22 Oct 2008
سورةُ الفَجر
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْفَجْرِ
(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
(14)}
تفسير سورة الفجر
الظاهرُ أنَّ المقسمَ بهِ هو المقسمُ عليهِ،وذلكَ جائزٌ مستعملٌ، إذا كانَ أمراً ظاهراً مُهِمّاً، وهوَ كذلكَ في هذا الموضعِ. فأقسمَ تعالى بالفجرِ،الذي
هوَ آخرُ الليلِ ومقدمةُ النهارِ، لمَا في إدبارِ الليلِ وإقبالِ النهارِ
من الآياتِ الدالةِ على كمالِ قدرةِ اللهِ تعالَى، وأنَّهُ وحدهُ المدبّرُ
لجميعِ الأمورِ، الذي لا تنبغي العبادةُ إلا لهُ. ويقعُ في الفجرِ صلاةٌ فاضلةٌ معظمةٌ،يحسنُ أنْ يقسمَ اللهُ بهَا، ولهذا أقسمَ بعدهُ بالَّليالي العشرِ، وهيَ على الصحيحِ:
ليالي عشرِ رمضانَ، أو ذي الحجةِ، فإنَّها ليالٍ مشتملةٌ على أيامٍ
فاضلةٍ، ويقعُ فيهَا منَ العباداتِ والقرباتِ ما لا يقعُ في غيرهَا. وفي ليالي عشرِ رمضانَ ليلةُ القدرِ،التي هيَ خيرٌ منْ ألفِ شهرٍ، وفي نهارِهَا صيامُ آخرِ رمضانَ الذي هوَ ركنٌ منْ أركانِ الإسلامِ. وفي أيامِ عشرِ ذي الحجةِ: الوقوفُ بعرفةَ،الذي
يغفرُ اللهُ فيهِ لعبادهِ مغفرةً يحزنُ لهَا الشيطانُ، فما رُئِيَ
الشيطانُ أحقرَ ولا أدحرَ منهُ في يومِ عرفةَ، لمَا يرى مِنْ تنزُّلِ
الأملاكِ والرحمةِ منَ اللهِ لعبادِهِ، ويقعُ فيهَا كثيرٌ من أفعالِ الحجِّ
والعمرةِ، وهذه أشياءُ معظمةٌ، مستحقةٌ لأنْ يقسمَ اللهُ بهَا. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}أي: وقتَ سريانهِ وإرخائهِ ظلامَهُ على العبادِ، فيسكنونَ ويستريحونَ ويطمئنونَ، رحمةً منهُ تعالى وحكمةً. {هَلْ فِي ذَلِكَ} المذكورِ {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي: عقلٍ؟ نعمْ، بعضُ ذلكَ يكفي، لمنْ كانَ لهُ قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهوَ شهيدٌ. (6-14) {أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ
جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ} يقولُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بقلبكَ وبصيرتكَ كيفَ فُعِلَ بهذهِ الأمم الطاغية، وهيَ {إِرَمَ} في اليمنِ {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي: القوةِ الشديدةِ، والعتوِّ والتجبُّرِ. {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا}أي: مثلَ عادٍ {فِي الْبِلادِ} أي: في جميعِ البلدانِ ، كما قالَ لهمْ نبيهُم هودٌ عليهِ السلامُ: {وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}أي: الجنودِ الذين ثبتوا ملكهُ، كما تُثبتُ الأوتادُ ما يرادُ إمساكهُ بهَا. {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} هذا الوصفُ عائدٌ إلى عادٍ وثمودَ وفرعونَ ومَنْ تبعهمْ، فإنَّهم طغوا في بلادِ اللهِ، وآذوا عبادَ اللهِ، في دينهمْ ودنياهمْ، ولهذا قالَ: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}وهوَ العملُ بالكفرِ وشُعبِهِ، منْ
جميعِ أجناسِ المعاصي، وسعَوا في محاربةِ الرسلِ وصدِّ الناسِ عن سبيلِ
اللهِ، فلمَّا بلغُوا منَ العتوِّ ما هوَ موجبٌ لهلاكهمْ أرسلَ اللهُ
عليهمْ منْ عذابهِ ذنوباً وسوطَ عذابٍ. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لمنْ عصاهُ يمهلُهُ قليلاً، ثمَّ يأخذُهُ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ.
(1-5){بِسْمِ
اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}
أي: وادي القرى، نحتُوا بقوتهمُ الصخورَ، فاتخذوها مساكنَ.
سُورَةُ الفَجْرِ
1- {وَالْفَجْرِ}
أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بالفَجْرِ؛ لأَنَّهُ وَقْتُ انْفِجَارِ الظُّلْمَةِ
عَن النَّهَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ فَجْرَ يَوْمِ النَّحْرِ.
2- {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}؛ أَي: اللَّيَالِي العَشْرِ منْ ذِي الْحِجَّةِ.
3- {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}
فالشَّفْعُ: الزَّوْجُ، والوَتْرُ: الْفَرْدُ مِن كُلِّ الأَشْيَاءِ،
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالشَّفْعِ: يَوْمَا التَّشْرِيقِ الأَوَّلُ
وَالثَّانِي، اللَّذَانِ يَجُوزُ التَّعَجُّلُ فِيهِمَا، والوَتْرُ:
الْيَوْمُ الثَّالِثُ.
4- {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}؛ أَيْ: إِذَا جَاءَ وَأَقْبَلَ ثُمَّ أَدْبَرَ.
5- {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}الحِجْرُ:
الْعَقْلُ، فَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ وَلُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ
اللَّهُ بِهِ منْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ.
6- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وَهُمْ عَادٌ الأُولَى، وَيُقَالُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ: عَادٌ الأُخْرَى. نَبِيُّهُمْ هُودٌ، كَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ.
7- {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}
إِرَمُ: اسْمٌ آخَرُ لِعَادٍ الأُولَى. وَقِيلَ: هُوَ جَدُّهُمْ. وَقِيلَ:
اسْمُ مَوْضِعِهِمْ. وَهُوَ مَدِينَةُ دِمَشْقَ أَوْ مَدِينَةٌ أُخْرَى
بالأَحْقَافِ.
وَمَعْنَى ذَاتِ
العِمَادِ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُمُدٍ وَخِيَامٍ
فِي الرَّبِيعِ، فَإِذَا هَاجَ النَّبْتُ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ،
وَقِيلَ: كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مُحْكَمَةَ البُنْيَانِ ذَاتَ أَعْمِدَةٍ
طِوَالٍ مَنْحُوتَةٍ.
8- {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ}؛
أَيْ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ القبيلةِ فِي الطُّولِ والشِّدَّةِ
وَالقُوَّةِ، وَهُم الَّذِينَ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟أَوْ:
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ فِي شِدَّةِ بُنْيَانِهَا.
9- {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} كَانُوا
يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ وَيُنَقِّبُونَهَا، وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ الأنقابَ
بُيُوتاً يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَوَادِيهِمْ هُوَ الحِجْرُ، أَوْ وَادِي
الْقُرَى، عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ مِن الْمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
10- {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}:
وَهِيَ الأهرامُ الَّتِي بَنَاهَا الفَرَاعِنَةُ؛ لِتَكُونَ قُبُوراً
لَهُمْ، وَسَخَّرُوا فِي بِنَائِهَا شُعُوبَهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ذِي
الجُنُودِ الَّذِينَ لَهُمْ خِيَامٌ كَثِيرَةٌ يَشُدُّونَهَا بالأوتادِ.
11- {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} صِفَةٌ لِعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ؛ أَيْ: طَغَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي بِلادِهِمْ وَتَمَرَّدَتْ وَعَتَتْ.
12- {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} بالكُفْرِ وَمَعَاصِي اللَّهِ وَالْجَوْرِ عَلَى عِبَادِهِ.
13- {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}؛
أَيْ: أَفْرَغَ عَلَيْهِمْ وَأَلْقَى عَلَى تِلْكَ الطوائفِ عَذَاباً،
كَمَا يُقَالُ: صَبَبْتُ السوطَ عَلَى المُجْرِمِ؛أَيْ: جَلَدْتُهُ بِهِ
جَلْداً شَدِيداً.
14- {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}:
يَرْصُدُ عَمَلَ كُلِّ إِنْسَانٍ حَتَّى يُجَازِيَهُ عَلَيْهِ بالخيرِ
خَيْراً وبالشرِّ شَرًّا، وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعِبَادِ
لا يَفُوتُهُ أَحَدٌ.
المتن :
سورةُ الفَجر
1-قولُه تعالى: {وَالْفَجْرِ}يقسِمُ ربُّنا بالفجر الذي هو أوَّلُ النهَار(1). 2-قولُه تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}ويقسمُ ربُّنا بليالٍ عِدَّتها عشرٌ، وهي ليالي عشرٍ من ذي الحِجَّة(2). الحاشية : الثاني: النَّهار، ورد عن ابن عباس من طريق أبي نصر.
3-قولُه تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}ويقسمُ ربُّنا بما هو شَفْعٌ، وما هو وَتْرٌ؛ كالعاشر من ذي الحِجَّة: يوم النَّحر، والتاسعِ من ذي الحِجَّة: يوم عَرَفَة(3).
4- قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}ويقسمُ ربُّنا باللَّيلِ إذا ذهبَ وسَار(4).
5-قولُه تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} يقولُ تعالى: هل فيما أقسمتُ به من هذه الأمورِ مَقْنَعٌ لصاحبِ عقل(5)؟ والمعنى: إنَّ هذه الأقسامَ فيها مُكْتَفَى لمن له عقلٌ يتدبَّرُ به ويتفكَّر، فيعقِلُ عن ربه أوامرَه ونواهيه.
وجوابُ القَسَمِ محذوف،وتقديرُه: لتُجازُنَّ بأعمالِكم.
6- 8-قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} ألم تَنْظُرْ يا محمد -صلى الله عليه وسلم- بعينِ قلبِكَ إلى ما فعلَ الله بقبيلةِ عادِ إرَم(6) ذاتِ البيوتِ التي يقومُ بناؤها على الأعمِدَة؛ كالخيام أو غيرها(7)؟
وفي هذا إشارة إلى ارتفاع بنائِهِم وقوَّتِه، مما يدلُّ على قوَّتِهم،
ولذا قال: التي لم يُخلقْ في بلاد الله التي حولَهم مثلهم في القوَّة
والشدَّة؛ كما قال الله فيهم: {وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} ، وقال: {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} .
9-قولُه تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي: وكيف فعلَ بثمود قوم النبي صالح عليه السلام الذين شقُّوا الجبال(8) التي في واديهم فنحَتوا منها البيوت؟ كما قال الله عنهم: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} .
10-قولُه تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أي: وألم ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بفِرعون مصرَ صاحبِ الأوتاد؟، وهي أخشابٌ أو حديدٌ يُثَبِّتُهَا في الأرض، كان يعذِّب بها الناس، أو هي الملاعبُ التي صُنِعَتْ له منها(9).
11- 14-قولُه تعالى: {الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي: عادٌ وثمود وفرعون الذين
تجاوزوا ما أباحَ الله، وكفروا به في البلاد التي كانوا يسكُنونها،
فأكثروا في هذه البلادِ المعمورةِ المعاصيَ وركوبَ ما حرَّم الله، فأنزلَ
الله عليهم عذابَهُ ونقمَتَه، والله يرقُبُ أعمالَ هؤلاء الكافرين الذين
أنزلَ بهم عقوبته، وهو بالمِرْصادِ لكلِّ الكافرين فلا يفلت منهم أحدٌ.
(1)وردَ خلافٌ بين السَّلَفِ في هذا القَسَمِ على أقوال:
الأول: فجرُ الصُّبح ، وهو قول عكرمة من طريق عاصم الأحول، وذكره ابن كثير عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي.
والمشهورُ من اللفظِ أنه يُطلَقُ على أول النهار،وقد يكون ذكر صلاة الفجر مُراداً به ذكر أفضلِ عملٍ يتضمنه الفجر، لا تفسير معنى الفجر، والله أعلم.
وأما الرواية عن ابن عباس من طريق أبي نصر
فهي غريبة، ويحتملُ أنه قابلَ القَسَم بالليل بالقسمِ بالنهار على سبيل
التوسُّع في إطلاق اللفظ لا على التفسير بالمطابق، والله أعلم.
(2)وردَ تفسيرها بهذا عن ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى والعوفي وأبي نصر، وابن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، ومسروق من طريق أبي إسحاق، وعكرمة من طريق عاصم الأحول، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
(3)وقعَ خلافٌ في المراد بالشفع والوتر عند السلف على أقوال، منها:
الأول: الشفعُ يوم النحر، والوترُ يوم عَرَفة، وهو قول ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى وعكرمة، وعكرمة من طريق عبيد الله وعاصم الأحول وسعيد الثوري وقتادة، والضحاك من طريق أبي سنان وعبيد.الثاني: الشفع: الخَلْق، والوتر: الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وابن جريج وأبي يحيى وجابر، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد.
الثالث: الصلاةُ المكتوبةُ منها شفعٌ ومنها وتر، وهو قول عمران بن حصين من طريق قتادة، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر.(4)كذا ورد عن عبد الله بن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، وابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق أبي يحيى، وأبي العالية من طريق الربيع بن أنس، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد، وقال عكرمة: (ليلة جمع)يعني: ليلة مزدلفة، وهذا يُحمَل على التمثيلِ بليلةٍ شريفةٍ، وإلا فالخبرُ عامٌّ في كل ليلة، وليس فيه ما يدلُّ على التخصيص، ولذا حملَها الجمهور على العموم، والله أعلم.
(5) كذا فسَّر السلف ذلك: ابن عباس من طريق أبي ظبيان والعوفي وعلي بن أبي طلحة وأبي نصر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى وهلال بن خباب، والحسن من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر وابن زيد.-وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيحتفسير إرم بالقديمة، وعنه من طريق أبي يحيى: أمَّة.
-وفسَّرها ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيدبال هالك.
قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك أن يقال:
إنَّ إرمَ إما بلدة كانت عاد تسكُنُها، فلذلك رُدَّت على عاد للإتباع لها،
ولم يُجْرَ من أجل ذلك، وإما اسم قبيلة، فلم يُجْرَ أيضاً كما لا تُجْرَى
أسماء القبائل، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وأما اسم عاد فلم يجر؛ إذ كان اسماً أعجمياً.
أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عادٍ إليها وتركِ إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميمِ نهشل؟ فيُترك إجراء نهشل،
وهي قبيلة، فَتُرِكَ إجراؤها لذلك، وهي في موضعِ خفضٍ بالردِّ على تميم،
ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جدٍّ لِّعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها،
كما يقال: هذا عمرو زبيد، وحاتم طيِّء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى، كما قال قتادة، والله أعلم، فلذلك أجمعت القُرّاء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء).
(7)ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: (أهل عمود لا يقيمون) وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، وقال ابن زيد: (عاد قوم هود بنوها وعملوها حين كانوا بالأحقاف).
قال ابن جرير الطبري: (وأشبه الأقوال في ذلك بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيل، قول من قال: عنَى بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة؛ لأن المعروف في كلام العرب من العِماد: ما عمل به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء، ولا يُعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح، بل وجَّهَ أهلُ التأويل قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ}إلى أنه عُني به طولُ أجسامِهِم.
وبعضهم إلى أنه عُني به عمادُ خيامِهم، فأما عمادُ البُنيان، فلا يُعلمُ كثيرُ أحدٍ من أهلِ التأويل وجَّهه إليه، وتأويلُ القرآنِ إنما يوجَّه إلى الأغلب من معانيه ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل دون الأنكر).الأول: الجنود، وهو قولُ ابن عباس من طريق العوفي.
الثاني: الحبالُ التي كان يُوتِدُ بها الناس فيعذِّبهم، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي رافع، وسعيد بن جبير من طريق محمود، وعنه من طريق رجل مجهول: (منارات يعذبهم عليها).
قال الطبري: (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: الأوتاد التي تُوتَد من خشبٍ كانت أو حديد؛ لأن ذلك المعروف من معاني الأوتاد، ووُصِفَ بذلك لأنه: إما أن يكونَ كان يعذِّب الناس بها، كما قال أبو رافع وسعيد بن جبير، وإما أن يكونَ كان يلعبُ بها).
ويظهر أن مرجِعَ الخلافِ الاحتمال اللغوي في لفظ الأوتاد،
فهو يُطلق على هذه المذكورة، غير أن أشهرَ إطلاقاتِها ما رجَّحه الطبري، والله أعلم.
القارئ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْفَجْرِ
(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
(14)}
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه سورة الفجر، أقسم الله -جل وعلا- فيها بالفجر وهو الصبح؛ كما قال الله جل وعلا في آية أخرى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}. وقوله جل وعلا: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} جمهور أهل التفسير على أن المراد بها ليال الأيام العشر من ذي الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)). وفي
الفجر عرَّفه الله -جل وعلا- بالألف واللام، وأما الليالي العشر فنكَّرها
رب العالمين؛ ذكر بعض العلماء أن الله -جل وعلا- عرف الفجر؛ لأن كلاً يدركه
لوضوحه وظهوره، وأما الليالي العشر فنكَّرها الله جل وعلا؛ لأنه لا سبيل
إلى معرفتها إلا عن طريق الشرع. ثم قال جل وعلا: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}الشفع والوتر اختلف العلماء في بيانهما حتى بلغت أقوالهم قريباً من ستة وثلاثين قولاً، لكن هذه الأقوال يجمعها أمران أو هذه الأقوال ترد إلى أمرين: أحدهما: أن المراد بالوتر والشفع المخلوقات والمأمورات والثاني: أن المراد بالشفع المخلوقون، وبالوتر الخالق رب العالمين؛ وهذا الحديث استنكر الحافظ ابن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورده الحافظ ابن حجر في (الفتح) وسكت عليه، وهذا الحديث الذي يظهر: رجاله لا بأس بهم كما قال ابن كثير،
إلا أن أحد رجاله يظهر أنه لا يحتمل أن يروي مثل هذا الحديث عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- في تفسير هذه السورة، أو في تفسير هذه الآيات، لا سيما مع
اختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيانها، فلو كان عندهم شيء من
المرفوع لم يخف على جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خفاؤه الذي
يمنع من تصحيحه الحديث، ولكن أحد رجاله ليس من الثقات المعروفين الكبار،
ومثل تفرده هذا يحتاج إلى نظر، ولهذا الحافظ ابن كثير استنكر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} يعني: والليل إذا يمضي، وهذا كقول لله جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}. ثم قال جل وعلا: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} بعض العلماء يقول: إن هذا جواب القسم، ولكن هذا قول ضعفه العلماء. واختلفوا في جواب القسم هاهنا، والذي اختاره الحافظ ابن القيم
رحمه الله: أن الله -جل وعلا- أراد هنا ما أقسم به لا ما أقسم عليه؛ لأن
الله -جل وعلا- أراد لفت انتباه الناس، وبيان عظمة خلقه في هذه الأشياء
التي أقسم بها، ولهذا لم يأت بالمقسم عليه؛ لأن القسم أحياناً يراد به
المقسم عليه، وأحيانا يراد القسم فقط، فالله -جل وعلا- في هذه الآيات
استظهر الحافظ ابن القيم أنه إنما أراد المقسم به وهو: {الْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ولهذا حذف جواب القسم. وعاد هذه قبيلة جدهم عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، هذه القبيلة تنسب إلى عاد،
وكانت مساكنهم ممتده في جبال الرمال من حضرموت إلى عمان وما حولها، وقد
جعل الله -جل وعلا- فيهم من القوة في أجسادهم، ومن الحذق في صناعاتهم، ومن
الخيرات في بلادهم، ما كانوا به في زروعهم أخصب الناس في زمانهم، وديارهم
تسمى الأحقاف، كما قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} وبين الله -جل وعلا- ما هم عليه من القوة في قوله سبحانه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ}. وقال -جل وعلا- حكاية عن هود عليه السلام أنه قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (بكل ريع) يعني: بكل مكان مرتفع يبنون آية؛ أي: يبنون بنياناً شاهقاً {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}المصانع هذه أمكنة تبنى تجمع فيها المياه، وكانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}وهذا من قوتهم {فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ (127) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (128) وَجَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ}. فهذه حالهم لما بعث الله -جل وعلا- إليهم نبيه هُوداً عليه السلام، بعث الله -جل وعلا- لهم هوداً يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته؛ كما أخبر الله -تعالى- في مواضع كثيرة من كتابه: -كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}. فكذبوا هوداً عليه السلام، وأنكروا ألوهية الله جل وعلا، واستهزؤا بهود عليه السلام، واستبعدوا أن يحل بهم عذاب الله -جل وعلا- كما أخبر الله جل وعلا عنهم في قوله: -وفي قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. فلما خرجت هذه الناقة أمرهم صالح -عليه
السلام- أن يتركوها ترعى، واتفق معهم على أن تشرب من البئر يوماً وهم
يشربون منه يوماً، فلما مضت الأيام والأوقات ضاقوا بهذه الناقة ذرعاً
فقتلوها، وقتلها زعيمهم وشريفهم، كما ثبت ذلك في (الصحيح). قد قال المؤرخون: إن الذي قتلها قُدَار بن سالف قتل هذه الناقة، فلما قتلها أخرهم صالح -عليه
السلام- العذاب ثلاثة أيام، ووعدهم بالعذاب أنه ينـزل عليهم بعد ثلاثة
أيام، فلما توعدهم بالعذاب اجتمعوا على قتله عليه السلام، اجتمع تسعه منهم
على قتله فأرادوا قتله، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في قوله: {وَكَانَ
فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ
أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فأخذهم الله -جل وعلا- قبل أن يقتلوا نبيه صالحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى: {وَمَكَرُوا
مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فلما عاجلهم العذاب وقتل هؤلاء التسعة، أيقن قوم صالح أنهم مهلكون، وأن ما وعدهم به سيحل عليهم. ذكر المؤرخون والمفسرون:
أن أول يوم من هذه الأيام الثلاثة كان يوم الخميس، فاصفرت وجوههم، ثم لما
جاء اليوم الثاني وهو يوم الجمعة احمرت، فلما جاء اليوم الثالث وهو يوم
السبت اسودت وجوههم، فلما جاء الصبح من يوم الأحد جاءهم وعد الله -جل وعلا-
الذي وعده على لسان صالح، إذ قال لهم: { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فأخذهم العذاب مصبحين، لما جاء الصبح صاحت الصيحة من السماء، ورجفت الأرض، فأهلكهم الله -جل وعلا- قال الله جل وعلا: {فَأَصْبَحُوا
فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ
ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} هذا إهلاك الله -جل وعلا- لثمود. قال بعض العلماء: الأوتاد هاهنا المراد بها الجنود؛لأن فرعون كان له جنود ثبتوا مملكته كما تثبت الأوتاد الخيام. إن المراد بالأوتاد الأوتاد التي كان فرعون -لعنه الله- يعذب الناس بها،بمعنى أنه كان يمدهم على هذه الأوتاد ويسومهم سوء العذاب. ثم قال -جل وعلا- في وصف الجميع: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} يعني: أن ثموداً الذين جابوا الصخر بالواد، قطعوا الصخر بالواد، أو عاداً، أو فرعون، هؤلاء كلهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، يعني نشروا الفساد سواءً في أنفسهم أو في غيرهم، فأصبح هذا الفساد منتشراً ظاهراً. قال الله -جل وعلا-: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} يعني: أن الله -جل وعلا- أنزل عليهم عذاباً من عنده، فعذبهم به في الدنيا قبل الآخرة. وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: {سَوْطَ عَذَابٍ}: - قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- هاهنا قال: {سَوْطَ عَذَابٍ} ليبين أن عذابهم الذي عذبهم به في الدنيا مع شدته؛ فإنه كالسوط بالنسبة لعذاب الآخرة. -وقال بعض العلماء:إن قوله هاهنا: {سَوْطَ عَذَابٍ}
أن الله -جل وعلا- أخذهم بعذاب شديد؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يعذب أحداً
في الدنيا فأعلى مايعذبه به يضربه بالسياط؛ لأنه بالسيف يقتله، ولكن إذا
أراد العذاب المؤلم فإنه يكون بالسياط، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال في الخوارج: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
على اختلاف بين العلماء في تحديد هذه المخلوقات أو المأمورات:
فمنهم من يقول: الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة.
ومنهم من يقول: الوتر عرفة (المكان)، والشفع منى ومزدلفة.
إلى غيرها من الأقوال التي تعود إلى المخلوقات والمأمورات.
لأن الله -جل وعلا- قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فالمخلوقات كل واحد منها له زوجان، والشفع هو الزوج فدل ذلك على أن المراد المخلوقات.
وعليه فما اختاره الإمام ابن جرير -رحمه الله- من أن المراد الشفع والوتر
في هذه الآية ما يصح أن يطلق عليه ذلك في لغة العرب، ولغة العرب تطلق
الشفع على الزوج يعني: على الشيء المزدوج، وتطلق الوتر على الشيء الواحد،
فالذي له زوج أو مقارن هذا هو الشفع، والذي ليس له هذا هو الوتر، والله
تعالى أعلم.
وقوله جل وعلا: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}الحجر هو: العقل سمي بذلك لأنه يمنع الإنسان عما لا يليق به.
ومعنى هذه الآية: هل
فيما ذكر من الفجر وما بعده قسم كاف يستغني به ذوو العقول، وجوابه نعم في
هذا كفاية وعبرة؛ لأن هذا المقسم به وهو هذه المخلوقات آيات عظام من آيات
الله جل وعلا.
ثم قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (5) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (6) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} هذا فيه بيان لما أحله الله -جل وعلا- بقوم عاد وقد قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إرم}فإرم: هذا بيان لعاد، وعاد إرم: هذه هي عاد الأولى التي قال الله -جل وعلا-: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى}فعاد الأولى وهناك عاد الثانية، عاد الثانية هذه بعد بناء الكعبة، وأما عاد الأولى فهم قوم هود، وهود بعث بعد نبي الله -جل وعلا- نوح، بعد إغراق قوم نوح بالطوفان بعث الله هوداً عليه والسلام إلى عاد.
-{كَذَّبَتْ
عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا
تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (126)}.
-وفي قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.
فلما
كذبوه وعصوه أنزل الله -جل وعلا- عليهم عذابه وبطشه، أرسل الله -جل وعلا-
عليهم ريحاً باردة تتابعت عليهم سبع ليال وثمانية أيام؛ حتى أصبحوا كأنهم:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}
أي: كأنهم جذوع نخل ليس عليها رؤوسها؛ لأن المفسرين ذكروا أن الله -جل
وعلا- لما أرسل عليهم هذه الريح الشديدة الباردة صارت تحمل الرجل منهم
فتلقيه على رأسه حتى ينشدخ رأسه.
قال الله -جل وعلا-: {وَأَمَّا
عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ
سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا
صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ
بَاقِيَةٍ}.
-وقال الله -جل وعلا-: {فَأَمَّا
عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.
-وقال جل وعلا مبيناً مردهم في الآخرة: {وَتِلْكَ
عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا
أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا
بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.
وأما ثمود: فهم قوم صالح
كانوا يسكنون بوادي القرى، وهو مكان بين تبوك والحجاز، وهذا الوادي سمي
وادي القرى؛ لأن هذا الوادي كان متصلاً بالقرى، القرية بجانب أختها، وكانت
ثمود تسكن هذا الوادي، وثمود هذا هو ثمود بن عابر بن إرم بن سام ابن نوح، أرسل الله -جل وعلا- إلى قومه نبيه صالحاً عليه السلام، وقومه قوم صالح -عليه السلام- الذين هم ثمود، ذكر الله -جل وعلا- أوصافهم في قوله سبحانه وتعالى: {أَتُتْرَكُونَ
فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ
وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً
فَارِهِينَ} يعني: يشقون الجبال بحذق، وفي قوله جل وعلا: {وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً}
فكانوا ينحتون هذه الجبال ويجعلونها بيوتاً، كما أنهم كانوا ينشئون لهم
قصوراً في تلك السهول وهي الأودية، ونحتهم لهذه الجبال يدل على قوتهم؛ وعظم
ما هم فيه من الحرفة والصناعة، ومع ذلك كانوا يعيشون آمنين؛كما قال الله
تعالى في الآية الأخرى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} يعني: ليس عندهم خوف، فلما كانوا كذلك وكانوا مشركين بالله -جل وعلا- بعث الله إليهم نبيه صالحاً -عليه السلام- بعد هود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى؛ كما قال الله جل وعلا: {وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ
رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
ولكنهم كفروا به وبما بعث به، وكفروا بألوهية الله -جل وعلا-، وسخروا من صالح ومَن آمن معه، كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في مواضع: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} وقال جل وعلا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} كذبوا نبي الله صالحاً عليه
السلام، فلما كان يدعوهم وجاءهم في ناديهم سألوه أن يخرج لهم آية، فذكر
المفسرون أنه عليه السلام لما طلبوا منه الآية - وهي أن يُخرج لهم ناقة من
هذه الصخرة - صلى لله -جل وعلا- ثم دعاه، فخرجت ناقة بالوصف الذي أرادوا من
هذه الصخرة، ولكنهم أو كثير منهم كفروا، وقليل من آمن، ولهذا قال الله -جل
وعلا- في شأنهم: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} لأن هذه آية ومعجزة باهرة عظيمة، ومع ذلك عرفوا الحق فأعرضوا عنه.
وأما فِرْعَوْنَ فقد تقدم لنا ما كان بينه وبين موسى -عليه الصلاة والسلام-في تفسير سورة النازعات، وقوله -جل وعلا- في هذه الآية: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}:
-قال بعض العلماء: إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لأقتلنهم قتل عاد))، يعني: قتلاً شديداً، فهو يفسر قوله -جل وعلا-: {سَوْطَ عَذَابٍ}.
- وقال بعضهم: إن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لأقتلنهم قتل عاد)) أي: لأقتلنهم قتلاً آتي فيه على جميعهم لا أترك منهم أحدا، كما أن الله -جل وعلا- لم يترك من عاد أحداً.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قال ابن عباس
رضي الله عنه: يعني يسمع ويرى، والمراد أن الله -جل وعلا- مطلع عليهم،
يطلع على الخلق، ويعلم ما يقولون، ويبصر ما يفعلون، فهو -جل وعلا- راصد
لحركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم، ويرصدهم -جل وعلا- حال إسرارهم وحال
علانيتهم.
وهذه الآيات التي تقدمتفيها تخويف لمن يعصي الله جل وعلا؛ لأن المعصية تورث نقمة الله جل وعلا، وقد يعاجل العبد بالعقوبة في الدنيا.
فهذه الوسائل سواء
كانت وسائل عسكرية أو ترفيهية أو حاجية أو وسائل مواصلات أو غيرها من
الوسائل لا بد للمسلم أن يعرف موقفه منها، حتى لا يغتر بها، وحتى يتعامل
معها على وفق شرع الله جل وعلا، فالمؤمن إذا نظر إلى هذه المخترعات لا
تزيده إلا إيماناً بالله وحده؛ لأن الله -جل وعلا- أخبرنا بوجود هذه
المخترعات قبل أن توجد، فقد أنزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ثم إن هذه المخترعات تزيدنا إيماناً بالله جل وعلا؛لأن
نظر المؤمن ليس قاصراً على المخترع، لكن يفكر فيالعقل، الذي اخترع هذا،
وإذا فكر في العقل بعد ذلك ينظر إلى خالق هذا العقل، فلولا الله -جل وعلا-
ما استطاع العقل أن يخلق هذه الأشياء، إذاً هذه مردها إلى الله جل وعلا {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.
ثم إن المؤمن إذا رأى مثل هذه المخترعات يقارنها
بخلق الله الذي صنعه الله جل وعلا، إذا بهرته هذه الدقة في بعض الأنظمة
فلينظر إلى الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار تمشي بدقة متناهية، وإذا
رأى هذا البنيان الشاهق فلينظر إلى الجبال، وإذا رأى الطائرات فلينظر إلى
الطيور: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ}.
ثم إن المؤمن يأخذ من هذه المخترعات ما أباحه الله -جل وعلا- منها، لا يغالي فيها ولا يفرط؛ بل يأخذ منها بقدر حاجته وبما أباحه الله؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
ثم إن هذه الوسائل ينبغي أن تستغل في نفع المسلمين، وفي
الدعوة إلى الإسلام، فوسائل المواصلات الآن أو الاتصالات قد يستعملها بعض
المسلمين فيما يضر المسلمين، أو فيما لا يعود عليهم بالنفع، وهذا غلط،
فالمفترض في مثل هذه الأشياء أن تستغل في الدعوة إلى الله، ونشر الإسلام.
الآن بعض الناس يشغل
نفسه في الحاسب ويذكر عادات بلده، أو عادات قومه، أو يذكر بعض الفكاهات،
وغيرها، مما تضر ولا تنفع، أو على الأقل لا تنفع، مع أن المسلمين بحاجة إلى
مثل هذه الأشياء لدعوة غيرهم إلى الله جل وعلا.
ثم إن هذه المخترعات ينبغي أو يجب ألا تحدث في قلب المسلم خضوعاً للكفار،ولا اعتقاداً لعزتهم، ولا ذلاً لهم، بل هذه الأشياء لا تزيد المؤمن إلا إيماناً بالله، وعزة بدين الإسلام، وليعلم أن الله -جل وعلا- ناصر دينه:
- كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
-وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.
-{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}.
فالله
-جل وعلا- أمرنا بأن نعد قوة؛ ولو كانت هذه القوة يسيرة، لكن قوة نستطيع
عليها، وبعد ذلك لسنا مكلفين، ولسنا مكلفين أن يكون عندنا ما عند غيرنا،
ولكن علينا أن نعد وأن نجتهد في العدة، فإذا فعلنا ذلك نصرنا الله -جل
وعلا- وعداً منه، والله -جل وعلا- لا يخلف الميعاد.
فالشاهد أن
مثل هذه المخترعات وهذه القوى ينبغي للمسلم أن يعتبر بأحوال الأمم
السابقة؛ وما كانوا عليه من القوة، وقد أهلكهم الله -جل وعلا- مع قوتهم،
ونصر عليهم المؤمنين مع ضعفهم {إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ}.
تفسير سورة الفجر
تفسير قول الله تعالى : ( والفجر )
أقوال السلف في المراد بالفجر
تفسير قول الله تعالى : ( وليالٍ عشر )
الحكمة من تعريف الفجر وتنكير الليالي في الآيتين السابقتين
تفسير قول الله تعالى : ( والشفع والوتر )
أقوال السلف في المراد بالشفع والوتر
تفسير قول الله تعالى : ( والليل إذا يسر )
تفسير قول الله تعالى : ( هل في ذلك قسم لذي حجر )
بيان المقسم به والمقسم عليه في هذه السورة
بيان جواب القسم في السورة
تفسير قول الله تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد )
أقوال السلف في المراد بـ(إرم)
تفسير قول الله تعالى : ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (جابوا الصخر بالواد)
تفسير قول الله تعالى : ( وفرعون ذي الأوتاد )
أقوال السلف في المراد بـ(الأوتاد)
تفسير قول الله تعالى : ( الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد )
تفسير قول الله تعالى : ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد )
أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى : ( سوط عذاب )
فوائد من الآيات:
خطر الاغترار بالمخترعات الحديثة موقف المؤمن من هذه المخترعات
التحذير من استعمال هذه المخترعات فيما يغضب الله عز وجل
يجب ألا تحدث هذه المخترعات في قلب المؤمن خضوعاً للكفار
ينبغي للمسلم أن يعتبر بأحوال الأمم السابقة
الأسئله
س2: بين معنى التنكير في قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ثم اذكر أقوال العلماء في المراد بها. س6: بين جواب القسم في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.
س1: اذكر أقوال العلماء في المراد بالفجر في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} مع الترجيح.
س3: اذكر أقوال العلماء في المراد {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} مع الترجيح.
س4: هل المراد في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}ليلة معينة، أو عموم الليالي؟ وضح القول المختار.
س5: بين معاني المفردات التالية: الشفع، الوتر، يَسْرِ، حِجْر، إِرَمَ، الِعَمادِ، جابوا، الأوْتاد،طَغَوْا، صَبَّ، المرصاد.
س7:
من المنهج القرآني الحكيم التذكير بأيام الذين خلوا من قبل وحلَّت بهم
المثلات، تحدث باختصار عن فوائد هذا المنهج مبيناً آثاره التربوية.
س8: فسر الآيات الكريمة السابقة تفسيراً إجمالياً.
س9: قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لمن الخطاب في هذه الآية، وبين ما تفيده هذه الآية بالنسبة للعصاة والدعاة إلى الله تعالى.
تفسير ابن كثير
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الفجر وهي مكّيّةٌ.
قال النّسائيّ: أخبرنا عبد الوهّاب بن الحكم، أخبرني يحيى بن سعيدٍ، عن سليمان، عن محارب بن دثارٍ وأبي صالحٍ، عن جابرٍ، قال: صلّى معاذٌ صلاةً فجاء رجلٌ فصلّى معه فطوّل، فصلّى في ناحية المسجد ثمّ انصرف، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: منافقٌ.
فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأل الفتى فقال: يا رسول الله، جئت أصلّي معه فطوّل عليّ، فانصرفت وصلّيت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أفتّانٌ يا معاذ؟ أين أنت من {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {الفجر} و {اللّيل إذا يغشى}؟)) .
أمّا الفجر فمعروفٌ، وهو الصّبح. قاله عليٌّ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وعكرمة والسّدّيّ.
وعن مسروقٍ ومحمّد بن كعبٍ: المراد به فجر يوم النحر خاصّةً، وهو خاتمة الليالي العشر.
وقيل: المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده. كما قاله عكرمة.
وقيل: المراد به جميع النهار. وهو روايةٌ عن ابن عبّاسٍ.
واللّيالي العشر المراد بها عشر ذي الحجّة، كما قاله ابن عبّاسٍ وابن الزّبير ومجاهدٌ وغير واحدٍ من السّلف والخلف.
وقد ثبت في صحيح البخاريّ عن ابن عبّاسٍ مرفوعاً: ((ما من أيّامٍ العمل الصّالح أحبّ إلى الله فيهنّ من هذه الأيّام)). يعني: عشر ذي الحجّة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجلاً خرج بنفسه وماله ثمّ لم يرجع من ذلك بشيءٍ)).
وقيل: المراد بذلك العشر الأول من المحرّم.حكاه أبو جعفر بن جريرٍ، ولم يعزه إلى أحدٍ.
وقد روى أبو كدينة، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {وليالٍ عشرٍ} قال: هو العشر الأول من رمضان.
والصّحيح هو القول الأوّل؛ قال الإمام أحمد:
حدّثنا زيد بن الحباب، حدّثنا عيّاش بن عقبة، حدّثني خير بن نعيمٍ، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((إنّ العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشّفع يوم النّحر)).
ورواه النّسائيّ، عن محمد بن رافعٍ وعبدة بن عبد الله، وكلٌّ منهما عن زيد بن الحباب به، ورواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ من حديث زيد بن الحباب به، وهذا إسنادٌ رجاله لا بأس بهم، وعندي أنّ المتن في رفعه نكارةٌ. والله أعلم.
وقوله: {والشّفع والوتر} قد تقدّم في هذا الحديث أنّ الوتر يوم عرفة؛ لكونه التّاسع، وأنّ الشّفع يوم النّحر؛ لكونه العاشر. وقاله ابن عبّاسٍ وعكرمة والضّحّاك أيضاً.
قولٌ ثانٍ: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثني عقبة بن خالدٍ، عن واصل بن السّائب، قال: سألت عطاءً عن قوله: {والشّفع والوتر} قلت: صلاتنا وترنا هذا؟ قال: لا، ولكن الشّفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى.
قولٌ ثالثٌ: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهانيّ، حدّثني أبي، عن النّعمان - يعني: ابن عبد السلام - عن أبي سعيد بن عوفٍ، حدّثني بمكّة، قال: سمعت عبد الله بن الزّبير يخطب الناس، فقام إليه رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن الشفع والوتر. فقال: الشفع قول الله عزّ وجلّ: {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه}، والوتر قوله: {ومن تأخّر فلا إثم عليه}.
وقال ابن جريجٍ: أخبرني محمد بن المرتفع، أنه سمع ابن الزّبير يقول: الشفع: أوسط أيام التشريق، والوتر: آخر أيام التشريق.
رواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ من طريق ابن جريجٍ. ثمّ قال ابن جريرٍ: وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبرٌ يؤيّد القول الذي ذكرناه عن ابن الزبير.
حدّثني عبد الله بن أبي زيادٍ القطوانيّ، حدّثنا زيد بن الحباب، أخبرني عيّاش بن عقبة، حدّثني خير بن نعيمٍ، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الشّفع اليومان، والوتر الثّالث)).
هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ، وهو مخالفٌ لما تقدّم من اللّفظ في رواية أحمد والنّسائيّ وابن أبي حاتمٍ، وما رواه هو أيضاً.والله أعلم.
وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ لله تسعاً وتسعين اسماً، مائةً إلاّ واحداً، من أحصاها دخل الجنّة، وهو وترٌ يحبّ الوتر)).
قولٌ رابعٌ: قال الحسن البصريّ وزيد بن أسلم: الخلق كلّهم شفعٌ ووترٌ، أقسم تعالى بخلقه.وهو روايةٌ عن مجاهدٍ، والمشهور عنه الأول.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {والشّفع والوتر} قال: الله وترٌ واحدٌ وأنتم شفعٌ. ويقال: الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب.
قولٌ خامسٌ: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ: {والشّفع والوتر} قال: الشّفع: الزّوج، والوتر: الله عزّ وجلّ.
وقال أبو عبد الله، عن مجاهدٍ: الله الوتر، وخلقه الشفع؛ الذكر والأنثى.
وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله: {والشّفع والوتر}: كلّ شيءٍ خلقه الله شفعٌ، السماء والأرض، والبرّ والبحر، والجنّ والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا.
ونحا مجاهدٌ في هذا ما ذكروه في قوله تعالى: {ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون} أي: لتعلموا أنّ خالق الأزواج واحدٌ.
قولٌ سادسٌ: قال قتادة، عن الحسن: {والشّفع والوتر} هو العدد؛ منه شفعٌ ومنه وترٌ.
قولٌ سابعٌ في الآية الكريمة:
قال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ وغيرهما: هي الصلاة؛ منها شفعٌ كالرّباعيّة والثّنائيّة، ومنها وترٌ كالمغرب؛ فإنها ثلاثٌ، وهي وتر النهار. وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجّد من الليل.
وقد قال عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة، عن عمران بن حصينٍ: {والشّفع والوتر} قال: هي الصلاة المكتوبة؛ منها شفعٌ ومنها وترٌ. وهذا منقطعٌ وموقوفٌ، ولفظه خاصٌّ بالمكتوبة. وقد روي متّصلاً مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه عامٌّ؛ قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو داود - هو الطّيالسيّ - حدّثنا همّامٌ، عن قتادة، عن عمران بن عصامٍ، أنّ شيخاً حدّثه من أهل البصرة، عن عمران بن حصينٍ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشفع والوتر فقال: ((هي الصّلاة؛ بعضها شفعٌ وبعضها وترٌ)).
هكذا وقع في المسند، وكذا رواه ابن جريرٍ، عن بندارٍ، عن عفّان، وعن أبي كريبٍ، عن عبيد الله بن موسى، كلاهما عن همّامٍ - وهو ابن يحيى - عن قتادة، عن عمران بن عصامٍ، عن شيخٍ، عن عمران بن حصينٍ، وكذا رواه أبو عيسى التّرمذيّ، عن عمرو بن عليٍّ، عن ابن مهديٍّ وأبي داود، كلاهما عن همّامٍ، عن قتادة، عن عمران بن عصامٍ، عن رجلٍ من أهل البصرة، عن عمران بن حصينٍ به، ثمّ قال: غريبٌ، لا نعرفه إلاّ من حديث قتادة، وقد رواه خالد بن قيسٍ أيضاً عن قتادة. وقد روي عن عمران بن عصامٍ، عن عمران نفسه. والله أعلم.
قلت: ورواه ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ الواسطيّ، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همّامٌ، عن قتادة، عن عمران بن عصامٍ الضّبعيّ - شيخٍ من أهل البصرة - عن عمران بن حصينٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فذكره. هكذا رأيته في تفسيره، فجعل الشيخ البصريّ هو عمران بن عصامٍ.
وهكذا رواه ابن جريرٍ: حدّثنا نصر بن عليٍّ، حدّثني أبي، حدّثني خالد بن قيسٍ، عن قتادة، عن عمران بن عصامٍ، عن عمران بن حصينٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الشفع والوتر، قال: ((هي الصّلاة؛ منها شفعٌ ومنها وترٌ)).
فأسقط ذكر الشيخ المبهم، وتفرّد به عمران بن عصامٍ الضّبعيّ أبو عمارة البصريّ إمام مسجد بني ضبيعة، وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضّبعيّ، روى عنه قتادة وابنه أبو جمرة، والمثنّى بن سعيدٍ، وأبو التّيّاح يزيد بن حميدٍ، وذكره ابن حبّان في كتاب الثّقات.
وذكره خليفة بن خيّاطٍ في التابعين من أهل البصرة، وكان شريفاً نبيلاً حظيًّا عند الحجّاج بن يوسف، ثمّ قتله يوم الزاوية سنة ثلاثٍ وثمانين؛ لخروجه مع ابن الأشعث. وليس له عند التّرمذيّ سوى هذا الحديث الواحد، وعندي أن وقفه على عمران بن حصينٍ أشبه.والله أعلم.
ولم يجزم ابن جريرٍ بشيءٍ من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
وقوله: {واللّيل إذا يسر} قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: أي: إذا ذهب.
وقال عبد الله بن الزّبير: {واللّيل إذا يسر} حتى يذهب بعضه بعضاً.
وقال مجاهدٌ وأبو العالية وقتادة ومالكٌ، عن زيد بن أسلم وابن زيدٍ: {واللّيل إذا يسر}: إذا سار.وهذا يمكن على حمله على ما قال ابن عبّاسٍ، أي: ذهب. ويحتمل أن يكون المراد: إذا سار، أي: أقبل، وقد يقال: إن هذا أنسب؛ لأنه في مقابلة قوله: {والفجر}؛ فإنّ الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل، فإذا حمل قوله: {واللّيل إذا يسر} على إقباله كان قسماً بإقبال الليل وإدبار النهار، وبالعكس: {واللّيل إذا عسعس والصّبح إذا تنفّس}.
وكذا قال الضّحّاك: {واللّيل إذا يسر} أي: يجري.
وقال عكرمة: {واللّيل إذا يسر} يعني: ليلة جمعٍ. رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أحمد بن عصامٍ، حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا كثير بن عبد الله بن عمرٍو، قال: سمعت محمد بن كعبٍ القرظيّ يقول في قوله: {واللّيل إذا يسر} قال: اسر يا سار، ولا تبيتنّ إلاّ بجمعٍ.
وقوله: {هل في ذلك قسمٌ لذي حجرٍ} أي: لذي عقلٍ ولبٍّ وحجاً.
وإنما سمّي العقل حجراً؛ لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه حجر البيت؛ لأنه يمنع الطائف من اللّصوق بجداره الشاميّ، ومنه حجر اليمامة، وحجر الحاكم على فلانٍ إذا منعه التصرّف، {ويقولون حجراً محجوراً}، كلّ هذا من قبيلٍ واحدٍ ومعنًى متقاربٍ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حجٍّ وصلاةٍ، وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرّب بها إليه عباده المتّقون، المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه، الخاشعون لوجهه الكريم.
ولمّا ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ} وهؤلاء كانوا متمرّدين عتاةً جبّارين، خارجين عن طاعته، مكذّبين لرسله، جاحدين لكتبه، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمّرهم وجعلهم أحاديث وعبراً فقال: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ إرم ذات العماد}.
وهؤلاء عادٌ الأولى، وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوحٍ. قاله ابن إسحاق، وهم الذي بعث فيهم رسوله هوداً عليه السلام، فكذّبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم، وأهلكهم {بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ فهل ترى لهم من باقيةٍ}. وقد ذكر الله قصّتهم في القرآن في غير ما موضعٍ؛ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون.
فقوله: {بعادٍ إرم ذات العماد} عطف بيانٍ؛ زيادة تعريفٍ بهم.
وقوله: {ذات العماد}؛ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشّعر التي ترفع بالأعمدة الشّداد، وقد كانوا أشدّ الناس في زمانهم خلقةً وأقواهم بطشاً، ولهذا ذكّرهم هودٌ بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربّهم الذي خلقهم، فقال: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطةً فاذكروا آلاء الله} {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
وقال تعالى: {فأمّا عادٌ فاستكبروا في الأرض بغير الحقّ وقالوا من أشدّ منّا قوّةً أولم يروا أنّ الله الّذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّةً}، وقال ههنا: {الّتي لم يخلق مثلها في البلاد} أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم؛ لقوّتهم وشدّتهم وعظم تركيبهم.
قال مجاهدٌ: إرم أمّةٌ قديمةٌ. يعني: عاداً الأولى.
قال قتادة بن دعامة والسّدّيّ: إنّ إرم بيت مملكة عادٍ. وهذا قولٌ حسنٌ جيّدٌ قويٌّ.
وقال مجاهدٌ وقتادة والكلبيّ في قوله: {ذات العماد}: كانوا أهل عمودٍ، لا يقيمون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: إنما قيل لهم: {ذات العماد} لطولهم. واختار الأوّل ابن جريرٍ، وردّ الثاني فأصاب.
وقوله: {الّتي لم يخلق مثلها في البلاد} أعاد ابن زيدٍ الضمير على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد.
أمّا قتادة وابن جريرٍ فأعاد الضمير على القبيلة؛ أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني: في زمانهم. وهذا القول هو الصواب. وقول ابن زيدٍ ومن ذهب مذهبه ضعيفٌ؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: {لم يخلق مثلها في البلاد}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عمّن حدّثه، عن المقدام، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: ((كان الرّجل منهم يأتي على الصّخرة فيحملها على الحيّ فيهلكهم)).
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أبو الطاهر، حدّثنا أنس بن عياضٍ، عن ثور بن زيدٍ الدّيليّ، قال: قرأت كتاباً - قد سمّى حيث قرأه -: أنا شدّاد بن عادٍ، وأنا الذي رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحدٍ، وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرعٍ، لا يخرجه إلا أمّة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: فعلى كلّ قولٍ، سواءٌ كانت العماد أبنيةً بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحاً يقاتلون به، أو طول الواحد منهم - فهم قبيلةٌ وأمّةٌ من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضعٍ، المقرونون بثمود، كما ههنا. والله أعلم.
ومن زعم أنّ المراد بقوله: {إرم ذات العماد} مدينةٌ إما دمشق، كما روي عن سعيد بن المسيّب وعكرمة، أو إسكندريّة كما روي عن القرظيّ، أو غيرهما - ففيه نظرٌ؛ فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ إرم ذات العماد} إن جعل ذلك بدلاً أو عطف بيانٍ؛ فإنه لا يتّسق الكلام حينئذٍ، ثمّ المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعادٍ، وما أحلّ الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أنّ المراد الإخبار عن مدينةٍ أو إقليمٍ.
وإنما نبّهت على هذا لئلا يغترّ بكثيرٍ ممّا ذكره جماعةٌ من المفسّرين عند هذه الآية من ذكر مدينةٍ يقال لها: إرم ذات العماد مبنيةٌ بلبن الذهب والفضّة، قصورها ودورها وبساتينها، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحةٌ، وثمارها ساقطةٌ، ودورها لا أنيس بها، وسورها وأبوابها تصفر، ليس بها داعٍ ولا مجيبٌ، وأنّها تنتقل؛ فتارةً تكون بأرض الشام، وتارةً باليمن، وتارةً بالعراق، وتارةً بغير ذلك من البلاد.
فإنّ هذا كلّه من خرافات الإسرائيليّين من وضع بعض زنادقتهم؛ ليختبروا بذلك القول عقول الجهلة من الناس إن صدّقهم في جميع ذلك.
وذكر الثّعلبيّ وغيره أنّ رجلاً من الأعراب - وهو عبد الله بن قلابة - في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت، فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ اطّلع على مدينةٍ عظيمةٍ، لها سورٌ وأبوابٌ، فدخلها فوجد فيها قريباً ممّا ذكرناه من صفات المدينة الذهبيّة التي تقدّم ذكرها، وأنه رجع فأخبر الناس، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال: فلم يروا شيئاً.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ قصّة إرم ذات العماد ههنا مطوّلةً جدًّا، فهذه الحكاية ليس يصحّ إسنادها، ولو صحّ إلى ذلك الأعرابيّ فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوعٌ من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقةٌ في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحّته.
وهذا قريبٌ ممّا يخبر به كثيرٌ من الجهلة والطامعين و المتحيّلين من وجود مطالب تحت الأرض، فيها قناطير الذهب والفضّة، وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها، فيحتالون على أموال الأغنياء والضّعفة والسّفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم.
والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهليّةً وإسلاميةً، وكنوزاً كثيرةً، من ظفر بشيءٍ منها أمكنه تحويلها، فأمّا على الصفة التي زعموها فكذبٌ وافتراءٌ وبهتٌ، ولم يصحّ في ذلك شيءٌ ممّا يقولون إلاّ عن نقلهم، أو نقل من أخذ عنهم. والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.
وقول ابن جريرٍ: يحتمل أن يكون المراد بقوله: {إرم} قبيلةً أو بلدةً كانت عادٌ تسكنها فذلك لم تصرف - فيه نظرٌ؛ لأنّ المراد من السّياق إنما هو الإخبار عن القبيلة، ولهذا قال بعده: {وثمود الّذين جابوا الصّخر بالواد} يعني: يقطّعون الصخر بالوادي.
قال ابن عبّاسٍ: ينحتونها ويخرقونها، وكذا قال مجاهدٌ وقتادة والضحّاك وابن زيدٍ، ومنه يقال: (مجتابي النّمار) إذا خرقوها، واجتاب الثوب إذا فتحه، ومنه الجيب أيضاً، وقال الله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين}.وأنشد ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ ههنا قول الشاعر:
ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله بائد = كما باد حيٌّ من شنيفٍ ومارد
هم ضربوا في كلّ صمّاء صعدةً = بأيدٍ شدادٍ أيّدات السّواعد
وقال ابن إسحاق: كانوا عرباً، وكان منزلهم بوادي القرى. وقد ذكرنا قصّته مستقصاةً في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته.
وقوله: {وفرعون ذي الأوتاد} قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: الأوتاد: الجنود الذين يشدّون له أمره. ويقال: كان فرعون يوتّد أيديهم وأرجلهم في أوتادٍ من حديدٍ، يعلّقهم بها. وكذا قال مجاهدٌ: كان يوتّد الناس بالأوتاد. وهكذا قال سعيد بن جبيرٍ والحسن والسّدّيّ.
قال السدّيّ: كان يربط الرّجل في كلّ قائمةٍ من قوائمه في وتدٍ، ثمّ يرسل عليه صخرةً عظيمةً فتشدخه.
وقال قتادة: بلغنا أنه كان له مطالّ وملاعب يلعب له تحتها من أوتادٍ وحبالٍ.
وقال ثابتٌ البنانيّ، عن أبي رافعٍ: قيل لفرعون: {ذي الأوتاد}؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتادٍ، ثمّ جعل على ظهرها رحًى عظيمةً حتى ماتت.
وقوله: {الّذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد} أي: تمرّدوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذيّة للناس.
{فصبّ عليهم ربّك سوط عذابٍ} أي: أنزل عليهم رجزاً من السماء، وأحلّ بهم عقوبةً لا يردّها عن القوم المجرمين.
وقوله: {إنّ ربّك لبالمرصاد} قال ابن عبّاسٍ: يسمع ويرى، يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاًّ بسعيه في الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلّهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاًّ بما يستحقّه، وهو المنزّه عن الظّلم والجور.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ ههنا حديثاً غريباً جدًّا، وفي إسناده نظرٌ، وفي صحّته، فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن أبي الحواريّ، حدّثنا يونس الحذّاء، عن أبي حمزة البيسانيّ، عن معاذ بن جبلٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((يا معاذ، إنّ المؤمن لدى الحقّ أسيرٌ. يا معاذ، إنّ المؤمن لا يسكن روعه، ولا يأمن اضطرابه حتّى يخلّف جسر جهنّم خلف ظهره. يا معاذ، إنّ المؤمن قيّده القرآن عن كثيرٍ من شهواته، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عزّ وجلّ، فالقرآن دليله، والخوف محجّته، والشّوق مطيّته، والصّلاة كهفه، والصّوم جنّته، والصّدقة فكاكه، والصّدق أميره، والحياء وزيره، وربّه عزّ وجلّ من وراء ذلك كلّه بالمرصاد)).
قال ابن أبي حاتمٍ: يونس الحذّاء، وأبو حمزة مجهولان، وأبو حمزة عن معاذٍ مرسلٌ، ولو كان عن أبي حمزة لكان حسناً. أي: لو كان من كلامه لكان حسناً.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا صفوان بن صالحٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن صفوان بن عمرٍو، عن أيفع بن عبدٍ الكلاعيّ، أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول: إنّ لجهنّم سبع قناطر. قال: والصّراط عليهنّ. قال: فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى، فيقول: {قفوهم إنّهم مسؤولون}.
قال: فيحاسبون على الصلاة، ويسألون عنها. قال: فيهلك فيها من هلك، وينجو من نجا، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدّوها؟ وكيف خانوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا، فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرّحم كيف وصلوها؟ وكيف قطعوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا. قال: والرحم يومئذٍ متدلّيةٌ إلى الهويّ في جهنّم، تقول: اللّهمّ من وصلني فصله، ومن قطعني فاقطعه. قال: وهي التي يقول الله عزّ وجلّ: {إنّ ربّك لبالمرصاد}.
هكذا أورد هذا الأثر، ولم يذكر تمامه). [تفسير القرآن العظيم: 8/390-398]