29 Oct 2008
ح31: حديث سهل بن سعد: (ازهد في الدنيا يحبك الله...) ج
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
31- عن أبي العبَّاسِ -سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الساعديِّ-
رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا
عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللهُ وأَحبَّنِيَ النَّاسُ.
فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حديثٌ حَسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه وغيرُهُ بأسانيدَ حَسنةٍ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ أَبي العَباس سَعدِ بنِ سَهلٍ السَّاعِدي رضي الله عنه قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله:
دُلَّني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمَلتُهُ أَحَبَّني اللهُ، وَأَحبَّني النَاسُ
؟ فَقَالَ: (ازهَد في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ ، وازهَد فيمَا عِندَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)(1) حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة. (1) أخرجه ابن ماجه – كتاب: الزهد، باب: الزهد في الدنيا، (4102)
الشرح
قوله "جَاءَ رَجُلٌ"
لم يعين اسمه، ومثل هذا لا حاجة إليه، ولاينبغي أن نتكلف بإضاعة الوقت في
معرفة هذا الرجل، وهذا يأتي في أحاديث كثيرة، إلا إذا كان يترتب على معرفته
بعينه اختلاف الحكم فلابد من معرفته.
وقوله: "دُلني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَملتُهُ أَحَبَّني الله، وَأَحبَّني النَّاس" هذا الرجل طلب حاجتين عظيمتين، أولهما محبة الله عزّ وجل والثانية محبة الناس.
فدله النبي صلى الله عليه وسلم على عمل معين محدد، فقال:"ازهَد في الدُّنيَا" والزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر من أمور الدنيا ، والزهد:
ترك مالا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر، لأنه يدخل
في الزهد الطبقة الوسطى التي ليس فيها ضرر ولا نفع، فالزهد يتجنب مالا نفع
فيه، وأما الوَرَع فيفعل ما أبيح له،لكن يترك ما يضره.
وقوله: "يُحِبكَ الله" هو بالجزم على أنه جواب : ازهَد
والدنيا: هي هذه الدار التي نحن فيها، وسميت بذلك لوجهين:
الوجه الأول: دنيا في الزمن.
الوجه الثاني: دنيا في المرتبة.
فهي دنيا في الزمن لأنها قبل الآخرة، ودنيا في المرتبة لأنها دون الآخرة بكثير جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمَوضِعُ سوطِ أَحَدِكُم في الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا"(2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ركعَتَا الفَجرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا"(3) إذاً الدنيا ليست بشيء.
ولذلك لا تكاد تجد أنه يمر عليك شهر أو شهران أو أكثر إلا وقد أصبت بالسرور ثم أعقبه حزن، وما أصدق وصف الدنيا في قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وقوله: "وازهَد فيمَا عِندَ النَاس يُحِبكَ النَّاس"
أي لا تتطلع لما في أيديهم، ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا
يتضمن ترك سؤال الناس أي أن لا تسأل الناس شيئاً، لأنك إذا سألت أثقلت
عليهم، وكنت دانياً سافلاً بالنسبة لهم، فإن اليد العليا المعطية خير من
اليد السفلى الآخذة.
من فوائد هذا الحديث:
1-علو-همم الصحابة رضي الله عنهم، فلا تكاد تجد أسئلتهم إلا لما فيه خير في الدنيا أو الآخرة أو فيهما جميعاً.
وهنا السؤال : هل الصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا مثل هذا السؤال يريدون أن يطلعوا فقط، أو يريدون أن يطلعوا ويعملوا؟
الجواب:
الثاني، بخلاف كثير من الناس اليوم-نسأل الله أن لايجعلنا منهم- يسألون
ليطلعوا على الحكم فقط لا ليعملوا به، ولذلك تجدهم يسألون عالماً ثم عالماً
ثم عالماً حتى يستقروا على فتوى العالم التي توافق أهواءهم، ومع ذلك قد
يستقبلونها بنشاط وقد يستقبلونها بفتور.
2. إثبات محبة الله عزّ وجل،أي أن الله تعالى يحب محبة حقيقية.
ولكن هل هي كمحبتنا للشيء؟
الجواب:
لا، حتى محبة الله لنا ليست كمحبتنا لله، بل هي أعلى وأعظم، وإذا كنا الآن
نشعر بأن أسباب المحبة متنوعة، وأن المحبة تتبع تلك الأسباب وتتكيف
بكيفيتها فكيف بمحبة الخالق؟!! لا يمكن إدراكها.
الآن نحب الأكل، ونحب من
الأكل نوعاً نقدمه على نوع، وكذلك يقال في الشرب، ونحب الجلوس إلى الأصحاب،
ونحب الوالدين،ونحب النساء، فهل هذه المحبات في كيفيتها وحقيقتها واحدة؟
الجواب: لا، تختلف.
فمحبة الخالق عزّ وجل لنا-ليست كمحبتنا إياه، بل هي أعظم وأعظم، لكنها حقيقية.
زعم أهل التعطيل الذين
حكموا على الله بعقولهم وقالوا:ما وافق عقولنا من صفات الله تعالى أثبتناه
وما لا فلا، ولهذا قاعدتهم في هذا، يقولون: ما أقرته عقولنا من صفات الله
أقررناه، وما خالف عقولنا نفيناه، وما لم توافقه ولم تخالفه فأكثرهم نفاه
وقالوا: لا يمكن أن نثبته حتى يشهد العقل بثبوته، وبعضهم توقف فيه.
وأقربهم إلى الورع الذين
توقفوا ومع ذلك فلم يسلكوا سبيل الورع، إذ سبيل الورع أن نثبت ما أثبته
الله تعالى لنفسه مطلقاً، سواء أدركته عقولنا أم لا، وأن ننفي ما نفاه الله
تعالى عن نفسه مطلقاً، سواء أثبتته عقولنا أو لا، وما لم ترد عقولنا
بإثباته أو نفيه نثبته إن أثبته الله تعالى لنفسه، وننفيه إن نفاه الله
تعالى عن نفسه.وعلى هذا فمحبة الله تعالى للعباد ثابتة بالقرآن والسنة
وإجماع السلف الصالح، قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة: الآية54] وقال عزّ وجل: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: الآية4] (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً) [الصف:4] وآيات متعددة.
فيقول أهل العقل الذين حكموا على الله بعقولهم:محبة الله يعني إثابته على العمل.
فنقول:الإثابة على العمل
أليس من لازمها المحبة؟ لأنه لا يمكن أن يثيب على عمل إلا وهو يحبه، إذ
العقل لا يمكن أن يحكم بأن أحداً يثيب على عمل وهو لا يحب العمل، العقل
ينفي هذا، فإذا رجعنا إلى العقل صار العقل دليلاً عليه.
وحينئذ يجب أن نثبت المحبة بدون واسطة، فنقول: هي محبة حقيقية.
فلو أنكروا المحبة وقالوا:
إن الله لا يحب فقد كذبوا القرآن، ولذلك نقول: إنكار حقيقة الصفات إن كان
إنكار تكذيب وجحد فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهذا فيه تفصيل:
1-إن كان للتأويل مساغ لم يكفر، لكنه خالف طريق السلف، فيكون بهذا الاعتبار فاسقاً مبتدعاً.
2-وإن
كان التأويل لا مساغ له لم يقبل منه أبداً، ولهذا قال العلماء في الأيمان
لو قال شخص: والله لا أشتري الخبز، وذهب واشترى خبزاً، فقلنا له: عليك
كفارة، فقال: لا، أنا أردت بالخبز الثوب، فلا يقبل منه، لأن هذا ليس له
مساغ في اللغة.
لكن لو قال: والله لا أنام
إلا على فراش ثم خرج إلى الصحراء ونام عليها، وقلنا له:حنثت لأنك لم تنم
على فراش، قال:أردت بالفراش الأرض كما قال الله عزّ وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) [البقرة: الآية22] فإنه يقبل، لأن هذا سائغ.
وعلى كل حال: طريق
السلامة، وطريق الأدب مع الله، وطريق الحكمة أن نثبت لله ما أثبته لنفسه،
سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه سواء
أدركته عقولنا أم لم تدركه، وأن نسكت عما سكت الله عنه.
3.
أن الإنسان لا حرج عليه أن يطلب محبة الناس،أي أن يحبوه، سواء كانوا
مسلمين أو كفاراً حتى نقول:لا حرج عليه أن يطلب محبة الكفار له، لأن الله
عزّ وجل قال: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ )[الممتحنة: الآية8] ومن
المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات فسوف يحبونه، أو عدل فيهم فسوف
يحبونه، والمحذور أن تحبهم أنت، ولهذا جاء في الحديث وإن كان ضعيفاً أن
النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على البلد قال: "اللَّهمَّ حَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحبَب صَالِحي أَهْلِهَا إِلَينَا" ، فلما أراد المحبة الصادرة منه قال: "صَالِحي أَهْلِهَا" ولما أراد المحبة الصادرة من الناس قال: حَبِّبنَا إِلَى أَهْلِهَا مطلقاً.
