الدروس
course cover
ح25: حديث أبي ذر: (ذهب أهل الدثور بالأجور...) م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

8631

0

0

course cover
الأربعون النووية

القسم الرابع

ح25: حديث أبي ذر: (ذهب أهل الدثور بالأجور...) م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

29 Oct 2008

8631

0

0


0

0

0

0

0

ح25: حديث أبي ذر: (ذهب أهل الدثور بالأجور...) م


قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (

25- عن أبي ذَرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، ويَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَموالِهِم. قالَ: ((أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ، إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ؟ قالَ: ((أَرَأيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). رواه مُسلِمٌ.

هيئة الإشراف

#2

29 Oct 2008

شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين


قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (

الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَيضَاً أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَارَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ، يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة.وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمَيْدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيْلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ))قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ:(أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)(1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

الشرح
قوله: "أَنَ أُنَاسَاً" هؤلاء هم الفقراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ" أي الأموال الكثيرة"بِالأُجورِ" أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالاً يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور.
"يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم، وَيَتَصَدَّقونَ بِفُضولِ أَموَالِهم" يعني ولا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن نسبقهم أو نكون مثلهم، هذا مراد الصحابة رضي الله عنهم وليس مرادهم قطعاً الاعتراض على قدر الله عزّ وجل، ولا أن يحسدوا هؤلاء الأغنياء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ"
الجواب: بلى، ثم بيّنَ لهم فقال: "إِنَ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً" أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة.
"وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة.
"وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة .
" وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَة" إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة.
" وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ" إذا أمرت من رأيته مقصراً في شيء من الطاعات فهي صدقة.
" وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" إذا رأيت شخصاً على منكر ونهيته فهي صدقة .
هذه الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها صدقة يستطيعها هؤلاء الفقراء، فأنتم املئوا الزمن من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها صدقات .
والأغنياء يمكن أن لا يتصدقون كل يوم، وإذا تصدقوا باليوم لا يستوعبون اليوم بالصدقة ، فأنتم قادرون على هذا.
ولما قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اقتنعوا رضي الله عنهم لكن لما قال: "وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أي أن الرجل إذا أتى أهله فله بذلك صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ استفهاماً وليس اعتراضاً، لكن يريدون أن يعرفوا وجه ذلك، كيف يأتي الإنسان أهله وشهوته ويقال إنك مأجور؟! أي أن الإنسان قد يستبعد هذا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم وجه ذلك فقال: "أَرَأيتُم لو وَضَعَها في حَرَامٍ أَكَانَ عَليهِ وِزر؟" والجواب: نعم يكون عليه وزر لو وضعها في حرام.
قال صلى الله عليه وسلم "فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ" فاستغنى عن الحرام فكان مأجوراً بهذا، وهذا ما يسمى عند العلماء بقياس العكس، أي إذا ثبت هذا ثبت ضده في ضده.
من فوائد هذا الحديث:
1. مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح، لأن هؤلاء الذين جاؤوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ذهب أهل الدثور بالأجور لا يريدون الحسد، لكن يريدون أن يفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم باباً يدركون به هذا السبق.
2. أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون.
3. أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: "يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم" وهو كذلك، وقد يكون أداء الفقير أفضل وأكمل من أداء الغني.
4. أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبواباً من الخير، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ" وذكر الأبواب.
5. تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَدَّقونَ بِهِ" لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه.
6. أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، لكن هذه الصدقة منها واجب، ومنها غير واجب، ومنها متعدٍ، ومنها قاصر حسب ما سنذكره.
قال:( إِنَّ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً ، وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَةً) هذا كله قاصر ومنه واجب، ومنه غير واجب.
فالتكبير منه واجب ومنه غير واجب، فتكبير الصلوات واجب،وتكبير أذكار الصلاة بعدها مستحب،وهكذا يقال في التسبيح والتهليل.
"وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجباً وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره،و كذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه، وتارة يكون مستحباً وذلك في الأمر بالمعروف المستحب، والنهي عن المنكر المكروه إن صح أن يطلق عليه اسم منكر.
والأمر بالمعروف لابد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الآمر عالماً بأن هذا معروف، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم، لأنه إذا أمر بما يجهل فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم.
الشرط الثاني:أن يعلم أن هذا المأمور قد ترك المعروف، فإن لم يعلم تركه إياه فليستفصل، ودليل ذلك أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: "أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما"(2) فلم يأمره بصلاة ركعتين حتى سأله هل فعلهما أولا، فلابد أن تعلم أنه تارك لهذا المعروف.
والنهي عن المنكر كذلك لابد فيه من شروط:
الشرط الأول:أن تعلم أن هذا منكر بالدليل الشرعي،لا بالذوق ولا بالعادة ولا بالغيرة ولا بالعاطفة، وليس مجرد أن ترى أنه منكر يكون منكراً، فقد ينكر الإنسان ما كان معروفاً .
الشرط الثاني: أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في المنكر، فإن لم تعلم فلا يجوز أن تنهى، لأنك لو فعلت لعد ذلك منك تسرعاً ولأكل الناس عرضك، بل لابد أن تعلم أن ما وقع فيه منكر، مثال ذلك:
رأيت رجلاً في البلد يأكل ويشرب في رمضان ولنقل في المسجد الحرام، فليس لك أن تنكر عليه حتى تسأله هل هو مسافر أم لا؟ لأنه قد يكون مسافراً والمسافر يجوز له أن يأكل ويشرب في رمضان، فلابد أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في هذا المنكر.
الشرط الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم، فإن زال المنكر إلى ما هو أعظم كان إنكاره حراماً، لأن إنكاره يعني أننا حولناه مما هو أخف إلى ما هو أشد.
وتحت هذه المسألة أربعة أقسام:
القسم الأول:أن يزول المنكر بالكلية .
القسم الثاني:أن يخف.
القسم الثالث:أن يتحول إلى منكر مثله.
القسم الرابع:أن يتحول إلى منكر أعظم.
فإذا كان إنكار المنكر يزول فلا شك أن الإنكار واجب.
وإذا كان يخف فالإنكار واجب، لأن تخفيف المنكر أمر واجب.
وإذا كان يتحول إلى ما هو مثله فمحل نظر، هل يُرجَّح الإنكار أو لا، فقد يرجح الإنكار لأن الإنسان إذا تغيرت به الأحوال وانتقل من شيء إلى شيء ربما يكون أخف، وقد يكون الأمر بالعكس بحيث يكون بقاؤه على ما هو عليه أحسن من نقله لأنه إذا تعود التنقل انتقل إلى منكرات أخرى.
وإذا كان يتحول إلى ما هو أعظم فالإنكار حرام.
فإذا قال قائل :علل أو دلل لهذه الأقسام؟
فنقول: أما إذا كان إنكاره يقتضي زواله فوجوبه ظاهر لقول الله تعالى: (وتعاونوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [المائدة: الآية2] وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) [آل عمران: الآية104] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذي نَفسي بيَده لتَأمُرنَّ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَّ عَنِ المُنكَر وَلِتَأخُذنَّ عَلى يَدِ الظَالِمِ وَلِتَأطُرَنَّهُ عَلى الحقَّ أَطراً"(3) وذكر الحديث وعيداً شديداً.
أما إذا كان الإنكار يؤدي إلى تخفيفه فالتعليل أن تخفيف الشر واجب، وقد يقال: إن الأدلة السابقة دليل على هذا، لأن هذا الزائد منكر يزول بالإنكار فيكون داخلاً فيما سبق.
أما إذا كان يتحول إلى ما هو أنكر فإن الإنكار حرام، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [الأنعام: الآية108] فنهى عن سب آلهة المشركين مع أنه أمر واجب، لأن سب آلهتهم يؤدي إلى سب من هو منزه عن كل نقص وهو الله عزّ وجل، فنحن إذا سببنا آلهتهم سببنا بحق، وهم إذا سبوا الله سبوه عدواً بغير حق.
ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه مر مع صاحب له على قوم من التتر يشربون الخمر ويفسقون، ولم ينههم شيخ الإسلام عن هذا فقال له صاحبه: لماذا لا تنهاهم؟ وكان - رحمه الله - ممن عرف بإنكار المنكر، فقال: لو نهيت هؤلاء لقاموا إلى بيوت الناس ونهبوها وانتهكوا أعراضهم، وهذا أعظم مما هم عليه الآن - فانظر للفقه في دين الله عزّ وجل-
"وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" هذه الصدقة قد تكون من الواجب تارة، ومن المستحب تارة.
إذا كان الإنسان يخاف على نفسه الزنى إن لم يأت أهله صار من الصدقة الواجبة، وإلا فهو من الصدقة المستحبة.
وظاهر قوله: "وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أن ذلك صدقة وإن كان على سبيل الشهوة لا علي سبيل الانكفاف عن الحرام، لأنه إذا كان على سبيل الانكفاف عن الحرام فالأمر واضح أنه صدقة ، لأنه يدفع الحرام بالمباح، لكن إذا كان لمجرد الشهوة فظاهر الحديث أن ذلك صدقة، وله وجه، ومن الوجوه:
الأول: أن الإنسان مأمور أن لا يمنع نفسه ما تشتهي إذا كان ذلك في غير معصية الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ لِنَفسِكَ عَليكَ حَقًّا"(4) .
والثاني:أنه إذا أتى أهله فقد أحسن إلى أهله، لأن المرأة عندها من الشهوة ما عند الرجل، فهي تشتهي الرجل كما يشتهيها، فإذا أتاها صار محسناً إليها وصار ذلك صدقة.
7. أن الصحابة رضي الله عنهم لا يتركون شيئاً مشكلاً إلا سألوا عنه، لقولهم "أَيأتي أَحَدنَا شَهوَتَهُ وَيَكَون لَهُ فيهَا أَجر" .
وبه نعلم أن كل شيء لم يسأل عنه الصحابة مما يُظن أنه من أمور الدين فإن السؤال عنه بدعة، لأنه لو كان من دين الله لقيض الله من يسأل عنه حتى يتبين.
ومن ذلك: لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أن أول يوم من أيامه كسنة ، قالوا يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدةـ فقال: "لاَ، اقدِروا لَهُ قَدرَهُ" فكل شيء يحتاج إليه الناس في دينهم فإما أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، وإما أن يُسأل عنه، ومالم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً ولا جواباً لسؤال وهو مما يتعلق بالدين فالسؤال عنه بدعة.
ومن ذلك ما يفعله بعض المتنطعين في أسماء الله وصفاته، أو بعض المتنطعين فيما جاء الخبر عنه من أحوال يوم القيامة، نقول لهؤلاء: إنكم مبتدعة، أو نقول على الأقل إن هذا بدعة، لأنه قد يكون السائل لا يريد أن يبتدع فنقول: هذا السؤال بدعة وإن كنا لا نصف السائل بأنه مبتدع.
فقد يكون العمل بدعة وفاعله ليس بمبتدع لأنه لا يعلم، أو لتأويل أو ما أشبه ذلك.
8. حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطب، وهذا من حسن التعليم أن تقرب الأمور الحسيّة بالأمور العقلية، وذلك في قوله: "أَرَأيتُمْ لَو وَضَعَهَا فِي الحَرامِ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ".
9. أن القياس حجة، فقياس الموافقة كثير جداً ولا إشكال فيه بأن تقيس هذا الشيء على هذا الشيء في حكم من الأحكام يجب هذا قياساً على هذا، ويحرم هذا قياساً على هذا.
لكن قياس العكس صحيح أيضاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا القياس قياس عكس، يعني فإذا كانت الشهوة الحرام وزراً فالشهوة الحلال أجر، وهذا واضح.
10. أن الاكتفاء بالحلال عن الحرام يجعل الحلال قربة وصدقة،لقوله: "وَفِي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" والله الموفق.
________________________________________________________________________

(1) أخرجه مسلم- تاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، (1006)،(53).
(2) أخرجه البخاري – كتاب: بدء الجمعة، باب: من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، (931). ومسلم – كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، (875)،(54)
(3) أخرجه الترمذي- كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة المائدة، (3048). وابن ماجه – كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (4006). وأبو داود- كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، (4336)
(4) أخرجه البخاري – كتاب: الصوم، باب: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، (1968)

هيئة الإشراف

#3

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي


قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (

(1)تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ:

سَبَقَتْ في الحديْثِ الثَّامِنَ عَشَرَ.
الشَّرْحُ:
عَنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))الذينَ كانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى الخيرِ،((قَالُوا)) مُتَنَافِسِينَ، غيرَ مُتَحَاسِدِينَ ((للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أهْلُ))أَصْحَابُ، ((الدُّثُورِ)) الأَمْوالِ، ((بالأُجُورِ)) الكَامِلَةِ، ولَمْ نَحْصُلْ إلاَّ على الأَدْنَى مِنْهَا، ((يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ)) أَيْ: يَأْتُونَ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةَ، كَمَا نَأْتِيهَا فَاسْتَوَيْنَا في أُجُورِهَا، ((وَيَتَصَدَّقُونَ)) في مَرْضَاتِ اللهِ تَعَالَى ((بِفُضُولِ أَمْوَالِهِم)) بِمَا فَضَلَ مِنْهَا، وَيَسْتَزِيدُونَ بِذلِكَ أُجُورًا عَلَيْنَا، وَنَحْنُ نُرِيدُ أنْ نُسَاوِيَهُمِ في ذَلِكَ.
((فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ؟)) أَيْ: قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَا تُحَصِّلُونَ بِهِ ثوابَ الصَّدَقَةِ، فإذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَاوَيْتُمُوهُم في الأُجُورِ.
((إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ تَسْبيحَةٍ)) أَيْ: سُبْحَانَ اللهِ،((صَدَقَةً))ثَوَابًا يَقُومُ مَقَامَ الصَّدَقَةِ، ((ولَكُمْ في كُلِّ تَكْبيرَةٍ)) تُكَبِّرُوْنَ اللهَ بِهَا ((صدقةً، وكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَهْلِيلَةٍ)) أي: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ.
((صَدَقَةً))تَصَدَّقُونَ بِهَا عَلى أَنْفُسِكُمْ ((وَأَمْرٌ بالمَعْرُوفِ)) الشَّرْعِيِّ، عِنْدَ تَرْكِهِ أَو خَوْفِ تَرْكِهِ ((صَدَقَةٌ)) تَصَدَّقُونَ بِهَا على المَأْمُورِ،((وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ))شَرْعًا عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أوْ خَوْفِ ارْتِكَابِهِ ((صَدَقةٌ)) تَصَدَّقُونَ بِهَا على مَنْ تُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، حَيْثُ تَمْنَعُونَهُ عَنِ السُّوءِ؛ لِئَلاَّ يُبْتَلَى بِبَلاَئِهِ.
((وَفِي بُضْعِ)) جِمَاعِ أَحَدِكُمْ زَوْجَتَهُ وَجَارِيَتَهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ((صَدَقَةٌ))، فإذَا فَعَلْتُمْ مَا تَقَدَّمَ، سَاوَيْتُمْ أَهْلَ الدُّثُورِ فِي الأجُورِ.
((قَالُوا)) تَعَجُّبًا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَأْتِي)) أَيَقْضِي أَحَدُنَا ((شَهْوَتَهُ)) منْ زوجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ، ((ويَكُونُ لَهُ فيها)) في قَضَائِهَا ((أَجْرٌ؟ قالَ)) إِزَالةً لِتَعَجُّبِهِم وَتَقْرِيبًا لأَفْهَامِهِم:((أَرَأَيْتُمْ)) أَخْبِرُونِي ((لَوْ وَضَعَهَا في الحَرامِ)) أَيْ: لَوْ قَضَى شَهْوَتَهُ مِنَ الحرَامِ بالزِّنَا واللِّوَاطَةِ ((أَكَانَ عَلَيْهِ وزْرٌ)) في ذَلِكَ أَمْ لا وِزْرَ فيهِ؟ ((فَكَذَلِكَ))فَكَمَا لَهُ وِزْرٌ في قَضَاءِ شَهْوَتِهِ مِنَ الحَرَامِ ((إِذَا وَضَعَهَا)) قَضَاهَا ((في الحَلاَلِ، كانَ لَهُ أَجْرٌ)).
ومِنْ فوائِدِ الجِمَاعِ الحَلاَلِ،عَفَافُ المُجَامِعِ نَفْسَهَ، وَمَوْطُوءَتَهُ من السُّوءِ، والسببُ لِوُجُودِ مَنْ يَذْكُرُ اللهَ، وَالتَّعَرُّضُ لِلشُّكْرِ على نِعْمَةِ الجِمَاعِ عِنْدَ ذَوْقِهَا.

هيئة الإشراف

#4

13 Nov 2008

المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري


قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (

الحَدِيثُ الخَامِسُ وَالعشرونَ


عنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضاً، أنَّ نَاساً مِنْ أصحابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أهلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أموالِهِم؟

قَالَ: ((أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيكونُ لهُ فيها أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.


