24 Oct 2008
سورة القارعة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
تفسير سورة القارعةِ
{الْقَارِعَةُ}مِنْ أسماءِ يومِ القيامةِ، سميتْ بذلكَ؛ لأنَّهَا تقرعُ الناسَ وتزعجهمْ بأهوالِهَا، ولهذا عظَّمَ أمرَهَا وفخَّمهُ بقولهِ: {الْقَارِعَةُ (1) ما الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ}منْ شدةِ الفزعِ والهولِ، {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أي: كالجرادِ المنتشرِ، الذي يموجُ بعضُهُ في بعضٍ، والفراشُ:
هيَ الحيواناتُ التي تكونُ في الليلِ، يموجُ بعضُهَا ببعضٍ لا تدري أينَ
توجهُ، فإذا أوقدَ لهَا نار تهافتتْ إليها لضعفِ إدراكهَا، فهذهِ حالُ
الناسِ أهلِ العقولِ. وأما الجبالُ الصمُّ الصلابُ، فتكونُ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} أي: كالصوفِ المنفوشِ، الذي بقيَ ضعيفاً جدّاً، تطيرُ بهِ أدنى ريحٍ، قالَ تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}
ثمَّ بعدَ ذلكَ تكونُ هباءً منثوراً، فتضمحلُّ ولا يبقى منها شيءٌ يشاهدُ،
فحينئذٍ تنصبُ الموازينُ، وينقسمُ الناسُ قسمين: سعداءَ وأشقياءَ. {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}أي: رجحتْ حسناتُهُ على سيئاتِهِ {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في جناتِ النعيمِ.
(1-11){بسم
الله الرحمن الرحيم الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ
الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ}
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}بأنْ لمْ تكنْ لهُ حسناتٌ تقاومُ سيئاتهِ {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: مأواهُ ومسكنهُ النارُ، التي مِنْ أسمائِهَا الهاويةُ، تكونُ لهُ بمنزلةِ الأمِّ الملازمةِ كمَا قالَ تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}.
وقيلَ:إنَّ معنى ذلكَ، فأمُّ دماغهِ هاويةٌ في النارِ أي: يلقى في النارِ على رأسهِ.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ}وهذا تعظيمٌ لأمرِهَا، ثمَّ فسَّرهَا بقولهِ هي: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: شديدةُ الحرارةِ، قدْ زادتْ حرارتهَا على حرارةِ نارِ الدنيا سبعينَ ضعفاً. نستجيرُ باللهِ منهَا.
سُورَةُ الْقَارِعَةِ
1- {الْقَارِعَةُ} مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ؛لأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بالفَزَعِ، أَوْ تَقْرَعُ أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالْعَذَابِ.
2- {مَا الْقَارِعَةُ} للتعظيمِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟
3- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}: تَأْكِيدٌ لِشِدَّةِ هَوْلِهَا وَمَزِيدِ فَظَاعَتِهَا، وَالْمَعْنَى: وأيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا شَأْنُ الْقَارِعَةِ؟
4- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}
الْفَرَاشُ: هُوَ الحَشَرةُ الطائرةُ المعروفةُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِ
جَمِيعُ الْحَشَرَاتِ الطَّائِرَةِ كَالْبَعُوضِ والجرادِ، وَالْمُرَادُ
بالمَبْثُوثِ: المُتَفَرِّقُ المُنْتَشِرُ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِحَالِ
النَّاسِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ من القُبورِ يَسِيرُونَ عَلَى غَيْرِ هُدًى
فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ؛ لِشِدَّةِ الهَوْلِ حَتَّى يُحْشَرُوا إِلَى
المَوْقِفِ.
5- {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}؛
أَيْ: كالصُّوفِ المُلَوَّنِ بالألوانِ المختلفةِ الَّذِي نُفِشَ
بالنَّدْفِ؛وَهَذَا لأَنَّهَا تَتَفَتَّتُ وَتَتَطَايَرُ، كَمَا فِي
قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} وَقَوْلِهِ: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً}.
6- ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَتَفَرُّقَهُمْ فَرِيقَيْنِ عَلَى جِهَةِ الإجمالِ فَقَالَ: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}.وهِيَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا ثَقُلَتْ حَتَّى رَجَحَتْ بِسَيِّئَاتِهِ.
7- {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أَيْ: مَرْضِيَّةٍ يَرْضَاهَا صَاحِبُهَا، والعِيشَةُ كَلِمَةٌ تَجْمَعُ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ.
