22 Oct 2008
{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
(15-20) {
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
يخبرُ تعالَى عنْ طبيعةِ الإنسانِ منْ حيثُ هوَ،وأنَّهُ جاهلٌ ظالمٌ، لا علمَ لهُ بالعواقبِ، يظنُ الحالةَ التي تقعُ فيهِ تستمرُ ولا تزولُ، ويظنُّ أنَّ إكرامَ اللهِ في الدنيا وإنعامَهُ عليه يدلُّ على كرامتهِ عندهُ وقربه منهُ، وأنَّهُ إذا {قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي: ضيَّقهُ، فصارَ بقدرِ قوتهِ لا يفضلُ منهُ، أن هذا إهانةٌ منَ اللهِ لهُ، فردَّ اللهُ عليهِ هذا الحسبانَ: بقولهِ {كَلاَّ} أي: ليسَ كلُّ منْ نعَّمْتُهُ في الدنيا فهوَ كريمٌ عليَّ، ولا كلُّ مَنْ قدَرتُ عليهِ رزقهُ فهوَ مهانٌ لديَّ، وإنَّمَا الغنى والفقرُ، والسعةُ والضيقُ ابتلاءٌ منَ اللهِ، وامتحانٌ يمتحنُ بهِ العبادَ، ليرى مَنْ يقومُ لهُ بالشكرِ والصبرِ، فيثيبُهُ على ذلكَ الثوابَ الجزيلَ، ممنْ ليسَ كذلكَ فينقلهُ إلى العذابِ الوبيلِ.
وأيضاً
فإنَّ وقوفَ همّةِ العبدِ عندَ مرادِ نفسهِ فقطْ، منْ ضعفِ الهمةِ، ولهذا
لامَهمُ اللهُ على عدمِ اهتمامِهمْ بأحوالِ الخلقِ المحتاجينَ، فقالَ: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الذي فقدَ أباهُ وكاسبَهُ، واحتاجَ إلى جبرِ خاطرهِ والإحسانِ إليهِ. فأنتمْ لا تكرمونهُ بلْ تهينونَهُ، وهذا يدلُّ علَى عدمِ الرحمةِ في قلوبكمْ، وعدمِ الرغبةِ في الخيرِ. {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (21-30) {كَلَّا
إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}. {كَلاَّ} أي: ليسَ ما أحببتمْ منَ الأموالِ، وتنافستمْ فيهِ منَ اللذاتِ، بباقٍ لكمْ،بلْ أمامكمْ يومٌ عظيمٌ، وهولٌ جسيمٌ، تُدكُّ فيهِ الأرضُ والجبالُ وما عليهَا حتى تُجعلَ قاعاً صفصفاً لا عوجَ فيهِ ولا أمت. ويجيءُ
اللهُ تعالَى لفصلِ القضاءِ بينَ عبادِهِ في ظللِ منَ الغمامِ، وتجيءُ
الملائكةُ الكرامُ، أهلُ السماواتِ كلهمْ، صفّاً صفّاً أي: صفّاً بعدَ
صفٍّ، كلُّ سماءٍ يجيءُ ملائكتهَا صفّاً، يحيطونَ بمنْ دونهمْ منَ الخلقِ،
وهذهِ الصفوفُ صفوفُ خضوعٍ وذلٍّ للملكِ الجبارِ، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} تقودُهَا الملائكةُ بالسلاسلِ. فإذا وقعتْ هذهِ الأمورُ فـ{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} مَا قدَّمَهُ مِنْ خيرٍ وشرٍّ. {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} فقدْ فاتَ أوانُهَا، وذهبَ زمانُهَا، {يَقُولُ} متحسِّراً على ما فرَّطَ في جنبِ اللهِ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}الدائمةِ الباقيةِ، عملاً صالحاً، كمَا قالَ تعالَى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}. وفي الآيةِ دليلٌ على
أنَّ الحياةَ التي ينبغي السعيُ في أصلهَا وكمالهَا، وفي تتميمِ لذّاتهَا،
هيَ الحياةُ في دارِ القرارِ، فإنَّهَا دارُ الخلدِ والبقاءِ. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}لمنْ أهملَ ذلكَ اليومَ ونسيَ العملَ لهُ. {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} فإنَّهمْ يقرنونَ بسلاسلٍ منْ نارٍ، ويسحبونَ على وجوههمْ في الحميمِ، ثمَّ في النارِ يسجرونَ، فهذا جزاءُ المجرمينَ. وأمَّا مَنْ اطمأنَ إلى اللهِ وآمنَ بهِ وصدقَ رسلهُ،فيقالُ لهُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إلى ذكرِ اللهِ، الساكنةُ حبِّهِ، التي قرَّتْ عينهَا باللهِ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} الذي ربّاكِ بنعمتهِ، وأسدى عليكِ منْ إحسانهِ ما صرتِ بهِ منْ أوليائهِ وأحبابهِ {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي: راضيةً عنِ اللهِ، وعنْ مَا أكرمَهَا بهِ منَ الثوابِ، واللهُ قدْ رضيَ عنهَا. {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}
أي:
لا يحضُّ بعضُكمْ بعضاً على إطعامِ المحاويجِ منَ المساكينِ والفقراءِ،
وذلكَ لأجلِ الشُّحِّ على الدنيا ومحبتهَا الشديدةِ المتمكنةِ مِنَ
القلوبِ، ولهذا قالَ: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} أي: المالَ المخلفَ {أَكْلاً لَمًّا} أي: ذريعاً، لا تبقونَ على شيءٍ منهُ.
