23 Oct 2008
سورةُ العَلَق
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ
لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى
(8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ
إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ
إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
تفسير سورة اقرأ
هذهِ السورةُ أولُ السورِ القرآنيةِ نزولاً على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فإنهَا نزلتْ عليهِ في مبادئ النبوةِ إذْ كانَ لا يدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ، فجاءَهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالرسالةِ، وأمرهُ أنْ يقرأَ، فامتنعَ، وقالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) فلمْ يزلْ بهِ حتى قرأَ، فأنزلَ اللهُ عليهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} عمومَ الخلقِ، ثمَّ خصَّ الإنسانَ، وذكرَ ابتداءَ خلقهِ {مِنْ عَلَقٍ}. فالذي
خلقَ الإنسانَ واعتنى بتدبيرهِ، لا بدَّ أنْ يدبرهُ بالأمرِ والنهيِ،
وذلكَ بإرسالِ الرسلِ إليهمْ، وإنزالِ الكتبِ عليهمْ، ولهذا ذكرَ بعدَ
الأمرِ بالقراءةِ، خلقه للإنسانِ. ثمَّ قالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} أي: كثيرُ الصفاتِ واسعُهَا، كثيرُ الكرمِ والإحسانِ، واسعُ الجودِ، الذي منْ كرمهِ أنْ علَّم بالعلمِ و{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فإنَّهُ تعالى أخرجهُ منْ بطنِ أمهِ لا يعلمُ شيئاً، وجعلَ لهُ السمعَ والبصرَ والفؤادَ، ويسَّرَ لهُ أسبابَ العلمِ. فعلمهُ
القرآنَ، وعلَّمهُ الحكمةَ، وعلَّمهُ بالقلمِ، الذي بهِ تحفظُ العلومُ،
وتضبطُ الحقوقُ، وتكونُ رسلاً للناسِ تنوبُ منابَ خطابهمْ، فللهِ الحمدُ
والمنةُ، الذي أنعمَ على عبادِهِ بهذهِ النعمِ التي لا يقدرونَ لهَا على
جزاءٍ ولا شكورٍ، ثمَّ منَّ عليهمْ بالغنى وسعةِ الرزقِ. ولكنَّ
الإنسانَ - لجهلِهِ وظلمِهِ - إذا رأى نفسهُ غنيّاً طغى وبغى، وتجبَّرَ عن
الهدى، ونسيَ أنَّ إلى ربهِ الرجعى، ولمْ يخفِ الجزاءَ، بلْ ربما وصلتْ
بهِ الحالُ أنَّهُ يتركُ الهدى بنفسهِ، ويدعو إلى تركهِ، فينهى عنِ الصلاةِ
التي هيَ أفضلُ أعمالِ الإيمانِ. يقولُ اللهُ لهذا المتمرِّدِ العاتي: {أَرَأَيْتَ} أيهَا الناهي للعبدِ إذا صلى {إِن كَانَ} العبدُ المصلي {عَلَى الْهُدَى} العلمِ بالحقِّ والعملِ بهِ، {أو أمر} غيرَهُ {بِالتَّقْوَى}
فهلْ يحسنُ أنْ ينهى منْ هذا وصفُهُ؟ أليسَ نهيهُ منْ أعظمِ المحادَّةِ
للهِ والمحاربةِ للحقِّ؟ فإنَّ النهيَ لا يتوجهُ إلاَّ لمنْ هوَ في نفسهِ
على غيرِ الهدى، أو كانَ يأمرُ غيرهُ بخلافِ التقوى.
(1-19){بسم
الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ
الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا
إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى
رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا
صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ
نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)}
{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ}الناهي بالحقِ {وَتَوَلَّى} عنِ الأمرِ، أما يخافُ اللهَ ويخشى عقابَهُ؟ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ما يعملُ ويفعلُ؟
ثمَّ توعدَهُ إن استمرَّ على حالِهِ، فقالَ: {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} عمَّا يقولُ ويفعلُ {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} أي: لنأخذنَّ بناصيتهِ، أخذاً عنيفاً، وهيَ حقيقةٌ بذلكَ، فإنَّهَا {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: كاذبةٌ في قولِهَا، خاطئةٌ في فعلهَا.