4. فضيلة الزهد في الدنيا، ومعنى الزهد: أن يترك مالا ينفعه في الآخرة.
وليس الزهد أنه لا يلبس
الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، وإنما يتقشف ويأكل الخبز بلا
إدام وما أشبه ذلك، ولكن يتمتع بما أنعم الله عليه،لأن الله يحب أن يرى أثر
نعمته على عبده، وإذا تمتع بالملاذ على هذا الوجه صار نافعاً له في
الآخرة، ولهذا لا تغتر بتقشف الرجل ولبسه رديء الثياب، فربَّ حية تحت القش،
ولكن عليك بعمله وأحواله.
5. أن الزهد مرتبته أعلى من الورع، لأن الورع ترك ما يضر ، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
6. أن الزهد من أسباب محبة الله عزّ وجل لقوله: "ازهَد في الدنيَا يُحِبكَ اللهُ" ومن أسباب محبة الله للعبد وهو أعظم الأسباب: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31]
7.
الحث والترغيب في الزهد فيما عند الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
جعله سبباً لمحبة الناس لك، وهذا يشمل أن لا تسأل الناس شيئاً، وأن لاتتطلع
وتعرِّض بأنك تريد كذا.
مثال الأول:
أن ترى مع شخص من الناس ما يعجبك من قلم أوساعة، وتقول يا فلان : هذه ساعة
طيبة، ألا تهديها عليَّ، فإن الهدية تذهب السخيمة، وتهادوا تحابوا، وأتى
بالمواعظ من أجل أن يأخذ الساعة ، لكن إذا كان هذا ذكياً قال: وأنت أيضاً
أهد عليَّ ساعتك ويأتي له بالنصوص.
أقول:إن سؤال الناس ما
عندهم لا شك أنه من أسباب إزالة المحبة والمودة، لأن الناس يستثقلون هذا
ويستهجنون الرجل ويستذلونه، واليد العليا خير من اليد السفلى.
مثال ثان: أن تعرض بأنك تريده كأن تقول:ما شاء الله هذا القلم الذي معك ممتاز، ليتني أحصل على مثله، وهذا كأنك تقول له:أعطني إياه.
فمثل هذا عليك أن تردعه،
إذا طلب منك هذا فقل له: ابحث عنه في السوق، لأنني لا أحب أن الناس تدنو
أنفسهم إلى هذا الحد، دع نفسك عزيزة ولا تستذل.
ولكن هنا مسألة: إذا علمت أن صاحبك لو سألته لسره ذلك، فهل تسأله؟
الجواب:نعم،لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى اللحم على النار قال:"ألم أرَ البرمة على النار" قالوا:يا رسول الله: هذا لحم تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية"(4)،لأننا نعلم علم اليقين أن بريرة رضي الله عنها سوف تسر، فإذا علمت أن سؤالك يسر صاحبك فلا حرج والله الموفق.
____________________________________________________________________
(2)
أخرجه الإمام أحمد – ج5/ص330، في مسند الأنصار عن أبي مالك سهل بن سعد،
(23183). والبخاري – بلفظ " خير من الدنيا وما عليها"، كتاب: الجهاد
والسير، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، (2892). والترمذي – بلفظ" وموضع
سوط.." كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (1664).
(3)
أخرجه مسلم- كتاب: صلاةالمسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر،
والحث عليهما، وتخفيفهما، والمحافظةعليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما،
(725)،(96)
(4) أخرجه البخاري – كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية، (2578). ومسلم – كتاب: العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، (1504)، (1)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحديثِ:
سَهْلُ بنُ سَعْدِ بنِ مالِكِ بنِ خالدٍ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ، لَهُ
وَلأَِبِيهِ صُحْبَةٌ، وكانَ اسْمُهُ حَزْنًا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ سَهْلاً، مَاتَ بالمدنيةِ سنةَ ثمانٍ وثمانينَ،
وَقِيلَ: بَعْدَهَا، وقَدْ جَاوَزَ المائَةَ، وهُوَ آخِرُ الصَّحَابةِ
وَفَاةً في المدينةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الشَّرحُ:
(عَنْ أبي
العَبَّاسِ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يَا رسولَ اللهِ دُلَّنِي على
عَمَلٍ) جليلِ المقْدَارِ (إذا عَمِلْتُهُ) وَأَخَذْتُ بهِ (أَحَبَّنِي اللهُ) تَعَالَى، وَحُبُّهُ العَبْدَ هُوَ الفَوزُ الكَبيرُ، (وَأَحَبَّنِي الناسُ) وَحُبُّهُمُ للهِ مِنْ أَجَلِّ المَقَاصِدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ علَيْهِ مِنَ الفوائدِ.
(فقَالَ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((ازْهَدْ)) كُنْ زَاهِدًا ((في الدُّنْيَا))
بِقَلْبِكَ، ولاَ تَأْخُذْ مِنْهَا إلاَّ قَدْرَ الضَّرُورَةِ،
وَأَنْزِلْهَا في فُؤَادِكَ مَنْزِلَهَا الذي جَعَلَهُ رَبُّها لَهَا، وهيَ
أَنَّها مَبْغُوضَةٌ عِنْدَهُ مَلْعُونَةٌ لَدَيْهِ، لا تَعْدِلُ عِنْدَهُ
جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ولذَا جَعَلَهَا سِجْنًا لأَِحْبَابِهِ، وَجَنَّةً
لأَِعْدَائِهِ ((يُحِبَّكَ اللهُ)) فَمَنْ
رَامَ تَحْصِيلَ حُبِّهِ تَعَالَى؛ وَلَمْ يُخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ
قَلْبِهِ، ولم يُنْزِلْهَا مَنْزِلَهَا، وَلَمْ يَحْتَقِرْهَا فَقَدْ
رَامَ المُحَالَ، وَكَيْفَ يُحِبُّ الرَّبُّ الجَلِيلُ عَبْدًا
مُتَنَجِّسًا بِنَجَاسَةِ مَا لَعَنَهُ وَأَبْغَضَهُ؟
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[سورة القيامة: 14 - 15]، وكلُّ مَا شَغَلَكَ عَنْ مَوْلاَكَ فَهُوَ دُنْيَاكَ.
((وَازْهَدْ)) بِقَلْبِكَ وَقَالِبِكَ ((فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ)) الذينَ جُبِلُوا على حُبِّ الدُّنْيَا حُبًّا شَدِيدًا، والبُخْلِ بمَا عِنْدَهمُ، وكراهَةِ السُّؤالِ مِمَّا في أَيْدِيهِم ((يُحِبَّكَ النَّاسُ))؛
لأنَّ مَنْ زَهِدَ في مَحْبُوبِهِم وَتَرَكَهُ لَهُمْ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ
إِعْرَاضًا صَادِقًا أَحَبُّوهُ، وَبَذَلُوا لَهُ مَا عِنْدَهُم، وَمَنْ
طَمِعَ في مَحْبُوبِهم أَبْغَضُوهُ وَأَذَلُّوهُ، ولم يُعْطُوهُ مِمَّا في
أَيْدِيهِم إلاَّ كُرْهًا.
فالفائزُ مَن فازَ بالزُّهْدِ في الدنيا الدَّنِيَّةِ. اللهُمَّ أَخْرِجْ حُبَّهَا مِنْ قُلُوبِنَا.
قالَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-:
وَماهِيَ إِلاَّ جِيفَـةٌ مُسْتَحِيلَـةٌ ... عَلَيْهَاكِلاَبٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَـا
فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سَلْمًا لأَِهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَانَازَعَتْكَ كِلاَبُهَـا
المنن الربانية لفضيلة الشيخ :سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ الحادي وَالثلاثونَ
عنْ
أبي العَبَّاسِ سَهْلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ
أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حَدِيثٌ صحيحٌ.
(1) الرَّاوِي:
هوَ أبو العَبَّاسِ سَهْلُ بنُ سعدٍ السَّاعِدِيُّ، كانَ اسْمُهُ حَزْناً،
فَسَمَّاهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلاً، هوَ
وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ، وَتُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، تُوُفِّيَ سَنَةَ (88)
هجريَّةً.
موضوعُ الحديثِ: الزُّهْدُ في الدُّنيا.
المفرداتُ:
((جَاءَ رَجُلٌ)): أيْ دَخَلَ رجلٌ عَلَيْهِ يَسْأَلُ وَيَطْلُبُ العلمَ، وَيَرْغَبُ في النَّجَاةِ، وَلا يَعْرِفُونَ اسْمَهُ.
