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي)
تعريف (السنة)
قوله: (فعليكم) أي: الزموا
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)
المراد بالخلفاء الراشدين
ذكر الدليل على ذلك
وجوب اتباع سنة الخلفاء الراشدين
ما يدل عليه إفراد كلمة (سنة) مع تعدد الخلفاء
صفة (الراشدين المهديين) كاشفة وليست مقيدة
معنى (الرشد)
معنى (الهدى)
الفرق بين (الرشد) و(الهدى)
مسألة: هل عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين؟
خطأ إطلاق لقب خامس الخلفاء الراشدين على عمر بن عبد العزيز
مسألة: هل إجماع الخلفاء الراشدين حجة؟
مسألة: أيهما يقدم عند الخلاف قول أحد الخلفاء الراشدين أو قول غيرهم من علماء الصحابة؟
ذكر بعض فضائل الخلفاء الراشدين
جعل الحق على لسان عمر
مسألة: هل إجماع طائفة من الصحابة حجة؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (عضوا عليها بالنواجذ)
معنى (العض)
معنى (النواجذ)
ما تدل عليه هذه الجملة من قوة الصارف عن الحق وكثرة الفتن
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة)
تعريف (البدعة)
ذكر بعض الأحاديث في ذم البدعة
أقسام المُحدثات:
القسم الأول: المصالح المرسلة
المصالح المرسلة بضوابطها ليست بدعة
المصالح المرسلة محدثة من جهة اللغة
ليس كل ما كان محدثاً لغة فهو بدعة شرعاً
من أمثلة المصالح المرسلة:
1- جمع المصحف في عهد أبي بكر
2- صلاة التراويح
3- الأذان الأول لصلاة الجمعة
4- قتال مانعي الزكاة
5- تحريق المصاحف على عهد عثمان وجمع الناس على مصحف واحد
6- كتابة الحديث في عهد عمر بن عبد العزيز
القسم الثاني: محدثات في الدين
بيان أن كل محدثة في الدين بدعة
من فوائد حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه:
مَشْرُوعِيَّةُ الوَعْظِ وَالتذكيرِ
وجوب التمسك بالسنة
التحذير من البدع
ذكاء الصحابة
وُجُوبُ السمع والطاعةِ لولي الأمرِ في غيرِ مَعْصِيَةٍ
أن كل بدعة ضلالة
مشروعية طلب الوصية
انعقاد الولاية العامة بالتغلب كما تنعقد بالاختيار
العناصر
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله موعظة...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول الراوي: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)
بيان معنى (الوعظ)
ورود (الوعظ) في القرآن الكريم
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوعظ والتذكير
أهمية الوعظ
آداب الوعظ
سمات الوعظ الناجح
صفات الواعظ المؤثر
شرح قوله: (موعظة بليغة)
معنى البلاغة في الموعظة
البلاغة في الموعظة أقرب إلى استمالة القلوب
شرح قوله: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)
معنى (الوجل)
الفرق بين (الوجل) و(الخوف)
سبب وجل القلوب وذرف العيون
فائدة: هذان الوصفان مدح الله بهما المؤمنين عند سماع الذكر
شرح قوله: (قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا)
دلالة هذه الجملة على عظم بلاغته صلى الله عليه وسلم في تلك الموعظة
حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير
بلاغة موعظة المودع
نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته
مشروعية طلب الوصية
هدي الصحابة رضي الله عنهم في التواصي
ثمرات التواصي
يجب على من طلبت منه الوصية أن ينصح للمستوصي
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة)
تعريف التقوى
حكم تنفيذ الوصية بالمعروف
ذكر بعض الأحاديث في الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة
فائدة: هاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة
فائدة: لا فرق بين السمع والطاعة وبين البيعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمَّرَ عليكم عبد حبشي)
تعريف (العبد)
معنى وصف العبد بالحبشي
حكم طاعة ولي الأمر
طرق تولي الولاية العامَّة
شروط الإمامة الاختيارية
الجمع بين هذا الحديث وحديث: (الإمامة في قريش)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)
هذا الحديث من دلائل النبوة
ما يشمله معنى الاختلاف
ذكر سبب الاختلاف في الأمة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي)
تعريف (السنة)
قوله: (فعليكم) أي: الزموا
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)
المراد بالخلفاء الراشدين
وجوب اتباع سنة الخلفاء الراشدين
ما يدل عليه إفراد كلمة (سنة) مع تعدد الخلفاء
صفة (الراشدين المهديين) كاشفة وليست مقيدة
معنى (الرشد)
معنى (الهدى)
الفرق بين (الرشد) و(الهدى)
مسألة: هل عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين؟
خطأ إطلاق لقب خامس الخلفاء الراشدين على عمر بن عبد العزيز
مسألة: هل إجماع الخلفاء الراشدين حجة؟
مسألة: أيهما يقدم عند الخلاف قول أحد الخلفاء الراشدين أو قول غيرهم من علماء الصحابة؟
ذكر بعض فضائل الخلفاء الراشدين
مسألة: هل إجماع طائفة من الصحابة حجة؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (عضوا عليها بالنواجذ)
معنى (العض)
معنى (النواجذ)
ما تدل عليه هذه الجملة من قوة الصارف عن الحق وكثرة الفتن
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة)
تعريف (البدعة)
ذكر بعض الأحاديث في ذم البدعة
أقسام المُحدثات
القسم الأول: المصالح المرسلة
المصالح المرسلة بضوابطها ليست بدعة
المصالح المرسلة محدثة من جهة اللغة
ليس كل ما كان محدثاً لغة فهو بدعة شرعاً
أمثلة المصالح المرسلة
القسم الثاني: محدثات في الدين
بيان أن كل محدثة في الدين بدعة
من فوائد حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه