الدروس
course cover
ح26: حديث أبي هريرة: (كل سلامى من الناس عليه صدقة...) خ م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

19561

0

0

course cover
الأربعون النووية

القسم الرابع

ح26: حديث أبي هريرة: (كل سلامى من الناس عليه صدقة...) خ م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

29 Oct 2008

19561

0

0


0

0

0

0

0

ح26: حديث أبي هريرة: (كل سلامى من الناس عليه صدقة...) خ م


قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (

26- عَنْ أَبي هُريرة رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ , وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رواه البخاريُّ ومسلِمٌ.

هيئة الإشراف

#2

29 Oct 2008

شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين


قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (

السادس والعشرون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ"(1) رواه البخاري ومسلم. .

الشرح
السلامى هي المفاصل، وقيل:العظام، والمعنى واحد لايختلف، لأن كل عظم مفصول عن الآخر بفاصل فإنه يختلف عنه في الشكل، وفي القوة، وفي كل الأمور وهذا من تمام قدرة الله عزّ وجل فليس الذراع كالعضد، وليست الأصابع كالكف، فكل ما فصل عن غيره من العظام فله ميزة خاصة، ولذلك كان على كل سلامى صدقة.
وجاء في صحيح مسلم أن السلامى ثلاثمائة وستون مفصلاً، هكذاجاء في الحديث(2)، والطب الحديث يوافق هذا - سبحان الله - مما يدل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق.
وقوله: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ" (كل سلامى) مبتدأ، و(من الناس) بيان لـ: (كل) أو: لـ (سلامى)، (عليه صدقة) مبتدأ وخبر (كل) والمعنى: كل مفصل عليه صدقة.
وقوله: "كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمسُ" يعني كل يوم يصبح على كل عضو من أعضائنا صدقة، أي ثلاثمائة وستون في اليوم، فيكون في الأسبوع ألفين وخمسمائة وعشرين.
لكن من نعمة الله أن هذه الصدقة عامة في كل القربات، فكل القربات صدقات، وهذا شيء ليس بصعب على الإنسان، مادام كل قربة صدقة فما أيسر أن يؤدي الإنسان ما يجب عليه.
ثم قال:"تَعْدِلُ بَينَ اثنَيْنِ صَدَقَة" تعدل أي تفصل بينهما إما بصلح وإما بحكم، والأولى العدل بالصلح إذا أمكن ما لم يتبين للرجل أن الحكم لأحدهما، فإن تبين أن الحكم لأحدهما حرم الصلح، وهذا قد يفعله بعض القضاة، يحاول أن يصلح مع علمه أن الحق مع المدعي أو المدعى عليه، وهذا محرم لأنه بالإصلاح لابد أن يتنازل كل واحد عما ادعاه فيحال بينه وبين حقه.
إذاً العدل بين اثنين بالصلح أو بالحكم يكون صدقة، لكن إن علم أن الحق لأحدهما فلا يصلح، بل يحكم بالحق.
"وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ" أي بعيره مثلاً "تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا" إذا كان لايستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة "أَو تَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ" متاعه ما يتمتع به في السفر من طعام وشراب وغيرهما، تحمله على البعير وتربطه، هذا صدقة.
"وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" أي كلمة طيبة سواء طيبة في حق الله كالتسبيح والتكبير والتهليل، أو في حق الناس كحسن الخلق صدقة.
"وَبِكُلِّ خُطوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَة" سواء بعدت المسافة أم قصرت، وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لايخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة.
فيكتسب شيئين: رفع الدرجة، وحطّ الخطيئة.
وقد استحب بعض العلماء - رحمهم الله - أن يقارب الإنسان خطواته إذا ذهب إلى المسجد، ولكن هذا استحباب في غير موضعه، ولادليل عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة لم يقل: فليدن أحدكم خطواته، ولو كان هذا أمراً مقصوداً مشروعاً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم . ولكن لايباعد الخطا قصداً ولايدنيها قصداً، بل يمشي على عادته.
وهذا نظير قول بعضهم: يستحب لمن دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له انتظار الصلاة والاعتكاف، مثال ذلك:
حضر الإنسان إلى المسجد الجامع في الساعة الواحدة يوم الجمعة، قالوا: ينبغي أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له ثواب الاعتكاف وثواب انتظار الصلاة، وهذا في غير محلّه ولاصحة له. لأنه لو كان هذا أمراً محبوباً إلى الله ومشروعاً في الإسلام لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تكلم على ثواب من راح في الساعة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة،ثم الرابعة ، ثم الخامسة ولم يقل للناس:انووا الاعتكاف مدة لبثكم في المسجد.
فهذا مما يستحسنه بعض العلماء، ولكن لايتفطن أن استحباب شيء يتقرب به الإنسان إلى الله عزّ وجل بدون أصل يعتبر بدعة لا صحة له.
ثم إن الاعتكاف المشروع الذي يُطلب من الإنسان ويقال اعتكف هو الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فقط، فلا يقال للإنسان اعتكف في أي وقت إلا في هذه العشر.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يتحرى ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر. فاعتكف العشر الأواخر(3)، ولم يعد إلى اعتكاف العشر الأول ولا الأوسط في العام القادم مع أنه قد فعله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً أثبته.
فدل هذا على أن الاعتكاف غير مشروع في غير العشر الأواخر من رمضان، ثم إن سبب الاعتكاف هو تحرّي ليلة القدر، وليلة القدر تكون في العشر الأواخر من رمضان.
فالعبادات محددة شرعاً، ولا تكون عبادة إلا إذا وافقت الشريعة في ستة أمور، وقد سبق ذكرها.
"وَتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ" أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن طريقهم فإنه صدقة.
من فوائد هذا الحديث:
1. وجوب الصدقة على كل إنسان كل يوم تطلع فيه الشمس عن كل عضو من أعضائه، لأن قوله: "عَلَيهِ صَدَقَة" وعلى للوجوب، ووجه ذلك: أن كل إنسان يصبح سليماً يجب عليه أن يشكر الله عزّ وجل، سليماً في كفه، في ذراعه، في عضده، في ساقه، في فخذه، في كل عضو من أعضائه عليه نعمة من الله عزّ وجل فليشكرها.
فإن قال قائل: قد يكون في إحصاء ذلك صعوبة؟
فالجواب: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجزئ من ذلك - أي بدلاً عنه، لأن (من) هنا بدليّة بمعنى بدل ذلك - ركعتان يركعهما من الضحى(4)، فإذا ركعت ركعتين من الضحى صار الباقي نفلاً وتطوعاً. ويؤخذ من هذه الرواية: أنه ينبغي للإنسان أن يداوم على ركعتي الضحى، وجه ذلك: أنها تأتي بدلاً عن هذه الصدقات أي بدلاً عن ثلاثمائة وستين صدقة، وهذا القول هو الراجح: أنه تسن المداومة على ركعتي الضحى.
ووقتها: من ارتفاع الشمس قيد رمح في رأي العين، إلى قبيل الزوال يعني بعد طلوع الشمس بنحو ثلث ساعة إلى قبيل الزوال بعشر أوخمس دقائق، وآخر الوقت أفضل.
وأقلها ركعتان وأكثرها لاحد له، فصلِّ ما شئت فأنت على خير.
2. أن الشمس هي التي تدور على الأرض، فيأتي النهار بدل الليل، لقوله: "تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ" وهذا واضح أن الحركة حركة الشمس، ويدل لهذا قول الله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال) [الكهف: الآية17] أربعة أفعال مضافة إلى الشمس، وقال تعالى عن سليمان: ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)[صّ: 32]

أي الشمس (بِالْحِجَابِ) أي بالأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه حين غربت الشمس: أَتَدْرِيْ أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ(5) فأضاف الذهاب إليها أي إلى الشمس.
أفبعد هذا يمكن أن نقول: إن الأرض هي التي تدور، ويكون في دورانها اختلاف الليل والنهار؟ لايمكن إلا إذا ثبت عندنا ثبوتاً قطعياً نستطيع به أن نصرف ظاهر النصوص إلى معنى يطابق الواقع، فإذا ثبت فالقرآن والسنة لايخالف الواقع، ولكن كيف نتصرف مع هذه الأفعال التي ظاهرها أن الشمس هي التي تدور؟
نتصرف فنقول: تطلع في رأي العين، لأنك أنت مثلاً واقف في السطح أو في البر ترى الشمس تطلع وترتفع في رأي العين، نقول هذا: إذا ثبت قطعاً ثبوتاً حسيّاً أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض، وهذا إلى الآن لم نصل إليه، فيجب إبقاء النص على ما هوعليه.
فإذا قال قائل: كيف يتصور الإنسان أن الكبير يدور على الصغير، لأنك إذا نسبت الأرض إلى الشمس فليست بشيء، أي صغيرة.
نقول: إن الذي أدار الكبير على الصغير هو الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير، ولامانع.
فهذامانعتقده حول هذه المسألة، ومع ذلك لو قال قائل: هل الدلالة قطعية؟
فالجواب: الدلالةليست قطعية، بل ظنية، ونحن علينا أن نعمل بالدليل الظني الذي هو ظاهر النص حتى يُعارض بدليل قطعي، ولايجوز أن نقول: إن دلالة الآية والحديث على دوران الشمس على الأرض قطعية، لأنه ربما يأتي الوقت الذي نقطع بأن اختلاف الليل والنهار بدوران الأرض، وحينئذ نقول بالمحال، لأن تعارض الدليلين القطعيين محال، إذ تعارضهما يقتضي انتفاء أحدهما، ومادمنا نقول إنهما قطعيان فلا يمكن أن ينتفيا.
وإذا تقرر بالدليل القطعي أن الأرض هي التي تدور فقد يستدل لذلك مستدلّ بقوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) [النحل: الآية15] تميد أي تضطرب، قالوا: وانتفاء الاضطراب يدل على وجود أصل الحركة، كما أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الأنعام: الآية103] يدل على ثبوت رؤية الله حيث نفى الأخص،ونفي الأخص يدل على ثبوت الأعم ولكن إلى الآن لم نصل إلى القطع بأن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض لا بدوران الشمس.
3. فضيلة العدل بين الاثنين، وقد حث الله عزّ وجل على الصلح فقال تعالى:( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) [النساء: 128]
فالصلح خير، والعدل بين الخصمين في الحكم واجب.
4. الحث على معونة الرجل أخاه، لأن معونته إياه صدقة، سواء في المثال الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو في غيره.
المثال الذي ذكره هو: أن يعينه في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه، ولكنْ هناك أمثال كثيرة ومن ذلك:
لو وجدت إنساناً على الطريق وطلب منك أن تحمله إلى البلد وحملته، فإنه يدخل في هذا من باب أولى.
ولكن هل يجب عليك أن تحمله، أولا يجب؟
الجواب: إن كان في مهلكة وأمنت منه وجب عليك أن تحمله وجوباً لإنقاذه من الهلكة، والمهلكة إما لقلة الماشي فيها، أو لأن فيها قطاع طريق ربما يقضون على هذا الرجل.
فإن لم تأمن من هذا الرجل فلا يلزمك أن تحمله، مثل أن تخاف من أن يغتالك أو يحول مسيرك إلى اتجاه آخر بالقوة فلا يلزمك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"(6) .
إذاً معنى الحديث الحث على معونة إخوانك المسلمين حتى في غير المثال الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان أخوك أحوج إلى معونتك كانت المعونة أفضل، وكلما كانت المعونة أنفع لأخيك كانت أفضل.
وليس من هذا النوع أن تعين زميلك في وقت الاختبار على معرفة الجواب الصحيح، ويقال: هذا منكر وخيانة للأمانة، وأنت لو فعلت فقد أعنته على منكره فلايجوز.
5. الحث على الكلمة الطيبة لقوله: "وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" والله لا أطيب من كلام الله عزّ وجل القرآن،كل كلمة في القرآن فهي صدقة.
والكلمة الطيبة تكون طيبة في أسلوبها، وفي موضوعها، وفي إلقائها، وفي نواح أخرى، فإذا رأيت شخصاً وتكلمت معه بكلام طيب مثل: السلام عليكم، حياكم الله، صبحكم الله بالخير فهذه كلمة طيبة لكن بشرط أن لايكون ذلك مملاً بمعنى أن تبقى معه مدة وأنت تقول مثل هذا الكلام، لأنه إذا كان مملاً انقلب إلى غير طيب، ولكل مقام مقال.
المهم القاعدة: كل كلمة طيبة فهي صدقة.
6. أن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وبقياس العكس نقول: وضع الأذى في الطريق جريمة وأذية، ويتفرع على هذه الفائدة:
إذا كان إماطة الأذى عن الطريق الحسّي صدقة فإماطة الأذى عن الطريق المعنوي أبلغ وذلك ببيان البدع والمنكرات وغيرها، والمنكرات كسفاسف الأخلاق من الدعارة واللواط وشرب الخمر والدخان وغيرها، فبيان هذه الأشياء لئلا يمارسها الناس تعتبر صدقة وأعظم من إماطة الأذى عن الطريق الحسي.
ومن إماطة الأذى عن الطريق المعنوي قتل داعية الفساد، لكنه ليس إلينا بل إلى ولي الأمر.
7. أن كل ما يقرب إلى الله عزّ وجل من عبادة وإحسان إلى خلقه فإنه صدقة، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمثلة على ذلك. والله الموفق.
________________________________________________________________________________

(1) أخرجه البخاري – كتاب: الصلح، باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، (2707). ومسلم – كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، (1009)،(56).
(2) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل..." أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1007)
(3) أخرجه البخاري – كتاب: فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر، (2017). ومسلم – كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الاواخر من رمضان، (1171)، (1)
(4) أخرجه أبو داود – كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى، (1285).
(5) أخرجه البخاري- كتاب: بدء الخلق، صفة الشمس والقمر (بحسبان)، (3199). ومسلم – كتاب: الإيمان، باب: الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، (159)،(251)
(6) أخرجه ابن ماجه- كتاب: الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره، (2340). والإمام أحمد – ج1/ص313،(2867).

هيئة الإشراف

#3

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السنيدي


قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (

(1)تَرْجَمَةُ الصَّحَابيِّ رَاوِي الحَدِيثِ:
سَبَقَتْ في الحديثِ التَّاسعِ.
الشَّرْحُ:

عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ سُلاَمَى))بِضَمِّ المُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ اللاَّمِ: الأَنْمُلَةِ أَوْ كُلِّ عَظْمٍ مُجَوَّفٍ، أَو المَفْصِلِ، أَوْ أُرِيدَ هُنَا جَمِيعُ مَفَاصِلِ الجَسَدِ، وهيَ ثلاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ، كَمَا في حديثِ مُسلِمٍ، ((مِنَ النَّاسِ))المُكَلَّفِينَ ((عَلَيْهِ)): ذَكَّرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلى أَنَّ السُّلاَمَى بِمَعْنَى المَفْصِلِ أَوِ العُضْوِ، ((صَدَقَةٌ))يَتَصَدَّقُ بِهَا شُكْرًا لِمَنْ أَعْطَاهُ هِذِهِ السُّلاَمَى، وَسَلَّمَهَا مِنَ العُيُوبِ والآفَاتِ وَالأَمرَاضِ.

((كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فيهِ الشَّمْسُ))وَذَكَرَ هذهِ الصِّفَةَ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنْ يُرادَ مِنَ اليومِ مُطْلَقُ الوَقْتِ، ((تَعْدِلُ))عَدْلُ الإِنسَانِ بينَ الاثْنَيْنِ بِالْحَقِّ ((صَدَقَةٌ))قائمةٌ مَقَامَ الصَّدَقَةِ، مُؤَدِّيَةٌ شُكْرَ المُنْعِمِ.
((وَتُعِينُ الرَّجُلَ))مَثَلاً ((في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيها صَدَقَةٌ أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْها مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ)).


((والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)) تَذْكُرُ اللهَ بِهَا أَوْ تَنْفَعُ بِهَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللهِ((صَدَقةٌ)).
((وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلى)) مَوَاضِعِ ((الصَّلاَةِ)) لَهَا ((صَدَقَةٌ))، وَكَذَلِكَ الخُطُواتُ إلى خَيْرٍ.
((وَتُمِيطُ)): تُزِيلُ , ((الأَذَى)): مَا يُؤْذِي المَارِّينَ، ((عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))
والمُؤْمِنُ الصَّادِقُ إذَا قَصَدَ هذهِ الصَّدَقَاتِ شُكْرًا لِمَنْ أَنْعَمَ عَليْهِ، تَتَيَسَّرُ لَهُ كُلَّ يومٍ بالسُّهُولَةِ غَالِبًا.

هيئة الإشراف

#4

13 Nov 2008

المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري

قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (

الحديثُ السادسُ وَالعشرونَ


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

مَوْضُوعُ الحديثِ:
حُقُوقُ الأعضاءِ وَالمَفَاصِلِ.
المُفْرَدَاتُ:
(كُلُّ سُلامَى): السُّلامَى: هيَ العُضْوُ مِن الإِنسانِ، وَقيلَ: الأُنْمُلَةُ مِنْ أَنَامِلِ الأصابعِ، ثمَّ اسْتُعْمِلَ في سائرِ البَدَنِ وَمَفَاصِلِهِ، وَعَدَدُ السُّلامَى في الجسدِ ثلاثُمِائةٍ وَسِتُّونَ كما في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها عندَ مُسْلِمٍ:((خُلِقَ ابْنُ آدَمَ عَلَى ثَلاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلاً...)).
وَقَد اكْتَشَفَ الطِّبُّ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ عَظْماً، وَالباقِيَةُ صِغَارٌ اسْمُهَا السِّمْسِمَانِيَّةُ.
(مِن الناسِ عَلَيْهِ صدقةٌ كُلَّ يومٍ تَطْلُعُ فيهِ الشمسُ): (النَّاسُ): هُم البَشَرُ، وَسُمُّوا نَاساً مِن الإِينَاسِ أَوِ النِّسْيَانِ أَوِ الحركةِ أَوِ الظهورِ.
وَ(صَدَقَةٌ)؛ أيْ: أَجْرٌ يُطَالَبُ بهِ الإِنسانُ اسْتِحْبَاباً وَتَرْغِيباً، فهوَ مُطَالَبٌ بِثلاثِمِائةٍ وَستِّينَ حَسَنَةً كلَّ يومٍ عَنْ أعضائِهِ وَمفاصلِهِ، وَيَسْتَطِيعُ أنْ يُؤَدِّيَ هذا الدَّيْنَ المذكورَ في الحديثِ مِن التسبيحِ وَالتهليلِ وَالكلمةِ الطَّيِّبَةِ وَالخُطُواتِ إِلى المسجدِ. وَفي روايَةٍ:((رَكْعَتَا الضُّحَى))، وَهذا نَفْعٌ لازمٌ، وإِمَاطَةُ الأَذَى وَالإِصلاحُ وَالأمرُ بالمعروفِ وَالنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ، وَهذا نَفْعٌ مُتَعَدٍّ.


(يَوْمٍ)؛أيْ: نَهَارٍ لِذِكْرِ الشمسِ، وَ(الشَّمْسُ): هيَ الكَوْكَبُ المُنِيرُ الذي يُحَدِّدُ بدايَةَ النهارِ وَنهايتَهُ، وَيُحَدِّدُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَهيَ تَجْرِي، حتَّى قَالَ ابْنُ القَيِّمِ:( إِنَّ مَا بَيْنَ لا وَنَعَمْ تَقْطَعُ مسيرةَ خَمْسِمائةِ سَنَةٍ، وَقالُوا: إنَّها تَبْعُدُ عَن الأرضِ ثلاثةً وَتسعينَ مليونَ مِيلٍ، وَقِيلَ بأنَّها أَكْبَرُ مِن الأرضِ مائةً وَسِتِّينَ مَرَّةً، وَلها رِحْلَتَانِ: رِحْلَةٌ في الصيفِ يَتَكَوَّنُ منها فَصْلا الربيعِ وَالصيفِ، وَرِحْلَةٌ في الشتاءِ يَتَكَوَّنُ منها فَصْلا الخريفِ وَالشتاءِ، وَمَنَافِعُهَا لا تُحْصَى، وَالإِنسانُ وَالحيوانُ وَالنباتُ وَكلُّ شيءٍ في حاجةٍ إِلى أَشِعَّتِهَا، وَلوْ كانت الأشعَّةُ تُبَاعُ ما اسْتَطَعْنَا شِرَاءَهَا.
(تَعْدِلُ بينَ اثْنَيْنِ): وَهذا مِن المعروفِ بينَ المُتَخَاصِمَيْنِ المُتَهَاجِرَيْنِ؛ أيْ: تُصْلِحُ بينَهُمَا بالعدلِ، وَتُنْهِي النِّزَاعَ، وَهوَ مَأْمُورٌ بهِ شَرْعاً، قَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ...} الآيَةَ [النساء: 144].
وَقالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
وَقالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...} [الحجرات 9]. وَأَجَازَ الكَذِبَ في الإِصلاحِ لأَهَمِّيَّتِهِ، وَحَرَّمَ النميمةَ لِمَا فيها مِن الإِفسادِ بينَ الناسِ.


(وَتُعِينُ الرجلَ في دابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عليها أَوْ تَرْفَعُ عليها مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ): هذا هوَ فِعْلُ المعروفِ في الضعفاءِ وَالمساكِينِ.
وَالضَّعِيفُ: هوَ الذي هَزَلَ جِسْمُهُ وَلم يَسْتَطِع الركوبَ فَتَحْمِلُهُ على الدابَّةِ، أَوْ تُمْسِكُهَا لهُ، أَوْ تَرْفَعُ المتاعَ لهُ، فَتُؤْجَرُ على هذا العملِ النبيلِ. وَهذا مِن الإِحسانِ، وَيَدْخُلُ فيهِ اليومَ الإِرْكَابُ في السيَّارَةِ، وَبَذْلُ النُّصْحِ لهُ، وَدلالَتُهُ على الحقِّ. وَهذا يَدُلُّ على الرحمةِ وَالشَّفَقَةِ وَالإِحسانِ. وَزكاةُ القُوَّةِ في البَدَنِ بالبَذْلِ للضعفاءِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ.
(والكلمةُ الطيِّبَةُ صدقةٌ): الكلامُ أربعةُ أقسامٍ:
1 - خَيْرٌ مَحْضٌ.2 -شَرٌّ مَحْضٌ.3 - شَرٌّ وَخَيْرٌ. 4 -لا خَيْرٌ وَلا شَرٌّ، بلْ لَغْوٌ.
وأَرْبَحُهُ هوَ الكلامُ الطَّيِّبُ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ قرآنٍ أَوْ معروفٍ أَوْ دعوةٍ وَنَحْوِهَا، وَيَدْخُلُ في ذلكَ الكلامُ الذي بهِ تُدْخِلُ السرورَ على إِخوانِكَ؛ لأنَّهُ مِن الطَّيِّبِ.


