22 Oct 2008
سورةُ البَلَد
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{لَا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ
نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا
مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ
الْمَشْئَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)}
تَفْسِيرُ سُورَةِ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ
يقسمُ تعالى {بِهَذَا الْبَلَدِ}الأمينِ،الذي هوَ مكةُ المكرمةُ، أفضلُ البلدانِ على الإطلاقِ، خصوصاً وقتَ حلولِ الرسول صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهَا {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} أي: آدمَ وذريتهُ. يحتملُ أنَّ المرادَ بذلكَ: ما يكابدهُ ويقاسيهِ منَ الشدائدِ في الدنيا، وفي البرزخِ، ويومَ يقومُ الأشهادُ، وأنَّهُ ينبغي لهُ أنْ يسعى في عملٍ يريحهُ منْ هذهِ الشدائدِ، ويوجبُ لهُ الفرحَ والسرورَ الدائمَ. وإنْ لمْ يفعلْ، فإنَّهُ لا يزالُ يكابِدُ العذابَ الشديدَ أبد الآبادِ. ويحتملُ أنَّ المعنى: لقدْ خلقْنَا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ، وأقومِ
خلقةٍ، مقدرٍ على التصرفِ والأعمالِ الشديدةِ، ومعَ ذلكَ، لم يشكرِ اللهَ
على هذهِ النعمةِ ، بلْ بطرَ بالعافيةِ وتجبّرَ على خالقهِ، فحسبَ بجهلهِ
وظلمهِ أنَّ هذهِ الحالَ ستدومُ لهُ، وأنَّ سلطانَ تصرفهِ لا ينعزلُ، ولهذا
قالَ تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ويطغى ويفتخرُ بمَا أنفقَ منَ الأموالِ على شهواتِ نفسهِ، فـ{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} أي: كثيراً، بعضهُ فوقَ بعضٍ. وسمّى اللهُ تعالى الإنفاقَ في الشهواتِ والمعاصي إهلاكاً،
لأنَّهُ لا ينتفعُ المنفقُ بمَا أنفقَ، ولا يعودُ عليهِ منْ إنفاقِهِ إلا
الندمُ والخسارُ والتعبُ والقلةُ، لا كمنْ أنفقَ في مرضاةِ اللهِ في سبيلِ
الخيرِ، فإنَّ هذا قدْ تاجرَ معَ اللهِ، وربحَ أضعافَ أضعافِ ما أنفقَ. قالَ الله متوعداً هذا الذي يفتخرُ بمَا أنفقَ في الشهواتِ: {أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي: أيحسبُ في فعلهِ هذا، أنَّ اللهَ لا يراهُ ويحاسبهُ على الصغيرِ والكبيرِ؟ بلْ قدْ رآهُ اللهُ، وحفظَ عليهِ أعمالهُ، ووكلَ بهِ الكرامَ الكاتبينَ، لكلِّ ما عملهُ منْ خيرٍ وشرٍّ. ثمَّ قررهُ بنعمهِ، فقالَ: {أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} للجمالِ والبصرِ والنطقِ، وغيرِ ذلكَ منَ المنافعِ الضروريةِ فيهَا، فهذهِ نعمُ الدنيا، ثمَّ قالَ في نعمِ الدين: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: طريقي الخيرِ والشرِّ، بيَّنَّا لهُ الهدى منَ الضلالِ، والرّشدَ منَ الغيِّ. فهذهِ المننُ الجزيلةُ، تقتضي مِنَ العبدِ أنْ يقومَ بحقوقِ اللهِ،ويشكرَ اللهَ على نعمهِ، وأنْ لا يستعينَ بهَا على معاصيهِ، ولكنَّ هذا الإنسانَ لمْ يفعلْ ذلكَ. (11) {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: لم يقتحمهَا ويعبر عليهَا، لأنَّهُ متبعٌ لشهواتهِ. وهذهِ العقبةُ شديدةٌ عليهِ،ثمَّ فسر العقبةَ بقولهِ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: فكُّهَا منَ الرِّقِّ، بعتقهَا أو مساعدتها على أداءِ كتابتهَا، ومنْ بابِ أولى فكاكُ الأسيرِ المسلمِ عندَ الكفارِ. {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: جامعاً بينَ كونهِ يتيماً، فقيراً ذا قرابة. أي: آمنُوا بقلوبهمْ بما يجبُ الإيمانُ بهِ، وعملُوا الصالحاتِ بجوارحهمْ مِنْ كلِّ قولٍ وفعلٍ واجبٍ أو مستحبٍّ. على طاعةِ اللهِ وعنْ معصيتهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلمةِ بأنْ يحثَّ بعضهم بعضاً على الانقيادِ لذلكَ، والإتيانِ بهِ كاملاً منشرحاً بهِ الصدرُ، مطمئنةً بهِ النفسُ. للخلقِ،
منْ إعطاءِ محتاجهمْ، وتعليمِ جاهلهمِ، والقيامِ بمَا يحتاجونَ إليهِ منْ
جميعِ الوجوهِ، ومساعدتهمْ على المصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ، وأنْ يحبَّ
لهمْ ما يحبُّ لنفسهِ، ويكرهَ لهم ما يكرهُ لنفسهِ، أولئكَ الذين قاموا
بهذهِ الأوصافِ، الذينَ وفقهمُ اللهُ لاقتحامِ هذه العقبةِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} لأنَّهمْ أدوا ما أمرَ اللهُ بهِ منْ حقوقهِ وحقوقِ عبادهِ، وتركوا مَا نهوا عنهُ، وهذا عنوانُ السعادةِ وعلامتُهَا. بأنْ نبذوا هذهِ الأمورَ وراءَ ظهورهمْ، فلمْ يصدقوا باللهِ، ، ولا عملوا صالحاً، ولا رحموا عبادَ اللهِ {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: مغلقةٌ، في عمدٍ ممدّدةٍ، قدْ مُدَّتْ منْ ورائهَا، لئلا تنفتحَ أبوابُهَا، حتى يكونوا في ضيقٍ وهمٍّ وشدَّةٍ .
(1-20) {بسم
الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ
بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ
أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ
فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ
أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)}
أي: مجاعةٍ شديدةٍ، بأنْ يطعمَ وقتَ الحاجةِ أشدَّ الناسِ حاجةً.
{يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ}
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}
أي: قدْ لزقَ بالترابِ منَ الحاجةِ والضرورةِ.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
{وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}
سُورَةُ الْبَلَدِ
1- {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}
الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بالبلدِ الحرامِ، وَهُوَ مَكَّةُ؛ وَذَلِكَ
لِيُنَبِّهَ عَلَى كَرَامَةِ أُمِّ القُرَى وَشَرَفِهَا عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى؛ لأَنَّ فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَهِيَ بلدُ إِسْمَاعِيلَ
وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَبِهَا مَنَاسِكُ
الْحَجِّ.
2- {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}؛
أَي: اسْتَحَلَّ مِنْكَ مُشْرِكُو مَكَّةَ أَنْ يُؤْذُوكَ فِي البلَدِ
الحرامِ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا البلدِ
الَّذِي أَنْتَ مُقِيمٌ بِهِ؛ تَشْرِيفاً لَكَ وَتَعْظِيماً لِقَدْرِكَ؛
لأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِقَامَتِكَ فِيهِ عَظِيماً شَرِيفاً.
3- {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}
يُقْسِمُ تَعَالَى بالوَالِدِ وَأَولادِهِ، كآدَمَ وَمَا تَنَاسَلَ منْ
وَلَدِهِ وَبِكُلِّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ مِنْ جَمِيعِ الحيواناتِ؛
تَنْبِيهاً عَلَى عِظَمِ آيَةِ التَّنَاسُلِ وَالتَّوَالُدِ، وَدَلالَتِهَا
عَلَى قُدْرةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ.
4- {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}:
لا يَزَالُ فِي مُكَابَدَةِ الدُّنْيَا وَمُقَاسَاةِ شَدَائِدِهَا حَتَّى
يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ كَابَدَ شَدَائِدَ الْقَبْرِ وَالبَرْزَخِ
وَأَهْوَالَهُمَا، ثُمَّ أَمَامَهَ شَدَائِدُ الآخِرَةِ.
5- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}؛
أَيْ: أَيَظُنُّ ابْنُ آدَمَ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلا يَنْتَقِمَ
مِنْهُ أَحَدٌ مَهْمَا اقْتَرَفَ مِنَ السَّـيِّئَاتِ، حَتَّى وَلا
رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
6- {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً}؛ أَيْ: كَثِيراً مُجْتَمِعاً بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ.
7- {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرَهُ، وَلا يَسْأْلُهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ؟ وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ؟
8- {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} يُبْصِرُ بِهِمَا.
9- {وَلِسَاناً} يَنْطِقُ بِهِ، {وَشَفَتَيْنِ} يَسْتُرُ بِهِمَا ثَغْرَهُ.
10- {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
الْمَعْنَى: أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ،
مُبَيَّنَتَيْنِ كَتَبَيُّنِ الطَّرِيقَيْنِ العَالِيَتَيْنِ.
11- {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}؛
أَيْ: فَهَلاَّ نَشِطَ وَاخْتَرَقَ المَوَانِعَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ؛ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى
وَالشَّيْطَانِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا عَقَبَةٌ قَحْمَةٌ شَدِيدَةٌ،
فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
13- {فَكُّ رَقَبَةٍ}؛ أَيْ: هِيَ إعتاقُ رَقَبَةٍ وَتَخْلِيصُهَا منْ إِسَارِ الرِّقِّ.
14- {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}؛ أَيْ: يَوْمِ الْمَجَاعَةِ، عَزِيزٌ فِيهِ الطَّعَامُ.
15- {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ}؛
أَيْ: يُطْعِمُ الْيَتِيمَ، وَهُوَ الصَّغِيرُ الَّذِي لا أَبَ لَهُ وَلا
أُمَّ، وَيَكُونُ اليَتِيمُ مِنْ أقارِبِ هَذَا المُقْتَحِمِ.
16- {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}؛
أَيْ: لا شَيْءَ لَهُ، كَأَنَّهُ لَصِقَ بالتُّرَابِ لِفَقْرِهِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لا يَقِيهِ مِن التُّرَابِ لِبَاسٌ وَلا غَيْرُهُ،
فَمَنْ أَطْعَمَ من هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي أَيَّامِ المجاعاتِ
الَّتِي تُذْهِلُ الإِنْسَانَ إِلاَّ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ يَكُونُ منْ حِرْصِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَنَفْعِ عِبَادِهِ،
فَهُوَ حَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
17- {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَإِنَّ هَذِهِ القُرَبَ إِنَّمَا تَنْفَعُ مَعَ الإِيمَانِ إِذَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، والصَّبْرِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ من البَلايَا وَالْمَصَائِبِ، {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}؛
أَيْ: بالرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا
ذَلِكَ رَحِمُوا اليتيمَ والمِسْكِينَ وَاسْتَكْثَرُوا مِنْ فِعْلِ
الْخَيْرِ بالصدقةِ.
18- {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}
وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْحَابَ الْيَمِينِ
وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ من النَّعِيمِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ عَلَى التمامِ
وَالكمالِ فِي سُورَةِ الوَاقِعَةِ (الآيَات: 26 - 40) فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِهَا هُنَاكَ.
19- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}؛ أَيْ: بالآياتِ التَّنْزِيلِيَّةِ وَالآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ، {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ}؛
أَيْ: أَصْحَابُ الشِّمالِ، وَهِيَ النَّارُ المَشْؤُومَةُ. وَتَفْصِيلُ
مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لأَصْحَابِ الشِّمالِ مُبَيَّنٌ أَيْضاً فِي سُورَةِ الوَاقِعَةِ (الآيَات: 41 - 56).
20- {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}؛ أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ.
المتن :
سورةُ البَلَد
1- قولُه تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يقسِمُ ربُّنا بمَكَّةَ(1) 2- قولُه تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي: وأنتَ بمكَّةَ حلالٌ لكَ أن تصنعَ فيها ما تشاء مما هو حرامٌ في غير هذا الوقتِ الذي أُحِلَّ لك، فلا إثمَ عليك ولا حَرَج(2).
3- قولُه تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ويقسِمُ ربُّنا بكلِّ والدٍ وولدِه(3).
4- قولُه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}
هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: أنَّ اللهَ أوْجَدَ الإنسانَ وأخرجَهُ وهو
يكابِدُ أحوالَ الدنيا، ومشقَّاتِها ومصاعبَها، فهو يخرجُ من تَعَبٍ فيها
إلى تَعَب، كما قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} على أحدِ التفسيرات فيها(4).
5- قولُه تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي: أيَظُنُّ هذا الإنسانُ الكافرُ المخلوقُ في كَبَدٍ أنه لا أحدَ يقهرُه ويغلِبُه؟!
6- قولُه تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} أي:
يقولُ هذا الكافرُ المغتَرُّ بقوَّتِه: أنفقتُ مالاً متراكماً بعضه على
بعض من كَثْرَتِه، وهو إنما أهلكَهُ في الباطل، فيفتخرُ بذلك.
7- قولُه تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي: أيظنُ هذا الكافر أنَّ اللهَ لم يطَّلع عليه، وهو ينفقُ مالَهُ في الباطل؟!
8-10 قولُه تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} يقولُ اللهُ: ألم
نجعلْ لهذا الإنسانِ عَيْنَيْنِ يبصرُ بهِما، ولساناً وشفتين ينطقُ بهِما،
ويعبِّرُ عمَّا يريد، وأرشدناه وبيَّنا له طريقَ الخيرِ والشرِّ؟، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (5).