8- {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}؛ أَيْ: رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يُعْتَدُّ بِهَا.
9- {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}؛
أَيْ: فَمَسْكَنُهُ جَهَنَّمُ، وَسَمَّاهَا أُمَّهُ؛ لأَنَّهُ يَأْوِي
إِلَيْهَا كَمَا يَأْوِي الطِّفْلُ إِلَى أُمِّهِ، وَسُمِّيَتْ
هَاوِيَةً؛لأَنَّهُ يَهْوِي فِيهَا مَعَ بُعْدِ قَعْرِهَا.
10- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} هَذَا الاسْتِفْهَامُ للتَّهْوِيلِ وَالتَّفْظِيعِ بِبَيَانِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَن المَعهودِ، بِحَيْثُ لا يُدْرَى كُنْهُهَا.
11- {نَارٌ حَامِيَةٌ}؛ أَيْ: قَد انْتَهَى حَرُّهَا وَبَلَغَ فِي الشِّدَّةِ إِلَى الْغَايَةِ.
المتن :
سورة القارعة
1- 3قولُه تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} أي: الساعةُ التي تَقْرَعُ قلوبَ الناسِ بهَولِها(1)، ثُمَّ هوَّلَ أمرَها مستفهِماً عنها بقوله: {مَا الْقَارِعَةُ} أي: أيُّ شيءٍ هذه القارعة؟، ثم زادَ في تهويلِ أمرِها، فقال: وما أعلمَكَ ما هذه القارعة؟. 4- 5 قولُه تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} أي: القارعةُ تحصُلُ يومَ يكونُ الناسُ في انتشارِهم وتفرُّقهم، وذَهابِهم ومجيئِهم كأنهم تلك الحشراتُ الطائرةُ المتفرِّقة على وجه الأرض.
وتحصلُ يوم تكون الجبالُ الرواسي، إذا دُكَّت، كالصُّوفِ الذي مُزِّق فتفرَّقت أجزاؤه(2).
6- 7قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} هذا تفصيلٌ لما يكونُ عليه الناسُ الذين انتشروا كالفَرَاش المبثوث، وهم فريقان:
الأول:من إذا وُزِنت أعماله رَجَحَت في الميزان، فهم في حياةٍ هنيئة، قد حلَّ بهم الرِّضى مما حصلَ لهم من الجزاء في الجنة.
8- 11 قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ}هذا الفريقُ الثاني،وهم من إذا وُزِنَت أعمالُهم، لم ترجَحْ في الميزان، فمرجِعُه إلى الهاوية التي يهوي بها على رأسِه، وهي النارُ التي قد اشتدَّ إيقادُها فَحمِيَت(3).
الحاشية :
(1)فسَّر القارعة بالساعة ابنُ عباسٍ من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد.
(2)ورد تفسير العِهْنِ بالصوف عن قتادة من طريق معمر وسعيد.
(3)قال قتادة من طريق معمر: (مصيرُه إلى النار، وهي الهاوية، وهي كلمةٌ عربية كان الرجلُ إذا وقعَ في أمر شديدٍ قال: هَوَتْ أمُّه).
وقال ابن زيد: (الهاوية: النار، هي أمُّه ومأواه التي يرجع إليها، ويأوي إليها، وقرأ: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ).
وقال ابن عباس من طريق العوفي: (وإنما جعل النارَ أمَّه؛ لأنها صارت مأواه، كما تُؤوي المرأةُ ابنَها، فجعلَها إذ لم يكن له مأوىً غيرها بمنزلة أمِّه).
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْقَارِعَةُ
(1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ
يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ
(11)}
الشيخ:
هذه السورة سورة القارعة ذكر الله -جل وعلا- فيها ما يكون يوم القيامة، فقال الله -جل وعلا-: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} وهذا فيه تعظيم لشأن يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- استفهم عنها أولاً: {مَا الْقَارِعَةُ}.
ثم قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} استفهام آخر، وهذا كله تعظيم لشأن ذلك اليوم، والقارعة:
اسم من أسماء يوم القيامة سماه الله -جل وعلا- بذلك؛ لأن قيام هذه الساعة
ورؤية أهوالها وفزعها يقرع القلوب، ولهذا كانت العرب تسمي الأمر الشديد
المفظع تسميه قارعة؛ لأن قلوب العباد تنقرع له، وتخشى وتوجل وتضطرب.
