الدروس
course cover
تفسير سورة التين
23 Oct 2008
23 Oct 2008

7267

0

0

course cover
تفسير جزء عمّ

القسم السادس

تفسير سورة التين
23 Oct 2008
23 Oct 2008

23 Oct 2008

7267

0

0


0

0

0

0

0

سورةُ التِّين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}

هيئة الإشراف

#2

23 Oct 2008

تفسيرُ سورة والتين


(1-8){بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}

{التِّينِ}هوَ التينُ المعروفُ، وكذلكَ {الزَّيْتُونِ}أقسم بهاتين الشجرتين لكثرةِ منافعِ شجرهمَا وثمرهمَا، ولأنَّ سلطانهما في أرضِ الشامِ، محلِّ نبوةِ عيسى بن مريمَ عليهِ السلامُ.


{وَطُورِ سِينِينَ}أي: طورِ سيناءَ محلِّ نبوةِموسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}وهي مكةُ المكرمةُ، محلُّ نبوةِ محمدٍصلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


فأقسمَ تعالى بهذهِ المواضعِ المقدسةِ التي اختارهَا وابتعثَ منهَا أفضلَ النبواتِ وأشرفهَا.


والمقسَمُ عليهِ قولُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي: تام الخلقِ،متناسبِ الأعضاءِ، منتصبِ القامةِ، لمْ يفقدْ مما يحتاجُ إليه ظاهراً أو باطناً شيئاً.


ومعَ هذهِ النعمِ العظيمةِ، التي ينبغي منهُ القيامُ بشكرهاَ، فأكثرُ الخلقِ منحرفونَ عنْ شكرِ المنعمِ، مشتغلونَ باللهوِ واللعبِ، قدْ رضوا لأنفسهمْ بأسافِلِ الأمورِ، وسفسافِ الأخلاقِ، فردَّهمُ اللهُ في أسفلِ سافلينَ أي: أسفلِ النارِ، موضعِ العصاةِ المتمردينَ على ربِّهمْ، إلاَّ منْ منَّ اللهُ عليهِ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، والأخلاقِ الفاضلةِ العاليةِ، {فَلَهُمْ} بذلكَ المنازلُ العاليةُ و{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ، بلْ لذاتٌ متوافرةٌ، وأفراحٌ متواترةٌ، ونعمٌ متكاثرةٌ، في أبدٍ لا يزولُ، ونعيمٍ لا يحولُ، أكلُهَا دائمٌ وظلُّهَا.


{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}أي: أيُّ شيءٍ يكذبكَ أيُّها الإنسانُ بيومِ الجزاءِ على الأعمالِ، وقد رأيتَ منْ آياتِ اللهِ الكثيرةِ ما بهِ يحصلُ لكَ اليقينُ، ومنْ نعمهِ مَا يوجبُ عليكَ أنْ لا تكفرَ بشيءٍ ممَّا أخبركَ بهِ.


{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فهلْ تقتضي حكمتهُ أنْ يتركَ الخلقَ سدىً لا يؤمرونَ ولا ينهونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقبونَ؟


أمِ الذي خلقَ الإنسانَ أطواراً بعدَ أطوارٍ، وأوصلَ إليهمْ منَ النعمِ والخيرِ والبرِّ ما لا يحصونهُ، ورباهمْ التربيةَ الحسنةَ، لا بدَّ أنْ يعيدهمْ إلى دارٍ هيَ مستقرهمْ وغايتهمْ التي إليهَا يقصدونَ، ونحوهَا يؤمّونَ.


تمتْ وللهِ الحمدُ.

هيئة الإشراف

#3

23 Oct 2008

سُورَةُ التِّينِ

1- {وَالتِّينِ}: هُوَ التينُ الَّذِي يَأْكُلُهُ النَّاسُ، {وَالزَّيْتُونِ} الَّذِي يَعْصِرُونَ مِنْهُ الزيتَ، وَهُمَا كنايةٌ عَن الْبِلادِ المُقَدَّسَةِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ بِإِنْبَاتِ التِّينِ والزَّيْتونِ، أَقْسَمَ بالتِّينِ؛ لأَنَّهُ فَاكِهَةٌ مُخَلَّصَةٌ منْ شوائبِ التَّنْغِيصِ.
وَقَالَ كَثِيرٌ منْ أَهْلِ الطِّبِّ: إِنَّ التِّينَ أنفعُ الفواكهِ للبدنِ، وَأَكْثَرُهَا غذاءً، وَأَمَّا الزيتونُ فَإِنَّهُ يُعْصَرُ مِنْهُ الزيتُ الَّذِي هُوَ إِدَامٌ غَالِبٌ لِبَعْضِ أَهْلِ البُلْدَانِ وَدُهْنُهُمْ،وَيَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ من الأَدْوِيَةِ.
2- {وَطُورِ سِينِينَ}: هُوَ الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَهُوَ طُورُ سِينَاءَ.
3- {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} يَعْنِي مَكَّةَ، سَمَّاهَ أَمِيناً؛ لأَنَّهُ آمِنٌ، كَأَنَّمَا يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بهذهِ المواضعِ الثلاثةِ؛ لأَنَّهَا مَهَابِطُ وَحْيِ اللَّهِ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ، وَمِنْهَا أَضَاءَتِ الهدايةُ للبَشَرِ.
4- {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ ذِي رُوحٍ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلاَّ الإِنْسَانَ، فَقَدْ خَلَقَهُ مَدِيدَ القامةِ، يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ، وَخَلَقَهُ عَالِماً مُتَكَلِّماً مُدَبِّراً حَكِيماً، فَأَمْكَنَهُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَتَهُ فِي الأَرْضِ كَمَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ.
5- {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}؛ أَيْ: رَدَدْنَاهُ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَهُوَ الهَرَمُ وَالضَّعْفُ بَعْدَ الشبابِ والقوَّةِ، حَتَّى يَصِيرَ كالصَّبِيِّ، فَيَخْرَفُ وَيَنْقُصُ عَقْلُهُ، وَالسَّافِلُونَ هُم الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى والأطفالُ، والشيخُ الكبيرُ أَضْعَفُ هَؤُلاءِ جَمِيعاً.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي أَحْسَنِ حَالٍ وَصُورةٍ يُرَدُّ شَرًّا منْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَفِي حَالٍ أَسْوَأَ مِنْ كُلِّ حَالٍ؛لأَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى أسفلِ الدرجاتِ السافلةِ فِي الدَّرْكِ الأسفلِ من النَّارِ.
6- {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَلا يُرَدُّونَ أسفلَ سَافِلِينَ، بَلْ إِلَى جَنَّةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ فِي عِلِّيِّينَ.
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ثَوَابٌ عَلَى طَاعَاتِهِمْ دَائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ.
7- {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}؛ أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؟
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ يَا مُحَمَّدُ مُكَذِّباً بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدلائلِ الناطقةِ، فَاسْتَيْقِنْ مَعَ مَا جَاءَكَ من اللَّهِ أَنَّهُ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ.
8- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قَضَاءً وَعَدْلاً؛ إِذْ أَحْسَنَ خَلْقَ الإِنْسَانِ ثُمَّ كَبَّ مَنْ كَفَرَ بِهِ فِي أَسْفَلِ النَّارِ وَرَفَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ دَرَجَاتٍ.