وَهذا مِنْ حُقُوقِ النفسِ وَحقوقِ الغيرِ، فَحَقُّ النفسِ القرآنُ وَالذِّكْرُ، وَحقُّ الغيرِ الدعوةُ وَالأمرُ بالمعروفِ وَالنهيُ عَن المُنْكَرِ. وَبالكلمةِ الطيِّبَةِ يَحْصُلُ الإِيمانُ وَالرِّضْوَانُ وَالنجاةُ وَالإِسلامُ وَأبوابُ الخيرِ وَحِفْظُ الجوارحِ وَاسْتِقَامَتُهَا.

(وبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا إِلى المسجدِ صدقةٌ): (الخَطْوَةُ):المَرَّةُ مِن المَشْيِ،وَالمَقْصُودُ الخُطَى للصلاةِ وَالعبادةِ.


وَالخَطْوَةُ: ما بينَ القَدَمَيْنِ.وَمِن السُّنَّةِ الخُرُوجُ إِلى المسجدِ بِخُطًى مُتَقَارِبَةٍ، وَفيهِ فَضْلُ المَشْيِ إِلى أَمَاكِنِ الطاعةِ وَرِبْحُهَا، وَهذهِ مِنْ حقوقِ النفسِ وَالمساجدِ، وَفي الحديثِ: ((دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ...))الحديثَ.
(وَتُمِيطُ الأَذَى عَن الطريقِ صَدَقَةٌ): وَهذا مِنْ حقوقِ الطريقِ، وَمنها غَضُّ البصرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السلامِ، وَالأمرُ بالمعروفِ، وَالنهيُ عَن المُنْكَرِ.
وَالإِماطةُ: هيَ الإِزالةُ.
وَ(الأَذَى) يَشْمَلُ كُلَّ أَذًى مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ شَوْكٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَفي الحديثِ:((أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ مَنَعَهُ مِنَ الطَّرِيقِ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ...)). وَالمسلمُ يُزِيلُ الأَذَى وَلا يُوقِعُ الأَذَى بِغَيْرِهِ، فهذا الإِسلامُ، وَهوَ أنْ يَسْلَمَ المسلمونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.


الفوائدُ:

1-وُجُوبُ شُكْرِ اللَّهِ على نِعَمِهِ.


2-تَرْكِيبُ البَدَنِ على (360) مَفْصِلاً وَعَظْماً.
3-أنَّ لِكُلِّ عَظْمٍ وَمَفْصِلٍ صَدَقَةً كلَّ يَوْمٍ.
4-وُجُوبُ أداءِ حقوقِ السُّلامَى.
5-حِفْظُ البدنِ بالأعمالِ الصالحةِ.
6-تَجَدُّدُ الأعمالِ الصالحةِ كلَّ يومٍ.
7-فَضْلُ الإِصلاحِ بينَ الناسِ.
8-ذَمُّ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ.
9-زَكَاةُ القُوَّةِ وَالنَّشَاطِ بِمُسَاعَدَةِ الضُّعَفَاءِ.
10-الحَثُّ على التَّرَاحُمِ بينَ الناسِ.
11-تَوْقِيرُ الكَبِيرِ.
12-رَحْمَةُ الضَّعِيفِ.
13-الحَثُّ على الكلامِ الطَّيِّبِ.
14-مَشْرُوعِيَّةُ إِدْخَالِ السرورِ على المُسْلِمِ.
15-فَضْلُ الصلاةِ جماعةً.
16-كَثْرَةُ ثَمَرَاتِ الصلاةِ.
17-العبادةُ حِفْظٌ لأَهْلِهَا.
18-حِفْظُ حقوقِ الطريقِ.
19-فَضْلُ إِمَاطَةِ الأَذَى عَن الطريقِ.
20-أنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلاً مُسْتَقِلاًّ.
21-كَثْرَةُ طُرُقِ الخَيْرِ.

هيئة الإشراف

#5

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح


قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (

(1)مَنْزِلَةُ الحديثِ:

ممَّا دَعَا لهُ الدِّينُ جَمْعُ الكلمةِ والقلوبِ وائْتِلافُهَا على الحقِّ والمحبَّةِ. فهذا الحديثُ تَكْمُنُ منزلتُهُ وأهَمِّيَّتُهُ بدعوتِهِ إلى أسبابِ الائتلافِ والمحبَّةِ: مِنْ عَدْلٍ وإصلاحٍ بينَ المُتَخَاصِمِينَ، وتعاونٍ على أُمُورِ الدِّينِ والدُّنيا، وحفظِ اللسانِ إلاَّ مِنْ طَيِّبِ الكلامِ، وإزالةِ الأذى عنْ طريقِ المسلمينَ.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}:


قولُهُ: (كُلُّ سُلاَمَى)، مُفْرَدُ سُلاَمِيـَّاتٍ، والمرادُ بها هنا جميعُ عظامِ ابنِ آدمَ الَّتي يَتَرَكَّبُ منها.

وتَركيبُ جسمِ الإنسانِ مِنْ هذهِ السلاميَّاتِ مِنْ أعظمِ نِعَمِ اللهِ عليْهِ، كما أنَّهَا تَدُلُّ على قُدرةِ اللهِ وعظمتِهِ، الَّذِي خَلَقَ الإنسانَ على هذا النَّحوِ مِن التَّناسُقِ وجمالِ الْمَنْظَرِ ومُرُونَةِ الحركةِ. ولا يَعرفُ قيمةَ هذهِ النِّعمةِ وفضلَهَا إلاَّ مَنْ فَقَدَهَا.
شُكْرُ اللهِ على نِعَمِهِ:
خَلْقُ الإنسانِ وتركيبُ عظامِهِ على هذا النَّحوِ مِنْ أعظمِ نِعَمِ اللهِ على ابنِ آدمَ، فيَحتاجُ كلُّ عَظْمٍ منها إلى شُكْرٍ.
ولقدْ ذكَّرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بهذهِ النِّعْمَةِ في أكثرَ مِنْ موضعٍ في كتابِهِ، قالَ تَعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}، وقالَ: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقالَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}.
الشُّكرُ ضَرْبانِ:
أَمَرَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بشُكْرِ نِعَمِهِ، قالَ تَعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ}، وقالَ: {وَاشْكُرُوا لَهُ}، وقالَ: {وَاشْكُرُوا للهِ}.


وشُكْرُ اللهِ ضَرْبَانِ:
1-شُكْرٌ واجبٌ مَنْ لمْ يَقُمْ بهِ يَأْثَمْ: وهوَ أنْ يقومَ بجميعِ الواجباتِ القوليَّةِ والفعليَّةِ والماليَّةِ، وأنْ يَتْرُكَ جميعَ ما حرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
فمَنْ قامَ بذلكَ فقدْ شكرَ اللهَ عزَّ وجلَّ على نعمةِ الصِّحَّةِ والخَلْقِ والمَفَاصِلِ والأعضاءِ، وغيرِهَا مِن النِّعمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)).
فمَنْ ترَكَ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الحرامِ وتَرْكِ الفرائضِ فقدْ شَكَرَ.


قالَ بعضُ السَّلفِ: الشُّكرُ تَرْكُ المعاصِي.

2-شُكْرٌ مُسْتَحَبٌّ: وهوَ أن يقومَ العبدُ بأكثرَ ممَّا أَوْجَبَ اللهُ عليهِ، فيَتصدَّقَ صدقةً نافلةً، ويَحْرِصَ على سُننِ الصَّلاةِ الرَّواتبِ، ويُتابعَ بينَ الحجِّ والعمرةِ، ويَقومَ بما يَستطيعُ مِن النَّوافلِ الكثيرةِ الَّتي نصَّ عليها الشَّرعُ. وكانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القدوةَ في هذا الْمَيدانِ، وكذلكَ أصحابُهُ، فكانَ أحدُهُم يَجْمَعُ مِن النَّوافلِ في اليومِ ما يَعجِزُ عنهُ الكثيرُ، فيَصومُ ويَتصدَّقُ ويَتْبَعُ الجنازةَ ويعودُ الْمَرْضَى، كُلُّ هذا في يومٍ، كما ثَبَتَ عنْ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.


الإصلاحُ بينَ النَّاسِ:
قولُهُ عليهِ السَّلامُ: (تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ). هذهِ مِن الصـَّدقاتِ الَّتي لها فضلٌ عظيمٌ؛ لأنَّ خيرَهَا ونَفْعَهَا مُتَعَدٍّ للآخَرِينَ، وبها تَلْتَئِمُ جِراحاتُ المجتمَعِ حتَّى يكونَ المجتمَعُ كالجسدِ الواحدِ السَّليمِ.


وفي الحثِّ على مِثْلِ هذا العملِ وَرَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ لا بُدَّ مِنْ ذكرِهَا؛ لأنَّ البعضَ يُقَصِّرُ في جانبِ الإصلاحِ بينَ المسلمينَ عندَ الْخِصامِ والشِّجارِ.

-قالَ تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.


دلَّت الآيَةُ أنَّهُ لا خَيْرَ في كثيرٍ ممَّا يتناجَى بهِ النَّاسُ إلاَّ نَجْوَى مَنْ أمَرَ بالصَّدقةِ أوْ أَمَرَ بالمعروفِ، أوْ قامَ بالإصلاحِ بينَ النَّاسِ في الأمورِ الَّتي يقعُ فيها الخلافُ والتَّداعي. ومَنْ قامَ بذلكَ قاصدًا وَجْهَ اللهِ وعَدَهُ اللهُ بالأجرِ العظيمِ.
فالقيامُ بالإصلاحِ بينَ العبادِ قُرْبَةٌ يتقرَّبُ بها المتَّقُونَ، فأينَ الحريصونَ على كَسْبِ الثَّوابِ والأجرِ؟


-قالَ تَعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
دلَّت الآيَةُ على أنَّ الصُّلحَ بينَ الزَّوجَيْنِ خيرٌ مِن الفراقِ؛ لأنَّ الفراقَ يَترتَّبُ عليهِ مَضارُّ كثيرةٌ؛ لذلكَ فيَجوزُ للزَّوجةِ أنْ تُسْقِطَ حقَّها أوْ بعضًا منهُ مِنْ نَفقةٍ وغيرِهَا مِن الحقوقِ إذا خافَتْ نُفُورَ زوجِهَا منها وإعراضَهُ عنها، ولهُ أنْ يَقبَلَ ذلكَ.
-قالَ تَعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.
دلَّت الآيَةُ على الأمرِ بالإصلاحِ، ونَهَتْ عن التَّظالُمِ والتَّخاصُمِ والشِّجارِ.
-وقالَ تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} إلى أنْ قالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}.
الآيَةُ تَنُصُّ على الأمرِ بالإصلاحِ بينَ المسلمينَ عندَ النِّزاعِ والاقتتالِ.
- وعنْ أبي بَكْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ خَطَبَ يومًا، ومَعَهُ على الْمِنْبَرِ الحسنُ بنُ عَلِيٍّ، فجَعَلَ يَنْظُرُ إليهِ مَرَّةً وإلى النَّاسِ أُخْرَى ويَقولُ:((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). وحدَثَ ما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَصْلَحَ اللهُ بهِ بينَ أهلِ العراقِ والشَّامِ بعدَ حُروبٍ طويلةٍ.