(2) ((دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ)):
أيْ أَرْشِدْنِي وَوَجِّهْنِي عَلَى عملٍ مِن الأعمالِ التي تَكْفُلُ لي
مَحَبَّةَ اللَّهِ أَوَّلاً وَمَحَبَّةَ الناسِ ثَانِياً. وَكأنَّهُ
أَرَادَ إِشغالَ وَقْتِهِ بالنَّافِعِ عِنْدَ الخَلْوةِ معَ اللَّهِ،
وَعندَ مُعَاشَرَةِ وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ.
(3) (إِذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ): قولُهُ: (أَحَبَّنِي اللَّهُ) فيهِ إِثباتُ المحبَّةِ للَّهِ تَعَالَى على الوجهِ اللائقِ.
وَمَعْنَاهُ:
أيْ إِذا قُمْتُ بهِ وَأَدَّيْتُهُ كَانَت الثَّمَرَةُ رِضَا اللَّهِ
عَنْهُ وَمَحَبَّتَهُ لِي؛ لأَسْعَدَ في الدُّنيا وَالآخرةِ، وَالمرادُ
أنَّ العملَ سَبَبٌ في محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قولُهُ: (أَحَبَّنِي النَّاسُ)
؛ أيْ: يَرْضَى عنِّي الناسُ وَيُحِبُّونَنِي لأسْعَدَ في الدُّنيا
بِتَقْدِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ، وَفي الآخرةِ
بِشَهَادَتِهِمْ.
وَمَحَبَّةُ الناسِ مَيْلُ قُلُوبِهِمْ مَيْلاً طَبِيعِيًّا.
وَيَجِبُ
تَقْدِيمُ محبَّةِ اللَّهِ على محبَّةِ النفسِ وَالأهلِ وَالمالِ
وَمحبَّةِ الناسِ أَجْمَعِينَ. وَالمطلوبُ هوَ إِرضاءُ اللَّهِ وَلوْ
بِسَخَطِ الناسِ لِيَرْضَى اللَّهُ عَن العبدِ وَيُرْضِيَ عنهُ الناسَ.
(4) (ازْهَدْ في الدُّنيا): هذهِ الوَصِيَّةُ الأُولَى، وَهيَ الزُّهْدُ في الدُّنيا، وَثَمَرَتُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِن
الأعمالِ التي تُثْمِرُ محبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى الإِحسانُ
وَالتَّوَكُّلُ وَالقِسْطُ وَالصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَالتَّطَهُّرُ
وَالقِتَالُ في سبيلِ اللَّهِ وَالتوبةُ وَنَحْوُهَا.
وَقدْ
فُسِّرَ الزهدُ بِتَفْسِيرَاتٍ كثيرةٍ، أَحْسَنُهَا تَفْسِيرُ ابنِ
تَيْمِيَّةَ، وَهوَ قولُهُ: (تَرْكُ مَا لا يَنْفَعُ في الآخِرَةِ،
وَالوَرَعُ: تَرْكُ ما يَضُرُّ في الآخرةِ).
وَقدْ قَسَّمَ الإِمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللَّهُ الزهدَ إِلى ثلاثةِ أقسامٍ، وَهيَ:
1- زُهْدُ العَوَامِّ، وَهوَ تَرْكُ الحَرَامِ.
2- زُهْدُ الخَوَاصِّ، وَهوَ تَرْكُ الفُضُولِ مِن الحَلالِ.
3- زُهْدُ العَارِفِينَ، وَهوَ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَن اللَّهِ تَعَالَى.
وَقدْ ذَمَّ اللَّهُ الدُّنيا في قولِهِ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأَعْلَى: 16].
وَقولِهِ: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}[النساء: 77].
وَفي الحديثِ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)).
وَقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الدُّنْيَا سِتَّةٌ: مَطْعُومٌ، وَمَشْرُوبٌ، وَمَشْمُومٌ، وَمَلْبُوسٌ، وَمَنْكُوحٌ، وَمَرْكُوبٌ).
وَقالَ العَلاءُ بنُ زِيَادٍ: (الدُّنْيَا كَعَجُوزٍ شَمْطَاءَ، وَالدُّنْيَا كَمَاءِ البحرِ لا يَزِيدُ صَاحِبَهُ إِلاَّ عَطَشاً).
وَيَنْبَغِي
أَنْ يُكِبَّهَا الإِنسانُ وَيَرْكَبَ على ظَهْرِهَا، وَهيَ كالأرضِ
المُخْضَرَّةِ التي يَبِسَتْ، وَكالسَّرَابِ وَكاللَّعِبِ، وَما هِيَ في
الآخرةِ إِلاَّ كَنِسْبَةِ صِفْرٍ إِلى ما لا نِهَايَةَ.
وَيَنْقَسِمُ الناسُ في الدُّنْيَا إِلى قِسْمَيْنِ:
1-مَنْ يُنْكِرُ الآخرةَ وَهَمُّهُ الدُّنيا، وَهُم الكفَّارُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[مُحَمَّد: 12]. وَهؤلاءِ عِبَادُ الدُّنيا الذينَ عَبَدُوهَا وَاشْتَغَلُوا بِهَا.
2- مَنْ
يُقِرُّ بالآخِرَةِ، وَهُم أَهْلُ الإِسلامِ، فَيَعْمَلُ للآخرةِ وَلا
يَنْسَى نَصِيبَهُ مِن الدُّنيا، وَلا يَجْعَلُهَا هَمَّهُ.
وَقدْ مَضَى أَنَّهُ ثلاثةُ أَقْسَامٍ:
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بالخَيْرَاتِ.
(5) (وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ): هذهِ الوصيَّةُ الثانيَةُ، وَهيَ الزهدُ فيما في أَيْدِي الناسِ، وَهي مُوجِبَةٌ لِمَحَبَّةِ الناسِ.
وَقدْ مَضَى في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ...)).
وَالاستغناءُ عَمَّا في أَيْدِي النَّاسِ عِزٌّ للعَبْدِ، وَقدْ وَرَدَ في الحديثِ: ((بَايِعُونِي أَلاَّ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئاً...)). وَكانَ أبو بكرٍ لا يَسْأَلُهُمْ، وَكذلكَ ثَوْبَانُ.
وَمِنْ هذا: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ))،
وَبِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَينِ يَكُونُ هَمُّ العَبْدِ هوَ رَبَّهُ
تَعَالَى، وَالتَّوَجُّهَ إِليهِ، وَسُؤَالَهُ، وَالاستعدادَ للآخرةِ،
وَعَدَمَ الاغترارِ بالدُّنيا، وَحفظَ كَرَامَتِهِ وَعِزَّتِهِ.
الفوائدُ:
1- الحِرْصُ على العلمِ النافعِ.
2- سؤالُ أهلِ العلمِ.
3- بَذْلُ الجهدِ لِنَيْلِ محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
4- إِثباتُ صفةِ المَحَبَّةِ للَّهِ تَعَالَى.
5- التَّحْذِيرُ مِن الاغترارِ بالدُّنيا.
6- الحَثُّ على الزُّهْدِ في الدُّنيا.
7- الاجتهادُ في عملِ الآخرةِ.
8- مِنْ أسبابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ العملُ للآخرةِ.
9- القناعةُ بالرزقِ الحلالِ.
10- جعلُ الدُّنيا في اليدِ لا في القلبِ.
11- الاستعفافُ عَن الناسِ.
12- ذمُّ سؤالِ الناسِ.
13- المؤمنُ إلْفٌ مَأْلُوفٌ.
14- الحَذَرُ مِن الحرامِ.
15- اتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ.
16- الشُّكْرُ على الحلالِ وَإِنْفَاقُهُ في الوُجُوهِ المشروعةِ.
17- ما في الدُّنيا وَسَائِلُ لا غَايَاتٌ.
18- حبُّ الدُّنيا للطَّاعَةِ مَحْمُودٌ.
19- جوازُ سؤالِ أهلِ الحاجةِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
تَكْمُنُ
مَنْزِلَةُ الحديثِ في بيانِ سببِ محبَّةِ اللهِ، وهي مِن أعظمِ ما
يوفَّقُ إليهِ الإنسانُ، فمَنْ أحبَّهُ اللهُ أكرمَهُ ووضعَ له القبولَ في
الأرضِ، ومن أبغضَهُ وضعَ له البغضاءَ في الأرضِ.
كما
بَيَّنَ الحديثُ سببَ محبَّةِ النَّاسِ للعبدِ، ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ
يشعرُ بسعادةٍ عظيمةٍ إذا كانَ يَحْيَا في مُجْتَمَعٍ يُحِبُّهُ، ومَن
أحبَّهُ النَّاسُ ألِفُوهُ، وما أحوجَ الدَّاعي إلَى هذا؛ لأنَّ النَّاسَ
إذا أحبُّوا إنسانًا أخذُوا عنْهُ.
