29 Oct 2008
ح24: حديث أبي ذر - القدسي-: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...) م
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
24-عن أبي ذرٍّ الغِفَاريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجلّ أنَّه قالَ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ , فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُم وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)). رواه مسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْي رضي الله عنه عَن النبي صلى الله عليه وسلم فيمَا يَرْويه عَنْ رَبِّهِ عزَّ وجل أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ، يَاعِبَادِيْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِيْ أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ فَتَضُرُّوْنِيْ وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ فَتَنْفَعُوْنِيْ، يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)(1) رواه مسلم.
الشرح
"قوله فيمَا يَرْويَهُ" الرواية نقل الحديث"عَنْ رَبِّهِ" أي عن الله عزّ وجل، وهذا الحديث يسمى عند المحدثين قدسياً، والحديث القدسي: كل ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل.
لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله عزّ وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه، واللفظ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً و معنى؛لكان أعلى سنداً من القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك ) [النحل: الآية102] ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
الوجه الثاني:أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل،ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها:أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لايتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] ؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها:أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها:أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم .
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظاً، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالى يخلق صوتاً يعبّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي -: إن الأَولَى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطّع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.
نداءٌ من الله عزّ وجل أبلغنا به أصدق المخبرين وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "يَاعِبَادِي" يشمل كل من كان عابداً بالعبودية العامة والعبودية الخاصة.
"إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولاثناءً، إذ لايُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟
فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].
"وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي صيّرته بينكم محرماً.
"فَلا تَظَالَمُوا" هذا عطف معنوي على قوله: "جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي فبناء على كونه محرماً لاتظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضاً.
" يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ" أي تائه عن الطريق المستقيم "إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ" أي علمته ووفقته، و علمته هذه هداية الإرشاد و وفقته هداية التوفيق.
"فَاستَهدُونِي أَهدِكُمْ" أي اطلبوا مني الهداية لامن غيري أهدكم، وهذا جواب الأمر، وهذا كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]
"يَاعِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ" أي كلكم جائع إلا من أطعمه الله، وهذا يشمل ما إذا فقد الطعام، أو وجد ولكن لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه، فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أدرّ الضرع، وهو الذي أحيا الثمار، واقرأ من سورة الواقعة من قول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ*و َلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:58-74] ، تجد كيف تحدّى الله الخلق في هذه الآيات لابالنسبة للمأكول، ولا المشروب، ولا ما يصلح به المأكول والمشروب. فكلّنا جائع إلا من أطعمه الله.
كذلك أيضاً يمكن أن يوجد الطعام لكن قد لا يتمكن الإنسان منه:إما لكونه محبوساً، أو مصاباً بمرض، أو بعيداً عن المحل الخصب والرخاء.
"فَاسْتَطْعِمُونِي" أي اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه.
" أُطْعِمْكُمْ" أطعم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر.
"يَاعِبَادِي كُلُّكُم عَارٍ" فكلنا عار، لأننا خرجنا من بطون أمهاتنا عراة.
"إِلاّ مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" سواء كان من فعل الإنسان كالكبير يشتري الثوب، أو من فعل غيره كالصغير يُشترى له الثوب، وربما يقال: إنه يشمل لباس الدين، فيشمل الكسوتين: كسوة الجسد الحسيّة، وكسوة الروح المعنوية.
"يَاعِبَادي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ" أي تجانبون الصواب، لأن الأعمال إما خطأ وإما صواب، فالخطأ مجانبة الصواب وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرّم.
وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في) كما هي في قول الله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ*وَبِاللَّيْل) [الصافات:137-138] أي وفي الليل.
"وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً" أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، ولكن تحتاج إلى الاستغفار.
"فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم" أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولوكانت مثل زبد البحر.
"يَاعِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّيْ فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عزّ وجل والعباد لايستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عزّ وجل.
" يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً" يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وذلك لأن ملكه عزّ وجل عام واسع لكل شيء، للتقيّ والفاجر.
ووجه قوله: "مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئَاً" أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل واحد كانوا من أولياء الله، وأولياء الله عزّ وجل جنوده، وجنوده يتسع بهم ملكه، كما لوكان للملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع بجنوده.
ثم قال: "يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئَاً" ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عزّ وجل فلا ينصر الله، ومع هذا لاينقص من ملكه شيئاً لأن الله تعالى غني عنه.
"يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ" أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة.
"مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحرَ" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئاً ولا تغيره، وهذاكقوله تعالى: ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: الآية40]
إذ من المعلوم أن الجمل لايمكن أن يدخل في سم الخياط، فيكون هذا مبالغة في عدم دخولهم الجنة.
كذلك هنا من المعلوم أن المخيط لو أدخل في البحر لم ينقص شيئاً، فكذلك لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله عزّ وجل وأعطى كل إنسان مسألته مهما بلغت فإن ذلك لاينقص ما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ومن المعلوم أن المخيط إذا أدخل البحر لاينقص البحر شيئاً، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يَدُ اللهِمَلأى سحَّاءَ" أي كثيرة العطاء "الَّليلَ والنَّهَارَ" أي في الليل والنهار "أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ" أي لم ينقص "مَا فِي يَمِيْنِهِ"(2) .
يَاعِبَادِيَ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ هذه جملة فيها حصر طريقه: (إنما) أي ما هي إلا أعمالكم أُحْصِيْهَا لَكُمْ أي أضبطها تماماً بالعدّ لازيادة ولانقصان، لأنهم كانوا في الجاهلية لايعرفون الحساب فيضبطون الأعداد بالحصى، وفي هذا يقول الشاعر:
ولستُ بالأكثر منهمْ حصى وإنّما العزّة للكاثرِ
يعني أن عددكم قليل، وإنما العزة للغالب في الكثرة.
"ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" أي في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.
قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى على عمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)[الشورى:20]
وقال عزّ وجل: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد) [الاسراء: الآية18] وقال عزّ وجل: ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الاسراء:19]
إذاً فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعاً، أو في الآخرة فقط.
" فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ" أي من وجد خيراً من أعماله فليحمد الله على الأمرين: على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.
"وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ" أي وجد شراً أو عقوبة "فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ"لأنه لم يُظلم، واللوم: أن يشعر الإنسان بقلبه بأن هذا فعل غير لائق وغير مناسب، وربما ينطق بذلك بلسانه.
من فوائد هذا الحديث:
1. -رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل،وهذا أعلى مراتب السند، لأن غاية السند: إما الرب عزّ وجل وهذا في الأحاديث القدسية، وإما النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في الأحاديث المرفوعة، وإما عن الصحابة وهذا في الأحاديث الموقوفة، وإما عن التابعين ومن بعدهم وهذا في الأحاديث المقطوعة.
فإذا روينا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسميه موقوفاً لأنه صحابي، وإذا روينا أثراً عن مجاهد - رحمه الله - فنسميه مقطوعاً لأنه تابعي.
2. إن أحسن ما يقال في الحديث القدسي: إنه ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، ونقتصر على هذا ولانبحث هل هو من قول الله لفظاً ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا فيه نوع من التكلّف وقد نهينا عن التكلّف، ونهينا عن التنطّع وعن التعمّق.
3. إثبات القول لله عزّ وجل وهذا كثير في القرآن الكريم، وهو دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن كلام الله يكون بصوت، إذ لا يطلق القول إلا على المسموع.
فإن قال قائل:أليس الله تعالى يقول: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة: الآية8] وهذا قول يقولونه بقلوبهم؟
فالجواب: بلى، لكن هذا القول مقيد (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) وأما إذا أطلق القول فالمراد به ما يُسمع.
4. أن الله تعالى قادر على الظلم لكنه حرّمه على نفسه لكمال عدله، وجه ذلك: أنه لو كان غير قادر عليه لم يثن على نفسه بتحريم الظلم لأنه غير قادر.
5. أن من صفات الله ماهو منفي مثل الظلم، ولكن اعلم أنه لايوجد في صفات الله عزّ وجل نفي إلا لثبوت ضده، فنفي الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لانقص فيه.
6. أن لله عزّ وجل أن يحرم على نفسه ما شاء لأن الحكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرم على الله لكن الله يحرم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب على نفسه ما شاء. اقرأ قول الله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام: الآية12] وكتب عزّ وجل عنده: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"(3) .
فلو سألنا سائل: هل يحرم على الله شيء، وهل يجب على الله شيء؟
فالجواب: أما إذا كان هو الذي أوجب على نفسه أو حرم فنعم، لأن له أن يحكم بما شاء. وأما أن نحرم بعقولنا على الله كذا وكذا، أو أن نوجب بعقولنا على الله كذا وكذا فلا، فالعقل لايوجب ولايحرم، وإنما التحريم والإيجاب إلى الله عزّ وجل.
قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ هو أوجبَ الأجرَ العظيم الشانِ
كلاَّ ولا عملٌ لديه ضائع ٌ إن كانَ بالإخلاصِ والإحسانِ
والإحسان يعني المتابعة.
7. إطلاق النفس على الذات لقوله: "عَلَى نَفْسِيْ" والمراد بنفسه ذاته عزّ وجل، كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: الآية28] وليس النفس صفة كسائر الصفات: كالسمع والعلم والقدرة، فالنفس يعني الذات، فقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) يعني ذاته، وقوله هنا: "عَلَى نَفْسِي" يعني على ذاتي، وكلمة النفس أصوب من كلمة ذات لكن شاع بين الناس إطلاق الذات دون إطلاق النفس، ولكن الأصل العربي: النفس.
8. أن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: "وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" وهذا يشمل ظلم الإنسان نفسه وظلم غيره، لكن هو في المعنى الثاني أظهر لقوله: "فَلا تَظَالَمُوا" أي فلا يظلم بعضكم بعضاً، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس ويكون للغير، قال الله تعالى: (وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود: الآية101]
ومدار الظلم على النقص كما قال الله تعالى: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا ً) [الكهف:33]
ويدور على أمرين:
إما منع واجب للغير، وإما تحميله ما لايجب عليه.
مثال الأول: أن تمنع شخصاً من دين عليك فلا توفّيه، أو تماطل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ"(4) .
ومثال الثاني: كأن تدعي عليه ديناً وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم.
فإن قال قائل: هل يستثنى من قوله: "فَلا تَظَالَمُوا" شيء؟
الجواب: لا يستثنى.
فإن قال: أليس يجوز لنا أن نأخذ أموال الكفار المحاربين؟
فالجواب: بلى، لكن هذا ليس بظلم، لأنه أبيح لنا هذا.
فإن قال قائل: وهل يحل لنا أموال المعاهدين؟
فالجواب: لايحلّ لنا أموال المعاهدين ولا دماء المعاهدين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدَاً لَم يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّة"(5) نسأل الله العافية.
وبهذا نعرف عدوان وظلم وضلال أولئك المغرورين الذين يعتدون على أموال الكفار المعاهدين سواء كان الكافر عندك في بلدك وهو معاهد، أو أنت في بلده، فإننا نسمع من بعض الشباب الذين في بلاد الكفر من يقول: إنه لابأس أن نفسد أموال هؤلاء الكفار، فتجدهم يعتدون على أنوار الشوارع، ويعتدون على المتاجر، ويعتدون على السيارات وهذا حرام عليهم - سبحان الله - قوم احتضنوكم وأنتم في عهدهم وليسوا هم في عهدكم فتخونون، هذا أشد ما يكون تشويهاً للإسلام وقدحاً في الإسلام.
والقدح هنا والتشويه ليس للإسلام في الواقع لكن لهؤلاء الذين ينتسبون للإسلام، ولذلك يجب أن نعلم أن أموال المعاهدين محترمة سواء كانوا معاهدين عندك أو أنت عندهم، فلا يحل الاعتداء عليهم لأنه ظلم.
9. أن الإنسان ضال إلا من هدى الله، ويتفرع على هذه الفائدة:
أن تسأل الله الهداية دائماً حتى لا تضلّ.
فإن قال قائل: هنا إشكال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل مولود يولد على الفطرة(6)،وهنا يقول: كلكم ضال؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ" لكن قال: "أَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ" وهنا يخاطبُ عزّ وجل المكلّفين الذين قد تكون تغيرت فطرتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، فهم ضلاَّلٌ حتى يهديهم الله عزّ وجل.
10. الحثّ على طلب العلم، لقوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ" ولاشكّ" أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل قد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: العلم لايعدله شيء لمن صحت نيته لاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الجهل، وكثر فيه الظن وأفتى من لايستحق أن يفتي، فطلب العلم في هذا الزمان متأكد.
11. أن لاتطلب الهداية إلا من الله لقوله: "فَاستَهدُونِي أَهدِكُم".
ولكن الهداية نوعان: هداية التوفيق وهذه لاتطلب إلا من الله، إذ لايستطيع أحد أن يهديك هداية التوفيق إلا الله عزّ وجل.
وهداية الدلالة: وهذه تصحّ أن تطلبها من غير الله ممن عنده علم بأن تقول: يافلان أفتني في كذا، أي اهدني إلى الحق فيه.
هل نقول إن قوله: "فَاستَهدُونِي" يدل على أن المراد هداية التوفيق، أو نقول إنه يشمل الهدايتين، وهداية الدلالة تكون باتباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سبباً للعلم؟
الجواب: الثاني، أي العموم.
12. أن العباد في الأصل جياع، لأنهم لايملكون أن يخلقوا ما تحيى به الأجساد كما في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة:63-71] فالأصل أن الإنسان قاصر جائع إلا من أطعمه الله، ويتفرع على هذه الفائدة قوله: "فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ" أي اسألوني الطعام أطعمكم، وعليه فلا تلجأ في طلب الرزق إلا من الله عزّ وجل.
13. وقوله: "اسْتَطْعِمُونِي" يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام،ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل كما قال تعالى في سورة الجمعة: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10]
وقال تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15] وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا درهماً ولا خبزاً، بل لابد من السعي.
14-أن الأصل في الإنسان العري حتى يكسوه الله عزّ وجل،وسبق شرح أنه في الأصل العري الحسي، وقد يراد به المعنوي أيضاً، وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمه عارياً ولا يكسوه إلا الله عزّ وجل بما قدره من الأسباب .
15-كرم الله عزّ وجل حيث يعرض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه عزّ وجل حتى يزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة.
16-أن بني آدم خطاء،أي كثير الخطأ، كما قال الله عزّ وجل: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب: الآية72]
17-أنه مهما كثرت الذنوب والخطايا فإن الله تعالى يغفرها، لكن يحتاج أن يستغفر الإنسان، ولهذا قال: "فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ" وقد سبق في الشرح أن الاستغفار يكون على وجهين:
الوجه الأول:طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني:طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك كقوله: "مَنْ قَالَ:سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةَ غُفِرَت خَطَايَاه ُوَإِنْ كَانَت مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ"(7)
18-أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، وهذا لمن استغفر ، لقوله عزّ وجل "فَاسْتَغْفِرُونِيْ" أما من لم يستغفر فإن الصغائر تكون مكفرة بالأعمال الصالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلَواتِ الخَمسُ وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَان إِلى رَمَضَان مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ"(8) ، وأما الكبائر فلابد لها من توبة خاصة، فلا تكفرها الأعمال الصالحة، أما الكفر فلابد له من توبة بالإجماع.
فالذنوب على ثلاثة أقسام:
قسم لابد فيه من توبة بالإجماع وهو الكفر .
والثاني:ما تكفره الأعمال الصالحة وهو الصغائر .
والثالث:ما لابد له من توبة- على خلاف في ذلك- لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابد لها من توبة.
19-كمال سلطان الله عزّ وجل وغناه عن خلقه، لقوله عزّ وجل: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ ... وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ وذلك لكمال سلطانه عزّ وجل وكمال غناه، فكأنه تعالى قال: إنما طلبت منكم الاستغفار من الذنوب لالحاجتي لذلك ولا لتضرري بمعاصيكم ولكن المصلحة لكم.
20-أن محل التقوى والفجور القلب، لقوله: "عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" "عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة إِذَاصَلُحَت صَلُحَ الجَسَد كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ"(9) ويتفرع على هذا: أنه يجب علينا أن نعتني بالقلب وننظر أين ذهب، وأين حلّ حتى نُطَهِّرهُ ونصفيه.
21. كمال غنى الله عزّ وجل وسعة غناه، لقوله:"يَا عِباديَ لَو أَنَّ أوَّلَكُم وَآَخِرَكُم وَ إِنسكُم وَ جِنكُم قَاموا في صَعيدٍ وَاحِدٍ..." فهذا يدل على سعة غنى الله عزّ وجل وسعة كرمه وجوده.
22. أنه يظهر أن اجتماع الناس في مكان واحد أقرب إلى الإجابة من تفرقهم، ولهذا أمِروا أن يجتمعوا في مسجد واحد في الجمعة، وأن يجتمعوا في مصلى العيد وفي الاستسقاء، وأن يجتمعوا في عرفات في مكان واحد، لأن ذلك أقرب إلى الإجابة.
23. جواز المبالغة بالقول ،لقوله: "إِلا كَمَا يَنقُصُ المِخيطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ" وهذا له نظير كما في قوله تعالى: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: الآية40]
24. أن الله عزّ وجل يحصي أعمال العباد، أي يضبطها بالعدد فلا ينقص أحداً شيئاً، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)[الزلزلة:7،8] وهذا على سبيل المبالغة، فلو عَمِلَ أدنى من مثقال الذرة لرآه، لكن لما كانت الذرة من أصغر المخلوقات مما تضرب به العرب المثل في الصغر قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة:7].
25. أن الله عزّ وجل لا يظلم أحداً شيئاً، بل من عمل عملاً وجده، لقوله:"ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا".
26. وجوب الحمد لله عزّ وجل على من وجد خيراً، وذلك من وجهين:
الأول:أن الله عزّ وجل يسره حتى عمله.
الثاني:أن الله تعالى أثابه.
27. جواز تحدث الإنسان عن نفسه بصيغة الغائب، لقوله:"فَمَن وَجَدَ خَيرَاً فَليَحمد الله" دون أن يقال: فمن وجد خيراً فليحمدني، والعدول عن ضمير المتكلم إلى أن تكون الصيغة للغائب من باب التعظيم، كما يقول الملك مثلاً وهو يأمر: يقول لكم الملك افعلوا كذا وكذا، فهو أبلغ مما لو قال: أقول لكم افعلوا كذا وكذا.
28. أن من تخلف عن العمل الصالح ولم يجد الخير فاللوم على نفسه.
فإن قال قائل: كيف يكون اللوم على نفسي وأنا لم يقدر لي هذا؟
فالجواب: أنك حين فعلت المعصية أو تركت الواجب لم تكن تعلم أنه قُدِرَ لك هذا، فالعاصي يقدم على المعصية وهو لا يعلم أنها كتبت عليه إلا إذا عملها، وكذلك تارك الواجب لا يعلم أنه كتب عليه ترك الواجب إلا إذا تركه، وإلا فلا يعلم، فاللوم عليك، فالرسل بلغت والقرآن حجة ومع ذلك تركت هذا كله، فاللوم عليك أنت ، والله الموفق.
______________________________________________________________________________
(1) أخرجه مسلم كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، (2577)،(55)
(2) أخرجه البخاري- كتاب: التوحيد، باب: (وكان عرشه على الماء)..، (7419). ومسلم – كتاب: الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، (993)، (37)
(3) أخرجه البخاري- كتاب: التوحيد، باب، (7422). ومسلم- كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، (2715)،(14).
(4) أخرجه البخاري – كتاب: الحوالات، باب: في الحوالة وهل يرجع في الحوالة، (2287). ومسلم – كتاب: المساقاة، باب: تحريم مطل الغني وصحة الحوالة واستحباب قبولها إذا أحيل على ملي، (1564)، (33)
(5) أخرجه البخاري – كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم من قتل معاهداً بغير جرم، (3166)
(6) أخرجه البخاري – كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، (1385). ومسلم – كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين،(2658)، (22)
(7) أخرجه مسلم – كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، (2691)،(28)
(8) رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (233)
(9) أخرجه البخاري- كتاب: الإيمان، باب: من استبرأ لدينه، (52). ومسلم – كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599)،(107)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1)تَرْجَمَةُ الصَّحابِيِّ رَاوِي الحَدِيثِ:
ذُكِرَتْ في الحَديثِ الثَامِنَ عَشَر.
الشَّرْحُ:
عَنْ أبي ذَرٍّ-رضي الله عنه- عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ مِنَ الأحاديثِ القُدُسِيَّةِ .
وَالْحَدِيثُ القُدُسِيُّ: كَلامُ اللهِ المَحْكِيُّ عَنْهُ، بِكَلاَمٍ غيرِ مُعْجِزٍ وَلاَ مُتَعَبَّدٍ بهِ.
أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي)) نَادَاهُم وَأَضَافَهُمْ إِلَيْهِ بِلَفْظِ العِبَادِ، لِيُصْغُوا إِلَى مَا يُلْقِي إليهِمْ وَيَأْخُذُوهُ بِالاعتِنَاءِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ وَظِيفةَ العَبْدِ قَبُولُ وَصِيَّةِ السَّيِّدِ.
((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)) أَيْ: عَامَلْتُ مُعَامَلَةَ مَنْ يُحَرِّمُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِهِ بِأَنْ لا أُؤَاخِذَ عِبَادِي بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُم أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم آخُذُهُمْ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ العُقُوبَةِ، أَوْ أَعْفُو مَعَ أَنَّ المُلْكَ مُلْكِي، وَالْخَلْقَ خَلْقِي، ولاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ.
((وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ)) لِتَتَخَلَّقُوا بِخُلُقِي، وَتَتَقَيَّدُوا بِقَيْدِ عُبُودِيَّتِي، وَتَنْجُوا مِنْ وَبَالِ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.
((فَلاَ تَظَالَمُوا)) فَلاَ يَظْلِمْ بَعْضُكُم بَعْضًا؛ لأنَّهُ لاَ اعْتِدَاءَ، واللهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ، وَجَزَاؤُهُم على القَهَّارِ الذي يَسْجُنُ الظَّالِمَ في سِجْنِ النَّارِ.
((يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ)) عَنْ طريقِ الهُدَى، لا تَهْتَدُونَ إِليْهَا بِأَنْفُسِكُمْ
((إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ))سَبِيلَ الهُدَى، وَعَرَّفْتُهُ طَرِيقَ الرَّدَى.
((فَاسْتَهْدُونِي)) فَاطْلُبُوا مِنِّيَ الهُدَى.
((أَهْدِكُمْ)) ولاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتُهُ.
((وَكُلُّكُمْ جَائِعٌ)) إذْ لا تَقْدِرُونَ على مَا تَدْفَعُونَ بِهِ الجوعَ، مَعَ أنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَيْهِ،((إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ)) لأَِنِّي أَنَا القَادِرُ على ذَلِكَ.
((فَاسْتَطْعِمُونِي)) فَاطْلُبُوا مِنِّيَ الطَّعَامَ ((أُطْعِمْكُمْ))وَلاَ تَطْلُبُوهُ مِنْ غَيْرِي؛ فَإِنَّ الغَنِيَّ الجَوَادَ لا يَرْضَى أَنْ يَسْأَلَ عَبِيدُهُ غَيْرَهُ.
((يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ)) لا تَمْلِكُونَ مَا تَكْتَسُونَ بهِ ((إلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ))فإنِّي أَنَا المَلِكُ القَادِرُ((فَاسْتَكْسُونِي)) فَاطْلُبُوا مِنِّي الكُسْوَةَ ((أَكْسُكُمْ)) وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْ غَيْرِي.
ومِنْ قِلَّةِ حَيَاءِ العَبْدِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ أَنْ يَتْرُكَ السُّؤالَ مِن السَّيِّدِ الغَنِيِّ الجَوَادِ، الَّذِي يُحِبُّ السُّؤَالَ عَمَّا عِنْدَهُ وَيَرْغَبُ فِيهِ وَيُعْطِي السَّائِلَ، وَيَسْأَلُ مِنَ العَبْدِ الفَقِيرِ البَخِيلِ، الذي يَكْرَهُ السُّؤَالَ عَمَّا عِنْدَهُ، ولاَ يُعْطِي إِنْ أَعْطَى إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ.
((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ)) على قَدْرِ مَرَاتِبِكُمْ ((بِاللَّيْلِ والنَّهارِ)) وذلِكَ أَنَّ شُكْرَ نِعْمَتِهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَفَضْلٌ أَنْ تَشْكُرُوهُ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ خَطِيئَةٌ.
((وَأَنَا أَغْفِرُ الذَّنُوبَ جَمِيعًا))ولاَ أُبَالِي؛ لأَنِّي وَاسِعُ الكَرَمِ وَالْعَفْوِ، ولاَ أَتَضَرَّرُ بالمَعْصِيَةِ.
((فاسْتَغْفِرُونِي)) فَاطْلُبُوا مِنِّي المَغْفِرَةَ ((أَغْفِرْ لَكُمْ)).
والحاصِلُ أَنَّ العبْدَ مُحْتَاجٌ عَاجِزٌ مُخْطِئٌ، وَالرَّبَّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ غَافِرٌ فَيَنْبَغِي للعَبدِ الرُّجُوعُ إليهِ، لاَ إلى غَيرِهِ، فَمَا أَكْرَمَ هذَا الكريمَ، يُنَادِي المُحْتَاجِينَ لِيُنْعِمَ عليهِمْ، والفَارِّينَ عَنْهُ بالذُّنوبِ لِيَتُوبُوا فَيَتُوبَ عَلَيْهِم، فيَا وَيْلَ عَبِيدٍ لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ هذَا الكَريمِ.
((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي)) لأَِنَّكُمْ عَجَزْتُمْ، لا تَقْدِرُونَ عَلى شَيءٍ مَا، وَأَنَا لاَ أَتَضَرَّرُ بِشَيءٍ مَا؛ لأَِنَّ شَأْنِي أَجَلُّ مِنْ ذلِكَ وَأَكْبرُ، ((وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)) لأَِنَّكُمْ عَاجِزُونَ، وأَنَا لاَ أَحْتَاجُ إلى شيءٍ، وَلاَ أَنْتَفِعُ بِهِ، إِذْ أَمْرِي أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وأَعَظَمُ، سُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ.
((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ)) كمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَا زَادَ))كَوْنُكُمْ كَذَلِكَ ((فِي))كَمَالِ ((مُلْكِي شَيْئًا)) مَا؛ لأَِنَّ الكمَالَ ذَاتِيٌّ أَبَدِيٌّ، لاَ يَحْتَاجُ إلى الزِّيادَةِ ولاَ يَقْبَلُهَا، بَلْ مِنْ كَمَالِهِ يَنْشَأُ كَوْنُكُمِ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُم. ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا)) لأَنَّ الكمَالَ ذَاتِيٌّ لا يَنْقُصُ بِكَوْنِكُمْ كَذِلكَ.
((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا فِي صَعِيدٍ))مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي مَا يُرِيدُونَ.
((فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَسْأَلَتَهُ))مَا يَسْأَلُهُ، ((مَا نَقَصَ ذَلِكَ)) الإعطاءُ((مِمَّا))مِنَ الخَزَائِنِ الَّتِي((عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ))كَالمِئْبَرِ، إِذَا ((أُدْخِلَ الْبَحْرَ))وهذا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ للأَفْهَامِ، وَإِلاَّ فَخَزَائِنُ اللهِ لاَ تَنْقُصُ نَقْصًا مَا، وَالْبَحْرُ يَنْقُصُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَلْتَصِقُ بالإِبْرَةِ مِنَ الماءِ إِنْ لَصَقَ، كَيفَ وَخَزَائِنُهُ في قولِهِ كُنْ.
((إِنَّمَا هِيَ)) أَيِ: الأمُورُ التي تُجْزَوْنَ بِهَا ((أَعْمَالُكُم)) الاخْتِيَارِيَّةُ الصَّادِرَةُ بعدَ التَّكْلِيفِ، المُتَعَلِّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ، ((أُحْصِيهَا)) أَضْبِطُهَا((لَكُمْ))بِعِلْمِي وَمَلاَئِكَتِي الْحَفَظَةِ، ((ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)) أَيْ: أُعْطِيكُمْ جَزَاءَهَا يومَ القِيَامةِ وَافِيًا مِنْ غيرِ نُقصَانٍ في الخَيْراتِ، ولاَ زِيَادةٍ في السَّيِّئَاتِ.
((فَمَنْ وَجَدَ)) في أَعمالِهِ ((خَيْرًا))وَوُفِّقَ لَهُ ((فَلْيَحْمَدِ اللهَ)) الذي قَدَّرَ لَهُ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ وَسَهَّلَهُ لَهُ، وجَعَلَهُ سَبَبًا لِلثَوابِ، ولاَ يَحْمَدُ نَفْسَهُ، فإنَّهَا أَحْقَرُ مِنْ أنْ تَقْدِرَ عَلى شيءٍ،((وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ))أَي: الشَّرَّ وَالسُّوءَ((فَلاَ يَلُومَنَّ))على حُصُولِهِ ((إِلاَّ نَفْسَهُ)) الأَمَّارَةَ بالسوءِ؛ لأنَّ الجليلَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَظِيفَةُ العبْدِ أَنْ يَنْسِبَ الخيرَ إلى سَيِّدِهِ، والسوءَ إلَى نَفْسِهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ وإنْ كَانَ هُوَ الذي قَدَّرَ السُّوءَ وَأَرَادَهُ.
وهذَا الحديثُ مِنْ أَجَلِّ الأحاديثِ، يَنْبَغِي حِفْظُهُ، وَالتَّأَمُّلُ فيهِ حقَّ التَّأَمُّلِ؛ فَإِنَّ فيهِ منَ الفوائِدِ مَا لاَ تُحْصَرُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحَدِيثُ الرَّابِعُ والعِشْرُون
عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيمَا يَرْويهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَن هَدَيْتُهُ فاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَن أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُم عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُه فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ والنَّهَارِ وأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً.
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئاً.
يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ.
يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاها، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
مَكَانَةُ هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ العُلَمَاءِ:
كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهِ جَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
وقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَيْسَ لأَهْلِ الشَّامِ حَدِيثٌ أَشْرَفُ مِنْهُ).
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ:
دَلائِلُ العُبُودِيَّةِ، وحَاجَةُ الخَلْقِ إِلَى الخَالِقِ.
أَهَمِّيَّةُ الحَدِيثِ:
هذا الحَدِيثُ حَرَّمَ الظُّلْمَ للبَدَنِ مِن مَنْعِه مِن الطَّعَامِ والكِسْوَةِ، وحَرَّمَ ظُلْمَ الرُّوحِ مِن مَنْعِها مِن الهِدَايَةِ وطَلَبِ المَغْفِرَةِ، وبَيَّنَ عَوَاقِبَ ذَلِكَ وحَاجَةَ المَخْلُوقِ للخَالِقِ، وعَدَمَ احْتياجِ الخَالِقِ للمَخْلُوقِ.
المُفْرَدَاتُ:
(1)((فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ)) هَذَا هو الحَدِيثُ القُدُسِيُّ ويُسَمَّى الحَدِيثَ الربَّانِيَّ، ويُسَمَّى الحَدِيثَ الإِلَهِيَّ: وهو مَا رَوَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ.
ويَأْتِي في المَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، ويَلِيهِ الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ؛ لأَنَّ القُرْآنَ لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، والقُدُسِيَّ مَعْنَاهُ مِنَ اللَّهِ تعَالى ولَفْظُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والنبَوِيَّ لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
والفَرْقُ بَيْنَ القُرْآنِ والحَدِيثِ القُدُسِيِّ أُمُورٌ:
1-أَنَّ القُرْآنَ مُتَعَبَّدٌ بتِلاوَتِهِ، والقُدُسِيَّ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بتِلاوَتِهِ.
2-أَنَّ القُرْآنَ يُقْرَأُ فِي الصَّلاةِ، والقُدُسِيَّ لا يُقْرَأُ.
3-أَنَّ القُرْآنَ يَحْصُلُ بِهِ التَّحَدِّي، والقُدُسِيَّ لا يَحْصُلُ بهِ التَّحَدِّي.
4-أَنَّ القُرْآنَ نُقِلَ بالتَّواتُرِ، والقُدُسِيَّ لَمْ يُنْقَلْ بالتَّواتُرِ، بَلْ فِيهِ الصَّحِيحُ والحَسَنُ والضَّعِيفُ والمَوْضُوعُ.
(2)((يَا عِبَادِي)) تَلَطُّفٌ مِنَ الرَّبِّ اللَّطِيفِ، وهو الغَنِيُّ عن عِبَادِهِ، يَقُولُ: (يَا عِبَادِي) والعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ويَرْضَاهُ مِنَ الأَقْوَالِ والأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ، وهِيَ أَشْرَفُ مَا يُوصَفُ بِهِ العَبْدُ، وُصِفَتْ بها المَلائِكَةُ والرُّسُلُ، ووُصِفَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي أَشْرَفِ المَوَاطِنِ في الإِسْرَاءِ والوَحْيِ وإِنْزَالِ القُرْآنِ والدَّعْوَةِ.
والعِبَادَةُ قِسْمَانِ:
1- عَامَّةٌ، وهِيَ عِبَادَةُ الرُّبُوبِيَّةِ بمَعْنَى مُعَبَّدٍ.
2-خَاصَّةٌ، وهي عِبَادَةُ الأُلُوهِيَّةِ بمَعْنَى عَابِدٍ.
وشُرُوطُها شَرْطَانِ:
أ- الإِخْلاصُ.
ب-المُتَابَعَةُ.
وأَرْكَانُها:
1-الخَوْفُ.
2-الرَّجَاءُ.
3- المَحَبَّةُ.
(3)((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)) الجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةٌ لتَحْرِيمِ الظُّلْمِ والَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ تَعَالَى. والتَّحْرِيمُ: هو المَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ والتَّوَعُّدُ علَى فِعْلِه.
والظُّلْمُ هو لُغَةً: المَنْعُ والنَّقْصُ.
واصْطِلاحاً: نَقْصُ ذِي الحَقِّ حَقَّهُ عُدْواناً - إِمَّا تَفْرِيطٌ فِي وَاجِبٍ كمَنْ صَلَّى الصَّلاةَ وَلَمْ يَخْشَعْ، وإِمَّا انْتِهَاكٌ لمُحَرَّمٍ كمَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ - ومَنَعَهُ مِن التَّصَرُّفِ في مَالِه، أو هو وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِه.
وهو ثَلاثَةُ أَنْواعٍ:
أ-ظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى وهو الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13]، وسُمِّيَ الشِّرْكُ ظُلْماً؛ لأَنَّ كُلاًّ منهما وَضْعٌ للشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِه، فالشَّرْكُ وَضْعٌ للعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، والظُّلْمُ وَضْعُ الحَقِّ في غَيْرِ صَاحِبِه، وهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى الإسلامِ والتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ.
ب-ظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وهو ظُلْمُ الآخَرِينَ، ولابُدَّ مِن التَّوْبَةِ وإِعَادَةِ الحُقُوقِ لأَهْلِهَا، وصَاحِبُهُ هو المُفْلِسُ.
ج-ظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وهو ظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ، لقولِه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...} الآيةَ [فاطر: 32].
فلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ مِنَ اللَّهِ، بَلْ هُوَ الحَكَمُ العَدْلُ، ولِذَا يُخْطِئُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَما يَقُولُونَ: ظَلَمَنِي اللَّهُ بظُلْمِهِ، وهَذَا مُحَرَّمٌ لا يَجُوزُ، ومَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ إِلاَّ لأَنَّهُ يَتَنافَى مَعَ كَمَالِ عَدْلِهِ؛ ولأَنَّهُ صِفَةُ نَقْصٍ، واللَّهُ تَعَالَى لا يُوصَفُ إِلاَّ بالكَمَالِ.
((وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا)) أي: جَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مَمْنوعاً لِمَا لَهُ مِن أَضْرَارٍ ومَفَاسِدَ دُنْيَوِيَّةٍ وأُخْرَوِيَّةٍ، فَلا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً لا فِي نَفْسِهِ مِن غِيبَةٍ وسُخْرِيَةٍ وسَبٍّ وسَفْكِ دَمٍ، ولا فِي عِرْضِهِ مِن قَذْفٍ وزِنًا ونَحْوِها.
ولا في مَالِهِ بغَصْبٍ أو سَرِقَةٍ أو جُحُودٍ.
ومَعْنَى ((لا تَظَالَمُوا)) نَهْيٌ عَنْ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ لبَعْضٍ، والنَّهْيُ للتَّحْرِيمِ الَّذِي يُوقِعُ فِي العُقُوبَةِ.
(4)((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) إِعَادَةُ العُبُودِيَّةِ لإِشْعَارِهِمْ بوَظِيفَتِهِمْ، والإِخْبَارِ بحَقِّهِ تَعَالَى عَلَيْهِم، والمُنَاسَبَةُ أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ ظُلْمَ الأَشْخَاصِ حَرَّمَ ظُلْمَ الأَرْوَاحِ، وظُلْمُ الأَرْوَاحِ هو الضَّلالُ والفَسَادُ والانْحِرَافُ.
((كُلُّكُمْ ضَالٌّ)) أي: صَاحِبُ غَوَايَةٍ وانْحِرَافٍ وضَلالٍ؛ إِمَّا لهَوًى أَوْ شَهْوَةٍ أو شُبْهَةٍ أو مُوافَقَةٍ للشَّيْطَانِ أو قُرَناءِ السَّوْءِ أو غَيْرِهَا.
وهَذَا لا يُنَاقِضُ ((خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ...))الحَدِيثَ؛ لأَنَّ الغَوَايَةَ تُعُلِّمَتْ مِنَ الأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ المُجْتَمَعِ أَوْ مِنَ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ، والهِدَايَةُ جِبِلَّةٌ، فكَانَ الانْحِرَافُ مِنَ الآخَرِينَ.
وأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الضَّلالِ ويَشْهَدُ لذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص: 24]، وقولُه تعالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عَبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13]. وإِخْرَاجُ أَهْلِ النَّارِ مِن كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ، ووَاحِدٌ إِلَى الجَنَّةِ. وإِلاَّ فالطَّرِيقُ للجَنَّةِ مَحْفوفٌ بالمَكَارِهِ وإِلَى النَّارِ بالشَّهَواتِ.
فأَهْلُ الضَّلالِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الهِدَايَةِ.
((إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) الهِدَايَةُ: هِيَ التَّوْفِيقُ للعَمَلِ الصَّالِحِ، والإِرْشَادُ لَهُ.
وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
1- هِدَايَةُ الفِطْرَةِ إِلَى الطَّعَامِ والشَّرَابِ.
2-هِدَايَةُ الدَّلالَةِ والإِرْشَادِ.
3-هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ والإلْهَامِ.
4-الهِدَايَةُ العَامَّةُ، وهِيَ هِدَايَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ إِلَى مَنَازِلِهم في الآخِرَةِ.
ومَعْنَى
((فَاسْتَهْدُونِي)) أي: اطْلُبُوا الهِدَايَةَ مِنِّي والتَّوْفِيقَ وابْذُلُوا أَسْبَابَها، أُجِبْ دُعَاءَكُمْ وأَهْدِكُمْ.
ولِذَا يُرَدِّدُ المُسْلِمُ هَذَا الدُّعَاءَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ولَرُبَّمَا تِسْعاً وعِشْرِينَ مَرَّةً، ولرُبَّمَا أَرْبَعِينَ مَرَّةً أو أَكْثَرَ في الصلواتِ عندَما يقولُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
فهو طَرِيقُ الأَمْنِ والسَّلامَةِ، وفي الحَدِيثِ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)) بَلْ وفي كُلِّ سَجْدَةٍ أَوْ غَالِبِهَا يَقُولُ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)). وإِذَا فَقَدَ العَبْدُ الهِدَايَةَ مَاتَ قَلْبُه.
(5)((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ)) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّزْقَ الخَاصَّ الذي هو طعامُ القلوبِ وهو الهِدايةُ وقَدَّمَها؛ لأهمِّيَّتِها ولأَنَّ الإِنْسانَ بقلبِهِ لا ببَدَنِه، ذَكَرَ طَعَامَ الأَبْدَانِ فَقَالَ: كُلُّكُمْ جَائِعٌ، أي: فَاقِدٌ للطَّعَامِ الذي بهِ قِوَامُ الجِسْمِ ونُمُوُّهُ وقُوَّتُه، وبفَقْدِه يَمُوتُ الجَسَدُ.
وقَدْ عَاشَ الجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، واللَّهُ يُطْعِمُهُ ويَسْقِيهِ، وخَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّه بلا طَعَامٍ فرَزَقَهُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
يَقولُ ابنُ القَيِّمِ: (طَعَامُ المُسْلِمِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ طَرِيقٍ يُضَاعَفُ عِنْدَ الولادَةِ إِلَى طَرِيقَيْنِ، ثُمَّ عِنْدَ الكِبَرِ إِلَى أَرْبَعَةِ طُرُقٍ، وعِنْدَ الاسْتِقَامَةِ والمَوْتِ تَكُونُ الطُّرُقُ ثَمَانِيَةً).
((إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ)) أي: إِلاَّ مَن رَزَقْتُهُ طَعَاماً يَطْعَمُهُ وأَكْلاً يَأْكُلُه، وسُمِّيَ طَعَاماً لوُجُودِ طَعْمِهِ ولَذَّتِهِ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ولَيْسَ مِن عندِ سِوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوْعَدُونَ} [الذاريات: 22]، ومَعْنَى ((فَاسْتَطْعِمُونِي)) أي: اطْلُبُوا الطَّعَامَ مِنِّي أُطْعِمْكُمْ، فَلَنْ يَكُونَ مِن غَيْرِي ولا يَمْلِكُهُ سِوايَ.
وقِصَّةُ الحَسَنِ بنِ سُفيانَ الذي دَعَا رَبَّه بعدَ فَقْدِ الطَّعَامِ، فَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ أَمْيرَ البَلَدِ في مِصْرَ، فأَعْطَاهُ مَالاً طَعِمَ مِنْهُ وشَرِبَ واكْتَسَى، وأَعْطَى أَصْحَابَهُ كَذَلِكَ.
(6)((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ)) لَمَّا ذَكَرَ لِبَاسَ القَلْبِ وقُوتَهُ، وهو الهِدَايَةُ وذَكَرَ قُوتَ البَدَنِ، ذَكَرَ لِبَاسَ البَدَنِ، ومَعْنَى (عَارٍ): أي: مُتَجَرِّدٌ عَنِ اللِّبَاسِ لتَبْدُوا عَوْرَتُهُ ويَظْهَرَ جَسَدُه. وَقَدْ خَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ عَارِياً.
و((إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ)) أي: مَنْ أَعْطَيْتُهُ مَالاً يَكْتَسِي منه ويَسْتُرُ بهِ عَوْرَتَهُ وجَسَدَه. وقَدْ جَعَلَ كِسْوةَ الدَّاوبِّ شَعَرَها وجِلْدَهَا، أَمَّا الإنسانُ فاللِّبَاسُ الجَمِيلُ المُتَنَوِّعُ، وجَعَلَ الأَصْلَ فيهِ الإِبَاحَةَ، وقَدْ يُحْظَرُ لذَاتِهِ كالحَرِيرِ، أولصِفَةٍ كالطَّوِيلِ للرَّجُلِ، أو لثَمَنِهِ كالمَسْرُوقِ، ومَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى لِبَاسِ التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ.
(7) ((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ والنَّهَارِ وأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) فيه بيانُ ضَعْفِ الإنسانِ.
و((تُخْطِئونَ)) أي: تُذْنبونَ وتَنْحَرِفونَ عن الطريقِ المُسْتَقيمِ، والذَّنْبُ مِنَ العَبْدِ في اللَّيْلِ والنَّهَارِ؛ لأَنَّهُ لا عِصْمَةَ لَهُ ولضَعْفِهِ ولتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، وليَقُومَ سُوقُ الجَنَّةِ والنَّارِ ولتَظْهَرَ المَعَادِنُ ولتُؤَدَّى عِبَادَةُ التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ.
و((أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)) المَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذنبِ والتجاوزُ عنه؛ ولذا ورَدَتْ بعدَ سَتْرِ الجَسَدِ، فهذه سَتْرُ الإِثْمِ. ومِن أَسْمَائِهِ تعالى الغَفُورُ والتَّوَّابُ والعَفُوُّ والغَفَّارُ...
و((الذُّنُوبَ جَمِيعاً)) أي: كُلَّ الذُّنُوبِ تُغْفَرُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ؛ لقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الزمر: 53]، وكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً، وفِي رِوَايَةٍ: مِائَةَ مَرَّةٍ.
ويَقُولُ ابنُ عُمَرَ: (كُنَّا نَعُدُّ لَهُ في المَجْلِسِ الوَاحِدِ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) مِائَةَ مَرَّةٍ).
والحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ مَهْمَا عَظُمَ يُغْفَرُ بالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ مَعَ اسْتِسْلامِهِ للَّهِ تعالَى، واتِّبَاعِهِ لكِتَابِهِ، والنُّصْحِ في التَّوْبَةِ ومُلازَمَةِ العَمَلِ الصَّالِحِ والإِخْلاصِ، وإِصْلاحِ الحَاضِرِ والمَاضِي والمُسْتَقْبَلِ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاسْتِغْفَارَ مِن مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ.
(8) ((يا عِبَادِي إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)) أي: لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُوصِلُوا إِلَيَّ نَفْعاً ولا ضُرًّا، فالخَلْقُ في حَاجَةِ النَّفْعِ مِن اللَّهِ وفي حَاجَةِ دَفْعِ الضُّرِّ مِن اللَّهِ تعالَى، وذَلك لعَجْزِ الخَلْقِ؛ ولأَنَّهُم في مُلْكِ اللَّهِ تعالى وتَحْتَ تَصَرُّفِهِ، ولأنَّ هذا مُمْتَنِعٌ؛ إذْ لا يَكُونُ لأَنْفُسِهِم نَفْعٌ فَكَيْفَ يَنْفَعُونَ غَيْرَهُمْ؟! ولا يَدْفَعُونَ ضُرًّا فَكَيْفَ يَضُرُّونَ غَيْرَهُمْ.
(9) ((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فيِ مُلْكِي شَيْئاً)) أي: لَوْ كَانَ الخَلْقُ المُكَلَّفُونَ جَمِيعاً عَلَى التَّقْوَى والطَّاعَةِ مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِ اللَّهِ شَيْئاً؛ لأَنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بطَاعَةِ المُطِيعِ، ولا يَتَضَرَّرُ بمَعْصِيَةِ عَاصٍ، بَلْ هو الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ومُلْكُهُ دَائِمٌ لا يَزُولُ.
((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً)) أي: لَوْ كَانَ الخَلْقُ المُكَلَّفُونَ عُصَاةً جَمِيعاً مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِ اللَّهِ شَيْئاً؛ لأَنَّ مَعْصِيَةَ العَاصِي عَلَى العَاصِي وضَرَرَها عَلَيْهِ.
قَالَ تعالَى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وقَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38].
وفي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُلْكَ اللَّهِ تَعَالَى لا يَزِيدُ بالطَّاعَةِ ولا يَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ؛ لأَنَّ اللَّهَ لا يَحْتَاجُ لأَحَدٍ، بَل الخَلْقُ أَحْوَجُ إِلَيْهِ تعالى، فلا يَغْتَرَّ الطَّائِعُ بطَاعَتِهِ ولا يَتَمَادَ فِي مَعْصِيَتِهِ.
(.1) ((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسَأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ)) أي: أَنَّ خَزَائِنَهُ مَلِيئَةٌ لا تَنْقُصُ ويَدَهُ سَحَّاءُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لا يَغِيضُهَا شَيْءٌ... والمِخْيَطُ لا يَنْقُصُ مِنَ البَحْرِ شَيْئاً؛ لأَنَّ مَاءَهُ دَائِمٌ فِي ازْدِيادٍ.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبَلَ}.. والَّذِي أَنْفَقَ عَلَى الخَلْقِ جَمِيعاً هو اللَّهُ تعَالَى، وخَزَائِنُه مَلِيئَةٌ لَمْ تَنْقُصْ بهذه النفقةِ، فاطْلُبِ الرِّزْقَ مِنْهُ؛ لأَنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُهُ.
(11) ((يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)) وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ إِحْصَاءَ الأَعْمَالِ مِن قِبَلِ المَلائِكَةِ والجَوَارِحِ والمَخْلُوقَاتِ.
ويُعْطِي الإِنْسَانَ جَزَاءَهُ وَافِياً بِلا نُقْصانٍ، بَل الحَسَنَةُ بعَشْرٍ، بَل يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنِ العَبْدِ ويَغْفِرُ لَهُ.
والجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، والمَكْتُوبُ علَى العَبْدِ كِتَابٌ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كِبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا، وهَذَا مِن تَمَامِ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
((فمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)) أي: مَنْ وَجَدَ في صَحِيفَتِهِ الأَجْرَ والثَّوَابَ فذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى العَبْدِ؛ إِذْ هَدَاهُ ووَفَّقَهُ وسَهَّلَ لَهُ الخَيْرَ وثَبَّتَهُ عَلَيْهِ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَوْمُه عَلَى نَفْسِه؛ لأَنَّ اللَّهَ فَطَرَه عَلَى الإِسْلامِ ورَزَقَهُ عَقْلاً، وأَرْسَلَ رَسُولاً، وأَنْزَلَ كِتَاباً، وأَنْذَرَ وأَمْهَلَ وفَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ فلَوْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ فَرَّطَ وضَيَّعَ الأَوْقَاتَ، وتَرَكَ الطَّاعَاتِ، وفَعَلَ السَّيِّئَاتِ، واتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فيَنْدَمُ ولاتَ حِينَ يَنْفَعُ النَّدَمُ.
فاللَّهُ تَعَالَى أَقَامَ عَلَيْهِ الحُجَّةَ وأَظْهَرَ المَحَجَّةَ، ولَكِنَّهُ اتَّبَعَ الهَوَى والشَّهَواتِ والشيطانَ، وضَلَّ عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ.
الفَوَائِدُ:
1-تَحْرِيمُ الظُّلْمِ.
2-عَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى.
3-احْتِرَامُ حُقُوقِ الآخَرِينَ.
4-أَنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ هِيَ الهِدَايَةُ.
5-أَنَّ هِدَايَةَ التَّوْفِيقِ للَّهِ وَحْدَهُ.
6-الحَثُّ عَلَى دَعْوَةِ النَّاسِ وإِرْشَادِهِم.
7-الدُّعَاءُ هو العِبَادَةُ.
8-أَجَلُّ الدُّعَاءِ هو طَلَبُ الهِدَايَةِ والثَّبَاتِ.
9-طَلَبُ الرِّزْقِ مِن الرَّبِّ الَّذِي في السَّمَاءِ.
10-مَشْروعِيَّةُ بَذْلِ الأَسْبابِ.
11-شُكْرُ اللَّهِ على نِعْمَةِ الكِسَاءِ بعدَ الغِذاءِ.
12-أَعْظَمُ لِبَاسٍ هو لِباسُ التَّقْوَى.
13-وُجوبُ سَتْرِ العَوْرَاتِ.
14-عَدَمُ عِصْمَةِ الإنسانِ إلاَّ الأنبياءَ.
15-الإِيمَانُ باسْمِ الغَفُورِ والتَّوَّابِ والعَفُوِّ للَّهِ تعالى.
16-الإكثارُ مِن الاستغفارِ.
17-أَنَّ اللَّهَ لا يَتَعَاظَمُه شَيْءٌ.
18-أَنَّ الاسْتِغْفَارَ مِن أَسْبابِ المَغْفِرَةِ.
19-أنَّ النَّفْعَ والضُّرَّ مِن اللَّهِ.
20-إِظْهَارُ التَّوْحِيدِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ.
21-أنَّ مُلْكَ اللَّهِ لا يَزِيدُ بطَاعَةِ المُطِيعِ ولا يَنْقُصُ بمَعْصِيَةِ العَاصِي.
22-حِفْظُ اللَّهِ للأَعْمَالِ.
23-الجزاءُ مِن جنسِ العَمَلِ.
24-أَنَّ الخَلْقَ مُعَبَّدُونَ للَّهِ وَحْدَه.
25-أَنَّ عَطَاءَ اللَّهِ لا يَنْفَدُ ولا يَنْقُصُ.
26-أَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ.
27-حاجةُ العِبادِ إلى اللَّهِ تعالَى.
28-لَوْمُ النَّفْسِ عَلَى التفريطِ بالمُحاسبةِ.
29-أَنَّ الجِنَّ مُكَلَّفُونَ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
مَنْزِلَةُ الحديثِ:
هذا الحديثُ عظيمُ الشَّأنِ؛ لأنَّهُ اشتملَ على بعضِ قواعدِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ:
- فنصَّ على تحريمِ الظُّلمِ، وإقامةِ العَدْلِ، وهذا مِنْ أَعْظَمِ مَقاصِدِ الشَّريعةِ، الَّتي أُرْسِلَ بها مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
-كما نَصَّ على الدُّعاءِ بالهدايَةِ وطلبِ الحوائجِ. والدُّعاءُ مِنْ أَعْظَمِ العباداتِ الَّتي يَتقرَّبُ بها العبدُ إلى ربِّهِ عزَّ وجلَّ.
-كما نصَّ على إثباتِ بعضِ صفاتِ اللهِ، فاللهُ غَنِيٌّ عنْ خَلْقِهِ، لا تَضُرُّهُ المعصيَةُ، ولا تَنفعُهُ الطَّاعةُ. وتعظيمُ اللهِ وتنزيهُهُ مِنْ أصولِ التَّوحيدِ.
-كما نصَّ على بعضِ الآدابِ.
تعريفُ الحديثِ القُدُسِيِّ:
(1) (عَنْ أبي ذرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يَرْوِيهِ عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ أنَّهُ قالَ) هذا الحديثُ قُدُسِيٌّ، يُسَمَّى كذلكَ بالحديثِ الإِلَهِيِّ، وبالحديثِ الرَّبَّانيِّ، وهوَ ما نقلَ لنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معَ إسنادِهِ إيَّاهُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
وَلِرِوَايَتِهِ صِيغَتَانِ:
1-أنْ يقولَ راوي الحديثِ القدسيِّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَرويهِ عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ.
2-أنْ يَقولَ الرَّاوي: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قالَ اللهُ تعالى، أوْ يقولُ اللهُ تعالى.
والعبارةُ الأولى هيَ عِبارةُ السَّلفِ؛ لذلكَ آثَرَهَا النَّوويُّ رَحِمَهُ اللهُ.
الفَرْقُ بينَ القرآنِ والحديثِ القدسِيِّ:
1-القرآنُ الكريمُ مِن اللهِ لفظًا ومعنًى، أمَّا الحديثُ القدسيُّ فمعناهُ مِن اللهِ وَكَسَاهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألفاظِهِ الكريمةِ.
2-القرآنُ كُلُّهُ قَطْعِيُّ الثُّبوتِ؛ لأنَّهُ نُقِلَ بالتَّواتُرِ، وتكفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ مِن التَّغييرِ والتَّبديلِ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. والحديثُ القدسيُّ لمْ يُنْقَلْ بالتَّواترِ كما أنَّ منهُ الصَّحيحَ والضَّعيفَ والموضوعَ.
3-القرآنُ يُتَعَبَّدُ بتلاوتِهِ، ويُقرأُ بالصَّلاةِ، ومُجَرَّدُ قراءَتِهِ عبادةٌ، وللقارئِ على كُلِّ حرفٍ عَشْرُ حسناتٍ. وهذا لا يكونُ للحديثِ القدسيِّ.
4-تُسمَّى الجملةُ مِن القرآنِ آيَةً، ومجموعُ الآياتِ المُسْتَقِلَّةِ سورةً. وهذا لا يكونُ في الحديثِ القدسيِّ.
5-لفظُ القرآنِ فيهِ إعجازٌ، تَحَدَّى اللهُ بهِ فُصَحَاءَ العربِ وبُلَغاءَهُمْ. وهذا لا يكونُ في الحديثِ القدسيِّ.
الحديثُ القدسيُّ والنَّبويُّ:
ما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أحاديثَ وَحْيٌ غيرُ مَتْلُوٍّ،قالَ تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
والوحيُ مُعتَبَرٌ في جُمْلَةِ أحاديثِهِ؛لأنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفٌ ببيانِ القرآنِ، ووَضْعِ قواعدِ الشَّريعةِ وأُصُولِهَا في ظِلِّ القرآنِ.
والوحيُ يُقِرُّهُ على الصَّوابِ،وإذا لمْ يُوَفَّقْ في اجتهادِهِ فالوحيُ يُقَوِّمُهُ في الحالِ، وليسَ معنى هذا أنَّ كلَّ حديثٍ بعينِهِ مُوحًى بهِ، بلْ إنَّ هذهِ الأحاديثَ لا تَخْرُجُ بجُمْلَتِهَا عنهُ.
أمَّا الحديثُ القدسيُّ:فمعناهُ مِنْ عندِ اللهِ، يُلقيهِ اللهُ على رسولِهِ بطريقةٍ مِنْ طُرُقِ الوحيِ، ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ يَصِيغُ معانيَهُ بألفاظِهِ.
ونِسبةُ الحديثِ القدسيِّ إلى اللهِ مِنْ بابِ نِسبةِ مَضمونِهِ لا ألْفَاظِهِ. وهذا الأسلوبُ مُستخدَمٌ؛ ففي القرآنِ كثيرٌ مِن المواقِفِ الَّتي يَحْكِي اللهُ فيها بلسانٍ عربيٍّ مَضمونَ خِطابِ كُلِّ رسولٍ إلى قومِهِ معَ أنَّهُم لمْ يَتكلَّمُوا بالعربيَّةِ.
تعريفُ الظُّلْمِ:
الظُّلمُ:وضعُ الشَّيءِ في غيرِ موضعِهِ.
وأصلُ الظُّلمِ: الْجَوْرُ ومُجاوَزَةُ الحدِّ،ويأتي الظُّلمُ كذلكَ بمعنى الْمَيْلِ عن القصدِ، فالعربُ تقولُ: الْزَمْ هذا الصَّوابَ ولا تَظْلِمْ عنهُ؛ أيْ: لا تَجُرْ عنهُ.
والظُّلمُ نوعانِ:
1- ظلمُ العبدِ لنفسِهِ: وأعظمُهُ الشِّركُ باللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ويَليهِ ارتكابُ المعاصي؛ الكبيرةِ منها والصَّغيرةِ. فمَنْ وقعَ في معاصي اللهِ فقدْ ظَلَمَ نفسَهُ، قالَ تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقالَ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. والآياتُ في هذا كثيرةٌ.
2-ظُلْمُ العبدِ غيرَهُ: وفي هذا المقامِ وردَتْ نصوصٌ كثيرةٌ تُحَذِّرُ مِنْ ظُلْمِ العِبادِ.
تحريمُ الظُّلمِ:
(2) وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَجَعَلـْتـُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا)) الحديثُ يَدُلُّ على تحريمِ الظُّلمِ بكلِّ صورِهِ وأشكالِهِ.
ووَرَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ تُرَهِّبُ مِن الوُقوعِ فيهِ، أسوقُ منها:
1-قالَ تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} يَتوعَّدُ مَلِكُ الملوكِ مَنْ وَقعَ بالظُّلمِ بالعذابِ العظيمِ. وهذا فيهِ ترهيبٌ ووعيدٌ للمُكَلَّفِينَ مِن الظُّلمِ.
2-وقالَ تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وهذا معناهُ تَهديدٌ للمُجْتَمَعَاتِ الَّتي تُقِرُّ الظُّلمَ وتَستَبِيحُهُ.
3-عنْ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
ومعنى اتَّقُوا الظُّلمَ؛ أي: اجْتَنِبُوهُ وابْتَعِدُوا عنهُ.
4-وعنْ أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَنْ تَنَالَهُمَا شَفَاعَتِي: إِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ، وَكُلُّ غَالٍ مَارِقٍ)).
5-وعنْ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)).
فاللهُ عزَّ وجلَّ يُمْهِلُ ويُؤَخِّرُ عِقابَ الظَّالمِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وتَخْفَى علينا، ولكنَّهُ لنْ يُفْلِتَ مِنْ عذابِ اللهِ وعِقابِهِ.
فهلْ يَعِي الظَّلَمَةُ الْمُتَسَلِّطُونَ على النَّاسِ هذا الوعيدَ، فيَعودونَ إلى صراطِ اللهِ قبلَ فواتِ الأوانِ؟
وهنا تَحْضُرُنِي أبياتٌ للإمامِ الشَّافعيِّ رَحِمَهُ اللهُ:
إذا ما ظَلُومٌ اسْتَحْسنَ الظُّلمَ مَذهبًا ** ولَجَّ عُتُوًّا في قبيحِ اكْتِسَابِهِ
فَكِلْه ُإلى صَرْفِ الليالي فإنَّهَا ** سَتَدْعِي لهُ ما لمْ يكُنْ في حِسَابِهِ
فكَمْ قدْ رَأَيْنَا ظالماً مُتمَرِّدًا ** يرَى النَّجمَ تيهاً تحتَ ظِلِّ رِكَابِهِ
فعمَّا قليلٍ وهوَ في غَفَلاتِهِ ** أناخَتْ صُروفُ الحادثاتِ بِبَابِهِ
فَأصبحَ لا مالَ ولاجاهَ يُرْتَجى ** ولاحَسَنَات ٍتُلْْتَقَى في كتابِهِ
وجُوزِيَ بالأمْرِ الَّذي كانَ فاعلاً ** وصَبَّ عليهِ اللهُ سَوْطَ عَذَابِهِ
فيَجِبُ على المسلمِ أنْ يَجْتَنِبَ الظُّلمَ؛ لأنَّهُ سببٌ لسَخَطِ اللهِ وعُقوبتِهِ، وسببٌ لنَشرِ البَغضاءِ والشَّحناءِ بينَ النَّاسِ، وسببُ الحروبِ والثَّوراتِ، وسببُ انحطاطِ الأُمَمِ ودَمارِ حَضارتِهَا.
اللهُ عزَّ وجلَّ مُنَزَّهٌ عن الظُّلمِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)) اللهُ عزَّ وجلَّ مَنَعَ نفسَهُ الكريمةَ مِن الظُّلمِ. وهناكَ نصوصٌ كثيرةٌ في كتابِهِ تشهدُ لهذا:
قالَ تَعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
وقالَ تَعالى: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}.
وقالَ تعالى: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}.
وقالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
وقالَ تَعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}.
وقالَ تَعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عظيمٍ أَهْلٍ للعبادةِ والتَّعظيمِ والإجلالِ؛ لأنَّهُ لوْ شاءَ أنْ يَظْلِمَ لا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يمنعَهُ، ولكنَّهُ نَزَّهَ نفسَهُ عنْ هذهِ الْمَنْقَصَةِ العظيمةِ، فَيَجبُ على المسلمِ أنْ يُنَزِّهَ ربَّهُ عن الظُّلمِ، وأنْ يَعْتَقِدَ بأنَّهُ هوَ الْحَكَمُ العَدْلُ فيما قالَ وأَمَرَ ونَهَى.
قالَ النَّوويُّ: (والظُّلْمُ مُستحيلٌ في حقِّ اللهِ، كيفَ يُجاوِزُ حَدًّا وليسَ فوقَهُ مَنْ يُطِيعُهُ، وكيفَ يَتَصَرَّفُ في غَيْرِ مُلْكٍ والعالمُ كُلُّهُ في مُلْكِهِ وسُلْطانِهِ).
العبادُ مُفتقرُونَ إلى الغنيِّ سبحانَهُ وتَعالَى:
(3)قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) هذا يَدُلُّ على أنَّ جميعَ الخلقِ فقراءُ إلى اللهِ جلَّ جلالُهُ في جَلْبِ النَّفعِ ودَفْعِ الضُّرِّ في الدُّنيا والآخرةِ.
وفي القرآنِ الكثيرُ مِن الآياتِ الَّتي يُذَكِّرُنا فيها عزَّ وجلَّ بفَقْرِنَا وعجزِنَا وضَعْفِنَا واحتياجِنَا إليهِ في كلِّ شُئُونِ حياتِنَا وأُخْرَانَا:
-ففي احتياجِنَا إلى هدايتِهِ قالَ تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}.
- وفي احتياجِنَا لرزقِهِ قالَ تَعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}.
-وفي احتياجِنَا إلى رحمتِهِ قالَ تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
-وفي احتياجِنَا لمغفرَتِهِ قالَ تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
لذلكَ استدلَّ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ على قومِهِ بدعوتِهِم لعبادةِ اللهِ، بأنَّهُ هوَ المنفردُ بالإطعامِ والهدايَةِ والشِّفاءِ والسِّقايَةِ والإماتةِ والإحياءِ. قالَ تعالى حَاكِيًا عنْ إبراهيمَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
ومَنْ كانَتْ هذهِ صِفَاتِهِ فهوَ الإلهُ الحقُّ الَّذِي يجبُ أنْ يَفِرَّ إليهِ العبادُ، وأنْ لا يَلتفتُوا لغيرِهِ.
الإنسانُ مَفطورٌ على قَبولِ الإسلامِ:
قولُهُ: ((كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ)) لا يُعارِضُ قولَهُ: ((خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ)).
وفي روايَةٍ: ((فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ)) فالعبدُ مَفطورٌ على قَبولِ الإسلامِ، ولكنْ يَجِبُ على الإنسانِ تَعَلُّمُ الإسلامِ بالفعلِ؛ لأنَّهُ قبلَ تعلُّمِهِ جاهلٌ لا يعلمُ، كما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ مُخَاطبًا نبيَّهُ: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} والمقصودُ بالآيَةِ: وَجَدَكَ غيرَ عَالِمٍ بما أعْطَاكَ مِن الكتابِ والحكمةِ. كما قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
فالإنسانُ يُولَدُ مَفطورًا على قَبولِ الحقِّ، فإنْ هَدَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ يَسَّرَ لهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ الهدى فيصيرُ مَهْدِيًّا بالفعلِ بعدَ أنْ كانَ مَهْدِيًّا بالقُوَّةِ، وإنْ أرادَ أنْ يَخْذُلَهُ سلَّطَ عليْهِ مَنْ يُغَيِّرُ فِطْرَتَهُ فيُضِلُّهُ عن الصِّراطِ السَّوِيِّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)).
طَلَبُ الهدايَةِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ: الهدايَةُ الْمُجْمَلَةُ إلى الإسلامِ والإيمانِ هذهِ حاصلةٌ لكلِّ مُؤْمِنٍ.
والهدايَةُ المُفَصَّلَةُ، وهيَ مَعْرِفةُ تفاصيلِ أجزاءِ الإيمانِ والإسلامِ، وإعانةُ اللهِ العبدَ على فعلِ ذلكَ، هذهِ الهدايَةُ يحتاجُهَا المؤمنُ ليلاً ونَهارًا؛ لذلكَ أَوْجَبَ اللهُ علينا سُؤَالَهَا في كلِّ رَكعةٍ مِن الصَّلواتِ المفروضةِ، قالَ تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
والأدلَّةُ الَّتي تَدُلُّ على مشروعيَّةِ طلبِ هدايَةِ التَّوفيقِ والإعانةِ كثيرةٌ في السُّنَّةِ.
ويَجبُ على المسلمِ معَ الدُّعاءِ بطَلبِ الهدايَةِ أنْ يُجاهدَ نفسَهُ على أَخْذِ الأسبابِ المُوصِلَةِ لها.
طلبُ المغفرةِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ:
قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنـَّكـُمْ تُخْطـِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لكُمْ))في الحديثِ الحثُّ على طَلَبِ الْمَغفرةِ مِن الذُّنوبِ والخطايَا مِن اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لذلكَ كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَستغفرُ اللهَ في اليومِ أكثرَ مِنْ مائةِ مرَّةٍ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاللهِ، إِنِّي لأََسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)).
غِنَى اللهِ عنْ خَلْقِهِ:
(4) قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)) العبادُ لا يستطيعونَ أن يُوصِلُوا إلى اللهِ نفعًا ولا ضرًّا، فهوَ في نفسِهِ غنيٌّ عن الطَّاعاتِ، والَّذي يَنتفعُ بالطَّاعةِ العبادُ، وكذلكَ الَّذي يَتضرَّرُ مِن المعصيَةِ العبادُ.
والآياتُ في هذا كثيرةٌ؛ منها قولُهُ تَعالَى: {لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا}.
وقالَ سبحانَهُ: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا}.
وقالَ تَعالَى: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}. ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ مِنْ عبادِهِ أنْ يُطيعُوهُ ويَتَّقُوهُ، ويَكْرَهُ منهم المعصيَةَ، ولا يَرْضَى لهم الكُفْرَ.
خَزائنُ اللهِ لا تَنْفَدُ:
(5) قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)) خزائنُ اللهِ لا تَنْفَدُ ولا يَنْقُصُهَا العطاءُ، ولوْ أعطَى الأوَّلينَ والآخِرِينَ مِن الجنِّ والإنسِ كُلَّ ما سألُوهُ.
عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ((أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)).
وقالَ: ((يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)).
وقالَ: ((أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغُضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)).
الأعمالُ مُحْصَاةٌ:
(6) قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)). الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى يُحْصِي أعمالَ العِبادِ، ثمَّ يَجْزِيهِمْ عليهَا، فمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنَى، ومَنْ كَفَرَ وعَصَى فَلَهُ سُوءُ العَاقبَةِ. وهذا الحديثُ مِثْلُ قولِهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وقولِهِ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
وقولِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ}.
الظَّاهرُ مُرَادُ تَوْفِيَةِ الأعمالِ يومَ الدِّينِ، قالَ تَعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ويَحْتَمِلُ أنْ تكونَ تَوْفِيَةُ الأعمالِ في الدُّنيا والآخرةِ، قالَ تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، فالمؤمنُ قدْ يُجَازَى بإساءَتِهِ في الدُّنْيَا، وتُدَّخَرُ لهُ حَسَنَاتُهُ يومَ القيامةِ، فَيُوَفَّى أجْرَهُ وتُضَاعَفُ لهُ الحسَنَاتُ.
أمَّا الكافرُ فقدْ يُعَجِّلُ اللهُ لهُ في الدُّنيَا ثوابَ حسناتِهِ، وتُدَّخَرُ سيِّئَاتُهُ يومَ الدِّينِ فيُعَاقَبُ عليها بمثلِهَا دونَ مضاعفَةٍ، قالَ تَعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا}.
حَمْدُ اللهِ على آلائِهِ:
(7)قولُهُ: ((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))قدْ يكونُ المعنى: مَنْ وجدَ خيرًا بسببِ أعمالِهِ الصَّالحةِ في الدُّنيَا فيَجِبُ عليهِ أنْ يَحْمَدَ اللهَ على ذلكَ، قالَ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومَنْ وَجَدَ عاقبةَ أعمالِهِ السَّيِّئَةِ في الدُّنيَا فعليهِ أنْ يَلُومَ نفسَهُ على ذلكَ، ويَستغفرَ اللهَ ويَتوبَ إليهِ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقدْ يكونُ المعنى غيرَ ذلكَ: فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسَهُ حيثُ لا يَنفعُ النَّدمُ، ويكونُ معنى الأَمْرِ ((فَلْيَحْمَدِ اللهَ))، و((فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)) الإخبارَ.
وأخبرَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَحْمَدُونَ اللهَ على ما أنعمَ عليهِمْ، قالَ تَعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ}. وأخبرَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ أهلَ النَّارِ يلومُونَ أنفسَهُمْ، قالَ تعالى: {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}.
فوائدُ من الحديثِ:
1-في الحديثِ دليلٌ على وجوبِ مسألةِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعالى في كُلِّ ما يَحتاجُ إليهِ الإنسانُ مِنْ مصالحِ دينِهِ ودُنْيَاهُ؛ لأنَّ الخيرَ كُلَّهُ بينَ يدَيْهِ.
2-في الحديثِ دليلٌ على أهمِّيَّةِ القلبِ؛ لأنَّ الأصلَ في التَّقوَى والفجورِ القلوبُ، فإذا استقامَ القلبُ استقامَت الأعضاءُ، وإذا فجَرَ فسَدَت الجوارحُ.
3-في الحديثِ إشارةٌ إلى أنَّ الخيرَ والفضلَ كُلَّهُ من اللهِ، يَتَفَضَّلُ بهِ على عبادِهِ مِنْ غيرِ استحقاقٍ، والشَّرَّ مِنْ عندِ أنفسِهِمْ، كما قالَ تَعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.
4-كما في الحديثِ إشارةٌ إلى مُحَاسَبةِ النَّفسِ والنَّدمِ على الذُّنوبِ في قولِهِ: ((فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)).
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
هذا الحديثُ خَرَّجَهُ
مسلِمٌ مِنْ روايَةِ سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ عنْ رَبيعةَ بنِ يَزيدَ، عنْ أبي إِدريسَ الْخَوْلانيِّ، عنْ أبي ذَرٍّ. وقالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
وفي آخِرِهِ: قالَ سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ: كانَ أبو إِدريسَ الخَوْلانيُّ إذا حَدَّثَ بهذا الحديثِ جَثَا على رُكْبَتَيْهِ.
- وخَرَّجَهُ مسلِمٌ أيضًا مِنْ روايَةِ قَتادةَ عنْ أبي قِلابةَ، عنْ أبي أسماءَ الرَّحَبِيِّ، عنْ أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولمْ يَسُقْهُ بلَفْظِهِ، ولكِنَّهُ قالَ: وساقَ الحديثَ بنَحْوِ سِياقِ أبي إدريسَ، وحديثُ أبي إدريسَ أَتَمُّ.
-وخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ وابنُ ماجَهْ، مِنْ روايَةِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ غُنْمٍ، عنْ أبي ذرٍّ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُ؛ فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلا مَنْ أَغْنَيْتُ؛ فَسَلُونِي أَرْزُقْكُمْ، وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلا مَنْ عَافَيْتُ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ وَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلا أُبَالِي، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ، فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلامٌ، وَعَذَابِي كَلامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ)) وهذا لفظُ التِّرمذيِّ وقالَ: حديثٌ حسَنٌ.
-وخَرَّجَهُ الطَّبرانيُّ بمعناهُ مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، إلا أنَّ إسنادَهُ ضعيفٌ.
وحديثُ أبي ذَرٍّ، قالَ الإِمامُ أحمدُ:(هوَ أَشْرَفُ حديثٍ لأهلِ الشامِ).
(1)فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فيما يَرْوِي عنْ رَبِّهِ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي))يعني: أنَّهُ مَنَعَ نفسَهُ مِن الظُّلْمِ لعِبادِهِ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق: 29].
وقالَ:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31. ].
وقالَ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عِمرانَ: 108].
وقالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبيدِ} [فُصِّلَتْ: 46].
وقالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يُونس: 44].
وقالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112]، والْهَضْمُ: أنْ يُنْقَصَ مِنْ جَزَاءِ حَسناتِهِ، والظُّلْمُ: أنْ يُعاقَبَ بذُنُوبِ غيرِهِ. ومِثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ.
وهو ممَّا يَدُلُّ على أنَّ اللَّهَ قادرٌ على الظُّلْمِ، ولكِنَّهُ لا يَفعلُهُ فَضْلاً منهُ وَجُودًا وكَرَمًا، وإحسانًا إلى عِبادِهِ.
وقدْ فَسَّرَ كثيرٌ مِن العلماءِ الظُّلْمَ: بأنَّهُ وَضْعُ الأشياءِ في غيرِ مَوْضِعِهَا.
وأمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بالتَّصرُّفِ في مِلْكِ الغيرِ بغيرِ إِذْنِهِ -وقدْ نُقِلَ نَحْوُهُ عنْ إياسِ بنِ مُعاويَةَ وغيرِهِ- فإنَّهُم يَقولونَ: إنَّ الظُّلْمَ مُستحيلٌ عليهِ وغيرُهُ مُتَصَوَّرٌ في حَقِّهِ؛ لأنَّ كُلَّ ما يَفعلُهُ فهوَ تَصَرُّفٌ في مُلْكِهِ، وبنَحْوِ ذلكَ أجابَ أبو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِعِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ حينَ سألَهُ عن القَدَرِ.
وخَرَّجَ أبو داوُدَ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي سِنانٍ سعيدِ بنِ سِنانٍ، عنْ وَهْبِ بنِ خالدٍ الْحِمْصِيِّ، عن ابنِ الدَّيْلَمِيِّ، أنَّهُ سَمِعَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يقولُ: (لوْ أنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهم وهوَ غيرُ ظالِمٍ لهم، ولوْ رَحِمَهُم لكانَتْ رحمتُهُ خيرًا لهم مِنْ أعمالِهم) وأنَّهُ أتى ابنَ مسعودٍ، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أتى زيدَ بنَ ثابتٍ، فحَدَّثَهُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذلكَ.
وفي هذا الحديثِ نَظَرٌ، ووَهْبُ بنُ خالدٍ ليسَ بذاكَ المشهورِ بالعِلْمِ، وقدْ يُحمَلُ على أنَّهُ لوْ أرادَ تَعذيبَهم لقَدَّرَ لهم ما يُعَذِّبُهم عليهِ، فيكونُ غيرَ ظالِمٍ لهم حينئذٍ.
وكونُهُ خَلَقَ أفعالَ العِبادِ،وفيها الظُّلْمُ، لا يَقْتَضِي وَصْفَهُ بالظُّلْمِ سُبحانَهُ وتعالى، كما أنَّهُ لا يُوصَفُ بسائِرِ القبائحِ التي يَفْعَلُها العِبادُ، وهيَ خَلْقُهُ وتَقديرُهُ؛ فإنَّهُ لا يُوصَفُ إلا بأفعالِهِ، لا يُوصَفُ بأفعالِ عِبادِهِ؛ فإنَّ أفعالَ عِبادِهِ مَخْلُوقَاتُهُ ومَفعولاتُهُ، وهوَ لا يُوصَفُ بشيءٍ منها، إنَّما يُوصَفُ بما قَامَ بهِ مِنْ صِفاتِهِ وأفعالِهِ، واللَّهُ أَعلَمُ.
(2)وقولُهُ: ((وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلا تَظَالَمُوا)) يعني: أنَّهُ تعالى حَرَّمَ الظلْمَ على عِبادِهِ، ونَهاهُمْ أنْ يَتَظَالَمُوا فيما بينَهم، فَحَرَامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يَظلِمَ غيرَهُ، معَ أنَّ الظُّلمَ في نفسِهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وهوَ نَوْعَانِ:
أحدُهما:ظُلْمُ النفسِ، وأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كما قالَ تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقمان: 13] فإنَّ الْمُشْرِكَ جَعَلَ المخلوقَ في مَنزِلةِ الخالِقِ، فعَبَدَهُ وتَأَلَّهَهُ، فوَضَعَ الأشياءَ في غيرِ مَوْضِعِها.
وأَكْثَرُ ما ذُكِرَ في القرآنِ مِنْ وَعيدِ الظالمينَ إنَّما أُريدَ بهِ الْمُشْرِكونَ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، ثمَّ يَلِيهِ المعاصي على اختلافِ أجناسِها مِنْ كبائرَ وصَغائرَ.
والثاني:ظُلْمُ العبدِ لغيرِهِ، وهوَ المذكورُ في هذا الحديثِ، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَتِهِ في حَجَّةِ الوداعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ خَطَبَ بذلكَ في يومِ عَرَفَةَ، وفي يومِ النَّحْرِ، وفي اليومِ الثاني مِنْ أيَّامِ التشريقِ.
وفي روايَةٍ: ثمَّ قالَ: ((اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلا لا تَظْلِمُوا، أَلا لا تَظْلِمُوا، أَلا لا تَظْلِمُوا؛ إِنَّهُ لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).
وفي (الصحيحيْنِ): عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وفيهما: عنْ أبي موسى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:
((إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)) ثمَّ قرأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
وفي (صحيحِ البخاريِّ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَِخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَِخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)).
قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) هذا يَقتضِي أنَّ جميعَ الْخَلْقِ مُفْتَقِرُونَ إلى اللَّهِ تعالى في جَلْبِ مَصَالِحِهم، ودَفْعِ مَضارِّهِمْ في أُمُورِ دِينِهم ودُنياهُم، وأنَّ العِبادَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهم شيئًا مِنْ ذلكَ كلِّهِ، وأنَّ مَنْ لمْ يَتَفَضَّل اللَّهُ عليهِ بالْهُدَى والرزقِ، فإنَّهُ يُحْرَمُهما في الدُّنْيا، ومَنْ لمْ يَتفضَّل اللَّهُ عليهِ بِمَغْفِرَةِ ذُنوبِهِ أَوْبَقَتْهُ خَطاياهُ في الآخِرةِ.
قالَ اللَّهُ تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، ومِثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ.
وقالَ تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
وقالَ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَات: 58].
وقالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العَنْكَبُوت: 17].
وقالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
وقالَ تعالى حَاكِيًا عنْ آدمَ وزَوْجِهِ أنَّهما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]، وعنْ نُوحٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّهُ قالَ: {وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود: 47].
وقد اسْتَدَلَّ إبراهيمُ الخليلُ عليهِ السلامُ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بهذهِ الأمورِ على أنَّهُ لا إلهَ غيرُهُ، وأنَّ كلَّ ما أُشْرِكَ معهُ فباطلٌ، فقالَ لقَومِهِ: {أَفَرَأَيتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 75 - 82]. فإنَّ مَنْ تَفرَّدَ بِخَلْقِ العبدِ وبِهِدايتِهِ وبِرِزْقِهِ وإِحْيَائِهِ وإماتَتِهِ في الدُّنيا، وبِمَغْفِرَةِ ذُنوبِهِ في الآخِرَةِ، مُسْتَحِقٌّ أنْ يُفْرَدَ بالإِلَهِيَّةِ والعِبادةِ والسؤالِ والتضرُّعِ إليهِ والاستكانةِ لهُ.
قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الرُّوم: 40].
وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ يَسْأَلَهُ العِبادُ جميعَ مَصالِحِ دِينِهم ودُنياهم، مِن الطَّعامِ والشرابِ والكِسوةِ وغيرِ ذلكَ، كما يَسألونَهُ الْهِدايَةَ والْمَغفرَةَ، وفي الحديثِ: ((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ)).
وكانَ بعضُ السلَفِ يَسألُ اللَّهَ في صلاتِهِ كلَّ حَوَائِجِهِ حتَّى مِلْحَ عَجِينِهِ وعَلَفَ شاتِهِ، وفي الإِسرَائِيلِيَّاتِ أنَّ موسى عليهِ السلامُ قالَ: (يا رَبِّ، إنَّهُ لَتَعْرِضُ لِيَ الحاجةُ مِن الدُّنْيا فأَسْتَحِي أنْ أَسألَكَ، قالَ: سَلْنِي حتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ وعَلَفَ حِمارِكَ؛ فإنَّ كُلَّ ما يَحتاجُ العبدُ إليهِ إذا سَأَلَهُ مِن اللَّهِ فقدْ أَظْهَرَ حاجتَهُ فيهِ، وافتقارَهُ إلى اللَّهِ، وذلكَ يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ وكان بعضُ السلَفِ يَسْتَحِي مِن اللَّهِ أنْ يَسألَهُ شيئًا مِنْ مَصالِحِ الدُّنْيا، والاقتداءُ بالسُّنَّةِ أَوْلَى).
هذا كُلُّهُ معَ غِناهُ عنْ طاعاتِ عِبادِهِ وتَوْباتِهم إليهِ، وإنَّهُ إنَّما يَعُودُ نَفْعُهَا إليهم دُونَهُ، ولكنْ هذا مِنْ كمالِ جُودِهِ وإحسانِهِ إلى عِبادِهِ، ومَحَبَّتِهِ لنَفْعِهم، ودَفْعِ الضَّررِ عنهم، فهوَ يُحِبُّ مِنْ عِبادِهِ أنْ يَعرِفوهُ ويُحِبُّوهُ ويَخَافُوهُ ويَتَّقُوهُ ويُطيعُوهُ ويَتَقَرَّبوا إليهِ، ويُحِبُّ أنْ يَعْلَمُوا أنَّهُ لا يَغْفِرُ الذنوبَ غيرُهُ، وأنَّهُ قادرٌ على مَغْفِرَةِ ذنوبِ عِبادِهِ، كما في روايَةِ عبدِ الرحمنِ بنِ غُنْمٍ عنْ أبي ذَرٍّ لهذا الحديثِ: ((مَنْ عَلِمَ مِنْكُم أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَنِي، غَفَرْتُ لَهُ وَلا أُبَالِي)).
وفي (الصحيحِ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ اللَّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي)).
وفي حديثِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ لَمَّا رَكِبَ دَابَّتَهُ حَمِدَ اللَّهَ ثلاثًا، وكَبَّرَ ثلاثًا، وقالَ: ((سُبْحَانَكَ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ وَقالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُوالتِّرمذيُّ وصَحَّحَهُ.
ومَن الَّذِي يُدْنِينِي بعدَ أنْ غَضِبْتِ عَلَيَّ؟
فرَحِمَتْهُ أُمُّهُ، فقامَتْ فنَظَرَتْ مِنْ خَلَلِ البابِ، فوَجَدَتْ وَلَدَها تَجرِي الدُّمُوعُ على خَدَّيْهِ مُتَمَعِّكًا في التُّرَابِ، ففَتَحَت البابَ وأَخَذَتْهُ حتَّى وَضَعَتْهُ في حِجْرِها، وجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ وتقولُ: يا قُرَّةَ عَيْنِي، ويَا عزيزَ نفسِي، أنْتَ الذي حَمَلْتَنِي على نَفْسِكَ، وأنتَ الذي تَعرَّضْتَ لِمَا حَلَّ بكَ، لوْ كُنْتَ أَطَعْتَنِي لمْ تَلْقَ مِنِّي مَكْرُوهًا؛ فتَوَاجَدَ الفتى، ثمَّ قامَ فَصَاحَ وقالَ: قدْ وَجَدْتُ قَلْبِي، قدْ وجَدْتُ قَلْبِي).
وتَفَكَّرُوا في قولِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عِمْرَانَ: 135]؛ فإنَّ فيهِ إشارةً إلى أنَّ الْمُذْنِبينَ ليسَ لهم مَنْ يَلْجَئُونَ إليهِ، ويُعَوِّلونَ عليهِ في مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهم غَيْرَهُ. وكذلكَ قولُهُ في حقِّ الثلاثةِ الذينَ خُلِّفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
أَسَأْتُ ولمْ أُحْسِنْ وجِئْتُكَ تائبًا ** وأَنَّى لِعَبْدٍ عنْ مَوَالِيهِ مَهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفْراناً فِإِنْ خَابَ ظَنُّهُ ** فما أحَدٌ منهُ على الأَرْضِ أَخْيَبُ
فقولُهُ بعدَ هذا:
((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا)) هوَ إشارةٌ إلى أنَّ مُلْكَهُ لا يَزيدُ بطَاعةِ الْخَلْقِ، ولَوْ كانوا كُلُّهم بَرَرَةً أتقياءَ، قُلُوبُهم على قلبِ أَتْقَى رَجُلٍ منهم. ولا يَنْقُصُ مُلكُهُ بمعصيَةِ العاصينَ، ولوْ كانَ الجِنُّ والإِنسُ كُلُّهم عُصاةً فَجَرَةً، قُلُوبُهم على قلبِ أَفْجَرِ رَجُلٍ منهم؛ فإنَّهُ سُبحانَهُ الغنيُّ بذَاتِهِ عمَّنْ سِواهُ، ولهُ الكمالُ الْمُطْلَقُ في ذَاتِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ، فَمُلْكُهُ مُلْكٌ كاملٌ لا نَقْصَ فيهِ بوَجْهٍ مِن الوجوهِ على أيِّ وَجْهٍ كانَ.
ومِن النَّاسِ مَنْ قالَ: (إنَّ إِيجَادَهُ لِخَلْقِهِ على هذا الوجهِ الموجودِ أَكْمَلُ مِنْ إيجادِهِ على غَيْرِهِ، وهوَ خيرٌ مِنْ وُجودِهِ على غيرِهِ. وما فيهِ مِن الشَّرِّ فهوَ شرٌّ إضافيٌّ نِسْبِيٌّ بالنِّسبةِ إلى بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ، وليسَ شَرًّا مُطْلَقًا، بحيثُ يكونُ عَدَمُهُ خيرًا مِنْ وُجودِهِ مِنْ كلِّ وَجْهٍ، بلْ وُجودُهُ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ) قالَ: وهذا معنى قولِهِ: {بِيَدِهِ الْخَيْرُ}، ومعنى قولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) يعني: أنَّ الشَّرَّ الْمَحْضَ الذي عَدَمُهُ خيرٌ مِنْ وُجودِهِ ليسَ مَوجودًا في مُلْكِكَ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى أَوْجَدَ خَلْقَهُ على ما تَقتضِيهِ حِكْمَتُهُ وعَدْلُهُ، وخَصَّ قومًا مِنْ خَلْقِهِ بالفَضْلِ، وتَرَكَ آخَرِينَ منهم في العَدْلِ، لِمَا لهُ في ذلكَ مِن الْحِكمةِ البالِغَةِ.
وهذا فيهِ نَظَرٌ، وهوَ يُخالِفُ ما في هذا الحديثِ مِنْ أنَّ جَميعَ الْخَلْقِ لوْ كَانُوا على صفةِ أَكْمَلِ خَلْقِهِ مِن الْبِرِّ والتَّقْوَى، لمْ يَزِدْ ذلكَ مُلْكَهُ شيئًا، ولا قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، ولوْ كَانُوا على صِفةِ أَنقصِ خَلْقِهِ مِن الفُجورِ، لمْ يَنْقُصْ ذلكَ مِنْ مُلْكِهِ شيئًا، فَدَلَّ على أنَّ مُلْكَهُ كاملٌ علَى أيِّ وَجْهٍ كانَ، لا يَزْدَادُ ولا يَكْمُلُ بالطاعاتِ، ولا يَنْقُصُ بالمعاصي، ولا يُؤَثِّرُ فيهِ شيءٌ.
وفي هذا الكلامِ دليلٌ على أنَّ الأصلَ في التَّقوى والفُجورِ هوَ القلبُ، فإذا بَرَّ القلبُ واتَّقى بَرَّت الجوارحُ، وإذا فَجَرَ القلبُ فَجَرَت الجوارحُ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((التَّقْوَى هَا هُنَا)) وأشارَ إلى صَدْرِهِ.
(5)قولُهُ: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)) الْمُرادُ بهذا ذِكْرُ كمالِ قُدرتِهِ سُبحانَهُ، وكمالِ مُلْكِهِ، وأنَّ مُلكَهُ وخَزائنَهُ لا تَنْفَدُ، ولا تَنْقُصُ بالعطاءِ، ولوْ أَعْطَى الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ مِن الجنِّ والإِنسِ جميعَ ما سَأَلُوهُ في مَقامٍ واحدٍ. وفي ذلكَ حثٌّ للخَلْقِ على سُؤَالهِ وإنزالِ حَوَائِجِهم بهِ.
وفي (الصحيحيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَدُ اللَّهِ مَلأَى، لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ)).
وفي (صحيحِ مسلِمٍ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْألَةَ، وَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ)).
وقالَ أبو سعيدٍ الْخُدْرِيُّ: (إذا دَعَوْتُم اللَّهَ فارْفَعُوا في المسألةِ؛ فإنَّ ما عندَهُ لا يُنْفِدُهُ شيءٌ، وإذا دَعَوْتُمْ فاعْزِمُوا؛ فإنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ لهُ).
وفي بعضِ الآثارِ الإسرائِيلِيَّةِ: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (أَيُؤَمَّلُ غَيْرِي للشَّدَائدِ والشَّدَائِدُ بِيَدِي، وأَنَا الحيُّ القيُّومُ؟! ويُرْجَى غَيْرِي، ويُطْرَقُ بَابُهُ بالبُكَرَاتِ، وبِيَدِي مَفاتيحُ الخَزَائِنِ، وبابي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعانِي؟! مَنْ ذا الذي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فقَطَعْتُ بهِ؟! أوْ مَنْ ذا الذي رَجَانِي لعظيمٍ فقَطَعْتُ رَجاءَهُ؟! أوْ مَنْ ذا الذي طَرَقَ بابِي فلمْ أَفْتَحْهُ لهُ؟! أنا غايَةُ الآمالِ، فكيفَ تَنْقَطِعُ الآمالُ دُونِي؟! أَبَخِيلٌ أنا فيُبَخِّلَنِي عَبْدِي؟! أليسَ الدُّنيا والآخِرةُ والكَرَمُ والفضلُ كُلُّهُ لي؟! فما يَمْنَعُ المُؤَمِّلِينَ أنْ يُؤَمِّلُونِي؟ لوْ جَمَعْتُ أَهْلَ السماواتِ والأرضِ، ثمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ واحدٍ منهم ما أَعطَيْتُ الجميعَ، وبَلَّغْتُ كُلَّ واحدٍ منهم أَمَلَهُ، لمْ يَنْقُصْ ذلكَ مِنْ مُلْكِي عُضْوَ ذَرَّةٍ، كيفَ يَنْقُصُ مُلْكٌ أَنَا قَيِّمُهُ؟! فيا بُؤْسًا للقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي، ويا بُؤْسًا لِمَنْ عَصَانِي وتَوَثَّبَ على مَحارِمِي).
وقولُهُ: ((لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)) تحقيقٌ؛ لأنَّ ما عندَهُ لا يَنْقُصُ الْبَتَّةَ، كما قالَ تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}[النحل: 96]؛ فإنَّ البحرَ إذا غُمِسَ فيهِ إِبْرَةٌ، ثمَّ أُخْرِجَتْ، لمْ يَنْقُصْ مِن البحرِ بذلكَ شيءٌ.
وكذلكَ لوْ فُرِضَ أنَّهُ شَرِبَ منهُ عُصْفُورٌ مَثَلاً، فإنَّهُ لا يَنْقُصُ البحرُ الْبَتَّةَ؛ ولهذا ضَرَبَ الْخَضِرُ لموسى عليهما السلامُ هذا الْمَثَلَ في نِسْبَةِ عِلْمِهما إلى عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا لأنَّ البَحْرَ لا يَزالُ تَمُدُّهُ مِياهُ الدُّنيا وأنهارُها الجاريَةُ، فَمَهْمَا أُخِذَ منهُ، لمْ يَنْقُصْهُ شيءٌ؛ لأَِنَّهُ يَمُدُّهُ ما هوَ أَزْيَدُ مِمَّا أُخِذَ منهُ. وهكذا طَعَامُ الجنَّةِ وما فيها؛ فَإِنَّهُ لا يَنْفَدُ، كما قالَ تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32 -33]، وقدْ جاءَ: ((أَنَّهُ كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ عَادَ مَكَانَهَا مِثْلُهَا)) ورُوِيَ: ((مِثْلاهَا)) فهيَ لا تَنْقُصُ أبدًا.
ويَشهدُ لذلكَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَةِ الكُسوفِ: ((وَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأََكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا)). خرَّجَاهُ في (الصحيحيْنِ) مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، وخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ جابرٍ، ولَفْظُهُ: ((وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لأََكَلَ مِنْهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَنْقُصُونَهَ شَيْئًا)).
وهكذا لَحْمُ الطَّيرِ الذي يَأْكُلُهُ أهلُ الجنَّةِ يُسْتَخْلَفُ ويَعُودُ كما كانَ حَيًّا لا يَنْقُصُ منهُ شيءٌ.
وقدْ رُوِيَ هذا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ فيها ضَعْفٌ، وقالَهُ كَعْبٌ.
ورُوِيَ أيضًا عنْ أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ مِنْ قولِهِ، قالَ أبو أُمامةَ: (وكذلكَ الشرابُ يُشْرَبُ حتَّى يَنتهيَ نفَسُهُ، ثمَّ يَعودُ مَكانَهُ).
ورُؤِيَ بعضُ العلماءِ الصالحينَ بعدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ في الْمَنامِ فقالَ: (ما أَكَلْتُ منذُ فارَقْتُكم إلا بعْضَ فَرْخٍ، أمَا عَلِمْتُمْ أنَّ طَعامَ الْجَنَّةِ لا يَنْفَدُ؟!).
وقدْ بَيَّنَ في الحديثِ الَّذي خَرَّجَهُ التِّرمذيُّ وابنُ مَاجَهْ السببَ الذي لأَجْلِهِ لا يَنْقُصُ ما عندَ اللَّهِ بالعطاءِ، بقولِهِ: ((ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلامٌ، وَعَذَابِي كَلامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ)) وهذا مِثلُ قولِهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقولِهِ تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل: 40].
وفي (مُسْنَدِ الْبَزَّارِ) بإسنادٍ فيهِ نَظَرٌ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ: عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خَزَائِنُ اللَّهِ الْكَلامُ، فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا قالَ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ)). فهوَ سُبْحَانَهُ إذا أرادَ شيئًا؛ مِنْ عطاءٍ أوْ عذابٍ أوْ غيرِ ذلكَ، قالَ لهُ: كنْ، فكانَ، فكيفَ يُتَصَوَّرُ أنْ يَنْقُصَ هذا؟
وكذلكَ إذا أرادَ أنْ يَخْلُقَ شيئًا قالَ لهُ: كُنْ، فيكونُ، كما قالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمرانَ: 59].
وفي بعضِ الآثارِ الإسرائيليَّةِ: (أَوْحَى اللَّهُ تعالى إلى موسى عليهِ السلامُ: يا مُوسى، لا تَخَافَنَّ غَيْرِي ما دامَ ليَ السُّلطانُ، وسُلطانِي دائمٌ لا يَنقطِعُ. يا موسى، لا تَهْتَمَّنَّ برِزْقِي أبدًا ما دَامَتْ خَزائنِي مَملوءةً، وخَزائنِي مَملوءةٌ لا تَفْنَى أبدًا.
يا موسى، لا تَأْنَسْ بغَيْرِي ما وَجَدْتَنِي أَنيسًا لكَ، ومتى طَلَبْتَنِي وَجَدْتَنِي. يا موسى، لا تَأْمَنْ مَكْرِي ما لمْ تَجُز الصِّراطَ إلى الجنَّةِ).
وقالَ بعضُهم:
لا تَخَضَعَنَّ لِمخلُوقٍ على طَمَعٍ فإنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بالدِّينِ
واستَرْزِق اللَّهَ مِمَّا في خَزائِنِهِ فإنَّمَا هِيَ بَيْنَ الكَافِ والنُّونِ
وقولُهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)) يعني: أنَّهُ سبحانَهُ يُحْصِي أعمالَ عِبادِهِ، ثمَّ يُوَفِّيهِم إيَّاها بالجزاءِ عليها، وهذا كقولِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَة: 7 - 8].
وقولِهِ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف: 49].
وقولِهِ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عِمرانَ: 30].
وقولِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}[المُجَادَلَة: 6].
وقولُهُ: ((ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا)) الظاهِرُ أنَّ الْمُرادَ تَوْفِيَتُها يومَ القِيامةِ، كما قالَ تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجَورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عِمرانَ: 185]، ويَحْتَمِلُ أنَّ المُرَادَ: أنَّهُ يُوَفِّي عِبادَهُ جَزاءَ أعمالِهم في الدُّنيا والآخِرةِ، كما في قولِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء: 123].
وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ فَسَّرَ ذلكَ بأنَّ المؤمنينَ يُجَازَوْنَ بِسَيِّئَاتِهم في الدُّنيا، وتُدَخَّرُ لهم حَسناتُهم في الآخِرةِ، فيُوَفَّوْنَ أُجُورَها، وأمَّا الكافرُ فإنَّهُ يُعَجَّلُ لهُ في الدُّنْيا ثوابُ حَسناتِهِ، وتُدَّخَرُ لهُ سَيِّئاتُهُ، فَيُعَاقَبُ بها في الآخِرةِ.
وتَوْفِيَةُ الأعمالِ هيَ تَوفيَةُ جَزائِها مِنْ خيرٍ أوْ شَرٍّ، فالشَّرُّ يُجازَى بهِ مِثْلَهُ مِنْ غيرِ زِيادةٍ، إلا أنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عنهُ، والخيرُ تُضاعَفُ الحسنَةُ منهُ بِعَشْرِ أمثالِها إلى سبعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كثيرةٍ لا يَعلَمُ قَدْرَها إلا اللَّهُ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ}[الزُّمَر: 10].
وقولُهُ: ((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ)) إشارةٌ إلى أنَّ الخيرَ كُلَّهُ مِن اللَّهِ فضلٌ منهُ على عَبْدِهِ، مِنْ غيرِ استحقاقٍ لهُ، والشَّرَّ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ ابنِ آدمَ مِن اتِّباعِ هَوَى نفسِهِ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}[النساء: 79]، وقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا رَبَّهُ، ولا يَخَافَنَّ إلا ذَنْبَهُ. فاللَّهُ سُبْحَانَهُ إذا أَرادَ تَوفيقَ عبدٍ وهِدايتَهُ أعانَهُ ووَفَّقَهُ لطَاعَتِهِ، فكانَ ذلكَ فَضْلاً منهُ، وإذا أرادَ خِذلانَ عَبدٍ وَكَلَهُ إلى نفسِهِ، وخَلَّى بينَهُ وبينَها، فأَغْوَاهُ الشيطانُ لِغَفْلَتِهِ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وكانَ ذلكَ عَدْلاً منهُ؛ فإنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ على العبدِ بإِنْزَالِ الكتابِ، وإرسالِ الرَّسُولِ، فما بَقِيَ لأَحَدٍ مِن النَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُلِ).
فقولُهُ بعدَ هذا: ((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ)) إنْ كانَ الْمُرادُ: مَنْ وَجَدَ ذلكَ في الدُّنيا فإنَّهُ يكونُ حينَئذٍ مأمورًا بالْحَمْدِ للَّهِ على ما وَجَدَهُ مِنْ جزاءِ الأعمالِ الصالحةِ الذي عُجِّلَ لهُ في الدُّنيا، كما قالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 97]. ويكونُ مَأْمُورًا بِلَوْمِ نفسِهِ على ما فَعَلَتْ مِن الذُّنُوبِ التي وَجَدَ عاقِبَتَها في الدُّنْيا، كما قالَ تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[السجدة: 21]، فالْمُؤْمِنُ إذا أَصَابَهُ في الدُّنيا بَلاءٌ رَجَعَ على نفسِهِ باللَّوْمِ، ودَعاهُ ذلكَ إلى الرجوعِ إلى اللَّهِ بالتوبةِ والاستغفارِ.
وفي (الْمُسْنَدِ) و(سُنَنِ أبي دَاوُدَ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُمُرِهِ. وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ وَعُوفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ وَأَطْلَقُوهُ، لا يَدْرِي لِمَ عَقَلُوهُ وَلا لِمَ أَطْلَقُوهُ)).
وقالَ سَلْمَانُ الفارسيُّ: (إنَّ المسلمَ لَيُبْتَلَى، فيكونُ كَفَّارةً لِمَا مَضَى، ومُسْتَعْتَبًا فيما بَقِي، وإنَّ الكافرَ يُبْتَلَى، فمَثَلُهُ كَمَثَلِ البعيرِ أُطْلِقَ، فلَمْ يَدْرِ لِمَ أُطْلِقَ، وعُقِلَ فلَمْ يَدْرِ لِمَ عُقِلَ).
وأَخْبَرَ عنْ أهلِ النارِ أنَّهم يَلُومونَ أنْفُسَهم، ويَمْقُتُونَها أَشَدَّ الْمَقْتِ، فقالَ تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}[إبراهيم: 22].
وقالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10].
وقدْ كانَ السَّلَفُ الصالحُ يَجتهدونَ في الأعمالِ الصالحةِ؛ حَذَرًا مِنْ لَوْمِ النفسِ عندَ انقطاعِ الأعمالِ على التقصيرِ.
وفي (التِّرمذيِّ): عنْ أبي هُريرةَ مَرفوعًا: ((مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ عَلَى أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ اسْتَعْتَبَ)).
وقيلَ لمَسْرُوقٍ: لوْ قَصَّرْتَ عنْ بعضِ ما تَصْنَعُ مِن الاجتهادِ، فقالَ: (واللَّهِ لوْ أَتَانِي آتٍ فأَخْبَرَنِي أنْ لا يُعَذِّبَنِي، لاجْتَهَدْتُ في العِبادةِ)
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي ذرٍ الغفاري -رضي الله عنه- قال: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل-:((يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تظالموا.
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أُطعمكم.
يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحدً مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي شيئاً إلا كما ينقص المِخْيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم.
الشيخ:
هذا الحديث هو الحديث الرابع والعشرون من هذه الأحاديث الأربعين النووية.
وهو عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تظالموا)) الحديث.
هذا الحديث حديثٌ عظيم في بيان حاجة العبد وافتقاره إلى ربه -جل وعلا-، وما يحبه الله -جل وعلا- من العبد، وما يكرهُهُ، وهذا من الأحاديث القدسية؛ لأنهُ صُدِّر بقوله: (فيما يرويه عن ربّه عز وجلّ) والذي يروي عن الله -جل وعلا- هو المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهذا يعني: أن الحديث القُدسي يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا- بهذا اللفظ؛ لأنها رواية، والرواية تكون باللفظ؛ لأنه هو الأصل.
ولهذا فالحديث القُدْسي الذي يُنمى إلى الربِّ -جل وعلا- من الكلام، وليس من القرآن، يعني: فيما يقول فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((قال الله تعالى))((قال ربكم عز وجل)) وأشباه ذلك -وليس من القرآن- فيسمى حديثاً قدسياً.
ومعنى كونه قُدْسياً، يعني أنه جاء من القُدُّوس -جل وعلا-، يعني: أنه حديث مُطهَّرٌ عالٍ على كلام الخَلْق، وهذا في معناه العام.
أما الحديث القُدسي من حيث الاصطلاح:
فقد اختلف فيه العلماء، وعباراتهم متنوعة، والذي يتفق مع اعتقاد أهل السنة والجماعة:
أن الحديث القُدْسي من حيث اللفظ هو من الله -جل وعلا-، وأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه رواية (يعني: بلفظه) وليس له عليه الصلاة والسلام أن يُغير لفظه.
وبعض أهل العلم قالوا: (إن معناه من الله -جل وعلا- ولفظه من المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، أُبيح له أن يغير في لفظه) وهذا القول لا دليل عليه؛ لأنّهُ جاء ذلك بالنَّقل: (قال الله تعالى)، (قال ربكم).
والصحابة يقولون: (فيما ينميه إلى ربه)، (فيما يُبلِّغهُ عن ربّه)، (فيما يرويه عن ربه)، وهذه كلها من ألفاظ الأداء في الرواية، وليس ثَمَّ ما يدل على أنَّ المعنى من الله -جل وعلا-، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصرفُ في الألفاظ بما يُؤدي به المعنى، ولا حاجة له عليه الصلاة والسلام في ذلك.
وأيضاً هذا القول -وهو أنه من حيث اللفظ من النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى من الله -جل وعلا-، يتفق مع قول الأشاعرة، والماتريدية، وأشباه هؤلاء؛ في أنّ الله -جل وعلا- كلامُه كلامٌ نفسي؛ بمعنى: أنه يُلْقي في روعِ جبريل المعاني، أو يُلْقي في روعِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- المعاني، ويعبر عنها جبريل بما يراه، ويُعبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بما يراه.
ولهذا عندهم: القرآن: عبارة عن كلام الله -جل وعلا- وليس هو بكلام الله -جل وعلا- الذي خَرجَ منه -جل وعلا- وبدأ منه سبحانه وتعالى بكلماته وحروفه ومعانيه.
فإذاً: الذي يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله -جل وعلا-:
أنَّ الحديث القُدسي لفظه ومعناهُ من الله -جل وعلا-، ولم يُتعبد بتلاوته،فيصّح أن نعرِّف الحديث القُدسِي بأنه: (ما رواه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن الله -جل وعلا- بلفظه ومعناه، ولم يُتعبد بتلاوته).
يعني: لم يكن بين دفتي المصحف، وغيره مما يجعل اللفظ من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لا يتفق مع عقائد أهل السنة والجماعة.
قال هنا أبو ذر: (فيما يرويه عن ربّه عز وجل أنه قال) يعني: قال الله -جل وعلا-: (يا عبادي) فالمتكلم بهذا هو الرب جل جلاله، (يا عبادي إني حَرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا) وهذا النداء: (يا عبادي!) فيه التودُّد للعباد، ولفت النظر إلى هذا الأمر العظِيم وهذه الوصية العظيمة.
قال -جل وعلا-: ((يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي)) والتحريم عند أهل السنة والجماعة: أن يُحرم الله -جل وعلا- ما شاء على نفسه أو على خلْقِه.
فالوجوب والتحريم والحق؛ يصحُ عندهم أن يجعلها الله -جل وعلا- على نفسهِ، فيُحق حقاً على نفسه، ويوجبُ واجباً على نفسه، ويُحرم أشياء على نفسه، وهذه كلها جاءت بها الأدلة.
فالله -جل وعلا- أحقَّ حقاً على نفسه في بعض الأشياء: (حق العباد على الله ألاّ يُعذبَ من مات لا يُشرك به شيئاً) وحرّم أشياء على نفسه، ومنها: الظلم، كما في هذا الحديث، وهذا هو الذي يُقرَّرُ في مذهب أهل السنة والجماعة.
أمّا غيرهم؛ فإنهم يجعلون الله -جل وعلا- منزهاً عن أن يَحْرَم عليه شيء، أو أن يجبَ عليه شيء، والذي حرّم على الله هو الله -جل وعلا-، وهو سبحانه يُحقُّ من الحق على نفسه ما شاء، ويوجب على نفسه ما شاء، ويُحرم على نفسه ما شاء، وهذا بما يُوافقُ صفات المولى -جل وعلا-، ويوافقُ حكمته، وما يشاؤهُ في بريته.
فالله سبحانه حرم الظلم على نفسه، أي: مَنَع نفسه -جل وعلا- من أن يظلم أحداً شيئاً.
وفي القرآن نصوصٌ كثيرة فيها أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، وأنه -جل وعلا- لم يُردِ الظلم، ولم يختر الظلم على العباد، كما قال سبحانه: {وما رَبُّكَ بظلام للعبيد}.
وقال -جل وعلا-: {وما الله يُريد ظلماً للعباد}.
وقال سبحانه: {وما الله يُريدُ ظلماً للعالمين}.
وقال -جل وعلا- أيضاً: {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} والآيات في هذا كثيرة متنوعة: {إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} وهكذا فالله -جل وعلا- وَصَفَ نفسه بأنَّه لا يظلم أحداً شيئاً، وأنَّ الظلم ليس إليه، وأنه لا يريدُ الظلم سبحانه وتعالى.
والظلم المنفي عن الله -جل وعلا- هو الظلم الذي يُفَسّر بأنه: وَضْع الأمور في غير مواضعها؛ لأنّ الظلم في اللغة:بأن يُوضَعَ الشيء في غير موضِعه،ولهذا قيل للحليب الذي خُلطَ بلبنٍ حتى يروبَ، فخُلط قبل أن يبلغ ما يصلُحُ به؛ قيل له: ظَليم، يعني: أنهُ ظُلم، حيثُ وُضع الضرب في غير موضعه، وضع الخلطُ في غير موضعه وقبل أوانه.
مثلما قال الشاعر:
وقائلةٍ ظلمت لكم سقائي ** وهل يخفى على العُكدِ الظليمُ
ومنه أيضاً سميت الأرض التي حُفرت لاستخراج ماء، وليست بذات ماء؛ قيل لها: مظلومة.
كقول الشاعر -وهو من شواهد النحو المعروفة-:
إلاّ الأَوارِيَّ لأْياًما أُبَيِّنها والنُؤْيُ ** كالحوضِ بِالمظلومَةِ الجَدَدِ
المقصود: أن هذه المادة في اللغة دائرةٌ على وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، وغير هذا التفسير كثير.
فالمعتزلة يُفسرون الظلم بأنواع، والأشاعرة يُفسرون الظلم بأنواع، وعند أهل السنة هذا هو تعريف الظلم.
وقد قال بعضهم: (إنَّ الظلم هو: التصرُّف في ملك الغير، أو في اختصاصه بغير إذنه) وهذا نوعٌ من وضع الشيء في غير موضعه، وليس هو بتعريفٍ للظلم، ولهذا يورَدُ عليه أشياء في بحثٍ معروف في القدر، في مبحث الظلم، وفي اللغة.
المقصودُ من هذا: أن الله -جل وعلا- قال: ((إني حرمت الظلم على نفسي)) يعني: حرَّمت أن أضَع شيئاً في غير موضعه اللائق به على نفسي، منعتُ نفسي من ذلك، وهذا يدل على أنّ الله -جل وعلا- لو أراد إنفاذ وضع الشيء في غير موضعه لكان له ذلك سبحانه، وكان قادراً عليه؛ لأن الله قال: {وما الله يُريدُ ظلماً} فهو سبحانه لم يرد ذلك، وهذا الحديث أيضاً دال على أنّه قادر على أن يفعل، ولكنه حَرَّم ذلك على نفسه، ومنع نفسه من ذلك، وهذا من كرمه -جل وعلا- وإحسانه وفضله وإنعامه ومزيد منته على عباده.
قال -جل وعلا-هنا: ((إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه، وجعل الظلم بين العباد محرّماً؛ لأنه سبحانه يُحب العدْل، وقد أقام السموات والأرض على العدْل، كما قَرّر أهلُ العلم أنّ السموات والأرض قامت بالعدْل، ولا يصلحُ لها إلا العَدْل.
والعدْلُ ضد الظلم؛ لأن العْدل: وضع الشيء في موضعه، والظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه. فالله سبحانه أجرى ملكوته، وأجرى خلْقهُ على العدْل، وهو: وضعُ الأشياء في مواضعها، وعلى الحكمة وهي: وضعُ الأشياء في مواضعها اللائقةِ بها الموافقة للغايات المحمودة منها.
فتحصَّل من هذا: أنّ الله -جل وعلا- يحب العدْل ويأمر به، كما قال سبحانه: {إن الله يأمُرُ بالعدْل والإحسان وإيتاء ذي القربى} والله سبحانه حرّم الظلم، كما في هذا الحديث وفي آياتٍ كثيرة.
فإذا تبين ذلك فإن الله سبحانه جَعل الظلم بين العباد محرماً فقال: ((فلا تظالموا)) وهنا نَظر أهلُ العلم في سبب قوله: ((إني حرَّمتُ الظلم على نفسي)) لأنه جعل بعدها: ((وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) وهذا فيه بحثٌ واسع في أَثرِ أسماء الله -جل وعلا- وصفاته التي اتصف بها سبحانه على بريته، فالأسماء والصفات:
- لها آثارٌ في الملكوت.
- آثارٌ في الشريعة.
- آثار في أفعال الله -جل وعلا- في بريته.
وهذا نوع من هذه الآثار، وهو أنه سبحانه لمّا أقام ملكه على العدل، وحرم الظلم على نفسه؛ أمر عباده بالعدْل، وحرم الظلم فيما بينهم، والعباد مكلفون، فإذا وقع منهم الظلم كانوا غير منفذين لمرادِ الله الشرعي، وإن كانوا غير خارجين على مرادِ الله الكوني؛ فلهذا يكون الله -جل وعلا- قد توعدهم إذْ ظلموا، وقد نهاهم عن الظلم.
فإذاً: الظلم بأنواعه محرم، والظلم درجات، يجمعها مرتبتان:
الأولى: ظُلمُ النفس.
وظُلم النفس قسمان:
ظلم النفس بالشرك:
وهو ظلمٌ في حق الله -جل وعلا-؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها فكل مشرك ظالم لنفسه، كما قال -جل وعلا-: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمنُ وهم مهتدون}.
والقسم الثاني من ظلم النفس: أن يظلم النفس بأن يُعَرِّضها من العذاب والبلاء بما لا يصلحُ لها، وهذا ظُلمٌ من العبد لنفسه.
بارتكاب الحرام، والتفريط فيما أوجبَ الله -جل وعلا-، وعدم أداء الحقوق، فهذا ظُلم للنفس.
لأنّ من حقّ نفسك عليك، أن تُسعدها في الدنيا والآخرة، فإذا عرضتها للمعصية فقد ظلمتها؛ لأنك لم تجعلها سعيدة، بل جعلتها معرضة لعذاب الله جلّ جلاله.
والمرتبة الثانية: ظُلمُ العباد: وظُلمُ العباد معناه: التفريط، أو تضييعُ حُقوقهم بعدم أداء الحق الذي أوجبه الله -جل وعلا- لهم.
- فمن فرّط في حق والديه فقد ظلمهم.
- ومن فرّط في حق أهله فقد ظلمهم. يعني: لم يكن معهم على الأمر الشرعي، بل ارتكب محرماً، أو فرّط في واجب فقد ظلمهم، ومن اعتدى على:
- أموال الناس.
- أو على أعراضهم.
- أو على أنفسهم.
- أو على ما يختصون به؛ فقد ظلمهم، وهذا كلهُ محرم.
فإذاً: الظلم بأنواعه حرام، ولا يجوز أن يظلم أحدٌ أحداً شيئاً، وإنما يأخذ الحق الذي له.
قال -جل وعلا- بعد ذلك: ((فلا تظالموا)) يعني: لايظلم بعضكم بعضا.
((يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم))((كُلكُم ضال)) يعني: الأصل في الإنسان من حيث الجنس أنه ظلوم وجهول، وهما سببا الضلالة، قال -جل وعلا-: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان إنّهُ كان ظلوماً جهولاً}.
فالأمانة هي أمانة التكليف، ولمّا كان الإنسان ظلوماً جهولاً، كان الأكثرُ فيه أن يكون ضالاً، ولهذا أكثرُ الناس ضالون، وهذا جاء في القرآن في نصوص كثيرة.
قوله هنا: ((كُلّكم ضالٌّ إلا من هديته)) يدلُ على أن الأمر الغالب في عباد الله أنّهم ضالون، إلا من مَنَّ الله -جل وعلا- عليه بالهداية، وهذه الهداية تُطلب من الله -جل وعلا-.
قال: ((فاستهدوني أهدكم)) يعني: اطلبوا منِّي الهداية أهدكم إليها، وهذا يدل على رغبة ابن آدم في الهداية، إذْ طلبها من الله -جل وعلا-، فلا بُد من ابن آدم أنْ يسعى في أسباب الهداية، فإذا رَغبَ فيها وفقهُ الله -جل وعلا-، وهذا مرتبط بمسألة عظيمة من مسائل القدر، وهي أن الله -جل وعلا- يُعامِلُ عباده بالعدْل، وخص طائفةً منهم بالتوفيق، وهو: أنه يُعينهم على ما فيه رضاه سبحانه وتعالى.
((كلكم ضال)) {ووجدك ضالاً فهدى} يعني: كان قبل البعثه ضالاً فهداه إلى الطريق.
((فاستهدوني أهدكم)) اطلبوا منِّي الهداية أهدكم إليها.
الهداية يطلبها كل أحد؛ السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه؛ كلٌّ يجب عليه أن يطلب الهداية من الله -جل وعلا-، ولهذا فرضَ الله -جل وعلا- في الصلاة سورة الفاتحة، ومن أعظم ما فيها - من الدعاء- قوله: -جل وعلا- {اهدنا الصراط المستقيم} فطلب الهداية للصراط المستقيم؛ هذا من أعظم المسائل وأجلها، يعني: أعظم ما تطلبه من الله -جل وعلا- أن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
والهداية مرتبتان:
المرتبة الأولى: هداية الدَّلالة والإرشاد، وليست هي الهداية التي بمعنى: أن تهديَ غيرك.
هداية الدِّلالة والإرشاد، أن تطلب من الله -جل وعلا- أن يَدلك ويرشدك على أنواع الهداية التي جاء بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ومنه أيضاً: التوفيق لها، فإذا دُللت عليها؛ فتسأل الله أن يوفقَك لاتباعها، ويدخل في ذلك أصل الإسلام، ويدخل في ذلك الهداية إلى شيءٍ معين منه.
والمرتبة الثانية:الهداية إلى تفاصيل الإيمان والإسلام وما يُحب الله -جل وعلا- ويرضى.
- لأن تفاصيل الإيمان كثيرة.
- ولأن تفاصيل الإسلام كثيرة.
- ولأن تفاصيل ما يُحب الله -جل وعلا- ويرضاه، وتفاصيل ما يسخطه الله - جل وعلا - ويأباه؛ كثيرة متنوعة، فكونُكَ تسألُ الرّب -جل وعلا- أن يهديك؛ هذا خروجٌ من نوعٍ من أنواعِ الضلالة؛ لأن عدم العلم بما يُحب الله هذا نوع من البعد عن الصراط.
المقصود: أن هذا النوع من الهداية: تَطلب من الله -جل وعلا- أن يهديك إلى:
- تفاصيل الصراط.
- تفاصيل الإيمان.
- تفاصيل الإسلام.
- تفاصيل الاعتقاد، حتى تعلمه فتعمل به، فتكون مرتبتك عند الله -جل وعلا- أعلى.
قال -جل وعلا-: (يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) وهذا من أعظم المطالب، نسأل الله -جل وعلا- أن يهدينا سواء السبيل.
قال: (يا عبادي كُلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم) الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، والرِّزقُ منه، والأرزاق بيده يُصَرِّفها كيف يشاء، فهو الذي إذا فتح رحمةً فلا ممسك لها، كما قال في فاتحة سورة فاطر: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} ومن ذلك: الأرزاق التي تُسدُّ بها الجوعة فقال -جل وعلا-: (كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم) وإطعام الجائع، ورزق الفقير، وأشباه ذلك.. هذه من سألَ الله -جل وعلا- إياها فإن الله سبحانه يُعطيهِ، سواء أكان كافراً أم كان مسلماً، أكان عاصياً أم كان صالحاً؛ لأنّ ذلك من آثار الرُّبوبية، وربوبَّية الله -جل وعلا- غير خاصة بالمسلم دون الكافر، أو بالصالح دون الطالح، فالجميع سواء في تعرّضهم لآثار عطاء الله -جل وعلا- بأفراد ربوبيتة، فيرزق سبحانه الجميع، ويهب الأولاد للجميع، ويجيب دعوة المضطر من الجميع، وهكذا.
فقوله سبحانه:((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)) من استطعم الله -جل وعلا- وسأله الطعام، سأله الرزق؛ فإن الله -جل وعلا- قد يُجيب دعاءهُ.
قال: ((يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكُم)) وهذا على نحو ما سبق.
((يا عبادي إنَّكُم تخطئون بالليل والنهار)) الخطأ هنا بمعنى: الإثم؛ لأن الخطأ الذي هو بمعنى عدم التعمد؛ هذا معفوٌّ عنه، وهنا قال:
((إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً)) المقصود بـ(تخطئون): تعملون بالخطايا: وهذا معناه: العمل بالإثم، وهذا يُغفر بالاستغفار والتوبة والإنابة، وليس المراد الخطأ؛ لأنّ الله -جل وعلا- عفا عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال سبحانه في آخر سورة البقرة: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
قال: (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) هذا مقيد بما هو غير الشرك، أمّا الشرك فإنّ الله -جل وعلا- لا يغفره إلا لمن تاب وأسلم، أمّا غير الشرك مما هو دونه فإن الله -جل وعلا- يغفره سبحانه وتعالى إذا شاء، أو لمن تاب، قال سبحانه في آخر سورة الزُّمر: {قلْ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} أجمع المفسرون من الصحابة فمن بعدهم أنها في التائبين، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، وقوله في سورة النساء:{إنّ الله لا يغفر أن يشرك به } الشرك غير داخل في المغفرة، {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} يعني: في حق غير التائب.
فحصل لنا: أنّ من تاب تَابَ الله عليه، فيغفر الله ذنبه أيّاً كان: الشرك أو ما دونه، ومن لم يتُب؛ فإن كان مشركاً؛ فإن الله لا يغفر شِركه، وإن كان ذنبه ما دون الشرك، فإنه تحت المشيئة: إن شاء غَفَر له، وإن شاء عذّبه بذنبه.
فإذاً: قوله هنا: ((وأنا أغفر الذنوب جميعاً)) مقيدٌ بما ذكرتُ لك.
((فاستغفروني أغفر لكم)) يعني: اطلبوا مني المغفرة، فأنا أغفر ذلك لكم.
((يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) وهذا لأجل كمال غنى المولى -جل وعلا-، فإن الله سبحانه ذو الكمال في أسمائه وصفاته، ومن أسمائه الغنيُّ، ومن صفاته الغِنى، فهو سبحانه غني عن العباد، ولن يبلغوا نفعه، ولن يبلغوا ضره -سبحانه وتعالى- بل هو الغني عن خلقه أجمعين.
وكما قال هنا: ((إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)) بل هو سبحانه أجل وأعظم من أن يؤثر العباد فيه نفعاً، أو ضَراً، بل هم المحتاجون إليه، والمفتقرون إليه من جميع الجهات.
قال:((يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلْب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) يعني: أنّ تقوى العباد ليس المنتفع منها الرب -جل وعلا-، بل هم المنتفعون، فهم المحتاجون أنْ يتقوا الله سبحانه وتعالى، وهم المحتاجون أن يُطيعوا ربهم سبحانه، وهم المحتاجون أن يتقربوا إليه وأنْ يتذللوا بين يديه، وأن يُرُوا الله -جل وعلا- من أنفسهم خيراً، وأما الله سبحانه وتعالى فهو الغني عن عباده، الذي لا يحتاج إليهم، إن الله سبحانه وتعالى هو الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه، الذي لا يحتاج إلى أحدٍ من خَلْقِه، تعالى الله وتقدس عمَّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
قال: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلْب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً))الذي يعصي الله -جل وعلا- لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يحتاج الله -جل وعلا- إلى طاعته، ولا يضره أن يعصيه سبحانه وتعالى، وهذا يُعْظم به العبد الرَّغب في الله -جل وعلا-؛ لأنه سبحانه هو ذو الفضل والإحسان وذو المنة والإكرام، فالعباد هُم المحتاجون إليه.
قال: ((يا عبادي! لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فأعطيت كلَّ واحدٍ منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدْخل البحر))(المِخْيَط) المراد به: الإبرة السميكة إذا أُدخِلت في البحر ثم أُخرجت؛ فإنها لا تأخذُ من ماءِ البحر شيئاً.
فلو أن أول العباد وآخرهم، وأنسهم وجنّهم سألوا الله -جل وعلا- في صعيدٍ واحد، سأل كلُ واحدٍ مسألته، فأعطى الله كلّ واحدٍ ما سأل؛ ما نقص ذلك من مُلْكِ الله -جل وعلا- شيئاً؛ إلا كما تنقص الإبرة من الحديد إذا أدخلت في البحر ثم خرجت؛ فإنها لا تنقص من البحر شيئاً يذكر.
الكشاف التحليلي
حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه جل وعلا: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...)
تخريج الحديث
أهمية الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
تعريف الحديث القدسي
الحديث القدسي هو ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا بلفظه ومعناه
خطأ القول بأن معنى الحديث القدسي من الله تعالى ولفظه من النبي صلى الله عليه وسلم
هذا القول يتفق مع اعتقاد الأشاعرة بأن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى
صيغ رواية الحديث القدسي
الفرق بين القرآن والحديث القدسي
الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)
ذكر ما تضمنه قوله تعالى: (يا عبادي) من التلطف ولفت الانتباه
أقسام العبادة:
القسم الأول: عبادة عامة لكل الخلق، بمَعْنَى مُعَبَّدٍ
القسم الثاني: عبادة خَاصَّةٌ للمؤمنين، بمَعْنَى عَابِد
أركان العبادة الخاصة:
الركن الأول: الخَوْفُ
الركن الثاني: الرجاء
الركن الثالث: المحبة
شروط العبادة الخاصة:
الشرط الأول: الإخلاص
الشرط الثاني: المتابعة
معنى التحريم في قوله تعالى: (حرمت)
الله تعالى يحرم ويوجب على نفسه ما شاء
هذا التحريم والإيجاب من لطف الله تعالى بعباده
العباد لا يبلغون أن يحرموا على ربهم شيئاً
بيان معنى (الظلم)
أصل (الظلم) في لغة العرب: وضع الشيء في غير موضعه
ذكر شواهد هذا المعنى في لغة العرب
تعريف أهل السنة للظلم لا يلزم منه لوازم باطلة بخلاف تعريفات المعتزلة والأشاعرة
تنزيه الله تعالى عن الظلم
ذكر بعض الأدلة في نفي الله تعالى الظلم عن نفسه
بيان معنى الظلم المنفي عن الله تعالى
الفرق بين الظلم والهضم في قوله تعالى: (فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا)
بيان معنى حديث: (لو أنَّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم...)
معنى قول بعض السلف: (الظلم مستحيل على الله تعالى)
شرح قوله تعالى: (وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)
حكم الظلم
أنواع الظلم:
النوع الأول: ظلم العبد لنفسه، وهو قسمان:
القسم الأول: ظلم النفس بالشرك
الشرك أعظم الظلم
القسم الثاني: ظلم النفس بارتكاب الحرام، والتفريط فيما أوجب الله جل وعلا
النوع الثاني: ظلم العبد لغيره
(لا تظالموا): أي لا يظلم بعضكم بعضاً
تحريم الظلم من آثار أسماء الله تعالى وصفاته
ما قيل في الحكمة من تحريم الله الظلم بين العباد
ذكر بعض النصوص في الترهيب من الظلم
عواقب الظلم وخيمة
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)
افتقار الخلق إلى الله تعالى في جلب المصالح ودفع المضار
تفرده سبحانه وتعالى بالهداية والإطعام وغيرهما دليل على تفرده باستحقاق العبادة
فائدة: السنة أن يسأل العبد ربه جميع مصالح دينه ودنياه
محبة الله تعالى سؤالَ عباده له
الجمع بين قوله: (كلكم ضال إلا من هديته) وقوله: (خلقت عبادي حنفاء)
أنواع الهداية:
النوع الأول: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان
النوع الثاني: هداية مفصلة، وهي الهداية إلى تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام علمًا وعملا
مراتب الهداية:
المرتبة الأولى: الهِدَايَةُ الفِطْرِيةُ، كالهداية إِلَى الطَّعَامِ والشَّرَابِ
هذه الهداية عامة لكل المخلوقات
المرتبة الثانية: هِدَايَةُ الدَّلالَةِ والإِرْشَادِ
المرتبة الثالثة: هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ والإلْهَامِ
المرتبة الرابعة: الهِدَايَةُ في الدار الآخرة إلى منازل الجنان
(استهدوني): أي اطلبوا مني الهداية
من سأل الله تعالى الهداية فليسع في أسبابها
في قوله: (أهدكم) وعد من الله تعالى لمن سأله الهداية أن يهديه
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم)
سبب تقديم الهداية على الإطعام
كلام لابن القيم في طرق الإطعام
دلالة هذه الجملة على أن الرزق إنما هو من عند الله تعالى
الرزق والإطعام غير خاص بالمؤمنين بل هو من عطاء الله العامّ
معنى قوله: (فاستطعموني)
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم)
معنى قوله: (عار)
معنى قوله: (كسوته)
تفاوت المخلوقات في الكساء
معنى قوله: (فاستكسوني)
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم)
(تخطئون) أي تعملون الخطايا والذنوب
معنى الاستغفار
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار
الأمر بكثرة الاستغفار
حاجة العباد إلى الاستغفار
من صفات الله تعالى مغفرة الذنوب
في قوله: (أغفر لكم) وعد بالمغفرة لمن استغفره
لا يغفر الله الشرك إلا لمن تاب وأسلم
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)
دلالة هذه الجملة على غنى الله تعالى عن خلقه
بيان أن الله جل جلاله لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين
محبة الله تعالى لطاعة الطائعين، وفرحه بتوبة التائبين من دلائل رحمته بعباده
آثار عن السلف في حلم الله تعالى على عباده
شرح قوله تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب...)
في هذه الجملة إشارة إلى أن الله تعالى لا يزيد في ملكه طاعة الطائعين
دلالة الحديث على نقض مقالة: (ليس بالإمكان خلق عالم أفضل من هذا العالم)
في قوله: (أتقى قلب) دلالة على أن الأصل في التقوى والفجور هو القلب
شرح قوله تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني...)
دلالة الحديث على كمال قدرته تعالى وسعة خزائنه
أحاديث وآثار في سعة فضل الله عز وجل
شرح قوله تعالى: (لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)
معنى (المخيط)
دلالة هذه الجملة على أن ما عنده سبحانه لا ينقص ألبته
ذكر بعض الآثار في هذا المعنى
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها)
إثبات إحصاء الأعمال
إثبات الحساب والجزاء
في قوله: (ثم أوفيكم إياها)
قد تكون التوفية يوم القيامة، وقد تكون في الحياة الدنيا
شرح قوله تعالى: (فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)
الخير كله من فضل الله تعالى على عباده
العباد لا يستحقون على الله شيئاً
ما كان من شر فهو من العباد وليس من الله
الله تعالى منزه عن الشرور كلها
الخلاف في معنى قوله: (فمن وجد خيرًا...)
قد يكون ذلك في الدنيا، وقد يكون في الآخرة
أهل الجنة يحمدون الله على ما رزقهم من فضله
ما يفيده الحديث من الحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة
من فوائد حديث أبي ذر رضي الله عنه
تَحْرِيمُ الظُّلْمِ
عَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى
أَنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ هِيَ الهِدَايَة
أَجَلُّ الدُّعَاءِ هو طَلَبُ الهِدَايَةِ والثَّبَات
أنَّ مُلْكَ اللَّهِ لا يَزِيدُ بطَاعَةِ المُطِيعِ ولا يَنْقُصُ بمَعْصِيَةِ العَاصِي
الاستغفار من أسباب المغفرة
أن عطاء الله تعالى لا ينفد
أن الجن مكلفون
إحصاء الله تعالى للأعمال
العناصر
حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه جل وعلا: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...)
تخريج الحديث
أهمية الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
تعريف الحديث القدسي
صيغ رواية الحديث القدسي
الفرق بين القرآن والحديث القدسي
الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)
ذكر ما تضمنه قوله تعالى: (يا عبادي) من التلطف ولفت الانتباه
أقسام العبادة
أركان العبادة الخاصة
شروط العبادة الخاصة
معنى التحريم في قوله تعالى: (حرمت)
بيان معنى (الظلم)
تعريف أهل السنة للظلم لا يلزم منه لوازم باطلة بخلاف تعريفات المعتزلة والأشاعرة
ذكر بعض الأدلة في نفي الله تعالى الظلم عن نفسه
بيان معنى الظلم المنفي عن الله تعالى
الفرق بين الظلم والهضم في قوله تعالى: (فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا)
بيان معنى حديث: (لو أنَّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم...)
معنى قول بعض السلف: (الظلم مستحيل على الله تعالى)
شرح قوله تعالى: (وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)
حكم الظلم
أنواع الظلم
(لا تظالموا): أي لا يظلم بعضكم بعضاً
تحريم الظلم من آثار أسماء الله تعالى وصفاته
ما قيل في الحكمة من تحريم الله الظلم بين العباد
ذكر بعض النصوص في الترهيب من الظلم
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)
افتقار الخلق إلى الله تعالى في جلب المصالح ودفع المضار
تفرده سبحانه وتعالى بالهداية والإطعام وغيرهما دليل على تفرده باستحقاق العبادة
فائدة: السنة أن يسأل العبد ربه جميع مصالح دينه ودنياه
الجمع بين قوله: (كلكم ضال إلا من هديته) وقوله: (خلقت عبادي حنفاء)
أنواع الهداية
مراتب الهداية
(استهدوني): أي اطلبوا مني الهداية
من سأل الله تعالى الهداية فليسع في أسبابها
في قوله: (أهدكم) وعد من الله تعالى لمن سأله الهداية أن يهديه
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم)
سبب تقديم الهداية على الإطعام
كلام لابن القيم في طرق الإطعام
دلالة هذه الجملة على أن الرزق إنما هو من عند الله تعالى
الرزق والإطعام غير خاص بالمؤمنين بل هو من عطاء الله العامّ
معنى قوله: (فاستطعموني)
شرح قوله تعالى: (يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم)
معنى قوله: (عار)
معنى قوله: (كسوته)
تفاوت المخلوقات في الكساء
معنى قوله: (فاستكسوني)
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم)
(تخطئون) أي تعملون الخطايا والذنوب
معنى الاستغفار
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار
الأمر بكثرة الاستغفار
حاجة العباد إلى الاستغفار
من صفات الله تعالى مغفرة الذنوب
في قوله: (أغفر لكم) وعد بالمغفرة لمن استغفره
لا يغفر الله الشرك إلا لمن تاب وأسلم
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)
دلالة هذه الجملة على غنى الله تعالى عن خلقه
بيان أن الله جل جلاله لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين
محبة الله تعالى لطاعة الطائعين، وفرحه بتوبة التائبين من دلائل رحمته بعباده
آثار عن السلف في حلم الله تعالى على عباده
شرح قوله تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب...)
في هذه الجملة إشارة إلى أن الله تعالى لا يزيد في ملكه طاعة الطائعين
دلالة الحديث على نقض مقالة: (ليس بالإمكان خلق عالم أفضل من هذا العالم)
في قوله: (أتقى قلب) دلالة على أن الأصل في التقوى والفجور هو القلب
شرح قوله تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني...)
دلالة الحديث على كمال قدرته تعالى وسعة خزائنه
أحاديث وآثار في سعة فضل الله عز وجل
شرح قوله تعالى: (لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)
معنى (المخيط)
دلالة هذه الجملة على أن ما عنده سبحانه لا ينقص ألبته
ذكر بعض الآثار في هذا المعنى
شرح قوله تعالى: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها)
إثبات إحصاء الأعمال
إثبات الحساب والجزاء
في قوله: (ثم أوفيكم إياها) قد تكون التوفية يوم القيامة، وقد تكون في الحياة الدنيا
شرح قوله تعالى: (فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)
الخير كله من فضل الله تعالى على عباده
ما كان من شر فهو من العباد وليس من الله
الخلاف في معنى قوله: (فمن وجد خيرًا...)
قد يكون ذلك في الدنيا، وقد يكون في الآخرة
أهل الجنة يحمدون الله على ما رزقهم من فضله
من فوائد حديث أبي ذر رضي الله عنه