22 Oct 2008
سورةُ الطَّارِق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ
الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
تفسير سورة الطارق
(1-17) {بسم الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاء
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ
(3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ
الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ
(10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} .
يقولُ تعالَى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} ثمَّ فسرَ الطارقَ بقولهِ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي: المضيءُ، الذي يثقبُ نُورُهُ، فيخرقُ السماواتِ ، والصحيحُ أنَّهُ اسمُ جنسٍ يشملُ سائرَ النجومِ الثواقبِ.
وقدْ قيلَ:إنَّهُ (زُحلُ) الذي يخرقُ السماواتِ السبعِ وينفذُ فيها، فيرى منهَا.
وسُمِّيَ طارقاً،لأنَّهُ يطرقُ ليلاً، والمقسَمُ عليهِ قولهُ: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يحفظُ عليهَا أعمالَهَا الصالحةَ والسيئةَ، وستجازى بعملِهَا المحفوظِ عليهَا، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} أي: فليتدبرْ خلقتَهُ ومبدأهُ، فإنَّهُ مخلوقٌ {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} وهوَ المنيُّ الذي {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يحتملُ أنَّهُ منْ بينِ صلبِ الرجلِ وترائبِ المرأةِ، وهيَ ثدياهَا.
ويحتملُ أنَّ المرادَ المنيُّ الدافقُ، وهوَ منيُّ الرجلِ، وأنَّ محلَّهُ
الذي يخرجُ منهُ ما بينَ صلبهِ وترائبهِ، ولعلَّ هذا أولى، فإنَّهُ إنَّمَا
وصفَ اللهُ بهِ الماءَ الدافقَ، والذي يحسُّ ويشاهدُ دفقهُ، هوَ منيُّ
الرجلِ، وكذلكَ لفظُ الترائبِ فإنَّهَا تستعملُ في الرجلِ، فإنَّ الترائبَ
للرجلِ، بمنزلةِ الثديينِ للأنثى، فلو أريدتِ الأنثى، لقالَ: (منْ بينِ
الصُّلبِ والثديينِ) ونحوَ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.
فالذي أوجدَ الإنسانَ منْ ماءٍ دافقٍ، يخرجُ منْ هذا الموضعِ الصعبِ، قادرٌ على رجعهِ في الآخرةِ، وإعادتهِ للبعثِ والنشورِ .
وقدْ قيلَ:إنَّ معناهُ أنَّ اللهَ على رجعِ الماءِ المدفوقِ في الصلبِ
لقادرٌ، وهذا - وإنْ كانَ المعنى صحيحاً - فليسَ هوَ المرادُ منَ الآيةِ،
ولهذا قالَ بعدهُ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي: تختبرُ سرائرُ الصدورِ،ويظهرُ ما كانَ في القلوبِ منْ خيرٍ وشرٍّ على صفحاتِ الوجوهِ، قالَ تعالَى: {يَوْمَ تَبْيضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ففي
الدنيا، تتكتمُ كثيرٌ منَ الأمورِ، ولا تظهرُ عياناً للناسِ، وأمَّا في
القيامةِ، فيظهرُ بِرُّ الأبرارِ، وفجورُ الفجارِ، وتصيرُ الأمورُ علانيةً.
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} يدفعُ بهَا عنْ نفسهِ {وَلا نَاصِرٍ} خارجي ينتصرُ بهِ، فهذا القسمُ على حالةِ العاملينَ وقتَ عملهمْ وعندَ جزائهمْ.
ثمَّ أقسمَ قسماً ثانياً على صحةِ القرآنِ،فقالَ: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}
أي: ترجعُ السماءُ بالمطرِ كلَّ عامٍ، وتنصدعُ الأرضُ للنباتِ، فيعيشُ
بذلكَ الآدميونَ والبهائمُ، وترجعُ السماءُ أيضاً بالأقدارِ والشؤون
الإلهيةِ كلَّ وقتٍ، وتنصدعُ الأرضُ عن الأمواتِ {إِنَّهُ} أي: القرآنُ {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي: حقٌّ وصدقٌ، بيِّنٌ واضحٌ.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي: جدٌّ ليسَ بالهزلِ، وهوَ القولُ الذي يفصلُ بينَ الطوائفِ والمقالاتِ، وتنفصلُ بهِ الخصوماتُ.
{إِنَّهُمْ} أي: المكذبينَ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وللقرآنِ {يَكِيدُونَ كَيْداً} ليدفعوا بكيدهمُ الحقَّ، ويؤيدوا الباطلَ {وَأَكِيدُ كَيْداً} لإظهارِ
الحقِّ، ولو كرهَ الكافرونَ، ولدفعِ ما جاؤوا بهِ من الباطلِ، ويعلمُ بهذا
مَن الغالبُ، فإنَّ الآدميَّ أضعفُ وأحقرُ منْ أنْ يغالبَ القويَّ العليمَ
في كيدهِ، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي: قليلاً، فسيعلمونَ عاقبةَ أمرهمْ، حينَ ينزلُ بهمُ العقابُ.
تمَّ تفسيرُ سورةِ الطارقِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
سُورَةُ الطَّارِقِ
1- {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
يُقْسِمُ اللَّهُ بالسَّماءِ والطارقِ، والطارقُ: الْكَوْكَبُ، وَسُمِّيَ
طَارِقاً؛ لأَنَّهُ يَطْرُقُ بِاللَّيْلِ وَيَخْفَى بالنهارِ، وَمَا
أَتَاكَ لَيْلاً فَهُوَ طَارِقٌ.
3- {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} الثَّاقِبُ: المُضِيءُ الشَّدِيدُ الإضاءَةِ، كَأَنَّهُ يَخْتَرِقُ بِشِدَّةٍ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ.
4- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ؛ أَيْ: مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا حافظٌ،
وَهُم الْحَفَظَةُ من الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْهَا
عَمَلَهَا وَقَوْلَهَا وَفِعْلَهَا، وَيُحْصُونَ مَا تَكْسِبُ منْ خَيْرٍ
وَشَرٍّ، وَالحَافِظُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وحِفْظُ الْمَلائِكَةِ مِنْ حِفْظِهِ؛ لأَنَّهُ بِأَمْرِهِ.
5- {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}:
عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مُبْتَدَأِ خَلْقِهِ؛ لِيَعْلَمَ
قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْبَعْثِ.
6- {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}؛
أَيْ: مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وماءُ
الْمَرْأَةِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، لَكِنْ جَعَلَهُمَا
مَاءً وَاحِداً لامْتِزَاجِهِمَا.
7- {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}؛
أَيْ: صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، وَالتَّرَائِبُ:
مَوْضِعُ القِلادَةِ من الصَّدْرِ، وَالْوَلَدُ لا يَكُونُ إِلاَّ مِنَ
الْمَاءَيْنِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ
الْبَدَنِ.
8- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}؛
الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى رَجْعِ الإِنْسَانِ؛ أَيْ:
إِعَادَتِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ـ لَقَادِرٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
أَيْ: إِنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ من الكِبَرِ إِلَى الشبابِ، وَمِنَ الشبابِ
إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ.
9- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}؛
أَيْ: يُرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلَى السرائرُ؛ أَيْ: تُخْتَبَرُ وَتُعْرَفُ،
وَالسَّرَائِرُ: مَا يُسَرُّ فِي الْقُلُوبِ من العقائدِ والنِّيَّاتِ
وَغَيْرِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْحَسَنُ مِنْهَا من
الْقَبِيحِ.
10- {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}؛
أَيْ: فَمَا للإنسانِ مِن قُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ بِهَا عَنْ
عَذَابِ اللَّهِ، وَلا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ فَيُنْقِذُهُ مِمَّا نَزَلَ
بِهِ.
11- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الرَّجْعُ: الْمَطَرُ؛لأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَرْجِعُ وَيَتَكَرَّرُ.
12- {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} هُوَ مَا تَتَصَدَّعُ عَنْهُ الأَرْضُ من النباتِ والثِّمارِ وَالشَّجَرِ.
13- {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}؛ أَيْ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَوْلٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
14- {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}؛ أَيْ: لَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، فَهُوَ جِدٌّ لَيْسَ بالهَزْلِ.
15- {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}؛ أَيْ: يَمْكُرُونَ فِي إبطالِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ.
16- {وَأَكِيدُ كَيْداً}؛ أَيْ: أَسْتَدْرِجُهُمْ منْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُجَازِيهِمْ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ.
17- {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}؛ أَيْ: أَخِّرْهُمْ، وَلا تَسْأَلِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَعْجِيلَ هَلاكِهِمْ، وَارْضَ بِمَا يُدَبِّرُهُ لَكَ فِي أُمُورِهِمْ.{أَمْهِلْهُمْ} الإِمْهَالُ: الإِنْظَارُ. {رُوَيْداً}؛ أَيْ: أَمْهِلْهُمْ إِمْهَالاً قَرِيباً أَوْ قَلِيلاً.
المتن :
سورةُ الطَّارِق
1-3 قولُه تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ}يقسمُ
ربُّنا بالسماء وما يأتي ويطرقُ فيها ليلاً، ثمَّ استفهمَ مشوِّقاً لهذا
الطارقِ فقال: وما أعلمكَ ما الطارقُ، ثمَّ أجاب عنه بأنه النجوم
المتَّقدةُ المضيئةُ في السماء.
4-قولُه تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: لا توجد نفسٌ من نفوسِ بني آدم إلاَّ عليها
حافظٌ من الملائكة يحفظونَ عليهم أعمالهم، ثمَّ يُحَاسَبون عليها بعد
البعث.
5-6 قولُه تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَاء دَافِقٍ}
أي: فلينظرِ الكافرُ الذي يُنكرُ البعثَ، فلينظر مادةَ خَلْقِه، وهي
المَنِيُّ المنصبُّ، فالذي خلقه من هذه النطفةِ الحقيرةِ قادرٌ على إعادته.
7-قولُه تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أي: يخرجُ هذا الماء المنصبُّ من موضع العمودِ الفِقْرِيِّ وأضلاعِ الصدرِ التي تضعُ المرأةُ القِلادةَ عليها(1).
8- 9 قولُه تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
أي: إنَّ اللهَ يستطيعُ أن يَرُدَّ الإنسانَ بعد موته، فيُحْيِيه، وذلك
كائنٌ يومَ تُختبرُ ضمائرُ الناسِ وما يخفونَه، فتظهرُ هذه المَخْفِيَّات
أمامهم(2).
10- قولُه تعالى: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي: في هذا اليوم ليس لهذا الإنسانِ الكافرِ من قوة في ذاته يدفعُ بها عن نفسِه، ولا أحدٌ من الخلق مُعينٌ له من عذاب الله.
11- 14 قولُه تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} يقسمُ
ربُّنا بالسماء التي يرجِعُ منها المطر مرَّةً بعد مرة(3)، وبالأرض التي
تتشقَّقُ فيخرُجُ منها النبات(4)، أنَّ هذا القرآن الذي أنزلَهُ على عباده
قولٌ جِدٌّ، وهو فُرقانٌ يفرِّقُ اللهُ به بين الحقِّ والباطل(5)، وليس
لَعِباً ولا لَهْواً من القول.
15-16 قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً}
أي: إنَّ هؤلاء المكذِّبينَ بالبعثِ والقرآنِ يُدبِّرون الحِيَلَ ويمكرون،
والله يكيدهم كما هم يكيدون، ولذا ينقلبُ عليهم كيدُهم خُسراناً وهلاكاً،
فمن ذا الذي يستطيع حربَ الله والكيدَ له؟!.
17-قولُه تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي: اتركهُم، ولا تتعجَّل عليهم، واصبِر عليهم قليلاً قليلاً، فإنهم سيلاقونَ ما أوعدَهم الله جزاءً لكيدِهم، والله أعلم.
الحاشية :
(1)هذا القولُ في الترائبِ هو قولُ جمهور المفسرين، وعليه إجماعُ أهلِ اللغة، وممن قال به من السَّلَفِ:
ابن عباسٍ من طريق العوفي
وعلي بن أبي طلحة، وعكرمة من طريق أبي رجاء وعبد الله بن نعمان الحُدانيّ،
وسعيد بن جبير من طريق عطاء، ومجاهد من طريق ثُوَير وابن أبي نجيح، وسفيان
الثوري من طريق مهران، وابن زيد.
ويظهرُ مرادَهم في تفسير
الترائب تحديد مكانها بموضع القِلادة، لا أنها أضلاعُ المرأة؛ لأنَّ الماءَ
المدفوقَ، أو ذا الدَّفق، يخرجُ من الرجل لا من المرأة، ونظم هذه الآية
نظير نظم قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بِطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} والله أعلم.
وورد عن ابن عباس من طريق العوفي: الترائب: أطراف الرِّجل واليدان والرِّجلان والعينان.
وعن الضحاك من طريق أبي روق: اليدان والرِّجلان، وعنه من طريق عبيد المكتب: عيناه ويداه ورِجلاه. (2)ورد في تفسير الضمير في قوله: {رَجْعِهِ} قولان:
- الأول:أنه يعودُ على الإنسان، وفيه تأويلان:
الأول:أنه على رجعِ الإنسان بعد مماته لقادر، وهو قول قتادة من طريق سعيد.
الثاني:أنه على رَدِّ الإنسان ماءً لقادر، وهو قول الضحاك من طريق عبيد ومقاتل بن حيان.
- الثاني:أنه يعود على الماء، وفيه تأويلات:
الأول:إنه على رَدِّ الماء في الصُّلب لقادر، وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء.
الثاني:إنه على رَجْعِهِ في الإحليل لقادر، وهو قول مجاهد من طريق ليث وعبد الله بن أبي بكر وابن أبي نجيح.
الثالث:إنه على رَدِّ الماء وحبسِه فلا يخرجُ لَقادر، وهو قول ابن زيد.
والقول الأول هو
الراجح،قال الطبري: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى
ذلك: إن الله على رَدِّ الإنسان المخلوقِ من ماءٍ دافقٍ من بعد مماته
حيّاً، كهيئتهِ قبل مماته، لقادر.
وإنما قلت: هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر (9)} فكان في إتباعه قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} نبأ من أنباء القيامة، دلالة على أنَّ السابق قبلها أيضاً منه، ومنه {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} يقول
تعالى ذكره: إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يومَ تُبلى السرائر، فاليوم
من صفة الرجع؛ لأن المعنى: إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر). وقال ابن
القيم: (والقول الأول هو الصواب لوجوه :
أحدها:أنه المعهودُ من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المعاد … ( أين الثاني ؟؟)
الثالث:أنه لم يأت لهذا المعنى في القرآن نظيرٌ في موضع واحد، ولا أنكرَه أحدٌ حتى يقيم سبحانه الدليل عليه … ( هنا نقص و أين الرابع ؟؟)
الخامس:أن الضمير في {رَجْعِهِ} هو الضمير في قوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} وهذا للإنسان قطعاً، لا للماء …) (التبيان في أقسام القرآن: 66).
(3)فسَّر السلفُ الرَّجْعَ
بالمطر، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، والحسن من طريق
أبي رجاء، وعكرمة من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة
من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد، وانفرد ابن زيد بتفسير الرجع
بقول: (شمسها وقمرها ونجومها يأتين من ها هنا).
(4)كذا فسَّر السلف ذلك،
وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، والحسن وعكرمة من طريق أبي
رجاء، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد، وقرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً} إلى آخر الآيات. .
(5)قال ابن جرير: (يقول:
لقولٌ يفصِلُ بين الحق والباطل ببيانه، وبنحْوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ
التأويلِ على اختلافٍ منهم في العبارة عنه: فقال بعضهم:لقولٌ حقٌّ . وقال
بعضهم:لقولٌ حكم).
القارئ:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاء
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ
الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ
وَلا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ
الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
الشيخ:
هذه سورة الطارق، أقسم الله -جل وعلا- فيها ببعض مخلوقاته، فقال -جل وعلا-: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} والطارق أصله: ما يطرق الإنسان ليلاً، فإذا جاء إنسان إلى أهله أو إلى آخر في الليل فإنه يسمى طارقاً.
والله -جل وعلا- بين المراد بالطارق بقوله جل وعلا: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ}فالمراد
بالطارق: هو النجم الثاقب، والمراد بالثاقب: النجم المضيء الذي يثقب
بضوئه، فأقسم الله -جل وعلا- بالنجم الثاقب، وعظَّم شأنه بقوله جل وعلا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} .
ثم ذكر الله -جل وعلا- ما أقسم عليه، فقال -جل وعلا-: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي: أنه -جل وعلا- جعل على كل نفس حافظاً يرقب حركات العبد وسكناته، وأقواله وأفعاله؛ كما قال الله -جل وعلا-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}
وقد تقدم بيان ذلك، وقد أقسم الله -جل وعلا- على ذلك؛ لأنه قد يتوهم بعض
العباد إذا لم يرَ الملائكة الذين يحفظونه أن هذا شيء كذب لا حقيقة له،
فلذا أكده الله بأن أقسم الله -جل وعلا- عليه.
ثم قال -جل وعلا-: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}
هذا فيه أمر من الله -جل وعلا- لعباده بأن ينظروا إلى ما خلقوا منه؛ لأن
النظر إلى مثل هذه الأشياء يورث العبد إيماناً بربه، وزيادة لإيمانه مع
إيمانه.
ثم بين -جل وعلا- ما خُلق الإنسان منه، قال تعالى:
{خُلِقَ مِن مَاء دَافِقٍ}
أي: خلق هذا العبد من الماء الدافق الذي يصب من الرجل، ويخرج من ذكره،
وقبل خروجه من الذكر يكون خارجاً من صلبه في ظهره، وهذا فيه آية من آيات
الله جل وعلا، ثم بعد ذلك يضعه في المرأة، فينزل ماؤها الذي يخرج من
ترائبها، والترائب: هو الموضع الذي توضع عليه القلادة غالباً، ينزل من ذلك
ماء فيستقر في الرحم، فيجتمع مع ماء الرجل فيخرج الله -جل وعلا- منه الولد.
وبعض العلماء يقول:
إن قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أن المراد: صلب الرجل وترائبه، والله تعالى أعلم بذلك.
ولكن كون هذا الولد يخرج
من ماء دافق، من ماء مهين حقير، هذا آية على وحدانية الله جل وعلا، وآية
على كمال تدبيره لخلقه، وآية على حسن صنعته جل وعلا، وآية على قدرته -جل
وعلا- على بعث خلقه وإنشائهم مرة أخرى.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي:
أن الله -جل وعلا- قادر على أن يرجع الإنسان بعد ذلك، فالذي خلقه من ماء
مهين قادر على أن يعيده حياً بعد موته، وقد تقدم لنا كثيراً استدلال الله
-جل وعلا- بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة؛ كما قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ
فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى
فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} .
ثم قال جل وعلا{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي: أن الله -جل وعلا- يعيد الخلق في يوم تبلى فيه السرائر، بمعنى: أن السرائر فيه تخـتبر وتمتحن.
والسرائر: جمع سريرة وهو
ما يخفيه الإنسان، فالله -جل وعلا- يوم القيامة إذا أرجع الأرواح إلى
أجسادها؛ وأعاد الأجساد يبتلي -جل وعلا- سرائر عباده؛ لأن العبد قد يعمل
أعمالاً في الظاهر ولكن سريرته على خلافها، فإذا كان يوم القيامة انكشفت
الحقائق أمام الله جل وعلا، فمن زعم أنه يعمل لله -جل وعلا- وهو يعمل لغيره
فإن الخلق قد يصدقونه في الدنيا، فإذا جاء يوم القيامة، وكشف الله -جل
وعلا- السرائر، وظهرت له أعماله، تبين أن عمله الذي كان يعمله في الدنيا
هباءً منثوراً.
ثم قال جل وعلا: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي:
أنه إذا ابتلى الله -جل وعلا- السرائر، وأعاد الأجساد، فإن العبد في ذلك
الموقف ليس بقوي يدفع عن نفسه عذاب الله جل وعلا، وليس له ناصر يعينه على
دفع ما يلقاه من العذاب؛ لأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فلا أحد يملك أن
يدفع عن نفسه شيئاً، ولا أحد يستطيع أن ينصر غيره؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ} يعني: والسماء ذات المطر، وسمي المطر رجعاً؛ لأنه يتكرر ويرجع مرة بعد أخرى.
{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: الأرض ذات النبات، وسمى النبات صدعاً في هذه الآية؛ لأنه إذا أراد الخروج من الأرض انصدعت الأرض، بمعنى: انشقت.
فهذا قسم من الله -جل وعلا- بمخلوقين من مخلوقاته، وآيتين من آياته، وهذا القسم على كتابه الكريم.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}
أي: أن هذا القرآن قول فصل يفصل بين الحق والباطل، ويميز الحق من الباطل،
وهذا يدل: على أن هذا القرآن حق في نفسه، وأنه صدق، وأنه عدل؛ لأن الذي
يفصل بين الحق والباطل لابد أن تكون له هذه الأوصاف.
ثم إن هذا القرآن من كونه فصلاً أنه ليس فيه كذب، وليس فيه تخييل، وليس فيه قصص كاذب؛ وإنما هو كله حق وجد؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}
يعني: هذا القرآن جد وفصل ليس بالهزل؛ لأن الهزل ما هو إلا باطل وكذب
وعبث، والقرآن منزه عن ذلك، وهذا فيه رد على الكفار الذين قالوا: إن القرآن
شعر، وإن القرآن سحر، وإن القرآن كهانة، رد الله -جل وعلا- عليهم بذلك
وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} .
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}
أي: أن الكفار يكيدون كيداً لأولياء الله المؤمنين ويخادعونهم، ويمكرون
بهم؛ بل إنهم في زعمهم وظنهم يريدون أن يخادعوا الله -جل وعلا- ويمكرون به؛
كما قال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
ثم قال -جل وعلا-: {وَأَكِيدُ كَيْداً}
أي: أولئك الكفار يكيدون، والله -جل وعلا- يكيد، وكيده -جل وعلا- لهم أنه
-جل وعلا- يملي لهم، ويستدرجهم، ثم يأخذهم -جل وعلا- على حين غِرة، قال
الله -جل وعلا- في وصف كيده: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وهذا فيه إثبات الكيد لله جل وعلا، فالله -جل وعلا- من صفاته أنه يكيد بمن يستحق الكيد.
وننبه هاهنا إلى أن بعض
العلماء أو بعض المفسرين في مثل هذه الآية يقول هذا من باب المشاكلة، أو
باب المقابلة، أو باب المجازاة، وهذا:
- إن أريد به إثبات الصفة
لله أولاً، وإثبات حقيقتها ثم بعد ذلك أريد بهذه المشاكلة؛ أو بهذه
المقابلة؛ أو بهذه المجازاة؛ أن الله -جل وعلا- يجازيهم على أعمالهم جزاءً
وفاقاً: فهذا معنى لا بأس به.
-وأما إن أريد به المشاكلة
أو المقابلة أو بالمجازاة ما يستخدمه الأشاعرة وغيرهم؛ من أنهم يريدون
بذلك نفي الصفة عن الله جل وعلا، وأن هذا مجاز في حق الله جيء به مقابل
الصفة التي يتصف بها العبد، فالصفة في العبد حقيقية، ولله -جل وعلا- مجاز:
فذلك أمر باطل ترده نصوص الشريعة التي دلت على أنه يثبت لله -جل وعلا- ما
أثبته لنفسه، وينفى عن الله ما نفاه -جل وعلا- عن نفسه، وكذلك يثبت له ما
أثبته له رسوله، وينفى عنه ما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} يأمر الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعطي الكافرين مهلة لكن هذه المهلة قال الله -جل وعلا-: {رُوَيْداً} يعني: قليلاً، ولهذا بعد ذلك نزلت آيات السيف، وأُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقتال:
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}.
-{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
-{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
فكان في الأول: الله -جل
وعلا- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، ثم بعد ذلك أمره الله -جل
وعلا- أن يقاتل من كفر ولم يسلم منهم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تفسير سورة الطارق
تفسير قول الله تعالى : ( والسماء والطارق ، وما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب )
تفسير قول الله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ )
تفسير قول الله تعالى : ( فلينظر الإنسان مم خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب )
اختلاف العلماء في معنى (الترائب) ، وموضعها بالنسبة للمرأة
تفسير قول الله تعالى : ( إنه على رجعه لقادر ، يوم تبلى السرائر ، فماله من قوة ولا ناصر )
أقوال السلف في تفسير مرجع الضمير في قوله تعالى: (رجعِه)
الراجح في تفسير الضمير في قوله تعالى: (رجعِه) مع بيان سبب الترجيح
تفسير قول الله تعالى : ( والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع )
تفسير قول الله تعالى : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل )
تفسير قول الله تعالى : ( إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً )
تنبيه على قول بعض المفسرين في قوله تعالى: ( وأكيد كيدا ) أن هذا من باب المقابلة
تفسير قول الله تعالى : ( فمهل الكافرين أمهلهم رويداً )
الأسئلة
س1: بين معاني المفردات التالية: الطارق، الثاقب، دافق، الصُّلب، الترائب، الرجع، الصدع، فصل، رويداً.
س2: بين جواب القسم في قوله تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ}.
س3: بين معنى قول الله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}.
س4: أقسم الله تعالى في هذه السورة بالسماء مرتين، بين فوائد ذلك من خلال دراستك لتفسير السورة.
س5: ما معنى النظر في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ؟
س6: اذكر أقوال العلماء في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} مع بيان القول الراجح.
س7: ذكر الله عز وجل دليلين في هذه السورة على إثبات المعاد، اذكرهما مع التوضيح.
س8: عدد الفوائد التي استفدتها من دراستك لهذا الدرس.
تفسير ابن كثير
قال
عبد اللّه بن الإمام أحمد: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ -قال
عبد اللّه: وسمعته أنا منه- حدّثنا مروان بن معاوية الفزاريّ، عن عبد اللّه
بن عبد الرّحمن الطّائفيّ، عن عبد الرّحمن بن خالد بن أبي جبلٍ العدوانيّ،
عن أبيه، أنّه أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مشرق ثقيفٍ، وهو
قائمٌ على قوسٍ أو عصًا حين أتاهم يبتغي عندهم النّصر، فسمعته يقول: «{والسّماء والطّارق}».
حتّى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهليّة وأنا مشركٌ، ثمّ قرأتها في
الإسلام، قال: فدعتني ثقيفٌ، فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرّجل؟ فقرأتها
عليهم؛ فقال من معهم من قريشٍ: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنّا نعلم ما يقول
حقًّا لاتّبعناه. وقال النّسائيّ: حدّثنا عمرو بن منصورٍ، حدّثنا أبو نعيمٍ، عن مسعرٍ، عن محارب بن دثارٍ، عن جابرٍ قال: «صلّى معاذٌ المغرب فقرأ البقرة والنّساء؛ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أفتّانٌ أنت يا معاذ؟! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسّماء والطّارق، والشّمس وضحاها، ونحو هذا؟!». يقسم تعالى بالسّماء وما جعل فيها من الكواكب النّيّرة؛ ولهذا قال: {والسّماء والطّارق}. ثمّ قال: {وما أدراك ما الطّارق}. ثمّ فسّره بقوله: {النّجم الثّاقب}. قال قتادة وغيره: «إنّما سمّي النّجم طارقاً؛ لأنّه إنّما يرى باللّيل ويختفي بالنّهار». ويؤيّده ما جاء في الحديث الصّحيح: «نهى أن يطرق الرّجل أهله طروقاً». أي: يأتيهم فجأةً باللّيل، وفي الحديث الآخر المشتمل على الدّعاء: «إلاّ طارقاً يطرق بخيرٍ يا رحمن» . وقوله: {الثّاقب}. قال ابن عبّاسٍ: «المضيء». وقال السّدّيّ: «يثقب الشّياطين إذا أرسل عليها». وقال عكرمة: «هو مضيءٌ محرقٌ للشّيطان». وقوله: {إن كلّ نفسٍ لمّا عليها حافظٌ}. أي: كلّ نفسٍ عليها من اللّه حافظٌ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: {له معقّباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه}. الآية. وقوله: {فلينظر الإنسان ممّ خلق}.
تنبيهٌ للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشادٌ له إلى الاعتراف
بالمعاد؛ لأنّ من قدر على البداءة فهو قادرٌ على الإعادة بطريق الأولى؛ كما
قال: {وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه}. وقوله: {خلق من ماءٍ دافقٍ}. يعني المنيّ، يخرج دفقاً من الرّجل ومن المرأة، فيتولّد منهما الولد بإذن اللّه عزّ وجلّ. ولهذا قال: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب}. يعني: صلب الرّجل وترائب المرأة، وهو صدرها. قال شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{يخرج من بين الصّلب والتّرائب}: صلب الرّجل وترائب المرأة، أصفر رقيقٌ لا يكون الولد إلاّ منهما». وكذا قال سعيد بن جبيرٍ وعكرمة وقتادة والسّدّيّ وغيرهم. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن مسعرٍ سمعت الحكم ذكر عن ابن عبّاسٍ: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب} قال: «هذه التّرائب، ووضع يده على صدره». وقال الضّحّاك وعطيّة، عن ابن عبّاسٍ: «تريبة المرأة موضع القلادة». وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبيرٍ، وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «التّرائب بين ثدييها». وعن مجاهدٍ: «التّرائب ما بين المنكبين إلى الصّدر». وعنه أيضاً: «التّرائب أسفل من التّراقي». وقال سفيان الثّوريّ:«فوق الثّديين». وعن سعيد بن جبيرٍ: «التّرائب أربعة أضلاعٍ من هذا الجانب الأسفل». وعن الضّحّاك: «التّرائب بين الثّديين والرّجلين والعينين». وقال اللّيث بن سعدٍ، عن معمر بن أبي حبيبة المدنيّ، أنّه بلغه في قول اللّه عزّ وجلّ: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب}. قال: «هو عصارة القلب، من هناك يكون الولد». وعن قتادة: «{يخرج من بين الصّلب والتّرائب}. من بين صلبه ونحره». وقوله تعالى: {إنّه على رجعه لقادرٌ}. فيه قولان: أحدهما: على رجع هذا الماء الدّافق إلى مقرّه الذي خرج منه لقادرٌ على ذلك. قاله مجاهدٌ وعكرمة وغيرهما. والقول الثّاني:
إنّه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماءٍ دافقٍ. أي: إعادته وبعثه إلى
الدّار الآخرة، لقادرٌ؛ لأنّ من قدر على البدأة قدر على الإعادة. وقد ذكر اللّه عزّ وجلّ هذا الدّليل في القرآن في غير ما موضعٍ، وهذا القول قال به الضّحّاك واختاره ابن جريرٍ؛ ولهذا قال: {يوم تبلى السّرائر}.
أي: يوم القيامة تبلى فيه السّرائر، أي: تظهر وتبدى ويبقى السّرّ علانيةً
والمكنون مشهوراً، وقد ثبت في الصّحيحين عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم قال: «يرفع لكلّ غادرٍ لواءٌ عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلانٍ» . وقوله: {فما له} أي: الإنسان يوم القيامة {من قوّةٍ}. أي: في نفسه، {ولا ناصرٍ}. أي: من خارج منه، أي: لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب اللّه، ولا يستطيع له أحدٌ ذلك. قال ابن عبّاسٍ: «الرّجع»: المطر. وعنه: «هو السّحاب فيه المطر». وعنه: «{والسّماء ذات الرّجع}: تمطر ثمّ تمطر». وقال قتادة: «ترجع رزق العباد كلّ عامٍ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم». وقال ابن زيدٍ: «ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا». {والأرض ذات الصّدع}. قال ابن عبّاسٍ: «هو انصداعها عن النّبات»، وكذا قال سعيد بن جبيرٍ وعكرمة وأبو مالكٍ والضّحّاك والحسن وقتادة والسّدّيّ وغير واحدٍ. وقوله: {إنّه لقولٌ فصلٌ}. قال ابن عبّاسٍ: «حقٌّ». وكذا قال غيره، وقال آخر: «حكمٌ عدلٌ». {وما هو بالهزل}. أي: بل هو جدٌّ حقٌّ، ثمّ أخبر عن الكافرين بأنّهم يكذّبون به ويصدّون عن سبيله. فقال: {إنّهم يكيدون كيداً}. أي: يمكرون بالنّاس في دعوتهم إلى خلاف القرآن. ثمّ قال: {فمهّل الكافرين}. أي: أنظرهم ولا تستعجل لهم، {أمهلهم رويداً}. أي: قليلاً، أي: وسترى ماذا أحلّ بهم من العذاب والنّكال والعقوبة والهلاك. كما قال تعالى: {نمتّعهم قليلاً ثمّ نضطرّهم إلى عذابٍ غليظٍ}. آخر تفسير سورة الطّارق وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 8/ 374-376]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الطّارق وهي مكّيّةٌ.