تعريفُ الزُّهدِ:
الزُّهْدُ: (ضدُّ الرَّغبةِ والحرصِ علَى الدُّنيَا)
وقالَ ابنُ
القيِّمِ: (إنَّ الزُّهدَ في الشَّيءِ في لغةِ العربِ - الَّتي هي لغةُ
الإسلامِ - الانصرافُ عنه احتقارًا له وتصغيرًا لشأنِهِ للاستغناءِ عنه
بخيرٍ منهُ).
وقد كثرَتْ مقالاَتُ السَّلفِ في تعريفِهِم للزُّهدِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: سمعْتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ - قدَّسَ اللهُ روحَهُ - يقولُ:
(الزُّهدُ: تركُ ما لا يَنفعُ في الآخرةِ، والورعُ: تركُ ما تخافُ مِن ضررِهِ في الآخرةِ).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وهذه العبارةُ مِن أَحْسَنِ ما قيلَ في الزُّهدِ والوَرَعِ وأَجْمَعـِهـَا).
وقالَ سفيانُ الثَّوريُّ: (الزُّهدُ في الدُّنيَا قِصَرُ الأملِ، ليسَ بِأَكلِ الغليظِ ولا لُبْسِ العباءِ).
وقالَ الزُّهريُّ: (هو أن لا يغلبَ الحلالُ شكرَهُ ولا الحرامُ صبرَهُ).
قالَ صاحبُ
اللسانِ معقـِّبًا علَى كلامِ الزُّهريِّ: (أرادَ أن لا يعجزَ ويقصرَ
شكرَهُ علَى ما رزقَهُ اللهُ مِن الحلالِ ولا صبرَهُ علَى تركِ الحرامِ).
وقالَ
الحسنُ أو غيرُهُ: ليسَ الزُّهدُ في الدُّنيا بتحريمِ الحلالِ، ولا إضاعةِ
المالِ، ولكنْ أنْ تكونَ بما في يدِ اللهِ أوثقَ منك بما في يدِكَ، وأن
تكونَ في ثوابِ المصيبةِ - إذا أُصِبْتَ بها - أرغبَ منك فيها لو لم
تُصِبْكَ.
فهذا مِن أجمعِ الكلامِ في الزُّهدِ وأحسنِهِ، هذا بإيجازٍ تعريفُ السَّلفِ للزُّهْدِ.
وحقيقةُ الزُّهدِ في القلبِ، بأن
يخرجَ حبُّ الدُّنيَا والحرصُ عليها والرَّغبةُ إليها مِن قلبِ العبدِ،
فتصبحَ الدُّنيا في اليدِ وحبُّ اللهِ والآخرةِ في القلبِ، وليس معنَى
الزُّهدِ رفضَ الدُّنيَا بالكلِّيَّةِ والابتعادَ عنها.
كانَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامَ الزَّاهدينَ ولهُ تسعُ نسوةٍ،
وكانَ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ مِن الزُّهَّادِ ولهما مِن الملكِ
ما ذكرَ اللهُ، والصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم أيضًا كانُوا مِن
الزُّهَّادِ ولهم مِن المالِ والنِّساءِ والبنينَ ما هو معروفٌ.
وقسَّمَ الإمامُ أحمدُ الزُّهدَ إلَى:
1 - تركِ الحرامِ، وهذا عندَهُ زهدُ العوامِّ، ويرَى ابنُ القيِّمِ أنَّ هذا فرضُ عينٍ.
2 - تركِ الفضولِ مِن الحلالِ، وهذا عندَهُ زهدُ الخَواصِّ.
3 - تركِ ما يشغلُ عنِ اللهِ، وهذا عندَهُ زهدُ العارفينَ.
التَّقليلُ مِن شأنِ الدُّنيَا:
(2) قولُهُ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا)) وَرَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ وفي سنَّةِ رسولِ اللهِ تُزَّهِدُ في الدُّنيا، وَتُبَيِّنُ حقارتَهَا وقلَّتَهَا وسرعةَ انقضائِهَا، وترغِّبُ في نعيمِ الآخرةِ الدَّائمِ الَّذي لا يَنْقَطِعُ.
قالَ تَعالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ}
وقالَ تَعالَى: {اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
فالدُّنيا مُنقضِيَةٌ زائلةٌ فلا يَنْبَغِي للعبدِ أن يَشتغلَ بالفاني الزَّائلِ عن الباقِي.
فالآيَةُ دلَّتْ علَى أنَّ الحياةَ الدُّنيا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ، وحقيقةُ اللعبِ: ما لا يُنتفعُ به، واللهوُ: ما يُتلهَّى بهِ، كما دلَّتْ علَى أنَّها زينةٌ: والزِّينَةُ: ما
يُتَزَيَّنُ به، والمفتونُ بها يتزيَّنُ ولا يعملُ لآخرتِهِ، كما دلَّتْ
علَى أنَّها تفاخرٌ، والنَّاسُ يَفخرُ بعضُهُم علَى بعضٍ بنعيمِهَا
الزَّائلِ مِن مالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرِهَا، ثمَّ شبَّهَ ربُّنَا انقضاءَ
الدُّنيَا وسرعةَ زوالِهَا بالغيثِ الَّذِي ينزلُ علَى الأرضِ فتَهتزُّ بهِ
وتخضرُّ، ثمَّ ما تلبثُ أن تعودَ إلَى ما كانَتْ عليهِ مِن جفافٍ ومواتٍ.
وهذا حالُ نعيمِ الدُّنيا زائلٌ مُنْقَضٍ.
دوافعُ الزُّهدِ:
الَّذي يَدفعُ العبدَ للزُّهدِ بالدُّنيا أمورٌ منها:
-
قوَّةُ إيمانِ العبدِ واستحضارُ وقوفِهِ بينَ يَدَي اللهِ عزَّ وجلَّ،
واستحضارُ أهوالِ يومِ القيامةِ، هذا يَجعلُ حبَّ الدُّنيا ونعيمَهَا
يَتضاءَلُ في قلبِ العبدِ فيَنصرفَ عن لذائذِهَا وشهواتِهَا ويَقنعَ
بالقليلِ منها.
- شعورُ
العبدِ بأنَّ الدُّنيا تَشغلُ القلوبَ عن التَّعلُّقِ باللهِ، وتؤخِّرُ
الإنسانَ مِن الرُّقيِّ بدرجاتِ الآخرةِ، وإنَّ الإنسانَ سوفَ يُسْأَلُ عن
نعيمِهَا، قالَ تعالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، هذا الشُّعورُ يدفعُ العبدَ للعزوفِ عنهَا.
- الدُّنيا لا تحصلُ للعبدِ حتَّى يَتعبَ ويَنصَبَ في جمعِهَا، ويبذلَ مِن الجهدِ البدنيِّ والذِّهنيِّ الكثيرَ، وقد يضطرُّ لمخالطةِ الأراذلِ ومزاحمَتِهِم، وهذا يكونُ علَى حسابِ طلبِ علمِ الدِّينِ، والدَّعوةِ والجهادِ والعبادةِ، فشعورُ العبدِ النَّيِّرِ القلبِ بهذا يجعلُهُ يعزفُ عنها، ويُقْبِلُ علَى ما هو خيرٌ وأبقَى.
- تحقيرُ القرآنِ لشأنِ الدُّنيا ونعيمِها وإنَّهَا غرورٌ وباطلٌ ولعبٌ ولهوٌ، وذمَّ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن آثارِهَا علَى الآخرةِ، كلُّ هذه النُّصوصِ الواردةِ في الكتابِ الكريمِ والسُّنَّةِ، تجعلُ المؤمنَ يعزِفُ عنها، ويَتعلَّقُ بما هو باقٍ.
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بالسُّوقِ داخلاً مِن بعضِ العاليَةِ والنَّاسُ عن كَنفَيهِ فمرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فتناولَهُ فأخذَ بأذنِهِ )ثمَّ قالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟)) قالُوا: واللهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيبًا فيهِ لأنَّهُ أَسَكُّ، فكيفَ وهو ميتٌ؟ فقالَ: ((فَوَاللهِ لَلدُّنَيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ)).
وروَى أيضًا عن الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ، عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ)).