وفي هذا إشارةٌ عظيمةٌ للحثِّ على الإصلاحِ بينَ المسلمينَ، وإنْ تَنَازَلَ الإنسانُ عنْ بعضِ حُقُوقِهِ؛ لذلكَ أَثْنَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحسنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

-عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: سَمِعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بالبابِ، عاليَةٍ أصواتُهُم، وإذا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيْءٍ وهوَ يقولُ: واللهِ لا أَفْعَلُ. فخرجَ عليهما رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟))فقالَ: أنَا يا رسولَ اللهِ، وَلَهُ أيُّ ذلكَ أحَبَّ.


فالشَّاهِدُ في هذا الحديثِ خُرُوجُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للإصلاحِ بينَهما، وفِعْلُهُ يدلُّ على الاستحبابِ.
قالَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ في صحيحِهِ: بابُ قولِ الإمامِ لأصحابِهِ: اذهبُوا بنا نُصْلِحْ، ثمَّ ساقَ الرِّوايَةَ الآتيَةَ: عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أَهْلَ قُباءَ اقْتَتَلُوا حتَّى تَرَامَوْا بالحجارةِ، فَأُخْبِرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلكَ، فقالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحْ بَيْنَهُمْ)).


-عنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيُنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)).
وفي روايَةِ مسلمٍ زيادةٌ قَالَتْ: (ولمْ أسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شيءٍ مِمَّا يقولُهُ النَّاسُ إلاَّ في ثَلاثٍ)، تعني: الحربَ والإصلاحَ بينَ النَّاسِ وحديثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وحديثَ المرأةِ زَوْجَهَا.
دلَّ الحديثُ على مشروعيَّةِ الإصلاحِ بينَ النَّاسِ، كما دلَّ على جوازِ الكذبِ بِقَصْدِ الإصلاحِ.


قالَ القرطبِيُّ:(ذَهَبَ طائفةٌ إلى جوازِ الكذبِ لقَصْدِ الإصلاحِ، وقالُوا: الكذبُ المذمومُ إنَّما هوَ فيما فيهِ مَضَرَّةٌ، أوْ ما ليسَ فيهِ مَصْلَحَةٌ).

وقالَ البخاريُّ في(صحيحِهِ):(بابُ ليسَ الكاذبُ الَّذي يُصْلِحُ بينَ النَّاسِ).
التَّعَاوُنُ:
قولُهُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ). هذهِ مِن الصـَّدقاتِ الَّتي شُرِعَتْ لشُكْرِ نِعمةِ السُّلاَمَى، فإعانةُ المسلمِ على رُكوبِ دَابَّتِهِ، وإعانتُهُ على حَمْلِ مَتاعِهِ عليها مِن الصَّدقاتِ. وهكذا يُؤْجَرُ المسلمُ على كلِّ ما يَقومُ بهِ في مَيدانِ إعانةِ إخوانِهِ المسلمينَ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمَرَنَا بالتَّعاوُنِ، قالَ تعالى:


{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.

ومعلومٌ أنَّ التَّعاونَ يَقْضِي على الْمَشَاقِّ والصِّعابِ، والإنسانُ لا يَستطيعُ أنْ يقومَ بكلِّ شُئُونِهِ دونَ إعانةٍ مِنْ إخوانِهِ. والتَّعاونُ يُؤَدِّي إلى انتشارِ الْمَحَبَّةِ بينَ المسلمينَ، والمحبَّةُ مِمَّا أمرَنَا اللهُ بها.
طِيبُ الكلامِ:


قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)، يَدْخُلُ فيها: رَدُّ السَّلامِ، وذِكْرُ اللهِ، وقولُ كلمةِ الحقِّ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن الْمُنْكَرِ، والشَّفاعةُ لأصحابِ الحاجاتِ عندَ الحُكَّامِ، والنُّصحُ والإرشادُ، وكلُّ ما يُفْرِحُ النَّاسَ، ويُؤَلِّفُ القُلوبَ على الخيرِ والرَّشادِ.

-ففي ردِّ السَّائلِ بكلمةٍ طَيِّبَةٍ، قالَ تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}.


-وفي ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
-وفي قَضاءِ حاجاتِ النَّاسِ، قالَ تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}.
-وفي دعوةِ النَّاسِ إلى اللهِ، قالَ تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
إلى غيرِهَا مِن النُّصوصِ الكثيرةِ الَّتي تدعو إلى طِيبِ الكلامِ واستقامةِ اللسانِ وَفْقَ الحقِّ والعدلِ والصَّوابِ.
فضلُ المشيِ إلى الصَّلاةِ:


قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ).

في الحديثِ الحثُّ والتَّرغيبُ على حضورِ بيوتِ اللهِ للجُمَعِ والجماعاتِ ودُرُوسِ العلْمِ والوعظِ والاعتكافِ. ومن الأحاديثِ الَّتي تُرَغِّبُ في ذلكَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ)).
والغـُدُوُّ: الذَّهابُ أوَّلَ النَّهارِ، والرَّواحُ: الذَّهابُ آخِرَ النَّهارِ، والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ للضَّيفِ.
وكذلكَ عنْ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: خَلَت الْبِقَاعُ حولَ المسجدِ، فأرادَ بنو سَلِمَةَ أنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ المسجدِ، فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ:((إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ؟)) قالُوا: نَعَمْ يا رسولَ اللهِ، فقدْ أَرَدْنَا ذلكَ، فقالَ: ((يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ))، فقالُوا: ما كانَ يَسُرُّنَا أنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا.
وكُلَّمَا زادَت الْمَشقَّةُ زادَ الأَجْرُ والثَّوابُ.
إماطةُ الأَذَى عن الطَّريقِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ).
إزالةُ كلِّ ما يُؤْذِي مِنْ شَوْكٍ ونَجاسةٍ وغيرِهَا عنْ طريقِ المسلمينَ صَدَقَةٌ وبُرهانٌ على شُكْرِ نِعَمِ اللهِ، وهذهِ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ.
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)).
فوائدُ مِن الحديثِ:
1-في الحديثِ الحثُّ على نظافةِ الْمَرَافِقِ العامَّةِ. ولوْ تَقيَّدَ المسلمونَ بهذا الْهَدْيِ النَّبويِّ لأَصْبَحَتْ بلادُهُم مِنْ أَنْظَفِ بلادِ العالمِ، ولكنْ للأسَفِ نَرى تَقيُّدَ الكفَّارِ، وخاصَّةً الأُورُبِّيِّينَ والأمريكانَ بهذا، ويُهْمِلُ المسلمونَ هذا الجانبَ مِنْ دِينِهِم.


2- في الحديثِ الحثُّ على العَدْلِ؛ لأنَّ بهِ قامَت السَّماواتُ والأرضُ.
3-اسمُ الصَّدقةِ يُطلَقُ على كلِّ نوعٍ مِن المعروفِ.
4-في الحديثِ الحثُّ والتَّرغيبُ على فعلِ النَّوافلِ؛ لأنَّها سببُ مَحَبَّةِ اللهِ والقُرْبِ منهُ.

هيئة الإشراف

#6

13 Nov 2008

جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي


قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (

(1) هذا الحديثُ خَرَّجَاهُ مِنْ روايَةِ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبي هُريرةَ.
- وخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ روايَةِ أبي صالحٍ عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الإِنْسَانُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ عَظْمًا، أَوْ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ سُلامَى، عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟
قالَ:((يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قالَ:((يَرْفَعُ عَظْمًا عَنِ الطَّرِيقِ)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قالَ:((فَلْيُعِنْ ضَعِيفًا)).
قالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ؟
قالَ:((فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)).

- وخَرَّجَ مُسلمٌ مِنْ حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خُلِقَ ابْنُ آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهلَّلَ اللَّهَ، وَسَبَّحَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَزَلَ شَوْكَةً، أَوْ عَزَلَ عَظْمًا، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِ مِائَةِ السُلامَى أَمْسَى مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ)).

_ وخَرَّجَ مُسلمٌ أيضًا مِنْ روايَةِ أبي الأسودِ الدِّيلِيِّ، عنْ أبي ذَرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)).
_ وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((فِي الإِنْسَانِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلاً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ))
قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟


قالَ: ((النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ)).

_ وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ)).


قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟


قالَ:((فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ)).


قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قالَ:((يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ)).
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قالَ: ((فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ، أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ))
قالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قالَ:((فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)).
_ وخَرَّجَ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ مَنْسِمٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ)).


فقالَ رجلٌ مِن القومِ: وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا؟
قالَ:((أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الضَّعِيفِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ)). وخَرَّجَهُ البَزَّارُ وغَيْرُهُ.


_ وفي روايَةٍ: ((عَلَى كُلِّ مِيسَمٍ مِنَ الإِنْسَانِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ صَلاةٌ)).

فقالَ رجُلٌ: هَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَتَيْتَنَا بِهِ.
فَقالَ: ((إِنَّ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ صَلاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَمْلَكَ عَنِ الضَّعِيفِ صَلاةٌ، وَإِنْحَاءَكَ الْقَذَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَلاةٌ، وَكُلَّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَلاةٌ)).
_ وفي روايَةِ الْبَزَّارِ: ((وَإِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، أوْ قالَ: ((صَلاةٌ)).


_ وقالَ بعضُهم: (يُريدُ بالْمِيسَمِ كُلَّ عُضْوٍ على حِدَةٍ، مَأْخُوذٌ مِن الوَسْمِ، وهوَ العَلامةُ؛ إذْ ما مِنْ عَظْمٍ ولا عِرْقٍ ولا عَصَبٍ إلا وعليهِ أثَرُ صُنْعِ اللَّهِ، فيَجِبُ على العبدِ الشُّكْرُ على ذلكَ للَّهِ، والحمدُ لهُ على خَلْقِهِ سَوِيًّا صحيحًا، وهذا هوَ المرادُ بقولِهِ: ((عَلَيْهِ صَلاةٌ كُلَّ يَوْمٍ))؛ لأنَّ الصلاةَ تَحْتَوِي على الحمْدِ والشكْرِ والثناءِ).
_ وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عن ابنِ عبَّاسٍ، رَفَعَ الحديثَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ سُلامَى، أَوْ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى)).


_ ويُرْوَى مِنْ حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ)).
قيلَ: فَإِنْ كَانَ لا يَجِدُ شَيْئًا؟
قالَ: ((أَلَيْسَ بَصِيرًا شَهْمًا فَصِيحًا صَحِيحًا؟))


قالَ: بلى،.

قالَ: ((يُعْطِي مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِنَّ بَصَرَكَ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ سَمْعَكَ لِلْمَنْقُوصِ سَمْعُهُ صَدَقَةٌ)).
_ وقدْ ذَكَرْنا في شَرْحِ الحديثِ الماضي-حديثَ أَبِي ذَرٍّ- الذي خَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ)، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ)).