أي: كثيراً شديداً، وهذا كقولهِ تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}.
وهذا تخاطبُ بهِ الروحُ يومَ القيامةِ، وتخاطبُ بهِ في حالِ الموتِ .
15- {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ}: امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ بالنِّعَمِ، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ}؛ أَيْ: أَكْرَمَهُ بِالْمَالِ وَوَسَّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}:
اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الكَرامةُ؛ فَرَحاً بِمَا نَالَ، وَسُرُوراً
بِمَا أُعْطِيَ غَيْرَ شَاكِرٍ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلا خَاطِرٍ
بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ لَهُ مِنْ رَبِّهِ.
16- {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ}؛أَي: اخْتَبَرَهُ وَامْتَحَنَهُ، {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}؛ أَيْ: ضَيَّقَهُ وَلَمْ يُوَسِّعْهُ لَهُ، وَلا بَسَطَ لَهُ فِيهِ، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}؛
أَيْ: أَوْلانِي هَوَاناً،وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ الَّذِي لا يُؤْمِنُ
بِالْبَعْثِ؛لأَنَّهُ لا كَرَامَةَ عِنْدَهُ إِلاَّ الدُّنْيَا
والتَّوَسُّعُ فِي مَتَاعِهَا، وَلا إِهَانَةَ عِنْدَهُ إِلاَّ فَوْتُهَا
وَعَدَمُ وُصُولِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ منْ زِينَتِهَا، فَأَمَّا
الْمُؤْمِنُ فالكرامةُ عِنْدَهُ أَنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ،
وَيُوَفِّقَهُ لِعَمَلِ الآخِرَةِ، والإهانةُ عِنْدَهُ أَلاَّ يُوَفِّقَهُ
اللَّهُ للطَّاعَةِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ سَعَةُ
الدُّنْيَا كَرَامَةً، وَلَيْسَ ضِيقُهَا إِهَانَةً، وَإِنَّمَا الغِنَى
اخْتِبَارٌ للغَنِيِّ هَلْ يَشْكُرُ، وَالفَقْرُ اخْتِبَارٌ لَهُ هَلْ
يَصْبِرُ.
17- {كَلاَّ}: رَدْعٌ للإنسانِ الْقَائِلِ فِي الحَالَتَيْنِ مَا قَالَ, وَزَجْرٌ لَهُ، {بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} بِمَا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الغِنَى، وَلَوْ أَكْرَمْتُمُوهُ لَكَانَ ذَلِكَ لَكُمْ كَرَامَةً عِنْدَ اللَّهِ.
18- {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}؛
أَيْ: لا تَحُضُّونَ أَنْفُسَكُمْ، أَوْ لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
عَلَى ذَلِكَ، وَلا يَأْمُرُ بِهِ، وَلا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَيَبْقَى
مَغْلُوباً مَقْهُوراً بَيْنَكُمْ، لا تُمَدُّ لَهُ يَدٌ بِعَوْنٍ.
19- {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}: أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، {أَكْلاً لَمًّا}؛ أَيْ: أَكْلاً شَدِيداً.
21- {كَلاَّ}؛ أَيْ: مَا هكذا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ، {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} الدَّكُّ: الكَسْرُ وَالدَّقُّ؛ زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكاً بَعْدَ تَحْرِيكٍ، أَوْ دُكَّتْ جِبَالُهَا حَتَّى اسْتَوَتْ.
22- {وَجَاءَ رَبُّكَ} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}؛ أَيْ: جَاؤُوا مُصْطَفِّينَ صُفُوفاً.
23- {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} مَزْمُومَةً وَالْمَلائِكَةُ يَجُرُّونَهَا، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ}: يَنْدَمُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ فِي الدُّنْيَا من الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}؛ أَيْ: وَإِنَّمَا كَانَتْ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى لَوْ تَذَكَّرَ الْحَقَّ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ.
25- {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}؛ أَيْ: لا يُعَذِّبُ كَعَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ.
26- {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}؛ أَيْ: وَلا يُوثِقُ الْكَافِرَ بالسلاسلِ والأغلالِ كَوَثَاقِ اللَّهِ أَحَدٌ.
27- {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}:
المُوقِنَةُ بالإيمانِ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ، لا يُخَالِطُهَا شَكٌّ وَلا
يَعْتَرِيهَا رَيْبٌ، قَدْ رَضِيَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ
مَا أَخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَهَا لَمْ
يَكُنْ لِيُخْطِئَهَا، فَتَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مُطْمَئِنَّةً؛لأَنَّهَا قَدْ بُشِّرَتْ بالجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
وَعِنْدَ الْبَعْثِ.
28- {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} بالثَّوَابِ الَّذِي أَعْطَاكِ، {مَرْضِيَّةً} عِنْدَهُ.
29- {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}؛ أَيْ: فِي زُمْرَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ، وَكُونِي مِنْ جُمْلَتِهِمْ.
30 - {وَادْخُلِي جَنَّتِي} مَعَهُمْ؛ أَيْ: فَتِلْكَ هِيَ الكرامةُ، لا كَرَامَةَ سِوَاهَا.
المتن :
15- 16قولُه تعالى: {فَأَمَّا
الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} لما ذكرَ الله
أنه أوقعَ العذابَ بهذه الأممِ الكافرةِ التي كانت في مَنَعَةٍ وقوَّة،
نبَّهَ على اعتقادٍ خاطئٍ عند الناس، وهو أن التوسِعَةَ على العبد في
الرِّزق دليلٌ على تكريمِ اللهِ له، وأن التضييقَ عليه في الرزق دليلٌ على
غضبِ الله عليه، وهذا المفهومُ مما يقعُ فيه الإنسانُ الكافر(1) الذي إذا امتَحَنَه ربُّه المنعِمُ عليه، فأنعمَ عليه بالمال، ووسَّعَ عليه، فَرِحَ وجعلَ هذا دليلاً على رضا الله عنه، ومحبتِه له.
وأما إذا ما امتحنه فضيَّق عليه في الإنعام، وجعله فقيراً، فإنه يجعلُ ذلك دليلاً على إذلالِ الله له، وعدم محبَّته له.
17-20قولُه تعالى: {كَلاَّ
بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي: ليس الأمرُ كما يعتقدُ هذا الكافر في دليل إكرامِ الله وإهانته(2)،
ولكنَّكم لا تنفعونَ من ماتَ عنه أبوه وهو دون سِنِّ البلوغ، فتُنعِمون
عليه بإعطائه مما أعطاكم الله، ولا يَحُثُّ بعضُكم بعضاً على إعطاء الطعام
لمن أصابته الفاقة والمسْكَنة، وأنتم تأخذونَ ما يرِثُه مع ما ترِثونَه
أخذاً بالباطل، فتأكُلونه جميعاً(3)، وتحرِصونَ على جمع المال وتحبُّونَهُ حُبَّاً كثيراً شديداً.
21- 23 قولُه تعالى: {كَلاَّ
إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ليس الأمرُ كما
تتعاملونَ به في هذه الأعمالِ المذكورة، ثم أخبرَ عن أسَفِهِم على هذه
الأعمالِ القبيحةِ إذا دُكَّتِ الأرضُ دكَّاً دكَّاً وما بعدَها من
الأهوال، فإنهم يتذكرونَ حين لا ينفعهم التذكُّر.
فقال: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} أي: حُطِّمَتِ الأرضُ وضُرِبَ بعضُها ببعض، وجاء الربُّ سبحانَه مجيئاً يليقُ بجلاله وعَظَمَتِه،
وملائكته في هذه الحال يقفونَ صفوفاً تعظيماً له، وجاءت ملائكةُ العذاب
يومَ أنْ دُكَّتِ الأرضُ وجاء الربُّ، جاءوا بجهنَّم يجرُّونها لها سبعونَ
ألفَ زِمام، لكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها، فعند ذلك يتَّعِظُ
الإنسان ويتنبَّه إلى ما كان عليه من الضلال، ولكن لا ينفعه هذا التذكُّر
والاتِّعاظ؛ فكيف تنفعُه الذكرى وهي ليست في وقتها؟.
24-قولُه تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}
أي: لما عاين هذا الإنسان المفرط هذه الأمور، يقول متمنِّياً: يا ليتني
قدَّمتُ عملاً صالحاً لحياتي الآخرةِ الباقيةِ التي لا موتَ بعدَها.
25- 26 قولُه تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي: ففي هذا اليوم لا أحدَ يُعذِّب في الدنيا كعذابِ الله للكافر، ولا أحدَ يُقَيِّد بالرباط في الدنيا كتقييدِ الله للكافر(4)، وهذا لشدَّة عذابِهم.
27-30 قولُه تعالى: {يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي
جَنَّتِي} أي: تُنادى هذه النفوسُ التي هدأت وسَكَنَت إلى وَعْدِ الله لها(5): ارجعي إلى خالقِكِ(6) راضيةً بما قَسَمَ اللهُ لك، مرضيّاً عنكِ من الله، فادخلي في عبادي الصالحين(7)؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}، وادخُلي في جنَّتي التي وعدتُّكِ بها في الآخرة، والله أعلم.
الحاشية :
(1)
هذا بالنظر إلى أن لفظَ الإنسانِ في القرآن المكيِّ للكافر، ولكن يدخلُ
معه من ضَعُفَ إيمانه من المسلمين، واعتقدَ هذا المُعْتَقَدَ، وكذا كلُّ
وَصْفٍ اتَّصَفَ به الكافر، فإن من تشبَّه به من المسلمين فإنه يدخل في
خطابه.
قال ابن عطية:
(ومن حيث كان هذا غالباً على الكفار جاء التوبيخُ في هذه الآية باسم
الجنس؛ إذ يقع بعض المؤمنين في شيءٍ من هذا المَنْزَعِ) والله أعلم. (2) قال قتادة: (ما
أسرعَ ما كفرَ ابن آدم، يقول الله جل ثناؤه: كلا أنا لا أُكْرِمُ من
أَكْرَمْتُ بكثرة الدنيا، ولا أهينُ من أهنتُ بقِلَّتِها، ولكن إنما أُكرمُ
من أَكرَمتُ بطاعتي، وأُهينُ من أهنتُ بمعصيتي).
وقد ذكر الطبري قولاً آخر، ثم قال: (وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرنا عن قتادة لدلالة قوله: {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}
والآياتِ التي بعدها على أنه إنما أهانَ من أهانَ بأنه لا يُكرِمُ
اليتيمَ، ولا يحضُّ على طعام المسكين، وفي إبانته عن السبب الذي من أجلِه
أهانَ من أهان الدلالةُ الواضحةُ على سبب تكريمِه من أَكرمَ، وفي تبيينه
ذلك عَقيبَ قوله: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَهَانَنِ} بيانٌ واضحٌ عن الذي أنكرَ من قوله ما وصفنا). (3) التُّراث: الميراث، قاله الحسن من طريق أشعث، وقتادة من طريق سعيد.
وفي معنى الأكلِ اللَّمِّ عبارات عن السلف:
-فعن ابن عباس من طريق العوفي، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد: (تأكلون أكلاً شديداً).
-وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: (يقول: سَفَّا). -وعن الحسن من طريق يونس: (نصيبه ونصيب صاحبه).
-وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (اللَّمُّ، السَّفُّ، لف كل شيء).
-وقال ابن زيد: (الأكل اللَّمُّ: الذي يأكلُ كلَّ شيءٍ يجده ولا يسأل، فأكلَ الذي له والذي لصاحبه، كانوا لا يورثون النساء، ولا يورثون الصغار، وقرأ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا
كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدَانِ} أي: لا تورثونهن أيضاً، {أَكْلاً لَمًّا}: يأكلُ ميراثَه وكلَّ شيء، ولا يسأل عنه، لا يدري أحلالٌ أو حرام؟).
وهذا تفسيرٌ جامعٌ لمعنى هذه الآية، وعبَّر بكر المزني عن ذلك بأخصَرَ من هذا فقال: (اللَّمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراثَ غيره) والله أعلم. (4) قال الحسن من طريق معمر: (قد عَلِم الله أنَّ في الدنيا عذاباً ووِثاقاً، فقال: فيومئذ لا يعذِّب عذابه أحدٌ في الدنيا، ولا يوثِقُ وَثاقه أحدٌ في الدنيا).
وقد قُرئَ بفتح الذال والثاء من (يعذَّب) و(يوثَق) والمعنى: فيومئذ لا يعذَّب أحدٌ في الدنيا كعذاب الكافر، ولا يوثَقُ أحدٌ في الدنيا كوِثاق الكافر. والله أعلم. (5) ورد عن السلف تعابير عن معنى النفس المطمئنَّة، ومنها:
- قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: (المصدِّقة).
-وعن قتادة من طريق سعيد: (هو المؤمنُ اطمأنت نفسه إلى وعد الله).
-وعنه وعن الحسن من طريق معمر: (المطمئِنَّة إلى ما قال الله، والمصدِّقة بما قال).
-وعن مجاهد من طريق منصور: (النفس التي أيقنت أنَّ الله ربُّها، وضرَبت جأشاً لأمره وطاعته).
-وعنه من طريق ابن أبي نجيح: (المُخْبِتَة والمطمئِنَّة إلى الله). قال ابن كثير: (واختاره ابن جرير، وهو غريب، والظاهر الأول؛ لقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} ، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} ؛ أي: إلى حُكمه والوقوفِ بين يديه). (7) وردَ ذلك عن قتادة من طريق سعيد، وفسَّرها محمد بن مزاحم: (في طاعتي)، وهذا تفسيرٌ غريب، وورد عن ابن عباس أنه كان يقرؤها (في عبدي)، قال الكَلْبي: (الروحُ ترجِعُ إلى الجسد).
وقد وردَ عن أبي
صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة: أنها
تُقالُ للمؤمن عند خروج روحِه، ويشهدُ لهذا ما وردَ في حديث البراء بن
عازب في خروج روحِ المؤمن أنه يقال له: ((اخرُجي راضيةً مرضيّاً عنك)) والله أعلم.
(6) وردَ عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وعكرمة من طريق سليمان بن المعتمر: (أن الربَّ هنا صاحبُ النفس) والمعنى: ارجعي إلى جَسَدِ صاحبك.
القارئ:
{فَأَمَّا
الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
(18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا (20)}
الشيخ:
ثم قال الله -جل وعلا-: {فَأَمَّا
الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} هذه طبيعة
الإنسان إذا جاءه خير قال: هذا من إكرام الله لي، وإذا قدر عليه رزقه وضيق
عليه فيه قال: إن الله أهانني، ولكن يستثنى من ذلك المؤمنون؛ لأن المؤمن
يعلم أن الإكرام والتضييق بالرزق ليس دليلاً على محبة الله، كما أنه ليس
دليلا على غضب الله، فقد ينعم الله -جل وعلا- على العبد وهو يبغضه، ولكن
يصنع ذلك به استدراجاً: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأَمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} وقد
يضيق عليه رزقه وهو يحبه جل وعلا، نبينا -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه
مرهونة في صاع شعير؛ وهو أحب الخلق وأكرمهم على الله جل وعلا، ولهذا كان من
صفة الكفار أنهم إذا أعطوا شيئاً زعموا أن ذلك دليل على رضا الله عنهم:
-كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}.
-وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}.
-وقال -جل وعلا-: {وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهْمُ
عَذَابٌ مُهِينٌ}.
-وقال -جل وعلا- في شأن صاحب الجنة: {وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُّ إِلَى
رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً} لأنه يزعم أن
الله -جل وعلا- لما أعطاه فإنه قد رضي عنه، وهذا فهم خاطئ لا ينبغي للمسلم
أن يعتقده، بل المسلم يعتقد أن تضييق الله تعالى عليه في رزقه أو توسيع
الله تعالى عليه في رزقه إنما هو ابتلاء وامتحان؛ لينظر -جل وعلا- كيف يعمل
عبده أيشكر أم يكفر؛ كما قال الله -جل وعلا- عن نبيه سليمان أنه قال: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} والله -جل وعلا- يقول: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
فهذه
الهبات أو العطايا لا تدل على الرضا، كما أنها لا تدل على المحبة، ولهذا
لا ينبغي للمسلم اذا منحه الله -جل وعلا- شيئاً أن يظن أن ذلك من رضا الله
عليه، كما لا ينبغي له إذا لحقته مصائب أن يظن أن ذلك قطعاً من سخط الله
عليه، ولكن عليه أن يفتش عن نفسه؛ لينظر هل أطاع ربه أو عصاه، فإذا فتش
وعالج نفسه ما يقع بعد ذلك من سعة في الرزق أو تقتير فهذا لا ضرر على العبد
فيه؛ لأن الشؤم إنما هو شؤم المعصية، وليس لسعة الرزق أو ضيقها على العبد
في أمر آخرته شيء؛ لأن الله -جل وعلا- يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولكنه
-جل وعلا- لا يعطي الآخرة إلا من يحب.
ثم قال -جل وعلا-: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
يعني: أنهم لا يكرمون اليتيم، مع أن هذا اليتيم قد فقد أباه، وهو بحاجة
إلى أن يرأف به ويحنى عليه، وهو من أولى الناس أن يرحم؛ لأنه لا يجد عائلاً
له، وهو قد فقد حنان الأبوة، فهو بحاجة إلى إكرام، ولهذا جاء في شرعنا
المطهر: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} وحرم الله -جل وعلا- أن يعتدى على هذا اليتيم في ماله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ويقول -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}.
ولهذا كان الواجب على والي اليتيم أن يراعي هذا اليتيم في ماله،
وألا يدفع إليه ماله إلا إذا بلغ الرشد، وأن يتجر في هذا المال، ولا يتركه
حتى تأكله الصدقات؛ بل يجب عليه أن يرعى هذا المال، وأن يجتهد في رعايته
وحفظه حتى يدفعه إليه بعد رشده.
وقوله -جل وعلا-: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
أي: لا يحض بعضكم بعضاً على طعام المسكين، ولا تتآمرون بذلك، فدل ذلك على
أنه ينبغي للمسلمين أن يتآمروا فيما بينهم لإطعام المساكين، فإذا رأى
المسلم أخاه، ورأى مسكيناً فينبغي له أن يحثه ويحضه على إطعامه، لأن الله
-جل وعلا- ذم على ترك التحاض، ما ذم على ترك الإطعام، ذم على ترك التحاض،
فمن باب أولى أن يذم على ترك الإطعام.
ولهذا لعظم شأن المسكين واليتيم جعل الله -جل وعلا- إطعامه من البر: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى أن قال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إلى آخر الآيات، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فدل على أن إطعام المسكين والقيام على اليتيم هذا من البر ومن الصدق في الإيمان والتقوى.
ثم قال -جل وعلا-: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا}
التراث: المراد به الميراث، وكان الكفار يأكلون ميراث المرأة والصغير،
الصغير الذي لا يحمي ذماراً ولا يركب الخيل هذا يأكل وليه ورثه أو ميراثه،
والمرأة يأكلون ميراثها؛ بل المرأة إذا توفي زوجها فإنها تُوَرثُ من زوجها؛
هي ذاتها تكون موروثة، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم ذلك في سورة النساء،
وهذا الذي قاله الله -جل وعلا- هاهنا: {وتأكلون التراث أكلاً لمّا} أي: تأكلون الميراث أكلاً شديداً؛ مشتملاً على جمع الميراث وأخذه بتمامه، هذا بينه الله -جل وعلا- في سورة النساء: {وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى
بِالْقِسْطِ}.
قال -جل وعلا-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
أي: أنهم يحبون المال حباً شديداً، فهم يجمعون هذا المال ولا ينفقونه، لا
ينفقون على اليتيم ولا المسكين، ويجمعون المال، يجمعونه من حله ومن غير
حله؛ لأنهم يغتصبون الميراث، وهذه الصفة غالباً ما تكون في الإنسان؛ إذا
كان لا ينفق ما أوجب الله تعالى عليه الغالب أنه يجمع المال جمعاً شديداً،
وكثيراً ما يخالطه ما حرم الله -جل وعلا- عليه.
وأما المؤمن فلا، المؤمن يجمع مالاً ينتفع به في خاصة نفسه، وينفع غيره، ويؤدي منه حقوق الله جل وعلا، قال الله -جل وعلا-: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى} يعني: النار {نَزَّاعَةً
لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى
(18) إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ
الْمُصَلِّينَ} فاستثنى الله -جل وعلا- أهل الإيمان.
القارئ:
{كَلا
إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
الشيخ:
هذا
إخبار من الله -جل وعلا- عن يوم القيامة، وأنه -جل وعلا- إذا قامت القيامة
فإنه يدك الأرض دكاً، وتستوي الجبال، يسوي الله -جل وعلا- الجبال ويدكها
مع الأرض وتكون أرضاً مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض ولا اعوجاج.
{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}
أي:
أن الله -جل وعلا- إذا كان يوم القيامة، وحُشر الخلائق في عرصات القيامة،
واشتد بهم الأمر، وبلغ منهم كل مبلغه، استشفعوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم
عند ربنا جل وعلا؛ ليريحهم من هول الموقف، فيستشفع أولو العزم من الرسل، وآدم عليه السلام، حتى تكون لنبينا -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ((أنا لها أنا لها)) فيأتي ربه -جل وعلا- ويسجد تحت العرش، ويقال له: ((يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطَ، واشفع تشفع))
فيشفعه الله -جل وعلا- في الخلائق، وذلك هو المقام المحمود الذي أعطيه
النبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ربه جل
وعلا، فيجئ الرب -جل وعلا- يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الخلائق،
والملائكة مصطفين صفوفاً؛ لعظمة الرب جل وعلا، كما قال الله -جل وعلا-: {هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}
يعني: أن النار يوم القيامة تقاد إلى الخلائق وتبرز فيراها الخلق، يجرها
سبعون ألف ملك، أو تجر بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعين ألف ملك، وهذا
لعِظَمِها، وكبرها، وهولها.
ثم قال -جل وعلا-: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} يعني: إذا بُرِّزت النار ورآها العباد يتذكر الإنسان، قال بعض السلف:
إن المراد بالإنسان عموم الإنسان، فالمؤمن العاصي يتمنى أنه لم يعص،
والكافر يتمنى أنه لم يكفر، والذي عمل الصالحات يود أن لو يزداد، ولكن
انقضى زمن العمل، وجاء وقت الجزاء.
فالكافر إذا كان في ذلك اليوم قد أخبر الله -جل وعلا- عنه:
- كما قال: {وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً
خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}، {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}.
-وقال -جل وعلا- أن المفرط يقول يوم القيامة: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
- وقال -جل وعلا-: عنهم؛ أنهم يقولون: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. ثم قال -جل وعلا-: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يعني: ياليتني عملت لمثل هذا الموقف؛ لأن الآخرة هي الحياة، وأما الدنيا فهي فانية والحياة الباقية هي الآخرة، كما قال الله -جل وعلا-: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
قال الله -جل وعلا-: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}
يعني: أن الله -جل وعلا- يوم القيامة لا أحد يعذب مثل عذابه أبداً، لا أحد
يستطيع أن يعذب عذاباً مثل عذاب الله، كما أنه لا يستطيع أحد أن يوثق
أحداً ويشده بالسلاسل كما يوثق الله جل وعلا، بل الله -جل وعلا- هو
المتفرد.
ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}النفس المطمئنة: هي الساكنة التي اطمأنت بالإيمان، واطمأنت بذكر الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} هي نفس مؤمنة مطمئنة بالإيمان، اطمأنت بالله رباً، واطمأنت بمحمد -صلى
الله عليه وسلم- نبياً، واطمأنت إلى وعد الله، واطمأنت إلى قضائه وقدره،
واطمأنت بجميع ما أمر الله -جل وعلا- بالإيمان به، فلما كانت هذه النفس
مطمئنة يوم القيامة؛ كان مآلها إلى جنات النعيم؛ لأنها اطمأنت بما وعد الله
فكان نصيبها أن طمأنها الله -جل وعلا- يوم الفزع الأكبر.
والنفس -نفس الإنسان- لها ثلاث صفات:
- مطمئنة؛ كما في هذه الآية.
-وأمَّارة بالسوء؛ كما في قول امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي}فالأمَّارة: هي التي تحث صاحبها وتسيره إلى المعاصي.
- ثم نفس ثالثة وهي التي أقسم الله بها: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}هذه النفس اللوَّامة: هي التي تلوم صاحبها يوم القيامة، وقد فسرها بذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس.
هذه
النفس يوم القيامة تلوم صاحبها، إن كان كافراً على كفره، وإن كان عاصياً
على معصيته، وإن كان مؤمناً قد عمل الصالحات ألا يكون قد ازداد، وهذا ظاهر
من جمع الله -جل وعلا- بين القسم بيوم القيامة والقسم بالنفس اللوامة.
قال الله -جل وعلا- عن النفس المطمئنة:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}
أي: أنها هذه النفس يوم القيامة لما اطمأنت في الدنيا بشرع الله ودينه،
جاءت يوم القيامة راضية، ثم إن الله -جل وعلا- يجعلها مرضية؛ لأنها ترى نعم
الله -جل وعلا- عليها في الآخرة، وذلك دليل على رضا الله -جل وعلا- عنها،
فهذه النفس راضية ومرضية، قد رضي الله تعالى عنها، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
قال الله -جل وعلا-: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}إضافة العباد هنا المراد بهم: عباد الله الصالحون؛ لأن العباد منهم من يكون عبداً لله من باب العبودية العامة، وهذه كل الخلائق عباد لله -جل وعلا-: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}،
ولكن هناك عبودية خاصة وهو عبودية المؤمنين، فهنا: ادخلي في عبادي يعني:
أنها تدخل في جملة عباده الصالحين، فيحشر الله -جل وعلا- هذه النفس معهم؛
كما قال الله -جل وعلا-:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.
قال: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} يعني: أن الله -جل وعلا- يجعلها في زمرة الصالحين ثم يدخلهم -جل وعلا- بفضله ورحمته جنته، وهذا النداء لهذه النفس :
- قال بعض العلماء: إنه عند الاحتضار.
- وقال بعض العلماء: إنه يوم القيامة، وهذا من أمور الغيب التي لم نطلع عليها، فيحتمل هذا ويحتمل هذا، والله على كل شيء قدير.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها
تفسير قول الله تعالى : ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن )
تفسير قول الله تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن )
تفسير قول الله تعالى : ( كلا بل لا تكرمون اليتيم )
تفسير قول الله تعالى : ( ولا تحاضون على طعام المسكين )
تفسير قول الله تعالى : ( وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حباً جماً )
عبارات السلف في معنى الأكلِ اللَّمِّ
تفسير قول الله تعالى : ( كلا إذا دكت الأرض دكّاً دكّاً )
تفسير قول الله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً )
تفسير قول الله تعالى : ( وجيء يومئذ بجهنم )
تفسير قول الله تعالى : ( يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى)
تفسير قول الله تعالى : ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي )
تفسير قول الله تعالى : ( فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد )
تفسير قول الله تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية )
عبارات السلف عن معنى النفس المطمئنة
تفسير قول الله تعالى : ( فادخلي في عبادي وادخلي جنتي )
الأسئلة
س1:
من الاعتقادات الخاطئة والشائعة أن يظن الإنسان أن توسعة الرزق ورغد العيش
دليل على رضا الله تعالى عن العبد، وأن تضييق الرزق دليل على غضبه عز وجل
على العبد، بيِّن بطلان هذا الاعتقاد، من خلال دراستك لتفسير هذه الآيات.
س2: من محاسن الدين الإسلامي عنايته بالمحتاجين، تحدث عن هذه الميزة من خلال دراستك لهذه السورة.
س3:
من أسباب طغيان العبد حرصه على المال، وولعه بالدنيا، تحدث باختصار عن هذا
الأمر، وبين خطورته، وموقف القرآن الكريم منه في ضوء هذه السورة.
س4:
من أعظم الوسائل المعينة على ردع النفس عن المعاصي، وحملها على الطاعات،
وتزكية النفس، تخويفها باليوم الآخر و أهواله، تحدث بإيجاز عن أهمية هذه
الوسيلة وعناية القرآن الكريم بها.
س5:
من الأصول السلوكية التي يجب على العبد العناية بها، محاسبة النفس، اذكر
أهمية هذا الأصل، واشرحه في ضوء دراستك لتفسير هذه السورة الكريمة.
س6: تكلم باختصار عن أوصاف الفريقين الشقي والسعيد ومآلهما من خلال دراستك لهذه السورة الكريمة.
س7: اذكر القراءتين في قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}، مع بيان المعنى على كلا القراءتين.
س8: بين معاني الكلمات التالية: ابتلاه، نَعَّمه، قَدَرَ عَليه رزقه،أهانن، تحاضُّون، التراث، جمّاً، دكّاً، يوثق.
س9: اذكر دليلاً من أدلة الصفات الفعلية في هذه السورة، واذكر عقيدة أهل السنة والجماعة فيها.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يقول
تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق؛
ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرامٌ له، وليس كذلك، بل هو
ابتلاءٌ وامتحانٌ، كما قال تعالى: {أيحسبون أنّما نمدّهم من مالٍ وبنين
نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}.
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه، وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانةٌ له.
قال الله: {كلاّ} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا؛ فإنّ الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيّق على من يحبّ ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كلٍّ من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر.
وقوله: {بل لا تكرمون اليتيم} فيه أمرٌ بالإكرام له، كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي أيّوب، عن يحيى بن سليمان، عن زيد بن أبي عتّابٍ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يحسن إليه، وشرّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يساء إليه)). ثمّ قال بأصبعه: ((أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا)).
وقال أبو داود: حدّثنا محمد بن الصّبّاح بن سفيان، أخبرنا عبد العزيز - يعني: ابن أبي حاتمٍ - حدّثني أبي، عن سهلٍ - يعني: ابن سعدٍ - أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة)). وقرن بين أصابعه الوسطى والتي تلي الإبهام.
(ولا تحضّون على طعام المسكين) يعني: لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحثّ بعضهم على بعضٍ في ذلك.
{وتأكلون التّراث} يعني: الميراث.
{أكلاً لمًّا} أي: من أيّ جهةٍ حصل لهم، من حلالٍ أو حرامٍ.
{وتحبّون المال حبًّا جمًّا} أي: كثيراً. زاد بعضهم: فاحشاً.
يخبر تعالى عمّا يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال: {كلاّ} أي: حقًّا، {إذا دكّت الأرض دكًّا دكًّا} أي: وطئت ومهّدت وسوّيت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربّهم.
{وجاء ربّك} يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيّد ولد آدم على الإطلاق: محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحداً بعد واحدٍ، فكلّهم يقول: لست بصاحب ذاكم. حتى تنتهي النّوبة إلى محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم فيقول: ((أنا لها، أنا لها)). فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفّعه الله تعالى في ذلك.
وهي أوّل الشفاعات، وهي المقام المحمود، كما تقدّم في بيانه، وفي سورة (سبحان). فيجيء الربّ تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً.
وقوله: {وجيء يومئذٍ بجهنّم} قال الإمام مسلم بن الحجّاج في صحيحه: حدّثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، حدّثنا أبي، عن العلاء بن خالدٍ الكاهليّ، عن شقيقٍ، عن عبد الله - هو ابن مسعودٍ - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((يؤتى بجهنّم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كلّ زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرّونها)).
وهكذا رواه التّرمذيّ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدّارميّ، عن عمر بن حفصٍ به، ورواه أيضاً عن عبد بن حميدٍ، عن أبي عامرٍ، عن سفيان الثّوريّ، عن العلاء بن خالدٍ، عن شقيق بن سلمة - وهو أبو وائلٍ - عن عبد الله بن مسعودٍ قوله، ولم يرفعه.
وكذا رواه ابن جريرٍ، عن الحسن بن عرفة، عن مروان بن معاوية الفزاريّ، عن العلاء بن خالدٍ، عن شقيقٍ، عن عبد الله قوله.
وقوله: {يومئذٍ يتذكّر الإنسان} أي: عمله، وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه.
{وأنّى له الذّكرى} أي: وكيف تنفعه الذكرى.
{يقول يا ليتني قدّمت لحياتي} يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي - إن كان عاصياً - ويودّ لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعاً؛ كما قال الإمام أحمد بن حنبلٍ:
حدّثنا عليّ بن إسحاق، حدّثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك - حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفيرٍ، عن محمد بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لو أنّ عبداً خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه ردّ إلى الدنيا؛ كيما يزداد من الأجر والثواب.
ورواه بحير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن عتبة بن عبدٍ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله تعالى: {فيومئذٍ لا يعذّب عذابه أحدٌ} أي: ليس أحدٌ أشدّ عذاباً من تعذيب الله من عصاه.
{ولا يوثق وثاقه أحدٌ} أي: وليس أحدٌ أشدّ قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربّهم عزّ وجلّ. هذا في حقّ المجرمين من الخلائق والظالمين، فأمّا النفس الزّكيّة المطمئنّة، وهي الساكنة الثابتة، الدائرة مع الحقّ.
فيقال لها: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك} أي: إلى جواره وثوابه، وما أعدّ لعباده في جنّته.
{راضيةً} أي: في نفسها.
{مرضيّةً} أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها.
{فادخلي في عبادي} أي: في جملتهم.
{وادخلي جنّتي} وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضاً، كما أنّ الملائكة يبشّرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك ههنا.
ثمّ اختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية، فروى الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: نزلت في عثمان بن عفّان.
وعن بريدة بن الحصيب: نزلت في حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: يقال للأرواح المطمئنّة يوم القيامة: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك} يعني: صاحبك، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا {راضيةً مرضيّةً}.
وروي عنه أنه كان يقرؤها: (فادخلي في عبدي وادخلي جنّتي) وكذا قال عكرمة والكلبيّ، واختاره ابن جريرٍ. وهو غريبٌ، والظاهر الأول؛ لقوله: {ثمّ ردّوا إلى الله مولاهم الحقّ}، {وأنّ مردّنا إلى الله} أي: إلى حكمه والوقوف بين يديه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكيّ، حدّثني أبي، عن أبيه، عن أشعث، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً} قال: نزلت وأبو بكرٍ جالسٌ، فقال رسول الله: ((ما أحسن هذا!)) فقال: ((أما إنّه سيقال لك هذا)).
ثمّ قال: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا ابن يمانٍ، عن أشعث، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قرئت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً} فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: إن هذا لحسنٌ!. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أما إنّ الملك سيقول لك هذا عند الموت)).
وكذا رواه ابن جريرٍ، عن أبي كريبٍ، عن ابن يمانٍ به، وهذا مرسلٌ حسنٌ.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وحدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا مروان بن شجاعٍ الجزريّ، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: مات ابن عبّاسٍ بالطائف، فجاء طيرٌ لم ير على خلقه، فدخل نعشه، ثمّ لم ير خارجاً منه، فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يدرى من تلاها: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي}.
رواه الطّبرانيّ، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن مروان بن شجاعٍ، عن سالم بن عجلان الأفطس به، فذكره.
وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهرويّ - المعروف بشكّر - في كتاب العجائب، بسنده عن قباث بن رزينٍ أبي هاشمٍ، قال: أسرت في بلاد الرّوم، فجمعنا الملك وعرض علينا دينه على أنّ من امتنع ضربت عنقه، فارتدّ ثلاثةٌ، وجاء الرابع فامتنع فضربت عنقه وألقي رأسه في نهرٍ هناك، فرسب في الماء، ثمّ طفا على وجه الماء ونظر إلى أولئك، فقال: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان - يناديهم بأسمائهم - قال الله تعالى في كتابه: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي}. ثمّ غاص بالماء.
قال: فكادت النّصارى أن يسلموا، ووقع سرير الملك، ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام. قال: وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفرٍ المنصور، فخلّصنا.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرٍو الأوزاعيّ، عن أبيها، حدّثني سليمان بن حبيبٍ المحاربيّ، حدّثني أبو أمامة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لرجلٍ: ((قل اللّهمّ إنّي أسألك نفساً بك مطمئنّةٌ، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك)).ثمّ روى عن أبي سليمان بن زبرٍ، أنه قال: حديث رواحة هذا واحد أمّه.
آخر تفسير سورة الفجر، ولله الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/398-401]