{فَلْيَدْعُ}هذا الذي حقَّ عليهِ العقابُ {نَادِيَهُ} أي: أهلَ مجلسهِ وأصحابهِ ومنْ حولَهُ، ليعينوهُ على مَا نزلَ بهِ.
{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي: خزنةَ جهنمَ لأخذهِ وعقوبتهِ، فلينظرْ أيُّ الفريقينِ أقوى وأقدرُ؟ فهذهِ حالةُ الناهي وما تُوعدَ بهِ منَ العقوبةِ، وأمَّا حالةُ المنهيِّ، فأمرهُ اللهُ أنْ لا يصغيَ إلى هذا الناهي ولا ينقادَ لنهيهِ، فقالَ: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ} فإنَّهُ لا يأمرُ إلاَّ بما فيهِ خسارةُ الدارينِ.
{وَاسْجُدْ}لربكَ {وَاقْتَرَبَ} منهُ في السجودِ وغيرهِ منْ أنواعِ الطاعاتِ والقرباتِ، فإنَّها كلُّهَا تُدني من رضاهُ وتقرِّبُ منهُ.
وهذا عامٌّ لكلِّ ناهٍ عنِ الخيرِ ومنهيٍّ عنهُ، وإنْ كانتْ نازلةً في شأنِ أبي جهلٍ حينَ نهى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ الصلاةِ، وعبثَ بهِ وآذاهُ.
تمتْ وللهِ الحمدُ.
سُورَةُ الْعَلَقِ
وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ
1 - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؛ أَي: اقْرَأْ مُبْتَدِئاً بِاسْمِ رَبِّكَ، وَقِيلَ: مُسْتَعِيناً بِاسْمِ رَبِّكَ، {الَّذِي خَلَقَ}
وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا نَفْسَهُ بِهَذَا لِتَذْكِيرِ
النِّعْمَةِ؛لأَنَّ نِعْمَةَ الْخَلْقِ هِيَ أَوَّلُ النِّعَمِ، وَهِيَ
مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ.
2 - {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}؛
يَعْنِي بَنِي آدَمَ، وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الجامدُ، وَإِذَا جَرَى
فَهُوَ المَسْفُوحُ، وَالْعَلَقَةُ هِيَ طَوْرٌ من أطْوَارِ خَلْقِ
الجَنِينِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ نُطْفَةً، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ بِقُدْرَةِ
اللَّهِ إِلَى عَلَقَةٍ، وَهِيَ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الدَّمِ الجامدِ،
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً، وَهِيَ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ لَحْمٍ،ثُمَّ
يَظْهَرُ فِيهَا التَّخْلِيقُ.
3 - {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}؛
أَي: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ من الْقِرَاءَةِ, وَرَبُّكَ الَّذِي
أَمَرَكَ بِالقراءةِ هُوَ الأكرمُ، وَمِنْ كَرَمِهِ أَنْ يُمَكِّنَكَ من
الْقِرَاءَةِ وَأَنْتَ أُمِّيٌّ.
4 - {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}:
عَلَّمَ الإِنْسَانَ الكتابةَ بِالْقَلَمِ، وَالْقَلَمُ نِعْمَةٌ مِن
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَظِيمَةٌ، لَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِينٌ، وَلَمْ
يَصْلُحْ عَيْشٌ، فَأَخْرَجَ النَّاسَ بِهِ منْ ظُلْمَةِ الجَهْلِ إِلَى
نُورِ الْعِلْمِ، وَمَا دُوِّنَتِ العلومُ، وَلا قُيِّدَتِ الْحِكَمُ، وَلا
ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الأَوَّلِينَ ومَقَالاتُهُمْ، وَلا كُتُبُ اللَّهِ
المُنَزَّلَةُ إِلاَّ بالكتابةِ.
