الباب السابع: في صلاة الجماعة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فضل صلاة الجماعة وحكمها
1 - فضلها: صلاة الجماعة في المساجد شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام.
واتفق المسلمون على أن
أداء الصلوات الخمس في المساجد من أعظم الطاعات، فقد شرع الله لهذه الأمة
الاجتماع في أوقات معلومة، منها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة
العيدين، وصلاة الكسوف. وأعظم الاجتماعات وأهمها الاجتماع بعرفة، الذي يشير
إلى وحدة الأمة الإسلامية في عقائدها وعباداتها وشعائر دينها، وشرعت هذه
الاجتماعات العظيمة في الإسلام لأجل مصالح المسلمين؛ ففيها التواصل بينهم،
وتفقد بعضهم أحوال بعض، وغير ذلك مما يهم الأمة الإسلامية على اختلاف
شعوبها وقبائلها، كما قال تعالى: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم}[الحجرات: 13].
وقد حثّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليها، وبيّن فضلها وعظيم أجرها، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ -يعني الفرد- بسبع وعشرين درجة). وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: (صلاة
الرجل في الجماعة تضعّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً؛
وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة،
لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل
الملائكة تصلي عليه، ما دام في مصلاه ... ) الحديث.
2 - حكمها: صلاة الجماعة واجبة في الصلوات الخمس، وقد دل على وجوبها الكتاب والسنة، فمن الكتاب: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفةٌ منهم معك} [النساء: 102]. والأمر للوجوب وإذا كان ذلك مع الخوف فمع الأمن أولى.
ومن السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: (أثقل
الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما
لأتوهما، ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً يصلي
بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة
فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) ، فدلّ الحديث على وجوب صلاة الجماعة،
وذلك لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم: أولاً: وصف المتخلفين عنها بالنفاق،
والمتخلف عن السنة لا يعد منافقاً، فدل على أنهم تخلفوا عن واجب. ثانياً:
أنه هم بعقوبتهم على التخلف عنها، والعقوبة إنما تكون على ترك واجب، وإنما
منعه من تنفيذ العقوبة أنه لا يعاقب بالنار إلا الله عز وجل. وقيل: منعه من
ذلك من في البيوت من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة.
ومنها: أن رجلا كفيف البصر ليس له قائد، استأذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلي في بيته فقال: (أتسمع النداء؟). قال: نعم. قال: (أجب لا أجد لك رخصة) ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر) ، ولقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
وهي واجبة على الرجال دون النساء والصبيان غير البالغين، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حق النساء: (وبيوتهن خير لهن).
ولا مانع من حضور النساء الجماعة في المسجد، مع التستر والصيانة وأمن
الفتنة، بإذن الزوج. وتجب الجماعة في المسجد على من تلزمه، على الصحيح.
ومن ترك الجماعة وصلى وحده بلا عذر صحت صلاته، لكنه آثم لترك الواجب.
المسألة الثانية: إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى: هل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أولا؟
لا تجب عليه إعادتها مع الجماعة، وإنما يسن له ذلك، والأولى فرض والثانية نافلة. لحديث أبي ذر: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: (كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها). قلت فما تأمرني؟ قال: (صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ؛ فإنها لك نافلة). ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم للرجلين اللذين اعتزلا صلاة الجماعة في المسجد: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصلّيا معهم، فإنها لكما نافلة).
المسألة الثالثة: أقل ما تنعقد به الجماعة
أقل الجماعة اثنان بلا خلاف. لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فأذّنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما).
المسألة الرابعة: بم تدرك الجماعة؟
تدرك الجماعة بإدراك ركعة من الصلاة، ومن أدرك الركوع غير شاك أدرك الركعة، واطمأن، ثم تابع. لحديث أبي هريرة: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة).
المسألة الخامسة: من يعذر بترك الجماعة
يعذر المسلم بترك الجماعة في الأحوال التالية:
1 - المريض مرضاً يلحقه منه مشقة لو ذهب إلى الجماعة، لقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ} [الفتح: 17]، ولأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، ولقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض). وكذلك الخائف حدوث المرض؛ لأنه في معناه.
2 - المدافع أحد الأخبثين أو من بحضرة طعام محتاج إليه؛ لحديث عائشة مرفوعاً: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين).
3 - من له ضائع يرجوه أو يخاف ضياع ماله أو قوته أو ضرراً فيه؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: (من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: فما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض- لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى).
وكذا كل خائف على نفسه أو ماله أو أهله وولده، فإنه يعذر بترك الجماعة؛ فإن الخوف عذر.
4 - حصول الأذى بمطر ووحل وثلج وجليد، أو ريح باردة شديدة بليلة مظلمة. لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة باردة ذات مطر، يقول: ألا صلّوا في الرّحال).
5 - حصول المشقة بتطويل الإمام، لأن رجلاً صلى مع معاذ، ثم انفرد، فصلى وحده لما طوّل معاذ، فلم ينكر عليه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أخبره.
6 - خوف فوات الرفقة في السفر؛ لما في ذلك من انشغال قلبه إذا انتظر الجماعة، أو دخل فيها، مخافة ضياع وفوات رفقته.
7 - الخوف من موت قريبه وهو غير حاضر معه، كأن يكون قريبه في سياق الموت، وأحب أن يكون معه يلقنه الشهادة ونحو ذلك، فيعذر بترك الجماعة لأجل ذلك.
8 - ملازمة غريم له، ولا شيء معه يقضيه، فله ترك الجماعة لما يلحقه من الأذية بمطالبة الغريم، وملازمته إياه.
المسألة السادسة: إعادة الجماعة في المسجد الواحد
إذا تأخر البعض عن حضور
جماعة المسجد مع الإمام الراتب، وفاتتهم الصلاة، فيصح أن يصلوا جماعة ثانية
في المسجد نفسه؛ لعموم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... ) الحديث، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم للرجل الذي حضر إلى المسجد بعد انتهاء صلاة الجماعة: (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) فقام أحد القوم، فصلى مع الرجل.
وكذلك إذا كان المسجد مسجد
سوق أو طريق وما أشبه ذلك، فلا بأس بإعادة الجماعة فيه، وبخاصة إذا لم يكن
لهذا المسجد إمام راتب، ويتردد عليه أهل السوق والمارة.
أما إذا كان المسجد فيه
جماعتان أو أكثر دائماً وعلى نحو مستمر، واتخذ الناس ذلك عادة، فإنه لا
يجوز؛ إذ لم يعرف ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، ولما
فيه من تفرّق الكلمة، والدعوة للكسل والتواني عن حضور الجماعة الأم مع
الإمام الراتب، وربما كان ذلك مدعاة لتأخير الصلاة عن أول وقتها.
المسألة السابعة: حكم الصلاة إذا أقيمت الصلاة المكتوبة
إذا شرع المؤذن في الإقامة
لصلاة الفريضة، فلا يجوز لأحد أن يببتدئ صلاة نافلة، فيتشاغل بنافلة
يقيمها وحده عن أداء فريضة تقيمها الجماعة؛ وذلك لقوله صلّى اللّه عليه
وسلّم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). ورأى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم لصلاة الصبح، فقال له: (أتصلي الصبح أربعاً؟!).
أما إذا شرع المؤذن في
الإقامة بعد شروع المتنفل في صلاته، فإنه يتمها خفيفة لإدراك فضيلة تكبيرة
الإحرام، والمبادرة إلى الدخول في الفريضة.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه إن كان في الركعة الأولى فإنه يقطعها، وإن كان في الركعة الثانية فإنه يتمها خفيفة، ويلحق بالجماعة). [الفقه الميسر: 75-80]