11-12قولُه تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}
أي: أفلا دخلَ في هذا الطريقِ الصَّعب؟ وما أعلمكَ عن هذا الطريق؟ إنه
القيام بهذه الأعمالِ الصالحةِ المذكورة بَعْد هذه الآية، وهذه الجملةُ
متصلة بقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} والمعنى: هَدَيْناه إلى الطريقين، فلم يسلُكْ طريق الخير بالدخولِ في هذه الأعمالِ الصالحةِ الشَّاقَّةِ على النَّفْسِ من فَكِّ الرَّقَبَةِ، وما بعدَها.
13-16قولُه تعالى: {فَكُّ
رَقَبَةٍ(6) (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً
ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} هذا بيانٌ للعَقَبةِ التي تُقْتَحَمُ، وهي هذه الأعمالُ الصالحةُ الشَّاقَّةُ على النَّفْسِ(7)،
وهي: عِتْقُ المسلمِ من الرِّقِّ، وتقديمُ الطعامِ للقريبِ الذي فَقَدَ
أباهُ وهو دون سنِّ البلوغ، وللمحتاجِ الذي لَصِقَ بالأرض من شِدَّةِ
الفاقَةِ(8)، تقديمه في اليوم شديدِ المجاعة(9) لهؤلاء المحتاجين.
17-18قولُه تعالى: {ثُمَّ
كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي:
ثُمَّ كان هذا المقتحِمُ قبلَ أن يقتحِمَ العَقَبة من المؤمنين الذين آمنوا
بالله، وأوصى بعضُهم بعضاً بالصَّبرِ على الطاعات، وأقدارِ الله، والصبرِ
عن المعاصي، وأوصى بعضُهم بعضاً بالتراحُم فيما بينَهُم(10)، فمَنْ تحقَّقت فيه هذه الأوصافُ فهم أصحاب اليمين: أهل الجنةِ.
19-20قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي:
والذين كفروا بأدِلَّتِنا من الكُتب والرُّسُلِ هم أصحابُ الشُّؤمِ وأهلُ
الشِّمال، وهم أهلُ النارِ التي هي مُطْبقَةٌ عليهم يومَ القيامة(11).
الحاشية :
(1)سَبقَ تفسيرُ تركيب هذا القَسَمِ
{لا أُقْسِمُ} عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} من سورة التكوير.
(2)كذا وردَ عن السلفِ في تفسير هذه الآيةِ مع اختلافِهم في التعبير عن هذا المعنى، وقد وردَ ذلك عن
ابن عباسٍ من طريق العوفي، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر وابن زيد، وعطاء من طريق عبد الملك، والضحاك من طريق عبيد، وزاد ابن كثير ذكرَ الرواية عن سعيد بن جبير، وعكرمة، وعطية، وأبي صالح، والسدي، والحسن البصري.
ولم يذكر ابن جرير عنهم غير هذا المعنى، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما أُحِلَّتْ لي ساعة من نهارٍ، وقد عادت حُرْمَتُها اليومَ كحُرْمتِها بالأمس)).
وقد ورد في تفسير {حِلٌّ}معنيان آخران:
الأول: وأنت حالٌّ - أي: مقيمٌ - في مكة، وهذا فيه تشريفٌ لمكة حالَ كونِ الرسول صلى الله عليه وسلم مقيماً فيها وساكناً.
الثاني: وأنت حلالُ الدم في مكة، حيث كان المشركون يريدونَ قتلَه، والقولُ الأولُ عليه السلف، وهو المقدَّم لأجلِ ذلك، والله أعلم.
(3)وردَ في تفسير هذه الآية معنيان:
الأول: أن القَسَمَ بكل من يَلِدُ، وبكل عاقِرٍ لا يَلِدُ، وهذا قول ابن عباس من طريق عكرمة، وعكرمة من طريق النضر بن عربي.
الثاني: يُقسمُ بالوالد الذي يلد، وبولده، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحاك من طريق عبيد، وسفيان الثوري من طريق مهران، كلُّهم فسَّر أنه آدم وولده، كأنه لما ذكرَ المسكنَ أشار إلى الساكن.
ووردَ عن أبي عمران الجوني أنه إبراهيم وولده؛ كأنه أشارَ إلى باني البيتِ وذرِّيته، وهذان التفسيران جاءا على سبيل المثالِ لوالد وولده، ولذا قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسمَ بكلِّ والد وولدِه؛ لأنَّ الله عمَّ كلَّ والدٍ وما ولد.
وغير
جائزٍ أن يخصَّ ذلك إلا بحجَّة يجب التسليمُ لها من خبرٍ أو عقل، ولا خبرَ
بخصوص ذلك، ولا بُرهان يجب التسليم له بخصوصه، فهو على عُمومِه كما عمَّه).
ولم يُضعِّف الطبري قول من فسَّر {وَمَا وَلَدَ}بالعاقر، ويظهر أن سبب هذا الخلاف: أنَّ هذا التركيبَ مشتَركٌ بين النفي والإثبات؛
أي أن (ما) يَحتمل أن تكون نافيةً، فيكون المعنى على العاقر، ويَحتمل أن
تكون مثبِتة، فيكون المعنى على المولود، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع
إلى أكثر من معنى، والله أعلم.
(4) وردَ في تفسير الكَبَدِ أقوال:
الأول: لقد خلقنا الإنسان في شدَّةٍ ونَصَبٍ وعناء، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، والحسن من طريق منصور بن زاذان، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد أخو الحسن البصري، وعكرمة من طريق النضر، وسعيد بن جبير من طريق عطاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
الثاني: خلقناهُ منتصِباً معتدلَ القامة، وهذا قول ابن عباس من طريق العوفي، وعكرمة من طريق عمارة، وإبراهيم النخعي من طريق منصور، وعبد الله بن شداد وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحاك من طريق عبيد.
الثالث: الكَبَد: السماء، والمعنى: لقد خلقنا آدم في السماء، وهو قول ابن زيد.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك أنه خُلِقَ يُكابِد الأمور ويعالجها، فقوله: {فِي كَبَدٍ}معناه: في شدَّة، وإنما قلنا: ذلك أَوْلى بالصواب؛ لأن ذلك المعروف في كلامِ العرب من معاني الكَبَد، ومنه قول لَبيد بن ربيعة:
عـَين هَلاَّ بَكَيتِ أَرْبَدَ إِذْ = قُمْنَا وقَامَ الخُصُومُ في كَبَدِ
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لا
أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مَالاً لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ
نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا
مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ
الْمَشْئَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)} الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
افتتح الله -جل وعلا- هذه السورة، بالقسم بالبلد، والبلد المراد بها: البلد الحرام مكة، وقد أقسم الله -جل وعلا- بها في موضع آخر: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}.
وقوله -جل وعلا-: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إما أن يكون معناه:
وأنت حالٌ بهذا البلد؛ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى: وأنت مقيم
في هذا البلد ساكن فيه، وهو مكة، فإن القسم يزداد تأكيداً إذا قُسِمَ
بالبيت وفي محيطه أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، فكأنه قسم بأشرف الأمكنة
التي يوجد فيها أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم.
أو أن يكون معناه:{وَأَنْتَ حِلٌّ}
أي: وأنت حلال بالبيت الحرام، في وقت رفع حرمته: وهي الساعة التي أحلت
للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة، فمكة حرام بحرمة الله جل وعلا،
حرمها الله -جل وعلا- كوناً وشرعاً:
حرمها كوناً: يوم خلق السموات والأرض.
وحرمها شرعاً: على لسان إبراهيم عليه السلام، ثم أظهر ذلك -جل وعلا- على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم.
فيكون المراد هذا
إقسام بالبيت الحرام حالة كون هذا البيت حلالاً للنبي -صلى الله عليه
وسلم- قد ارتفعت فيه الحرمة، وهذا الوقت هو يوم فتح مكة، فقد أحل للنبي
-صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار؛ كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
في الصحيحين أنه قال: ((إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض)) ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار))
وعلى هذا يكون في هذه الآية بشارة ومعجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن
سورة البلد سورة نزلت بمكة بإجماع العلماء، وكون الله -جل وعلا- يقسم بهذا
البلد حالة كونه حلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولمَّا يهاجر النبي -صلى
الله عليه وسلم- بعد إلى المدينة، ولمَّا يأتي فتح مكة، فهذا آية من آيات
الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}الوالد هو: آدم عليه السلام؛ لأن منه البشر خلقه الله ثم خلق حواء منه، ثم تناسل الخلق بعد ذلك من ذكر وأنثى إلا عيسى بن مريم -عليه السلام- فمن أنثى، وهذا آية من آيات الله، وأما بقية الخلق فمن ذكر وأنثى، فقوله -جل وعلا-: {وَمَا وَلَدَ} يعني: ما خرج من صلب آدم، وتناسل إلى يوم القيامة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير.
فيكون
الله -جل وعلا- قد أقسم بأصل المكان، وأقسم بأصل السُكَّان، فالله -جل
وعلا- أقسم بأصل المكان وهي مكة؛ لأن مكة هي أم القرى، كما قال الله -جل
وعلا-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، وفي قوله -جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وأم القرى: هي مكة، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنه -: (إنها سميت بأم القرى؛ لأن الله -جل وعلا- دحا الأرض من قبلها).
وبعض التابعين يقول: (إن الله سماها بأم القرى، لأنها أول ما وضع من الأرض) والله أعلم.
وأما أصل السُكَّان:فهو إقسام بـآدم عليه السلام، وهو أصل البشر الذين يسكنون الأرض، فهذا قسم من الله -جل وعلا- بهذين الأصلين، وقسم بأشياء شريفة في هذه الآية.
والمقسم عليه قوله -جل وعلا-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}الكبد: أصله الشدة والمراد أن الله -جل وعلا- خلق الإنسان في شدة من خلقه وإتقان وإحكام، كما قال الله -جل وعلا-: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} يعني: نحن خلقناهم وشددنا خلقهم، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
ويؤيد هذا أن
الله -جل وعلا- بعد هذه الآية ذكر ترفع الإنسان وإعجابه بنفسه، فكأن الله
-جل وعلا- يقول: خلقناه فأحسنا خلقه، وأحكمناه، وشددناه، ثم بعد ذلك يظن أن
الله -جل وعلا- الذي خلقه لا يقدر عليه، وأنه لا يراه، وهذا فيه توبيخ
لهذا الإنسان الذي ظن هذا الظن السيئ.
وقوله -جل وعلا-: {أَيَحْسَبُ أَن لَن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} يعني: أيظن الإنسان أن لن يقدر عليه أحد، وقوله: {أَحَدٌ}
هذا يشمل الخلق والمخلوق، فهو يظن أن لن يقدر عليه أحد، سواء كان خالقاً
أو مخلوقاً، وقد رد الله -جل وعلا- ذلك، وبين -جل وعلا- أنه قادر:
- كما في قوله -جل وعلا-: {قُلْ
هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.
-وقال -جل وعلا- في شأن إعادة بعثه: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}.
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً}أي: أن هذا الإنسان الكافر الذي يظن أن الله -جل وعلا- لا يقدر عليه، يقول متباهياً متعاظماً: أهلكت مالاً كثيراً، لأن اللبد: هو المال، أو هو الشيء المجتمع، الذي يعلو بعضه بعضاً، كما قال الله -جل وعلا- في شأن الجن:{كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} يعني: كادوا يكونون طبقات بعضها يعلو بعضاً.
فهذا
يقول: أهلكت مالاً لبدا، يقول هذا على وجه الرياء والسمعة ومحبة المدحة من
الخلق، ورغبة في ثناء الخلق عليه، ولم يهلك هذا المال في الحق، وإنما
أهلكه في الباطل، وهذا شأن الكافر؛ لأنه كما تقدم الكافر يجمع المال ويبخل
به فيعاقبه الله -جل وعلا- عليه، وهذا جمع المال فأنفقه في غير طريقه.
ثم قال -جل وعلا-: {أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}
يعني: أيظن أنه لم يره أحد لا خالق ولا مخلوق، بلى إن الله -جل وعلا- قد
رآه، وعلم حاله، واطلع على سريرته، وعلم ما يظنه بربه من الظن السيء، وعلم
-جل وعلا- ما ينفقه من هذه النفقات التي تقع في غير وجهها، كما قال الله
-جل وعلا- مبيناً اطلاعه على ذلك:
- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}.
- {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
- {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
فأخبر -جل وعلا- أنه يعلم، وأن هذا الظن ظن باطل وسيء، لا يليق بمقام الربوبية والألوهية لله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا- مبيناً منَّته على هذا الإنسان: {أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} فقوله -جل وعلا-: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} يعني: بينا له الطريقين، طريق الخير ليسلكه، وطريق الشر ليبتعد عنه، وهذه الآية كقول الله -جل وعلا-: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وعبر الله -جل وعلا- في هذه الآية بقوله النجدين عن الطريق؛ لأن النجد هو الطريق في ارتفاع،
فلما كان الله -جل وعلا- قد بين طريق الغواية، وبين طريق الهداية بياناً
بحيث لا يخفى على من رزقه الله البصيرة، صار كالطريق المرتفع الذي يرى
رؤيةً واضحة لاغبش فيها، وهذه الآية تدل على أن الله -جل وعلا- خلق الخلق
ولم يتركهم سدى، كما ذكر الله -جل وعلا- ذلك في سورة القيامة: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} فالله -جل وعلا- ما تركه سدى؛ إنما بين له الطريقن طريق الخير وطريق الشر.
ثم قال -جل وعلا-: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: هذا الإنسان لم يقتحم العقبة؛ والاقتحام: هو الدخول في الشيء بشدة وعنف.
والعقبة: هي الطريق الوعر في الجبل.