وَلَوْ أَنَّكَ
تَخَيَّلْتَ عَالَماً لَيْسَ فِيهِ قَلَمٌ وَلا كِتابةٌ وَلا كُتُبٌ لَمَا
أَمْكَنَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ إِلاَّ عَالَماً يَضْرِبُ فِيهِ الجهلُ
أَطْنَابَهُ، فَلا تَنْتَقِلُ فِيهِ علومُ الأَوَّلِينَ وَتَجَارِبُهُمْ
وَآدَابُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ إِلَى الآخِرِينَ، وَلا تَنْتَقِلُ كَذَلِكَ
مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ إِلاَّ بِقِلَّةٍ، ومعَ نَقْصٍ وتحريفٍ، ثُمَّ
تَنْتَهِي وَتَفْنَى مَعَ الزمنِ، وَلا يَبْقَى لَهَا وجودٌ.
أَمَّا مَعَ وجودِ
الكتابةِ فَإِنَّ العلومَ والآدابَ تَبْقَى، ثُمَّ يُبْنَى عَلَيْهَا،
ثُمَّ تَتَزَايَدُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَتَنْمُو الحَضَارَاتُ،
وَتَسْمُو الأفكارُ، وَتُحْفَظُ الأَدْيَانُ، وَتُنْشَرُ الهدايةُ، لا
جَرَمَ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى دعوةَ الإِسْلامِ بالدعوةِ إِلَى
الْقِرَاءَةِ والكتابةِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِمَا، وَبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَبَيَانِ أَنَّ
مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْعَرَبِيُّ
الأُمِّيُّ الَّذِي لا يَعْرِفُ مِنْهُمَا شَيْئاً جَاءَ، وَكَانَتْ
مُعْجِزَتُهُ قُرْآناً يُتْلَى، وَكِتَاباً يُكْتَبُ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ
سَيَنْقُلُ أُمَّتَهُ منْ حَالِ الأُمِّيَّةِ الكاملةِ إِلَى حَالِ
الْعِلْمِ بِجَمِيعِ فضائلِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُمْتَنًّا
بِذَلِكَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
5 - {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ أَيْ: عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ مِنَ الأُمُورِ مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهَا.
6 - {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى}: يُجَاوِزُ الْحَدَّ وَيَسْتَكْبِرُ عَلَى رَبِّهِ.
7 - {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}؛ أَيْ: لَيَطْغَى إِنْ رَأَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِياً بِمَالِهِ وَقُوَّتِهِ.
8 - {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}؛ أَي: الرُّجُوعَ، لا إِلَى غَيْرِهِ.
9، 10 - {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} الَّذِي يَنْهَى هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَالْمُرَادُ بالعبدِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
11- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى}؛يَعْنِي الْعَبْدَ المَنْهِيَّ، إِذَا صَلَّى وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
12- {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}؛ أَيْ: بالإخلاصِ والتوحيدِ والعملِ الصالحِ الَّذِي تُتَّقَى بِهِ النَّارُ.
13- {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}؛ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، كَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَوَلَّى عَن الإِيمَانِ.
14- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}؛ أَيْ: يَطَّلِعُ عَلَى أحوالِهِ فَيُجَازِيَهُ بِهَا، فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ؟!
15- {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ}؛ أَيْ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ، {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}؛ أَيْ: لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ وَلَنَجُرَّنَّهُ إِلَى النَّارِ، والناصيةُ: شَعَرُ مُقَدَّمِ الرأسِ.
16- {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}؛ أَيْ: صَاحِبُهَا كَاذِبٌ خَاطِئٌ مُسْتَهْتِرٌ بِفِعْلِ الْخَطَايَا، وَهِيَ الذُّنوبُ.
17- {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}؛
أَيْ: أَهْلَ نَادِيهِ، والنَّادِي: الْمَجْلِسُ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ
الْقَوْمُ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ الأهلُ والعَشِيرةُ؛ أَيْ: لِيَطْلُبْهُ
لِيُعِينُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، قِيلَ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لرسولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُهَدِّدُنِي وَأَنَا
أَكْثَرُ أَهْلِ الوَادِي نَادِياً؟!فَنَزَلَتْ.
18- {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}؛ أَي: الْمَلائِكَةَ الغِلاظَ الشِّدَادَ؛ لِيَأْخُذُوهُ وَيُلْقُوهُ فِي نَارِ السَّعِيرِ.
19- {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} فِيمَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلاةِ، {وَاسْجُدْ}؛ أَيْ: صَلِّ لِلَّهِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، وَلا مُبَالٍ بِنَهْيِهِ، {وَاقْتَرِبْ} إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بالطاعةِ والعبادةِ.
المتن :
سورةُ العَلَق
آياتُها الخمسُ الأولى أَوَّلُ ما نزلَ من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في غارِ حراء.
1- 5قولُه تعالى: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} يأمرُ ربُّنا تباركَ وتعالى نبيَّهُ الأميَّ صلى الله عليه وسلم أن يتلُوَ ما أنزلَه عليه، وهي هذه الآيات، فيقولُ له:اقرَأ مستعيناً ومستفتِحاً باسمِ ربِّك الذي خلقَ كلَّ شيء. ثمَّ كرَّرَ الأمرَ بالقراءة اهتماماً بها، فقال:
اقرأ وربُّكَ المتصِف بكمال الكرم، ومن كرَمِهِ أنْ علَّم الإنسانَ
الكتابةَ بالقلم، فحفِظَ به علومَه، ومن كرَمِه أنه علَّم الإنسانَ علوماً
كان يجهلها.
ثمَّ بيَّنَ أصلَ خَلْقِ الإنسانِ فقال: خَلَقَ الإنسانَ من الدَّم المتجمِّدِ العالِقِ بالرَّحِم.
6- 8 قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي: ما هكذا ينبغي أن يكونَ الإنسان، أن يُنْعِمَ عليه ربه بتَسْوِيَةِ خلقِه وتعليمِه ما لا يعلم، ثم يَكْفُرُ ويطْغى(1).
إنَّ
الإنسانَ الكافرَ لَيتجاوزُ الحدَّ، ويعصي ربَّه؛ لأجل أنه رأى في نفسه
الغِنى بما أنعمَ الله عليه، فاستغنى عن ربِّه، ولمَّا كان منه ذلك،
هدَّدَهُ اللهُ بأنَّ مَرَدَّه ومصيرَه إليه، فليس له عن ربِّه مَفَرٌّ ولا
ملجأ.
9- 10 قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى} نزلت هذه الآياتُ في أبي جهلٍ لما نَهى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاةِ في المسجد الحرام وحَلَفَ لَيَطأَنَّ رقبتَهُ، وهو يصلي(2)، فقال تعالى: أعلِمْتَ أيها المخاطَب عن خبرِ الذي يَنْهَى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الحرام، ألم يعلمْ بأن الله يراهُ، فيخاف سطوتَهُ وعقابَه؟.
11- 12 قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي:
أرأيتَ أيها المخاطَب إن كان محمد على الاستقامةِ والسَّدَاد في أمر
صلاتِه؟ أو كان آمراً باتقاء الله، والخوفِ منه؟ أيَصِحُّ أن يُنْهَى عن
ذلك؟!.
والواقعُ أنَّ هذا الكافرَ ينهاه، وهذا تعجيبٌ من حاله، إذ كيف يُنهَى من كان بهذه الصفةِ من الهُدى والأمرِ بالتقوى؟!.
13-14 قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي:
أرأيتَ أيها المخاطَب إن كان هذا الناهي مكذِّباً بالله، ومُعْرِضاً عنه؟
أيعملُ هذه الأعمال، ولم يوقِن بأنَّ الله مطَّلِعٌ عليه، بصيرٌ به، يعلمُ
جميعَ أحواله؟!.
15- 16 قولُه تعالى: {كَلاَّ لَئِن لَمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}
أي: ليس الأمرُ كما قالَ وفعلَ هذا الناهي، فإنه لا يقدِرُ على إنفاذِ ما
أراد، ثُمَّ يقسِمُ ربُّنا على أن هذا العبدَ الناهيَ إن لم يترك أعمالَه
هذه وينتهي عنها ليأخُذنَّه مجذوباً من مقدِّمة رأسِه، وهذه الناصية -
والمراد بها صاحبها - يصدُرُ عنها الخطأ والذنب، والكذِب في القول.
17- 18قولُه تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} لمَّا نهى أبو جهلٍ النبي صلى الله عليه وسلم، انتَهَرهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: (علامَ يتهدَّدُني محمد، وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً)(3) فقال الله: فَلْيَدْعُ أبو جهلٍ أهلَ مجلسِه الذين ينتصرُ بهم، فإنه إن فعل، فإننا سندعو لهم ملائكةَ العذاب، الذين يدفعونَهم إلى العذاب دفعاً شديداً.
19- قولُه تعالى: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} أي: ليس الأمرُ كما يظنُّ أبو جهلٍ
فيما قاله من اعتزازِه بكثرةِ ناصِريه، فلا تسمعْ له ولا تخفْ منه في
نهيِه إياكَ عن الصلاة، بل اسجُدْ لله، وتقرَّبْ إليه بكثرةِ الصلاةِ له(4)، والله أعلم.
الحاشية :
(1)كذا فسَّر الطبري، لفظ (كلا) في هذا الموضع.
(2)ورَدت الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: أن الناهي أبو جهل، وورد قوله: (أَطَأنَّ عُنُقَه) عن قتادة من طريق سعيد ومعمر.
(3)وَرَدَتِ الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والوليد بن العيزار، وعن أبي هريرة من طريق أبي حازم.
(4)هذه الآية فيها إشارةٌ إلى قوله صلى الله عليه وسلم:
((أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجد …)).
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وأما الخطأ: فقد يقع بغير عمد، ولهذا رفع الله -جل وعلا- الخطأ وما رفع الخطيئة {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}
فالخطأ مرفوع لا يعاقب صاحبه، وأما الخطيئة فصاحبها معاقب؛ لكن إذا أخطأ
الإنسان في دين الله فعلم خطأه فأصر عليه صار فعله حينئذٍ خطيئة؛ لأن الخطأ
قد ينقلب خطيئة بالإصرار عليه، ولهذا لا يكون هناك تعارض كما يتوهمه بعض
الناس بين قوله -جل وعلا-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وبين هذه الآية؛ لأن هذه في الآثم المتعمد، وأما تلك فمن وقع منه فعل على غير عمد منه.
{اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6)
أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى
الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِن
لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
الشيخ:
وهذه السورة سورة العلق؛ سورة افتتح الله -جل وعلا- بصدرها الوحي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الله -جل وعلا- لمَّا أراد أن يوحي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعث جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتعبد في غار حراء، فلما جاءه الملك قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)) وهذا نفي للقراءة؛ لأن اقتران قوله بقارئ بالباء يدل على أن ما نافية، قال: ((ما أنا بقارئ)) فأخذه الملك فغطَّه حتى بلغ من النبي -صلى الله عليه وسلم- الجهد ثم أرسله؛ فقال له: ((اقرأ))، قال: ((ما أنا بقارئ)) فصنع به مثل ذلك ثم أرسله، فقال له: ((اقرأ)) قال: ((ما أنا بقارئ)) فغطَّه المرة الثالثة حتى بلغ منه -صلى الله عليه وسلم- الجهد ثم أرسله؛ فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}.
ولهذا ذهب جماهير العلماء إلى أنَّ هذه السورة هي التي نُبئ بها النبي الله عليه وسلم، وهي أول ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.
وأما سورة المدثر أو أوائل المدثر فإنه يتبع ذلك كما فصله حديث جابر في (صحيح البخاري).
قوله -جل وعلا-: {اقْرَأْ} هذا أمر من الله -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ.
وقد يقول قائل: كيف يأمر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقراءة والنبي عليه الصلاة والسلام أمي:- {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}.
-{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}.
-{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فكيف يقال له: اقرأ؟
قال العلماء: إن المقروء إما أن يكون مقروءاً عن كتابة، وإما أن يكون مقروءاً عن تلاوة، فإذا لقنه جبريل وقرأ يسمى قارئاً، وإذا قرأ من كتاب فإنه يسمى قارئاً، والمنفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قارئاً من كتاب أو كاتباً في كتاب، وأما كونه -صلى الله عليه وسلم- يقرأ من تعليم جبريل له عليه الصلاة والسلام، فإن هذا لا مانع منه؛ بل ذكره الله -جل وعلا- في كتابه: {سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} يعني: نجعلك قارئاً.
وقوله -جل وعلا-: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أي: مستعيناً باسم ربك الذي خلق، وإنما جعلت (با) هاهنا للاستعانة؛ لأن الاستعانة من معاني الربوبية، والله -جل وعلا- قال: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وهنا حذف -جل وعلا- المفعول، ما قال: خلق الناس، أو خلق الخلق، حذف المفعول ليعم من سوى الله جل وعلا، فكل من سوى الله فهو مخلوق، يعني: الذي خلق الخلق أجمعين.
ثم قال -جل وعلا-: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
لما عمم -جل وعلا- أنه خلق الخلق كلهم، خصص بخلق الإنسان، وهذا التخصيص
التمس العلماء حكمته فظهر لهم أنه خصص الإنسان لشرفه وكرامته؛ كما قال
تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
، ثم إنه خصه بالذكر هاهنا لأن المنبأ وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس الإنسان ليس من الأجناس الأخرى،
ليس من الملائكة، وليس من غيرهم، وإنما هو من الإنسان، فلما كان المنبأ
وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإنسان، ذكر الله -جل وعلا- خلق
الإنسان: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}والعلق: هو الدم الجامد كما تقدم.
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
هذا
أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالقراءة تأكيداً على الأمر الأول، وفي
الأمر الأول أمره أن يقرأ مستعيناً بالله، وفي هذا الأمر -الأمر الثاني-
قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}.
ولفظ الأكرم -كما تقدم لنا- يدل على خير وسعه، فالله -جل وعلا- خيره كثير واسع العطاء، فلما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنا بقارئ)) قال الله -جل وعلا-: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} لأن الله -جل وعلا- هو الذي يفتح على خلقه ويوسع لهم في الخير، ومن ذلك: أن يتعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- القراءة من جبريل، وأن يتعلم هذا المقروء وهو القرآن الذي فيه خير للنبي صلى الله عليه وسلم، وخير لأمته.
ثم قال -جل وعلا-: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}وهذه صفة للرحمن فهو
الذي علم بالقلم، يعني: علم الناس الخط بالقلم، فهو -جل وعلا- قد امتن
عليهم بتعليمهم الكتابة بالقلم، كما منَّ -جل وعلا- عليهم أن علمهم النطق
باللفظ، فهناك بيان نطقي، وبيان خطي، أو بيان لفظي، وبيان رسمي، وكلاهما
امتن الله -جل وعلا- بهما على هذه الأمة، فامتن -جل وعلا- على هذه الأمة
على الناس بالبيان الخطي أو الرسمي بهذه الآية، وامتن عليهم بالبيان النطقي
في قوله -جل وعلا-: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} فهو -جل وعلا- علم الخلق النطق وعلمهم الكتابة.
وذكر
الله -جل وعلا- هاهنا القلم؛ لأن الله -جل وعلا- لو لم يعلم الخلق الكتابة
بهذا القلم لحصل عندهم خلط كثير؛ لأن الإنسان ينسى، ولكن جُعل في هذا
القلم ما تضبط به وصايا الناس وتضبط به شهاداتهم، وتضبط به حساباتهم، وتضبط
به كثيراً من أمورهم التي لولا الله -جل وعلا- خلق هذا القلم لحصل عندهم
فيها خلط عظيم، وعاد عليهم ذلك بالضرر؛ لأن الإنسان لو كان القلم غير
موجود، وكانت هناك شركة وعندها حسابات ماذا يصنع لا يعتمد على الحفظ؛ لأن
الحفظ خوَّان، ولكن الله -جل وعلا- خلق هذا القلم وفيه منافع عظيمة للعباد.
ثم قال -جل وعلا-: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} في الأول قال: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
وما ذكر من هو المُعَلَّم، ولهذا قال بعض العلماء: في الآية الأولى حذف
الله -جل وعلا- المعلم ليشمل تعليمه -جل وعلا- للبشر وللملائكة ولغيرهم
الذين علموا بالقلم.
ثم بعد ذلك خص الله -جل وعلا- الإنسان: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} مالم يعلم سواءً مما يتعلق في أمر معاشه، أو في أمرمعاده، وهذه الآية كما قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فأخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً فعلمه جل وعلا، وفتح عليه من العلم مالم يكن يدركه لولا فضل الله -جل وعلا- وتعليمه له.
ثم قال جل وعلا: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} أي: إن الإنسان ليطغى، والطغيان: هو مجاوزة الحد.
{أَن رَآهُ اسْتَغْنَى}يعني: إذا حصل له غنى فإنه يطغى ويتجاوز ما حدَّ له، وهذا في طبع الإنسان، ولهذا قال الله جل وعلا: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}.
وقال جل وعلا: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
وقال -جل وعلا- عن فرعون: {قَالَ
يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ} يعني: مُوسَى -عليه السلام-{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يعني: لا يستطيع الإبانة في الكلام؛ لأن موسى كان ألثغاً؛ كما ذكر الله -جل وعلا- نطقه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)}، فكان موسى في لسانه عقدة، ولهذا قال فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يعني: ذليل {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يعني: لا يكاد يفصح في الكلام، وهذا طغيان من فرعون.
وقارون قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}
وهذا كله يدل على أن الإنسان إذا أعطي وأكثر له العطاء طغى، ولكن يستثنى
من ذلك المؤمنون؛ لأن المؤمن إذا أعطي شكر، كما قال الله -جل وعلا- عن نبيه
سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
وقال -جل وعلا- في شأن الإنسان المسلم صاحب الجنة الذي يكون من أهل الجنة: {حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}.
فهذه حال المؤمن، وأما حال الكافر فإنه يطغى، ولهذا المفسرون إذا فسروا قوله -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} قالوا: هو الإنسان الكافر.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} يعني: مهما طغى الإنسان فإن المرجع والمآب إلى الله جل وعلا، وسيحاسبه على ذلك.
ثم قال -جل وعلا-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى} يعني: أرأيت الإنسان الكافر إذا نهى عبداً مسلماً عن الصلاة، وقوله: {أَرَأَيْتَ} يعني: أخبرني، فهذا استفهام لا يحتاج إلى جواب؛ لأن من نهى مسلماً عن الصلاة عذبه الله جل وعلا، والمراد بهذا عند جمهور المفسرين هو أبو جهل؛ لأنه كان يتهدد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: (لئن رأيت محمداً يعفر وجهه بالتراب- يعني: في الصلاة عند البيت- لأطأن على عنقه).
ثم قال -جل وعلا-: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} أي: أرأيت إن كان ذلك العبد وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} يعني: أخبرني إن كان هذا الذي تنهاه عن الصلاة على الهدى، يعني: طريقته هي الهدى، أو كان يأمر بالتقوى.
ثم قال -جل وعلا-: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يعني: أرأيت هذا الكافر إن كذب بآيات الله وتولى وأعرض عنها.
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}
يعني: هذا الكافر ألا يعلم أن الله -جل وعلا- مطلع عليه وهو يتهدد هذا
النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سيطأ عنقه إن سجد لله -جل وعلا- وصلى،
وكذلك الله -جل وعلا- يراه حين تولى، وحين أعرض وأدبر، حين تُليَتْ عليه
آيات الله جل وعلا، وهذا كما قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ}.
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ لَئِن لَمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} يعني: أن هذا الكافر إن لم ينته عن تهديده، وينته عن إعراضه، فإن الله -جل وعلا- سيأخذه بناصيته، والناصية: هو الشعر الذي يكون في مقدمة الرأس.
يعني: أن هذا الكافر سيُجر ويجذب من مقدَّم رأسه ويلقى في النار.
كما قال الله -جل وعلا-: {يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} يعني: تجمع أقدامهم إلى نواصيهم ثم يلقون في النار.
ثم قال -جل وعلا-: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ}
وصف الله -جل وعلا- هذه الناصية التي يأخذها الله -جل وعلا- ويعذبها بأنها
كاذبة، والناصية: هي جزء من الإنسان، وهي مقدم رأسه، ولكن المراد الإنسان
الكافر، فهذا من باب إطلاق البعض وإرادة الكل، كما قال -جل وعلا-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
فالكاذبون هم الكفار، والله -جل وعلا- عبر بالناصية من باب إطلاق البعض على الكل، ووصف الله -جل وعلا- هذه الناصية بأنها كاذبة.
ثم قال: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} عندنا: خاطئة، عندنا: خطيئة وخطأ وبينهما فرق، فالخطيئة: هي الإثم.
وهذه
الناصية أوهذا الكافر خاطئ يعني: أنه مذنب وآثم بعد علمه؛ لأنه تليت عليه
آيات الله جل وعلا، ودعي إلى الإسلام، ورأى آيات الله جل وعلا، ولكنه أصر
واستكبر على كفره فلذلك كان خاطئاً، كما قال الله -جل وعلا- عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} وقال -جل وعلا-: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فالخطيئة المراد بها الإثم.
ثم قال -جل وعلا-: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}
يعني: يدعو أهل مجلسه الذين كانوا يجالسونه في الدنيا؛ لأن الكفار كانت
لهم نوادي يجلسون فيها، ويجتمعون ويصنعون فيها القمار والميسر، ويشربون
فيها الخمور، هذه كانت نوادي لهم.
يقول الله -جل وعلا- له يوم القيامة: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}
إذا جاء يوم القيامة فليدع أصحابه هؤلاء ليدفعوا عنه من عذاب الله شيئاً،
وقد أخبر الله -جل وعلا-عن الكفار يوم القيامة إذا أوقعوا في النار أنهم
يقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وقال -جل وعلا- عنهم يوم القيامة: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ} يعني: ليس له صديق يدفع عنه من عذاب الله شيئاً.
قال الله -جل وعلا-: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}والزبانية: جمع زابن وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين أعدهم الله -جل وعلا- لتعذيب من يستحق العذاب في النار.
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}
أي: لا تطع هذا الكافر فيما يقول، ولا تلتفت إليه، ولكن اسجد لله جل وعلا،
وتقرب إلى ربك -جل وعلا- بأنواع العبادات، ومن أعظمها السجود؛ ولهذا قال
-صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)).
تفسير سورة العلق
مقدمة حول سورة العلق وبيان أنها أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فائدة أمر جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقراءة مع أنه أمي
بدء النبوة
تفسير قول الله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق )
تفسير قول الله تعالى : ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم )
تفسير قول الله تعالى : ( كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى )
تفسير قول الله تعالى : ( أرأيت الذي ينهى ، عبداً إذا صلى )
تفسير قول الله تعالى : ( أرأيت إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى )
تفسير قول الله تعالى : ( أرأيت إن كذب وتولى ، ألم يعلم بأن الله يرى )
تفسير قول الله تعالى : ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة )
تفسير قول الله تعالى : ( فليدع ناديه ، سندع الزبانية )
تفسير قول الله تعالى : ( كلا لا تطعه واسجد واقترب )
الأسئلة
سورة اقرأ
س1: ما أوَّلُ ما نزلَ من القرآن؟
س2: قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، فسر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً مبيناً فائدة تكرار الأمر بالقراءة.
س3: قال الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى(6) أَن رَآهُ اسْتَغْنَى(7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} فسِّر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً مبيناً أسبابَ الطغيان وعلاجه في ضوء هذه الآيات.
س4: قرأتَ قول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ
إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ
إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} فأجب عما يلي:
أ - فسر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً.
ب - بين موقف الفريقين الشقي والسعيد من أخبار الله تعالى وأحكامه.
ج -
لأسماء الله تعالى وصفاته أثر عظيم في النفس المؤمنة بالله يزجرها عن
الوقوع في مساخطه، تحدَّث باختصار عن هذه القضية، مع بيان دلالة هذه الآيات
الكريمات على هذا الأصل.
س5: قال الله تعالى: {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} إلى قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فسِّر هذه الآيات تفسيراً إجمالياً.
س6: بين معاني الكلمات التالية: عَلَق، الأكرم، رآه، الرجعى، ينته، نسفعاً، الناصية، خاطئة، الزبانية، اقترِبْ.
س7: اذكر الفوائد التي استفدتها من دراستك لتفسير هذه السورة العظيمة.
تفسير ابن كثير