هيئة الإشراف

#4

23 Oct 2008

المتن :

سورةُ التِّين

1- 3قولُه تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}يُقسِمُ ربُّنا بشجرتَي التِّينِ والزيتونِ، وفيه إشارةٌ إلى مكانِ نباتِهما، وهو الشامُ مَوْطِنُ كثيرٍ من أنبياء بني إسرائيل(1)؛ كعيسى ابن مريم، ويقسِمُ بجبلِ سَيْناءَ الذي كلَّمَ فيه موسى(2)، ومنه أرسلَه إلى فرعون، ويقسمُ بمكَّة التي جعلَها آمِنَةً، وأمَّنَ مَنْ فيها(3).

4- 5 قولُه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}هذا جوابُ القَسَمِ(4)، والمعنى: لقد خلقنا الإنسانَ في أعدَلِ خلقٍ وأحسنِ صُورةٍ(5)، ولكنه إن لم يشكُرْ هذه النعمة، فأفسَدَ فِطْرَتَهُ، ودسَّ نفسَهُ، فإنَّ اللهَ سيردُّه إلى النار التي تغيِّر هذا التقويم الحسَن الذي خلَقه اللهُ عليه(6).
6-قولُه تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: إلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ، الذينَ شكروا الله على هذا التقويم الحسنِ بعبادتِه، فإنهم لا يُرَدُّونَ إلى أسفلِ سافلين: النار(7)، بل لهم أجرٌ غير منقوصٍ، ولا محسوبٍ، ولا منقطِع(8).
7-قولُه تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أي: فأيُّ شيءٍ يجعلُكَ أيها الإنسانُ بعدَ هذا البيانِ لا تصدِّقُ بيومِ الحساب(9)، وقد وَضَحَتْ دلائلُ صِدْقِه؟ أو من يُكَذِّبُكَ يا محمد صلى الله عليه وسلم بعدَ هذا البيانِ بيومِ الحساب(10)؟.
8-قولُه تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي: أليسَ اللهُ العالمُ بعبادِه بأحكَم من فصَلَ بين عبادِه وقضى بينهم، فلا يظلِمُهُم، ولا يجورُ عليهم(11)؟ والله أعلم.



الحاشية :

(1)اختلفت عباراتُ المفسِّرينَ في تفسير التين والزيتونِ على أقوال:

1-التينُ الذي يؤكل، والزيتونُ الذي يُعْصَر، وهو قول الحسن من طريق عوف وقتادة، وعكرمة من طريق الحكم ويزيد وأبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وخصيف، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، والكلبي من طريق معمر.
2-التين: مسجدُ دمشق، والزيتون: بيتُ المَقْدِسِ، وهو قولُ كعبِ الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.
3-التين: مسجدُ نوح، والزيتون: مسجدُ بيت المقدس، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي.
قال الطبري: (والصوابُ من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعْصَرُ منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروفُ عند العرب، ولا يُعرَفُ جبلٌ يُسمَّى تيناً ولا جبلٌ يُسمَّى زيتوناً، إلاَّ أن يقولَ القائل: أقسمَ ربُّنا جلَّ ثناؤه بالتِّين والزيتون.
والمرادُ من الكلام القسم بمنابتِ التين ومنابتِ الزيتون،فيكونُ ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ لأنَّ دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون).
وهذا الذي قاله السلفُ في تفسيرِهِم حقٌّ، ويدلُّ عليه ظاهرُ التنزيل؛ لأنَّ الله سبحانه عطف على هاتين أسماء أماكن، وهذا يشير إلى أنَّ المرادَ بالقسَم هاتان الشجرتان وأماكن نباتهما، ولهذا كانت كلُّ الأقوال المذكورة في التين والزيتون لا تخرجُ عن الشَّامِ التي هي موطنُ كثير من النبوات، خصوصاً نبوات بني إسرائيل، ولذا قال بعض العلماء: (هذه محالٌّ ثلاثة بعثَ الله في كلِّ واحدٍ منها نبيّاً مرسَلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار.
فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدِس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم.
والثاني:طور سينين، وهو طورُ سيناء الذي كلَّم اللهُ عليه موسى بن عمران.
والثالث:مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسلَ الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وفي آخر التوراة ذِكْرُ هذه الأماكنِ الثلاثة: جاء الله من طُور سيناء - يعني: الذي كلَّم اللهُ عليه موسى بن عمران- وأشرقَ من ساعير- يعني: جبلَ بيتِ المقدِس الذي بَعَثَ الله منه عيسى- واستعْلَنَ من جبالِ فاران - يعني: جبالَ مكة التي أرسلَ الله منها محمداً - فذَكَرَهُم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبِهم في الزمان.
ولهذا أقسمَ بالأشرف، ثُمَّ الأشرفِ منه، ثُمَّ بالأشرفِ منهما) (تفسير ابن كثير) وانظر: (التحرير والتنوير).
(2)وردَ عن جمعٍ من السلف تفسيره بجبل موسى الذي في سيناء،وردَ ذلك عن الحسن من طريق عوف، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وابن عباس من طريق العوفي، وذكره بعضهم باسمِ مسجدِ موسى، ورد ذلك عن قتادة من طريق هشام، وابن زيد.
وفسَّر بعضُهم معنى الطور، فقال: الطور: الجبل، ورَدَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، وعمرو بن ميمون، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وورد عن عكرمة من طريق النضر، والكلبي، من طريق معمر، تقييدَهُ بالجبل الذي يُنبت.
وفسَّر عكرمة من طريق عمارة وأبي رجاء(سينين)بالحسن، قال: (وهي لغة الحَبَشَة، يقولون للشيءِ الحسَن: سينا سينا).
وفسَّره مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمبارك، وقال قتادة من طريق معمر: (جبلٌ بالشام مباركٌ حَسَن).
قال الطبري: (وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: طور سينين: جبلٌ معروف؛ لأن الطورَ هو الجبلُ ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريفٌ له، ولو كان نعتاً للطور، كما قال من قال: معناه: الحسن أو مبارك، لكان الطورُ منوَّناً، وذلك أنَّ الشيءَ لا يضافُ إلى نعته لغير عِلَّةٍ تدعو إلى ذلك).
وهذا الذي قاله الطبري صوابٌ، غير أنه يمكن أن تُحتمل بعض هذه الأقوال، فمن فسَّره بالجبل أراد - والله أعلم - بيانَ معنى الطور في اللغة، كما أن قول قتادة: (جبلٌ بالشام مبارَكٌ حَسَن) يمكن أن لا يكون تفسيراً لفظياً لسينين، ولكنه أراد أنَّ هذا الجبلَ الذي في سيناء مبارك بما حفَّه من نزولِ الرسالة على موسى، وهو حسنٌ لما فيه من الأشجار التي تغطِّيه، والله أعلم.
أمَّا تفسيرُعكرمةعلى أنَّ اللفظ بلغة الحبشة، فبعيدٌ؛ لاختلافِ اللفظتين، وليس هذا تعريبُها، لو كانت مما وقعَ للعرب من لغةِ الحبشة، ولا هي من العربية، لو قيل باتفاق اللغتين في هذه اللفظة، ويدلُّكَ على ذلك ما وردَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في نُطق اللفظة الحبشية التي تدلُّ على معنى الحسن، حيث قال: سَنَا، وسنَهْ، وسَنَاهْ. (انظر: صحيح البخاري: كتاب اللباس: 22، ومناقب الأنصار: 27، والجهاد: 188) كلُّ هذا وردَ عنه، وهي لفظةٌ حبشية بمعنى حسن، فأين هذه اللفظةُ من لفظةِ سينين، والله أعلم.
(3)وردَ تفسيرُ البلدِ الأمين بمكةَ عن ابن عباس من طريق العوفي، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، والحسن من طريق عوف، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وعكرمة من طريق الحكم وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وإبراهيم النَخَعي من طريق حماد.
(4)ورد عن قتادة من طريق سعيد، قال: (وقع القسَمُ ها هنا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}).
(5)كذا فسَّر جمهور السلف، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وأبي العالية من طريق الربيع، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، والكلبي من طريق معمر.
ووردَ عن ابن عباس من طريقِ العوفي: (شبابُه أولَ ما نشأ)، ومن طريق عكرمة: (خلق كل شيء مُنْكَبّاً على وجهِه إلاَّ الإنسان)، وعن عكرمة من طريق الحكم: (الشابُّ القوي الجَلِدُ).
ويمكن أن تكون هذه أمثلةً لأعدَلِ الخلق،فتكون داخلة في قول الجمهور، وعلى العموم، فإن تفسيرَ السلف مُتَّجِهٌ إلى أن أحسن تقويم هو الصورة الجسدية في خلق الإنسان.
(6)اختلف تفسيرُ السلفِ لأسفلِ سافلين على أقوال:
1-ردَدْناه إلى أرذَلِ العُمر، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبي رزين والعوفي، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر وسعيد.