فقوله -جل وعلا-: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}
قال بعض العلماء: هذه العقبة عقبة حقيقية في الآخرة وهي في النار، ولا
يمكن له أن يتجاوزها يوم القيامة إلا بالعمل الصالح الذي يأتي ذكره بعد
ذلك.
وبعضهم فسرها بأنها
عقبة وأنها جبل في النار كلٌ يصعده بحسب عمله، والكافر لا يستطيع أن يصعد
هذا الجبل، أو هذه العقبة؛ لأنه ليس له عمل، والمؤمنون تتفاوت أعمالهم، كما
أن الناس يتفاوتون في صعود العقبة التي تكون في الدنيا بحسب ما أوتوا من
القوة، فكذلك العقبة التي تكون في الآخرة تكون قدرتهم عليها بحسب ما هم
عليه من العمل الصالح.
وذكر بعض المفسرين-وهو الذي عليه الأكثر- أن هذا مثال ذكره الله -جل وعلا- لمجاهدة الإنسان لنفسه والشيطان والهوى في أعمال البر.
قوله:{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}بعض العلماء يقولون:
إنه على جهة المثال، كأن الله -جل وعلا- ذكر أن الشيطان والنفس الأمارة
بالسوء والهوى؛ هذه عقبة إذا عمل الإنسان عملاً صالحاً، وأتى بأعمال البر
اقتحم هذه العقبة؛ وإلا لم يقتحمها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل التفسير؛
لأن الله -جل وعلا- بين ذلك بعد، قال الله -جل وعلا-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} يعني: أن هذه العقبة أو أن اقتحام العقبة يحصل بإعتاق الرقيق، وهذا من عمل البر.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: يطعم في يوم شديد الجوع{يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} يعني: يتيماً له به قرابة.
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي:
مسكيناً شديد الجوع ليس عنده شيء؛ لأنه كالذي لصق بالتراب من شدة الجوع،
وهذا هو اقتحام العقبة الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذا، وهذا دلالة على أن
أعمال الخير التي يعملها الإنسان هي التي يحصل بها اقتحام العقبة، سواء
كانت عقبة حقيقية في الآخرة، أو كانت مثالاً في الدنيا، ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء أنه ينبغي للإنسان أن يراعي الأقرب في النفقة قبل الأبعد، لأن الله -جل وعلا- قال: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} فهذا في القريب، ثم قال:{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} وهذا في البعيد.
وهذا - مراعاة الأقرب - هو الذي دلت عليه النصوص الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
يعني: أن هذا الإنسان ما اقتحم العقبة، ولا كان من الذين آمنوا وتواصوا
بالصبر وتواصوا بالمرحمة، فهذا الإنسان قد تخلى عن الإيمان، وتخلى عن
التواصي، كما أنه لم يقتحم العقبة بفعل البر، فاجتمعت فيه هذه الصفات.
أما
لو أنه اقتحم العقبة، وآمن بالله -جل وعلا- وتواصى بالصبر مع إخوانه،
بمعنى أن المسلم يوصي أخاه المسلم بالصبر على طاعة الله، والصبر على أقدار
الله، والصبر عن معاصي الله، وتواصى مع إخوانه بالمرحمة، أي: وصى بعضهم
بعضاً بأن يتراحموا فيما بينهم، لو كان كذلك لكان من أصحاب الميمنة؛ لأن
هذه الصفات من صفات أصحاب الميمنة.
قال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}
يعني: الذين اقتحموا العقبة بعمل البر وآمنوا بالله -جل وعلا- وتواصوا
بالصبر وتواصوا بالمرحمة؛ هم الذين يصيرون يوم القيامة أصحاب الميمنة،
وينجون من عذاب الله، ويفوزون برضاه.
والميمنة هذه يعني: يكون من أصحاب الميمنة يوم القيامة الذين ذكرهم الله -جل وعلا- في سورة الواقعة: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} يعني: وما أدراك ما أصحاب الميمنة وما شأنهم، بين مصيرهم بعد ذلك في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} إلى آخر الآيات.
وهنا استشكال استشكله بعض العلماء وهو أن الله -جل وعلا- قال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}والإيمان مقدم على العمل
فلا يُقبل من أحد عمل إلا بإيمان، وهنا قدم الأعمال، قدم فك الرقبة، وقدم
الإطعام على الإيمان، ثم جاء بالإيمان، وجاء به بصيغة التراخي: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وقد أجاب العلماء عن هذا: بأن هذا من باب الترتيب الذكري، يعني: ثم اذكر يا محمد أنه كان من الذين آمنوا.
وبعضهم يقول: إن الله -جل وعلا- جاء بـ(ثم)
الدالة على التراخي ليبين التباعد الكبير بين فك الرقبة والإطعام مقارنة
بالإيمان؛ لأن الإيمان هو الأصل، وهناك مسافة كبيرة بين الإيمان وبين
الإطعام؛ لأن الإيمان بالله ينبني عليه غيره، وأما الإنسان لو ترك الإطعام
وفك الرقاب فهذا لا ينتقض إيمانه، أما لو أطعم وفك الرقاب وهو ليس بمؤمن
فلا يقبل منه.
ومن هذه الآية استنبط العلماء شرطاً من شروط العمل الصالح وهو الإيمان، شرط من شروط قبول العمل وهو الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}فقال بعض العلماء: هذا يدل على أنه لا بد أن يكون العمل مبنياً على عقيدة صحيحة، وهو أول شروط قبول العمل أن يكون مبنياً على عقيدة صحيحة، وهذا كرره الله -جل وعلا- في مواضع من كتابه:
- {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فدل على أن الكافر لو عمل صالحاً لا يقبل منه:
-وقال -جل وعلا-: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}.
-وقال -جل وعلا-: {مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
فجعل الله -جل وعلا- الإيمان شرطاً لقبول العمل.
ثم الشرط الثاني الذي يليه: إخلاص العمل لله؛
لأن الإيمان بالله أعم من إخلاص العمل لله؛ لأن الإنسان قد يكون ذا عقيدة
صحيحة، ولكن يقع منه عمل لم يخلص فيه لله جل وعلا، فلا بد أن يكون مخلصاً
لله؛ كما قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي}، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
والشرط الثالث: أن يكون متابعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا طريق إلى الله إلا عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذه شروط قبول العمل الثلاثة، والآية اشتملت على أحدها وهي الإيمان بالله جل وعلا.
كما استدل العلماء بهذه الآية: على
أن رحمة المؤمنين وتوصية المؤمن بما ينفعه سواء في أمر دينه أو دنياه هذه
من أسباب الفوز برضى الله جل وعلا؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} ولهذا لما بين -جل وعلا- أوصاف الذين ينجون من الخسارة يوم القيامة، ذكر -جل وعلا- أنهم يتواصون بالصبر: {وَالْعَصْرِ
(1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ (3)} وبين -جل وعلا- في صفة أوليائه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أوجب لهم جنته ذكر أن بعضهم يرحم بعضاً؛ كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ولهذا كان من آثار هذه الرحمة فيما بينهم أن يكون بعضهم ذليلاً لبعض؛ كما قال الله -جل وعلا-: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}
يعني: أن الذين كفروا بآيات الله، وجحدوها، وأعرضوا عنها وعما جاءت به
الرسل؛ هم أصحاب المشئمة، يعني: الذين حصل لهم الشؤم، وهذا الشؤم هو
الخسارة والعذاب الأليم في الدار الآخرة، وهذا الشؤم جاء نتيجة كفرهم بالله
-جل وعلا- وعصيانهم لأنبياء الله ورسله.
ثم قال -جل وعلا-: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} فقوله: {مُؤْصَدَةٌ} يعني: أن النار يوم القيامة تطبق عليهم وتغلق فلا يستطيعون الخروج منها؛ لأنهم خالدون مخلدون في النار، كما تقدم بيان ذلك عند قوله -جل وعلا-:{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}.
تفسير سورة البلد
تفسير قول الله تعالى : ( لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حل بهذا البلد )
أقوال السلف في معنى كلمة (حِلٌّ)
تفسير قول الله تعالى: ( ووالد وما ولد )
أقوال السلف في تفسير هذه الآية
تفسير قول الله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) تفسير قول الله تعالى: ( وما أدراك ما العقبة ) تفسير قول الله تعالى : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ) تفسير قول الله تعالى : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) وجه استنباط أحد شروط قبول العمل وهو الإيمان من هذه الآية تفسير قول الله تعالى: ( والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة، عليهم نار مؤصدة )
أقوال السلف في تفسير الكَبَدِ
أنواع الكَبَدِ بالنسبة للإنسان
تفسير قول الله تعالى: ( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد )
تفسير قول الله تعالى: ( يقول أهلكت مالاً لبداً )
تفسير قول الله تعالى: ( أيحسب أن لم يره أحد )
تفسير قول الله تعالى: ( ألم نجعل له عينين ، ولساناً وشفتين )
تفسير قول الله تعالى: ( وهديناه النجدين )
قول آخر للسلف في تفسير النجدين
تفسير قول الله تعالى: ( فلا اقتحم العقبة )
الأقوال في قوله تعالى : ( فلا اقتحم العقبة )
القراءات في قوله تعالى: (فك رقبة)
تفسير قول الله تعالى: ( أولئك أصحاب الميمنة )
الأسئلة
س1: هل سورة البلد مكية أم مدنية ؟
س2: بين ما يفيده تركيب القَسَم بصيغة {لا أُقْسِمُ}.
س3: ما المراد بالبلد؟
س4: فسِّر باختصار قول الله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}.
س5: اذكر القولين في معنى "ما" في قوله تعالى: {وَمَا وَلَدَ} مع بيان أثر الاختلاف على المعنى.
س6: عرف القسم لغةً، وبين جواب القسم في هذه السورة.
س7: اذكر أقوال العلماء في تفسير قول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}مع الترجيح.
س8:
بين معاني الكلمات التالية: حِلٌّ، كَبَد، أهلكتُ، لُبداً، هديناه،
النَّجدين، اقتحم، العقبة، فكُّ رقبة، مسغبة، متربة، الميمنة، مؤصدة،
المشئمة.
س9: فسِّر الآيات الكريمة السابقة تفسيراً إجمالياً.
س10: الإيمان شرط لقبول العمل، دلل لهذه العبارة من الآيات التي درستها.
س11: عرِّف الأعمال الصالحة.
س12: من الحقائق التي ينبغي للعبد استحضارها مآل الفريقين: الطائعين والعصاة، تحدث باختصار عن أهمية هذا الأمر وأثره على سلوك العبد.
س13: عدِّد أنواع الصبر.
س14: من محاسن الدين الإسلامي أنه دين الرحمة، بيِّن ما يدل على صحة هذه العبارة من الآيات التي درستها، ثم اشرح هذه العبارة بإيجاز.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة البلد وهي مكّيّةٌ.
هذا قسمٌ من الله عزّ وجلّ بمكّة أمّ القرى في حال كون الساكن فيها حلالاً؛ لينبّه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
قال خصيفٌ، عن مجاهدٍ: {لا أقسم بهذا البلد}: {لا} ردٌّ عليهم؛ أقسم بهذا البلد.
وقال شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {لا أقسم بهذا البلد} يعني: مكّة.
{وأنت حلٌّ بهذا البلد} قال: أنت يا محمد يحلّ لك أن تقاتل به.
وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، وأبي صالحٍ، وعطيّة، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وابن زيدٍ.
وقال مجاهدٌ: ما أصبت فيه فهو حلالٌ لك.
وقال قتادة: {وأنت حلٌّ بهذا البلد} قال: أنت به من غير حرجٍ، ولا إثمٍ.
وقال الحسن البصريّ: أحلّها الله له ساعةً من نهارٍ. وهذا المعنى الذي قالوه قد ورد به الحديث المتّفق على صحّته: ((إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، وإنّما أحلّت لي ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب)).
وفي لفظٍ: ((فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله فقولوا: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم)) .
وقوله: {ووالدٍ وما ولد} قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا ابن عطيّة، عن شريكٍ، عن خصيفٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ووالدٍ وما ولد}: الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.
ورواه ابن أبي حاتمٍ من حديث شريكٍ - وهو ابن عبد الله القاضي- به، وقال عكرمة: الوالد: العاقر، وما ولد: الذي يلد. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال مجاهدٌ، وأبو صالحٍ، وقتادة، والضحّاك، وسفيان الثّوريّ، وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ، والحسن البصريّ، وخصيفٌ، وشرحبيل بن سعدٍ وغيرهم: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهدٌ وأصحابه حسنٌ قويٌّ؛ لأنه تعالى لمّا أقسم بأمّ القرى، وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.
وقال أبو عمران الجونيّ: هو إبراهيم وذرّيته. رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، واختار ابن جريرٍ أنه عامٌّ في كلّ والدٍ وولده. وهو محتملٌ أيضاً.
وقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} روي عن ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وعكرمة، ومجاهدٍ، وإبراهيم النّخعيّ، وخيثمة، والضّحّاك، وغيرهم: يعني: منتصباً. زاد ابن عبّاسٍ في روايةٍ عنه: منتصباً في بطن أمّه.
والكبد: الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويًّا مستقيماً، كقوله: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الّذي خلقك فسوّاك فعدلك}، وكقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ}.
وقال ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {في كبدٍ} قال: في شدّة خلقٍ، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه.
وقال مجاهدٌ: {في كبدٍ}: نطفةً، ثمّ علقةً، ثمّ مضغةً، يتكبّد في الخلق.
قال مجاهدٌ: وهو كقوله: {حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً}. وأرضعته كرهاً، ومعيشته كرهٌ، فهو يكابد ذلك.
وقال سعيد بن جبيرٍ: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} في شدّةٍ وطلب معيشةٍ.
وقال عكرمة: في شدّةٍ وطولٍ.
وقال قتادة: في مشقّةٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن عصامٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، أخبرنا عبد الحميد بن جعفرٍ، سمعت محمد بن عليٍّ أبا جعفرٍ الباقر سأل رجلاً من الأنصار عن قول الله: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} قال: في قيامه واعتداله، فلم ينكر عليه أبو جعفرٍ.
وروى من طريق أبي مودودٍ: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} قال: يكابد أمراً من أمر الدنيا، وأمراً من أمر الآخرة. وفي روايةٍ: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
وقال ابن زيدٍ: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} قال: آدم خلق في السماء، فسمّي ذلك الكبد.
واختار ابن جريرٍ أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقّها.
وقوله: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} قال الحسن البصريّ: يعني: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} يأخذ ماله.
وقال قتادة: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} قال: ابن آدم يظنّ أن لن يسأل عن هذا المال؛ من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟.
وقال السّدّيّ: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} قال: الله عزّ وجلّ.
وقوله: {يقول أهلكت مالاً لبداً} أي: يقول ابن آدم: أنفقت مالاً لبداً، أي: كثيراً. قاله مجاهدٌ، والحسن، وقتادة، والسّدّيّ وغيرهم.
{أيحسب أن لم يره أحدٌ} قال مجاهدٌ: أيحسب أن لم يره الله عزّ وجلّ، وكذا قال غيره من السلف.
وقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين} أي: يبصر بهما.
{ولساناً} أي: ينطق به فيعبّر عمّا في ضميره، {وشفتين} يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الرّبيع الدّمشقيّ، عن مكحولٍ، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((يقول الله تعالى: يا بن آدم، قد أنعمت عليك نعماً عظاماً لا تحصي عددها، ولا تطيق شكرها، وإنّ ممّا أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاءً، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرّمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما. وجعلت لك لساناً، وجعلت له غلافاً، فانطق بما أمرتك وأحللت لك، فإن عرض عليك ما حرّمت عليك فأغلق عليك لسانك.
وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً، فأصب بفرجك ما أحللت لك، فإن عرض عليك ما حرّمت عليك فأرخ عليك سترك. يا بن آدم، إنّك لا تحمل سخطي، ولا تطيق انتقامي)) .
{وهديناه النّجدين} الطريقين. قال سفيان الثّوريّ: عن عاصمٍ، عن زرٍّ، عن عبد الله - هو ابن مسعودٍ-: {وهديناه النّجدين} قال: الخير والشرّ. وكذا روي عن عليٍّ، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعكرمة، وأبي وائلٍ، وأبي صالحٍ، ومحمد بن كعبٍ، والضّحّاك، وعطاءٍ الخراسانيّ في آخرين.
وقال عبد الله بن وهبٍ: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن سنان بن سعدٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((هما نجدان، فما جعل نجد الشّرّ أحبّ إليكم من نجد الخير؟)).
تفرّد به سنان بن سعدٍ، ويقال: سعد بن سنانٍ، وقد وثّقه ابن معينٍ، وقال الإمام أحمد والنّسائيّ والجوزجانيّ: منكر الحديث.
وقال أحمد: تركت حديثه لاضطرابه، وروى خمسة عشر حديثاً منكرةً كلّها، ما أعرف منها حديثاً واحداً، يشبه حديثه حديث الحسن - يعني: البصريّ - لا يشبه حديث أنسٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، قال: سمعت الحسن يقول: {وهديناه النّجدين} قال: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: ((يا أيّها النّاس إنّهما النّجدان؛ نجد الخير، ونجد الشّرّ، فما جعل نجد الشّرّ أحبّ إليكم من نجد الخير؟)).
وكذا رواه حبيب بن الشّهيد، ويونس بن عبيدٍ، وأبو وهبٍ، عن الحسن مرسلاً، وهكذا أرسله قتادة. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن عصامٍ الأنصاريّ، حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، حدّثنا عيسى بن عقالٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وهديناه النّجدين} قال: الثّديين.
وروي عن الرّبيع بن خثيمٍ، وقتادة، وأبي حازمٍ مثل ذلك، ورواه ابن جريرٍ، عن أبي كريبٍ، عن وكيعٍ، عن عيسى بن عقالٍ به، ثمّ قال: والصواب القول الأوّل.
ونظير هذه الآية قوله: {إنّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}.
قال ابن جريرٍ: حدّثني عمر بن إسماعيل بن مجالدٍ، حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطيّة، عن ابن عمر في قوله: {فلا اقتحم العقبة} قال: جبلٌ في جهنّم آزلٌ.
وقال كعب الأحبار: {فلا اقتحم العقبة} هو سبعون درجةً في جهنّم.
وقال الحسن البصريّ: {فلا اقتحم العقبة} قال: عقبةٌ في جهنّم.
وقال قتادة: إنها عقبةٌ قحمةٌ شديدةٌ، فاقتحموها بطاعة الله تعالى.
وقال قتادة: {وما أدراك ما العقبة} ثمّ أخبر عن اقتحامها فقال: {فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ}.
وقال ابن زيدٍ: {فلا اقتحم العقبة} أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير، ثمّ بيّنها فقال تعالى: {وما أدراك ما العقبة فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ}.
قرئ: {فكّ رقبةٍ} بالإضافة، وقرئ على أنه فعلٌ، وفيه ضمير الفاعل، والرّقبة مفعوله، وكلتا القراءتين معناهما متقاربٌ.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، حدّثنا عبد الله - يعني: ابن سعيد بن أبي هندٍ - عن إسماعيل بن أبي حكيمٍ مولى آل الزّبير، عن سعيد ابن مرجانة، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكلّ إربٍ منها إرباً من النّار، حتّى إنّه ليعتق باليد اليد، وبالرّجل الرّجل، وبالفرج الفرج)). فقال عليّ بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيدٌ: نعم. فقال عليّ بن الحسين لغلامٍ له أفره غلمانه: ادع مطرّفاً. فلمّا قدم بين يديه قال: اذهب فأنت حرٌّ لوجه الله.
وقد رواه البخاريّ، ومسلمٌ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ عن سعيد ابن مرجانة به، وعند مسلمٍ أن هذا الغلام الذي أعتقه عليّ بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة الآف درهمٍ.
وقال قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي نجيحٍ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ((أيّما مسلمٍ أعتق رجلاً مسلماً فإنّ الله جاعلٌ وقاء كلّ عظمٍ من عظامه عظماً من عظام محرّره من النّار، وأيّما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً فإنّ الله جاعلٌ وقاء كلّ عظمٍ من عظامها عظماً من عظامها من النّار)).
رواه ابن جريرٍ هكذا. وأبو نجيحٍ هذا هو عمرو بن عبسة السّلميّ رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا حيوة بن شريحٍ، حدّثنا بقيّة، حدّثني بحير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرّة، عن عمرو بن عبسة، أنه حدّثهم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من بنى مسجداً ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتاً في الجنّة، ومن أعتق نفساً مسلمةً كانت فديته من جهنّم، ومن شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)).