ثم قال -جل وعلا-: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}يعني: أن الناس إذا قرعتهم الساعة وقامت ورأوا أهوالها فإنهم يكونون كالجراد المنتشر؛ كما قال الله -جل وعلا-: {يَوْمَ
يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ}
وتشبيه الله -جل وعلا- للعباد بالفراش؛ لأن قلوبهم في تلك الساعة تكون شبه
زائلة، وتخف أحلامهم، ويصير بعضهم يموج في بعض، كما يموج الفراش بعضه في
بعض، لا يدرون أين يذهبون، كما أن الفراش يموج بعضه في بعض، ويتداخل
ويضطرب، حتى إذا أوقدت النار تهافت عليها، فكذلك بنوا آدم يوم
القيامة إذا خرجوا من قبورهم للحشر إلى الله -جل وعلا- وقامت القيامة على
الأحياء فإنهم يكونون كالفراش المبثوث؛ من شدة هول يوم القيامة.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}أي: تكون الجبال كالصوف الملون الذي نُدف، والندف: هو ضرب القطن وهو العهن أو الصوف ضربه حتى ينـتفش، فإذا انتفش وجاءته الريح فإنها تنشره وتفرقه، قال -تعالى-: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} وفي آية سأل سائل: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}
وهذه حالة من أحوال الجبال يوم القيامة؛ لأن الله -جل وعلا- يدك الجبال
ويسيرها، وتكون كالعهن المنفوش، وتكون كالرمل المنهال، وتكون كذلك هباءً
منثورا.
والهباء: هو مايرى في شعاع الشمس، ثم بعد ذلك تكون سراباً، كما دل على ذلك القرآن العظيم في آيات كثيرة. قال الله -جل وعلا-: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}
أي: من رجحت حسناته على سيئاته فهو في عيشة راضية، يعني: في عيشة مرضية،
يعني: أنه يرضى تلك العيشة؛ لأن الله -جل وعلا- يدخله جنات النعيم، وهذا
كما قال الله -جل وعلا-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي
ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} يعني: أنه يهوي على أم رأسه إلى النار، وذلك أن الكفار يُلقون في النار على رؤوسهم، وهذا أحد التفاسير في هذه الآية.
وقال بعض العلماء: إن معنى هذه الآية: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: النار تكون أُمه؛ لأن الأم يأوي إليها فكذلك النار هذا الكافر يأوي إليها وتكون مردَّه ومستقره.
وهاتان الآيتان تدلان على إثبات الميزان يوم القيامة،
وقد دل كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأجمع عليه
أهل السنة والجماعة أن هناك ميزاناً حقيقياً يوم القيامة، جعله الله -جل
وعلا- في ذلك الموقف لإظهار عدله سبحانه وتعالى، وإقامة الحجة على الخلق،
وقطع المعاذير عليهم، وإن كان الله -جل وعلا- قد علم ما عملوا وأحصاه
عليهم، ولكنه -جل وعلا- ينصب الموازين يوم القيامة لإقامة العدل، قال الله
-جل وعلا-: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ}
والعلماء مجمعون على هذا الميزان وأنه ميزانٌ له كفتان، لكن ما الذي يوزن؟ هل توزن الأعمال أو توزن الصحائف أو يوزن العمل؟
الله -جل وعلا- في هذه الآية قال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} هل ثقلت بالعاملين أو ثقلت بصحائف الأعمال أو ثقلت بالعمل؟
دلت النصوص على أن هذه الأشياء الثلاثة كلها توزن.
قال الله -جل وعلا- في شأن وزن الإنسان في آخر سورة الكهف: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}.
ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الرجل السمين العظيم ليأتي يوم القيامة ما يزن عند الله جناح بعوضة)) وتلا قوله تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}.
ودل الدليل أيضاً على أن العمل يوزن؛كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم))فهذا يدل على أن هاتين الكلمتين توزنان يوم القيامة، ومثله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((والحمد لله تملأ الميزان)).
ودل الدليل كذلك على أن صحائف الأعمال توزن؛ كما جاء في حديث البطاقة المشهور، وقد صححه جمع من العلماء وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر: ((أنه
يصاح يوم القيامة برجل من أمته على رؤوس الخلائق فينشرله تسعة وتسعون
سجلاً، كل سجل مَدُّ البصر؛ فإذا نشرت هذه السجلات أُطلع على سيئاته فيها
واستنطقه ربه -جل وعلا-: أليست هذه ذنوبك؟ قال: بلى، قال: أظلمك الحفظة
الكاتبون؟ قال: لا يا ربي، فيقول: هل لك من حسنة؟ فيقول: لا، فيقول الله
-جل وعلا-: بلى، فإنه اليوم لا ظلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فتوضع
فيخرج الله -جل وعلا- له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات
وثقلت البطاقة)) فهاهنا وزنٌ لصحيفة العمل وهي هذه السجلات،
فدلت هذه النصوص وأمثالها على أن يوم القيامة فيه ميزان توزن فيه الأعمال،
وتوزن فيه الصحائف، ويوزن فيه العاملون، قد دل على ذلك كتاب الله -جل وعلا- في آيات كثيرة: - كما قال الله -جل وعلا-: {وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}.
- وقال -جل وعلا-: {فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا
كَالِحُونَ}.
- وقال -جل وعلا-: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
- وقال -جل وعلا-: {وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
إلى
غير ذلك من النصوص الدالة على أن هناك ميزاناً يوم القيامة ستوزن به أعمال
العباد وصحائفهم، ويوزن به العباد، فمن ثقلت موازينه ورجحت حسناته على
سيئاته فهو من أهل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته فهو من أهل النار.
تفسير سورة القارعة
القارعة اسم من أسماء يوم القيامة
تفسير قول الله تعالى : ( القارعة ، ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة)
تفسير قول الله تعالى : ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث )
تفسير قول الله تعالى : ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش )
تفسير قول الله تعالى : ( فأما من ثقلت موازينه ، فهو في عيشة راضية )
تفسير قول الله تعالى : ( وأما من خفت موازينه ، فأمه هاوية ، وما أدراك ماهيه ، نار حامية )
إثبات الميزان يوم القيامة
بيان الذي يوزن يوم القيامة
الأسئلة
سورة القارعة
س1: بين معاني الكلمات التالية: القارعة، المبثوث، العِهْن، المنفوش، ثقلت موازينه، أمُّه هاوية، ماهيه.
س2: فسر السورة تفسيراً إجمالياً مُبيناً ما تضمَّنته من الفوائد السلوكية.
س3: ما نوع الاستفهام في قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؟
س4: بين معنى التشبيه في قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}.
س5: اذكر أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} مع الترجيح.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة القارعة وهي مكّيّةٌ.
{القارعة}: من أسماء يوم القيامة، كالحاقّة والطّامّة والصّاخّة والغاشية وغير ذلك، ثم قال معظّماً أمرها ومهوّلاً لشأنها.
{وما أدراك ما القارعة}.
ثمّ فسّر ذلك بقوله: {يوم يكون النّاس كالفراش المبثوث}. أي: في انتشارهم وتفرّقهم وذهابهم ومجيئهم من حيرتهم ممّا هم فيه، كأنّهم فراشٌ مبثوثٌ، كما قال في الآية الأخرى: {كأنّهم جرادٌ منتشرٌ}.
وقوله: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش}. يعني أنّها قد صارت كأنّها الصّوف المنفوش الّذي قد شرع في الذّهاب والتّمزّق.
وقال مجاهدٌ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ والحسن وقتادة وعطاءٌ الخراسانيّ والضّحّاك والسّدّيّ: العهن: الصّوف.
ثمّ أخبر تعالى عمّا يؤول إليه عمل العاملين وما يصيرون إليه من الكرامة والإهانة بحسب أعمالهم؛ فقال: {فأمّا من ثقلت موازينه}. أي: رجحت حسناته على سيّئاته، {فهو في عيشةٍ راضيةٍ}. يعني في الجنّة.
{وأمّا من خفّت موازينه}. أي: رجحت سيّئاته على حسناته.
وقوله: {فأمّه هاويةٌ}. قيل: معناه: فهو ساقطٌ هاوٍ بأمّ رأسه في نار جهنّم، وعبّر عنه بأمّه، يعني دماغه.
روي نحو هذا عن ابن عبّاسٍ وعكرمة وأبي صالحٍ وقتادة، قال قتادة: يهوي في النّار على رأسه. وكذا قال أبو صالحٍ: يهوون في النّار على رؤوسهم.
وقيل: معناه: {فأمّه}: التي يرجع إليها ويصير في المعاد إليها. {هاويةٌ}: وهي اسمٌ من أسماء النّار.
قال ابن جريرٍ: وإنّما قيل للهاوية: أمّه؛ لأنّه لا مأوى له غيرها.
وقال ابن زيدٍ: الهاوية: النّار، هي أمّه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها. وقرأ: {ومأواهم النّار}.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن قتادة أنّه قال: هي النار، وهي مأواهم؛ ولهذا قال تعالى مفسّراً للهاوية: {وما أدراك ماهيه نارٌ حاميةٌ}.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الأشعث بن عبد اللّه الأعمى قال: إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون: روّحوا أخاكم؛ فإنّه كان في غمّ الدّنيا، قال: ويسألونه: ما فعل فلانٌ؟ فيقول: مات،، أوما جاءكم؟! فيقولون: ذهب به إلى أمّه الهاوية.
وقد رواه ابن مردويه من طريق أنس بن مالكٍ مرفوعاً بأبسط من هذا، وقد أوردناه في كتاب (صفة النّار) أجارنا اللّه منها بمنّه وكرمه.
وقوله: {نارٌ حاميةٌ}. أي: حارّةٌ شديدة الحرّ قويّة اللّهب والسّعير.
قال أبو مصعبٍ: عن مالكٍ، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة،، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((نار بني آدم الّتي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنّم)). قالوا: يا رسول اللّه، إن كانت لكافيةً! فقال: ((إنّها فضّلت عليها بتسعةٍ وستّين جزءاً)).
ورواه البخاريّ عن إسماعيل بن أبي أويسٍ، عن مالكٍ، ورواه مسلمٌ عن قتيبة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزّناد به، وفي بعض ألفاظه: ((إنّها فضّلت عليها بتسعةٍ وستّين جزءاً، كلّهنّ مثل حرّها)).
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا حمّادٌ -وهو ابن سلمة- عن محمّد بن زيادٍ، سمع أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ((نار بني آدم الّتي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنّم)). فقال رجلٌ: إن كانت لكافيةً! فقال ((لقد فضّلت عليها بتسعةٍ وستّين جزءاً حرًّا فحرًّا)).
تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلمٍ.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدّثنا سفيان، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعمرٌو، عن يحيى بن جعدة: ((إنّ ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنّم، وضربت بالبحر مرّتين، ولولا ذلك ما جعل اللّه فيها منفعةً لأحدٍ)). وهذا على شرط الصّحيحين، ولم يخرجوه من هذا الوجه، وقد رواه مسلمٌ في صحيحه من طريقٍ. [؟؟]
ورواه البزّار من حديث عبد اللّه بن مسعودٍ وأبي سعيدٍ الخدريّ: ((ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً)).
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز -هو ابن محمدٍ الدّراورديّ- عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((هذه النّار جزءٌ من مائة جزءٍ من جهنّم)).
تفرّد به أيضاً من هذا الوجه، وهو على شرط مسلمٍ أيضاً.
وقال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن عمرٍو الخلاّل، حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، حدّثنا معن بن عيسى القزّاز، عن مالكٍ، عن عمّه أبي سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنّم؟ لهي أشدّ سواداً من دخان ناركم هذه بسبعين ضعفاً)).
وقد رواه أبو مصعبٍ عن مالكٍ، ولم يرفعه. وروى التّرمذيّ وابن ماجه، عن عبّاسٍ الدّوريّ، عن يحيى بن أبي بكيرٍ، حدّثنا شريكٌ، عن عاصمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أوقد على النّار ألف سنةٍ حتّى احمرّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنةٍ حتّى ابيضّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنةٍ حتّى اسودّت، فهي سوداء مظلمةٌ)).
وقد روي هذا من حديث أنسٍ وعمر بن الخطّاب.
وجاء في الحديث عند الإمام أحمد من طريق أبي عثمان النّهديّ، عن أنسٍ وأبي نضرة العبديّ، عن أبي سعيدٍ وعجلان مولى المشمعلّ، عن أبي هريرة،، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ((إنّ أهون أهل النّار عذاباً من له نعلان، يغلي منهما دماغه)).
وثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((اشتكت النّار إلى ربّها؛ فقالت: يا ربّ، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشّتاء ونفسٍ في الصّيف، فأشدّ ما تجدون في الشّتاء من بردها، وأشدّ ما تجدون في الصّيف من حرّها)).
وفي الصّحيحين: ((إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا عن الصّلاة؛ فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم)).
آخر تفسير سورة القارعة). [تفسير القرآن العظيم: 8/468-471]