الزُّهدُ المبتَدَعُ: الزُّهدُ المُخالِفُ للسُّنَّةِ لا خيرَ فيهِ، يظلمُ القلوبَ ويُعمِيهَا، ويشوِّهُ جمالَ الدِّينِ الَّذي ارتضاهُ اللهُ لعبادِهِ، وينفِّرُ العبادَ مِن دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويهدمُ الحضارةَ، ويمكِّنُ أعداءَ اللهِ مِن أمَّةِ الإسلامِ، ويهدرُ كرامةَ الإنسانِ، ويجعلُ العبدَ مستعبَدًا لغيرِ اللهِ، وينشرُ الجهلَ، وإليكَ بعضَ مقالاَتِ دعاةِ الزُّهدِ المبتدَعِ المخالِفِ لِهَدْيِ السَّماءِ:
1 - قالَ الْجُنَيْدُ: (أُحبُّ للمبتدئِ ألاَّ يَشغلَ قلبَهُ بهذه الثَّلاثِ وإلا تغيَّرَتْ حالُهُ: التَّكسُّبِ، وطلبِ الحديثِ، والتَّزوُّجِ، وأحبُّ للصُّوفيِّ أنْ لا يقرأَ، ولا يكتبَ، لأنَّهُ أجمعُ لهمِّهِ).
2 - وقالَ أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: (إذا طلبَ الرَّجلُ الحديثَ، أو سافرَ في طلبِ المعاشِ، أو تزوَّجَ فقدْ ركنَ إلَى الدُّنْيا).
ومعلومٌ
أنَّ كلَّ الحضاراتِ لا تقومُ إلاَّ علَى العلمِ والكسبِ والزَّواجِ،
وحضارةُ الإسلامِ ما قامَتْ إلاَّ علَى هذا، أَمرَتْ بالكسبِ، قالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَا
أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ
يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ
مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وأَمَرَ بالزَّواجِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءُ)).
وأمرَ بالعلْمِ الدِّينيِّ والدُّنيويِّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))،
هذا مِن حيثُ العلمُ الدِّينيُّ، أمَّا العلمُ الدُّنيويُّ فلا يَختلِفُ
اثنانِ سَليمَا الفطرةِ في ضرورةِ علومِ الدُّنيا مِن طبٍّ، وهندسةٍ،
وصناعةٍ، وأسلحةٍ، وآلاتٍ، الَّتي لا غِنَى للعِبادِ عنها في هذا
الزَّمَنِ.
وما تَدَهْوَرَ واقعُ المسلمينَ في هذه الأيَّامِ، إلاَّ بسببِ تقصيرِهِم بطَلَبِ عِلْمِ الدِّينِ والدُّنيا، واكْتَفَوا بأخذِ القشورِ مِن علومِ الدُّنيا مِن أعدائِهِم، بينَما أَخَذُوا عنهُمْ كثيرًا مِن أمورِ هذه الحضارةِ الزَّائفةِ الزَّائلةِ الَّتي تُودِي بأهلِهَا إلَى الهلاكِ وضَياعِ الدِّينِ والْخُلُقِ والفضيلةِ.
طريقةُ محبَّةِ اللهِ:
قولُهُ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ))
الزُّهدُ بالدُّنيا هو مِن طرقِ محبَّةِ اللهِ جلَّ وعلا، وأعنِي
بالزُّهدِ الَّذي كانَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ لا الزُّهدَ المبتَدَعَ الَّذي
جعلَ المسلمينَ في مؤخرَةِ الأممِ، ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ شيءٌ عظيمٌ، مَن
أحبَّهُ اللهُ وفَّقَهُ لما يحبُّ، وأغدقَ عليهِ نعمَهُ الظَّاهرةَ
والباطنةَ.
ومحبَّةُ اللهِ لها طرقٌ أخرَى أخبرَ اللهُ بها في كتابِهِ منها:
- الإحسانُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
- التَّوكُّلُ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
- إقامةُ العدلِ، قالَ تَعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
- الصَّبرُ، قالَ تَعالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
- التَّقوَى، قالَ تَعالَى: {فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
- التَّطهُّرُ الْحِسِّيُّ والمعنويُّ: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
- القتالُ في سبيلِ اللهِ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
- التَّوبةُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}.
إلَى غيرِهَا مِن الآياتِ، والْخُلاصةُ أنَّ طريقَ محبَّةِ اللهِ طاعتُهُ بصدقٍ واجتنابُ نواهِيهِ.
محبَّةُ اللهِ:
قالَ صاحبَ (الوافي
في شرحِ الأربعينَ النَّوويَّةِ): ومحبَّةُ اللهِ للعبدِ رضاهُ عنه
وإحسانُهُ إليهِ؛ لأنَّ المحبَّةَ ميلٌ طبيعيٌّ، وهو في حقِّ اللهِ محَالٌ،
فالمُرادُ غايتُهَا.
أقولُ: هذا الكلامُ مخالفٌ لما عليهِ سلفُ الأمَّةِ مِن إثباتِ الصِّفاتِ للهِ عزَّ وجلَّ دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ أو تشبيهٍ، ففي هذا الكلامِ الَّذِي تقدَّم به المؤلِّفانِ تأويلٌ دونَ وجهِ حقٍّ، فاللهُ عزَّ وجلَّ أثبتَ لنفسِهِ هذه الصِّفةَ في أكثرَ منْ موضعٍ، قالَ تعالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وقالَ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}،
فأخبرَنَا سبحانَهُ بأنَّهُ يحبُّ أقوالاً وأعمالاً معيَّنةً، كما يحبُّ
بعضًا مِن خلقِهِ اتَّصفُوا بصفاتٍ معيَّنةٍ، وفائدةُ الإخبارِ حتَّى
نبادرَ إلَى ما يحبُ فنفوزَ برضاهُ ومحبَّتِهِ.
فيَجبُ
علَى العبدِ أن يَصفَ اللهَ عزَّ وجلَّ بما وصفَ به نفسَهُ دونَ تأويلٍ
للصِّفةِ، أو تعطيلٍ، أو تشبيهٍ لها بصفةِ الخلقِ، وهذا هو منهجُ السَّلفِ،
فهو الأسلمُ والأحكمُ والأعلمُ، وبه النَّجاةُ.
طريقُ محبَّةِ النَّاسِ:
(3) قولُهُ: ((وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)) يعلِّمُنَا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ طريقَ محبَّةِ النَّاسِ، وذلك بالزُّهدِ بما في أيديهِمْ مِن حُطَامِ الدُّنيا الفانيَةِ.
قالَ الشَّافعيُّ: (فإنْ تجتَنِبْها كنْتَ سِلْمًا لأهلِهَا وإن تـَجْتـَذِبْهَا نازعَتْكَ كِلابُهَاومعلومٌ أنَّ مَن نازعَ إنسانًا علَى محبوبِهِ كرهَهُ وقلاهُ).
والإنسانُ
بحاجةٍ إلَى محبَّةِ النَّاسِ إليهِ لأنَّهُ يشعرُ بسعادةٍ وانشراحٍ
عندَما يعيشُ بين ظهرانيْ أناسٍ يحبُّونَهُ، ويشعرُ بضيقٍ وانقباضٍ عندما
يحيَا بينَ قومٍ يَكرهونَهُ.
والدَّاعي
إلَى اللهِ أحوجُ ما يكونُ إلَى محبَّةِ النَّاسِ له، لأنَّهُم إذا
أحبُّوهُ أحبُّوا بضاعَتَهُ وقبلُوهَا، ولكن يَنْبَغِي ألا يكونَ السَّعيُ
لكسبِ محبَّةِ النَّاسِ علَى حسابِ الحقِّ والعدلِ، فإنَّ هذا لا يجوزُ في
دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ
أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إلَى النَّاسِ، وَمَنْ
أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ)).
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1) هذا الحديثُ خَرَّجَهُ ابنُ ماجهْ مِن روايَةِ خالدِ بنِ عمرٍو القُرشيِّ، عن سُفيانَ الثوريِّ، عن أبي حازمٍ، عن سهلِ بنِ سعدٍ.
وقد
ذَكَرَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ إسنادَهُ حَسَنٌ، وفي ذلك نَظَرٌ؛
فإنَّ خالدَ بنَ عمرٍو القُرشيَّ الأُمَويَّ قالَ فيهِ الإِمامُ أحمدُ:
(مُنْكَرُ الحديثِ)، وقالَ مَرَّةً: (ليس بثِقَةٍ)، يَرْوِي أحاديثَ
بواطيلَ.
وقالَ ابنُ مَعينٍ: (ليس حديثُهُ بشيءٍ)، وقالَ مَرَّةً: (كان كَذَّابًا يَكْذِبُ، حدَّثَ عن شُعبةَ أحاديثَ مَوضوعةً).
وقالَ البخاريُّ وأبو زُرعةُ: (مُنْكَرُ الحديثِ).
وقالَ أبو حاتمٍ: (مَتروكُ الحديثِ ضعيف)ٌ.
ونَسَبَهُ صالحُ بنُ محمدٍ وابنُ عَدِيٍّ إلَى وَضْعِ الحديثِ.
وتناقَضَ
ابنُ حِبَّانَ في أَمْرِهِ، فذَكَرَهُ في كتابِ (الثِّقاتِ)، وذَكَرَهُ في
كتابِ (الضُّعفاءِ)، وقالَ: (كان يَنفردُ عن الثِّقاتِ بالموضوعاتِ، لا
يَحِلُّ الاحتجاجُ بخَبَرِهِ).