مَوْضُوعُ الحديثِ:
التَّنَافُسُ في الأعمالِ الصالحةِ، أَوْ أَفْضَلُ الذِّكْرِ.
المُفْرَدَاتُ:


(1)((أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))الصَّحَابِيُّ: هوَ مَن اجْتَمَعَ بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مُؤْمِناً بهِ وَمَاتَ على ذلكَ، وَهُم عُدُولٌ ثِقَاتٌ.
((يا رَسُولَ اللَّهِ)) أَدَبُ التعاملِ وَالمُنَادَاةِ مِن الصحابةِ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لمْ يَدْعُوهُ باسمِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَاهُ بالرسالةِ النَّبَوِيَّةِ، وَقالَ تَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}.
(2) ((أَهْلُ الدُّثُورِ)) أي: الأموالِ الكثيرةِ التي تَزِيدُ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَحاجةِ أولادِهِم؛ إِذْ هيَ فاضلةٌ زائدةٌ.
وَ((الدُّثُورُ)) جَمْعُ دَثْرٍ، وَهوَ المالُ الكثيرُ، وَقدْ وَصَفَهُم اللَّهُ بأنَّهُم يُؤْثِرُونَ على أَنْفُسِهِمْ وَلوْ كانَ بهم خَصَاصَةٌ؛ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.
((بِالأُجُورِ)) جَمْعُ أَجْرٍ، وَهوَ الثوابُ؛ إِذْ يَعْمَلُونَ الأوامرَ وَيَتْرُكُونَ النواهيَ، وَيَزِيدُونَ بالصدقةِ تَطَوُّعاً، فَعَبَدُوا اللَّهَ بِأَبْدَانِهِمْ وَعَبَدُوهُ بِأَمْوَالِهِمْ. وَالعبادةُ بدنيَّةٌ وَماليَّةٌ، فَجَمَعُوا بَيْنَهُمَا.
(3)((فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ))أيْ: ما زَادَ على نَفَقَتِهِمْ وَنَفَقَةِ مَنْ يَعُولُونَ وَرَأَوْهُ زَائِداً عندَهُم، فلا يَدَّخِرُونَهُ وَإِنَّمَا يُنْفِقُونَهُ. وَما فَعَلُوا ذلكَ إِلاَّ لِعِلْمِهِمْ بِفَضْلِ الصدقةِ مِن البرِّ وَالمُضاعفةِ، وَالاسْتِظْلالِ بِظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَتْحِ أبوابِ الخيرِ، وَقَفْلِ أبوابِ الشرِّ، وَإِطفاءِ غَضَبِ الربِّ، وَدَفْعِ مِيتةِ السَّوْءِ، وَالانتصارِ على النفسِ، وَإِرغامِ الشيطانِ، وَالتَّيْسِيرِ على الغَيْرِ.
(4) ((أَوَلَيْسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لكمْ ما تَصَدَّقُونَ)) الهمزةُ للاستفهامِ الذي يُرَادُ بهِ التقريرُ؛ لأنَّ الذي بَعْدَهُ نَفْيٌ، فهوَ يُقَرِّرُ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى قدْ جَعَلَ لهم ذلكَ.
وَ(قدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ، وَ(جَعَلَ) أيْ: صَيَّرَ، وَ(مَا تَصَدَّقُونَ) أي: الذي تُنْفِقُونَ.
وَهؤلاءِ لا يَمْلِكُونَ مالاً، فَأَرْشَدَهُمْ إِلى ما يَعْدِلُ المالَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لأنَّهُم أهلُ تَنَافُسٍ في الأعمالِ الصالحةِ، وَأهلُ رَغْبَةٍ في الآخرةِ، وَهذا يَدُلُّ على أنَّ الصدقةَ للأرواحِ أَعْظَمُ مِن الصدقةِ للأبدانِ.


(5)((إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ)) بَيَّنَ نَوْعاً مِنْ أنواعِ الصدقةِ يَغْفُلُ عنها الناسُ، وَهوَ صدقةُ الأرواحِ وَصدقةُ الأنْفُسِ، وَهيَ أَوْلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عنهُ، بلْ أَحْوَجُ إِلى الصدقةِ، وَالناسُ لا يَعْرِفُونَ إِلاَّ صدقةَ الأبدانِ.
وَصدقةُ الأرواحِ على الشخصِ ذَاتِهِ وَعلى غيرِهِ، فَبَدَأَ بالصدقةِ على النفسِ، وَهيَ التسبيحُ وَالتكبيرُ وَالتحميدُ وَالتهليلُ، وَهذهِ الأربعُ هيَ الباقِيَاتُ الصالحاتُ.
وَالتَّسْبِيحُ: هوَ التَّنْزِيهُ للَّهِ تَعَالَى عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ.


وَالتَّكْبِيرُ: أي التعظيمُ.
وَالتهليلُ: أي التوحيدُ.
وَالصدقةُ: أي الثوابُ وَالأَجْرُ.


وَ((المعروفُ)) ما عُرِفَ حُسْنُهُ في الشرعِ وَالعقلِ.

وَ((المُنْكَرُ))ما أَنْكَرَهُ الشرعُ وَالعقلُ المُتَنَوِّرُ بالشَّرْعِ.


ثمَّ ثَنَّى بالصدقةِ على الغيرِ، وَهيَ الأمرُ بالمعروفِ وَالنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ؛ لأنَّ فيهِ قِيَاماً بالأمرِ وَانتهاءً عَن النَّهْيِ، وَتَذْكِيراً للغافلِ وَإِبْقَاءً لسفينةِ النَّجَاةِ. وَالدينُ يَقُومُ على حِفْظِ النفسِ وَحِفْظِ المجتمعِ، بلْ لا يَحْصُلُ الإِيمانُ حتَّى يُحِبَّ العبدُ للناسِ ما يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ.
وَمَرَاتِبُ إِنْكَارِ المُنْكَرِ ثلاثٌ:


-باليدِ.
-ثمَّ باللسانِ.
-ثمَّ بالقلبِ، وَالأمرُ بالمعروفِ وَاجِبُ الأَدَاءِ.
(4) ((وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) البُضْعُ: هوَ الجِمَاعُ مِن الرَّجُلِ لزَوْجَتِهِ. وَذَكَرَهُ؛ لأنَّهُ إِحْدَى لَذَّاتِ الجَسَدِ؛ وَلأنَّ فيهِ تَحْقِيقَ فائدةٍ مِنْ فوائدِ النِّكَاحِ، وَهيَ تَحْصِينُ الفَرْجِ وَقَضَاءُ الوَطَرِ، وَقدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ...)) الحديثَ.
فَلَمَّا وُجِدَ فيهِ قضاءُ حاجةِ الرَّجُلِ وَحاجةِ المرأةِ كانَ صدقةً. وَفيهِ غَضُّ البصرِ، وَفيهِ سلامةُ المجتمعِ مِن الشرِّ، وَفيهِ سَدُّ أبوابِ الشهوةِ المُحَرَّمَةِ، وَفيهِ رَدُّ دعوةِ الشيطانِ الذي يَدْعُو إِلى الزِّنَا، وَفيهِ القيامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ، وَتَكْثِيرُ الأُمَّةِ، وَالحصولُ على الوَلَدِ الصالحِ وَالمرأةِ الصالحةِ... إلخ.
((شَهْوَتَهُ)) أيْ: ما تَشْتَهِيهِ النفسُ مِن المَطَاعِمِ وَالمَشَارِبِ وَالمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا.
وَيُرَادُ بها في الحديثِ قَضَاءُ الوَطَرِ. وَالإِنسانُ مُكَوَّنٌ مِنْ جَسَدٍ وَعقلٍ وَشهوةٍ، وَجَسَدُهُ بينَ عقلِهِ وَشهوتِهِ، وَيَنْبَغِي أنْ يُغَلِّبَ العقلَ على الشهوةِ؛ ليكونَ بَشَراً سَوِيًّا.
((وِزْرٌ)) أيْ: إِثْمٌ وَحِمْلٌ ثَقِيلٌ، وَهذا مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ يَقُولُ بالقياسِ؛ إِذْ فيهِ تَسْوِيَةُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ في الحُكْمِ لِعِلَّةٍ بَيْنَهُمَا.
الفوائِدُ:
1-حِرْصُ الصحابةِ على الطاعةِ.
2-سَعَةُ مفهومِ العبادةِ في الإِسلامِ.
3-بَذْلُ المالِ في سبيلِ اللَّهِ.
4-العبادةُ ماليَّةٌ وَبدنيَّةٌ وَرُوحِيَّةٌ.
5-تَسْمِيَةُ الأعمالِ الصالحةِ صدقةً.
6-مِنْ أفضلِ البرِّ الصدقةُ على الأرواحِ.
7-فَضْلُ التسبيحِ وَالتحميدِ وَالتكبيرِ وَالتهليلِ.
8-رَحْمَةُ اللَّهِ بعبادِهِ؛ إِذْ نَوَّعَ الصَّدَقَاتِ.
9-أَفْضَلُ الصدقةِ ما كَانَ للنَّفْسِ.
10-الحِرْصُ على هِدَايَةِ الناسِ.
11-صَدَقَةُ الأرواحِ أَفْضَلُ مِنْ صدقةِ الأبدانِ.
12-القِيَاسُ دليلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ.
13-وُجُوبُ حِفْظِ الفُرُوجِ.
14-تَحْرِيمُ الزِّنى.
15-التَّنَافُسُ في أعمالِ البرِّ.
16-ذِكْرُ اللَّهِ أفضلُ مِن الأموالِ.
17-وُجُوبُ الأمرِ بالمعروفِ وَالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ.
18-ظُهُورُ الحكمةِ مِن النِّكَاحِ.
19-التَّرْغِيبُ في النِّكَاحِ.
20-مالُ الصحابةِ في أَيْدِيهِمْ وَليسَ في قُلُوبِهِمْ.
21-تَفَاضُلُ الناسِ في الأعمالِ.
22-حَثُّ النَّاسِ على العملِ بطاعةِ اللَّهِ.

هيئة الإشراف

#5

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح


قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (

مَنْزِلَةُ الحديثِ:

للحديثِ أهمِّيَّةٌ؛ وذلكَ لاشتمالِهِ على أُمُورٍ مُهِمَّةٍ، منها:

1-جوازُ القياسِ.