قيلَ: يا رسولَ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟
قالَ: ((إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأَذْى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).


فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)).
_ قالَ أبو عُبَيْدٍ: (السُّلامَى في الأَصْلِ عَظْمٌ يكونُ في فِرْسِنِ البعيرِ قالَ: فكأنَّ معنى الحديثِ: على كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِ ابنِ آدَمَ صَدَقَةٌ) يُشيرُ أبو عُبَيْدٍ إلى أنَّ السُّلامَى اسمٌ لبَعْضِ العِظامِ الصِّغارِ التي في الإِبِلِ، ثمَّ عَبَّرَ بها عن العِظامِ في الجُمْلَةِ بالنِّسْبَةِ إلى الآدَمِيِّ وغيرِهِ.
فمعنى الحديثِ عندَهُ: (على كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِ ابنِ آدَمَ صَدَقَةٌ).
_ وقالَ غيرُهُ: (السُّلامَى: عَظْمٌ في طَرَفِ اليدِ والرِّجْلِ، وكَنَّى بذلكَ عنْ جَميعِ عِظامِ الْجَسَدِ، والسُّلامَى جَمْعٌ، وقيلَ: هُوَ مُفْرَد)ٌ.


_ وقدْ ذَكَرَ عُلماءُ الطِّبِّ أنَّ جميعَ عِظامِ البَدَنِ مِائَتَانِ وثَمَانِيَةٌ وأربعونَ عَظْمًا، سِوَى السِّمْسِمَانِيَّات.ِ

_ وبعضُهم يقولُ: (هيَ ثَلاثُ مِائَةٍ وسِتُّونَ عَظْمًا، يَظْهَرُ منها للحِسِّ مِائَتَانِ وخَمسةٌ وسِتُّونَ عَظْمًا، والباقيَةُ صِغارٌ لا تَظْهَرُ تُسَمَّى السِّمْسِمَانِيَّةَ).
وهذهِ الأحاديثُ تُصَدِّقُ هذا القولَ.
ولعلَّ السُّلامَى عَبَّرَ بها عنْ هذهِ العِظامِ الصِّغارِ، كما أنَّها في الأَصْلِ اسمٌ لأصْغَرِ ما في البعيرِ مِن العِظامِ.
_ وروايَةُ الْبَزَّارِ لحديثِ أبي هُريرةَ يَشْهَدُ لهذا؛ حيثُ قالَ فيها: ((أَوْ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ سُلامَى)).
_ وقدْ خَرَّجَهُ غيرُ الْبَزَّارِ، وقالَ فيهِ: ((إِنَّ فِي ابْنِ آدَمَ سِتَّمِائَةٍ وَسِتِّينَ عَظْمًا)). وهذهِ الروايَةُ غَلَطٌ.
_ وفي حديثِ عائشةَ وبُرَيْدَةَ ذَكَرَ ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ مَفْصِلاً.
ومعنى الحديثِ: أنَّ تَرْكِيبَ هذهِ العِظامِ وسَلامَتَها مِنْ أَعْظَم نِعَمِ اللَّهِ على عَبْدِهِ، فَيَحْتَاجُ كُلُّ عَظْمٍ منها إلى صَدَقَةٍ يَتَصَدَّقُ ابنُ آدَمَ عنهُ؛ لِيَكُونَ ذلكَ شُكْرًا لهذهِ النِّعمةِ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8].


وقالَ عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المُلْك: 23].
وقالَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].


وقالَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9].

_ قالَ مُجَاهِدٌ: (هذهِ نِعَمٌ مِن اللَّهِ مُتظاهِرَةٌ يُقَرِّرُكَ بها كَيْمَا تَشْكُرَ).
_ وقَرَأَ الفُضيلُ ليلةً هذهِ الآيَةَ فبَكَى، فسُئِلَ عنْ بُكَائِهِ، فقالَ: (هلْ بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّهِ أنْ جَعَلَ لكَ عَينَيْنِ تُبْصِرُ بهما؟ هلْ بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّهِ أنْ جَعَلَ لكَ لسانًا تَنْطِقُ بهِ؟)وجَعَلَ يُعَدِّدُ مِنْ هذا الضَّرْبِ.


_ وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ، عنْ سَلمانَ الفارسيِّ قالَ: (إنَّ رجُلاً بُسِطَ لهُ مِن الدُّنيا، فَانْتُزِعَ ما في يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُثْنِي علَيْهِ، حتَّى لمْ يَكُنْ لهُ فِراشٌ إلا بُورِيٌّ، فجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عليهِ، وبُسِطَ لِلآخَرِ مِن الدُّنيا، فقالَ لصاحبِ البُورِيِّ: أَرَأَيْتَكَ أنتَ على ما تَحْمَدُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى ما لَوْ أُعْطِيتُ بهِ ما أُعْطِيَ الْخَلْقُ لمْ أُعْطِهِمْ إيَّاهُ، قالَ: وما ذَاكَ؟ قالَ: أَرَأَيْتَ بَصَرَكَ؟ أَرَأَيْتَ لسانَكَ؟ أَرَأَيْتَ يَدَيْكَ؟ أَرَأَيْتَ رِجْلَيْكَ؟)
وبإسنادِهِ، عنْ أبي الدرداءِ أنَّهُ كانَ يقولُ: (الصِّحَّةُ غِنَى الْجَسَدِ).


_ وعنْ يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ، أنَّ رجلاً شَكَا إليهِ ضِيقَ حالِهِ، فقالَ لهُ يُونسُ: (أَيَسُرُّكَ أنَّ لكَ ببَصَرِكَ هذا الذي تُبْصِرُ بهِ مِائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ؟

قالَ الرجُلُ: لا.
قالَ: فَبِيَدِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِرهمٍ؟
قالَ: لا.
قالَ: فَبِرِجْلَيْكَ؟
قالَ: لا.
قالَ: فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللَّهِ عليهِ.
فقالَ يُونسُ: (أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ أُلُوفٍ، وأنتَ تَشْكُو الحاجةَ).
_ وعنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ: (مكتوبٌ في حِكْمَةِ آلِ داوُدَ: العافيَةُ الْمُلْكُ الْخَفِيُّ).


_ وعنْ بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ قالَ: (يا ابْنَ آدَمَ، إنْ أَرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ قَدْرَ ما أَنْعَمَ اللَّهُ علَيْكَ فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ).
_ وفي بعضِ الآثارِ: (كَمْ مِنْ نِعمَةٍ للَّهِ في عِرْقٍ سَاكِن)ٍ.


_ وفي (صحيحِ البخاريِّ): عن ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)).

فهذهِ النِّعَمُ مِمَّا يُسْأَلُ الإِنسانُ عنْ شُكْرِها يومَ القِيامةِ ويُطالَبُ بهِ، كما قالَ تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التَّكَاثُر: 8].
_ وخَرَّجَ التِّرمذيُّوابنُ حِبَّانَ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ نَصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنَرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟!)).
_ وقالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (النعيمُ الأَمْنُ والصِّحَّةُ). ورُوِيَ عنهُ مَرفوعًا.
_ وقالَ عَلِيُّ بنُ أبي طَلْحَةَ: عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِهِ: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر: 8]، قالَ: (النَّعِيمُ: صِحَّةُ الأبدانِ والأسماعِ والأبصارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ العِبادَ: فيما استَعْمَلُوها؟ وهوَ أَعلمُ بذلكَ منهم، وهوَ قولُهُ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإِسراء: 36]).
_ وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ روايَةِ أيُّوبَ بنِ عُتْبَةَ -وفيهِ ضَعْفٌ- عنْ عَطاءٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ)).
فَقالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلِكُ بَعدَ هَذَا يَا رَسولَ اللَّهِ؟
قالَ:((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ، لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لأََثْقَلَهُ، فَتَقُومُ النِّعْمَةُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَتَكَادُ أَنْ تَسْتَنْفِدَ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلا أَنْ يَتَطَاوَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)).
_ وروى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ أيضًا، عنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُؤْتَى بِالنِّعَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ: خُذِي حَقَّكِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَمَا تَتْرُكُ لَهُ حَسَنَةً إِلا ذَهَبَتْ بِهَا)). وبإسنادِهِ، عنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ:عَبَدَ اللَّهَ عابدٌ خَمسينَ عامًا، فأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلَيْهِ: إِنِّي قدْ غَفَرْتُ لكَ، قالَ: يا رَبِّ، ومَا تَغْفِرُ لي ولمْ أُذْنِبْ؟ فأَذِنَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ لِعِرْقٍ في عُنُقِهِ فَضَرَبَ عليهِ، فلمْ يَنَمْ، ولمْ يُصَلِّ، ثمَّ سَكَنَ وَقَامَ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ، فشَكَا إليهِ ما لَقِيَ مِنْ ضَرَبَانِ العِرْقِ، فقالَ الْمَلَكُ: إِنَّ رَبَّكَ عزَّ وجلَّ يقُولُ: عِبادَتُكَ خَمسينَ سنةً تَعْدِلُ سُكُونَ ذا العِرْقِ.


وخَرَّجَ الحاكمُ هذا المعنى مَرفوعًا مِنْ روايَةِ سُليمانَ بنِ هَرِمٍ القُرَشِيِّ، عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عنْ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قالَ: فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا، وَنَجِدُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ، بِعَمَلِي، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَيَجِدُونَ نِعْمَةَ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعَمُ الْجَسَدِ لَهُ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِيَ النَّارَ. فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيُنَادِي رَبَّهُ: بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، بِرَحْمَتِكَ. فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. قالَ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا الأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ)).وسُليمانُ بنُ هَرِمٍ، قالَ العُقَيْلِيُّ: هوَ مجهولٌ، وحديثُهُ غيرُ مَحفوظٍ.
وروى الخَرَائِطِيُّ بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو مَرفوعًا: ((يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: انْظُرُوا فِي عَمَلِ عَبْدِي وَنِعْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ: وَلا بِقَدْرِ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِعَمِكَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا فِي عَمَلِهِ سَيِّئِهِ وَصَالِحِهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَجِدُونَ كَفَافًا، فَيَقُولُ: عَبْدِي، قَدْ قَبِلْتُ حَسَنَاتِكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ سَيِّئَاتِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ نِعْمَتِي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ)).