طريقٌ أخرى: قال أحمد: حدّثنا الحكم بن نافعٍ، حدّثنا حريزٌ، عن سليم بن عامرٍ، أن شرحبيل بن السّمط، قال لعمرو بن عبسة: حدّثنا حديثاً ليس فيه تزيّدٌ ولا نسيانٌ. قال عمرٌو: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((من أعتق رقبةً مسلمةً كانت فكاكه من النّار عضواً بعضوٍ، ومن شاب شيبةً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهمٍ فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبةٍ من بني إسماعيل)).
وروى أبو داود والنّسائيّ بعضه.
طريقٌ أخرى:
قال أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا الفرج، حدّثنا لقمان، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السّلميّ: قلت له: حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليس فيه انتقاصٌ، ولا وهمٌ. قال: سمعته يقول: ((من ولد له ثلاثة أولادٍ في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنّة بفضل رحمته إيّاهم، ومن شاب شيبةً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ به العدوّ أصاب أو أخطأ، كان له عتق رقبةٍ، ومن أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكلّ عضوٍ منه عضواً منه من النّار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإنّ للجنّة ثمانية أبوابٍ، يدخله الله من أيّ بابٍ شاء منها)).
وهذه أسانيد جيّدةٌ قويّةٌ ولله الحمد.
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا عيسى بن محمدٍ الرّمليّ، حدّثنا ضمرة، عن ابن أبي عبلة، عن الغريف بن الدّيلميّ، قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدّثنا حديثاً ليس فيه زيادةٌ ولا نقصانٌ. فغضب وقال: إنّ أحدكم ليقرأ، ومصحفه معلّقٌ في بيته فيزيد وينقص. قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صاحبٍ لنا قد أوجب - يعني: النار - بالقتل، فقال: ((أعتقوا عنه يعتق الله بكلّ عضوٍ منه عضواً من النّار)).
وكذا رواه النّسائيّ من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عيّاشٍ الدّيلميّ، عن واثلة به.
حديثٌ آخر: قال أحمد: حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا هشامٌ، عن قتادة، عن قيسٍ الجذاميّ، عن عقبة بن عامرٍ الجهنيّ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من أعتق رقبةً مسلمةً فهو فداؤه من النّار)).
وحدّثنا عبد الوهّاب = الخفاف، عن سعيدٍ، عن قتادة، قال: ذكر أنّ قيساً الجذاميّ حدّث عن عقبة بن عامرٍ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من أعتق رقبةً مؤمنةً فهي فكاكه من النّار)).
تفرّد به أحمد من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا: حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن البجليّ من بني بجيلة، من بني سليمٍ، عن طلحة، قال أبو أحمد: حدّثنا طلحة بن مصرّفٍ، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازبٍ، قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، علّمني عملاً يدخلني الجنّة. فقال: ((لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النّسمة، وفكّ الرّقبة)) فقال: يا رسول الله، أو ليستا بواحدةٍ؟
قال: ((لا؛ إنّ عتق النّسمة أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرّقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرّحم الظّالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظّمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلاّ من الخير)) .
وقوله: {أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ} قال ابن عبّاسٍ: ذي مجاعةٍ. وكذا قال عكرمة، ومجاهدٌ، والضحّاك، وقتادة، وغير واحدٍ. والسّغب: هو الجوع.
وقال إبراهيم النّخعيّ: في يومٍ، الطعام فيه عزيزٌ.
وقال قتادة: في يومٍ يشتهى فيه الطعام.
قوله: {يتيماً} أي: أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً {ذا مقربةٍ} أي: ذا قرابةٍ منه. قاله ابن عبّاسٍ، وعكرمة، والحسن، والضّحّاك، والسّدّيّ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد.
حدّثنا يزيد، أخبرنا هشامٌ، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامرٍ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((الصّدقة على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرّحم اثنتان: صدقةٌ وصلةٌ)). وقد رواه التّرمذيّ والنّسائيّ، وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وقوله: {أو مسكيناً ذا متربةٍ} أي: فقيراً مدقعاً لاصقاً بالتراب، وهو الدّقعاء أيضاً.
قال ابن عبّاسٍ: {ذا متربةٍ} هو المطروح في الطريق، الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب.
وفي روايةٍ: وهو الذي لصق بالدّقعاء؛ من الفقر والحاجة، ليس له شيءٌ.
وفي روايةٍ عنه: هو البعيد التّربة.
قال ابن أبي حاتمٍ: يعني: الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عبّاسٍ، وسعيدٌ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان: هو ذو العيال. وكلّ هذه قريبة المعنى.
وقوله: {ثمّ كان من الّذين آمنوا} أي: ثمّ هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمنٌ بقلبه، محتسبٌ ثواب ذلك عند الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكوراً}.
وقال: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ} الآية.
وقوله: {وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة} أي: كان من المؤمنين العاملين صالحاً، المتواصين بالصبر على أذى الناس، وعلى الرحمة بهم، كما جاء في الحديث: ((الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء)). وفي الحديث الآخر: ((لا يرحم الله من لا يرحم النّاس)).
وقال أبو داود: حدّثنا ابن أبي شيبة، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن ابن عامرٍ، عن عبد الله بن عمرٍو يرويه، قال: ((من لم يرحم صغيرنا ويعرف حقّ كبيرنا فليس منّا)) .
وقوله: {أولئك أصحاب الميمنة} أي: المتّصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.
ثمّ قال: {والّذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة} أي: أصحاب الشّمال.
{عليهم نارٌ مؤصدةٌ} أي: مطبقةٌ عليهم، فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها.
قال أبو هريرة، وابن عبّاسٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ، ومحمد بن كعبٍ القرظيّ، وعطيّة العوفيّ، والحسن، وقتادة، والسّدّيّ: {مؤصدةٌ} أي: مطبقةٌ.
قال ابن عبّاسٍ: مغلقة الأبواب.
وقال مجاهدٌ: أصد الباب بلغة قريشٍ، أي: أغلقه. وسيأتي في ذلك حديثٌ في سورة {ويلٌ لكلّ همزةٍ لمزةٍ}.
وقال الضّحّاك: {مؤصدةٌ} حيطٌ لا باب له.
وقال قتادة: {مؤصدةٌ} مطبقةٌ، لا ضوء فيها، ولا فرج، ولا خروج منها آخر الأبد.
وقال أبو عمران الجونيّ: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكلّ جبّارٍ، وكلّ شيطانٍ، وكلّ من كان يخاف الناس في الدنيا شرّه، فأوثقوا بالحديد، ثمّ أمر بهم إلى جهنّم، ثمّ أوصدوها عليهم. أي: أطبقوها. قال: فلا والله لا تستقرّ أقدامهم على قرارٍ أبداً، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبداً، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نومٍ أبداً، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شرابٍ أبداً. رواه ابن أبي حاتمٍ.
آخر تفسير سورة البلد، ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/402-409]