2-المُبَاحَاتُ تكونُ قُرُباتٍ بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ.
3-الميدانُ الَّذي يكونُ فيهِ التَّنافسُ.
4-كثرةُ طُرُقِ الخيرِ، بحيثُ لوْ عَجَزَ العبدُ عنْ بعضِهَا لا يَعْجِزُ عن الأُخرى.
مَيدانُ تنافُسِ السَّلَفِ:
يُستَفَادُ مِنْ هذا الحديثِ ما كانَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ مِنْ تَنَافُسٍ وحِرْصٍ على ما يُقرِّبُهُم ويَرْفَعُ درجاتِهِم عندَ اللهِ؛لذلكَ أتى فُقَرَاءُ الصَّحابةِ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبيَّنُوا لهُ بأنَّ إخوانَهُم التُّجَّارَ قدْ سبقُوهُمْ بالأُجُورِ والدَّرجاتِ العُلَى، وذلكَ أَنَّهم عندَهُم فضلٌ مِنْ مالٍ، فَيَحُجُّونَ ويَعتمرُونَ ويتصَدَّقُونَ ويُجاهدُونَ، وهمْ لا يستطيعونَ ذلكَ، فما السَّبيلُ لِلَّحَاقِ بهم؟
فبيَّنَ لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وردَ في هذا الحديثِ.
هذا هوَ مَيدانُ تَنافُسِ سَلَفِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، قالَ تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، وقالَ تَعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}.


وقالَ ابنُ إسحاقَ: حدَّثنِي الزُّهْرِيُّ، عنْ عُبيدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مالكٍ قالَ: (كانَ ممَّا صَنعَ اللهُ لرسولِهِ أنَّ الأوْسَ والخَزْرَجَ كانا يَتَصَاوَلانِ تَصَاوُلَ الفَحْلَيْنِ، لا تَصْنَعُ الأوسُ شَيْئًا إلاَّ قَالَت الخزرَجُ: واللهِ لا تَذْهَبُونَ بهذهِ فضلاً عليْنَا، وكذلكَ الأوسُ.

فلمَّا أصابَت الأَوْسُ كَعْبَ بنَ الأشرفِ، تذاكرَت الخزرجُ مَنْ رَجُلٌ لهُ عداوةٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمَا كانَ لكعبٍ، فَذَكَرُوا ابنَ أبي الْحُقَيْقِ، وهوَ بخَيْبَرَ).
وهذا سببُ ثناءِ اللهِ ورسولِهِ عليهِمْ، وسببُ فوزِهِم وعِزِّهِم في الدُّنيَا والآخرةِ، يكونُ أحدُهُمْ معذورًا مِن العملِ ومُرخَّصًا لهُ، ويأتي رسولَ اللهِ يَبكي؛ لأنَّهُ لا يستطيعُ القيامَ بهِ، كما أخبرَنَا اللهُ عنهم أثناءَ خُروجِ رسولِ اللهِ إلى الجهادِ، قالَ تَعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.
أمَّا التَّنافسُ في أمورِ الدُّنيَا فهوَ مذمومٌ، وإذا تَجاوزَ بهِ العبدُ الحدودَ يكونُ سببًا في هلاكِهِ وضَعْفِهِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأَبْشِـرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)).
الغِبْطَةُ:أنْ يتمنَّى العبدُ مثلَ حالِ المغبوطِ مِنْ غيرِ أنْ يَتمنَّى زوالَهَا عنهُ، وهذا مشروعٌ، وخاصَّةً في أمورِ الآخرةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)). ومرادُهُ بالحسَدِ الغِبْطَةُ.


فمِمَّا يُسْتَفادُ مِن الحديثِ:أنَّ الصَّحابةَ تَرْجَمُوا ما تَعَلَّمُوهُ مِنْ رسولِهِم إلى عَمَلٍ، فَفُقَرَاؤُهُم يَغْبِطُونَ أهلَ الدُّثورِ ويَتمنَّوْنَ أنْ يكونُوا مِثْلَهُمْ في التَّصدُّقِ والحجِّ والعمرةِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ، لِذَلِكَ قالُوا:
(1)((يا رسولَ اللهِ، ذهبَ أهلُ الدُّثورِ بالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كما نصلِّي، ويصومُونَ كما نصومُ، ويَتصَدَّقُونَ بفُضولِ أموالِهِم)).
الصَّدقةُ تُطْلَقُ على كلِّ معروفٍ:
عنْ حُذيفةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)). فالصـَّدقةُ تُطلَقُ على جميعِ أنواعِ المعروفِ والإِحسانِ، حتَّى إنَّ فضلَ اللهِ الواصلَ منهُ إلى عبادِهِ صدقةٌ منهُ عليهِمْ.
وقالَ مُسْلِمٌ في(صحيحِهِ): بابُ بيانِ أنَّ اسمَ الصَّدقةِ يَقَعُ على كلِّ نوعٍ مِن المعروفِ.
ومعنى ذلكَ كما قالَ النَّوويُّ في(شَرْحِ مسلمٍ): (قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)) أيْ: لهُ حُكْمُهَا في الثَّوابِ).


وقالَ القاضِي: (يَحْتَمِلُ تَسْمِيَتُهَا صَدقةً أنَّ لها أجْرًا كما للصَّدقةِ أجْرٌ، وأنَّ هذهِ الطَّاعاتِ تُمَاثلُ الصَّدقاتِ في الأجورِ، وسمَّاهَا صدقةً على طريقِ المقابلةِ وتَجنيسِ الكلامِ).

وقيلَ:(معناهُ أنَّها صدقةٌ على نفسِهِ).


خَفِيَ هذا المعنى الواسعُ للصَّدقةِ على فقراءِ الصَّحابةِ، فَجَاءُوا حبيبَهُمْ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ يسألونَهُ عنْ سبيلِ اللِّحَاقِ بأهلِ الدُّثورِ، الَّذينَ سَبَقوهُمْ بالأُجُورِ والدَّرجاتِ العُلَى، فقالَ لَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَلَيـْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟!)). ثمَّ ذكرَ لهُمْ منها:
1- الباقياتُ الصَّالحاتُ مِن الصَّدقاتِ:
قالَ تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}. أكثرُ المُفَسِّرِينَ على أنَّ الباقياتِ الصَّالحاتِ: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ.
والتَّسبيحُ هوَ التَّنزيهُ، وسبحانَ اللهِ معناهُ التَّنزيهُ للهِ، وهوَ نُصِبَ على المَصْدَرِيَّةِ، كأنَّهُ قالَ: أُبَرِّئُ اللهَ مِن السُّوءِ بَرَاءَةً.
وفي (لسانِ العربِ): (سُبْحَانَ اللهِ معناهُ: تنزيهُ اللهِ مِن الصَّاحِبَةِ والولدِ، وقيلَ: تنزيهُ اللهِ عنْ كُلِّ ما لا يَنْبَغِي أنْ يُوصَفَ بهِ.
والحمدُ للهِ: الثَّناءُ عليهِ، ويكونُ شُكْرًا لنِعَمِهِ الَّتي شَمِلَت الكُلَّ.


والحمدُ أعمُّ مِن الشُّكرِ، فهوَ يكونُ عنْ يَدٍ، وعنْ غيرِ يَدٍ، والحمدُ عَكْسُ الذَّمِّ).

(2)لذلكَ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً)).


ومعنى التَّهليلةِ قولُ:لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وهذا مِن الصَّدقاتِ نَفْعُهُ قَاصِرٌ على فاعلِهِ.
2-الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن الْمُنْكَرِ مِن الصَّدقاتِ:
(3)قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ))وهذا النـَّوعُ مِن الصَّدقاتِ الَّتي دلَّ عليها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُقراءَ الصَّحابةِ، فيها تَعْدِيَةُ الإحسانِ إلى الخلقِ فتكونُ صدقةً عليهم بذلكَ، ورُبَّما تكونُ أفضلَ مِن الصَّدقةِ بالمالِ.
وكيفَ لا يكونُ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ أفضلَ مِن الصَّدقةِ بالمالِ، وقدْ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}؟
وللأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ ضوابطُ وأُصُولٌ، سَأُبَيِّنُهَا إنْ شاءَ اللهُ عندَ شَرْحِ الحديثِ الرَّابعِ والثَّلاثينَ.


3-في بُضْعِ أحدِكُمْ صَدَقةٌ:
(2)قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يا رسولَ اللهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لهُ فيها أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
والبُضْعُ: يُطْلَقُ على الْجِماعِ، ويُطلَقُ على الفَرْجِ نَفْسِهِ.
وظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنَّهُ يُؤْجَرُ في إِتْيَانِهِ أهلَهُ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ.
ذهبَتْ طائفةٌ مِنْ أهلِ العلمِ للقولِ بذلِكَ، ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّ الحديثَ مُقَيَّدٌ بإخلاصِ النِّيَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلكَ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ)).


فيَنْبَغِي للعبدِ أنْ يَقْصِدَ بِجِمَاعِهِ إِعْفَافَ نفسِهِ وزَوْجَتِهِ عن الزِّنَا ومُقَدِّماتِهِ، أوْ قضاءَ حقِّ الزَّوجةِ بالمُعَاشَرةِ بالمعروفِ، أوْ طَلَبَ وَلَدٍ صالحٍ يَعْبُدُ اللهَ عزَّ وجلَّ، حتَّى يكونَ لهُ بِجِماعِ أهْلِهِ صدقةٌ.

وبهذا الحديثِ استدلَّ مَنْ ذهبَ إلى القولِ بأنَّ المُبَاحَاتِ تصيرُ بالنِّيَّاتِ طاعاتٍ.
قالَ النَّوويُّ في(شرحِ مسلمٍ)عندَ شرحِ هذا الحديثِ: (وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّادقاتِ، فَالْجِمَاعُ يكونُ عبادةً إذا نَوَى بهِ قضاءَ حقِّ الزَّوجةِ ومُعَاشرَتَها بالمعروفِ الَّذي أَمَرَ اللهُ بهِ، أوْ طلبَ ولدٍ صالحٍ، أوْ إعفافَ نفسِهِ أوْ إعفافَ الزَّوجةِ ومَنْعَهُمَا جميعًا مِن النَّظرِ إلى الحرامِ، أو الفِكْرِ فيهِ، أو الهَمِّ بهِ، أوْ غيرَ ذلكَ مِن المقاصدِ الصَّالحةِ).
رابعًا: جَوَازُ القياسِ


قولُهُ:((قالُوا: يا رسولَ اللهِ، أيأتي أحدُنَا شهوتَهُ ويكونُ لهُ فيها أجرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
قالَ النَّوويُّ: (فيهِ جَوَازُ القياسِ، وهوَ مَذْهَبُ العلماءِ كافَّةً، ولمْ يُخالِفْ فيهِ إلاَّ أهلُ الظَّاهرِ).
تعريفُ القياسِ في اللُّغَةِ، معناهُ: التَّقديرُ للشَّيءِ بما يُمَاثِلُهُ، يُقالُ: قاسَ الثَّوبَ بالمِتْرِ؛ أيْ: قدَّرَ أجزاءهُ بهِ.
ويُطْلَقُ القياسُ على التَّسويَةِ؛لأنَّ تقديرَ الشَّيءِ بما يُمَاثِلُهُ تسويَةٌ بينَهُمَا، ومنهُ فلانٌ لا يُقَاسُ بفلانٍ؛ أيْ: لا يُسَوَّى بِهِ.
تعريفُ القياسِ في اصطلاحِ الأُصُوليِّينَ: (هُوَ إلحاقُ واقعةٍ لا نصَّ على حُكْمِهَا بواقعةٍ ورَدَ نصٌّ بحُكْمِهَا في الحُكْمِ الَّذي وَرَدَ بهِ النَّصُّ؛ لتَسَاوِي الواقعتَيْنِ في عِلَّةِ هذا الحُكْمِ).
والقياسُ يأتي في الْمَرْتَبَةِ الرَّابعةِ مِن الحُجَجِ الشَّرعيَّةِ بعدَ الكتابِ والسُّنَّةِ والإِجماعِ.
وهذا النَّوعُ مِن القياسِ الَّذي وردَ بهذا النَّصِّ يُسَمَّى عندَ الأُصُوليِّينَ قياسَ العكسِ، وهوَ إثباتُ عكسِ حُكْمِ الشَّيءِ لِتَعاكُسِهِمَا في العلَّةِ.


ثَبَتَ في(صحيحِ مسلم): عنْ عبدِ اللهِ -قالَ وَكيعٌ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالَ ابنُ نُمَيْرٍ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقولُ:((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)) وَقُلْتُ أَنَا: (وَمَنْ مَاتَ لاَ يُشرِكُ باللهِ شيئًا دَخلَ الجنَّةَ).

قالَ النَّوويُّ: (واختلَفَ الأُصوليُّونَ في العملِ بهِ، وهذا الحديثُ دليلٌ لِمَنْ عَمِلَ بهِ، وهوَ الأصحُّ، واللهُ أعلمُ).


فوائدُ مِن الحديثِ:
1- تدعيمُ القولِ بالدَّليلِ أثناءَ نَشْرِ العلمِ؛ لأنَّ هذا يُعينُ على قَبولِ الحقِّ، وأَثْبَتُ لهُ في قلوبِ المكلَّفِينَ. فيَجبُ على العُلماءِ أنْ لا تَضيقَ صُدُورُهُمْ عندَما يُسْأَلُونَ عن الدَّليلِ. والسُّؤالُ عن الدَّليلِ ليسَ مِنْ بابِ اهتزازِ الثِّقَةِ بهِمْ.
2- حُسْنُ عِشْرَةِ الزَّوجةِ، وأَنَّ الإِحسانَ إليها مِن القُرُبَاتِ الَّتي يَتَقَرَّبُ بها العبدُ إلى ربِّهِ عزَّ وجلَّ.
3-استعمالُ الحكمةِ في مثلِ هذهِ المواقفِ لمُعَالَجَةِ الأمورِ.
4-في الحديثِ فَضْلُ مُجْتَمَعِ الصَّحابةِ الَّذي يحرصُ على ما يُقَرِّبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
5-فيهِ فضلُ الْغَنِيِّ الشَّاكرِ والفقيرِ الصَّابرِ.

هيئة الإشراف

#6

13 Nov 2008

جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي


قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (

هذا الحديثُ خَرَّجَهُ

مسلِمٌ مِنْ روايَةِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ، عنْ أبي الأسودِ الدِّيلِيِّ، عنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقدْ رُوِيَ معناهُ عنْ أبي ذرٍّ مِنْ وُجُوهٍ كثيرةٍ بزيادةٍ ونُقصانٍ، وسنَذْكُرُ بعضَها فيما بَعْدُ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم؛ لِشِدَّةِ حِرْصِهم على الأعمالِ الصالحةِ، وقُوَّةِ رَغْبَتِهم في الخيرِ كَانُوا يَحْزَنونَ على ما يَتَعَذَّرُ عليهم فِعْلُهُ مِن الخيرِ مِمَّا يَقْدِرُ عليهِ غَيْرُهم، فكانَ الفُقراءُ يَحْزَنُونَ على فَوَاتِ الصَّدقَةِ بالأموالِ التي يَقْدِرُ عليها الأغنياءُ، ويَحْزَنُونَ على التَّخَلُّفِ عن الخروجِ في الْجِهادِ لِعَدَمِ القُدرةِ على آلَتِهِ.
وقدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عنهم بذلكَ في كِتابِهِ فقالَ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}


[التوبة: 92].

وفي هذا الحديثِ: أنَّ الفُقراءَ غَبَطُوا أهلَ الدُّثورِ -والدُّثورُ: هيَ الأموالُ- بما يَحْصُلُ لهم مِنْ أَجْرِ الصدَقَةِ بأموالِهم، فدَلَّهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على صَدَقَاتٍ يَقْدِرُونَ عليها.
(1) وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي صالحٍ، عنْ أبي هُريرةَ، أنَّ فُقَرَاءَ الْمُهاجرينَ أَتَوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فقالُوا: ((ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقونَ وَلا نُعْتِقُ، فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قالُوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً)). قالَ أبو صالحٍ: فَرَجَعَ فُقَراءُ المهاجِرينَ إِلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقالُوا: سَمِعَ إِخْوانُنا أَهْلُ الأَمْوالِ بِمَا فَعَلْنا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54].


وقدْ رُوِيَ نحوُ هذا الحديثِ مِنْ روايَةِ جماعةٍ مِن الصحابةِ؛ منهم: عَلِيٌّ، وأبو ذَرٍّ، وأبو الدَّرْدَاءِ، وابْنُ عمرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وغيرُهم.
ومعنى هذا، أنَّ الفُقراءَ ظَنُّوا أنْ لا صَدَقَةَ إلا بالمالِ، وهم عاجِزونَ عنْ ذلكَ، فأَخْبَرَهُم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّ جَميعَ أنواعِ فِعْلِ المعروفِ والإِحسانِ صَدَقَةٌ.


وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ حُذَيْفَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)) وخَرَّجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ جابرٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

فالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ على جميعِ أنواعِ فِعْلِ المعروفِ والإِحسانِ، حتَّى إنَّ فَضْلَ اللَّهِ الواصِلَ منهُ إلى عِبادِهِ صَدَقَةٌ منهُ عليهم. وقدْ كانَ بعضُ السلَفِ يُنْكِرُ ذلكَ ويقولُ: إنَّما الصَّدَقةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزاءها وأَجْرَها.
والصَّحيحُ خِلافُ ذلكَ، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في قَصْرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ: ((صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)) خَرَّجَهُ مسلِمٌ، وقالَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ)) خَرَّجَهُ النَّسائيُّ وغيرُهُ مِنْ حديثِ عائشةَ، وخَرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ.
وفي(مُسْنَدَيْ) بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ والبَزَّارِ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ مَرفوعًا: ((مَا مِنْ يَوْمٍ وَلا لَيْلَةٍ وَلا سَاعَةٍ إِلا لِلَّهِ فِيهَا صَدَقَةٌ يَمُنُّ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِثْلَ أَنْ يُلْهِمَهُ ذِكْرَهُ)).


وقالَ خالدُ بنُ مَعْدانَ: (إِنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بصَدَقَةٍ، وَمَا تَصدَّقَ اللَّهُ على أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بشيءٍ خيرٍ مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ عليهِ بذِكْرِهِ).
والصدَقَةُ بغيرِ المالِ نَوعانِ:
أحدُهما: ما فيهِ تَعديَةُ الإِحسانِ إلى الْخَلْقِ، فيكونُ صَدَقَةً عليهم، ورُبَّما كانَ أَفْضَلَ مِن الصدقةِ بالمالِ. وهذا كالأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن الْمُنْكَرِ؛ فإنَّهُ دُعاءٌ إلى طاعةِ اللَّهِ وكَفٍّ عنْ مَعاصِيهِ، وذلكَ خيرٌ مِن النفْعِ بالمالِ. وكذلكَ تَعليمُ العلْمِ النافعِ، وإِقْرَاءُ القرآنِ، وإِزَالةُ الأَذَى عن الطريقِ، والسَّعْيُ في جَلْبِ النفْعِ للناسِ، ودَفْعُ الأَذَى عنهم، وكذلكَ الدُّعاءُ للمسلمينَ والاستغفارُ لهم.


- وخَرَّجَ ابنُ مَرْدُويَهْ بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ، عن ابنِ عمرَ مَرفوعًا: ((مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ مَالِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ قُوَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ عِلْمِهِ)) ولعلَّهُ مَوقوفٌ.

- وخَرَّجَ الطبرانيُّ بإسنادٍ فيهِ ضَعْفٌ، عنْ سَمُرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ اللِّسَانُ))، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وَمَا صَدَقَةُ اللِّسانِ؟ قالَ: ((الشَّفَاعَةُ تَفُكُّ بِهَا الأَسِيرَ، وَتَحْقِنُ بِهَا الدَّمَ، وَتَجُرُّ بِهَا الْمَعْروفَ وَالإِحْسانَ إِلَى أَخِيكَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْكَرِيهَةَ)).
وقالَ عمرُو بنُ دِينارٍ: (بَلَغَنَا أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ))، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلى قولِهِ تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}[البقرة: 263]؟!) خَرَّجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ.


وفي مَراسيلِ الحسَنِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْتَ طَلِيقُ الْوَجْهِ)) خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا.
وقالَ مُعاذٌ: (تَعليمُ العِلْمِ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ) ورُوِيَ مَرْفُوعًا.


ومِنْ أنواعِ الصَّدَقَةِ:
كَفُّ الأَذَى عن الناسِ، فَفِي (الصحيحَيْنِ): عنْ أبي ذرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمالِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الإِيمَانُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ))، قُلْتُ: فأيُّ الرِّقابِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ((أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا))، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قالَ: ((تُعِينُ صَانِعًا، وَتَصْنَعُ لأَِخْرَقَ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عنْ بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)).
- وقدْ رُوِيَ في حديثِ أبي ذرٍّ زِياداتٌ أُخْرَى، فخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِماطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)).


- وخَرَّجَ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمِ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ))، قيلَ: يَا رَسولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟
قالَ: ((إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ. فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).
وخرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ أبي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الأَغْنِياءُ بِالأَجْرِ، يَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، قالَ: ((وَأَنْتَ فِيكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُكَ الْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُكَ الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ، وَبَيَانُكَ عَنِ الأَغْتَمِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ امْرَأَتَكَ صَدَقَةٌ))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، نَأَتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟! قالَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَهُ فِي حَرَامٍ، أَكَانَ يَأْثَمُ؟)) قالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ:((أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟!)).
- وفي روايَةٍ أُخرى، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِيكَ صَدَقَةً كَثِيرَةً، فَذَكَرَ فَضْلَ سَمْعِكَ وَفَضْلَ بَصَرِكَ)).
- وفي روايَةٍ أُخْرَى للإِمامِ أحمدَ: قالَ: ((إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْروفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ وَالأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ. كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ))، قُلْتُ: كيفَ يكونُ لي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟


فَقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ، فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ، فَمَاتَ، أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: ((فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ خَلَقَهُ، قالَ: ((فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ هَدَاهُ، قالَ: ((فَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟)) قُلْتُ: بَل اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ، قالَ: ((كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ)).

وظاهِرُ هذا السِّياقِ يَقْتَضِي أنَّهُ يُؤْجَرُ على جِمَاعِهِ لأهْلِهِ بِنِيَّةِ طَلَبِ الوَلَدِ الذي يَترتَّبُ الأَجْرُ على تَرْبِيَتِهِ وتَأديبِهِ في حياتِهِ، ويَحْتَسِبُهُ عندَ مَوْتِهِ، وأمَّا إذا لمْ يَنْوِ شيئًا بقَضاءِ شَهْوَتِهِ، فهذا قدْ تَنازَعَ الناسُ في دُخولِهِ في هذا الحديثِ.
وقدْ صَحَّ الحديثُ بأنَّ نَفَقَةَ الرجُلِ على أهلِهِ صَدَقَةٌ، ففي (الصحيحيْنِ):
عنْ أبي مسعودٍ الأنصاريِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ)).
وفي روايَةٍ لِمُسْلِمٍ:((وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا)).


وفي لفظٍ للبُخَارِيِّ: ((إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ)). فدَلَّ على أنَّهُ إنَّما يُؤْجَرُ فيها إذا احْتَسَبَها عندَ اللَّهِ، كما في حديثِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ))، خَرَّجَاهُ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ ثَوْبانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَفْضَلُ الدَّنَانِيرِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).


قالَ أبو قِلابةَ عندَ روايَةِ هذا الحديثِ: (بدأَ بالعِيالِ، وأَيُّ رجُلٍ أعظمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ على عِيالٍ لهُ صِغَارٍ يُعِفُّهم اللَّهُ بهِ، ويُغْنِيهم اللَّهُ بهِ).
وفيهِ أيضًا: عنْ سعدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ)) وهذا قدْ وَرَدَ مُقَيَّدًا في الروايَةِ الأخرى بابتغاءِ وجهِ اللَّهِ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَفْضَلُهَا الدِّينَارُ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)).


وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ، وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((تَصَدَّقُوا))، فقالَ رَجُلٌ: عندِي دِينارٌ، فقالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ))، قالَ: عنْدِي دينارٌ آخَرُ، قالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ))، قالَ: عنْدِي دِينارٌ آخَرُ، قالَ: ((أَنْتَ أَبْصَرُ)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ الْمِقدامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ)). وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرةٌ يَطولُ ذِكْرُها.
وفي (الصحيحَيْنِ): عنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)).
وفي(صحيحِ مسلِمٍ): عنْ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلا كَانَ مَا أَكَلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)).
وفي روايَةٍ لهُ أَيْضًا: ((فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلا دَابَّةُ، وَلا طَائِرٌ إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وفي (الْمُسْنَدِ) بإسنادٍ ضعيفٍ: عنْ مُعاذِ بنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غِرَاسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ)).
وذَكَرَ البُخَارِيُّ في (تاريخِهِ) مِنْ حديثِ جابرٍ مَرفوعًا: ((مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلا إِنْسٍ وَلا سَبُعٍ وَلا طَائِرٍ إِلا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وظاهِرُ هذهِ الأحاديثِ كُلِّها يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الأشياءَ تكونُ صَدَقَةً يُثابُ عليها الزارعُ والغارِسُ ونحوُهما مِنْ غيرِ قَصْدٍ ولا نِيَّةٍ.
وكذلكَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). يَدُلُّ بظاهِرِهِ على أنَّهُ يُؤْجَرُ في إِتْيَانِ أهلِهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ؛ فإنَّ الْمُبَاضِعَ لأَهْلِهِ كالزَّارعِ في الأرضِ الذي يَحْرُثُ الأرضَ ويَبْذُرُ فيها. وقدْ ذَهَبَ إلى هذا طائفةٌ مِن العُلماءِ، ومالَ إليهِ أبو مُحَمَّدِ بنُ قُتَيْبَةَ في الأَكْلِ والشُّربِ والْجِماعِ، واسْتَدَلَّ بقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيهِ)).


وهذا اللَّفظُ الذي اسْتَدَلَّ بهِ غيرُ مَعْرُوفٍ، إنَّمَا المعروفُ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لسَعْدٍ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْها، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ)) وهوَ مُقَيَّدٌ بإخلاصِ النِّيَّةِ للَّهِ، فتُحْمَلُ الأحاديثُ الْمُطْلَقَةُ عليهِ، واللَّهُ أَعلمُ.

ويَدُلُّ عليهِ أيضًا قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114]، فجَعَلَ ذلكَ خَيْرًا، ولمْ يُرَتِّبْ عليهِ الأَجْرَ إلا معَ نِيَّةِ الإِخلاصِ.
وأمَّا إذا فَعَلَهُ رِيَاءً، فإنَّهُ يُعَاقَبُ عليهِ، وإنَّمَا مَحَلُّ التَّرَدُّدِ إذا فَعَلَهُ بغيرِ نِيَّةٍ صالحةٍ ولا فَاسدةٍ.
وقدْ قالَ أبو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلَ خيرٍ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ كَفاهُ نِيَّةُ اختيارِهِ للإِسلامِ على غَيْرِهِ مِن الأدْيَانِ).
وظاهِرُ هذا أنَّهُ يُثابُ عليهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ بدُخُولِهِ في الإِسلامِ مُخْتَارٌ لأعمالِ الخيرِ في الْجُملةِ، فيُثابُ على كلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ منها بتلكَ النِّيَّةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وقولُهُ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). هذا يُسمَّى عندَ الأُصولِيِّينَ قياسَ العَكْسِ.
ومنهُ قولُ ابنِ مسعودٍ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً، وقُلْتُ أَنَا أُخْرَى، قالَ: ((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)) وقُلْتُ: (مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
والنوعُ الثاني مِن الصَّدَقَةِ التي لَيْسَتْ مَالِيَّةً:


ما نَفْعُهُ قاصرٌ على فَاعِلِهِ، كأنواعِ الذِّكْرِ مِن التَّكبيرِ، والتَّسبيحِ، والتَّحميدِ، والتَّهليلِ، والاستغفارِ. وكذلكَ الْمَشْيُ إلى الْمَساجدِ صَدَقَةٌ، ولمْ يُذْكَرْ في شيءٍ مِن الأحاديثِ الصَّلاةُ والصِّيَامُ والْحَجُّ والْجِهادُ أنَّهُ صَدَقَةٌ، وأَكْثَرُ هذهِ الأعمالِ أَفْضَلُ مِن الصَّدقاتِ الْمَاليَّةِ؛ لأنَّهُ إنَّما ذَكَرَ ذلكَ جَوابًا لِسُؤَالِ الفُقراءِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ عمَّا يُقاوِمُ تَطوُّعَ الأغنياءِ بأَمْوَالِهم.
وأمَّا الفرائضُ فقدْ كانوا كُلُّهم مُشتَرِكينَ فيها.
وقدْ تَكاثَرَت النُّصوصُ بتفضيلِ الذِّكْرِ على الصدَقَةِ بالمالِ وغيرِها مِن الأعمالِ، كما في حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَلا أُنبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)) قالُوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُوالتِّرمذيُّ، وذَكَرَهُ مالِكٌ في (الْمُوَطَّأِ) مَوقوفًا على أبي الدرداءِ.


وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثرَ مِنْ ذَلِكَ)).

وفيهما أيضًا: عنْ أبي أيُّوبَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ)).


وخَرَّجَ الإمامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العِبادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا))، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وَمِن الغَازِي فِي سَبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: ((لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً)). ويُرْوَى نحوُهُ مِنْ حديثِ مُعاذٍ وجابرٍ مَرفوعًا، والصَّوَابُ وَقْفُهُ على مُعاذٍ مِنْ قولِهِ.
وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ حديثِ أبي الْوَازِعِ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوْ أنَّ رَجُلاً فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يَقْسِمُهَا، وَآخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ، كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ))، قُلْتُ: الصَّحِيحُ: عنْ أبي الْوَازِعِ، عنْ أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ مِنْ قولِهِ. خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الفِرْيَابِيُّ.
وخَرَّجَ أيضًا مِنْ حديثِ أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَبَّرَ مِائَةً، وَسَبَّحَ مِائَةً، وَهَلَّلَ مِائَةً، كَانَتْ خَيْرًا لَهُ مِنْ عَشْرِ رِقَابٍ يَعْتِقُهَا، وَمِنْ سَبْعِ بَدَنَاتٍ يَنْحَرُهَا)).


وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ، عنْ أبي الدرداءِ أنَّهُ قيلَ لهُ: (إنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ مِائَةَ نَسَمَةٍ، فقالَ: إنَّ مِائَةَ نَسَمَةٍ مِنْ مالِ رجُلٍ كثيرٌ، وأَفضلُ مِنْ ذلكَ إيمانٌ مَلزومٌ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنْ لا يَزَالَ لِسَانُ أحَدِكم رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
وعنْ أبي الدَّرداءِ أيضًا قالَ: (لأََنْ أَقُولَ: اللَّهُ أكبرُ مِائَةَ مَرَّةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِينارٍ).
وكذلكَ قالَ سَلمانُ الفارسيُّ وغيرُهُ مِن الصَّحابةِ والتابعينَ: (إنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِن الصَّدقةِ بِعَدَدِهِ مِن المالِ).


وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ أُمِّ هانِئٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ لها: ((سَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ؛ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ؛ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُلَجَّمَةٍ مُسَرَّجَةٍ تَحْمِلِينَ عَلَيْهِنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،/ وَكَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ؛ فَإِنَّها تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وهَلِّلِي اللَّهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ -لا أَحْسَبُهُ إِلا قَالَ- تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لأَِحَدٍ مِثْلُ عَمَلِكِ إِلا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ)). وخَرَّجَهُ أحمدُ أيضًا وابنُ مَاجَهْ، وعندَهما: ((وَقُولِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، لا تَذَرُ ذَنْبًا، وَلا يَسْبِقُهَا الْعَمَلُ)).


وخَرَّجَهُ التِّرمذيُّ مِنْ حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بنحوِهِ.
وخَرَّجَ الطبرانيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مَرفوعًا قالَ: ((مَا صَدَقَةٌ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وخَرَّجَ الفِرْيَابِيُّ بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ، عنْ أبي أُمَامَةَ مَرفوعًا: ((مَنْ فَاتَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وبَخِلَ بِمَالِهِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ، أَوْ جَبَلِ فِضَّةٍ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)). وخَرَّجَهُ البَزَّارُ بإسنادٍ مُقارِبٍ مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرفوعًا، وقالَ في حديثِهِ: ((فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ))، ولمْ يَزِدْ على ذلكَ، وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدةٌ.

هيئة الإشراف

#7

13 Nov 2008

شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (

القارئ:

وعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أيضاً أنّ ناساً من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروفٍ صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)، فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!
قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه وزر؛ كذلك لو وضعها في حلال كان له أجرٌ))رواه مسلم.


الشيخ:

وهذا الحديث -عن أبي ذَرٍّ أيضاً- أن أناساً من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ((يا رسول الله! ذهب أهل الدُّثور بالأجور)).

((ذهب أهل الدثور)) يعني: أنَّ أهل الغنى ذهبوا بالأجر عند الله -جل وعلا-؛ لأنّ لهم أموالاً يتصدقون بها، والصدقة أمرها عظيم.
((قالوا: ذهب أهل الدثور بالأجورِ، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم)) يعني: أنّ الله -جل وعلا- ميزهم بأنَّهم يتصدقونَ، فيصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، لكن تميزوا عنَّا بالصَّدقة، فذهب أهل الدُّثور بأجور الصدقة.

فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين لهم أنّ معنى الصدقة واسع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أَوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به!)) وهذا فيه الحث على سماع ما جعل الله -جل وعلا- للفقراء بل ولعامة المسلمين: الأغنياء والفقراء جميعاً؛ من أنواع الصدقات التي لا تدخل في الصدقات المالية.

وهذا مبني على معنى الصدقة في الشريعة،فإن الصدقةَ في الشريعة ليست هي الصدقة بالمال، الصدقةُ بالمال نوع من أنواع الصدقة، فتعريف الصدقة: إيصال الخير والنّفعِ للغير.

ولهذا يوصَفُ الله -جل وعلا- بأنه متصدِّقٌ على عباده. كما ثبت في (صحيح مسلم بن الحجاج) -رحمه الله-: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سألوهُ عن مسألة القصر في السفر، قالوا: يا رسول الله! يعني ها نحنُ قد أمِنّا، والله -جل وعلا- يقول في سورة النساء: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصلاة إن خِفتُم أن يفتنكم الذين كفروا} فقال عليه الصلاة والسلام: ((صدقةٌ من الله عليكم، فاقبلوا صدقته)) فالله -جل وعلا- يتصدقُ على عباده بمعنى يوصل الخير وما ينفعهُم لهم.
فالصدقةُ: إيصالُ الخير للغير، وقد يكون هذا الإيصال متعدياً وقد يكون لازماً، يعني قد يكون العبد يوصل الخير لنفسه فيكون متصدِّقاً، وقد يوصل الخير لغيره، فيكونُ متصدقاً على غيره.
فالصدقة معناها في الشريعة عامٌ، ومنها: الصدقةُ بالمال، فإنها إيصال الخير والنفع للغير.
قال عليه الصلاة والسلام: ((أوليسَ قد جعَل الله لكم ما تصدقون)) لأن معنى الصدقة عام؛ ((إنّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة))

مثَّل عليه الصلاة والسلام بهذه الأربع لأمرين:

الأول:أنّها من أنواع الذكر اللساني، فمثَّل بها على أنواع الذكر الأخرى؛ لأن هذه أفضلُ الذكر، كما ثبت في (الصحيح) أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) فهذه الأربع هي أعظم ما تتقربُ به إلى الله -جل وعلا- من الذَّكرِ، وتتصدق به على نفسك، فقال: ((إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة..)) لأنَّ فيها الأجر العظيم، تصلُ بالتسبيحة نفسك بأنواع الخير والأجر، وكذلك التحميد والتهليل والتكبير.

ثم انتقل -عليه الصلاة والسلام- إلى نوع من الصدقة متعدٍّ فقال: ((وأمرٍ بمعروف صدقة، ونهي عن منكرٍ صدقة)) هذا تمثيل لأنواع الصدقات التي فيها تعد النفع، فذكر الأمر بالمعروف.
والمعروفُ: هو ما عُلم حُسْنُه والأمرُ بهِ في الشريعة، فما عُرِف في الشريعة حُسْنه فهو معروف.

والمنكرُ: ضِدُّهُ؛ ما عُرِف في الشريعة سوؤهُ ونكارتهُ، فمن أمَر بما عُرِف في الشريعة حُسْنه فقد أمر بالمعروف -وأعلاهُ التوحيد-، ومن نهى عن المنكر، وهو ما أُنكر في الشريعة -وأعلاهُ الشرك بالله جلّ وعلا- فقد نهى عن المنكر.

فإذاً: كلُّ أمرٍ بمعروف صدقة وكلُّ نهيٍ عن المنكر صدقة. وتعليم العلم يدخُل في ذلك، فهو من أنواع الصدقات، فمن لازم العلم تعلماً وتعليماً فإنَّه يتصدق في كلِّ لحظةٍ تمر عليه على نفسه وكذلك على غيره ولهذا أهلُ العلم أعظمُ الناس أجوراً إن صَلُحَت نياتُهم.
قال: ((وفي بضْعِ أحدكم صدقة))(البُضْع) المرادُ به في اللغة: بعض الشيء؛ لأن (البضع) و(البعْض) فيها قَلْب: (بَـ ضَ عَ)، و(بَ عَ ضَ) يعني البعض والبضع مقلوبة، هذه عن الأخرى.

فمعنى البُضْعِ: البعْض، ولكنَّهم كنَّوْا به عن بعض ابن آدم وهو فَرْجهُ، وهذا من شريف الكلام، حيث يُذكرُ ما يسْتحيا عن ذِكره، ولا يَحسنُ ذِكرهُ بكلمات تَدَلُّ عليه، ولا يكونُ لها وقْعٌ ينافي الأدب في السَّمع.
قال عليه الصلاة والسلام: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقة)) يعني في ما يأتيه المرء بفرجهِ -وهو ذَكَرُ الرَّجل- صدقة، فاستغربوا، ((قالوا: يا رسول الله أيأْتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!)) المرادُ بالشَّهوة هنا: الماء، يعني ماء الرَّجل الذي ينزلهُ، يعني المراد، تمام الشَّهوة.
((ويكون له فيها أجر)) يعني: المرءُ يأتي شهوته وينزلُ ماءهُ ويكون له بذلك أَجر؟! فقال عليه الصلاة والسلام:((أرأيتم لو وضعها)) يعني لو وَضَعَ الشَّهوة في حرام، والذي يوضع هو الماء، لهذا فسِّرت الشهوة هنا بأنها الماء، قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام)) -هذا يسمَّى استدلال العكس أو قياس العكس- ((لو وضعها في حرام أكان عليه وزْر؟! (قالوا: بلى)).

فكذلك: ((إذا وضعها في حلال كان له أجر)) وهذا يعني: أنّ ما يفعله المرء من هذه الأفعال التي هي من قبيل الشَّهوات؛ إذا أتى بها الحلال وباعد نفسه عن وضعها في الحرام؛ أنه يُؤجَرُ على ذلك. وهذا هو الظاهر.
واختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل يُؤجر بإتيانه الحلال بلا نية، أم يُؤْجر بإتيانه الحلال بنية؟

فقالت طائفة: (هذه الشهوات التي ابتلى الله بها العبد إذا جعلها في الحلال فإنه يُؤْجَرُ عليها بلا نية -على ظاهر هذا الحديث- وتنفعه النية العامَّة، وهي نية الطاعة، نيةُ الإسلام؛ فإنَّه بالإسلام يحصلُ له نيةُ الطاعة لله -جل وعلا- فيما يأتي وفيما يَذر؛ وهذا قول طائفة من أهل العلم).
وقال آخرون: هذا الحديث محمولٌ على غيرهِ من الأحاديث، وهو: أنه يُؤجَر إذا صَرَف نفسه عن الحرام إلى الحلال بنية، لأنَّ الأحاديث الأُخر، والقواعد العامة وكذلك بعض الآيات تدلُ على أنَّه إنما يُؤْجَر على ما يُبتغى به وجْهُ الله -جل وعلا-، فقد ثبت في
(الصحيح) أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجْه الله إلا أُجرت عليها)) وأيضاً في آية النساء قالَ -جل وعلا-: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاءَ مرضات الله فسوفَ نؤتيهِ أجراً عظيماً} فدلَّ في الآية على اشتراط ابتغاء مرضات الله، ودلَّ في الحديث أيضاً على أنَّ النفقة إذا ابتُغيَ بها وجهُ الله فإنهُ يُؤجَر عليها العبد.
فحمل أكثرُ أهل العلم هذا الظاهر من الحديث على غيره من النصوص، مما يكون العبد به منصرفاً عن الحرام إلى الحلال بنية.
فإذا قام في قلبه أنهُ لن يأتي الحرام؛ لأنَّ الله أباح له الحلال؛ فيقتصر على الحلال دون الحرام؛ فإنهُ يُؤجر على ما يأتي من الحلال، ويُؤجر على شهوته بهذه النية و((إنما الأعمال بالنيات)).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

13 Nov 2008

الكشاف التحليلي


حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ذهب أهل الدثور بالأجور)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله: (أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...)
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنهم فقراء المهاجرين
شرح قولهم: (ذَهَبَ أهلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أموالِهِم)
معنى (الدثور)
المراد بالأجور
المراد بقوله: (فضول أموالهم)
حرص الصحابة على الخير
معنى (الغبطة)
حكم (الغبطة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون...)
تعريف الصدقة
دلالة الحديث على أن معنى (الصدقة) واسع
شرح حديث: (كل معروف صدقة)
فائدة: يوصف الله بأنه متصدق على عباده
ذكر الدليل على ذلك
كل أعمال المعروف صدقة
نوع الصدقة التي وجه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إليها
بيان خطأ من يقول: إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها
الصدقة نوعان:
النوع الأول: صدقة متعدية
أمثلة النوع الأول
النوع الثاني: صدقة قاصرة
أمثلة النوع الثاني
ذكر بعض النصوص في تفضيل الذكر على الصدقة بالمال
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بكل تسبيحة صدقة)
معنى (التسبيحة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تكبيرة صدقة)
معنى (التكبيرة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تهليلة صدقة)
معنى (التهليلة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تحميدة صدقة)
معنى (التحميدة)
التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد من أحب الأعمال إلى الله تعالى
في الذكر صدقة من العبد على نفسه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة)
بيان معنى (المعروف)
بيان معنى (المنكر)
وجه كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصدقات
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة)
بيان معنى (البضع)
هل تشترط نية الاحتساب في الثواب على الجماع
نفقة الرجل على أهله صدقة إذا احتسبها
إذا أنفق رياء أثم
شرح قوله (قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر....)
المراد بالشهوة هنا الجماع
دلالة الحديث على العمل بالقياس
بيان معنى (القياس)
تعريف (القياس) لغة
تعريف (القياس) اصطلاحاً
حجية القياس
القياس يأتي في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية بعد الكتاب والسنة والإجماع
نوع القياس في قوله: (أرأيتم لو وضعها...)
يسمى هذا القياس عند الأصوليين: قياس العكس
تعريف قياس العكس
مثال قياس العكس
خلاف الأصوليين في حجيته
من فوائد حديث أبي ذر رضي الله عنه
حِرْصُ الصحابةِ على الطاعة
التنافس في أعمال البر
سَعَةُ مفهومِ العبادةِ في الإِسلامِ
تَسْمِيَةُ الأعمالِ الصالحةِ صدقةً
فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد
وجوب حفظ الفروج

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

13 Nov 2008

العناصر

حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ذهب أهل الدثور بالأجور)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله: (أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...)
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنهم فقراء المهاجرين
شرح قولهم: (ذَهَبَ أهلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أموالِهِم)
معنى (الدثور)
المراد بالأجور
المراد بقوله: (فضول أموالهم)
حرص الصحابة على الخير
معنى (الغبطة)
حكم (الغبطة)

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون...)

تعريف الصدقة
دلالة الحديث على أن معنى (الصدقة) واسع
شرح حديث: (كل معروف صدقة)


فائدة: يوصف الله بأنه متصدق على عباده

كل أعمال المعروف صدقة
نوع الصدقة التي وجه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إليها
بيان خطأ من يقول: إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها
الصدقة نوعان: متعدية وقاصرة
ذكر بعض النصوص في تفضيل الذكر على الصدقة بالمال
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بكل تسبيحة صدقة)
معنى (التسبيحة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تكبيرة صدقة)
معنى (التكبيرة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تهليلة صدقة)
معنى (التهليلة)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل تحميدة صدقة)
معنى (التحميدة)
التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد من أحب الأعمال إلى الله تعالى
في الذكر صدقة من العبد على نفسه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة)
بيان معنى (المعروف)
بيان معنى (المنكر)
وجه كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصدقات
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة)
بيان معنى (البضع)
هل تشترط نية الاحتساب في الثواب على الجماع
نفقة الرجل على أهله صدقة إذا احتسبها
شرح قوله (قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر....)
المراد بالشهوة هنا الجماع
دلالة الحديث على العمل بالقياس
بيان معنى (القياس)
حجية القياس
نوع القياس في قوله: (أرأيتم لو وضعها...)
تعريف قياس العكس
مثال قياس العكس
خلاف الأصوليين في حجيته


من فوائد حديث أبي ذر رضي الله عنه