وخَرَّجَ العُقَيْلِيُّ
حديثَهُ هذا، وقالَ: (ليس له أصلٌ مِن حديثِ سُفيانَ الثوريِّ)، قالَ:
(وقد تابَعَ خالدًا عليهِ مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ الصَّنعانيُّ، ولعلَّهُ
أَخَذَهُ عنه ودَلَّسَهُ؛ لأن المشهورَ به خالدٌ هذا).
قالَ أبو
بكرٍ الخطيبُ: (وتابَعَهُ أيضًا أبو قَتادةَ الْحَرَّانيُّ ومِهْرانُ بنُ
أبي عمرَ الرازيُّ، فرَوَوْهُ عن الثَّوريِّ، قالَ: وأشهرُها حديثُ ابنِ
كثيرٍ). كذا قالَ، وهذا يُخالِفُ قولَ العُقَيْلِيِّ: إنَّ أَشْهَرَها
حديثُ خالدِ بنِ عمرٍو، وهذا أصحُّ.
ومُحَمَّدُ
بنُ كثيرٍ الصنعانيُّ هو الْمِصِّيصِيُّ، ضَعَّفَهُ أحمدُ. وأبو قَتادةَ
ومِهرانُ تُكُلِّمَ فيهما أيضًا، لكنَّ مُحَمَّدَ بنَ كثيرٍ خيرٌ منهما؛
فإنَّهُ ثِقَةٌ عندَ كثيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وقد تَعَجَّبَ ابنُ عَدِيٍّ مِن حديثِهِ هذا، وقالَ: (ما أَدْرِي ما أقولُ فيهِ).
وذَكَرَ ابنُ
أبي حاتمٍ أنَّهُ سألَ أباهُ عن حديثِ مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ، عن سُفيانَ
الثوريِّ، فذَكَرَ هذا الحديثَ، فقالَ: هذا حديثٌ باطلٌ، يعني بهذا
الإِسنادِ، يُشيرُ إلَى أنَّهُ لا أَصْلَ له عن مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ، عن
سُفيانَ.
وقالَ
ابنُ مَشيشٍ: سألْتُ أحمدَ عن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ، فذَكَرَ هذا الحديثَ،
فقالَ أحمدُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ - تَعَجُّبًا منه - مَن يَرْوِي هذا؟
قلتُ: خالدُ بنُ عمرٍو، فقالَ: وَقَعْنا في خالدِ بنِ عمرٍو، ثم سَكَتَ،
ومُرادُهُ الإِنكارُ علَى مَن ذَكَرَ له شيئًا مِن حديثِ خالدٍ هذا، فإنه
لا يُشْتَغَلُ به.
وَخَرَّجَهُ
أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سَلامٍ في كتابِ (الْمَواعظِ) له عن خالدِ بنِ
عمرٍو، ثم قالَ: كنتُ مُنْكِرًا لهذا الحديثِ، فحَدَّثَنِي هذا الشيخُ عن
وَكيعٍ: أنه سألَهُ عنه، ولولا مَقالَتُهُ هذه لتَرَكْتُهُ. وخَرَّجَ ابنُ
عَدِيٍّ هذا الحديثَ في تَرجمةِ خالدِ بنِ عمرٍو، وذَكَرَ روايَةَ
مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ له أيضًا، وقالَ: هذا الحديثُ عن الثوريِّ مُنْكَرٌ،
قالَ: ورواهُ زَافِرٌ يعني ابنَ سَلمانَ، عن مُحَمَّدِ بنِ عُيَيْنَةَ أخي
سُفيانَ، عن أبي حازمٍ، عن ابنِ عمرَ، انتهَى.
وزافرٌ ومُحَمَّدُ بنُ عُيَيْنَةَ، كِلاهما ضعيفٌ.
وقد
رُوِيَ هذا الحديثُ مِن وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ، خَرَّجَهُ أبو سُليمانَ بنُ
زَبْرٍ الدِّمشقيُّ في (مُسْنَدِ) إبراهيمَ بنِ أَدهمَ مِن جَمْعِهِ مِن
روايَةِ معاويَةَ بنِ حَفْصٍ، عن إبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ، عن منصورٍ، عن
رِبْعِيِّ بنِ حِراشٍ، قالَ: جاءَ رجلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ، (فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ
يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُحِبُّنِي النَّاسُ عَلَيْهِ)، فَقالَ: ((أَمَّا
الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَالزُّهْدُ فِي
الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ النَّاسُ عَلَيْهِ:
فَانْظُرْ هَذَا الْحُطَامَ فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ)).
وَخَرَّجَهُ ابنُ
أبي الدنيا في كتابِ (ذَمِّ الدنيا) مِن روايَةِ عليِّ بنِ بَكَّارٍ، عن
إبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ، قالَ: جاءَ رجُلٌ إلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ فذَكَرَهُ، ولم يَذْكُرْ في إسنادِهِ مَنصورًا ولا
رِبْعِيًّا، وقالَ في حديثِهِ: ((فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ مَا فِي يَدَيْكَ مِنَ الْحُطَامِ)).
وقدِ اشْتَمَلَ هذا الحديثُ علَى وَصِيَّتَيْنِ عَظيمتينِ:
إحداهما: الزُّهدُ في الدُّنيا، وأنه مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لعَبْدِهِ.
والثانيَةُ: الزُّهدُ فيما في أَيْدِي الناسِ، وأنه مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ.
فأمَّا الزُّهدُ في الدُّنيا، فقد كَثُرَ في القُرآنِ الإِشارةُ إلَى مَدْحِهِ، وإلَى ذَمِّ الرغبةِ في الدنيا، قالَ تعالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلَى: 16 - 17].
وقالَ تعالَى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
وقالَ تعالَى في قِصَّةِ قارونَ: {فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ
اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا
الصَّابِرُونَ} إلَى قولِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 79 - 83].
وقالَ تعالَى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] .
وقالَ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}[النساء: 77].
وقالَ حاكيًا عن مؤمنِ آلِ فرعونَ أنه قالَ لقومِهِ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرارِ}[غافر: 38 - 39].
وقد ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كان يُريدُ الدُّنيا بعَمَلِهِ وسَعْيِهِ ونِيَّتِهِ، وقد سَبَقَ ذِكْرُ ذلك في الكلامِ علَى حديثِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والأحاديثُ في ذمِّ الدنيا وحَقارتِها عندَ اللَّهِ كثيرةٌ جِدًّا، ففي (صحيحِ
مسلِمٍ) عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ
فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقالَ: ((أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟)).
وقالَ: (القُنوعُ هو الزُّهْدُ وهو الغِنَى).
فمَن حَقَّقَ اليقينَ، وَثِقَ باللَّهِ في أمورِهِ كُلِّها، ورَضِيَ بتدبيرِهِ له، وانْقَطَعَ عن التعلُّقِ بالمخلوقينَ رَجاءً وخَوْفًا، ومَنَعَهُ ذلك مِنْ طَلَبِ الدُّنيا بالأسبابِ المكروهةِ، ومَن كان كذلك كان زاهدًا في الدنيا حقيقَةً، وكان مِن أَغْنَى الناسِ وإن لم يكنْ له شيءٌ مِن الدنيا، كما قالَ عمَّارٌ: (كَفَى بالموتِ واعظًا، وكفَى باليَقينِ غِنًى، وكَفَى بالعِبادةِ شُغْلاً).إنما الدنيا إلَى الجنةِ والنارِ طريـقُ ... والليالي مَتْجَرُ الإنسانِ والأيامُ سوقُ
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
(وعن
سهل بن سعد الساعدي -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: (جاء رجلٌ إلى النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته
أحبني الله وأحبني الناس)
قال: ((ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبَّك الناس)) حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة). والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدَّى حقَّ الله -جل وعلا- أحبه الله ومن أدَّى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان فإنه يثوب بمحبة الناس له. واختلفت
عبارات العُلماء كثيراً في تفسير الزُّهد، ففسَّرهُ طائفة بأنَّ الزُّهد
هو: (أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا- وبعطاء الله أوثق ممّا في يدك)
يعني أن يصح اليقين بأنَّ ما عند الله -جل وعلا- أوثق ممّا في يَديك، وهذا
تفسير رُوي عن بعض الصحابة، ورُوي مرفوعاً -أيضاً- للنبي -صلى الله عليه
وسلم-؛ لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، وهو عن أبي صُبيح الخولاني قال فيه:
(إن الزهد: أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك) وهذا يعني أن ما
عند الله -جل وعلا- في الدنيا مما وعد به عباده وما عنده في الآخرة تكون
الثقة به أعظم ممّا تمارسُهُ في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلبٍ قد عَظُمَ
يقينهُ بربه -جل وعلا-، وعظمَ يقينهُ وتصديقهُ بوعده ووعيده، وعظم توكلهُ
على الله -جل وعلا-، وهذا حقيقة الزُّهد. واستدل على ذلك بقوله -جل وعلا-: {لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزقُ رَبِّك خيرٌ وأَبقى}
والاستدلال ظاهر، حَيث نُهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه
التبع أن يمدَّ المرءُ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا،
ومن مدّ عينيه إلى ما مُتع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته
الزهد في الدنيا؛ لأنه لابدَّ وأن يحصل في القلب نوعُ تعلق بالدنيا، وهو
خلاف الزهادة. وقد
قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (هل يكون الغني زاهداً؟ قال: نعم؛
إذا لم يَأْسَ على ما فاته من الدنيا ولم يفرح بما كَثُر عنده منها) قد
يكون الرجل عنده مال وفير جداً ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به
زيادته ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده فيستعمله فيما
ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس
في هذه الأمة فظنوا أن الزَّهادة: الإعراض عن المال والإعراض عما يحصلُ
للمرء به نفع في الآخرة.
