22 Oct 2008
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)}
(10-22) {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا
يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
(18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم
مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
(22)}
ولما ذكرَ عقوبةَ الظالمينَ، ذكرَ ثوابَ المؤمنينَ، فقالَ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهمْ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهمْ {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الذي حصلَ بهِ الفوزُ برضَا اللهِ ودارِ كرامتهِ.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي: إنَّ عقوبتهُ لأهلِ الجرائمِ والذنوبِ العظامِ شديدةٌ، وهوَ بالمرصادِ للظالمينَ، كمَا قالَ اللهُ تعالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي: هوَ المنفردُ بإبداءِ الخلقِ وإعادتهِ، فلا مشاركَ لهُ في ذلكَ.
{وَهُوَ الْغَفُورُ} الذي يغفرُ الذنوبَ جميعهَا لمنْ تابَ، ويعفو عنِ السيئاتِ لمنِ استغفرهُ وأنابَ . {الْوَدُودُ}
الذي يحبهُ أحبابهُ محبةً لا يشبهُهَا شيءٌ، فكَما أنَّهُ لا يشابههُ شيءٌ
في صفاتِ الجلال والجمالِ، والمعاني والأفعالِ، فمحبتهُ في قلوبِ خواصِّ
خلقهِ، التابعةِ لذلكَ، لا يشبهُهَا شيءٌ منْ أنواعِ المحابِّ، ولهذا كانتْ
أصلَ العبوديةِ، وهيَ المحبةُ التي تتقدَّمُ جميعَ المحابِّ وتغلِبُهَا،
وإنْ لم يكنْ غيرُهَا تبعاً لها كانتْ عذاباً على أهلهَا، وهوَ تعالى
الودودُ، الوادُّ لأحبابهِ، كمَا قالَ تعالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
والمودةُ: هيَ المحبةُ الصافيةُ، وفي هذا سرٌّ لطيفٌ، حيثُ قرنَ الودودُ
بالغفورِ،ليدلَّ ذلكَ على أنَّ أهلَ الذنوبِ إذا تابُوا إلى اللهِ
وأنابُوا، غفرَ لهمْ ذنوبهمْ وأحبَّهمْ، فلا يقالُ: بلْ تغفرُ ذنوبهمْ، ولا
يرجعُ إليهمُ الودُّ، كما قالهُ بعضُ الغالطينَ.
بلِ اللهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ حينَ يتوبُ، منْ رجلٍ لهُ راحلةٌ، عليهَا
طعامُهُ وشرابهُ وما يصلحهُ، فأضلَّهَا في أرضِ فلاةٍ مهلكةٍ، فأيسَ منهَا،
فاضطجع في ظلِّ شجرةٍ ينتظرُ الموتَ، فبينمَا هوَ على تلكَ الحالِ، إذا
راحلتُه على رأسهِ، فأخذَ بخطامِهَا، فاللهُ أعظمُ فرحاً بتوبةِ العبدِ من
هذا براحلتهِ، وهذا أعظمُ فرحٍ يقدَّرُ.
فللهِ الحمدُ والثناءُ، وصفوُ الودادِ، ما أعظمَ برَّهُ، وأكثرَ خيرَهُ، وأغزرَ إحسانَهُ، وأوسعَ امتنانهُ!!
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}
أي: صاحبِ العرشِ العظيمِ، الذي منْ عظمتهِ، أنَّهُ وسعَ السماواتِ والأرضَ
والكرسيَّ، فهي بالنسبةِ إلى العرشِ كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاةٍ، بالنسبةِ
لسائرِ الأرضِ، وخصَّ اللهُ العرشَ بالذكرِ، لعظمتِهِ، ولأنَّهُ أخصُّ
المخلوقاتِ بالقربِ منهُ تعالَى، وهذا على قراءةِ الجرِّ، يكونُ (المجيدِ) نعتاً للعرشِ، وأمَّا على قراءةِ الرفعِ، فإنَّ (المجيدُ) نعتٌ للهِ، والمجدُ سعةُ الأوصافِ وعظمتُهَا.
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}أي: مهمَا أرادَ شيئاً فعلَهُ، إذا أرادَ شيئاً قالَ لهُ كنْ فيكونُ، وليسَ أحدٌ فعالاً لما يريدُ إلا اللهَ.
فإنَّ المخلوقاتِ، لو أرادتْ شيئاً، فإنَّهُ لا بُدَّ لإرادتِها منْ معاونٍ
وممانعٍ، واللهُ لا معاونَ لإرادتِهِ،ولا ممانعَ لهُ ممَّا أرادَ.
ثمَّ ذكرَ منْ أفعالهِ الدالةِ على صدقِ ما جاءتْ بهِ رسلُهُ،فقالَ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وكيفَ كذبُوا المرسلينَ، فجعلهمْ اللهُ مِن المهلكينَ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي: لا يزالونَ مستمرينَ على التكذيبِ والعنادِ، لا تنفعُ فيهمُ الآياتُ، ولا تُجدي لديهمُ العظاتُ.
{وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ} أي: قدْ أحاطَ بهمْ علماً وقدرةً، كقولهِ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ففيهِ الوعيدُ الشديدُ للكافرينَ، مِنْ عقوبةِ مَنْ همْ في قبضتهِ، وتحتَ تدبيرهِ.
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي: وسيعُ المعاني عظيمُهَا، كثيرُ الخيرِ والعلمِ، {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} مِنَ التغييرِ والزيادةِ والنقصِ، ومحفوظٌ مِنَ الشياطينِ، وهوَ اللوحُ المحفوظُ الذي قدْ أثبتَ اللهُ فيهِ كلَّ شيءٍ.
وهذا يدلُّ على جلالةِ القرآنِ وجزالتهِ، ورفعةِ قدرهِ عندَ اللهِ تعالى، واللهُ أعلمُ.
تم تفسير السورة.
11- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَمِنْهُم الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى نَارِ الأُخْدُودِ، وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يَرْتَدُّوا، {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}؛ بِسَبَبِ الإِيمَانِ والعملِ الصالحِ، {ذَلِكَ} المذكورُ {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الَّذِي لا يَعْدِلُهُ فوزٌ، وَلا يُقَارِبُهُ وَلا يُدَانِيهِ.
12- {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} لِمَنْ عَصَاهُ؛ أَيْ: أَخْذَهُ لِلْجَبَابِرَةِ والظَّلَمَةِ شَدِيدٌ، قَدْ تَضَاعَفَ وتَفَاقَمَ.
13- {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}؛ أَيْ: يَخْلُقُ الْخَلْقَ أَوَّلاً فِي الدُّنْيَا وَيُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ.
14- {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}؛
أَيْ: بَالِغُ المَغْفرةِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لا
يَفْضَحُهُمْ بِهَا، بَالِغُ المَحَبَّةِ للمُطِيعِينَ منْ أَوْلِيَائِهِ.
15- {ذُو الْعَرْشِ}؛ أَيْ: هُوَ تَعَالَى رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، والمَجْدُ هُوَ النهايةُ فِي الْكَرَمِ والفَضْلِ.
17- {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ}؛
أَيْ: هَلْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الْجُمُوعِ الكافرةِ
المُكَذِّبَةِ لأَنْبِيَائِهِم، الَّتِي تَجْمَعُ لَهُم الأجنادَ
لِقِتَالِهِمْ عَلَيْهَا؟
18- {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} الْمُرَادُ بِحَدِيثِهِمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ من الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ.
19- {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ}؛
أَيْ: بَلْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكُونَ من الْعَرَبِ فِي تكذيبٍ شَدِيدٍ
لَكَ، وَلِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ
من الْكُفَّارِ.
20- {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}؛ أَيْ: يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ بِأُولَئِكَ.
21- {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ}؛ أَيْ: مُتَنَاهٍ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ والبَرَكةِ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ شِعْرٌ وَكَهَانَةٌ وَسِحْرٌ.
22- {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}؛ أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي لَوْحٍ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ منْ وُصولِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ.
المتن :
10-قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}
أي: إنَّ الذين أقرُّوا بتوحيد الله من الذين عُذِّبوا بالنار وغيرهم من
المؤمنين، وعملوا بطاعة الله: بفعل أوامره واجتنابِ نواهيه، لهم بساتين
تجري على أرضها أنهارُ اللَّبَنِ والعَسَلِ والماء، وذلك النعيم هو
الظَفَرُ الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة.
11-قولُه تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي: إنَّ أخذَ ربِّك يا محمدوانتقامَه قويٌّ، كما أخبرَ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن الله لَيُمْلي للظالم، حتى إذا أخذَهُ لم يَفْلِتْهُ، ثمَّ قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} )).
12- 14-قولُه تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}
أي: إنَّ الله ذا البطشِ الشديدِ يُبدئُ العذابَ على الكافرين في الدنيا،
ويعيدُه عليهم في الآخرة(1)، وإنه الذي يسترُ الذنبَ فلا يعاقِبُ به،
ويحبُّ أولياءَه ويحبونَه(2).
15-قولُه تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: الله الكريمُ(3) الذي له صفاتُ الكمالِ هو صاحبُ العرشِ الذي وَسِعَ السموات والأرض(4).
16-قولُه تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}
أي: من كمالِ هذا الربِّ المجيدِ أنه يفعلُ ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء،
لا يردُّه أحدٌ عن شيء ولا يَحُدُّه، فمتى شاء ضَحِكَ، ومتى شاء سَخِطَ،
ومتى شاء أَحْيَا، ومتى شاء أَمَاتَ، وهكذا غيرها من أفعاله.
17- 18-قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} هذا
مثالٌ لأُمَم وقع عليها بطشُ الله، والمعنى: قد أتاكَ فيما أُنزِلَ عليكَ
خبرُ الجموعِ الكافرةِ المتجنِّدة لحربِ أولياء الله، وهم فرعون وقومه
الذين كذَّبوا موسى عليه السلام، وقومُ ثمودَ الذين كَذَّبوا صالحاً عليه
السلام، وهم قد كفروا برسُلِهم عن عِلْمٍ، فكان كُفرُهم كُفْرَ جُحود.
19-20-قولُه تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ}
أي: لكن الذين كفروا من قومِك ينسبونَكَ إلى الكَذِبِ، ولا يصدِّقونَكَ
فيما تخبِرُ به من الوحي، والله المطَّلعُ عليهم، متمكّنٌ منهم، فهم لا
يفلِتون منه، ولا يُعْجِزونَه، ولا مكان لهم يُؤويهم من عذابه.
21-22-قولُه تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}
أي: لكن هذا الوحي الذي يكذِّبون به كلامٌ متلوٌّ باللسانِ، وهو كلامٌ
كريمٌ شريفٌ(5)؛ لأنه كلامُ ربِّ العالمين، وهو محفوظٌ مَصُونٌ في اللوح
المحفوظ، محفوظٌ من كلِّ ما يُشينه وينقصه(6)، فلا تصِل إليه يدُ
التخريب(7)، والله أعلم.
القارئ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)}
الشيخ:
ثم قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
يعني: أن الذين آمنوا بالله جل وعلا، وأطاعوه، صدقوا بما جاءت به الأنبياء
والرسل، واستقاموا على دينه وشرعه، فإن الله -جل وعلا- قد أعد لهم في
الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذه الأنهار بينها الله -جل وعلا- في
قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِن مَاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن
لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} فهذه أربعة أنهار تجري في الجنة، أعدها الله -جل وعلا- للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله -جل وعلا-: {مِن مَاء غَيْرِ آسِنٍ} أي: غير آجن، يعني غير فاسد بطول مكثه.
ثم قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}
لأن فوز الآخرة هو الفوز الحق، وأما من فاز بمتاع الدنيا وخسر الآخرة؛
فذلك هو الخسران المبين، ولهذا كان الفوز بنعيم الآخرة هو الفوز الكبير
الذي ليس شيء أكبر منه، بل أكبر شيء هو الفوز بنعيم الآخرة، وأكبر النعيم
النظر إلى وجه الله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}
وهذه الآية وما بعدها فيها بيان بأن الله -جل وعلا- وإن أمهل الظالمين
وسلطهم على عباده المؤمنين؛ فإن بطشه -جل وعلا- ونقمته منهم شديدة، إذا
أخذهم -جل وعلا- لم يفلتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
فقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي: أن الله -جل وعلا- يأخذ أولئك الكفار بعنف وقوة، ثم أكد -جل وعلا- ذلك وزاده تأكيداً بقوله جل وعلا: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}
فالبطش في ذاته هو: أخذ بعنف وقوة، ثم إن هذا البطش أيضاً موصوف بأنه
شديد، ومؤكد باللام، وهذا يدل على قوته، والله -جل وعلا- بطشه شديد، ثم هذا
البطش مؤكد أيضاً بالشدة، فهذا دليل على أن الذين يؤذون المؤمنين
ويفتنونهم عن دينهم أن الله -جل وعلا- لابد وأن ينتقم لأوليائه، منهم في
الدنيا والآخرة.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي: أن الله -جل وعلا- يبدئ الخلائق فينشئهم من العدم، ثم بعد ذلك يحييهم بعد موتهم:
-كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ
يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
-وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.
وفي هذه الآية أيضاً تأكيد وبيان بأن الله -جل وعلا- سيعيد أولئك الذي
عذبوا المؤمنين، وسيجازيهم، كما أنه -جل وعلا- سيرد المؤمنين الصابرين
إليه، ويجزيهم على صبرهم أحسن الجزاء.
ثم قال جل وعلا: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أي: أنه -جل وعلا- غفور كثير المغفرة، والمغفرة: هي ستر الذنوب والتجاوز عنها.
فالله -جل وعلا- لكثرة ستره لذنوب عباده وصف نفسه بأنه غفور وسمى نفسه بالغفور {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} .
والودود أي: جل وعلا الذي يحب المؤمنين ويحبه المؤمنون، فالله -جل وعلا-
وادٌّ للمؤمنين، والمؤمنون يودون الله جل وعلا، فهو يحبهم وهم يحبونه:
- كما قال الله -جل وعلا-: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
- وقال -جل وعلا-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
- وقال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
فالله -جل وعلا- يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبون ربهم.
ثم قال -جل وعلا-: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: أنه -جل وعلا- صاحب عرش، وهذا العرش مخلوق من مخلوقات الله، خلقه الله -جل وعلا- واستوى عليه.
والعرش أصله في لغة العرب: سرير الملك، ولا تعرف العرب إلا هذا المعنى؛ كما قاله ابن قتيبة.
فالله -جل وعلا- له سرير، وهذا السرير له قوائم كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((فإذا موسى آخذ بقوائم العرش)).
وهذا السرير تحمله الملائكة كما قال الله -جل وعلا-: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يعني: أن الملائكة الذين يحملون العرش، والملائكة الذين حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقال -جل وعلا-: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .
وهذا العرش هو أعلى المخلوقات وهو كالقبة عليها؛ كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا سألتم الله تعالى الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن)) فعرش الله -جل وعلا- فوق هذه المخلوقات كالقبة عليها، ولكن كيفية هذا العرش لا نعلمه؛ لأن عقولنا لا تحيط به ولا تدركه.
وهذا العرش قد استوى الله -جل وعلا- عليه، قد ذكر الله -جل وعلا- استواءه على العرش في مواضع سبعة من كتابه الكريم.
الاستواء على العرش يدل على علو الله -جل وعلا- على خلقه.
ثم قال جل وعلا: {الْمَجِيدُ} والمجيدُ هذه قرأها جمهور القراء بالرفع أي {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} والمجيد: هذا صفة لقوله (ذو) يعني: أن الله -جل وعلا-مجيد.
والمجد في لغة العرب :هو نيل الشرف، وهو أيضاً الكثرة والسعة.
والله -جل وعلا- قد كمل سؤدده على خلقه، وله -جل وعلا- صفات الجمال والكمال
والجلال والكبرياء والعظمة، كما أنه -جل وعلا- قد كثر خيره ووسع عباده؛
ولهذا العباد يمجدون ربهم جل وعلا، فهو ماجد، وعباده يمجدونه جل وعلا.
ثم قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي: أن
الله -جل وعلا- يفعل مايريد، يفعل أي شيء يريده، ولهذا عبر الله -جل وعلا-
عن ذلك بقوله: {لَمَا} والـ (ما) هذه حرف من ألفاظ العموم، يدل على أن
الله جل وعلا يفعل ما يشاء.
وهذه الآية قوله -جل وعلا-: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} تثبت أن الله -جل وعلا- لا يتعاظمه شيء، كل شيء أراده فعله، وما فعله -جل وعلا- فهو يريده.
أما العبد فقد يريد شيئاً ولا يتمكن من فعله، وقد يفعل شيئاً وهو لا يريد
فعله، وأما الله -جل وعلا- فالفعل والإرادة في حقه متلازمان، ما فعله -جل
وعلا- فقد أراده، وما أراده -جل وعلا- فعله؛ لأنه -جل وعلا- هو الذي له ملك
السماوات والأرض، وهو العزيز الذي قد قهر كل شيء، ولا يمتنع عليه أي شيء.
ثم قال جل وعلا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (7) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} يعني: قد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- نبأ الجنود، ثم بينهم -جل وعلا- بقوله: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}
والله -جل وعلا- في كتابه قد نبأ نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان من خبر
قوم فرعون، وما كان من خبر ثمود قوم صالح، وما أهلكهم الله -جل وعلا- به.
وقد قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكر فرعون وثمود مع أن الأمم
المهلكة كثيرة؛ إلا أن خبر فرعون كان عند أهل الكتاب منتشراً مشتهراً
ظاهراً، ولهم أثار باقية يراها الناس في أسفارهم، وثمود لهم آثار باقية
يراها العرب في رحلتهم إلى بلاد الشام، لأنهم يمرون على ديار ثمود، ويرون
هذه الآيات العظيمة، من هذه البيوت التي نحتوها، ومع ذلك أهلكهم الله -جل
وعلا- وأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، فلم يستطيعوا أن يهربوا مما أراده الله جل
وعلا، بل بطش بهم جل وعلا، وفعل بهم ما أراد، وقاهرهم جل وعلا، وحمده
أولياؤه على ذلك؛ كما قال الله -جل وعلا-: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثم قال جل وعلا: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ}
يعني: مع أن الله -جل وعلا- أهلك هذه الأمم، ورأوا وشاهدوا آثارهم، وعلموا
حالهم علماً يقينياً لا شك فيه؛ مع ذلك هم مستمرون في تكذيب النبي صلى
الله عليه وسلم، وسيستمرون على ذلك؛ لأن الله -جل وعلا- طبع على قلوبهم
بكفرهم بآيات الله جل وعلا، ولهذا لو جاءتهم كل آية لا يؤمنوا حتى يروا
العذاب الأليم.
ثم قال جل وعلا: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ}
أي: أن الله -جل وعلا- محيط بأولئك، لا يخرجون من قبضته وحكمه، بل هو محيط
-جل وعلا- بهم، قد أحاط بهم فلا يفلت أحد منهم، ولا يخرج أحد منهم عن قهره
وحكمته، ولا يخرج أحد منهم عن قبضته وإرادته؛ بل هو -جل وعلا- قد أحاط
بهم، وهم بين يديه جل وعلا، فإذا شاء عذبهم، وإذا شاء رحمهم، وإذا شاء
انتقم منهم جزاء تكذبيهم، فهم لا يفلتون عن الله جل وعلا؛ كما قال تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} وهؤلاء الكفار داخلون في قوله -جل وعلا-: {بِكُلِّ شَيْءٍ} وهم في هذه الآية {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ} أي: هؤلاء المكذبون الله -جل وعلا- محيط من ورائهم، لا يخرجون عن قهره وسلطانه جل وعلا.
ثم قال جل وعلا: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}
أي: هذا القرآن الذي أنزله الله -جل وعلا- على نبيه صلى الله عليه وسلم هو
قرآن مجيد، فيه الهدى والنور، وفيه الخير والسعة والبركة لمن اتبعه والتزم
أوامره، وهو قرآن مجيد لما اشتمل عليه من الحق والهدى والنور.
ثم قال -جل وعلا-: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أي:
أن هذا القرآن في لوح محفوظ عند الله جل وعلا، وهذا اللوح المحفوظ عند الله
-جل وعلا- كتب فيه مقادير الخلائق، وجعل فيه هذا القرآن العظيم، ثم
فَصَلَه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله -جل وعلا-: {فَلا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ
مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وقال -جل وعلا-: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
تفسير قول الله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات ...)الآية
تفسير قول الله تعالى : ( إن بطش ربك لشديد )
تفسير قول الله تعالى : ( إنه هو يبدئ ويعيد )
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد)
تفسير قول الله تعالى : ( وهو الغفور الودود )
أقوال السلف في معنى (الودود)
تفسير قول الله تعالى : ( ذو العرش المجيد )
العرش أعلى المخلوقات
حمل الملائكة للعرش
العرش له قوائم
القراءات في قوله تعالى: (المجيد)
تفسير قول الله تعالى : ( فعال لما يريد )
تفسير قول الله تعالى : ( هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود )
مناسبة ذكر فرعون وثمود دون غيرهم من الأمم المهلكة
تفسير قول الله تعالى : ( بل الذين كفروا في تكذيب)
تفسير قول الله تعالى : ( والله من ورائهم محيط)
تفسير قول الله تعالى : ( بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ)
القراءات في قوله تعالى: (محفوظ)
الأسئلة
س1: بين مناسبة هذه الآيات لما قبلها.
س2: اشرح مفهوم الفوز في القرآن الكريم من خلال دراستك لهذه الآيات.
س3: تكلم بإيجاز عن أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن الكريم في ضوء دراستك لهذه السورة، مبيناً فوائد هذا الأسلوب.
س4: اذكر شروط العمل الصالح، واشرحها بإيجاز.
س5: قال الله تعالى:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} فسر هذه الآية باختصار، وبين أثرها في تقويم سلوك العبد.
س6: اذكر أقوال العلماء في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.
س7: اذكر أسماء الله جل وعلا وصفاته المذكورة في هذه السورة، واشرحها بإيجاز.
س8: اذكر القراءتين في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}، وبين المعنى على كلا القراءتين.
س9: اذكر القراءتين في قول الله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، وبين المعنى على كلا القراءتين.
تفسير ابن كثير
ثم قال: {إنّ بطش ربّك لشديدٌ}
أي: إنّ بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذّبوا رسله وخالفوا أمره لشديدٌ
عظيمٌ قويٌّ؛ فإنّه تعالى ذو القوّة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في
مثل لمح البصر أو هو أقرب. ولهذا قال: {إنّه هو يبدئ ويعيد} أي: من قوّته وقدرته التّامّة يبدئ الخلق ثمّ يعيده كما بدأه بلا ممانعٍ ولا مدافع. {وهو الغفور الودود}. أي: يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ولو كان الذّنب من أيّ شيءٍ كان، و{الودود} قال ابن عبّاسٍ وغيره: «هو الحبيب». {ذو العرش}. أي: صاحب العرش المعظّم العالي على جميع الخلائق، والمجيد فيه قراءتان: الرّفع على أنّه صفةٌ للرّبّ عزّ وجلّ، والجرّ على أنّه صفةٌ للعرش، وكلاهما معنًى صحيحٌ. {فعّالٌ لما يريد}.
أي: مهما أراد فعله لا معقّب لحكمه ولا يسأل عمّا يفعل لعظمته وقهره
وحكمته وعدله كما روّينا عن أبي بكرٍ الصّدّيق أنّه قيل له وهو في مرض
الموت: هل نظر إليك الطّبيب؟ قال: نعم. قالوا: فما قال لك؟ قال: قال لي:
إنّي فعّالٌ لما أريد. وقوله: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود}. أي: هل بلغك ما أحلّ اللّه بهم من البأس وأنزل عليهم من النّقمة التي لم يردّها عنهم أحدٌ؟ . وهذا تقريرٌ لقوله: {إنّ بطش ربّك لشديدٌ}. أي: إذا أخذ الظّالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيزٍ مقتدرٍ. قال
ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، حدّثنا أبو
بكر بن عيّاشٍ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ قال: مرّ النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم على امرأةٍ تقرأ:« {هل أتاك حديث الجنود}. فقام يسمع؛ فقال: «نعم، قد جاءني» . وقوله: {بل الّذين كفروا في تكذيبٍ}. أي: هم في شكٍّ وريبٍ وكفرٍ وعنادٍ. {واللّه من ورائهم محيطٌ}. أي: هو قادرٌ عليهم قاهرٌ لا يفوتونه ولا يعجزونه. {بل هو قرآنٌ مجيدٌ}. أي: عظيمٌ كريمٌ. {في لوحٍ محفوظٍ}. أي: هو في الملأ الأعلى محفوظٌ من الزّيادة والنّقص والتّحريف والتّبديل. قال
ابن جريرٍ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا قرّة بن سليمان، حدّثنا حرب بن
سريجٍ، حدّثنا عبد العزيز بن صهيبٍ، عن أنس بن مالكٍ في قوله: {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ}. قال: «إنّ اللّوح المحفوظ الذي ذكر اللّه: {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ}. في جبهة إسرافيل». وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو صالحٍ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ: أنّ أبا الأعيس، هو عبد الرحمن بن سلمان، قال: «ما
من شيءٍ قضى اللّه -القرآن فما قبله وما بعده- إلاّ وهو في اللّوح
المحفوظ، واللّوح المحفوظ بين عيني إسرافيل، لا يؤذن له بالنّظر فيه». وقال الحسن البصريّ: «إنّ هذا القرآن المجيد عند اللّه في لوحٍ محفوظٍ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه». وقد روى البغويّ من طريق إسحاق بن بشرٍ، أخبرني مقاتلٌ وابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «إنّ
في صدر اللّوح: لا إله إلاّ اللّه وحده، دينه الإسلام، ومحمّدٌ عبده
ورسوله، فمن آمن باللّه وصدّق بوعده واتّبع رسوله أدخله الجنّة». قال: «واللّوح
لوحٌ من درّةٍ بيضاء، طوله ما بين السّماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق
والمغرب، وحافتاه الدّرّ والياقوت، ودفّتاه ياقوتةٌ حمراء، وقلمه نورٌ،
وكلامه معقودٌ بالعرش، وأصله في حجر ملكٍ». قال مقاتلٌ: «اللّوح المحفوظ عن يمين العرش». وقال
الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا منجاب بن الحارث،
حدّثنا إبراهيم بن يوسف، حدّثنا زياد بن عبد اللّه، عن ليثٍ، عن عبد الملك
بن سعيد بن جبيرٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم قال: «إنّ اللّه خلق لوحاً محفوظاً من
درّةٍ بيضاء، صفحاتها من ياقوتةٍ حمراء، قلمه نورٌ، وكتابه نورٌ، للّه فيه
في كلّ يومٍ ستّون وثلاثمائة لحظةٍ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعزّ ويذلّ
ويفعل ما يشاء» . آخر تفسير سورة البروج، وللّه الحمد والمنّة).[تفسير القرآن العظيم: 8/ 372-373]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار بخلاف ما أعدّ لأعدائه من الحريق والجحيم؛ ولهذا قال: {ذلك الفوز الكبير}.