2-ردَدْناه إلى النار، وردَ ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق قتادة، وابن زيد.
3-في شرِّ صورة، في صورةِ خِنزير، وردَ ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس.
واختار ابن جريرأنَّ أسفل سافلين: أرذل العمر، واحتجَّ لذلك.
وسيأتي عند الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا...} تتمة نقاش لهذا الاختلاف.
(7)اختلف السلف في تفسير هذه الجملة بناءً على اختلافهم في سابقتها، ولهم في ذلك أقوال:
1-أن الذين آمنوا إذا هرموا يكتب لهم ما كانوا يعملونه في حال الصحة، وهذا تفسير ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر.
2-وفسَّر بعضهم: أنهم لا يؤاخذون بما عملوا في حال الهرم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم.
3-وورد عن مجاهد والحسن: إلاَّ الذين آمنوا لا يردون إلى النار.
وقد ناقش ابن القيم هذه الأقوال، واختار أن أسفل سافلين: النارُ، وأطال في هذا، وأنا أنقله لك بطوله لفائدته، واللهُ الموفِّقُ.
قال ابن القيم: (ثمَّ لما كانَ الناسُ في الإجابة لهذه الدعوة فريقين: منهم من أجاب، ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين، والصحيح أنه النارُ، قاله مجاهد والحسن وأبو العالية.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هي النار، بعضها أسفل من بعضٍ).
وقالت طائفة، منهم قتادة، وعكرمة، وعطاء، والكلبي، وإبراهيم: إنه أرذل العمر، وهو مروي عن ابن عباس.
والصواب: القول الأول؛لوجوه:
أحدها: أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين، لا في لغةٍ، ولا عرفٍ، وإنما أسفل سافلين هو سجين، الذي هو مكان الفجار، كما أن عليين مكان الأبرار.
الثاني:أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليلٌ جدّاً، فأكثرهم يموت ولا يُرَدُّ إلى أرذل العمر.
الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في ردِّ من طال عمره منهم إلى أرذل العمر،فليس ذلك مختصّاً بالكفار، حتى يستثني منه المؤمنين.
الرابع: أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار،بل جَعَلَهُ لجنسِ بني آدم، فقال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، فجعلهم قسمين: قسماً متوفى قبل الكِبَر، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر، ولم يسمِّهِ أسفل سافلين.
الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين، وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون.
السادس: أن قول من فسر بأرذل العمر يستلزم خلوَّ الآية عن جزاء الكفار وعاقبة أمرهم، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس، فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود الأهم، وأخبر عن أمر يُعرف بالحس والمشاهدة، وفي ذلك هضم لمعنى الآية، وتقصير بها عن المعنى اللائق بها.
السابع:أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في بدئه ومَعَادِهِ.
فمبدؤه:خلقه في أحسن تقويم.
ومَعَادُهُ:ردُّه إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون.
وهذا موافق لطريقة القرآن وعادته في ذكر مبدأ العبد ومَعَادِهِ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه؟
الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحسِّ، وإخراج الكلام عن ظاهره، والتكلف البعيد له.
فإنهم إن قالوا: إن الذي يُردُّ إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين، كابروا الحسَّ.
وإن قالوا: إن من النوعين من يُردُّ إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء، فمنهم من قدَّرَ ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذَا رُدُّوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة.
فهذا، وإن كان حقّاً، فإن الاستثناء إنما وقع من الردِّ لا من الأجر والعمل.
ولما علِمَ أرباب هذا القول ما فيه من التكلف، خصَّ بعضُهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرءان خاصة، فقالوا: من قرأ القرءان لا يُردُّ إلى أرذل العمر.
وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن الاستثناء عام في المؤمنين: قارئهم وأميهم.
-وأنه لا دليل على ما ادَّعوه، وهذا لا يعلم بالحسِّ، ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه، واللهُ أعلمُ.
التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقِه في أحسن تقويمٍ،
وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان، وعبادته وحده لا شريك له، فينقله حينئذٍ من هذه الدار إلى أعلى عليين، فإذا لم يؤمن به، وأشرك به، وعصى رسله، نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدَّله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم، صورةً من أقبح الصور في أسفل سافلين، فتلك نعمته عليه، وهذا عدْله فيه، وعقوبته على كفرانه نعمته.
العاشر: أنَّ نظير هذه الآية قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (4) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (5)}فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك، والأجر الممنون هناك هو المذكور هنا، واللهُ أعلمُ) (التبيان في أقسام القرآن، ص: 31-33).
وقد ذكرَ الطاهر بن عاشور في الآية فَهْماً جديداً استنبطَه، وهو فَهْمٌ قويٌّ تدلُّ عليه النصوص، ومُلَخَّصُه: (أنَّ أحسنَ تقويم هي الفطرة التي فطرَ الله الناسَ عليها، وأن الردَّ إلى أسفل سافلين للكافر، وذلك ببُعْدِهِ عن فِطرته وكُفْرِه بالله، إلاَّ الذين آمنوا فاستقاموا على ما فُطِروا عليه) واستدلَّ لفَهْمِه هذا بحديث: ((ما من مولودٍ إلاَّ يولَدُ على الفطرة …)) وهو فَهْمٌ سديد، يتناسبُ مع المُرادِ من سياق الأقسام الواردة في النبوَّات، فتأمَّلْهُ واعتَبِره، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(8)وردَ اختلافٌ بين السلف في تفسير (مَمْنون) على أقوال:
1-غير منقوصٍ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
2-غير محسوبٍ، وهو قول مجاهد من طريق ابن جريج وابن أبي نجيح، وإبراهيم النخعي من طريق حماد.
3-غير مقطوع.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: فَلَهُم أجرٌ غير منقوص، كما كان له أيام صحَّته وشبابه، وهو عندي من قولهم: حبلٌ مَنين: إذا كان ضعيفاً، ومنه قول الشاعر:


أَعْطَوا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثَمانِيَة =مـَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ


"_atssh452" title="AddThis utility frame" style="height: 1px; width: 1px; position: absolute; top: 0px; z-index: 100000; border: 0px none; left: 0px;">


يعني: أنه ليس فيه نقص ولا خطأ).
وسببُ هذا الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ (منون) وهو محتملٌ لما قيل من هذه التفاسير، ويكون الاختلاف فيه راجعاً إلى أكثرَ من معنى، والله أعلم.
(9)أوردَ الطبريُّ في تفسير (الدين) قولين:
الأول: الحساب، وذلك عن عكرمة من طريق النضر بن عربي.
والثاني: حُكْمُ الله، عن ابن عباس من طريق العوفي، ثمَّ قال: (وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الدين في هذا الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أنَّ أحدَ معاني الدِّين في كلام العرب: الجزاء والحساب، ومنه قولهم: (كما تَدينُ تُدان) ولا أعرِفُ في معاني الدِّينِ الحكمَ في كلامهم، إلاَّ أن يكونَ مُراداً بذلك: فما يُكذِّبُكَ بعدُ بأمرِ الله الذي حكمَ به عليكَ أن تُطيعه فيه، فيكون ذلك).
يُحْتَمَلُ أن ابن عباس فسَّر الدين هنا بالشريعة، وهي حُكْمُ الله، ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} ؛ أي: في حُكمه، والطبري قد فسَّره بهذا المعنى في هذه الآية، وهو ما أشارَ إليه في توجيه ما روي عن ابن عباس، ويكون المعنى على قول ابن عباس: فمن يكذِّبُكَ بعدَ هذا البيان بحُكم الله الذي أنزلَه عليك، وهذا معنىً مُحتمل، وإن كان الأول أنسب منه للسياق، وعليه فهو أرجح، وبهذا يكون الخلافُ بسبب الاشتراك اللغوي في لفظ (الدين) ويكون الخلاف فيه راجعاً لمعنيين محتمَلين.
ويُحتمل أن ابن عباس أرادَ بالحُكم القضاء، وكأنه اعتبر في هذا التفسير الآية بعدها، ويكون المعنى: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذا البيانِ في حُكم الله وقضائِه، وهو أحكمُ الحاكمين، والله أعلم.
ومما يلاحظ في ترجيح الطبري أمران:
الأول: أنه رجَّح قول التابعي تلميذِ ابن عباس على قول شيخه الصحابيِّ ابن عباس، وهذا يُشْعِرُ بأن الطبريَّ يجعلُ مفسِّري السلفِ في التفسير في طبقةٍ واحدة عند الترجيح، ولا يقدِّم قول فلان؛ لأنه من الصحابة، وهذا المنهجُ هو الغالبُ عليه، وإن كان في بعض المواطِنِ يقدِّم قولَ الصحابة وينبِّه على ترجيحِه لقولهم؛ لأنهم الصحابةُ العالمونَ بالتنزيل، وهذا منهجٌ يحتاجُ إلى استقراءٍ ودراسة.
الثاني: أن الطبري قال: ولا أعرفُ من معاني الدين في كلامهم …، ألا يكفي ورود تفسير هذه اللفظة عن حَبْرِ الأمة ابن عباس، وهو عربيٌّ يُحتجُّ بعربيَّتِه؟!
(10)هذا مُقتضى تفسير مجاهد والكلبي، حيث جعلا الخطابَ للإنسان، ومن جعل الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم فالمعنى: فمن الذي يكذِّبك بعدَ هذا البيان بالدين، وقد اختاره الطبري فقال: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى (ما) معنى (من)، ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذِّبك يا محمد بعدُ بالذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين؛ يعني: بطاعة الله، ومجازاتِه العبادَ على أعمالهم).
وهما قولان محتَملان.
والأول: يُبقي (ما) على معناها بلا تأويل.
والثاني: معنى معروفٌ في (ما) وقد سبق مثله في سورة الشمس وغيرها.
ولذا يمكن أن يقال: إنَّ سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في دلالة (ما) على معنى الاستفهام، ومعنى الموصولية، ومن ثمًَ يكون الاختلاف راجعاً إلى مَعْنَيَيْنِ محتمَلين، والله أعلم.
(11)وردَ في مُرْسَلِ قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: ((بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين)).
وورد كذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير أنه يقول: (سبحانكَ اللَّهُمَّ، وبلى).
وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، قال: (كان قتادة إذا تلا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} ، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفعُ ذلك، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: بلى، وإذا تلا: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} قال: آمنت بالله، وبما أنزل).

هيئة الإشراف

#5

23 Oct 2008

القارئ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}
الشيخ:
هذا قسم من الله -جل وعلا- بالتين: وهو الفاكهة المعروفة، وبالزيتون: وهو الذي يستخرج منه الزيت، وهو أيضاً معروف، وهذا هو الأظهر من كلام العلماء رحمهم الله جل وعلا؛ لأن الله -جل وعلا- خاطبنا باللسان العربي المبين.
والزيتونورد ذكره في القرآن كثيراً، ويراد به هذا الشجرة المعروفة شجرة الزيتون، وأما التين فلم يرد إلا هاهنا، كونهما مقترنين هذا يدل على أن المراد بهما شجر التين المعروف والزيتون المعروف.
وهذا قسم من الله -جل وعلا- بخلقه، والله -جل وعلا- يقسم بمن شاء وبما شاء.
قوله -جل وعلا-: {وَطُورِ سِينِينَ} هذا هو طور سيناء، الذي كلم الله -جل وعلا- عليه كليمه موسى عليه السلام، كما قال الله -جل وعلا-: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} وقال -جل وعلا- في شأن كلام موسى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وهذا الطور في بلاد الشام.
ثم قال -جل وعلا-:{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}: وهو البلد الحرام مكة قد سماه الله -جل وعلا- أميناً؛ لأن الناس يأمنون فيه، ولهذا كانوا يأمنون فيه في الجاهلية وفي الإسلام، وقد بينه الله -جل وعلا- في القرآن كثيراً:
- كما في قوله -جل وعلا-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}.
-وفي قوله -جل وعلا-: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً}.
-وفي قوله -جل وعلا-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.
- وفي قوله -جل وعلا-: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ}.
وهذا البيت وهو البيت الحرام وصفه الله -جل وعلا- بأنه بيت أمين، وهذا من خصائص هذا البيت؛ ولهذا لما كان هذا البيت أميناً كانت أفئدة الناس تهوي إليه، ببركة دعاء إبراهيم -عليه السلام-: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.
وما قال إبراهيم -عليه السلام-: واجعل الناس يهوون إليهم، ولكن قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} لأن القلوب إذا تعلقت بشيء توجهت إليها الأبدان، وأما إذا كان التعلق بغير القلب فقد لا يطاوع البدن بالذهاب إليه.
وهذا البيت جعل الله -جل وعلا- له من الخصائص شيئاً عظيماً قد يشركه فيه غيره، وقد لا يشركه فيه غيره، ومن ذلك أن هذا البيت هو أحب البقاع إلى الله، وخيرها وأفضلها، كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنهم أخرجوني منك ما خرجت)).
وهذا البيت لعظمه جعل الله -جل وعلا- فيه شعائر من الطاعات ليست في غيره، فجعله -جل وعلا- قبلة للمسلمين، وجعل الكعبة مكاناً يطَّوف عليه المسلمون، فليس هناك مكان يجوز أن يطَّوف به إلا هذا البيت العظيم وهو الكعبة، فلا يحل لمسلم أن يطوف بقبر ولا بحجرة ولا بأي شيء إلا بهذا البيت.
وجعل الله -جل وعلا- الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وأوجب على العباد حجه واعتماره في العمر مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع.
وحرَّم الله -جل وعلا- لأمنه أن يدخله الدجال في آخر الزمان، فالدجال يطوف الدنيا إلا الكعبة والمدينة فإنه لا يدخلهما، على أنقابهما -وهي المداخل- ملائكة كلما أراد الدخول ضربوه معهم السيوف المصلتة؛ ولهذا أيضاً في آخر الزمان إذا خرج جيش يريد البيت فإن الله -جل وعلا- يخسف بهذا الجيش إذا كانوا ببيداء من الأرض؛ وذلك لحرمة هذا البيت وعظمته.
وكذلك من خصائص هذا البيت أن الإنسان لا يريد فيه سيئة إلا عاقبه الله عليها، في غيره من البلاد إذا هم بسيئة فلم يفعلها كتبها الله -جل وعلا- حسنة، وأما في البيت الحرام إذا هم بسيئة وأرادها فإن الله -جل وعلا- يعاقبه؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، ولهذا كان شأن المعاصي فيه عظمياً.
والمراد بالبيت: الحرم ، ليس الكعبة، وليس المحاط بالجدران الآن، وإنما المراد به الحرم كله المعلَّم عليه بالنصب، وهو كبير يدخل فيه منى ومزدلفة وغيرها، فحدوده كبيرة- فهذا من أوقع فيه سيئة أو من هم فيه بسيئة عاقبه الله، فكيف بمن أوقع فيه سيئة، فالجرم يعظم إذا عظم الزمان أو عظم المكان، لهذا لما عظم البيت الحرام عظم جرم هذه السيئة، ولهذا يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (لو أن رجلاً بعدن أبين هم بالبيت سوءاً لأخذه الله).
ولهذا كان عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- له فسطاطان، يعني: خيمتان إحداهما داخل الحرم والأخرى خارج الحرم، إذا أراد أن يصلي دخل الحرم، وإذا قضى الصلاة خرج خارج الحرم، وعبد الله بن عمرو أفقه منا وأعلم منا؛ لئلا يقع منه شيء فيعاقبه الله جل وعلا، ولهذا كان هذا البيت حتى معظماً في الجاهلية، يقول عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه: (إن كانت الأمة من بني إسرائيل لتأتي البيت فإذا كانت بذي طوى خلعت نعالها تعظيماً للبيت).
وذو طوى: هو مكان كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم مكة بات به، فإذا أصبح اغتسل ودخل؛ فهو على حدود مكة.
ومن تعظيم الله -جل وعلا- لهذا البيت أن حرمه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، وحرَّم في ذلك اليوم سفك الدماء؛ فلا يسفك دم في مكة، ولا يقطع الشجر في مكة، ولا يعضد الشوك، يعني: يقطع الشوك، ولا تنفَّر الطيور أو الصيد عن مكانه، ولا تحل لقطته إلا لمنشد، فإذا وجد فيه الإنسان شيئاً لا يجوز له أن يأخذه إلا على سبيل التعريف، ولو بقي عنده دهوراً عديدة.
أما في خارج مكة فإنه إذا وجد لقطة وجب عليه أن يعرفها سنة ثم بعد ذلك يمتكلها، وأما في مكة فإذا وجد شيئاً وجب عليه أن يعرفه حتى يجد صاحبه أو يظل في تعريفه أبداً، وهذا من خصائص البيت الحرام، فهذا البيت جعله الله -جل وعلا- بلداً آمناً.
وأقسم الله -جل وعلا- في هذه الآية به وبالتين والزيتون وطور سينين.
وقد جاء حديث أو روي حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ننبه عليه لئلا يقع فيه بعض الناس وهو حديث لم يذكره أهل التفسير وإنما ذكره الحافظ ابن رجب في كتابه: (فضائل الشام) هذا الحديث هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مكة البلدة أو البلد، والمدينة النخلة، وبيت المقدس التين، ودمشق الزيتون)) وهذا حديث لا يصح بل مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نبهنا عليه لئلا يتوهمه بعض الناس صحيحاً.
فالله -جل وعلا- أقسم بهذه الأشياء على قوله -جل وعلا-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهذا الخلق من الله -جل وعلا- في أحسن تقويم تقدم بيانه.
ثم قال -جل وعلا-: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يعني: أن الله -جل وعلا- بعد أن خلق الإنسان في أحسن تقويم يرده إلى النار وهي أسفل سافلين، كما تقدم عند قول الله -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى)).
فأسفل سافلين: هي النار، فهذا الإنسان إذا خلقه الله وأحسن الله -جل وعلا- خلقه رده -جل وعلا- إلى النار؛ إلا الذين استثناهم الله -جل وعلا- بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فهؤلاء لا يردون إلى أسفل سافلين، وإنما يردهم الله -جل وعلا- إلى جنات النعيم.

وقد فسر بعض العلماء قوله -جل وعلا-: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أن الله -جل وعلا- يرد الكافر إلى أرذل العمر، ولكن هذا تأويل ضعيف، والراجح: ما تقدم ذكره؛ لأن الله -جل وعلا- جاء بما يماثل هذه الآية في كتابه الكريم، كما قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فدل على أن الرد إلى أسفل سافلين هو الرد إلى العذاب الأليم الذي هو جهنم، ثم إن تفسير أسفل سافلين بأنه: الرد إلى أرذل العمر، هذا لا يعرف لا في لغة العرب، ولا في عرف الشرع، لم يأت في آية أو في حديث أن المراد بأسفل السافلين هي: الرد إلى أرذل العمر، ثم إن تفسيره بأرذل العمر هذا يترتب عليه مخالفة الحس والواقع؛ لأن هناك كثيراً من الكفار يموتون قبل أن يردوا إلى أرذل العمر، وهناك بعض المسلمين لا يموتون إلا وقد ردوا إلى أرذل العمر.

فدل ذلك على أن الرأي الأظهر في هذه الآية: هو أن قوله -جل وعلا-: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أن المراد: أن الله -جل وعلا- يردهم إلى النار إلا من استثنى الله -جل وعلا- وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والله -جل وعلا- قدم هؤلاء واستثنى أهل الإيمان لقلة أهل الإيمان في أهل الكفر:
- كما أخبر الله -جل وعلا-: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
- وقال -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}.
-وقال -جل وعلا-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فدل ذلك على أن الله -جل وعلا- بدأ بهؤلاء الكفار وبين مصيرهم لأنهم هم الكثرة.
ثم استثنى الله -جل وعلا-: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}والأجر غير الممنون: هو الأجر الذي لا ينقطع أبداً، وقد تقدم بيان ذلك.
وقول الله -جل وعلا-: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} هذا الخطاب اختار ابن جرير - رحمه الله - وجمهور علماء اللغة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن قوله -جل وعلا-: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أن المخاطب بذلك: النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن أصل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والإنسان لم يخاطب في هذه الآية؛ لأن أول الآية: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وهذا خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يخاطب الله -جل وعلا- الإنسان في هذه الآية، فدل قوله -جل وعلا-: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} على أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى في هذه الآية: أي: فمن يكذبك بعد بيوم الجزاء والحساب، فهنا (ما) بمعنى (مَنْ) والله -جل وعلا- عبر(بما) هاهنا لأنه أراد الأوصاف ولم يرد الأعيان، وإلا الأصل في التعبير للعاقل أن يكون(بمن) لكن إذا أريد الوصف فإنه يعبر (بما) والله -جل وعلا- لم يرد أشخاصاً بعينهم أو بأعينهم، وإنما أراد المتلبسين وهم الظلمة والجهلة، أي: فمن يكذبك بعد هذا البيان والإيضاح من خلق الإنسان الذي يستدل به على ربوبية الله وألوهيته، وعلى قدرته -جل وعلا- للبعث، ومن يكذبك بعد ذلك بعدما سمع من مصير المؤمنين ومصير الكافرين.
وهذا الاستفهام إما أن يكون للتعجب كما في قوله -جل وعلا-: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، أو يكون هذا الاستفهام يراد به: تحقيرهم وبيان أنهم ليسوا علي شيء كما يقول الإنسان أحياناً: من قال هذا؟ لا يريد الاستفهام وإنما يريد تحقير القائل، فهذا فيه: إما تعجب، وإما تحقير للقائلين.
ثم قال -جل وعلا-:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} يعني: أنه -جل وعلا- أعدل من يحكم ومن يقضي، فلا أحد أعدل من الله جل وعلا.
والدليل على ذلك: أن الله -جل وعلا- قسم الناس يوم القيامة إلى فريقين بأعمالهم: فما أدخل طائعاً النار، ولا أدخل عاصياً الجنة، يعني: ما أدخل المؤمن النار، وما أدخل الكافر الجنة، ولكنه -جل وعلا- يقضي بينهم بحكمه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحسب أعمالهم، بل فضله -جل وعلا- واسع، فهو -جل وعلا- قد يغفر لمن آمن به ومات عاصياً لأول وهلة، وقد يعذبه بسيئاته ثم يخرجه، وهذا من عدله جل وعلا، فعدله -جل وعلا- شامل لنوع العذاب؛ وشامل لسبب العذاب.
أما الحاكم من الخلق فقد يعذب عذاباً أكبر من الإجرام، وقد يجعل سبباً لا يستحق به صاحبه العذاب - يجعله - سبباً للعذاب، وأما الله -جل وعلا- فهو عدلٌ في حكمه في إيقاعه على العبد وفي سببه، فهو يوم القيامة يفصل بين المؤمنين والكافرين بحكمه وعدله، فيجعل هؤلاء إلى النار وهؤلاء إلى الجنة وذلك من تمام حكمه، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} إلى غيرها من الآيات التي تبين هذا المعنى.
وإنما قلنا: إنَّ المراد أحكم الحاكمين أي أنه -جل وعلا- أعدل من يحكم ويقضي؛ لأن الله -جل وعلا- قبل ذلك ذكر حكمه على الكافرين وعلى المؤمنين، فصيَّر الكافرين إلى أسفل سافلين، وصيَّر المؤمنين إلى أجر لا ينقطع أبداً، فناسب أن يكون بعد ذلك هو أحكم الحاكمين -جل وعلا- والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
(سؤال): فيسأل بعض الإخوة عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من قرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فقرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وإني على ذلك من الشاهدين))؟

(جواب) : وهذا حديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما صحح العلماء وبعض أهل العلم - صحح- الحديث الوارد في سورة القيامة (({أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} سبحانك فبلى)).

هذا حديث صححه بعض العلماء، وأما الحديث الوارد في سورة التين فهذا حديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك كثير من العلماء.

هيئة الإشراف

#6

11 Feb 2009

تفسير سورة التين


تفسير قول الله تعالى : ( والتين والزيتون )
أقوال السلف في المراد بالتين والزيتون
بيان ضعف حديث: " من قرأ التين والزيتون فقرأ: أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل: بلى وإني على ذلك من الشاهدين "
تفسير قول الله تعالى : ( وطور سينين )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (وطور سينين)
تفسير قول الله تعالى : ( وهذا البلد الأمين )
خصائص البيت الحرام
تفسير آخر لبعض العلماء لقوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين)
تنبيه على ضعف حديث ( مكة البلدة أو البلد، والمدينة النخلة، وبيت المقدس التين، ودمشق الزيتون )
تفسير قول الله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )
بيان جواب القسم في السورة
تفسير قول الله تعالى : ( ثم رددناه أسفل سافلين )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: ( ثم رددناه أسفل سافلين)
تفسير قول الله تعالى : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
بيان الراجح من هذه الأقوال
أقوال السلف في معنى كلمة (مَمْنون)
تفسير قول الله تعالى : ( فما يكذبك بعد بالدين )
الأقوال في المخاطب بقوله تعالى: (فما يكذبك)
أقوال السلف في معنى (الدين)
توجيه قول ابن عباس في تفسير (الدين)
ملحوظتان في ترجيح الطبري أن (الدين) هو الجزاء والحساب
تفسير قول الله تعالى : ( أليس الله بأحكم الحاكمين )

هيئة الإشراف

#7

11 Feb 2009

الأسئلة

سورة التين
س1: أقسم الله تعالى في سورة التين بأشياء، اذكرها، وبيِّن مناسبة القسم بها.
س2: اختلفت أقوال المفسرين في المراد بالتين والزيتون، اذكرها مع بيان القول الصحيح.
س3: اذكر أقوال العلماء في المراد بطور سينين مع الترجيح.
س4: فسِّر السورة تفسيراً إجمالياً مختصراً.
س5: بين معاني الكلمات التالية: تقويم، ممنون، يكذبك، أحكم الحاكمين.
س6: اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله الله: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} اذكرها مع بيان نوع هذا الاختلاف.
س7: اذكر أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} مع الترجيح.
س8: مَن المخاطبُ بقوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ}، اذكر الخلاف، مع الترجيح، وما معنى (ما) على كل قول؟ وما نوع الاستفهام في هذه الآية؟
س9: ما نوع الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؟
س10: اذكر أقوال العلماء في المراد بالدِّين في قوله تعالى: {فما يكذبك بعد بالدين} مع الترجيح.

هيئة الإشراف

#8

10 Apr 2014

تفسير ابن كثير



قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة التّين وهي مكّيّةٌ.

قال مالكٌ وشعبة، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازبٍ: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفرٍ، فقرأ في إحدى الركعتين بالتّين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه. أخرجه الجماعة في كتبهم.

اختلف المفسّرون ههنا على أقوالٍ كثيرةٍ؛ فقيل: المراد بالتين مسجد دمشق. وقيل: هي نفسها. وقيل: الجبل الذي عندها.

وقال القرظيّ: هو مسجد أصحاب الكهف.

وروى العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: أنه مسجد نوحٍ الذي على الجوديّ.

وقال مجاهدٌ: هو تينكم هذا.

{والزّيتون} قال كعب الأحبار، وقتادة، وابن زيدٍ، وغيرهم: هو مسجد بيت المقدس.

وقال مجاهدٌ وعكرمة: هو هذا الزيتون الذي تعصرون.

{وطور سينين} قال كعب الأحبار وغير واحدٍ: هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى.

{وهذا البلد الأمين} يعني: مكّة. قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة والحسن، وإبراهيم النّخعيّ، وابن زيدٍ، وكعب الأحبار، ولا خلاف في ذلك.

وقال بعض الأئمّة: هذه محالّ ثلاثةٌ، بعث الله في كلّ واحدةٍ منها نبيًّا مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار:

فالأوّل: محلّة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم.

والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء، الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران.

والثالث: مكّة، وهو البلد الأمين، الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم.

قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء – يعني: الذي كلّم الله عليه موسى- وأشرق من ساعير - يعني: جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى - واستعلن ‌من جبال فاران. يعني: جبال مكّة التي أرسل الله منها محمداً صلّى الله عليه وسلّم، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثمّ الأشرف منه، ثمّ بالأشرف منهما.

وقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ} هذا هو المقسم عليه، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورةٍ وشكلٍ، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسنها.

{ثمّ رددناه أسفل سافلين} أي: إلى النار. قاله مجاهدٌ، وأبو العالية، والحسن، وابن زيدٍ، وغيرهم. ثمّ بعد هذا الحسن والنّضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتّبع الرسل.

ولهذا قال: {إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}.

وقال بعضهم: {ثمّ رددناه أسفل سافلين} أي: إلى أرذل العمر. وروي هذا عن ابن عبّاسٍ وعكرمة، حتى قال عكرمة: من جمع القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. واختار ذلك ابن جريرٍ، ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأنّ الهرم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه، كقوله: {والعصر إنّ الإنسان لفي خسرٍ إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}.

وقوله: {فلهم أجرٌ غير ممنونٍ} أي: غير مقطوعٍ، كما تقدّم.

ثمّ قال: {فما يكذّبك} أي: يا بن آدم {بعد بالدّين} أي: بالجزاء في المعاد، وقد علمت البدءة، وعرفت أنّ من قدر على البدءة فهو قادرٌ على الرّجعة بطريق الأولى، فأيّ شيءٍ يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا؟.

قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ، حدّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن منصورٍ، قال: قلت لمجاهدٍ: {فما يكذّبك بعد بالدّين} عنى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: معاذ الله! عنى به الإنسان. وهكذا قال عكرمة وغيره.

وقوله: {أليس الله بأحكم الحاكمين}؟ أي: أما هو أحكم الحاكمين، الذي لا يجور ولا يظلم أحداً؟! ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممّن ظلمه، وقد قدّمنا في حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((فإذا قرأ أحدكم: {والتّين والزّيتون} فأتى آخرها: {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشّاهدين)) .

آخر تفسير {والتّين والزّيتون}. ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/434-435]