الشيخ:
هذا
الحديث فيه ذكرُ الزُّهد، الزُّهد في الدنيا، والزُّهد فيما في أيدي الناس
وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرءُ محبوباً عند الله -جلّ وعلا- وعند
الناس وهو أيضاً من أحاديث الوصايا؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب
عن سؤال مضمونه طلبُ الوصيةقال سهلُ بن سعد -رضي الله عنه-: (جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس).
وهذا السؤال يدل على عُلوِّ الهمّة؛ لأنَّ محبّةَ الله -جلّ وعلا- غايةُ المطالب، ومحبةُ الناس للعبد معناها أداءُ حقوقهم.
وهذا
الذي يجمعُ بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأنَّ الصالح هو الذي يقوم
بحقِّ الله وحقِّ العباد، والصّلاحُ هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.
فهذا الحديث فيه ما يحصلُ به محبة الرّب -جل وعلا- للعبد فقال: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله)
وهذا فيه تنبيه إلى أصل وهو أنَّ همّة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به
يُحِبُّ اللهُ العبدَ، وليس أن تكون مصروفة لمحبته هو لله -جل وعلا-
فالعباد كثيرون منهم من يُحبون الله -جل وعلا- بل كُلُّ مُتديِّنٍ بالباطل
أو بالحق فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا- وليس هذا هو الذي يميزُ
الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا- هو من الذي يُحبّهُ الله
-جل وعلا-.
وقد
قال بعض أئمة السّلف -رحمهم الله-: (لَيس الشأنُ أن تُحِبَّ ولكن الشأنَ
كُل الشأنِ أن تُحَبَّ) ، يُريد أنَّ محبة العبد لربه -جل وعلا- هذه تحصلُ
إمّا بموافقة مرادِ الله أو بمخالفةِ مُراد الله، فالنصارى يُحبون الله
وعباد اليهود يُحبون الله وعُبّاد المِلل يُحبون الله وعبّاد جهلة المسلمين
يُحبون الله ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا- إلا إذا كانوا على ما
يُحبه الله -جل وعلا- ويرضاه من الأقوال والأعمال، إذاً فحصل من ذلك أنَّ
السَّعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب وهذا إنما يكون بالرَّغب في
العلم ومعرفة ما يُحبُّهُ الله -جل وعلا- ويرضاهُ، فإذا عرفت بم يُحبُ
اللهُ -جل وعلا- العبد حَصَل لكَ السَّعي في محابِّ الله -جل وعلا- وقد قال
تعالى: {قُل إن كُنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكمُ الله ويغفر لكم ذُنوبكم} فصَرفَهم عن الدعوى إلى البرهان.
قال هنا: (دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله) وفي قوله: (دُلني على عمل)
ما يُشعرُ أن الصحابي فَقِهَ أنّ محبة الله -جل وعلا- للعبد تكون بالعمل،
وهذا خلافُ ما يدعيه بعضهم أنه يُكتفى بما يقوم في القلب وإن كانت الأعمال
مخالفة لذلك، بل إنما يحصلُ حب الله -جل وعلا- للعبد بعمل قلبي وعمل بدني
من العباد وقد قال -جل وعلا-: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله..} الآية.
فقال: ازهد في الدنيا يُحبَّك الله)
(يُحِبَّ)
هذه مجزومة ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة ولا تقرأها بالضم؛ لأنّ
المعنى يتغير، كما تقول لم يُحبَّ فلان كذا؛ لأن الحرف إذا كان مشدداً
فإنه إذا دخل عليه جازم يُصبحُ مفتوحاً لأجل التقاء الساكنين -كما هو معلوم
في النحو- (ويحبك) مجزومٌ؛ جواب الطلب أو جواب الأمر.
قال: (ازهد في الدنيا يُحبك الله وازهد فيما عند الناس يُحبَّك الناس) الوصية جمعت الزُّهد.
والزُّهد في اللغة: هو الأمْرُ القليل الذي لا يُؤبَه له.
وأيضاً فُسِّر الزُّهد بأنَّهُ: (الإعراض
عن الحرام والاكتفاء بالحلال) وهذه طريقةُ من قال: (إنَّ كلَّ مقتصد من
عباد الله زاهد) يعني كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال واقتصر
عليه؛ فإنه زاهد، وهذا عندهم زهْد في المحرم فيصح الوصف بأنه زاهد، إذا زهد
في المحرم، وهذا نوع من الزهد، وليس هو الزُّهد في نصوص الشريعة.
وكل
المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات، ولهذا ذهب قائل
هذا القول -وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله- إلى أن الاشتغال
بفضول المباحات، والإكثار منها لا يجوز، يعني أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه
دون مُواربة.
فتحصل من ذلك أنّ الزهد ليس معناه الفقر وليس معناه ترك المال .
وإنما
الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانفه وابتعاده عن الدنيا من حيث
التعلُّق فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده وليست في قلبه؛ فيخلص قصده
ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعاً له في الآخرة فإذا عامل مثلاً
بالبيع والشراء فإنه يستعين به على الحق وعلى ما ينفعه في الآخرة.
وسُئل
الحسن أو غيره فقيل له: (من الزاهد؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيره
ظنَّ أنَّهُ خيرٌ منه)وهذا من عظيم المعاني التي اخترعها الحسن رحمه الله
حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضِّل غيره عليه إذا رأى أحداً من المسلمين
ظنَّ أنه خير منه عند الله -جل وعلا-، وهذا يعني أنه غير متعلِّق بالدنيا
مُزدرٍ نفسه في جنب الله -جل وعلا- غير مُترفعٍ على الخلق وهذا إنما يحصل
لمن منّ الله عليه فَعمر قلبه بالرَّغب في الآخرة وبالبعد عن التعلق
بالدنيا، والكلام على تعريف الزهد كثير.
إذا تقرر هذا فنرجعُ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ازهد في الدنيا يُحبك الله)
والزهد في الدنيا معناهُ أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفعُ
بها رأساً يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا
وإنما يكون لله -جل وعلا-، فينقلب حامِدهُ وذامه من الناس سواءً، رضي عنه
الناس أو لم يرضوا عنه فإنه يُعامِل ربَّه -جل وعلا- بما أمر الله -جل
وعلا- به من التصرفات والأعمال.
(2) فإذاً: ((ازهد في الدنيا يُحبك الله))
يعني ليكن تعلُّقكَ بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك أو قللها في قلبك؛
لأنَّ: (ازهد) معناه: قلل وإذا كان كذلك حصلت لك محبَّةُ الله، لأنه إذا
اجتمع في القلب الرَّغبُ في الآخرة فإنهُ يكون معه الإقبال على الله -جل
وعلا- والابتعاد عن دار الغرور.
(3) قال -عليه الصلاة والسلام-: ((وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس))،
لا يكن قلبك مُتعلقاً فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك فأخرجت ما في
أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له
سواء أعظمُ أم قلَّ فإنه بذلك يُحبَّك الناس؛لأنَّ الناس يَروْن فيك أنَّك
غيرُ متعلق بما في أيديهم لا تنظرُ إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة ولا
نظر طلب وإنما تسألُ الله -جل وعلا- لَهُمُ التخفيف من الحساب وتحمدُ الله
-جل وعلا- على ما أعطاك وما أنت فيه، فهذا إخراجُ ما في أيدي الناس من
القلب هذه حقيقةُ الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرءُ أحبه الناس
لأنَّ الناس جُبلوا على أنهم لا يُحبون من نازعهم ما يختصون به ممّا يملكون
أو ما يكون في أيديهم، حتى إذا دخلت بيت أحدٍ ورأيت شيئاً يُعجبُك وظهر
عند ذاك أنَّك أُعجبت بكذا وكذا فإنه يكون في نفس ذَاك الآخر بعض الشيء
وهذا يُعكِّرُ صَفوَ المحبة، فوطِّن نفسك على أنَّ ما عند الناس في قلبك
شيءٌ قليلٌ حقير لاقيمة له مهما بَلَغَ وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلبٍ
زاهد متعلق بالآخرة أمّا من ينظرُ إلى الدنيا فإنه يكون متعلقاً بما في
أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلْك هذا تعلَّق به وإذا نظر إلى ملك هذا تعلَّق
به ولا يزال يسأل أو ينظرُ إليه أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوباً عند
الناس.
فإذاً
هذه الوصيّة جمعت ما يكون فيه أداء حقِّ الله -جل وعلا- والتخلُّص من حقوق
الناس، فحق الله -جل وعلا- عظيم، وطريقهُ أن تزهد فيما ابتلي به الخلقُ من
الدنيا؛ أن تُقلِّل الدنيا في قَلبك وكذلك أن تُقلل شأْنَ ما في أيدي
الناس فتكون مُعلَّقاً بالآخرة فهذه هي حقيقةُ هذه الوصية العظيمة، ولا شك
أننا بحاجة لذلك خاصَّةً في هذا الزمن الذي صار أكثرُ الخلق متعلقين
بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما
يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يُحبُّ الله -جل وعلا- ويرضى،
فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا فبذلك يكون الزُّهد الحقيقي والإقبال
على الآخرة والتجانف عن دار الغرور.
الكشاف التحليلي
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً: (ازهد في الدنيا يحبك الله...)
* تخريج الحديث
* ترجمة راوي الحديث
* موضوع الحديث
* منزلة الحديث
* المعنى الإجمالي للحديث
* شرح قول السائل: (دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)
* شرح قول بعض السلف: (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَبَّ)
* وجوب طلب رضوان الله تعالى ومحبته
* ذكر بعض أسباب محبة الله تعالى للعبد:
1 - الإحسان
2 - التوكل
3 - إقامة العدل
4 - الصبر
5 - التقوى
6 - التطهر الحسي والمعنوي
7 - القتال في سبيل الله
8 - التوبة
* حكم طلب محبة الناس
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)
* بيان معنى (الزهد)
* تعريف (الزهد) لغة
* ذكر بعض تعريفات العلماء للزهد
* تعريف شيخ الإسلام للزهد
* شرح تعريف شيخ الإسلام
* أقوال السلف في تفسير الزهد في الدنيا
* بيان أن حقيقة الزهد في القلب
* ذكر بعض أحوال العارفين في الزهد
* فضائل الزهد
* ذكر بعض النصوص في فضل الزهد
* الزهد في الدنيا شعار الأنبياء والأولياءِ
* عناية السلف بالزهد
* هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
* هدي السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين في الزهد
* وجوب لزوم السنة في الزهد
* بيان خطر الزهد المبتدع
* ذكر بعض مقالات دعاة الزهد المبتدع، والرد عليها
* اختلاف مقامات الزاهدين في الزهد
* مراتب الزهد عند الإمام أحمد:
المرتبة الأولى: الزهد في الحرام، وهذا زهد العوام
المرتبة الثانية: الزهد في فضول المباحات، وهذا زهد الخواص
المرتبة الثالثة: الزهد فيما يشغل عن الله تعالى، وهذا زهد العارفين
* هل يسمى من زَهِدَ في الحرام خاصَّةً زاهداً؟
* ذكر بعض تقسيمات السلف للزهد
* دوافع الزهد في الدنيا:
الدافع الأول: قوة الإيمان والمراقبة
الدافع الثاني: معرفة دناءة الدنيا وخسة شركائها
الدافع الثالث: معرفة ما في الإقبال عليها من النصب والتعب والمشاق
الدافع الرابع: معرفة أن نعيمها غرور باطل ولعب ولهو
* ذكر بعض الآثار الواردة في ذم الدنيا
* الذم الوارد للدنيا ليس لذاتها إنما هو لأفعال العباد
* أقسام الناس في الزهد في الدنيا:
القسم الأول: من ينكر البعث بعد الموت
هؤلاء أبعد الناس عن الزهد
القسم الثاني: من يؤمن بالله واليوم الآخر، وهم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ظالم لنفسه
القسم الثاني: مقتصد
القسم الثالث: سابق بالخيرات بإذن الله، وهم على قسمين:
القسم الأول: من يقتصر من الدنيا على ما يسد رمقه
القسم الثاني: من يجم نفسه ببعض الشهوات المباحة ليتقوى على العبادة
* أقسام الزهاد في فضول الدنيا:
القسم الأول: من يتهيأ له متاع الدنيا فيمسكه ويتقرب به إلى الله تعالى
القسم الثاني: من يتهيأ له متاع الدنيا فيخرجه من يده ولا يمسكه، وهؤلاء نوعان:
النوع الأول: من يخرجه من يده بطيب نفس اختيارًا وطواعية
النوع الثاني: من يجاهد نفسه على إخراجه حتى يخرجه
* مسألة: أيهما أفضل: طلب الدنيا للتقوي بها على الطاعة أو الإعراض عنها؟
* بيان خطأ ظن بعض الفقهاء والصوفية أن نعيم العبادات في الدنيا أفضل من نعيم الجنة
* مقاصد العبادات البدنية:
المقصد الأول: اشتغال الجوارح بطاعة الله تعالى
المقصد الثاني: اتصال القلوب بالله تعالى
* مسألة: هل يكون الغني زاهداً؟
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبك الله)
* إعراب قوله: (يحبك)
* إثبات صفة (المحبة) لله تعالى
* شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس)
* ذكر بعض الأحاديث والآثار في الأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم
* فائدة: من سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم
* فائدة: الصالح هو من يجمع بين أداء حقوق الله تعالى وأداء حقوق خلقه
* اشتمال الحديث على وصيتين:
الوصية الأولى: الزهد في الدنيا
الوصية الثانية: الزهد فيما في أيدي الناس
* من فوائد حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه:
- الحِرْصُ على العلمِ النافع
- سؤالُ أهلِ العلمِ
- إثبات صفة المحبة لله تعالى
- بَذْلُ الجهدِ لِنَيْلِ محبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
- الزهد في الدنيا جماع أسباب محبة الله تعالى للعبد
- ذم سؤال الناس
- أن الحب والبغض له أسباب - مشروعية طلب محبة الناس
- الزهد فيما في أيدي الناس من الزهد في الدنيا لقوله: (دلني على عمل)
- تقسيم المعلم للمسألة الواحدة لغرض التعليم
العناصر
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً: (ازهد في الدنيا يحبك الله...)
تخريج الحديث
ترجمة راوي الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول السائل: (دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)
شرح قول بعض السلف: (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَبَّ)
وجوب طلب رضوان الله تعالى ومحبته
ذكر بعض أسباب محبة الله تعالى للعبد
حكم طلب محبة الناس
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)
بيان معنى (الزهد)
تعريف شيخ الإسلام للزهد
أقوال السلف في تفسير الزهد في الدنيا
بيان أن حقيقة الزهد في القلب
ذكر بعض أحوال العارفين في الزهد
فضائل الزهد
عناية السلف بالزهد
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
هدي السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين في الزهد
وجوب لزوم السنة في الزهد
بيان خطر الزهد المبتدع
ذكر بعض مقالات دعاة الزهد المبتدع، والرد عليها
اختلاف مقامات الزاهدين في الزهد
مراتب الزهد عند الإمام أحمد
هل يسمى من زَهِدَ في الحرام خاصَّةً زاهداً؟
ذكر بعض تقسيمات السلف للزهد
دوافع الزهد في الدنيا
ذكر بعض الآثار الواردة في ذم الدنيا
أقسام الناس في الزهد في الدنيا
أقسام الزهاد في فضول الدنيا
مسألة: أيهما أفضل: طلب الدنيا للتقوي بها على الطاعة أو الإعراض عنها؟
بيان خطأ ظن بعض الفقهاء والصوفية أن نعيم العبادات في الدنيا أفضل من نعيم الجنة
مقاصد العبادات البدنية
مسألة: هل يكون الغني زاهداً؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبك الله)
إعراب قوله: (يحبك)
إثبات صفة (المحبة) لله تعالى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس)
ذكر بعض الأحاديث والآثار في الأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم
فائدة: من سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم
فائدة: الصالح هو من يجمع بين أداء حقوق الله تعالى وأداء حقوق خلقه
اشتمال الحديث على وصيتين:
الوصية الأولى: الزهد في الدنيا
الوصية الثانية: الزهد فيما في أيدي الناس
من فوائد حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه