14 Feb 2015
عشرة حُجُب بين العبد وربه
قال ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين": (المكاشفةُ
الصحيحةُ علومٌ يُحْدِثُها الرَّبُّ سبحانه وتعالى في قلبِ العبدِ،
ويطْلِعُهُ بها على أمورٍ تخفى على غيرِه، وقد يُواليها وقد يُمْسِكُها عنه
بالغفلةِ عنها، ويواريها عنه بالغين الذي يغشَى قلبَه وهو أرقُّ الحجبِ
أو بالغيمِ وهو أغلظُ منه أو بالرَّانِ وهو أشدّها فالأوَّل يقع للأنبياء عليهم السلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنَّه لَيُغان على قلبي وإني لأستغفر الله أكثر من سبعين مرة))
والثاني يكون للمؤمنين، والثالث لمن غلبت عليه الشقوة؛ قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}
قال ابن عباس وغيره: (هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه).
والحُجُبُ عَشَرَة:
- حِجَابُ
التعطيل ونفيِ حقائقِ الأسماء والصفات وهو أغلظُها؛ فلا يتهيَّأ لصاحبِ
هذا الحجابِ أن يعرفَ اللهَ ولا يصل إليه ألبتة إلا كما يتهيَّأ للحجر أن
يصعدَ إلى فوق.
الثاني: حجاب الشرك ، وهو أن يتعبَّد قلبه لغير الله.
الثالث: حجاب البدعة القولية ؛ كحجاب أهل الأهواء والمقالات الفاسدة على اختلافها.
الرابع : حجاب البدعة العملية ؛ كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طريقهم وسلوكهم.
الخامس : حجاب أهل الكبائر الباطنة؛ كحجاب أهل الكبر والعجب والرياء والحسد والفخر والخيلاء ونحوها.
السادس:
حجاب أهل الكبائر الظاهرة، وحجابهم أرقّ من حجاب إخوانهم من أهل الكبائر
الباطنة مع كثرة عباداتهم وزهاداتهم واجتهاداتهم؛ فكبائر هؤلاء أقرب إلى
التوبة من كبائر أولئك؛ فإنَّها قد صارت مقامات لهم لا يتحاشون من إظهارها
وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة؛ فأهلُ الكبائر الظاهرة أدنى إلى السلامة
منهم، وقلوبهم خير من قلوبهم.
السابع: حجاب أهل الصغائر.
الثامن: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات.
التاسع: حجاب أهل الغفلة عن استحضارِ ما خُلقوا له وأريد منهم وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته.
العاشر: حجاب المجتهدين السالكين المشمرين في السير عن المقصود.
فهذه عشر حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى تحول بينه وبين هذا الشأن، وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر:
- عنصر النفس.
- وعنصر الشيطان.
- وعنصر الدنيا.
- وعنصر الهوى.
فلا يمكن كشف هذه الحجب
مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب ألبتة، وهذه الأربعة العناصر تفسد
القول والعمل والقصد والطريق بحسب غلبتها وقلَّتها؛ فتقطع طريق القول
والعمل والقصد أن يصل إلى القلب، وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق
أن يصل إلى الربّ؛ فبين القول والعمل وبين القلب مسافة يسافر فيها العبد
إلى قلبه ليرى عجائب ما هنالك، وفي هذه المسافة قطَّاع الطريق المذكورون؛
فإن حاربهم وخلصَ العملُ إلى قلبه دار فيه وطلب النفوذ من هناك إلى الله؛
فإنه لا يستقرُّ دون الوصول إليه، {وأن إلى ربك المنتهى}
فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدا في إيمانه ويقينه ومعرفته
وعقله، وجمَّل به ظاهرَه وباطنَه؛ فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرف
عنه به سيء الأخلاق والأعمال، وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جنداً
يحارب به قطّاع الطريق للوصول إليه :
- فيحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من قلبه، ولا يضرُّه أن تكونَ في يده وبيته، ولا يمنعُ ذلك من قوَّة يقينه بالآخرة.
- ويحارب الشيطانَ بترك الاستجابةِ لداعي الهوى؛ فإنَّ الشيطانَ مع الهوى لا يفارقه.
- ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق، والوقوف معه بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه.
- ويحارب النفس بقوَّةِ الإخلاص.
هذا كله إذا وجد
العملُ منفذا من القلبِ إلى الربِّ سبحانه وتعالى، وإن دار فيه ولم يجد
منفذا وَثَبَتْ عليه النفسُ فأخذته وصيرته جندا لها؛ فصالت به وعلَت وطغَت؛
فتراه أزهدَ ما يكون وأعبدَ ما يكون وأشدَّه اجتهاداً، وهو أبعد ما يكون
عن الله!!
وأصحاب الكبائر أقربُ قلوباً إلى الله منه، وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص!!
-
فانظر إلى السَّجَّاد العَبَّاد الزَّاهد الذي بين عينيه أثر السجودِ؛
كيف أورثه طغيانُ عملِه أن أنكرَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟!
وأورث أصحابَه احتقارَ المسلمين حتى سلُّوا عليهم سيوفَهم واستباحُوا دماءَهم.
-
وانظر إلى الشرِّيب السكِّير الذي كان كثيراً ما يؤتى به إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فيحدُّه على الشراب؛ كيف قامت به قوَّة إيمانه ويقينه
ومحبته لله ورسوله وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله عن لعنته؟!!
فظهر بهذا أن طغيانَ المعاصي أسلم عاقبةً من طغيان الطاعات.
وقد روى الإمامُ أحمدُ في كتابِ الزهدِ أنَّ الله سبحانه أوحى إلى موسى: [يا
موسى أنذر الصدِّيقين فإني لا أضعُ عدلي على أحد إلا عذَّبتُه من غير أن
أظلمَه، وبشِّر الخطَّائين فإنَّه لا يتعاظَمُنِي ذنبٌ أن أغفره] ).