والمقصودُ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَنْعَمَ على عِبادِهِ بما لا يُحْصُونَهُ، كما قالَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: 34]، وطَلَبَ مِنهم الشُّكْرَ، ورَضِيَ بهِ منهم. قالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ على العِبادِ على قَدْرِهِ، وكَلَّفَهم الشكْرَ على قَدْرِهم، حتَّى رَضِيَ منهم مِن الشُّكرِ بالاعترافِ بِقُلُوبِهم بنِعَمِهِ، وبالحمدِ بأَلْسِنَتِهم عليها، كما خَرَّجَهُ أبو داوُدَ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ غَنَّامٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِيَ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ)). وفي روايَةٍ للنَّسائيِّ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ.
وخَرَّجَ الحاكِمُ مِنْ حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْكُرَهَا، وَمَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَنَدِمَ عَلَيْهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَغْفِرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ)).
قالَ أبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: قالَ موسى عليهِ السلامُ يومَ الطُّورِ: يا رَبِّ، إنْ أنا صَلَّيْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ أنا تَصَدَّقْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ أنا بَلَّغْتُ رِسالَتَكَ فَمِنْ قِبَلِكَ، فَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قالَ: الآنَ شَكَرْتَنِي.
وعن الْحَسَنِ قالَ: قالَ موسى عليهِ السَّلامُ: يا ربِّ، كيفَ يَستطيعُ آدمُ أنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ ما صَنَعْتَ إليهِ؟ خَلَقْتَهُ بيَدِكَ، ونَفَخْتَ فيهِ مِنْ رُوحِكَ، وأَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ، وأَمَرْتَ الملائكةَ فسَجَدُوا لهُ، فقالَ: يا مُوسَى، عَلِمَ أَنَّ ذلكَ مِنِّي، فحَمِدَنِي عليهِ، فكانَ ذلكَ شُكْرًا لِمَا صَنَعْتُهُ.
_ عنْ أبي الْجَلْدِ قَالَ: قَرَأْتُ في مسألةِ دَاوُدَ أنَّهُ قالَ: (أيْ رَبِّ، كيفَ لي أنْ أشْكُرَكَ وأنا لا أَصِلُ إلى شُكْرِكَ إلا بنِعْمَتِكَ؟


قالَ: فَأَتَاهُ الوحيُ: (أنْ يا دَاوُدُ، ألَيْسَ تَعْلَمُ أنَّ الذي بكَ مِن النِّعَمِ مِنِّي؟

قالَ: بلى يا ربِّ.
قالَ: فَإِنِّي أَرْضَى بذلكَ مِنْكَ شُكْرًا).
_ قالَ: (وقَرأتُ في مَسألةِ موسى: يا ربِّ، كيفَ لي أنْ أَشْكُرَكَ وأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَها عِنْدِي مِنْ نِعَمِكَ لا يُجَازِي بها عَمَلِي كُلُّهُ؟
قالَ: فَأَتَاهُ الوحيُ: أنْ يا موسى، الآنَ شَكَرْتَنِي.
_ وقالَ بكرُ بنُ عبدِ اللَّهِ: ما قالَ عَبْدٌ قَطُّ: الحمدُ للَّهِ مَرَّةً، إلا وَجَبَتْ عليهِ نِعمةٌ بقَوْلِهِ: الحمدُ للَّهِ، فما جَزاءُ تلكَ النِّعمةِ؟ جَزَاؤُها أنْ يقولَ: الحمدُ للَّهِ، فجَاءَتْ نِعمةٌ أُخْرَى، فلا تَنْفَدُ نَعْمَاءُ اللَّهِ.
_ وقدْ روى ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أَنَسٍ مَرفوعًا: ((مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ)).
ورُوِّينَا نحوَهُ مِنْ حديثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عنْ أسماءَ بنتِ يَزِيدَ مَرفوعًا أيضًا.


ورُوِيَ هذا عن الْحَسَنِ البَصْرِيِّ مِنْ قولِهِ.
وكَتَبَ بعضُ عُمَّالِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ إليهِ: إنِّي بأَرْضٍ قدْ كَثُرَتْ فيها النِّعَمُ، حتَّى لقَدْ أَشْفَقْتُ على أهلِها مِنْ ضَعْفِ الشُّكرِ. فكَتَبَ إليهِ عُمَرُ: (إنِّي قدْ كُنْتُ أراكَ أَعْلَمَ باللَّهِ مِمَّا أَنْتَ، إنَّ اللَّهَ لمْ يُنْعِمْ على عَبْدٍ نِعمةً، فحَمِدَ اللَّهَ علَيْها، إلا كانَ حَمْدُهُ أَفضلَ مِنْ نِعَمِهِ، لوْ كُنْتَ لا تَعرِفُ ذلكَ إلا في كتابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، قالَ اللَّهُ تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل: 15]،


وقالَ اللَّهُ: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} إلى قولِهِ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ}[الزُّمَر: 73]، وأيُّ نِعمةٍ أَفْضَلُ مِنْ دُخولِ الْجَنَّةِ؟)

وقدْ ذَكَرَ ابنُ أبي الدُّنيا في (كتابِ الشُّكْرِ)، عنْ بعضِ العُلماءِ أنَّهُ صَوَّبَ هذا القولَ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قالَ: إِنَّ الحمدَ أَفْضَلُ مِن النِّعَمِ. وعن ابنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ خَطَّأَ قَائِلَهُ، قالَ: ولا يَكُونُ فِعْلُ العبدِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ.
ولكنَّ الصوابَ قولُ مَنْ صَوَّبَهُ؛ فإنَّ الْمُرادَ بالنِّعَمِ: النِّعَمُ الدُّنيويَّةُ، كالعافيَةِ والرِّزقِ والصِّحَّةِ، ودَفْعِ المكروهِ، ونحوِ ذلكَ، والحمدُ هوَ مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ، وكِلاهُما نِعمةٌ مِن اللَّهِ، لَكِنَّ نِعمةَ اللَّهِ على عَبْدِهِ بِهِدَايَتِهِ لِشُكْرِ نِعَمِهِ بالحمدِ عليها أَفْضَلُ مِنْ نِعَمِهِ الدُّنيويَّةِ على عَبْدِهِ؛ فإنَّ النِّعَمَ الدُّنيويَّةَ إنْ لمْ يَقْتَرِنْ بها الشُّكْرُ كانتْ بَلِيَّةً، كما قالَ أبو حازمٍ: (كلُّ نِعمةٍ لا تُقَرِّبُ مِن اللَّهِ فهيَ بَلِيَّةٌ. فإذا وَفَّقَ اللَّهُ عَبْدَهُ للشُّكْرِ على نِعَمِهِ الدُّنيويَّةِ بالحمدِ أوْ غيرِهِ مِنْ أنواعِ الشكْرِ، كانتْ هذهِ النِّعمةُ خَيرًا مِنْ تلكَ النِّعَمِ وأَحَبَّ إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ منها؛ فإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَحَامِدَ، ويَرْضى عنْ عَبْدِهِ أنْ يَأْكُلَ الأُكْلَةَ فيَحْمَدَهُ عليها، ويَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فيَحْمَدَهُ عليها، والثناءُ بالنِّعَمِ والحمدُ عليها وشُكرُها عندَ أهلِ الْجُودِ والكَرَمِ أَحَبُّ إليهم مِنْ أموالِهم، فَهُم يَبْذُلُونَها طَلَبًا للثناءِ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ أَكْرَمُ الأَكرمينَ، وأَجْوَدُ الأَجودينَ، فهوَ يَبْذُلُ نِعَمَهُ لعبادِهِ، ويَطْلُبُ منهم الثناءَ بها وذِكْرَها والحمدَ عليها، ويَرْضَى منهم بذلكَ شُكْرًا عليها، وإنْ كانَ ذلكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِهِ عليهم، وهوَ غيرُ مُحتاجٍ إلى شُكْرِهم، لكِنَّهُ يُحِبُّ ذلكَ مِنْ عِبادِهِ؛ حيثُ كانَ صلاحُ العبدِ وفَلاحُهُ وكَمالُهُ فيهِ. ومِنْ فَضْلِهِ أنَّهُ نَسَبَ الحمدَ والشُّكرَ إليهم، وإنْ كانَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عليهم، وهذا كما أنَّهُ أَعْطَاهُمْ ما أَعْطَاهُمْ مِن الأموالِ، ثمَّ اسْتَقْرَضَ منهم بَعْضَهُ، ومَدَحَهم بإعطائِهِ، والكُلُّ مِلْكُهُ ومِنْ فَضْلِهِ، ولكنَّ كَرَمَهُ اقْتَضَى ذلك).
ومِنْ هُنا يُعْلَمُ معنى الأثَرِ الذي جاءَ مَرفوعًا ومَوقوفًا: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهَ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ)).
ولْنَرْجِع الآنَ إلى تفسيرِ حديثِ: ((كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ)).


يعني: أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدَمَ عنْ هذهِ الأعضاءِ في كُلِّ يومٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنيا؛ فإنَّ اليومَ قدْ يُعَبَّرُ بهِ عنْ مُدَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذلكَ، كما يُقالُ: يَوْمُ صِفِّينَ، وكانَ مُدَّةَ أَيَّامٍ. وعَنْ مُطْلَقِ الوقتِ، كما في قولِهِ: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}[هود: 8]، وقدْ يكونُ ذلكَ لَيلاً ونَهارًا، فإذا قيلَ: كُلَّ يومٍ تَطْلُعُ فيهِ الشمسُ، عُلِمَ أنَّ هذهِ الصدَقَةَ على ابنِ آدَمَ في كُلِّ يومٍ يَعيشُ فيهِ مِنْ أيَّامِ الدُّنيا.
وظَاهرُ الحديثِ يَدُلُّ على أنَّ هذا الشُّكْرَ بهذهِ الصَّدَقَةِ واجبٌ على المُسْلِمِ كُلَّ يومٍ، ولكنَّ الشُّكْرَ على دَرجتَيْنِ:
إحدَاهُما: واجبٌ، وهوَ أنْ يَأْتِيَ بالواجباتِ، ويَجْتَنِبَ الْمَحارمَ. فهذا لا بُدَّ منهُ، ويَكفِي في شُكْرِ هذهِ النِّعَمِ. ويَدُلُّ على ذلكَ ما خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ مِنْ حديثِ أبي الأسودِ الدِّيليِّ قالَ: كُنَّا عندَ أبي ذرٍّ فقالَ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقةٌ، فَلَهُ بِكُلِّ صَلاةٍ صَدَقَةٌ، وَصيامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَسْبِيحٍ صَدَقةٌ، وَتَكْبيرٍ صَدَقةٌ، وَتَحْمِيدٍ صَدَقَةٌ. فَعَدَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قالَ:((يُجْزِئُ أَحَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى)).
وقدْ تَقدَّمَ في حديثِ أبي موسى الْمُخَرَّجِ في (الصحيحيْنِ): ((فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)). وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ يَكْفِيهِ أنْ لا يَفْعَلَ شيئًا مِن الشَّرِّ، وإنَّما يكونُ مُجْتَنِبًا للشَّرِّ إذا قامَ بالفرائضِ، واجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ؛ فإنَّ أَعْظَمَ الشَّرِّ تَرْكُ الفرائضِ. ومِنْ هُنَا قالَ بعضُ السَّلَفِ: الشُّكرُ تَرْكُ المعاصي. وقالَ بعضُهم: الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِن النِّعَمِ على مَعصيَةٍ.
وذَكَرَ أبو حازمٍ الزاهدُ شُكْرَ الجوارحِ كُلِّها، وأنْ تُكَفَّ عن المعاصي، وتُستعمَلَ في الطاعاتِ، ثمَّ قالَ: وأمَّا مَنْ شَكَرَ بلسانِهِ ولمْ يَشْكُرْ بجميعِ أعضائِهِ، فمَثَلُهُ كمَثَلِ رَجُلٍ لهُ كِسَاءٌ، فأَخَذَ بطَرَفِهِ فلمْ يَلْبَسْهُ، فلمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ مِن الْحَرِّ والْبَرْدِ والثلْجِ والْمَطَرِ.


وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أَسْلَمَ: (لِيَنْظُر العبدُ في نِعَمِ اللَّهِ عليهِ؛ في بَدَنِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ ويَدَيْهِ ورِجليْهِ وغيرِ ذلكَ، ليسَ مِنْ هذا شيءٌ إلا وفيهِ نِعمةٌ مِن اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، حقٌّ على العَبْدِ أنْ يَعملَ بالنِّعَمِ اللاتِي هيَ في بَدَنِهِ للَّهِ عزَّ وجلَّ في طاعتِهِ، ونِعمةٌ أُخْرَى في الرزقِ، حقٌّ عليهِ أنْ يَعْمَلَ للَّهِ عزَّ وجلَّ فيما أَنْعَمَ عليهِ مِن الرِّزقِ في طاعتِهِ، فمَنْ عَمِلَ بهذا كانَ قدْ أَخَذَ بِحُزُمِ الشُّكرِ وأَصْلِهِ وفَرْعِهِ).

ورأى الحسَنُ رجلاً يَتَبَخْتَرُ في مِشْيَتِهِ، فقالَ: (لِلَّهِ في كُلِّ عُضوٍ منهُ نِعمةٌ، اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا مِمَّنْ يَتَقَوَّى بنِعَمِكَ على مَعصيتِكَ).
الدرجةُ الثانيَةُ مِن الشُّكْرِ: الشُّكْرُ الْمُسْتَحَبُّ، وهوَ أنْ يَعملَ العبدُ بعدَ أداءِ الفرائضِ واجتنابِ الْمَحارِمِ بنوافلِ الطَّاعاتِ. وهذهِ دَرجةُ السَّابقينَ الْمُقرَّبِينَ، وهيَ التي أَرْشَدَ إليهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في هذهِ الأحاديثِ التي سَبَقَ ذِكْرُها.


وكذلكَ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَجتهدُ في الصَّلاةِ، ويَقُومُ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فإذا قِيلَ لهُ: أَتَفْعَلُ هذا وقدْ غَفرَ اللَّهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟
فيقولُ: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).


وقالَ بعضُ السلَفِ لَمَّا قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}[سبأ: 13]: لمْ يَأْتِ عليهم ساعةٌ مِنْ ليلٍ أوْ نَهارٍ إلا وفيهم مُصَلٍّ يُصَلِّي.

وهذا معَ أنَّ بعضَ هذهِ الأعمالِ التي ذَكَرَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ:
إمَّا على الأَعْيَانِ: كالْمَشْيِ إلى الصلاةِ عندَ مَنْ يَرَى وُجوبَ الصَّلاةِ في الجماعاتِ في الْمَساجِدِ.
وإمَّا على الكفايَةِ: كالأَمْرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ، وإغاثةِ الملهوفِ، والعدْلِ بينَ الناسِ، إمَّا في الْحُكْمِ بينَهم، أوْ في الإِصلاحِ.


وقدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ)).
وهذهِ الأنواعُ التي أشارَ إليها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن الصدَقَةِ، منها


ما نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ: كالإِصلاحِ، وإعانةِ الرَّجُلِ على دَابَّتِهِ يَحْمِلُهُ عليها أوْ يَرْفَعُ مَتاعَهُ عليها، والكلمةِ الطَّيِّبَةِ، ويَدخلُ فيها السَّلامُ وتَشميتُ العاطسِ، وإزالةِ الأَذَى عن الطَّريقِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ، ودَفْنِ النُّخامَةِ في الْمَسْجِدِ، وإعانةِ ذي الحاجةِ الْمَلهوفِ، وإِسْمَاعِ الأصمِّ، والبصَرِ للمَنْقُوصِ بَصَرُهُ، وهدايَةِ الأَعْمَى أوْ غيرِهِ الطَّرِيقَ. وجاءَ في بعضِ رِواياتِ حديثِ أبي ذَرٍّ: ((وَبَيَانُكَ عَنِ الأَرْتَمِ صَدَقَةٌ))، يعني:

مَنْ لا يُطيقُ الكلامَ، إمَّا لآفَةٍ في لِسانِهِ، أوْ لِعُجْمَةٍ في لُغَتِهِ، فَيُبَيِّنُ عنهُ ما يَحتاجُ إلى بَيَانِهِ.
ومنهُ ما هوَ قَاصِرُ النَّفعِ: كالتَّسبيحِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ، والتَّهليلِ، والْمَشْيِ إلى الصَّلاةِ، وصلاةِ رَكْعَتَي الضُّحى، وإنَّما كَانَتَا مُجْزِئَتَيْنِ عنْ ذلكَ كُلِّهِ؛ لأنَّ في الصَّلاةِ استعمالاً للأَعْضَاءِ كُلِّها في الطَّاعةِ والعِبادةِ، فتكونُ كافيَةً في شُكْرِ نِعَمِهِ سلامةُ هذهِ الأعضاءِ. وبَقِيَّةُ هذهِ الْخِصالِ المذكورةِ أكْثَرُها استعمالٌ لبَعضِ أعضاءِ البَدَنِ خاصَّةً، فلا تَكْمُلُ الصَّدقةُ بها حتَّى يَأْتِيَ منها بعَدَدِ سُلامَى البَدَنِ، وهيَ ثلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ كما في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.


_ وفي (الْمُسْنَدِ): عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَتَدْرُونَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ؟)) قالُوا: اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: ((الْمِنْحَةُ؛ أَنْ تَمْنَحَ أَخَاكَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ، أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ أَوْ لَبَنَ الْبَقَرَةِ)). والمرادُ بِمِنْحَةِ الدراهمِ: قَرْضُها، وبِمِنْحَةِ ظَهْرِ الدَّابةِ إِفْقَارُها، وهُوَ إِعَارَتُها لِمَنْ يَرْكَبُها، وبِمِنْحَةِ لَبَنِ الشاةِ أو البقرةِ أنْ يَمْنَحَهُ بَقرةً أوْ شاةً لِيَشْرَبَ لَبَنَها، ثمَّ يُعِيدَهَا إليهِ. وإذا أُطْلِقَت الْمَنِيحَةُ لمْ تَنْصَرِفْ إلا إلى هذا.
_ وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِنْ حديثِ البَرَاءِ بنِ عازبٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ)).


_ وقالَ التِّرمذيُّ: معنى قولِهِ: ((مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ))، إنَّما يَعْنِي بهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، وقولِهِ: ((أَوْ هَدَى زُقَاقًا))، إنَّما يَعْنِي بهِ هِدايَةَ الطريقِ، وهوَ إرشادُ السبيلِ.
_ وخَرَّجَ البُخَارِيُّ مِنْ حديثِ حَسَّانَ بنِ عَطِيَّةَ، عنْ أبي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ قالَ: سَمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو يقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ)). قالَ حَسَّانُ: فعَدَدْنَا ما دونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلامِ، وتَشميتِ العاطسِ، وإماطةِ الأَذَى عن الطَّريقِ ونَحْوِهِ، فما اسْتَطَعْنَا أنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصلةً.
_ وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((حَقُّ الإِبِلِ حَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).


_ وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ)). وخَرَّجَهُ الحاكمُ وغيرُهُ بزِيادةٍ، وهيَ:((وَمَا أَنْفَقَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ أَنْفَقَهَا مُؤْمِنٌ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنٌ، إِلا نَفَقَةً فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ بُنْيَانٍ)).
_ وفي (الْمُسْنَدِ): عنْ أبي جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ قالَ: سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عن المعروفِ، فقالَ:((لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوُحْشَانَ فِي الأَرْضِ)).
_ ومِنْ أنواعِ الصَّدقةِ: كَفُّ الأَذَى عن النَّاسِ بالْيَدِ واللِّسَانِ، كما في (الصحيحيْنِ): عنْ أبي ذَرٍّ، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ)).
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟


قالَ: ((تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَِخْرَقَ)).

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عنْ بَعْضِ العَمَلِ؟
قالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)).
_ وفي (صحيحِ ابنِ حِبَّانَ): عنْ أبي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، دُلَّنِي على عَمَلٍ إذا عَمِلَ بهِ العَبْدُ دَخَلَ الْجنَّةَ.
قالَ: ((يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)).
قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الإِيمانِ عَمَلاً؟
قالَ: ((يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ)).
قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا لا شَيْءَ لَهُ؟
قالَ: ((يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ عَيِيًّا لا يُبْلِغُ عنهُ لِسَانُهُ؟
قالَ: ((فَيُعِينُ مَغْلُوبًا)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ ضعيفًا لا قُدْرَةَ لهُ؟
قالَ: ((فَلْيَصْنَعْ لأَِخْرَقَ)).
قُلْتُ: فإنْ كانَ أَخْرَقَ؟
فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فقالَ: ((مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ؟ فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ هذا كُلَّهُ لَيَسِيرٌ.
قالَ:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلا أَخَذْتُ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)).
فاشْتَرَطَ في هذا الحديثِ لهذهِ الأعمالِ كُلِّها إخلاصَ النِّيَّةِ، كما في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو الَّذِي فيهِ ذِكْرُ الأرْبَعِينَ خَصْلَةً، وهذا كما في قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].


_ وقدْ رُوِيَ عن الحسَنِ وابنِ سِيرينَ، أنَّ فِعْلَ المعروفِ يُؤْجَرُ عليهِ، وإنْ لمْ يكُنْ لهُ فيهِ نِيَّةٌ.
_ سُئِلَ الحَسَنُ عن الرَّجُلِ يَسْأَلُهُ آخَرُ حاجةً وهوَ يُبْغِضُهُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاءً: هلْ لهُ فيهِ أَجْرٌ؟


فقالَ: (إنَّ ذلكَ لَمِن الْمعروفِ، وإنَّ في الْمعروفِ لأَجْرًا). خَرَّجَهُ حُمَيْدُ بنُ زَنْجُوَيْهِ.

_ وسُئِلَ ابنُ سِيرينَ، عن الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْجَنازةَ، لا يَتْبَعُها حِسْبَةً، يَتْبَعُها حَياءً مِنْ أَهْلِها: أَلَهُ في ذلكَ أَجْرٌ؟
فقالَ: أَجْرٌ واحدٌ؟ بلْ لهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ لِصلاتِهِ على أخيهِ، وأَجْرٌ لِصِلَتِهِ الْحَيَّ. خَرَّجَهُ أبو نُعَيْمٍ في (الْحِلْيَةِ).
_ ومِنْ أنواعِ الصدقةِ: أَدَاءُ حقوقِ المسلِمِ على المسلِمِ. وبعضُها مذكورٌ في الأحاديثِ الماضيَةِ، ففي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ)).
وفي رَوايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ))، قيلَ: ما هُنَّ يا رسولَ اللَّهِ؟


قالَ:((إِذَا لَقِيتَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
_ وفي (الصحيحيْنِ): عن الْبَرَاءِ قالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ)).
وفي روايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَإِرْشَادِ الضَّالِّ)) بَدَلَ: ((إِبْرَارِ الْقَسَمِ)).
_ ومِنْ أنواعِ الصَّدقةِ: الْمَشْيُ بحقوقِ الآدَمِيِّينَ الواجبةِ إليهم.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (مَنْ مَشَى بحَقِّ أخيهِ إليهِ ليَقْضِيَهُ، فَلَهُ بكُلِّ خُطوةٍ صَدَقَةٌ).
ومنها: إنظارُ الْمُعْسِرِ، وفي (الْمُسْنَدِ) و(سُنَنِ ابنِ مَاجَهْ): عنْ بُرَيْدَةَ مَرفوعًا: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ صَدَقَةٌ)).
ومنها: الإِحسانُ إلى البهائمِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عنْ سَقْيِهَا، فقالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))، وأَخْبَرَ أنَّ بَغِيًّا سَقَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ مِن العَطَشِ، فغُفِرَ لها.
وأمَّا الصَّدقةُ القاصرةُ على نفسِ العاملِ بها، فَمِثْلُ أنواعِ الذِّكْرِ مِن التَّسبيحِ، والتكبيرِ، والتحميدِ، والتهليلِ، والاستغفارِ، والصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وكذلكَ تِلاوةُ القرآنِ، والمشيُ إلى الْمَساجِدِ، والجلوسُ فيها لانتظارِ الصلاةِ، أوْ لاستماعِ الذِّكْرِ.
ومِنْ ذلكَ: التَّوَاضُعُ في اللِّباسِ والْمَشْيِ والْهَدْيِ، والتبَذُّلُ في الْمِهْنَةِ، واكتسابُ الحلالِ، والتَّحَرِّي فيهِ.


ومنها أيضًا: مُحاسَبَةُ النفسِ على ما سَلَفَ مِنْ أعمالِها، والنَّدَمُ والتوبةُ مِن الذنوبِ السالِفَةِ، والْحُزْنُ عليها، واحتقارُ النفسِ، والازْدِرَاءُ عليها، ومَقْتُها في اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعالى، والتَّفَكُّرُ في مَلَكُوتِ السماواتِ والأرضِ، وفي أُمُورِ الآخِرةِ، وما فيها مِن الوَعْدِ والوعيدِ، ونحوِ ذلكَ ممَّا يَزِيدُ الإيمانَ في القلْبِ، ويَنْشَأُ عنهُ كثيرٌ مِنْ أعمالِ القلوبِ؛ كالخشْيَةِ، والمحبَّةِ، والرَّجاءِ، والتوكُّلِ، وغيرِ ذلكَ.
وقدْ قيلَ: إنَّ هذا التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ مِنْ نَوافلِ الأعمالِ البَدَنِيَّةِ. رُوِيَ ذلكَ عنْ غيرِ واحدٍ مِن التَّابعينَ؛ منهم: سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، والحسَنُ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ. وفي كلامِ الإمامِ أحمدَ ما يَدُلُّ عليهِ. وقالَ كَعْبٌ: (لأََنْ أَبْكِيَ مِنْ خَشيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَتَصَدَّقَ بِوَزْنِي ذَهَبًا).

هيئة الإشراف

#7

13 Nov 2008

شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة، وكُلُّ يوم تَطلعُ فيه الشمس تعدِلُ بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له متاعه عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم.
الشيخ:
هذا الحديث من حيثُ تفاصيل الصدقات، يكفي عنه ما مر معنا في الحديث السابق؛ لأنَّ هذه التي ذُكِرت؛ بعضها من الصدقات الذّاتية، وبعضها من الصدقات المتعدية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كلُّ سلامى من الناس عليه صدقة))(سُلامى) هذه المقصود منها: العظام أو المفاصل، من أهل العلم من قال العظام.
ومنهم من قال:مفاصل العظام يعني: الصِّلاتُ بين العظم والعظم، أو العِظامُ أنفسُها فعِظامُ الإنسان كثيرة، والله -جل وعلا- مَنَّ عليك بهذه، فخلقَك في أحسنِ تقويم، وجَعَلك في تصرُّفك في عِظامِكَ، وما ابتلاك به من شكرِ هذه النِّعمة في محطِّ الابتلاء، فهل تشكر أم لا تشكر؟‍!
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((كلُّ سلامى من الناس)) يعني: كلُّ عظمٍ من أعْظم ابن آدم، أو كُلُّ مفصلٍ من مَفاصِل جَسد ابن آدم عليه صدَقة فقوله: (عليه) نعلم من الأصول أنَّها من ألفاظ الوجوب، فيدل على أن شُكْرَ هذه النعمة واجب، فشُكر نعمة البدن، نعمة العِظام، نعمة المفاصل، واجب دلّ على الوجوب قوله: ((عليه صدقة))((كل سلامى من الناس عليه صدقة)) يعني: يجبُ أن يتصدق بصدقة تُقابلُ تلك النّعمة وَتكون شُكْراً لها.
هذه التي ذُكرت أمثالٌ لبعض الصدقات، والصدقة الواجبة التي بها يخلصُ المرْء من الإثم، في عدم شُكرِ نعمةِ البدن: أن لا يستعمل هذه المفاصل في معصية الله -جل وعلا-، فإذا كان يومٌ من الأيام سَلِمَ من المحرمات التي فعلها بهذه المفاصل، واستعمل المفاصل في أداء الواجبات؛ فقد أدّى الشُّكر الواجب في ذلك اليوم.


فكلُّ مَقتصدٍ -يعني فاعل للواجب، تارك للمحرم- في يوم؛ قد أدّى شكر ذلك اليوم الذي يجبُ عليه لنعمة البدن.

ثم هناك شُكرٌ مستحب، وهو: أن يأتي بأنواع الصدقات المستحبة:

- كالقولية.
- والعملية.
- والمالية.
وأنْ يأتي بنوافل العبادات المتنوعة.
فإذاً:الصدقات نوعان:واجبة، ومُستحبة.
فالواجبة هي:أن تستعمل الآلات في الطاعة، وأن تبتعد بها عن الحرام، فإذا فعلت ذلك فقد أدَّيت شُكر تلك الآلات.



قال -عليه الصلاة والسلام-: (كُلُّ يوم تطلع فيه الشمس؛ تَعدلُ بين اثنين صدقة) (كل يوم تطلع فيه الشمس) كلمة (يوم) قد تأتي في النصوص وفي اللغة ويُرادُ بها أكثر من يوم، فيكون عِدة أيام، إذا كان يجمعها شيء واحد، كما أنّه يُقال: (ساعة) وقد تكون ساعات كثيرة، وهذا له فوائده المعروفة في اللغة والبلاغة.
قال هنا: (كل يوم تطلع فيه الشمس) فلما قيده بـ(تطلع فيه الشمس) علمنا أنَّ الوجوب يَومي، يعني كل يوم من طلوع الشمس إلى طلوعها المرة الأخرى، يعني كما نقول: (في كلِّ أرَبعٍ وعشرين ساعة، يجب عليك تجاهَ هذه النَّعمة، وهي نعمة البدن، المفاصل، العظام، أن تشكُر الله -جل وعلا- عليها).
فمثل -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((تعدلُ بين اثنين صدقة))((تعدل)) يدخلُ في العَدْل: الحكم بينهما بالعدل، يدخلُ في ذلك: الصلح، فيما يصلح به، كما قال: {أو إصلاحٍ بين الناس} وأشباه ذلك من الأعمال الخيِّرة.

قال: ((وتُعِينُ الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها، متاعه؛ صدقه)) الإعانة؛ في كلِّ ما يُحتاجُ إليه هذا من أنواع الصدقات؛ تُعينُه في سيارته، تعينه في إصلاح شيءٍ فيها، تعينه في الإركاب، تساعد كبير السِّن أوالمحتاج، إلى آخره..، كل هذا من أنواع الصدقات التي يحصل بها شيء من شُكْرِ نعمة المفاصل والعظام.
قال: ((والكلمةُ الطيبة صدقة، وبكلِّ خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقة)).

((وتُمِيط الأذى عن الطريق صدقة)) هذه أمثلة متنوعة للصدقات اللازمة والمتعدية.

وجاء في رواية في (الصحيح): ((ويجزئُ من ذلك ركعتان يركعهما المرْء من الضُّحى)) فإذا استعلمت هذه المفاصل في ركعتين تركعهما من الضُّحى فقد أدّيت الشكر المستحب لهذه المفاصل.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

13 Nov 2008

الكشاف التحليلي


حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (كل سلامى من الناس عليه صدقة…)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)
معنى قوله: (سلامى)
احتياج كل عظم إلى شكر
وجوب شكر نعمة البدن
سؤال العبد عن شكر النعم يوم القيامة
بيان معنى (النعيم) في قوله تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)
نعم الله تعالى على عباده لا تحصى
درجات الشكر:
الدرجة الأولى: الشكر الواجب
الشكر الواجب على الأعضاء أن يؤدي بها الواجب ولا يستعملها في محرم
الدرجة الثانية: الشكر المستحب
الشكر المستحب على الأعضاء أن يتقرب إلى الله تعالى بها في النوافل
أنواع الصدقات:
النوع الأول: صدقات متعدية
النوع الثاني: صدقات قاصرة
ذكر بعض فضائل الصدقات
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة)
ما يستفاد من تقييد اليوم بقوله: (تطلع فيه الشمس)
فضل الإصلاح بين المسلمين
الحث على الإصلاح بين المسلمين
حكم الكذب بقصد الإصلاح
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل على دابته...)
ذكر بعض ثمرات التعاون
1- أنه قربة إلى الله تعالى
2- يخفف الصعاب والمشاق
3- ينشر المحبة بين المسلمين
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)
أقسام الكلام:
القسم الأول: خَيْرٌ مَحْضٌ
القسم الثاني: شَرٌّ مَحْضٌ
القسم الثالث: شَرٌّ وَخَيْرٌ
القسم الرابع: لغو، لا خَيْرَ فيه وَلا شَر
ذكر بعض ما يدخل في الكلمة الطيبة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة)
الترغيب في المشي إلى الصلاة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وتميط الأذى عن الطريق صدقة)
فضل إماطة الأذى عن الطريق
إماطة الأذى عن الطريق من شكر نعم الله تعالى
إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان
وجوب الأعمال المذكورة في الحديث على الأعيان أو على الكفاية
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه
وُجُوبُ شُكْرِ اللَّهِ على نِعَمِهِ
أنَّ لِكُلِّ عَظْمٍ ومفصلٍ صَدَقَةً كلَّ يَوْمٍ
حِفْظُ البدنِ بالأعمالِ الصالحةِ
تَجَدُّدُ الأعمالِ الصالحةِ كلَّ يومٍ
فَضْلُ الإِصلاحِ بينَ الناس
الحَثُّ على التَّرَاحُمِ بينَ الناسِ

فضل إماطة الأذى عن الطريق

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

13 Nov 2008

العناصر

حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (كل سلامى من الناس عليه صدقة…)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)
معنى قوله: (سلامى)
احتياج كل عظم إلى شكر
وجوب شكر نعمة البدن
سؤال العبد عن شكر النعم يوم القيامة
بيان معنى (النعيم) في قوله تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)
نعم الله تعالى على عباده لا تحصى
درجات الشكر
أنواع الصدقات
ذكر بعض فضائل الصدقات
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة)
ما يستفاد من تقييد اليوم بقوله: (تطلع فيه الشمس)
فضل الإصلاح بين المسلمين
الحث على الإصلاح بين المسلمين
حكم الكذب بقصد الإصلاح
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل على دابته...)
ذكر بعض ثمرات التعاون
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)
أقسام الكلام باعتبار ما فيه من خير وشر
ذكر بعض ما يدخل في الكلمة الطيبة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة)
الترغيب في المشي إلى الصلاة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وتميط الأذى عن الطريق صدقة)
فضل إماطة الأذى عن الطريق
وجوب الأعمال المذكورة في الحديث على الأعيان أو على الكفاية
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه