الدروس
course cover
ح23: حديث أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان...) م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

23815

0

0

course cover
الأربعون النووية

القسم الرابع

ح23: حديث أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان...) م
29 Oct 2008
29 Oct 2008

29 Oct 2008

23815

0

0


0

0

0

0

0

ح23: حديث أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان...) م


قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (

23- عن أبي مالكٍ - الحارثِ بنِ عاصمٍ- الأشْعَرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الطُّـهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَ الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْمُوبِقُهَا)).رواه مسلِمٌ.

هيئة الإشراف

#2

29 Oct 2008

شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين


قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (

الحديث الثالث والعشرون

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بنِ عَاصِم الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا)(1) رواه مسلم.

الشرح
قوله: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ أي نصفه، وذلك أن الإيمان - كما يقولون - تخلية وتحلية .
التخلية: بالطهور، والتحلية: بفعل الطاعات.
فوجه كون الطهور شطر الإيمان: أن الإيمان إما فعل وإما ترك.
والتّركُ تَطَهُّرٌ، والفعل إيجاد.
فقوله: "شَطْرُ الإِيْمَانِ" قيل في معناه: التخلي عن الإشراك لأن الشرك بالله نجاسة كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس)[التوبة: الآية28] فلهذا كان الطهور شطر الإيمان، وقيل: إن معناه أن الطهور للصلاة شطر الإيمان، لأن الصلاة إيمان ولا تتم إلا بطهور، لكن المعنى الأول أحسن وأعمّ.
"وَالحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَانَ" يعني قول القائل: الحمد لله يمتلئ الميزان بها، أي الميزان الذي توزن به الأعمال كما قال الله عزّ وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]
"وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ تَمْلآنِ - أو تَمْلأُ –" (أو) هذه شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال:تملأ ما بين السماء والأرض. والمعنى لا يختلف، ولكن لحرص الرواة على تحرّي الألفاظ يأتون بمثل هذا.
"سبحان الله والحمد لله": فيها نفي وإثبات. النفي في قوله: "سُبْحَانَ اللهِ" أي تنزيهاً لله عزّ وجل عن كل ما لايليق به، والذي ينزه الله تعالى عنه ثلاثة أشياء:
الأول: صفات النقص، فلا يمكن أن يتصف بصفة نقص.
الثاني: النقص في كماله، فكماله لايمكن أن يكون فيه نقص.
الثالث: مشابهة المخلوق.
ودليل الأول قول الله عزّ وجل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان:58]
فنفى عنه الموت لأنه نقص، وقوله: ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ) [البقرة: الآية255] فنفى عنه السِّنَة والنوم لأنهما نقص.
ودليل الثاني: قول الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [قّ:38]
فخلق هذه المخلوقات العظيمة قد يوهم أن يكون بعدها نقص أي تعب وإعياء فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}.
ودليل الثالث: قول الله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: الآية11] حتى في الكمال الذي هوكمال في المخلوق فالله تعالى لا يماثله.
فإن قال قائل: مماثلة المخلوق نقص، فلا حاجة إلى ذكره، ووجه كون مماثلة المخلوق نقصاً أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل قد قال الشاعر:
ألمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قدرهُ إذا قيل إنَّ السّيفَ أمضى من العصا
وهو حقيقة أمضى من العصا، لكن إذا قلت:أمضى من العصا فمعناه أنه سيف رديء، حيث قارنته بالعصا.
فنقول: ننص على نفي المماثلة للأمور التالية:
الأول: لأنها جاءت في القرآن كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
الثاني: أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.
واعلم أن قولك: نفي المماثلة أولى من قولك: نفي المشابهة لأنه اللفظ الذي جاء في القرآن.
وَالحَمْدُ للهِ الحمد يكون على صفات الكمال، فالحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فتكون هذه الجملة: "سُبْحَانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ" فيها: نفي النقص بالأنواع الثلاثة، وإثبات الكمال.
"تَملآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" والذي بين السماء والأرض مسافة لايعلمها إلا الله عزّ وجل.
وظاهر الحديث: أنها تملأُ ما بين السماء والأرض ليس في منطقتك وحدك، بل في كل المناطق.
"وَالصَّلاةُ نورٌ" أي صلاة الفريضة والنافلة نور، نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور في الحشر، لأن الحديث مطلق، وجرّب تجد.
إذا صلّيت الصلاة الحقيقية التي يحضر بها قلبك وتخشع جوارحك تحس بأن قلبك استنار وتلتذّ بذلك غاية الالتذاذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"(2).
"والصَّدَقَةُ" الصدقة: بذل المال للمحتاج تقرّباً إلى الله عزّ وجل.
"بُرْهَانٌ" أي دليل على صدق إيمان المتصدّق.
وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولايبذل المحبوب إلا في طلب ماهو أحب، وهذا يدلّ على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة برهاناً.
وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ الصبر: حبس النفس عما يجب الصبر عنه وعليه، قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع:
الأول: صبر عن معصية الله: بمعنى أن تحبس نفسك عن فعل المحرّم حتى مع وجود السبب.
ومثاله: رجل حدثته نفسه أن يزني - والعياذ بالله - فمنع نفسه، فنقول: هذا صبر عن معصية الله.
وكما جرى ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فإن امرأة العزيز دعته إلى نفسها - والعياذ بالله - في حال هي أقوى ما يكون للإجابة، لأنها غلّقت الأبواب وقالت: هيت لك، أي تدعوه إلى نفسها، فقال: إنه ربي - أي سيدي _ أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون، يعني فإن خنته في أهله فأنا ظالم، ومن شدة الإلحاح همَّ بها كما قال الله عزّ وجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) [يوسف: الآية24] ولم يفعل مع قوة الداعي وانتفاء الموانع، فهذا صبر عن معصية الله .
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لاظلّ إلا ظله، وذكر منهم: "رَجُلاً دَعَتْهُ امرأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ"(3) .
الثاني: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة كرجل أراد أن يصلي، فدعته نفسه إلى الكسل، أو إلى الفراش، أو إلى الطعام الذي ليس بحاجة إليه،أو إلى محادثة الإخوان، ولكنه ألزم نفسه بالقيام للصلاة، فهذا صبر على طاعة الله.
الثالث: صبر على أقدار الله: فإن الله تعالى يقدر للعبد ما يلائم الطبيعة وما لايلائم، والذي لايلائم يحتاج إلى صبر، بأن يحبس نفسه عن التسخّط القلبي أو القولي أو الفعلي إذا نزلت به مصيبة.
فإذا نزل بالعبد مصيبة فإنه يحبس قلبه عن التسخط القلبي، وأن يقول إنه يرضى عن ربه عزّ وجل.
والتسخط اللساني: بأن لايدعو بالويل والثبور كما يفعل أهل الجاهلية.
والتسخط الفعلي: بأن لايشق الجيوب، ولايلطم الخدود، وما أشبه ذلك .
فهذا نسميه صبر على أقدار الله مع أنه كره أن يقع هذا الحادث.
وهناك مرتبة فوق الصبر وهي الرضا بأقدار الله، والرضا بأقدار الله أكمل حالاً من الصبر على أقدار الله.
والفرق: أن الصابر قد تألّم قلبه وحزن وانكسر، لكن منع نفسه من الحرام.
والراضي: قلبه تابع لقضاء الله وقدره، فيرضى ما اختاره الله له ولايهمّه، فهو متمشٍّ مع القضاء والقدر إيجاباً ونفياً.
ولهذا قال أهل العلم: إن الرضا أعلى حالاً من الصبر، وقالوا: إن الصبر واجب والرضا مستحب.
وأي أنواع الصبر الثلاثة أفضل؟
نقول: أما من حيث هو صبر فالأفضل الصبر على الطاعة، لأن الطاعة فيها حبس النفس، وإتعاب البدن.
ثم الصبر عن المعصية، لأن فيه كفُّ النفس عن المعصية ثم الصبر على الأقدار، لأن الأقدار لاحيلة لك فيها، فإما أن تصبر صبر الكرام، وإما أن تسلو سُلُوَّ البهائم وتنسى المصيبة، هذا من حيث الصبر.
أما من حيث الصابر: فأحياناً تكون معاناة الصبر عن المعصية أشد من معاناة الصبر على الطاعة.
فلو أن رجلاً هُيئَ له شرب الخمر مثلاً، بل ودعي إلى ذلك وهو يشتهيه، ويجد معاناة من عدم الشرب، فهو أشد عليه من أن يصلي ركعتين لاشك.
كذلك لو كان شابّاً ودعته امرأة إلى نفسها، وهي جميلة، والمكان خالٍ، والشروط متوفرة، فأبى، فهذا فيه صعوبة أصعب مما لو صلى عشرين ركعة، فهنا قد نقول: ثواب الصبر عن المعصية هنا أعظم من ثواب الصبر على الطاعة لما يجده هذا الإنسان من المعاناة . فيؤجر بحسب ماحصل له من المشقّة.
"وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ" ولم يقل: إنه نور، والصلاة قال: إنها نور. وذلك لأن الضياء فيه حرارة،كما قال الله عزّ وجل: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ) [يونس: الآية5] ففيه حرارة، والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاق على الإنسان، ولهذا جعل الصلاة نوراً، وجعل الصبر ضياءً لما يلابسه من المشقة والمعاناة.
"والقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ اَو عَلَيْكَ" القرآن هو كلام الله عزّ وجل الذي نزل به جبريل الأمين القوي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، لا تبديل فيه ولاتغيير، ولهذا وصف الله تعالى جبريل الذي هو رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قوي أمين كما قال الله عزّ وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير:19-21] ليتبيّن أنه عليه السلام أمين على القرآن قوي على حفظه وعدم التلاعب به.
هذا القرآن كلام الله عزّ وجل، تكلّم به حقيقة، وسمعه جبريل عليه السلام، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا القرآن الكريم هو كلام الله لفظه ومعناه، فالأمر والنهي والخبر والاستخبار والقصص كلها كلام الله عزّ وجل.
وقد ذكره الله تعالى بعد أن أقسم قسماً عظيماً فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة:75-76] لو تعلمون بمعنى اعلموا، كما أقول لك: إن هذا لو تدري شيء كبير: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[الواقعة:77] أكد الله عزّ وجل ذلك بالقسم وإن واللام (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة:78] وهو اللوح المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:79]
أي لايمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، فالضمير لايعود على القرآن أو المصحف.
وكونه في كتاب مكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في لوح محفوظ، أو أن المكتوب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا؟
الجواب: الأول، لكن يبقى النظر كيف يكتب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالة على المضي مثل قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) [آل عمران: الآية121] ومثل قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ) [المجادلة: الآية1] وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسمَع مجادلتها؟
فالجواب: أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، كما أنه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عزّ وجل بقوله كن فيكون، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو مما تطمئن له النفس.
وكنت قبلاً أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن لا القرآن، بناءً على أنه يَرِدُ بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء:196] والذي في زبر الأولين ليس القرآن، بل ذكر القرآن والتنويه عنه، ولكن بعد أن اطلعت على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - جزاه الله خيراً - انشرح صدري إلى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ ولامانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل.
هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن، أما أهل البدع فحرفوا وبدلوا وغيرّوا فقالوا: هذا القرآن ليس كلام الله،ولكنه عبارةعن كلام الله، لأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأما الصوت والحروف فإنها ليست كلام الله بل هي عبارةعن كلام الله. وعلى هذا يكون هذا القرآن الذي بأيدينا مخلوق، خلقه الله ليعبر عما في نفسه، وهذا قول الأشاعرة.
وقال المعتزلة: كلام الله عزّ وجل ليس المعنى القائم بنفسه،لكن كلام الله مخلوق كسائر المخلوقات، يخلق الله كلاماً ويضيفه إليه إضافة تشريف كما أضاف إلى نفسه الناقة، وكما أضاف إلى نفسه المساجد، وكما أضاف إلى نفسه البيت.
والفرق بين قول الأشاعرة وقول المعتزلة:
قال المحققون إنه لافرق، بل المعتزلة خير من الأشاعرة في هذا.
فالمعتزلة يقولون: هذا القرآن الذي بين أيدينا كلام الله.
والأشاعرة يقولون: عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.
وقد اتفق الجميع على أن ما بين دفّتي المصحف مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هذا كلام الله خلقه كما خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وأضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف كما أضاف المساجد إليه كما قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) [البقرة: الآية114] وكما أضاف الكعبة إليه فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) [الحج: الآية26] وكما أضاف الناقة إليه فقال: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)[الشمس: الآية13] وقال الأشاعرة:كلام الله هو المعنى القائم بنفسه وخلق أصواتاً سمعها جبريل عبارة عما في نفسه، وعلى هذا فالقرآن على مذهب الأشاعرة مخلوق، لكن قالوا: إنه عبارة عن كلام الله، والمعتزلة قالوا: هو كلام الله.
أما نحن فنقول: هذا القرآن كلام الله غير مخلوق، ونقول: ليس كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، المعنى القائم بنفسه علم وليس بكلام حتى يتكلم به الله عزّ وجل.
إذاً هذا القرآن - الذي نسأل الله أن يجعله حجة لنا - كلام الله حقاً، تكلم به حقاً، وسمعه جبريل حقاً، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوعاه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يتعجل أن يتابع جبريل لئلا يفوته شيء فقال الله عزّ وجل له: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة:16-17] حيث التزم الله تعالى بجمعه وقرآنه (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: الآية18] أي قرأه جبريل، وأضاف قراءة جبريل إلى نفسه عزّ وجل لأن جبريل رسوله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ،فأضاف فعل جبريل إلى نفسه لأنه هوا لذي أرسله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة:19]
التزام من الله عزّ وجل أوجبه على نفسه أن يجمع القرآن، وأن يقرأه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يبيّنه .
هذا القرآن الكريم له فضائل عظيمة،وممن كتب في فضائله ابن كثير - رحمه الله - رسالة سماها فضائل القرآن، وهي مفيدة .
"القُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أَو عَليكَ" يكون حجة لك إذا قمت بما يجب له من نصيحة وقد سبق في حديث تميم الداري رضي الله عنه النصيحة لله ولكتابه، وسبق هناك شرح النصيحة للكتاب فليرجع إليه .
يكون القرآن حجة لك إذا نصحت له، ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له.
مثال ذلك: قول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) [البقرة: الآية43] هنا رجلان: أحدهما لم يقم الصلاة فيكون القرآن حجة عليه، والثاني أقام الصلاة فيكون القرآن حجة له.
ورجل آخر لم يؤت الزكاة فالقرآن حجة عليه، والثاني آتى الزكاة فالقرآن حجة له.
وبهذه المناسبة أودّ أن أذكّر نفسي وإيّاكم بمسألة مهمة وهي:
كلنا يتوضّأ إذا أراد الصلاة، لكن أكثر الأحيان يريد الإنسان أن يقوم بشرط العبادة فقط، وهذا لابأس، ويحصل به المقصود، لكنْ هناك شيء أعلى وأتم:
أولاً: إذا أردت أن تتوضأ استشعر أنك ممتثل لأمر الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: الآية6] حتى يتحقق لك معنى العبادة.
ثانياً: إذا توضأت استشعر أنك متبع رسول الله ،فإنه قال: "مَنْ تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ"(4)حينئذٍ يكون الإخلاص والمتابعة .
ثالثاً:احتسب الأجر على الله عزّ وجل بهذا الوضوء، لأن هذا الوضوء يكفر الخطايا، فتخرج خطايا اليد مع آخر قطرة من قطرات الماء بعد غسل اليد، وهكذا البقية.
هذه المعاني الثلاثة العظيمة الجليلة أكثر الأحيان نغفل عنها، كذلك إذا أردت أن تصلي وقمت للصلاة استشعر أمر الله بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة:43] ثم استشعر أنك تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"صَلوا كَمَا رَأَيتُموني أُصَلي"(5) ثم احتسب الأجر،لأن هذه الصلاة كفارة لما بينها وبين الصلاة الأخرى، وهلم جراً.
يفوتنا هذا كثيراً ولذلك تجدنا- نسأل الله أن يعاملنا بعفوه - لانصطبغ بآثار العبادة كما ينبغي وإلا فنحن نشهد بالله أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن مَنْ مِنَ الناس إذا صلى تغير فكره ونهته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! اللهم إلا قليل، لأن المعاني المقصودة مفقودة.
قوله: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو" أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل.
"فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.
ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق، ولهذا قال:
"فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا" فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) [البقرة: الآية207] يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله عزّ وجل حيث أمضى عمره خسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.
وانظر إلى هذا الحديث: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً.
من فوائد هذا الحديث:
1. الحث على الطهور الحسي والمعنوي، وجه ذلك أنه قال: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ"
2. أن الإيمان يتبعض، فبعضه فعل وبعضه ترك، وهو كذلك.
3. فضيلة حمد الله عزّ وجل حيث قال: إنها تملأ الميزان.
4. إثبات الميزان، والميزان جاء ذكره في القرآن عدة مرات، جاء ذكره مجموعاً وذكره مفرداً فقال الله عزّ وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء:47] وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [القارعة:6] وجاء ذكره في السنة صريحاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلى اللِسانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحمَنِ: سُبحَانَ الله وَ بِحَمدِهِ سُبحَانَ الله العَظيم"(6) وكذلك في هذ الحديث.
وهذا الميزان هل هو حسي أو معنوي؟
قالت المعتزلة: إنه معنوي ، وهو كناية عن إقامة العدل.
والقول الصحيح: إنه حسي، له كفتان وله لسان، توزن به الأعمال الصالحة والسيئة.
وهنا يرد إشكال: كيف يوزن العمل وهو ليس بجسم، وكيف الحمد تملأ الميزان وهي ليست بجسم؟
والجواب عن كل هذا سهل، وهو: أن الله عزّ وجل قادر على أن يجعل الأعمال أجساماً والمعاني أجساماً، فإنه على كل شيء قدير عزّ وجل، ألم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان تظلان صاحبهما(7) ،وهما عمل، لكن الله على كل شيء قدير.
أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة فيطلعون ويشرئبُّون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، يقال: يا أهل النار، فيطلعون ويشرئبون، ويقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون:نعم، هذا الموت ، ثم يذبح بين الجنة والنار ويقال: ياأهل الجنة خلود ولا موت، ياأهل النار خلود ولا موت(8) ، والموت معنوي.
فالمهم أن نقول: إن الميزان يوم القيامة حسي، حقيقي، توزن به الأعمال، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فقد خسروا أنفسهم .
5. فضيلة الجمع بين سبحان الله والحمد لله لقوله "سُبحَانَ الله وَ الحَمدُ لِلهِ تَملآنِ مَا بَينَ السَمَاءِ وَ الأَرضِ" ووجه ذلك أن الجمع بينهما جمع بين نفي العيوب والنقائص وإثبات الكمالات.
ففي "سُبحَانَ الله" نفي العيوب والنقائص، وفي "الحَمدُ لِلهِ" إثبات الكمالات.
6. أن الصلاة نور ويتفرع على هذا:
الحث على كثرة الصلاة. ولكن يرد علينا أن كثيراً من المصلين وكثيراً من الصلوات من المصلي الواحد لا يشعر الإنسان بأنها نور، فما الجواب؟
الجواب أن نقول: إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا إشكال فيه، لكن عدم استنارة القلب لخلل في السبب أو وجود مانع.
فمن خلط صلاته برياء فهنا خلل في السبب، لأنه لم يخلص.
ومن صلى لكن قلبه يتجول يميناً وشمالاً فهنا مانع يمنع من كمال الصلاة فلا تحصل النتيجة، وقس على هذا كل شيء رتب الشرع عليه حكماً وتخلف فاعلم أن ذلك إما لوجود مانع، أو لاختلال سبب، وإلا فكلام الله عزّ وجل حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق.
7. الحث على الصدقة، لقوله: "الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ".
8. أن بذل المحبوب يدل على صدق الباذل، والمحبوب الذي يُبذَل في الصدقة هو المال.
9. الحث على الصبر وأنه ضياء وإن كان فيه شيء من الحرارة، لكنه ضياء ونور لقوله: "وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ".
10. أن حامل القرآن إما غانم وإما غارم، وليس هناك مرتبة لا له ولا عليه، إما للإنسان وإما على الإنسان، ويتفرع على هذه الفائدة:
أن يحاسب الإنسان نفسه هل عمل بالقرآن فيكون حجة له، أو لا، فيكون حجة عليه فليستعتب.
11. عظمة القرآن وأنه لن يضيع هكذا سدىً، بل إما للإنسان وإما على الإنسان.
12. بيان حال الناس وأن كل الناس يعملون من الصباح، وأنهم يبيعون أنفسهم، فمن باعها بعمل صالح فقد أعتقها، ومن باعها بعمل شيء فقد أوبقها.
13. أن الحرية حقيقة هي القيام بطاعة الله عزّ وجل، وليس إطلاق الإنسان نفسه ليعمل كل سيء أراده، قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان
فكل إنسان يفر من عبادة الله فإنه سيبقى في رق الشيطان .

__________________________________________________________

(1) أخرجه مسلم كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء، (223)، (1)
(2) أخرجه النسائي في المجتبى كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، (3940)ز والإمام أحمد- في مسند المكثرين عن أنس بن مالك، ج3/ص199، (13088)، والحاكم في المستدرك (2/160) والبيهقي في سننه الكبرى (7/78) وابن عدي في الكامل (3/305) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3124)
(3) سبق تخريجه صفحة (198)
(4) أخرجه البخاري كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، (159) ومسلم- كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، (226)،(3)
(5) أخرجه البخاري كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، (6008). ومسلم- كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة، (674)، (292)
(6) أخرجه البخاري كتاب: الدعوات، باب: فضل التسبيح، (6406). ومسلم- كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والدعاء، (2694)، (31)
(7) أخرجه مسلم كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، (804)،(252)
(8) أخرجه البخاري كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة مريم، (4730). ومسلم- كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، (2849)، (40)

هيئة الإشراف

#3

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي


قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (

(1) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ:

الحارِثُ بنُ عاصمٍ الأَشْعَرِيّ ُ، مَاتَ في طَاعُونِ عَمْوَاسَ، في خلافةِ عمرَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
عَنْ أبي مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) أَي: الوُضُوءُ جُزْءُ الدِّينِ، أَيْ: جُزْءُ الصَّلاَةِ، أَيْ: شَرْطُهَا، أَوْ تَطْهِيرُ القَلْبِ عَن اعْتِقَادِ حَقيقَةِ الباطلِ نِصْفُ((الإِيمَانِ)) إذِ الإِيمَانُ مُرَكَّبٌ مِن اعْتِقَادِ الْحَقِّ حَقًّا وَالبَاطِلِ بَاطِلاً، أَوْ تَطْهِيرُ البَدَنِ عَنْ أرجَاسِ الأَوْزَارِ، نِصْفُ الدِّينِ؛ إِذ الدِّينُ مُرَكَّبٌ مِنْ فِعْلِ الخَيْرَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ.
((وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأَُ المِيزَانَ))لو فُرِضَ لهَا جِسْمٌ، أَوْ أَنَّ الأعمالَ لَها أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ، إِنْ كَانَتْ حَسَنَاتٍ، وَظُلْمَانِيَّةٌ إنْ كانَتْ سَيِّئَاتٍ، ((وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلأَُ))هذِهِ الجُمْلَةُ ((مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
((وَالصَّلاَةُ)) المَقْبُولَةُ ((نُورٌ)) في القَلْبِ، أَوْ عَلى الوَجْهِ، أَوْ في القَبْرِ، أَوْ يومَ القِيَامَةِ،((والصَّدَقَةُ)) الطَّيِّبَةُ الخَالِصَةُ ((بُرْهَانٌ))عَلَى إيمانِ المُتَصَدِّقِ وَحُبِّهِ للهِ؛ لأنَّ المالَ مَحْبُوبٌ طَبْعًا، فَمَنْ صَرَفَهُ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى عُلِمَ أنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُحِبُّهُ.
((وَالصَّبْرُ)) عن السَّيِّئَاتِ بِتَرْكِهَا، والتَّوْبَةِ عَنْهَا، وعَلى الطاعاتِ بِأَدَائِهَا كَمَا يَنْبَغِي، وعَلى البَلاَيَا بِالرِّضَى بِهَا، والاسْتِرْجَاعِ عِنْدَهَا،((ضِيَاءٌ))يَسْتَضِيءُ بِهَا الصابِرُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيُمَيِّزُ بِهِ بينَ الخَيْرِ والضَّيْرِ.
((وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ)) نَافِعَةٌ((لَكَ))إنْ أَدَّيْتَ حَقَّهُ مِنْ تِلاَوَتِهِ والعَمَلِ بهِ، ((أَوْ)) حُجَةٌ ((عَلَيْكَ))إِنْ قَصَّرْتَ في حَقِّهِ، بِتَرْكِ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ يَعْرِفُ قَدْرَ القُرْآنِ إلاَّ مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ اللهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَغْنَى وَأَكْبَرُ مِمَّا عَدَاهُ، وأَنَّ العَبْدَ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ وَأَجْهَلُ وأَفْقَرُ إلى مَوْلاَهُ، وذلِكَ الجليلُ مَنَّ عَلَى العبدِ الذَّلِيلِ فَأَرْسَلَ إليهِ بِوَاسِطَةِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ كِتَابًا كَرِيمًا مُبَيِّنًا لِمَا يَتَعَلَّقُ بالعَقَائِدِ والأَعَمَالِ مُوَضِّحًا لِلطَريقِ الذي يُوصِلُ إلى ذِي الجلالِ وَالجَمَالِ.
أَلاَ تَرَى أَنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَوْ أَرْسَلَ مَكْتُوبًا، إلى مَنْ دُونَهُ كَيْفَ يَفْرَحُ المُرْسَلُ إليهِ وَيَرَاهُ مِنَّةً عَظِيمَةً عليهِ. فيَا فَوْزَ مَنْ جَعَلَ كِتَابَ سَيِّدِهِ وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلاَهُ، وَيَا خَسَارَةَ مَنْ رَمَى وَرَاءَ ظَهْرِهِ مَا أَعْطَاهُ.((كُلُّ النَّاسِ)) الذينَ يَجْرِي عليهِمْ قَلَمُ التَّكْلِيفِ بِالعَقْلِ والبُلُوغِ ((يَغْدُو)) يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ عَدَمِ التَّكْلِيفِ، إلى حَدِّ التكليفِ،((فَبَائِعٌ نَفْسَهُ)) مِنْ رَبِّهِ بعَقْدِ الإسْلامِ وَالإيمَانِ، {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[سورة التوبة الآية: 111].

((فَمُعْتِقُهَا)) فَمِنَ الناسِ مَنْ يُعْتِقُهَا مِنْ عِقَابِهِ، وَيُعَوِّضُهَا ثَوَابَهُ، بِامْتِثَالِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَاجْتِنَابِ مَا عَنْهُ زُجِرَ.

((أَوْ مُوبِقُهَا)) مِنْهُمْ مَن يُهْلِكُهَا بِالاسْتِحْقَاقِ لِعِتَابِهِ وَعِقَابِهِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ ثَوَابِهِ، بِارْتِكَابِ المَنْهِيَّاتِ وَتَرْكِ المَأْمُورَاتِ.
أو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ مِنَ الشيطانِ والنَّفسِ، لِتَسَلُّطِهِمَا عَلَيْهِ وَمُطَاوَعَتِهِ أَمْرَهُمَا، فَمِنْهُم مَنْ يُعْتِقُهَا بِمُخَالَفَتِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْلَكُ لِطَاعَتِهِ لَهُمَا، واللهُ أَعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#4

13 Nov 2008

المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري


قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (

الحَدِيثُ الثَّالِثُ والعِشْرُونَ

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسُبْحَانَ اللَّهِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ أو تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فبَائِعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الرَّاوِي:
الحَارِثُ بنُ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيُّ أبو مَالِكٍ، قَدِمَ مَعَ الأَشْعَرِيِّينَ وتَعَلَّمَ مَعَ الشَّامِيِّينَ، تُوُفِّيَ بالطَّاعُونِ فِي العَامِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ الهِجْرَةِ، ولَهُ اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَدِيثاً.
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ:
فَضْلُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ جَوَامِعُ الخَيْرِ.
المُفْرداتُ:
(1) (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) (الطُّهُورُ) بالضَّمِّ: الفِعْلُ، وبالفَتْحِ: المَاءُ، والمُرَادُ بهِ الوُضُو، يُسَمَّى طُهُوراً؛ لأنَّه يُطَهِّرُ الأَعْضَاءَ حِسًّا مِنَ الأَوْسَاخِ، ومعنًى مِنَ الذُّنُوبِ، فكُلُّ جَارِحَةٍ تَتَطَهَّرُ عِنْدَ غَسْلِهَا، ويَحْصُلُ الطُّهُورُ بالمَاءِ والتُّرَابِ، ومِنْهما خُلِقَ الإنْسَانُ.

و((شَطْرُ)) بمَعْنَى: نِصْفُ، مِن قَوْلِهِم: شَطَرَ الشَّيْءَ إِذَا قَسَمَهُ نِصْفَيْنِ، فكُلُّ شَطْرٍ يُرادُ بهِ النِّصْفُ حَسَبَ القَرِينَةِ، وقَدْ يُرَادُ بِهِ الجِهَةُ كقَوْلِه تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: جِهَتَهُ.

والمُرَادُ أَنَّ الوُضُوءَ شَطْرُ الإِيمَانِ، أي: نِصْفُهُ.


و((الإِيمَانُ)) قِيلَ:المُرادُ أَنَّ أجْرَ الوُضُوءِ كأَجْرِ نِصْفِ الإِيمَانِ؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بالظَّاهِرِ والإِيمَانَ بالبَاطِنِ،

وقِيلَ: إِنَّ المُرَادَ بالإِيمَانِ الصَّلاةُ؛ إذ يَقُولُ تعالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صَلاتَكُمْ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى.


فالوُضُوءُ نِصْفٌ والصَّلاةُ نِصْفٌ.
قِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ نُسَمِّي أَحَدَهُمَا شَطْراً والآخَرَ شَطْراً، ولَوْ لَمْ يَتَساوَيَا في المِقْدَارِ كقَوْلِهِ: ((قَسَمْتُ الصَّلاةَ...))الحَدِيثَ.
وقَوْلِهم: (نِصْفُ السَّنَةِ سَفَرٌ ونِصْفُهَا حَضَرٌ) وهَكَذَا.
(2) ((والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ)) (الحَمْدُ) أي: الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُو لَهُ أَهْلٌ. واخْتِيرَتْ كَلِمَةُ الحَمْدِ؛ لِتَمْلأَ مَحَلَّ الكَلامِ.
والفَرْقُ بَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ:
أَنَّ الحَمْدَ عَلَى النِّعْمَةِ وغَيْرِهَا، والشُّكْرَ عَلَى النِّعْمَةِ فَقَطْ، وأَنَّ الحَمْدَ باللِّسَانِ والقَلْبِ، والشُّكْرَ بِهِمَا وبالجَوَارِحِ.
و((تَمْلأُ المِيزَانَ)) أي: مِيزَانَ العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ إِذْ تُوزَنُ أَعْمَالُهُ فتَكُونُ الحَمْدُ للَّهِ أَثْقَلَ الأَعْمَالِ؛ لعَظِيمِ أَجْرِهَا، وَقَدْ قَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الْحَمْدُ للَّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ).
والعَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي حَاجَةٍ إلى مَا يَمْلأُ مِيزَانَهُ أو يُرَجِّحُ حَسَناتِه علَى سِيِّئَاتِهِ، والحَمْدُ للَّهِ أَعْظَمُ الأَعْمَالِ فِي ذَلِكَ.


ومِمَّا يُثْقِلُ فِي المِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، ومِمَّا يُثْقِلُ حُسْنُ الخُلُقِ، ومِمَّا يُثْقِلُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ والنَّفَقَةُ في سَبِيلِ اللَّهِ، والمَوْزُونُ هو العَمَلُ والعَامِلُ وصَحِيفَةُ العَمَلِ.

(3) ((وسُبْحَانَ اللَّهِ والْحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ)) التَّسْبِيحُ: مَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ، أي: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ، وهو مِن أعظمِ العِباداتِ؛ لأنَّهُ مَعَ الحَمْدِ بمَثَابَةِ التَّخْلِيَةِ قَبْلَ التَّحْلِيَةِ.


والمُرَادُ أَنَّهُما يَمْلآنِ هَذَا الوُجُودَ بتَعْظِيمِ الرَّبِّ والثَّنَاءِ عَلَيْهِ وتَنْزِيهِهِ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ، وقَدْ سُئِلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: مَا أَعْظَمُ الذِّكْرِ؟
قَالَ: ((مَا اصْطَفَى اللَّهُ لمَلائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ...)) الحَدِيثَ.


وإِذَا خَلَتِ القُلُوبُ والجَوَارِحُ مِن الإِثْمِ وأُشْغِلَتْ بالطَّاعَةِ كَانَتْ أَعْمَالُهَا قَدْ مَلأت السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، فالأَرْضُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ، والسَّمَاءُ بدُخُولِهِ، وما بَيْنَهُما بعُرُوجِهِ.

(4) ((وَالصَّلاةُ نُورٌ)) كَانَتْ نُوراً؛ لأنَّهَا لا تَصِحُّ إِلاَّ بالوُضُوءِ، وهذِهِ الأُمَّةُ تُعْرَفُ بالنُّورِ مِن أَثَرِ الوُضُوءِ، وكَانَتْ نُوراً؛ لأنَّها تُضِيءُ لصَاحِبِهَا الطَّرِيقَ المُسْتَقِيمَ، وكَانَتْ نُوراً؛ لأنَّ الطَّرِيقَ إليها نُورٌ، وفي الحديثِ: ((بَشِّرِ المَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ))، وكَانَتْ نُوراً؛ لأنَّ صَلاةَ الجَمَاعَةِ نورٌ، وكَانَتْ نَوْراً؛ لأنَّ اللِّسَانَ نُوِّرَ بذِكْرِهَا، والعَيْنَ بالنَّظَرِ فيها، والأُذُنَ لسَمَاعِ مَا فيها، والقَلْبَ بمُناجَاةِ الرَّبِّ، وطَرِيقُها نُورٌ، وكَانَتْ نُوراً؛ لأَنَّها أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ العَبْدُ فَإِذَا صَلَحَتْ كَانَتْ نُوراً لَهُ إلى الحِسَابِ ونُوراً لَهُ عَلَى الصِّرَاطِ.


(5) ((وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ))(الصَّدَقَةُ) هِيَ بَذْلُ المَالِ تَقَرُّباً إِلَى اللَّهِ تعالَى، منها الوَاجِبُ، ومِنْهَا التَّطَوُّعُ، فالوَاجِبُ هو الزَّكَاةُ، والتَّطَوُّعُ هو النَّفْلُ.
وسُمِّيَتْ صَدَقَةً؛ لأَنَّهَا عَلامَةٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ صَاحِبِهَا.
والبُرْهَانُ:
هو الشُّعَاعُ الذي يَلِي وَجْهَ الشَّمْسِ، وسُمِّيَتْ بُرْهَاناً؛ لأنَّهَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ الإِيمَانِ مِنَ العَبْدِ، ومَنْ بَذَلَ مَالَهُ بَذَلَ نَفْسَهُ، فالصَّدَقَةُ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ الإِيمَانِ.
(6) ((والصَبْرُ ضِياءٌ))(الصَّبْرُ) هو الحَبْسُ، وهو حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الجَزَعِ وعَنِ التَّشَكِّي.
وهو ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ:
صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، ويَكُونُ قَبْلَ الطَّاعَةِ بالصَّبْرِ عَلَى الإِخْلاصِ، ويَكُونُ أَثْنَاءَ الطَّاعَةِ بأَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى الوَجْهِ المَشْرُوعِ، وبَعْدَ الطَّاعَةِ بطَلَبِ القَبُولِ. وصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وصَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِهِ.
((والضِّيَاءُ)) هو النُّورُ الذي يَحْصُلُ فيهِ إِشْرَاقٌ وإِحْرَاقٌ؛ لأَنَّه يُشْرِقُ عَنْ طَرِيقِ الهُدَى والإِيمَانِ والصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، ولأَنَّه يُحْرِقُ الذُّنُوبَ.. فكَأَنَّ الصَّبْرَ ضِياءٌ للأَعْمَالِ، يَدْعو إلى دَوَامِ العَبْدِ علَى العَمَلِ وأَدَائِهِ له علَى الوَجْهِ المَطْلوبِ، وإِحْرَاقٌ للذُّنُوبِ والمَعَاصِي.
(7) ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) (القُرْآنُ) هُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى المُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، المَبْدُوءُ بالفَاتِحَةِ والمَخْتُومُ بالنَّاسِ.

ومِنْ صِفَاتِه: البَرَكَةُ، والعَظَمَةُ، والتَّأْثِيرُ، والشُّمُولِيَّةُ، ومَصْدَرٌ للشَّرِيعَةِ والهِدَايَةِ والرَّحْمَةِ والسَّكِينَةِ والشِّفَاءِ، وسُمِّيَ قُرْآناً؛ لأنَّه يُقْرَأُ.

((حُجَّةٌ لَكَ)) أي: دَلِيلٌ لَكَ ومُدَافِعٌ عنك إِنِ امْتَثَلْتَ أَوَامِرَهُ، وانْتَهَيْتَ عَنْ نَواهِيهِ، وعَمِلْتَ بمُحْكَمِهِ، وآمَنْتَ بمُتَشابِهِهِ وصَدَّقْتَ خَبَرَهُ وطَبَّقْتَ حُكْمَهُ.

و((حُجَّةٌ عَلَيْكَ)) لَوْ تَرَكْتَ أَمْرَهُ ووَقَعْتَ فِي نَوَاهِيهِ يَخْصِمُكَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ويَزُجُّكَ فِي قَفَاكَ حَتَّى يُلْقِيَكَ فِي النَّارِ، فهو إِمَّا شَاهِدٌ لَكَ أَوْ شَاهِدٌ عَلَيْكَ.

(8) ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا)) جَمِيعُ النَّاسِ يَعْمَلُونَ فمنهم مَنْ يُعْتِقُ نَفْسَهُ مِن النَّارِ، ومنهم مَن يَقُودُها إلى النَّارِ بالأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُهَا، فالعَمَلُ مَطْلُوبٌ، لَكِنْ مِنْهُ العَمَلُ المُنْجِي، ومِنْهُ العَمَلُ المُهْلِكُ، فالعَمَلُ الصَّالِحُ يُصْلِحُ الدُّنيا والآخِرَةَ، والعَمَلُ السَّيِّئُ تَسُوءُ بِهِ الدُّنيا والآخِرَةُ.
الفَوائِدُ:
1- فَضْلُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
2- مَنْزِلَةُ الوُضُوءِ.
3- الوُضُوءُ طَهَارَةٌ حِسِّيَّةٌ ومَعْنَوِيَّةٌ.
4- الوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ.
5- تَسْمِيَةُ الصَّلاةِ إِيمَاناً.
6- فَضْلُ (الحَمْدُ للَّهِ).
7- أَنَّهَا تَمْلأُ المِيزَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
8- الإِكْثَارُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
9- الإِيمَانُ باليَوْمِ الآخِرِ.
10- الإِيمَانُ بالمِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
11- عَدْلُ الرَّبِّ تَعَالَى فِي الحُكْمِ بَيْنَ العِبَادِ.
12- فَضْلُ التَّسْبِيحِ.
13- تَسْبِيحُ المَخْلُوقاتِ للَّهِ تَعَالَى.
14-التَّسْبِيحُ والتَّحْمِيدُ يَمْلآنِ السَّمَاءَ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا.
15- الانْشِغَالُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ دُونَ غَيْرِهِ.
16- الصَّلاةُ نُورٌ.
17- المُدَاوَمَةُ عَلَى الصَّلاةِ ليَدُومَ النُّورُ.
18- الصَّدَقَةُ بُرْهانٌ.
19- الانْتِصَارُ علَى شُحِّ النَّفْسِ.
20- فَضْلُ الصَّبْرِ.
21- أَنَّ الصَّبْرَ ضِياءٌ.
22- وُجوبُ العَمَلِ بالقُرْآنِ.
23- القُرآنُ حُجَّةٌ للعَبْدِ أو عَلَيْهِ.
24- الاحْتِكَامُ للقُرْآنِ وكَثْرَةُ التِّلاوَةِ.
25- الجَزَاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ.
26- العِبَادَاتُ قَوْلِيَّةٌ وفِعْلِيَّةٌ ومَالِيَّةٌ.
27- مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ للعَمَلِ بالصَّالِحَاتِ.
28- التَّحْذِيرُ مِن الإِعْرَاضِ عَنِ القُرْآنِ.

هيئة الإشراف

#5

13 Nov 2008

شرح فضيلة الشيخ :ناضم سلطان المسباح


قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (

مَنْزِلَةُ الحديثِ:

الحديثُ ذُو أهمِّيَّةٍ عظيمةٍ، اشتملَ على أبوابٍ عظيمةٍ، فأمَرَ بالطَّهارةِ، ورَغَّبَ في الذِّكرِ الَّذي تَطمئِنُّ إليهِ القلوبُ، والصَّدقةِ الَّتي نَفْعُهَا يَتَعَدَّى للآخرينَ، والصَّلاةِ الَّتي هيَ مِنْ أَعْظَمِ العباداتِ بعدَ التَّوحيدِ، وأَمَرَ بالصَّبرِ، وحثَّ على الاهتمامِ بكتابِ اللهِ والعملِ بما فيهِ، كما فيهِ الحثُّ على السَّعيِ لإنقاذِ النَّفسِ، وذلكَ بسُلُوكِ مَنهجِ اللهِ.
الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ:

(1) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)).

الطُّهورُ: إذا ضُمَّ أَوَّلُهَا يُرادُ بها الفِعْلُ، الَّذي هوَ الْمَصْدَرُ، وإذا فُتِحَ أوَّلُهَا يُرادُ بها الماءُ الَّذي يُتَطَهَّرُ بهِ، وهوَ مُشتَقٌّ مِن الطَّهارةِ، وهيَ التَّنزُّهُ والنَّظافةُ مِن الأَدْنَاسِ الْحِسِّيَّةِ والمعنويَّةِ.
ومعنى الطُّهورِ شَرْعًا: فعلُ ما يترتَّبُ عليهِ رَفْعُ الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ.
شَطْرُ: الشَّطرُ نصفُ الشَّيءِ، وشَطَرْتُهُ: جعلتُهُ نصفَيْنِ، وشاطَرَهُ مالَهُ: ناصَفَهُ.
واختلَفَ العلماءُ في معنى قولِهِ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ))، إلى أقوالٍ؛ أذْكَرُ منها:
1- أنَّ الأَجْرَ في الطُّهورِ يَنتهي تَضعيفُهُ إلى نصفِ أَجْرِ الإيمانِ، وهذا خروجٌ عنْ ظاهرِ النَّصِّ لا شاهدَ لَهُ.
2- المرادُ بالطُّهورِ هنا هوَ التَّطهُّرُ بتركِ الذُّنوبِ والمعاصي والموبِقَاتِ؛ لأنَّهُ يأتي التَّطهُّرُ بهذا المعنى، كما قالَ تعالى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، والمقصودُ يَتطهَّرُونَ مِن اللواطِ وغيرِهِ مِن الموبقاتِ. وبما أنَّ الإيمانَ شَطْرَانِ؛ فعلُ المأموراتِ، وتَرْكُ المحظوراتِ، فيكونُ تَرْكُ المحظوراتِ تَطَهُّرٌ، وبذلكَ يكونُ شَطْرَ الإيمانِ. ولكنَّ هذا يُرَدُّ بروايَةِ: ((الْوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) ويـُرَدُّ كذلكَ مِنْ حيثُ المعنى.
قالَ ابنُ رجبٍ: (فإنَّ كثيرًا مِن الأعمالِ تُطَهِّرُ النَّفسَ مِن الذُّنوبِ السَّابقةِ كالصَّلاةِ، فكيفَ تَدخلُ في اسمِ الطُّهورِ، ومتى دَخَلَت الأعمالُ أوْ بعضُهَا في اسمِ الطُّهورِ لمْ يَتحقَّقْ كونُ تركِ الذُّنوبِ شطرَ الإيمانِ).
3- المرادُ بالطُّهورِ إزالةُ الحدَثَيْنِ الأكبرِ والأصغرِ بالماءِ أو التَّيمُّمِ، والمرادُ بالإيمانِ الصَّلاةُ؛ لأنَّ الإيمانَ يأتي بمعنى الصَّلاةِ، قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} والمرادُ بالآيَةِ: ما كانَ اللهُ لِيُضيعَ صَلاتَكُمْ إلى بيتِ الْمَقْدِسِ. والصَّلاةُ لا تَصِحُّ إلاَّ بالطَّهارةِ، فصارَ الطَّهورُ نِصْفَهَا بهذا المعنى.
قالَ النَّوويُّ: (وهذا القولُ أَقْرَبُ الأقوالِ) وهذا فيهِ تخصيصٌ وتقييدٌ لمعنى الإيمانِ لا دليلَ عليهِ قويٌّ؛ لأنَّ مِن المفسِّرينَ مَنْ فسَّرَ الإيمانَ في الآيَةِ بالثَّباتِ على الإيمانِ عندَ تحويلِ القِبْلَةِ، ولكنْ رجَّحَ العلماءُ تفسيرَ الإيمانِ بالصَّلاةِ لوُجودِ السُّنَّةِ الصَّحيحةِ الَّتي تَدُلُّ على ذلكَ، فهذا القولُ مُحْتَمَلٌ.
4- المرادُ بالطُّهورِ الوُضُوءُ؛ حيثُ إنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغائرَ، والإيمانُ يُكَفِّرُ الكبائرَ، فصارَ نصفَ الإيمانِ بهذا. وهذا فيهِ بُعْدٌ عنْ ظاهرِ الحديثِ لا مُبَرِّرَ لَهُ.
5- خصالُ الإيمانِ مِن الأعمالِ والأقوالِ تُطَهِّرُ القلبَ وتُزكِّيهِ، والطَّهارَةُ بالماءِ تُطَهِّرُ البَدَنَ وتُنَظِّفُهُ. فبهذَا صارَت خصالُ الإيمانِ على قسْمَيْنِ:
أحدُهُمَا: يُطَهِّرُ الظَّاهرَ.
والآخَرُ: يُطَهِّرُ الباطنَ، فَهُمَا نصفانِ بهذا الاعتبارِ، وهذا قولٌ محتمَلٌ، واللهُ أعلمُ.
التَّرغِيبُ بذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ:
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
تضمَّنَ هذا الحديثُ عِظَمَ أَجْرِ هذهِ الكلماتِ الطَّيِّباتِ، فكلمةُ (الحمدُ للهِ) تُثَقِّلُ ميزانَ العبدِ يومَ القيامةِ، وذلكَ لِمَا تَتضمَّنُ مِن الثَّناءِ الحسَنِ على اللهِ؛ لِمَا أَنعمَ علَيْنا مِنْ نِعَمٍ ظاهرةٍ وباطنَةٍ، وكذلكَ كلمةُ (سُبْحَانَ اللهِ) لها ثوابٌ عظيمٌ، كما قالَ بعضُ العلماءِ: لوْ قُدِّرَ ثوابُهُمَا جِسْمًا لَمَلأَ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ.
والتَّسبيحُ: يَتضمَّنُ تنزيهَ اللهِ عزَّ وجلَّ عن النَّقائصِ.
وَرَدَتْ أحاديثُ كثيرةٌ تُرَغِّبُ في هذهِ الكلماتِ الطَّيِّباتِ؛ منها:
- عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)) مُتَّفَقٌ عليهِ.
الإيمانُ بالميزانِ وَاجِبٌ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَمْلأَُ الْمِيزَانَ)).
عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الإيمانُ بالميزانِ.
قالَ أبو جَعْفَرٍ الطَّحاويُّ: (ونُؤْمِنُ بالبعثِ وجزاءِ الأعمالِ يومَ القيامةِ، والعرضِ والحسابِ، وقراءةِ الكتابِ، والثَّوابِ والعقابِ، والصِّراطِ والميزانِ).
وذلكَ لثبوتـِهِ بالكتابِ، قالَ تَعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
وقالَ تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}.
وقالَ تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ولثُبوتِهِ في السُّنَّةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هذَا شَيْئًا؟
أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟
فيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَوَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً؛ فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ.

فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فيقولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟

فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ.
قالَ: فتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ)).
قالَ العلاَّمةُ الأَلْبَانِيُّ مُعَقِّبًا على هذا الحديثِ: (وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ مِيزانَ الأعمالِ لهُ كِفَّتانِ مُشَاهَدَتَانِ، وأنَّ الأعمالَ وإنْ كانَتْ أعْرَاضًا فَإِنَّها تُوزَنُ، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وذلكَ مِنْ عقائدِ أهلِ السُّنَّةِ. والأحاديثُ في ذلكَ مُتضافِرَةٌ إنْ لَمْ تكُنْ مُتَوَاتِرَةً).
وخُلاصةُ ما تقدَّمَ مِن النُّصوصِ تَدُلُّ على الآتي:
1- وُجوبِ الإيمانِ بالميزانِ الَّذي تُوزَنُ بهِ أعمالُ العبادِ يومَ القيامةِ.


2- وهوَ مِيزانٌ حقيقيٌّ لهُ كِفَّتانِ حِسِّيَّتانِ مُشَاهَدَتَانِ.
3- تَعدُّدِ الموازينِ لكلِّ شخصٍ، دَلَّ على ذلكَ ظاهرُ القرآنِ، قالَ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ}، وقالَ تَعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}.
قالَ الشَّنقيطيُّ: (والقاعدةُ المُقَرَّرَةُ في الأصولِ أنَّ ظاهرَ القرآنِ لا يَجُوزُ العدولُ عنهُ إلاَّ بدليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إلَيْهِ).
4- كما دلَّت النُّصوصُ أنَّ العَامِلَ يُوزَنُ.
قالَ البخاريُّ في(صحيحِهِ)في تفسيرِ هذهِ الآيَةِ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}: عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ))، وقالَ: ((اقْرَءُوا{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا})).
قالَ الشَّنقيطيُّ: (فيهِ دَلالةٌ على وزنِ الأشخاصِ).
عن ابنِ مسعودٍ: (إِنَّهُ كانَ يَجْتَنِي سِواكًا مِن الأراكِ، وكانَ دقيقَ السَّاقَيْنِ، فجَعَلَت الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ القومُ منهُ، فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)) قالُوا: مِنْ دِقـَّةِ ساقَيْهِ، فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)).
5- لا يجوزُ تأويلُ النُّصوصِ الواردةِ في إثباتِ الإيمانِ بالميزانِ بِحُجَّةٍ لا تَقْبَلُهَا العقولُ كما قالَ بعضُهُم: (الَّذي يَحتاجُ للمِيزانِ البَقَّالُ والْفَوَّالُ) كما أوَّلَها بعْضُهُم بمعنى العَدْلِ والقضاءِ.
قالَ الشَّوكانيُّ رادًّا على هؤلاءِ: (أمَّا المُسْتَبْعِدُونَ لحمْلِ هذهِ الظَّواهرِ على حقائِقِها فما يَأْتُونَ في استبعادِهِمْ بشيءٍ مِن الشَّرعِ يُرْجَعُ إليهِ، بلْ غايَةُ ما تَشَبَّثُوا بهِ مُجَرَّدُ الاستبعاداتِ العقليَّةِ، وليسَ في ذلكَ حُجَّةٌ على أحدٍ، فهذا إذا لَمْ تقبَلْهُ عقولُهُم فقدْ قبِلَتْهُ عقولُ قَوْمٍ هيَ أقوى مِنْ عقولِهِم مِن الصَّحابَةِ والتَّابعينَ وتابعِيهِم، حتَّى جاءَت البِدَعُ كاللَّيْلِ المُظلِمِ، وقالَ كُلٌّ ما شاءَ، وتَرَكُوا الشَّرعَ خلفَ ظهورِهِم، ولَيْتَهُم جاءُوا بأحكامٍ عقليَّةٍ يَتَّفِقُ العُقلاءُ عليها، ويَتَّحِدُّ قبولُهُم لها، بلْ كُلُّ فريقٍ يَدَّعي على العقلِ ما يُطابِقُ هواهُ، ويُوافِقُ ما ذَهَبَ إليهِ هُوَ، أوْ مَنْ هُوَ تابعٌ لهُ، فَتَتَناقَضُ عقولُهُم على حَسَبِ ما تَناقَضَتْ مَذاهبُهُم، يَعْرِفُ هذا كُلُّ مُنْصِفٍ، ومَنْ أَنْكَرَ فَلْيُصَفِّ فَهْمَهُ وعقلَهُ مِنْ شوائبِ التَّعصُّبِ والتَّمَذْهُبِ؛ فإنَّهُ إنْ فعلَ ذلكَ أَسْفَرَ الصُّبْحُ لِعَيْنَيْهِ).
6- يكونُ الميزانُ بعدَ الحسابِ.
قالَ القُرْطبيُّ: قالَ العلماءُ: (إذا انقضَى الحسابُ كانَ بعدَهُ وزنُ الأعمالِ؛ لأنَّ الوزنَ للجزاءِ، فيَنْبَغِي أنْ يكونَ بعدَ المحاسبَةِ؛ فإنَّ المحاسبةَ لتقريرِ الأعمالِ، والوزنَ لإظهارِ مقاديرِهَا؛ ليكونَ الجزاءُ بِحَسَبِهَا).
الصَّلاةُ نُورٌ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالصَّلاَةُ نُورٌ)) النـُّورُ نَستضيءُ بهِ في الظَّلامِ، كيْ نُمَيِّزَ بهِ بينَ ما يَنفَعُ ويَضُرُّ، وكيْ نَهتديَ بهِ إلى ما نُريدُ. وكذلكَ الصَّلاةُ إذا أدَّاها العبدُ كما أمرَهُ اللهُ تباركَ وتعالَى، تُورِثُ قلبَهُ نورَ الهدايَةِ، وتَجعلُ لهُ فُرْقانًا يُفَرِّقُ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، قالَ تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
وكما أنَّ للصَّلاةِ نورًا على وَجْهِ صاحبِهَا في الدُّنيا، قالَ تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، كذلكَ سوفَ تَكُونُ لصاحبِهَا نورًا يومَ القيامةِ، قالَ تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}؛ أيْ: بسببِ كُتُبِهِم الَّتي أُعْطُوهَا بأيمانِهِم.
لذلكَ وصفَهَا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ بأنَّها نورٌ لصاحبِهَا. وفي هذا ترغيبٌ عظيمٌ في الصَّلاةِ؛ المفروضةِ والنَّافلةِ. فعلى العبدِ أنْ يُؤَدِّيَها كما أُمِرَ، حتَّى تُطَهِّرَ نفسَهُ وتُزَكِّيَهَا مِنْ أَدْرَانِهَا، ويكونَ ذلكَ مُهَيِّئًا لدخولِ دارِ السَّلامِ معَ الأبرارِ.
الصَّدقةُ برهانٌ:
(4) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالصـَّدَقَةُ بُرْهَانٌ)).
البُرهانُ: الحُجَّةُ الفاصلَةُ البيِّنَةُ.
النُّفوسُ تَعْشَقُ المالَ، قالَ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}.
وقالَ تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} وقدْ يَبْخَلُ بهِ العبدُ ويَشِحُّ على إخوانِهِ، فإذا جاهَدَ نفسَهُ وقهَرَ هَوَاهُ وأخرجَ زكاةَ مالِهِ الواجبةَ أو الصَّدقةَ المُسْتَحَبَّةَ امتثالاً لأمرِ مولاهُ، واحتسابًا لِمَا أعدَّ اللهُ للمتصدِّقينَ مِنْ ثوابٍ يومَ المعادِ، كانَ هذا الفعلُ دليلاً وحُجَّةً على إيمانِهِ واستقامتِهِ وصلاحِهِ وطِيبِ مَعْدِنِهِ.
الصَّبرُ ضِياءٌ:
(5) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالصـَّبرُ ضِيَاءٌ)) الصـَّبرُ: هوَ حَبْسُ النَّفسِ عن الْجَزَعِ، وهوَ نقيضُ الْجَزَعِ.
والضِّياءُ: قالَ ابنُ رجبٍ: (والضِّياءُ هوَ النُّورُ الَّذي يَحصلُ فيهِ نوعُ حرارةٍ وإحراقٍ كَضِيَاءِ الشَّمسِ بخِلافِ القمرِ؛ فإنَّهُ نورٌ مَحْضٌ فيهِ إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ).
قالَ تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}.
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَمَّا كانَ الصَّبرُ شاقًّا على النُّفوسِ يَحتاجُ إلى مُجاهَدَةِ النَّفسِ وحَبْسِهَا وكفِّهَا عمَّا تَهْوَاهُ كانَ ضياءً).
والمرادُ بـ((الصَّبرُ ضياءٌ)) كما قالَ النَّوويُّ: (إنَّ الصَّبرَ محمودٌ، ولا يزالُ صاحبُهُ مُسْتَضِيئًا مُهْتَدِيًا مُسْتَمِرًّا على الصَّوابِ).
وهنا لا بدَّ مِنْ بيانِ الأمورِ التَّاليَةِ:
1-أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالصَّبرِ: قالَ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قالَ الحسنُ البَصْرِيُّ: (أُمِرُوا أنْ يَصْبِرُوا على دينِهِم الَّذي ارْتَضَاهُ اللهُ لهم، وهوَ الإسلامُ، فلا يَدَعُوهُ لسرَّاءَ ولا لضرَّاءَ، ولا لشدَّةٍ ولا لرخاءٍ، حتَّى يموتُوا مُسْلِمِينَ، وأنْ يُصَابِرُوا الأعداءَ الَّذين يَكْتُمونَ دينَهُم).
وكذلكَ:أمرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ يصْبِرَ على أذَى الكفَّارِ والمنافقِينَ، قالَ تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، ((بِالصَّبْرِ ينالُ العبدُ ما يَأْمُلُ)) لذلكَ أَنْشَدَ أحدُهُم:

لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعبَ أوْ أُدْرِكَ المُنَى ... فما انقادَت الآمالُ  إلاَّ  لصابـرِ


2- فضلُ الصَّبرِ:
الصَّبرُ جزاؤُهُ الجنَّةُ الَّتي فيها مِن النَّعيمِ المُقيمِ الَّذي لا يعلمُهُ إلاَّ بارِيها، قالَ تَعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.
وقالَ تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وقالَ تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}.
جزاءُ الصَّابرينَ:
لا يُوزَنُ لهم ولا يُكَالُ، إنَّما يُغْرَفُ لهم غَرْفًا، قالَ تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والآياتُ والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ معلومةٌ.
3- أنواعُ الصَّبرِ:
أ- الصَّبرُ على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ: فيَنْبَغِي للعبدِ أنْ يحبِسَ نفسَهُ على إقامةِ الواجباتِ والمستحبَّاتِ، ويجاهدَ نفسَهُ على ذلكَ؛ لأنَّ العوائقَ الَّتي تحولُ دونَ الطَّاعةِ كثيرةٌ، منها الشَّيطانُ والنَّفسُ والهَوَى وشهواتُ الدُّنيا وملذَّاتُهَا، قالَ تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
وقالَ تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ}.
وقالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
وقالَ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}.

ب- الصَّبرُ على تَرْكِ المعاصِي:
المعاصي يُزَيِّنُها الشَّيطانُ ويُحَسِّنُها للنَّاسِ، ويدْعُو لها بأساليبِهِ الإِبْلِيسِيَّةِ{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وقدْ تضعُفُ النُّفوسُ أمامَهَا، وقدْ يَجْمَحُ الهوى لها، فإذا لمْ يحْبِس العبدُ نفسَهُ عنها هلكَ وضاعَ.
ج-الصَّبرُ على تحمُّلِ البلاءِ:
البلاءُ مِنْ سُنَنِ اللهِ في عبادِهِ، قالَ تباركَ وتعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
فقدْ يُبْتَلى العبدُ في بدنِهِ أوْ في مالِهِ أوْ في ولدِهِ أوْ في أهلِهِ، فعليهِ أنْ يصبرَ على هذا البلاءِ الَّذي شاءَهُ اللهُ لحكمةٍ.
أخبرَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّهُ كُلَّما ازْدَادَ العبدُ مَتانةً في دينِهِ زادَ بلاؤُهُ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
مَنْ صَبَرَ في مَيْدَانِ البلاءِ نالَ ثناءَ اللهِ عليهِ، ورَحِمَهُ وبَشَّرَهُ بالثَّوابِ الجزيلِ يومَ الدِّينِ، قالَ تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
4- مواقفُ مِنْ صَبْرِ أنبياءِ اللهِ:
ذاقَ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألوانًا مختلفةً مِن البلاءِ، ضَرَبُوهُ وشَتَمُوهُ وضُيِّقَ عليهِ وعلى أصحابِهِ، فكانَ صبرُهُ في القمَّةِ في ميدانِ البلاءِ.
عنْ عُروةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سألْتُ ابنَ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شيءٍ صنعَهُ المشرِكونَ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: (بينَمَا النَّبيُّ يُصَلِّي في حِجْرِ الكعبةِ إذْ أَقْبَلَ عليهِ عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ، فوَضَعَ ثوبَهُ على عُنُقِهِ فخنَقَهُ خَنْقًا شديدًا، فأقبلَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حتَّى أخذَ بِمَنْكِبِهِ، ودَفعَهُ عن النَّبيِّ وقالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يقولَ: رَبِّيَ اللهُ، وقدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
عنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (بينَما النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشي إذْ أصابَهُ حَجَرٌ فعثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فقالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبِعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ  مَا  لَقِيتِ
كما أخبرَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ عنْ بلاءِ أيُّوبَ عليهِ السَّلامُ، فقالَ: ((إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ بِهِ بَلاَؤُهُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ)).
لذلكَ نالَ ثناءَ اللهِ عليهِ، قالَ تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
والمُتَأَمِّلُ لقصصِ الأنبياءِ يَجِدُ الكثيرَ مِن المواقفِ الَّتي صَبَرَ فيها أنبياءُ اللهِ عليهم السَّلامُ في مَيْدَانِ الْمِحْنَةِ والبلاءِ.
قالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كأنِّي أَنْظُرُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِن الأنبياءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَهُ قومُهُ فأدْمَوْهُ وهوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عنْ وجهِهِ ويقولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
5- مواقفُ مِنْ صبرِ الصَّحابةِ:
كانَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم في البلاءِ كالصَّخرةِ الصَّمَّاءِ في الثَّباتِ وعدمِ الجزعِ والرِّضَى بما كُتِبَ عليهم مِن البلاءِ.
- عن ابنِ مسعودِ بنِ خِرَاشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (بينَما نحنُ نَطوفُ بينَ الصَّفا والمروةِ إذا أُنَاسٌ كثيرٌ يَتَّبِعُونَ فتًى شابًّا مُوثَقًا بيدِهِ في عُنُقِهِ، قُلْتُ: ما شأنُهُ؟ قالُوا: هذا طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ صَبَأَ، وامرأةٌ تُدَمْدِمُ وتَسُبُّهُ، قُلْتُ: مَنْ هذهِ؟ قالُوا: الصَّعْبَةُ بنتُ الحَضْرَمِيِّ أُمُّهُ).
وكذلكَ: كُنَّ الصَّحابيَّاتِ يَصْبِرْنَ في البلاءِ ويَحْتَسِبْنَ الأجرَ الأُخْرويَّ، فلَيْتَ نساءَ المسلمينَ اليومَ يَقْتَدِينَ بهنَّ في جميعِ أحوالِهِنَّ، فهنَّ القدوةُ الطَّيِّبَةُ الصَّالحةُ.
- عنْ عطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ قالَ: (قالَ ليَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ألا أُرِيكَ امرأةً مِنْ أهلِ الجنَّةِ؟ فَقُلْتُ: بلى، قالَ: هذهِ المرأةُ السَّوداءُ أتَت النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وإنِّي أَتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي.قالَ: ((إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ))، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ.
فَقَالَتْ: إنِّي أَتَكَشَّفُ، فادعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدعا لهَا).
القرآنُ حُجَّةُ اللهِ على عبادِهِ:
(6) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) فمَنْ تَعَلـَّمَ شيئًا مِنْ كتابِ اللهِ، وعَمِلَ بما فيهِ مِنْ واجباتٍ، وانتهى عمَّا بهِ مِنْ محظوراتٍ، ووقفَ عندَ حُدُودِهِ، كانَ القرآنُ لهُ حُجَّةً يومَ القيامةِ وشفيعًا.
عنْ أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سمعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((اقْرَءُوا الْقُرآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَِصْحَابِهِ. اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فَرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)).
قالَ معاويَةُ: (بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ السَّحرةُ).
ومَنْ تَرَكَ العملَ بهِ، ولمْ يَأْتَمِرْ بما فيهِ، وإنَّما يَقْرَأُهُ للبركةِ، وعلى الأمواتِ، ويَستفتحُ بهِ الْمَحَافِلَ كانَ القرآنُ حُجَّةً عليهِ تُلْجِمُهُ يومَ القيامةِ أمامَ الدَّيَّانِ سبحانَهُ.
قالَ ابنُ مسعودٍ: (ومَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظهرِهِ قادَهُ إلى النَّارِ).
وعنهُ قالَ:(يَجِيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ فيَشفَعُ لصاحبِهِ، فيكونُ قائدًا إلى الجنَّةِ. أوْ يَشْهَدُ عليهِ، فيكونُ سائقًا إلى النَّارِ).
إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى:
(7) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) فكلُّ النَّاسِ يصبحُونَ ويمشُونَ، ويسعَوْنَ في دنياهُمْ، ولكنَّهُمْ ليسُوا سواءً، فمنهم مَنْ يُعْتِقُ نفسَهُ ويُخَلِّصُهَا مِنْ عذابِ مولاهُ الدُّنيويِّ والأُخْرَوِيِّ، وذلكَ بطاعتِهِ وطاعةِ رسولِهِ.
ومنهم مَنْ يُهْلِكُهَا ويُعرِّضُهَا لعذابِ اللهِ الدُّنيويِّ والأخرويِّ،وذلكَ بمعصيَةِ اللهِ ومعصيَةِ رسولِهِ ومُخَالَفَةِ أَمْرِهِ. قالَ تَعالى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.
قالَ ابنُ رجبٍ: (دلَّ الحديثُ على أنَّ كلَّ إنسانٍ إمَّا ساعٍ في هلاكِ نفسِهِ أوْ في فِكاكِهَا، فمَنْ سَعَى في طاعةِ اللهِ فقدْ باعَ نفسَهُ للهِ وأَعْتَقَهَا مِنْ عذابِهِ، ومَنْ سَعَى في معصيَةِ اللهِ تعالى باعَ نفسَهُ بالهَوانِ وأَوْبَقَهَا بالآثامِ المُوجِبةِ لغضبِ اللهِ وعِقابِهِ).
فوائدُ مِن الحديثِ:
1- الإيمانُ قولٌ وعملٌ، ويَزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنْقُصُ بالمعصيَةِ.
2- الحثُّ على كثرةِ الذِّكرِ.
3- كما فيهِ الحثُّ على النَّظافةِ.

هيئة الإشراف

#6

13 Nov 2008

جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي


قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (

(1) (هذا الحديثُ خَرَّجَه مسلِمٌ مِن روايةِ يحيى بنِ أبي كثيرٍ، أنَّ زيدَ بنَ سلامٍ حَدَّثَه أنَّ أبا سَلامٍ حَدَّثَه عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ)) فذَكَرَ الحديثَ.

(2) وفي أكثرِ نُسخِ (صحيحِ مسلِمٍ): ((وَالصَبْرُ ضِيَاءٌ)) وفي بعضِها: ((وَالصِّيَامُ ضِيَاءٌ)).
وقد اختُلِفَ في سَمَاعِ يحيى بنِ أبي كثيرٍ مِن زيدِ بنِ سَلامٍ، فأَنْكَرَه يحيى بنُ مَعينٍ، وأَثْبَتَه الإِمامُ أحمدُ، وفي هذه الرِّوايةِ التَّصريحُ بسَمَاعِه منه.
وخَرَّجَ هذا الحديثَ النَّسائيُّ، وابنُ مَاجَه مِن روايةِ مُعاويةَ بنِ سَلامٍ، عن أخيه زيدِ بنِ سَلامٍ، عن جَدِّه أبي سلام، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ غَنْمٍ، عن أبي مالكٍ، فزادَ في إسنادِه عبدَ الرَّحمنِ بنَ غَنْمٍ، ورَجَّحَ هذه الرِّوايةَ بعضُ الْحُفَّاظِ، وقالَ: (مُعاويةُ بنُ سَلامٍ أَعْلَمُ بحديثِ أخيهِ زيدٍ مِن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، ويُقَوِّي ذلك أنه قد رُوِيَ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ غَنْمٍ، عن أبي مالكٍ مِن وجهٍ آخَرَ، وحينئذٍ فتكونُ روايةُ مسلمٍ مُنْقَطِعَةً).
وفي حديثِ مُعاويةَ بعضُ المخالَفَةِ لحديثِ يحيى بنِ أبي كثيرٍ؛ فإنَّ لفظَ حديثِه عندَ ابنِ مَاجَه:((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءُ الْمِيزَانِ، وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا)).
وخَرَّجَ التِّرمذيُّ حديثَ يحيى بنِ أبي كثيرٍ الذي خَرَّجَه مسلمٌ، ولفظُ حديثِه: ((الْوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) وباقي حديثِه مِثلُ سياقِ مسلِمٍ.
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِن حديثِ رجُلٍ مِنبني سُلَيْمٍ، قالَ: عَدَّهُنَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم في يَدِي أو في يَدِه:((التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالطُّهُورُ نِصْفُ الإِيمَانِ)).
فقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ))فَسَّرَ بعضُهم الطُّهورَ هاهنا بتَرْكِ الذُّنوبِ، كما في قولِه تعالى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[ الأعراف: 82 ]، وقولِه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[ المدثر: 4 ]، وقولِه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [ البقرة: 222 ].
وقالَ: (الإِيمانُ نوعان: فعلٌ وتَرْكٌ، فنصفُه: فعلُ المأموراتِ، ونصفُه: تركُ المحظوراتِ) وهو تَطهيرُ النَّفسِ بتَرْكِ المعاصي، وهذا القولُ مُحْتَمَلٌ لولا أنَّ روايةَ: ((الْوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ))تَرُدُّه، وكذلك روايةُ: ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ)).
وأيضًا، ففيه نظرٌ مِن جِهةِ المعنى؛ فإنَّ كثيرًا مِن الأعمالِ تُطَهِّرُ النَّفسَ مِنَ الذُّنوبِ السَّابقةِ، كالصَّلاةِ، فكيفَ لا تَدخلُ في اسمِ الطُّهورِ؟
ومتى دَخَلَت الأعمالُ، أو بعضُها، في اسمِ الطُّهورِ؟
لم يَتحقَّقْ كونُ تَرْكِ الذُّنوبِ شَطْرَ الإِيمانِ.

والصَّحيحُ الذي عليه الأكثرون: أنَّ المرادَ بالطُّهورِ هاهنا: (التَّطهُّرُ بالماءِ مِن الأحداثِ) .
وكذلك: بَدَأَ مسلِمٌ بتَخريجِه في أبوابِ الوضوءِ.
وكذلك: خَرَّجَه النَّسائيُّ وابنُ مَاجَه وغيرُهما، وعلى هذا فاخْتَلَفَ النَّاسُ في معنَى كونِ الطُّهورِ بالماءِ شَطْرَ الإيمانِ.
فمنهم مَن قالَ: المرادُ بالشَّطْرِ: الجزءُ، لا أنه النِّصفُ بعينِه، فيكونُ الطُّهورُ جُزءًا مِنَ الإيمانِ، وهذا فيه ضعْفٌ؛ لأنَّ الشَّطرَ إنَّما يُعْرَفُ استعمالُه لغةً في النِّصفِ، ولأنَّ في حديثِ الرَّجُلِ مِن بني سُليمٍ:((الطُّهُورُ نِصْفُ الإِيمَانِ)) كما سَبَقَ.
ومنهم مَن قالَ:(المعنى أنه يُضاعَفُ ثوابُ الوُضوءِ إلى نِصفِ ثوابِ الإيمانِ، لكن مِن غيرِ تَضعيفٍ، وفي هذا نَظرٌ، وبُعْدٌ).
ومنهم مَن قالَ: (الإِيمانُ يُكَفِّرُ الكبائرَ كلَّها، والوُضوءُ يُكَفِّرُ الصَّغائرَ، فهو شَطْرُ الإِيمانِ بهذا الاعتبارِ، وهذا يَرُدُّه حديثُ:((مَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)) وقد سَبَقَ ذِكْرُه.
ومنهم مَن قالَ: (الوُضوءُ يُكفِّرُ الذُّنوبَ مع الإِيمانِ، فصار نِصفَ الإِيمانِ، وهذا ضعيفٌ).
ومنهم مَن قالَ: (المرادُ بالإِيمانِ هاهنا: الصَّلاةُ، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، والمرادُ: صلاتَكم إلى بيتِ الْمَقْدِسِ، فإذا كان المرادُ بالإِيمانِ الصَّلاةَ، فالصَّلاةُ لا تُقْبَلُ إلا بطُهورٍ، فصار الطُّهورُ شَطرَ الصَّلاةِ بهذا الاعتبارِ).
حكى هذا التَّفسيرَ محمدُ بنُ نصرٍ المَرْوَزِيُّ في (كتابِ الصَّلاةِ) عن إسحاقَ بنِ رَاهُويَهْ، عن يحيى بنِ آدمَ، وأنه قالَ في معنى قولِهم: (لا أَدْرِي) نصفُ العلمِ، إنَّ العِلْمَ إنما هو: أدري ولا أدري، فأَحَدُهما نِصفُ الآخَرِ.
قلتُ: كُلُّ شيءٍ كان تحتَه نوعان: فأحدُهما نصفٌ له، وسواءٌ كان عددُ النَّوعينِ على السَّواءِ، أو أحدُهما أَزيدُ مِن الآخَرِ، ويَدُلُّ على هذا حديثُ: ((قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ))والمرادُ: قراءةُ الصَّلاةِ، ولهذا فَسَّرَها بالفاتِحةِ، والمرادُ أنَّها مَقسومةٌ للعِبادةِ والمسألةِ، فالعِبادةُ حقُّ الربِّ والمسألةُ حقُّ العبدِ، وليس المرادُ قِسمةَ كَلماتِها على السَّواءِ.
وقد ذَكَرَ هذا الْخَطَّابِيُّ، واسْتَشْهَدَ بقولِ العربِ: (نِصفُ السَّنَةِ سَفَرٌ، ونِصفُها حَضَرٌ).
قالَ: (وليس على تَساوِي الزَّمانينِ فيهما، لكنْ على انقسامِ الزَّمانينِ لهما، وإن تَفاوَتَتْ مُدَّتَاهُما).

وبقولِ شُريحٍ - وقيلَ له: كيف أَصبحتَ؟ قالَ: (أصبحتُ ونصفُ النَّاسِ عليَّ غَضبانُ، يُريدُ أنَّ النَّاسَ بينَ مَحكومٍ له ومحكومٍ عليه، فالمحكومُ عليه غَضبانُ، والمحكومُ له راضٍ عنه، فهما حِزبانِ مُختلِفان).

ويقولُ الشاعرُ:

إذا مِتُّ كـان النَّـاسُ نِصفيـنِ  شامِـتٌ ... بموتـي ومُثْـنٍ بالـذي كنـتُ  أَفـعـلُ

ومُرادُه أنهم يَنقسمونَ قِسمَيْنِ.

قلتُ: ومِنْ هذا المعنى: حديثُ أبي هُريرةَ المرفوعُ في الفرائضِ: ((إِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ)) خَرَّجَه ابنُ مَاجَه؛فإنَّ أحكامَ الْمُكَلَّفينَ نوعانِ:
نوعٌ يَتعلَّقُ بالحياةِ، ونوعٌ يَتعلَّقُ بما بعدَ الموتِ، وهذا هو الفرائضُ.
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (الفرائضُ ثلُثُ العلْمِ).
ووجهُ ذلك الحديثُ الذي خَرَّجَه أبو دَاوُدَ وابنُ مَاجَه مِن حديثِ عبدِ اللَّه بنِ عمرٍو مَرفوعًا: ((الْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ)).
ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ أنه قالَ: (الْمَضْمَضَةُ والاستنشاقُ نصفُ الوُضوءِ) ولعلَّه أرادَ أنَّ الوُضوءَ قِسمان:
أحدُهما: مَذكورٌ في القرآنِ.
والثَّاني: مأخوذٌ مِن السُّنَّةِ، وهو الْمَضْمَضَةُ والاستنشاقُ.
أو أرادَ أنَّ الْمَضمضةَ والاستنشاقَ يُطَهِّرُ باطنَ الجسدِ، وغَسْلَ سائرِ الأعضاءِ يُطَهِّرُ ظاهِرَه، فهما نِصفان بهذا الاعتبارِ، ومنه قولُ ابنِ مَسعودٍ: (الصَّبرُ نصفُ الإِيمان واليقينُ الإيمانُ كلُّه).
وجاءَ مِن روايةِ يَزيدَ الرَّقَاشيِّ عن أَنَسٍ مَرفوعًا: ((الإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ فِي الصَّبْرِ، وَنِصْفٌ فِي الشُّكْرِ)) فلمَّا كان الإِيمانُ يَشملُ فِعْلَ الواجباتِ، وتَرْكَ المحرَّماتِ، ولا يُنالُ ذلك كلُّه إلا بالصَّبرِ، كان الصَّبرُ نِصْفَ الإِيمانِ، فهكذا يُقالُ في الوُضوءِ: إنَّه نصفُ الصَّلاةِ.
وأيضًا فالصَّلاةُ تُكَفِّرُ الذُّنوبَ والخطايا بشَرْطِ إسباغِ الوُضوءِ وإحسانِه، فصارَ شَطْرَ الصلاةِ بهذا الاعتبارِ أيضًا، كما في (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن عُثمانَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ، فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُنَّ)).
وفي روايةٍ له: ((مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ)).

وأيضًا، فالصَّلاةُ مِفتاحُ الجنَّةِ، والوُضوءُ مِفتاحُ الصَّلاةِ، كما خَرَّجَه الإِمامُ أحمدُوالتِّرمذيُّ مِن حديثِ جابرٍ مَرفوعًا، وكلٌّ مِن الصَّلاةِ والوُضوءِ مُوجِبٌ لفتحِ أبوابِ الجنَّةِ، كما في (صحيحِ مسلمٍ) عن عُقبةَ بنِ عامرٍ، سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يقولُ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِما بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)).
وعن عُقبةَ، عن عمرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ يُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ)).

وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن عُبَادةَ، عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ)).
فإذا كان الوُضوءُ مع الشَّهادتينِ مُوجِبًا لفتحِ أبوابِ الجنَّةِ، صارَ الوُضوءُ نِصفَ الإِيمانِ باللَّهِ ورسولِه بهذا الاعتبارِ.
وأيضًا، فالوُضوءُ مِن خِصالِ الإِيمانِ الْخَفِيَّةِ التي لا يُحافِظُ عليها إلا مُؤمنٌ، كما في حديثِ ثَوبانَ وغيرِه، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((لاَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ)) والغُسْلُ مِن الْجَنابةِ قد وَرَدَ أنَّه أداءُ الأمانةِ، كما خَرَّجَه العُقيليُّ مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا -قالَ: وَكَانَ يَقُولُ: وَايْمُ اللَّهِ، لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلا مُؤْمِنٌ- وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَأَدَّى الأَمَانَةَ)).
قالُوا: يا أبا الدَّرْداءِ، وما أداءُ الأمانةِ؟
قالَ: ((الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْتَمِنِ ابْنَ آدَمَ عَلَى شَيءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرَهَا)).
وخَرَّجَ ابنُ مَاجَه مِن حديثِ أبي أَيُّوبَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَأَدَاءُ الأَمَانَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ)).
قيلَ: وما أداءُ الأمانةِ؟ قالَ: ((الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً)) وحديثُ أبي الدَّرداءِ الذي قَبْلَه جَعَلَ فيه الوُضوءَ مِن أجزاءِ الصَّلاةِ.
وجاءَ في حديثٍ آخَرَ خَرَّجَه البَزَّارُ مِن رِوايةِ شَبابةَ بنِ سَوَّارٍ: حَدَّثنا الْمُغيرةُ بنُ مسلمٍ، عن الأعمشِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرةَ مَرفوعًا: ((الصَّلاَةُ ثَلاَثةُ أَثْلاَثٍ: الطُّهُورُ ثُلُثٌ، وَالرُّكُوعُ ثُلُثٌ، وَالسُّجُودُ ثُلُثٌ، فَمَنْ أَدَّاهَا بِحَقِّهِا، قُبِلَتْ مِنْهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَمَنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ، رُدَّ عَلَيْهِ سَائِرُ عَمَلِهِ))وقالَ: تَفَرَّدَ به الْمُغيرةُ، والمحفوظُ عن أبي صالحٍ، عن كعبٍ مِن قولِه.
فعلى هذا التَّقسيمِ الوُضوءُ ثُلُثُ الصَّلاةِ، إلا أن يُجْعَلَ الرُّكوعُ والسُّجودُ كالشَّيءِ الواحدِ، لتقارُبِهما في الصُّورةِ، فيكونُ الوُضوءُ نصفَ الصَّلاةِ أيضًا.

ويُحْتَمَلُ أن يُقالَ: إنَّ خِصالَ الإِيمانِ مِن الأعمالِ والأقوالِ، كُلَّها تُطَهِّرُ القلبَ وتُزَكِّيهِ، وأَمَّا الطَّهَارةُ بالماءِ، فهي تَخْتَصُّ بتطهيرِ الجسدِ وتَنظيفِه، فصارتْ خِصالُ الإِيمانِ قِسمَيْنِ:
أحدُهما: يُطَهِّرُ الظَّاهرَ.
والآخرُ: يُطَهِّرُ الباطنَ، فهما نِصفان بهذا الاعتبارِ، واللَّهُ أَعلمُ بِمُرادِه ومُرادِ رسولِه في ذلك كُلِّه.
(2) وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ واَلْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فهذا شكٌّ مِن الرَّاوِي في لفظِه، وفي روايةِ النَّسائيِّوابنِ مَاجَه: ((وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)). وفي حديثِ الرَّجُلِ مِن بني سُليمٍ: ((التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
وخرَّجَ التِّرمذيُّ مِن حديثِ الإِفريقيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ يَزيدَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَلاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ)).
وقالَ: ليس إسنادُه بالقويِّ.
قلتُ: اختُلِفَ في إسنادِه على الإِفريقيِّ، فرُوِيَ عنه، عن أبي عَلقمةَ، عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وفيه زيادةٌ: ((وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)).
روى جَعْفَرٌ الفِرْيابيُّ في كتابِ (الذكْرِ)، وغيرُه مِن حديثِ عليٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءُ الْمِيزَانِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَلاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبَرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ)).
وخَرَّجَ الفريابيُّ أيضًا مِن حديثِ مُعاذِ بنِ جَبلٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((كَلِمَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَنْ قالَهَا لَمْ يَكُنْ لَها نَاهِيَةٌ دُونَ الْعَرْشِ، وَالأُخْرَى تَمْلأَُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ: لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ)).
فقد تَضَمَّنَتْ هذه الأحاديثُ فَضْلَ هذه الكلماتِ الأربعِ التي هي أَفضلُ الكلامِ، وهي: سُبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ.
فأما الحمدُ للهِ، فاتَّفَقَت الأحاديثُ كلُّها على أنه يَملأُ الْمِيزانَ.
وقد قيلَ: إنَّه ضَرْبُ مَثَلٍ، وإن المعنى: لو كان الحمدُ جِسْمًا لَمَلأََ الْمِيزانَ.
وقيلَ: بل اللَّهُ عزَّ وجلَّ يُمثِّلُ أعمالَ بني آدمَ وأقوالَهم صُوَرًا تُرى يومَ القيامةِ وتُوزَنُ، كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((يَأْتِي الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَقْدُمُهُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ)).
وقالَ: ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)).
وقالَ: ((أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ)) وكذلك المؤمِنُ يأتيهِ عَمَلُه الصَّالِحُ في قَبْرِه في أَحسنِ صُورَةٍ، والكافرُ يأتيه عملُه في أَقبحِ صورةٍ، ورُوِيَ أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والصِّيامَ وأعمالَ الْبِرِّ تكونُ حَوْلَ الْمَيِّتِ في قبرِه تُدافِعُ عنه، وأنَّ القرآنَ يَصْعَدُ فيَشْفَعُ له.
وأمَّا سُبحانَ اللَّهِ، ففي روايةِ مسلمٍ:((سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ -أوْ تَمْلَآنِ- مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) فَشَكَّ الرَّاوِي في الذي يَملأُ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ: هل هو الكلمتانِ أو إحداهما؟
وفي روايةِ النَّسائيِّ وابنِ مَاجَه: ((التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) وهذه الرِّوايةُ أَشْبَهُ، وهل المرادُ أنَّهما معًا يَمْلآنِ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ، أو أنَّ كُلاًّ منهما يَملأُ ذلك؟
هذا مُحْتَمَلٌ.
وفي حديثِ أبي هُريرةَ والرَّجُلِ الآخرِ أنَّ التَّكبيرَ وَحْدَه يَملأُ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ.

وبكلِّ حالٍ فالتَّسبيحُ دونَ التَّحميدِ في الفضلِ كما جاءَ صريحًا في حديثِ عليٍّ، وأبي هُريرةَ،وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، والرَّجُلِ مِن بني سُلَيْمٍ: أنَّ التَّسبيحَ نصفُ الْمِيزانِ، والحمدُ للهِ تَمْلَؤُه، وسببُ ذلك أنَّ التَّحميدَ إثباتُ المحامِدِ كلِّها للهِ، فدَخَلَ في ذلك إثباتُ صفاتِ الكمالِ ونُعوتِ الجلالِ كلِّها.
والتَّسبيحُ هو: تَنزيهُ اللَّهِ عن النَّقائصِ والعُيوبِ والآفاتِ، والإِثباتُ أَكْمَلُ مِن السَّلْبِ، ولهذا لم يَرِدِ التَّسبيحُ مُجَرَّدًا، لكنْ مقرونًا بما يَدُلُّ على إثباتِ الكمالِ، فتارةً يُقْرَنُ بالحمدِ، كقولِ: سبحانَ اللَّهِ وبحمدِه وسُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للهِ، وتارةً باسمٍ مِن الأسماءِ الدَّالَّةِ على العَظمةِ والجلالِ، كقولِه: سبحانَ اللَّهِ العظيمِ، فإنْ كان حديثُ أبي مالكٍ يَدُلُّ على أنَّ الذي يَملأُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ هو مجموعُ التَّسبيحِ والتَّكبيرِ، فالأمرُ ظاهرٌ.
وإن كان المرادُ أنَّ كُلاًّ منهما يَملأُ ذلك، فإنَّ الْمِيزانَ أوسعُ ممَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ، فما يَملأُ الْمِيزانَ هو أكبرُ ممَّا يَملأُ ما بينَ السَّماءِ والأرض، ويَدُلُّ عليه أنَّه صَحَّ عن سَلمانَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قالَ: (يُوضَعُ الْمِيزانُ يومَ القِيامةِ، فلو وُزِنَ فيه السَّماواتُ والأرضُ لوَسِعَتْ، فتقولُ الملائكةُ: يا ربِّ لِمَن تَزِنُ هذا؟ فيقولُ اللَّهُ تعالى: لِمَن شِئْتُ مِن خَلْقِي، فتقولُ الملائكةُ: سُبحانَك ما عَبَدْناكَ حقَّ عِبادتِك). وخَرَّجَه الحاكمُ مَرفوعًا وصَحَّحَه، ولكنَّ الموقوفَ هو المشهورُ.
وأمَّا التَّكبيرُ، ففي حديثِ أبي هُريرةَ والرَّجُلِ مِن بني سُليمٍ أنه وَحْدَه يَملأُ ما بينَ السَّماواتِ والأرضِ، وفي حديثِ عليٍّ: ((أنَّ التكبيرَ مع التَّهليلِ يَملأُ السَّماواتِ والأرضَ وما بينَهُنَّ)).

وأما التَّهليلُ وَحدَه، فإنَّه يَصِلُ إلى اللَّهِ مِن غيرِ حِجابٍ بينَه وبينَه، وخَرَّجَ التِّرمِذيُّ مِن حديثِ أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((مَا قَالَ عَبْدٌ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصًا، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ السَّمَاءِ، حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَباَئِرُ)).
وقالَ أبو أُمامةَ: (ما مِن عبدٍ يُهَلِّلُ تَهليلةً، فيُنَهْنِهُها شيءٌ دونَ العرشِ). ووَرَدَ أنه لا يَعْدِلُها شيءٌ في الْمِيزانِ في حديثِ البِطاقةِ المشهورِ، وقد خَرَّجَه أحمدُ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، وفي آخِرِه عندَ الإِمامِ أحمدَ:((وَلاَ يَثْقُلُ شَيْءٌ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)).
وفي (المسنَدِ) عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أنه قالَ: ((إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، قَالَ لابْنِهِ: آمُرُكَ بِلاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ)).
وفيه أيضًا عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قالَ: يَا مُوسَى، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قالَ: كُلُّ عِبادِكَ يَقُولُ هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ، قالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي، وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ)).
وقد اختُلِفَ في أيِّ الكلمتينِ أفضلُ؟ أكلمةُ الْحَمْدِ أمْ كلمةُ التَّهليلِ؟
وقد حَكَى هذا الاختلافَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ وغيرُه.
وقالَ النَّخَعِيُّ: (كانوا يَرَوْنَ أنَّ الحمدَ أكثرُ الكلامِ تَضعيفًا).
وقالَ الثَّوْريُّ: (ليس يُضاعَفُ مِن الكلامِ مِثلُ (الحمدُ للهِ).

والحمدُ يَتضمَّنُ إثباتَ جميعِ أنواعِ الكمالِ للهِ، فيَدخلُ فيه التَّوحيدُ.
وفي (مسنَدِ الإِمامِ أحمدَ) عن أبي سعيدٍ وأبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبعًا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كُتِبَتْ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ عِشْرُونَ سَيِّئَةً، وَمَنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلاَثُونَ حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ ثَلاَثُونَ سَيِّئَةً)).
وقد رُوِيَ هذا عن كَعْبٍ مِن قولِه، وقيلَ: (إنه أَصَحُّ مِن المرفوعِ).

(3) وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ))وفي بعضِ نُسخِ (صحيحِ مسلِمٍ): ((وَالصِّيامُ ضِياءٌ)) فهذه الأنواعُ الثَّلاثةُ مِن الأعمالِ أَنوارٌ كلُّها، لكن منها ما يَخْتَصُّ بنوعٍ مِن أنواعِ النُّورِ، فالصَّلاةُ نورٌ مُطْلَقٌ، ويُرْوَى بإسنادينِ فيهما نَظَرٌ، عن أَنَسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، قالَ: ((الصَّلاَةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ)) فهي للمؤمنينَ في الدُّنيا نورٌ في قلوبِهم وبصائرِهم، تُشرِقُ بها قلوبُهم، وتَستنيرُ بَصائرُهم، ولهذا كانتْ قُرَّةَ عينِ الْمُتَّقِينَ، كما كان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يقولُ: ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)) خَرَّجَه أحمدُ والنَّسائيُّ.
وفي روايةٍ: ((الْجَائِعُ يَشْبَعُ، وَالظَّمْآنُ يَرْوَى، وَأَنَا لاَ أَشْبَعُ مِنْ حُبِّ الصَّلاَةِ)).
وفي (المسنَدِ) عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: ((قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَّبَ إِلَيْكَ الصَّلاَةَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا شِئْتَ)).
وخَرَّجَ أبو دَاوُدَ مِن حديثِ رَجُلٍ مِن خُزاعةَ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ:((يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأَرِحْنَا بِهَا)).
قالَ مالكُ بنُ دِينارٍ: (قرأتُ في التَّوْراةِ: يا ابنَ آدمَ، لا تَعْجِزْ أن تقومَ بينَ يَدَيَّ في صلاتِك باكيًا، فأنا الذي اقْتَرَبْتُ بقلبِك وبالغيبِ رأيتَ نُورِي، يعني: ما يُفْتَحُ للمُصَلِّي في الصَّلاةِ مِن الرِّقَّةِ والبُكاءِ).
وخَرَّجَ الطَّبرانيُّ مِن حديثِ عُبادةَ بنِ الصامتِ مَرفوعًا: ((إِذَا حَافَظَ الْعَبْدُ عَلَى صَلاَتِهِ، فَأَقَامَ وُضُوءَهَا، وَرُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، وَالْقِراءَةَ فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَصُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَهَا نُورٌ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا)).
وهي نورٌ للمؤمنينَ في قُبورِهم، ولا سِيَّما صلاةُ اللَّيلِ كما قالَ أبو الدَّرْداءِ: (صَلُّوا ركعتينِ في ظُلَمِ اللَّيلِ لِظُلمةِ القُبورِ).
وكانت رابعةُ قد فَتَرَتْ عن وِرْدِها باللَّيلِ مُدَّةً، فأتاها آتٍ في مَنامِها فأَنْشَدَها:
صلاتُكِ نورٌ والعِبادُ رُقُودُ ... ونومُكِ ضِدٌّ للصَّلاةِ عَنِيدُ
وهي في الآخِرةِ نورٌ للمؤمنينَ في ظُلماتِ القِيامةِ، وعلى الصِّراطِ، فإنَّ الأنوارَ تُقَسَّمُ لهم على حَسَبِ أعمالِهم.
وفي (المسنَدِ) و(صحيحِ ابنِ حِبَّانَ) عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم أنه ذَكَرَ الصلاةَ، فقالَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلاَ نَجَاةٌ وَلاَ بُرْهَانٌ)).
وخَرَّجَ الطَّبرانيُّ بإسنادٍ فيه نَظَرٌ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وأبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ، جَازَ عَلَى الصِّرَاطِ كَالْبَرْقِ اللامِعِ فِي أَوَّلِ زُمْرَةٍ مِنَ السَّابِقِينَ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ)).
وأمَّا الصَّدقةُ، فهي بُرهانٌ، والْبُرهانُ: هو الشُّعاعُ الذي يَلِي وَجْهَ الشَّمسِ، ومنه حديثُ أبي موسى أنَّ رُوحَ المؤمنِ تَخرُجُ مِنْ جَسَدِه لها بُرهانٌ كبُرهانِ الشَّمسِ، ومنه سُمِّيَت الحُجَّةُ القاطعةُ بُرهانًا، لوُضوحِ دَلالتِها على ما دَلَّتْ علي.
فكذلك الصَّدقَةُ بُرهانٌ على صِحَّةِ الإيمانِ، وطِيبُ النَّفسِ بها علامةٌ على وُجودِ حلاوةِ الإِيمانِ وطعمِه، كما في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مُعاويةَ الغاضِريِّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ)) وذَكَرَ الحديثَ، خَرَّجَه أبو داوُدَ.
وقد ذَكَرْنَا قَريبًا حديثَ أبي الدَّرداءِ فيمَن أَدَّى زَكاةَ مالِه طَيِّبَةً بها نفسُه، قالَ: وكان يقولُ: لا يَفعلُ ذلك إلا مؤمنٌ. وسببُ هذا أنَّ المالَ تُحِبُّه النُّفوسُ، وتَبْخَلُ به، فإذا سَمَحَتْ بإخراجِه للهِ عزَّ وجلَّ دلَّ على صِحَّةِ إيمانِها باللَّهِ ووَعدِه ووَعيدِه، ولهذا مَنَعَت العربُ الزَّكاةَ بعدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وقاتَلَهم الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على مَنْعِها.
والصَّلاةُ أيضًا بُرهانٌ على صِحَّةِ الإِسلامِ.
وقد خَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِن حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ)).

وقد ذَكَرْنَا في شرْحِ حديثِ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)) أنَّ الصَّلاةَ هي الفارِقَةُ بينَ الكفرِ والإِسلامِ، وهي أيضًا أوَّلُ ما يُحاسَبُ به الْمَرءُ يومَ القِيامةِ، فإن تَمَّتْ صلاتُه، فقد أَفْلَحَ وأَنْجَحَ، وقد سَبَقَ حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو فيمَن حافظَ عليها أنَّها تكونُ له نُورًا وبُرهانًا ونَجاةً يومَ القِيامةِ.
وأمَّا الصَّبرُ، فإنَّه ضِياءٌ، والضِّياءُ: هو النُّورُ الذي يَحْصُلُ فيه نوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ بخِلافِ القمَرِ، فإنَّه نورٌ مَحْضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] ومِن هُنا وَصَفَ اللَّهُ شريعةَ موسى بأنَّها ضياءٌ، كما قالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرقَانَ وَضِيَاءً وذِكْرًا لِلمُتَّقِينَ}[ الأنبياء: 48 ] وإن كان قد ذَكَرَ أنَّ في التَّوراةِ نورًا كما قالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [ المائدة: 44 ]، ولكنَّ الغالبَ على شَريعتِهم الضِّياءُ لِمَا فيها مِنَ الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ.
ووَصَفَ شريعةَ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم بأنَّها نورٌ لِمَا فيها مِن الحَنيفيَّةِ السَّمْحَةِ، قالَ تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [ المائدة: 15 ] وقالَ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الأعراف: 157 ].
ولَمَّا كان الصَّبرُ شاقًّا على النُّفوسِ، يَحتاجُ إلى مُجاهَدَةِ النَّفسِ وحَبْسِها، وكَفِّها عمَّا تَهواهُ، كان ضياءً فإنَّ معنى الصَّبرِ في اللغةِ: الحبسُ، ومنه قَتْلُ الصَّبرِ: وهو أن يُحْبَسَ الرَّجلُ حتى يُقتلَ.
والصَّبرُ المحمودُ أنواعٌ:
منه صَبرٌ على طاعةِ اللَّه عزَّ وجلَّ.

ومنه صبرٌ عن مَعاصي اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
ومنه صبرٌ على أَقدارِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والصَّبرُ على الطَّاعاتِ وعنِ الْمُحَرَّماتِ أفضلُ مِن الصَّبرِ على الأقدارِ المؤلِمَةِ، صَرَّحَ بذلك السَّلَفُ، منهم سعيدُ بنُ جُبيرٍ، ومَيمونُ بنُ مِهرانَ وغيرُهما.
وقد رُوِيَ بإسنادٍ ضعيفٍ مِن حديثِ عليٍّ مَرفوعًا: ((إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ يُكْتَبُ بِهِ لِلْعَبْدِ ثَلاَثُ مِائَةِ دَرَجَةٍ، وَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ سِتُّ مِائَةِ دَرَجَةٍ، وَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الْمَعَاصِي يُكْتَبُ لَهُ بِهِ تِسْعُ مِائَةِ دَرَجَةٍ)) وقد خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا وابنُ جَريرٍ الطَّبريُّ.
ومِن أَفضلِ أنواعِ الصَّبرِ:

الصِّيامُ، فإنَّه يَجمعُ الصَّبْرَ على الأنواعِ الثَّلاثةِ؛ لأنَّه صَبْرٌ على طاعةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وصَبْرٌ عن مَعاصي اللَّهِ؛ لأنَّ العبدَ يَترُكُ شَهواتِه للهِ عزَّ وجلَّ، ونفسُه قد تُنَازِعُه إليها، ولهذا في الحديثِ الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي)).
وفيه أيضًا صَبْرٌ على الأقدارِ الْمُؤْلِمَةِ بما قد يَحْصُلُ للصَّائمِ مِن الجوعِ والعطَشِ، وكان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يسمِّي شَهْرَ الصِّيامِ شَهْرَ الصَّبرِ.
وقد جاءَ في حديثِ الرَّجُلِ مِن بني سُليمٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((أنَّ الصَّوْمَ نِصفُ الصَّبْرِ))
وربما عُسْرُ الوُقوفِ على سِرِّ كونِه نصفَ الصَّبرِ أكثرُ مِن عُسْرِ الوقوفِ على سِرِّ كونِ الطُّهُورِ شَطْرَ الإِيمانِ
واللَّهُ أعلمُ.

(4) وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [ الإسراء: 82 ].
قالَ بعضُ السَّلَفِ: (ما جالَسَ أحدٌ القرآنَ، فقامَ عنه سالِمًا؛ بل إمَّا أن يَرْبَحَ أو أن يَخْسَرَ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ).
وروى عمرُو بنُ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيامَةِ رَجُلاً، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ، فَخَالَفَ أَمْرَهُ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَشَرُّ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ: شَأْنُكَ بِهِ، فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ على مَنْخِرِهِ فِي النَّارِ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ كَانَ قَدْ حَمَلَهُ، وَحَفِظَ أَمْرَهُ، فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا دُونَهُ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ، فَخَيْرُ حَامِلٍ: حَفِظَ حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي، وَاتَّبَعَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ: شَأْنُكَ بِهِ، فَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يُلْبِسَهَ حُلَّةَ الإِسْتَبْرَقِ، وَيَعْقِدَ عَلَيْهِ تَاجَ الْمُلْكِ، وَيَسْقِيَهُ كَأْسَ الْخَمْرِ)).
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (القرآنُ شافعٌ مُشَفَّعٌ وماحلٌ مُصدَّقٌ، فمَن جَعَلَه أَمامَه قادَهُ إلى الْجَنَّةِ، ومَن جَعَلَه خَلْفَ ظَهْرِه قادَه إلى النَّارِ).
وعنه قالَ:(يَجيءُ القرآنُ يومَ القِيامةِ، فيَشفعُ لِصاحبِه، فيكونُ قائدًا إلى الجنَّةِ، أو يَشهدُ عليه، فيكونُ سائقًا إلى النَّارِ).
وقالَ أبو موسى الأشعريُّ: (إنَّ هذا القرآنَ كائنٌ لكم أَجرًا، وكائنٌ عليكم وِزرًا، فاتَّبِعُوا القرآنَ، ولا يَتَّبِعُكُمُ القرآنُ؛ فإنَّه مَنِ اتَّبَعَ القرآنَ هَبَطَ به على رياضِ الجَنَّةِ، ومَن اتَّبَعَه القرآنُ، زَجَّ في قَفاهُ، فَقَذَفَه في النَّارِ).
(5) قولُه: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ، وابنُ حِبَّانَ مِن حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قالَ: ((النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقٌ نَفْسَهُ وَمُوبِقُهَا)).
وفي روايةٍ خَرَّجَها الطَّبرانيُّ: ((النَّاسُ غَادِيَانِ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، وَفَادٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا)). وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْواهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس: 7 - 10 ] والمعنى: قد أَفْلَحَ مَن زَكَّى نفسَه بطاعةِ اللَّهِ، وخابَ مَن دَسَّاها بالمعاصي، فالطَّاعةُ تُزَكِّي النَّفْسَ وتُطَهِّرُها، فتَرتَفِعُ، والمعاصي تُدَسِّي النَّفْسَ، وتَقْمَعُها، فتَنخفِضُ، وتَصيرُ كالذي يُدَسُّ في التُّرَابِ.
ودَلَّ الحديثُ على أنَّ كلَّ إنسانٍ فهو ساعٍ في هَلاكِ نفسِه، أو في فِكاكِها، فمَن سَعَى في طاعةِ اللَّهِ، فقد باعَ نفسَه لِلَّهِ، وأَعْتَقَها مِن عذابِه، ومَن سَعَى في مَعصيةِ اللَّهِ، فقد باعَ نفسَه بالهوانِ، وأَوْبَقَها بالآثامِ الْمُوجِبَةِ لغَضَبِ اللَّهِ وعِقابِه، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى قولِه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
- وقالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].
- قالَ تعالى: {قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن أبي هُرَيرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم حينَ أُنْزِلَ عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [ الشعراء: 214 ]: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) وفي روايةٍ للبُخاريِّ: ((يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنَ اللَّهِ، لاَ أَمْلِكُ لَكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).
وفي روايةٍ لمسلِمٍ أنَّه دَعَا قُريشًا، فاجْتَمَعوا، فعَمَّ وخَصَّ، فقالَ: ((يَا بَنِي كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).
وخَرَّجَ الطَّبرانيُّ والخَرَائطيُّ مِن حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرفوعًا: ((مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ أَلْفَ مَرَّةٍ، فَقَدِ اشْتَرى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالى، وَكَانَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ)).
وقد اشْتَرَى جَماعةٌ مِن السَّلَفِ أنفسَهم مِن اللَّهِ عزَّ وجلَّ بأموالِهم.
- فمِنهم مَن تَصَدَّقَ بِمَالِه كحبيبٍ أبي محمَّدٍ.
- ومِنهم مَنْ تَصدَّقَ بوَزْنِه فِضَّةً ثلاثَ مرَّاتٍ أو أربعًا، كخالدٍ الطَّحَّانِ.
- ومِنهم مَن كان يَجتهدُ في الأعمالِ الصَّالحةِ ويقولُ: (إنَّما أنا أسيرٌ أَسْعَى في فِكاكِ رَقَبَتي) منهم عمرُو بنُ عُتبةَ، وكان بعضُهم يُسَبِّحُ كلَّ يومٍ اثنَيْ عشرَ ألفَ تَسبيحةٍ بقَدْرِ دِيَتِه، كأنه قد قَتَلَ نفسَه، فهو يَفْتَكُّها بدِيَتِها.
قالَ الحسَنُ: (المؤمنُ في الدُّنيا كالأسيرِ، يَسْعَى في فِكاكِ رَقَبَتِه، لا يَأمنُ شيئًا حتَّى يَلْقَى اللَّهَ عزَّ وجلَّ).
وقالَ: (ابنَ آدمَ، إنَّك تَغْدُو أو تَروحُ في طلبِ الأرباحِ، فلْيَكُنْ همُّكَ نفسَك، فإنك لن تَربَحَ مثلَها أبدًا).
_ قالَ أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ: (قالَ لي رجلٌ مَرَّةً، وأنا شابٌّ: خَلِّصْ رَقبَتَك ما استطَعْتَ في الدُّنيا مِن رِقِّ الآخِرةِ؛ فإنَّ أسيرَ الآخِرةِ غيرُ مَفكوكٍ أبدًا، قالَ: فواللَّهِ ما نَسِيتُها بعدُ).
_ وكان بعضُ السَّلفِ يَبْكِي، ويقول: (ليس لي نَفسانِ، إنَّما لي نفسٌ واحدةٌ، إذا ذَهَبَت، لم أَجِدْ أُخرى).
وقالَ مُحَمَّدُ ابنُ الْحَنَفِيَّةِ: (إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ جَعَلَ الجنَّةَ ثمنًا لأنفسِكم، فلا تَبيعُوها بغيرِها).
وقالَ: (مَن كَرُمَتْ نفسُه عليه لم يكنْ للدُّنيا عندَه قَدْرٌ). وقيلَ له: مَن أعظمُ النَّاسِ قَدْرًا؟ قالَ: (مَن لم يَرَ الدُّنيا كُلَّها لنفسِه خَطَرًا).
وأَنْشَدَ بعضُ الْمُتَقَدِّمينَ:
أُثَامِنُ بالنَّفْـسِ النَّفيسـةِ  ربَّهـا ... ولَيسَ لهافي الخلْقِ كُلِّهـمُ  ثَمَـنْ
بهاتُمْلَكُ الأُخرى فإن أنـا بِعْتُهَـا ... بشيءٍ مِن الدُّنيا، فذاكَ  هُوَ  الغَبَنْ
لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي  بدُنيا  أُصيبُهـا ... لقَدْ ذَهَبَتْ نفسي وقد ذَهَبَ الثَّمَنْ

هيئة الإشراف

#7

13 Nov 2008

شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (

القارئ:

(وعن أبي مالكِ الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الطُّهُور شطْرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأُ) ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم.


الشيخ:
هذا الحديث، وهو الحديث الثالث والعشرون، حديثٌ عظيم جداً، وألفاظهُ جوامع كَلم للمصطفى -عليه الصلاة السلام- وهو من الأحاديث التي تهز النفس وتدخُل القلب بلا استئذان، فيه ما يرقق القلب ويحملُ على الطاعة؛ بتأْثيره على كلِّ نفس، وألفاظهُ تدلُّ عليه، قد قال عليه الصلاة والسلام فيه: ((الطهور شطر الإيمان، و(الحمد لله) تملأ الميزان، و(سبحان الله) و(الحمد لله) تملآن -أو قال- تملأُ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها)) وهذه ألفاظ عظيمةٌ للغاية، واشتملت على أحكام كثيرة ووصايا عظيمة دَخْلت في أبواب كثيرة من أبواب الدين.
فقوله في أوَّله -عليه الصلاة السلام-: ((الطهور شطْر الإيمان)) الطهور المقصود به الطهارة؛ التطهر، فإنّ صيغة (فُعُول) المقصود منها الفعْل، ما يُفْعَل فالطهور هو التطهر، كما أنّ الفُطور هو فِعْلُ الإفطار، والسُّحور: هو الفعل نفسه، وهكذا.. بخلاف (الطَّهور) بالفتح الماء يُسمى (طَهوراً)، وأكْلَةُ السحَر تُسّمى (سَحوراً) بالفتح، و(الفطور) يُسمّى (فَطوراً) بالفتح إذا كان المراد: الذي يُؤْكل، أمّا الفِعْل نفْسه فهو (طُهور) للطهارة، و(سُحور) للتسحر، وهكذا.
فقوله عليه الصلاة والسلام هنا:((الطُّهور)) يعني: التطهُّر، وهذا اختلف فيه العلماء على قولين:
الأول:أنّ المراد بالطهور هنا التطهر من النجاسات المعنوية. أو ممّا يُنجِّسُ القلب والرّوح والجوارح؛ من الشرك، والرِّياء، وفعل المحرمات، وترك الواجبات، وأشباه ذلك، وهذا أخذوهُ من قول الله -جل وعلا-: {وثيابَك فطهّر} على أحد تفسيرين، فإنّ التطهير هنا فُسِّر بأنّ المقصود به: التطهير من الشرك، والنجاسات المعنوية.
- وفُسِّر أيضاً قوله -جل وعلا- {إنَّهم أُناسٌ يتطهّرون} بالامتناع عن فعل الفاحشة، وهذا التفسير له مأْخذهُ من القرآن وظاهرٌ دليله؛ من أنَّ الطهارة هنا المقصود منها: طهارةُ القلب، وطهارةُ الجوارح، واللسان من المُحرمات، أو من ترك الواجبات. وكونها على هذا المعنى شطْرَ الإيمان؛ لأنّ الطهارة ترْك، والإيمان قِسْمان: فِعْلٌ وترك، فصارت الطهارة -بالمعنى هذا-: شطرَ الإيمان، يعني: نصْفة؛ لأنه إمّا أن تترك أو تفعل، فإذا طهرت نفسك وجوارحَك، يعني: جعلتها طاهرة مما حرّم الله -جل وعلا- في القلب واللسان والجوارح؛ فقد أتيت بما هو نصْف الإيمان، وهو الترك، فيبقى الأمْر.
وهنا نقول: لماذا نبه على الترك ولم ينبه على الفعْل، وهو: الإتيان بالواجبات؟
الجواب: أنّ الترك أَعظم، فإن ترك المحرمات أعظم من الإتيان بالواجبات، لهذا تجد أنّ كثيرين يأتون بالواجبات، ولا يصبرون عن المُحرمات، نسأل الله العافية والسلامة.
ومن يترك المحرمات؛ فإنه يسْهلُ عليه أن يأتي بالواجبات.
التفسير الثاني: أنّ الطهُور هنا المقصود به: الطّهارة بالماء، أو بما هو بدل الماء.
والطهارة تكون طهارة كبرى أوصُغرى، يعني غُسْل الجنابة، أو غسل المرأة من الحيض والنفاس، أو الطهارة الصُّغرى في التطهر للصلاة.
وهنا جعلها (شطْر الإيمان) لأن الله -جل وعلا- جعل الصلاة إيماناً، فقال -جل وعلا-: {وما كان الله ليُضيع إيمانكم} يعني: صلاتكم، حين توجَّهوا إلى القبلة بعد بيت المقدس، فقال طائفة من المسلمين كيف بأمر الذين صلوا إلى بيت المقدس، ولم يدركوا الصلاة إلى الكعبة؟ فأنزل الله -جل وعلا- قوله: {وما كان الله ليُضيع إيمانكم} يعني: صلاتكم.

والصلاة مفتاحها التطهر،فإنها لا تصح إلا بالطهارة، فلها شروطٌ قبلها، ولها واجباتٌ، وأركانٌ فيها، يعني: في الصلاة، فما قبلها؛ أعظمُه في فعل العبد: الطهارة، فصارت شْطراً بهذا الاعتبار.
فيكون إذاً قولهُ: ((الطُّهور شطرُ الإيمان)) يعني: التطّهر شطرْ الإيمان (الذي هو الصلاة) لأنّ الصلاة رأسُ أعمال الإيمان.
وهناك تفسيرات أخرُ لأهل العلم، يعني اختلفوا في هذا اختلافاً كثيراً، لكنْ هذان قولان مشهوران في هذا المقام.
قال عليه الصلاة والسلام: ((والحمد لله تَملأ الميزان)).
(الحمد) هذه الكلمة فيها إثبات الكمالات؛ لأنّ (حَمِدَ) بمعنى: أثنى على غيره بما فيه من صفات الكمال، فـ(حَمِدَ لفلان صنيعه) يعني: أثْنى عليه بصفاتٍ كَمُل فيها بما يُناسب البشر لأجْلِ صنيعه، ومنه يدخلُ في الحمد بهذا الاعتبار أنَّه يُثني عليه شاكراً له يعني باللسان، فـ(الحمد لله) معناها: الثَّناءُ على الله -جل وعلا- بإثبات صفات الكمال له جلّ جلاله.
فالحمد (على هذا) يدخُل فيه حَمْدُ الله، وهو: الثناء عليه على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجَمال.
- وحَمْدٌ لله على رُبوبيته على اسمه الرب، وعلى وصْف الرُّبوبية له، حَمْدٌ لله -جل وعلا- على إلهيته، وعلى أنّه الإله، وحَمْدٌ لله -جل وعلا- على أسمائه وصفاته ونعوت جَلالهِ وكمالهِ.
- وحَمْدٌ لله -جل وعلا- على القرآن، كلامه.
- وَحمْدٌ لله -جل وعلا- على أمْره الكوني والقدري، وحُكمِه في بريته.

-وحَمْدٌ لله -جل وعلا- على أمْره الشرعي.
فالحمد في نصوص الكتاب والسنة تكْتنفهُ هذه الأنواع الخمسة التي ذكرنا، ولهذا تجدُ أنه في القرآن يأتي الحمْد متعلقاً بأَحد هذه الخمسة لا غير. انظر مثلاً: {الحمد لله ربّ العالمين} تعلق بالرّبوبية، {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} فهذا أيضاً في الربوبية، {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً..} {الحمد لله فاطر السماوات والأرض} {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله ربّ العالمين} وهكذا.. في نصوصٍ كثيرة في الكتاب والسنة.
فإذاً: (الحمد) إثبات الكمالات، إثبات نعوت الجلال والكمال، وهذا مُستغرَقٌ فيه جميع الأنواع لله -جل وعلا-؛ لأن (أل) هذه للاستغراق، استغراق جميع أنواع الحمد؛ لأنها دخلت على مصدر (حَمِد يحْمدُ حَمْداً) فقوله -جل وعلا-: {الحمد لله رب العالمين} يعني: جميعُ أنواع المحامد مستحَقة لله -جل وعلا-، واللام هنا في قوله: (الحمد لله) يعني: الحمد المستحق لله -جل وعلا-؛ الذي أُثني به على الله -جل وعلا- يملأُ الميزان.
فإذا قال العبد: (الحمد لله) فإن هذه تملأ الميزان، كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره؛ أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) فالحمدُ إثبات، وكما سيأتي في (سبحان الله، والحمد لله) أنّ الحمد والتسبيح متلازمان.
وقوله هنا عليه الصلاة والسلام: ((تملأ الميزان)) على قاعدتنا أنّ المْلأ هنا على ظاهره: حسِّي، وليس مَلأً معنوياً، كما قاله طائفة، وهذا نوعٌ من التأويل؛ لأنّ الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوْعٌ من التأوِيل المذموم.

فإذاً: نقول: ((الحمد لله تملأ الميزان)) على ظاهرها، وهو أنّ الله -جل وعلا- يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله -جل وعلا- يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال، فيزنها فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات؛ تكونُ في الميزان، فيثقل بها، ويخفُ بها ميزان آخرين، فإذاً على ظاهرها أنّ (الحمد لله) هذه تملأ الميزان.

وهنا نظر أهل العلم في قوله: ((تملأُ الميزان)) لماذا صارت تملأ؟ على تفسيرين:
الأول: أن (تملأ) نفهم منه أنّها لا توضعُ أولاً، يعني: لا يُؤتى بالحمد أولاً فتوضع في الميزان، وإنما الذي يُؤتى به الأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بـ(الحمد) فتملأ الميزان، هذا تفسير.


والتفسير الثاني:
أنّ الإيمان والدين نصفان: نصفٌ تنزيه، ونصفٌ إثبات الكمالات، والتنزيه فيه التسبيح،: (تنزيه الرب -جل وعلا- عن النقص في ربوبيته أو في إلهيته أو في أسمائه وصفاته.. إلخ) هذا فيه إبعاد عن النقائص، و(الحمد) إثبات للكمالات، فإذا وُضعت (سبحان الله) أولاً فـ(الحمد لله) تأتي ثانياً فتملأ الميزان.
ونفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ثقيلتان في الميزان))((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان، فيكون الحمد تتمة لذلك، وقد يتأيّدُ هذا بشيء، وهو أنّ التسبيح يختلف عن الحمد، وهو: أنّ التسبيح فيه تخلية، ومعلوم أنّ التخلية بلا شيء يوضَعُ محلها؛ أنها ليست محمودة، بمعنى: أنّه إذا قال أحد: أنا سأُخلي هذا المسجد ممّا فيه من الأشياء)، والفرش، ونحو ذلك؛ لم يكن محموداً بفعله إلا إذا قال: (وآتي بغيره ممّا هو أحسنُ منه فأَضعُه فيه). فالتسبيح تنزيه.
والتنزيه قد يكون ناتجاً عن قصورٍ في إثبات الكمالات لله -جل وعلا-، فيقول إن الله -جل وعلا-: (منزهٌ عن كذا، ومنزهٌ عن كذا، ومنزهٌ عن كذا، ثم لا يصفهُ -جل وعلا- بشيء) فلهذا كان التسبيح، والحمد متكاملان.
- فالتسبيح تخلية.
- والحمد بالنسبة للقلب تحلية.

والتخلية تَسبقُ التحلية كما هو مقرّر في علوم البلاغة.

فإذاً جاء التسبيح في نصوصٍ كثيرةٍ مضافاً إلى الله -جل وعلا- بمعنى سلب النقائص، ونفي النقائص عن الله -جل وعلا- في:
- ربوبيته.
- وإلهيته.
- وأسمائه وصفاته.
- وفي قدَره وأمره الكوني.
- وفي شرْعه وحكمه الديني.
في هذه الخمسة، تُقابلُ بها الخمسة التي فيها إثبات الكمالات في الحمد، فكلُّ واحدةٍ منها نُزِّهت عن الله -جل وعلا-؛ جاء الحمد بإثبات الكمال اللائق بالله -جل وعلا- محلّها.


وهذا لو فقهه العبد لكان (سبحان الله والحمد لله) في لسانه أعظم من أي شيء يشتغلُ به عنها من غير ذكر الله -جل وعلا-، والقُرآن العظيم.
فإذاً: هذه الكلمة خفيفة: (سبحان الله والحمد الله) لكنَّها عظيمة؛ لأنّ فيها الاعتقاد الصحيح في الله -جل وعلا- بجميع جهاته:
- ففيها الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات.
- وفيها إثبات تحليل الحلال، وتحريم الحرام.

- وفيها الاعتقاد الحسن في القدر.

- وفيها الاعتقاد الحَسن فيما يتصرّفُ الله -جل وعلا- به في ملكوته، إلى آخر ذلك من المعاني.
لهذا قوله عليه الصلاة والسلام: ((والحمد لله تملأ الميزان)) يكون هنا (الملأُ) بعد التنزيه، وهو: التسبيح.
قال: ((وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض):
(سبحان الله) يعني: تنزيهٌ لله -جل وعلا- عن النقائص في ربوبيته وإلهيتة وأسمائه وصفاته وشرْعه ودينه وعن أمْره الكوني وقدَره.
(والحمد لله)إثبات الكمالات لله -جل وعلا-، فهما متكاملان.


قال: (تملأُ- أو قال: تملآن- ما بين السماء والأرض)) إذا كان اللفظ (تملآن) فكل واحدةٍ على اعتبار، وإذا كان اللفظ المحفوظ (تملأ) وهو الأظهر (تملأُ ما بين السماء والأرض)، فإن سبحان الله والحمد لله كلمة واحدة؛ لأنّ مدلولها واحد، وهو كما ذكرنا: التنزيه والإثبات.
قوله:((تملأ ما بين السماء والأرض)) ما المقصود بذلك؟
إذا أُطلق لفظ السماء هنا فالمقصود به السماء الدنيا، والسماء تُطْلقُ في النصوص ويراد بها: العُلوّ بعامة،: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبّة كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرْعها في السماء} يعني في العلوّ {أءمنتم من في السماء} يعني: مَنْ في العلو، وهكذا.. فإذا أُطلقَ لفظُ السماء وحدَهُ، -يعني بلا السماوات- مفرد فإنه قد يُراد به العلوّ، وقد يُراد به واحدةُ السموات وهي: السماء الدنيا، وخاصةً إذا جعل -أو قُوبِل- بالأرض.

فقوله هنا: ((تملأ ما بين السماء والأرض))يعني: أنها تملأ هذا الفراغ الكبير الذي بين الأرض والسماء.

لعظم هذه الكلمة، ولمحبَّةِ الله -جل وعلا- لها، ولحمْل الملائكة لها تقرُباً إلى الله -جل وعلا-.

قال: ((والصلاةُ نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)) هذه الثلاثة: الصلاة والصدقة والصبر اقترنت هنا بثلاثةِ أنواعٍ من أنواع: (النور، والضياء، والبرهان).


فدرجات النور، يعني: درجات ما تحسُّه العين من الأنوار ثلاثة: نور وبرهان وضياء، فأوَّلها النور، ويليها البرهان، والثالث الضياء. فالقمر نور:

{وجعل القمر فيهِنَّ نوراً}، {جعل الشمس سراجا والقمر نوراً} فالقمر يوصف بأنهُ نور، وهو الذي يُعْطي الإضاءة بلا إشعاع محْسوس، والبرهان أشَّعةٌ بلا حرارةِ، أعظم درجة من النور، وأقل درجةً من الضياء.


وأما الضياء فهو النور الشديد،نور مسلط شديد يكون معه حرارة، فهذه ثلاث مراتب من أنواع الأضواء.
وإذا نظرت إلى ذلك وجدت قوله -عليه الصلاةُ والسلام- هنا: ((والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)) مرتباً على أجمل ما يكون من الترتيب، فإن الصلاة سبقت الصدقة، ولهذا سبق النور البرهان، والصَّبرُ لا بد منه للصلاة، وللصدقة، ولكلِّ الطاعات، ولكنّ الصَّبر محرق كشدَّة حرارة الضِّياء، فالضياء نورٌ قويٌ فيه حرارة ونوع إحراق؛ فلهذا جعل الصَّبر ضياءً، ولم يجعل الصلاة ضياء، لكن الصلاة نور؛ لأن فيها إعطاءُ ما تحتاجهُ براحةٍ وطمأنينة، والصدقة جعلها برهاناً؛ لأنّ البرهان -وهو الضياء الذي يكون معه أشعة تنعكس في العين- الصدقة فيها إخراج المال، وهو محبوبٌ للنفس، وهذا يحتاج إلى شيءٍ من المعاناة.
والصّبر فهو ضِياء،كما قال عليه الصلاةُ والسلام؛ لأنّ معه المعاناة وَصف الله -جل وعلا- القرآن بأنه نور: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين} ووصف القرآن أيضاً في آياتٍ أُخر بأنه نور، والتوراة - مثلاً - وصفها الله -جل وعلا- بأنها ضياء، وتعلمون كلام المفسرين على ذلك، حيثُ قالوا: (إن التوراة فيها آصارٌ وأغلالٌ على بني إسرائيل، ولهذا سماها الله -جل وعلا- ضياءً، مناسبة ما بين الضياء ووجود التكاليف العِظام على بني إسرائيل: {فبظلمٍ من الذين هادو حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً...} الآيات في آخر سورة النساء، فقال -جل وعلا-: {ولقد آتينا موسى وهارون الفُرْقان وضياءً} فجعل التوراة ضياءً؛ لأنّ فيها هذه الشدة، فالصبر ضياء؛ لأنّ من تحمّل شدّة الصبر فإنه يقوى معه الضياء، فالصبر مشبهٌ بالضياء، وأيضاً أثره أنه يكون معك الضياء).
وهذه الثلاثة أنت محتاجٌ إليها يوم القيامة أشد الحاجة، حين تكون الظلمة دون الجسر، ويعبُر الناس على الصراط، حيث اليوم العصيب، والأمر المخيف.
- فمعك الصلاة وهي نور.
- ومعك الصدقة وهي برهان.

-ومعك الصبر وهو ضياء تنفذُ به إلى رؤية الأمكنة البعيدة.
أعاننا الله -جل وعلا- على كُربات يوم القيامة.
بهذا يظهرُ لك عظم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجوامع كلمه عليه الصلاةُ والسلام.
والصبر كما هو معلوم ثلاثة أنواع:
- صبرٌ على الطاعة.

- وصبْرٌ عن المعصية.

- وصبرٌ على الأقدار المؤلمة.


والصَّبر هو الحبْسُ، يعني: حبْسُ الجوارح والقلب على الطاعات، وحبْسُها عن المعاصي، وحبْسُها على أقْدار الله -جل وعلا- المؤلمة.
والكلام في تفاصيل الصبر تأخذونه من شرح كتاب التوحيد، أو من مظانه.
قال: ((والقُرآن حُجةٌ لك أو عليك)) القرآن حُجةٌ لك إذا تلوته حقَّ تلاوته، بمعنى: تلوته فآمنت بمتشابهه، وعملت بمحكمه، وأحللت حلاله وحرمت حرامه.
((أو عليك))فيزج بمن قرأه فخالف ما دلّ عليه من حقّ الله -جل وعلا- إن لم يغفر الله -جل وعلا- ويصفح- فيزج بصاحبه إلى النار.

القرآن إما لك أو عليك، وطوبى لمن كان القرآن حُجة له.

وقوله عليه الصلاة والسلام:


((حُجَّةٌ لك)) أي: يحاجُّ لك، وهذا جاء في أحاديث أُخَر، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يُؤْتَى بالقرآن يوم القيامة تقْدمُه سورةُ البقرة وآل عمران، كأنَّهُما غمامتان -أو قال غيايتان- أو فرقان من طيرٍ صوافٍّ تحاجانِ عن صاحبها)).
فالقُرآن حُجةٌ لك أو عليك،فلهذا يعظمُ القرآن عند من عمل به، ويضْعفُ القرآن عند من تركه تلاوةً وعملاً.
((كلُّ الناس يغدو)) الغَدوّ هو: السير في أول الصباح، والرّواح: الرجوع في آخر النهار.
قال: ((كلُّ الناس يغدو)) يعني: صباحاً.
((فبائع نفسه فمعتقُها)) يعني: لله -جل وعلا-، باع نفسه فلم يسلِّط عليها الهوى، ولم يُعبِّدها للشيطان، بل جعلها على ما يُحب الله -جل وعلا- ويرضى، فأعتقها ذلك اليوم.
قال: ((أو موبقُها)) بأنه غدا فعمل بمالم يرض الله -جل وعلا- فخسرَ ذلك، نختم بهذا الحديث.
ونسألُ الله -جل وعلا- أن يعلمني وإياكم العلم النافع، وأن يمن علينا بالعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمِرنا رشدا.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدْنَا علماً وعملاً يا أرحم الرحمين.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

13 Nov 2008

الكشاف التحليلي


حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: (الطهور شطر الإيمان...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان)
بيان معنى (الطُّهور)
معنى (الطهور) لغة
الفرق بين (الطُّهور) بضم الطاء و(الطَّهور) بفتحها
(الطُّهور) بالضم: التطهر، وهو المراد هنا
(الطَّهور) بالفتح: ما يتطهر به من الماء وغيره
من نظائر هذا التفريق: (السحور، والفطور، والوضوء،...) بالضم والفتح
معنى (الطهور) شرعاً
معنى (شَطْر)
الشطر لغة: النصف
وقد يطلق (الشطر) ويراد به الجهة
مثاله: قوله تعالى: {فولوا وجوهكم شطره}
أقوال العلماء في المراد بـ(الطهور) في الحديث:
القول الأول: يراد بالطهور: الطهارة الحسية، واختلفوا على قولين:
القول الأول: المراد بالطهور: الوضوء
ويؤيده رواية (الوضوء شطر الإيمان)
القول الثاني: المراد بالطهور: إزالة الحدثين الأكبر والأصغر بالماء أو التيمم
القول الثاني: يراد بالطهور: الطهارة المعنوية، واختلفوا على قولين:
القول الأول: المراد بالطهور: ترك الذنوب والمعاصي
قالوا: الإيمان أمر ونهي، واجتناب النهي شطر الإيمان
- يرده رواية: (الوضوء شطر الإيمان)
- ويرده أن الصلاة تطهر من الذنوب وليست بحرام يترك
القول الثاني: المراد بالطهور خصال الإيمان التي تطهر القلب وتزكيه
من خصال الإيمان ما يطهر الظاهر، ومنها ما يطهر الباطن
- يرده أن هذا هو الإيمان كله، وليس شطر الإيمان
أقوال العلماء في وجه كون الطهور شطر الإيمان:
القول الأول: أن الشطر الجزء لا أنه النصف بعينه
- يرده أن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف
- ويرده حديث الرجل السلمي: (الطهور نصف الإيمان)
القول الثاني: أن ثواب الوضوء يضاعف إلى نصف ثواب الإيمان
- قال ابن رجب: وفي هذا نظر وبعد
القول الثالث: الإيمان يكفر الكبائر كلها، والوضوء يكفر الصغائر، فهو شطر بهذا الاعتبار
- يرده حديث: (من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية)
القول الرابع: الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان، فصار نصف الإيمان
- قال ابن رجب: (وهذا ضعيف)
القول الخامس: المراد بالإيمان هاهنا الصلاة، ولا تقبل الصلاة إلا بالطهور فهو نصفها
وهذا قول يحيى بن آدم المفسر
القول السادس: أن كل شيء تحته نوعان فأحدهما نصف له وإن لم يتساو النوعان

ذكر هذا المعنى الخطابي
ذكر شواهد هذا المعنى من لغة العرب
ذكر بعض فضائل الوضوء
1- الوضوء مع الشهادتين يفتح أبواب الجنة الثمانية
2- لا يحافظ عليه إلا مؤمن
3- يكفر خطايا الجوارح
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)
بيان معنى (الحمد)
الفرق بين الحمد والشكر
بيان معنى (الحمد لله)
الحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله
كثرة محامد الله عز وجل
أنواع المحامد الواردة في القرآن
النوع الأول: حمد لله تعالى على ربوبيته
النوع الثاني: حمد لله تعالى على ألوهيته
النوع الثالث: حمد لله تعالى على أسمائه وصفاته
النوع الرابع: حمد لله تعالى على أمره الكوني القدري
النوع الخامس: حمد لله تعالى على أمره الشرعي الديني
معنى الملء في قوله: (تملأ الميزان)
القول الأول: الملء معنوي
القول الثاني: الملء حسي
الله تعالى يقلب الأعراض أجساماً توزن يوم القيامة
الأعمال توزن يوم القيامة
ملء (الحمد لله) للميزان
مباحث الإيمان بالميزان عند أهل السنة والجماعة:
1 - وجوب الإيمان بالميزان

2 - أنه ميزان حقيقي له كفتان حسيتان مشاهدتان

3 - تعدد الموازين
4 - أن العامل يوزن
5 - بطلان تأويل أهل البدع للميزان
6 - يكون الميزان بعد الحساب
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماوات والأرض)
بيان معنى (سبحان الله)
تعريف التسبيح
بيان معنى (الحمد لله)
المفاضلة بين التسبيح والحمد
دل الحديث على تفضيل الحمد على التسبيح
المفاضلة بين الحمد والتهليل
قوله: (تملآن أو تملأ) شك من الراوي، وفيهما روايتان
ترجيح رواية (تملأ)
بيان سبب الترجيح
معنى ملء ما بين السموات والأرض في الحديث
إطلاقات (السماء) في النصوص
المراد بالسماء هنا: السماء الدنيا
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصلاةُ نور)
عظم شأن الصلاة
وجه كون الصلاة نوراً
الصلاة نور على وجه صاحبها في الدنيا
الصلاة نور للمؤمنين في قبورهم
فضل صلاة الليل
الصلاة نور للمؤمنين في ظلمات يوم القيامة
وصف الصلاة بأنها برهان
الفرق بين النور والبرهان والضياء
وصف الله الشرائع السابقة بأنها ضياء وشريعة محمد بأنها نور
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصدقة برهان)
تعريف الصدقة
سبب تسمية (الصدقة) بهذا الاسم
معنى (البرهان)
سبب وصف الصدقة بأنها برهان
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)
بيان معنى (الصبر)
بيان معنى (الضياء)
سبب وصف الصبر بأنه ضياء
ذكر بعض النصوص في الأمر بالصبر
فضل الصبر
أنواع الصبر:
1 - صبر على طاعة الله تعالى
2 - صبر عن معاصي الله تعالى
3 - صبر على أقدار الله تعالى
التفضيل بين أنواع الصبر الثلاثة
أمثلة لصبر الأنبياء عليهم السلام
أمثلة لصبر الصحابة رضي الله عنهم
الترتيب بين الصلاة والصدقة والصبر دقيق
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حُجَّة لك أو عليك)
تعريف (القرآن)
معنى كون القرآن حجة للعبد
معنى كون القرآن حجة على العبد
ذكر بعض الآثار عن السلف في هذا المعنى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فبائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أَوْ مُوبِقُها)
معنى (الغدو)
معنى (الرواح)
معنى قوله: (فبائع نفسه فمعتقها)
معنى قوله: (أو موبقها)
من فوائد حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه:
فَضْلُ الطهور
تَسْمِيَةُ الصَّلاةِ إِيمَاناً
فضل التسبيح والتحميد
فضل الصلاة والصدقة
فضل الصبر
وُجوبُ العَمَلِ بالقُرْآن

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

13 Nov 2008

العناصر

حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: (الطهور شطر الإيمان...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان)
بيان معنى (الطُّهور)
الفرق بين (الطُّهور) بضم الطاء و(الطَّهور) بفتحها
معنى (شَطْر)
أقوال العلماء في المراد بـ(الطهور) في الحديث:
أقوال العلماء في وجه كون الطهور شطر الإيمان
ذكر بعض فضائل الوضوء

شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)
بيان معنى (الحمد)
الفرق بين الحمد والشكر
بيان معنى (الحمد لله)
الحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله
كثرة محامد الله عز وجل
أنواع المحامد الواردة في القرآن
معنى الملء في قوله: (تملأ الميزان)
ملء (الحمد لله) للميزان
مباحث الإيمان بالميزان عند أهل السنة والجماعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماوات والأرض)
بيان معنى (سبحان الله)
بيان معنى (الحمد لله)
المفاضلة بين التسبيح والحمد
المفاضلة بين الحمد والتهليل
قوله: (تملآن أو تملأ) شك من الراوي، وفيهما روايتان
معنى ملء ما بين السموات والأرض في الحديث
إطلاقات (السماء) في النصوص
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصلاةُ نور)
عظم شأن الصلاة
وجه كون الصلاة نوراً
فضل صلاة الليل
الصلاة نور للمؤمنين في ظلمات يوم القيامة
وصف الصلاة بأنها برهان
الفرق بين النور والبرهان والضياء
وصف الله الشرائع السابقة بأنها ضياء وشريعة محمد بأنها نور
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصدقة برهان)
تعريف الصدقة
سبب تسمية (الصدقة) بهذا الاسم
معنى (البرهان)
سبب وصف الصدقة بأنها برهان
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)
بيان معنى (الصبر)
بيان معنى (الضياء)
سبب وصف الصبر بأنه ضياء
ذكر بعض النصوص في الأمر بالصبر
فضل الصبر
أنواع الصبر
أمثلة لصبر الأنبياء عليهم السلام
أمثلة لصبر الصحابة رضي الله عنهم
الترتيب بين الصلاة والصدقة والصبر دقيق
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حُجَّة لك أو عليك)
تعريف (القرآن)
معنى كون القرآن حجة للعبد
معنى كون القرآن حجة على العبد
ذكر بعض الآثار عن السلف في هذا المعنى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فبائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أَوْ مُوبِقُها)
معنى (الغدو)
معنى (الرواح)
معنى قوله: (فبائع نفسه فمعتقها)
معنى قوله: (أو موبقها)

من فوائد حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه