10 Nov 2008
إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومنه أسلوب الحكيم
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (الخاتِمـــةُ
(في إخراجِ الكلامِ على خِلافِ مُقْتَضَى الظاهرِ)
إيرادُ الكلامِ على حسَبِ ما تَقَدَّمَ من القواعدِ
يُسَمَّى إخراجَ الكلامِ على مُقْتَضَى الظاهرِ. وقدْ تَقْتَضِي الأحوالُ
العدولَ عنْ مُقْتَضى الظاهرِ، ويُورَدُ الكلامُ على خِلافِه في أنواعٍ
مخصوصةٍ:
(منها) تنزيلُ العالِمِ بفائدةِ الخبَرِ، أوْ لازِمِها مَنْزِلَةَ الجاهلِ
بها؛ لعَدَمِ جَرْيِه على مُوجِبِ عِلْمِه، فيُلْقَى إليهِ الخبَرُ كما
يُلْقَى إلى الجاهِلِ، كقولِكَ لمَنْ يُؤْذِي أباهُ: هذا أبوكَ.
(ومنها) تنزيلُ غيرِ المنْكِرِ منزلةَ المنْكِرِ إذا لاحَ عليهِ شيءٌ منْ علاماتِ الإنكارِ، فيُؤَكَّدُ لهُ، نحوُ:
جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَهُ ..... إنَّ بَنِي عمِّكَ فيهم رِمَاحُ
وكقولِكَ للسائلِ الْمُستَبْعِدِ حصولِ الفَرَجِ: إنَّ الفرَجَ لَقَرِيبٌ.
وتنزيلُ المنكِرِ أو الشاكِّ منزلةَ الخالي إذا كانَ معهُ من الشواهِدِ ما
إذا تأمَّلَهُ زالَ إنكارُه أوْ شَكُّه، كقولِكَ لمَنْ يُنكِرُ منفعةَ
الطِبِّ أوْ يَشُكُّ فيها: الطبُّ نافعٌ.
(ومنها)، وضْعُ الماضي موْضِعَ المضارعِ لغَرَضٍ، كالتنبيهِ على تَحَقُّقِ الحصولِ، نحوُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. أو التفاؤلِ، نحوُ: إنْ شفاكَ اللَّهُ اليومَ تَذْهَبْ معي غدًا.
وعكْسُه، أيْ: وضْعُ المضارعِ موْضِعَ الماضي لغَرَضٍ، كاستحضارِ الصورةِ الغريبةِ في الخيالِ، كقولِه تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}، أيْ: فأثارَتْ. وإفادةِ الاستمرارِ في الأوقاتِ الماضيةِ، نحوُ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}، أيْ: لو استَمَرَّ على إطاعتِكُم.
(ومنها): وضْعُ الخبَرِ موْضِعَ الإنشاءِ لغَرَضٍ،
كالتفاؤُلِ، نحوُ: هداكَ اللَّهُ لصالحِ الأعمالِ. وإظهارِ الرغبةِ، نحوُ:
رزَقَنِي اللَّهُ لقاءَكَ. والاحترازِ عنْ صورةِ الأمْرِ تَأَدُّبًا،
كقولِكَ: يَنْظُرُ مولايَ في أَمْرِي.
وعكْسُه، أيْ: وَضْعُ الإنشاءِ موْضِعَ الخبَرِ لغَرَضٍ، كإظهارِ العنايةِ بالشيءِ، نحوُ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، لمْ يَقُلْ: وإقامةَ وُجوهِكم؛ عنايةً بأمْرِ الصلاةِ. والتحاشِي عنْ موازاةِ اللاحقِ بالسابقِ، نحوُ: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، لمْ يَقُلْ: وأُشْهِدُكم؛ تحاشيًا عنْ مُوازاةِ شَهادَتِهم بشهادةِ اللَّهِ.
والتسويةِ، نحوُ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}.
(ومنها): الإضمارُ في مقامِ الإظهارِ لغَرَضٍ، كادِّعاءِ أنَّ مَرْجِعَ الضميرِ دائمُ الحضورِ في الذِّهْنِ، كقولِ الشاعرِ:
أَبَتِ الوِصالَ مَخافةَ الرُّقباءِ وأَتَتْكَ تحتَ مَدَارِعِ الظَّلْماءِ
الفاعلُ ضميرٌ لم يَتَقَدَّمْ لهُ مَرْجِعٌ؛ فَمُقْتَضَى الظاهرِ الإظهارُ. وتمكينُ ما بعدَ الضميرِ في نفْسِ السامعِ؛ لتشوُّقِه إليهِ أوْ لا، نحوُ: هيَ النفسُ ما حَمَّلْتَها تَتَحَمَّلُ- {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}- نِعْمَ تلميذٌ المؤدَّبُ. وعكْسُه، أي: الإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ لغَرَضٍ، كتقويةِ داعي الامتثالِ، كقولِكَ لعَبْدِكَ: سيِّدُكَ يَأْمُرُكَ بكذا. (ومنها): الالتفاتُ، وهوَ نَقْلُ الكلامِ منْ حالةِ التكلُّمِ أو الخطابِ أو الغَيْبةِ إلى حالةٍ أُخْرى منْ ذلكَ. فالنقْلُ من التكلُّمِ إلى الْخِطابِ، نحوُ: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أيْ: أَرْجِعُ. ومن التكلُّمِ إلى الغَيْبةِ، نحوُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ}. ومن الخطَابِ إلى التكلُّمِ، كقولِ الشاعرِ: أَتَطْلُبُ وَصْلَ رَبَّاتِ الجمالِ وقدْ سَقَطَ المشيبُ على قَذَالِي (ومنها): تَجاهُلُ العارفِ، وهوَ سَوْقُ المعلومِ مَساقَ غيرِه لغَرَضٍ، كالتوبيخِ، نحوُ: أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا كأنَّكَ لمْ تَجْزَعْ على ابنِ طَريفِ (ومنها): أسلوبُ الحكيمِ، وهوَ تَلَقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يَترَقَّبُهُ،
أو السائلِ بغيرِ ما يَطْلُبُهُ، تَنبيهًا على أنَّهُ الأَوْلَى بالقَصْدِ. فالأوَّلُ: يكونُ بِحَمْلِ الكلامِ على خِلافِ مرادِ قائلِهِ، كقولِ
القَبَعْثَرَى للحجَّاجِ، وقدْ تَوَعَّدَه بقولِه: لأحْمِلَنَّكَ على
الأدْهَمِ: مِثلُ الأميرِ يَحمِلُ على الأدهَمِ والأشهَـبِ، فقالَ لهُ الحجَّاجُ:
أرَدْتُ الحديدَ، فقالَ الْقَبَعْثَرَى: لاَنْ يكونَ حديدًا خيرٌ منْ أنْ
يكونَ بليدًا. أَرادَ الْحَجَّاجُ بالأدْهَمِ القيْدَ، وبالحديدِ
الْمَعْدِنَ المخصوصَ. وحَمَلَهُما الْقَبَعْثَرَى على الفَرَسِ الأدْهَمِ
الذي ليسَ بَليدًا. والثاني: يكونُ بتزيلِ السؤالِ منزلةَ سؤالٍ آخَرَ مناسِبٍ لحالةِ السائلِ، كما في قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
سألَ بعضُ الصحابةِ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ: ما بالُ
الْهِلالِ يَبدو دقيقًا، ثمَّ يَتزايدُ حتَّى يصيرَ بدْرًا، ثمَّ يَتناقَصُ
حتَّى يعودَ كما بَدَأَ؟ فجاءَ الجوابُ عن الحكْمَةِ المترَتِّبَةِ على
ذلكَ؛ لأنَّها أَهَمُّ للسائلِ، فنَزَّلَ سؤالَهُم عنْ سببِ الاختلافِ
منزلةَ السؤالِ عنْ حكْمَتِه. (ومنها) التغليبُ، وهوَ ترجيحُ أحَدِ الشيئينِ على الآخَرِ في إطـلاقِ
لفْظِه عليهِ، كتغليبِ المذكَّرِ على المؤنَّثِ في قولِه تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}، ومنهُ: الأبوانِ للأبِ والأمِّ. وكتغليبِ المذكَّرِ والأخَفِّ على غيرِهما، نحوُ القمرينِ، أيْ: الشمسِ والقمرِ، والعُمَرَيْنِ، أيْ: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ. والمخاطَبِ على غيرِه، نحوُ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، أُدْخِلَ شُعَيْبٌ بحُكْمِ التغليبِ في {لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، معَ أنَّهُ لمْ يكُنْ فيها قطُّ حتَّى يَعودَ إليها. وكتغليبِ العاقلِ على غيرِه، كقولِه تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): (الخـــاتِمـــةُ
( في إخراجِ الكلامِ على خِلافِ مُقْتَضَى الظاهِرِ )
إيرادُ الكلامِ على حَسَبِ ما تَقَدَّمَ من القواعدِ يُسَمَّى إخراجَ
الكلامِ على مُقْتَضَى الظاهرِ، أيْ: على مُقْتَضَى ظاهِرِ الحالِ؛ فإنَّ
الحالَ كما مَرَّ عبارةٌ عن الأمْرِ الحاملِ للمتكلِّمِ على إيرادِه
الكلامَ على صورةٍ مَخصوصةٍ.وذلكَ الأمْرُ قدْ يكونُ أَمْرًا مُحَقَّقًا
ثابتًا في الواقعِ،ويُسَمَّى حينئذٍ ظاهرَ الحالِ،وقدْ يكونُ أمْرًا
يَعْتَبِرُه المتكلِّمُ كتنزيلِ شيءٍ منزِلةَ غيرِه فيكونُ خلافَ ظاهِرِ
الحالِ. فإيرادُ الكلامِ على القواعِدِ التي تَقَدَّمَتْ يُسَمَّى إخراجَ
الكلامِ على مُقْتَضَى ظاهِرِ الحالِ؛ لكَوْنِ الأمْرِ الداعي حينئذٍ
ثابتًا في الواقعِ منْ غيرِ أنْ يكونَ ثَمَّةَ تنزيلُ شيءٍ كغيرِه،وهوَ
الأصْلُ في الكلامِ، لكنْ قدْ يُعْدَلُ إلى خلافِه كما قالَ .
وقدْ تَقْتَضي الأحوالُ العُدولَ منْ مُقْتَضَى الظاهِرِ،ويُورَدُ الكلامُ
على خِلافِه في أنواعٍ مخصوصةٍ،ويُسَمَّى الإيرادُ على هذا الوجْهِ
إخراجَ الكلامِ على خِلافِ مُقْتَضَى ظاهِرِ الحالِ:
( منها )، تنزيلُ العالِمِ بفائدةِ الخبرِ،وهيَ الحكْمُ الذي تَضَمَّنَهُ
الخبَرُ أوْ لازِمُها الذي هوَ كَوْنُ المتكلِّمِ عالمًا بتلكَ الفائدةِ،
منزلةَ الجاهِلِ بها؛ لعَدَمِ جَرْيِه على مُوجِبِ عِلْمِه الذي هوَ
العَمَلُ بحسَبِ ذلكَ العلْمِ.والمعنى أنَّ يُنَزَّلَ العالِمُ بالفائدةِ
منزلَةَ الجاهلِ بها لِعَدَمِ جَرْيِه على مُوجَبِ عِلْمِه بالفائدةِ، أوْ
يُنَزَّلَ العالِمُ بلازِمِ الفائدةِ منزِلةَ الجاهِلِ بهِ لعَدَمِ جَرْيِه
على مُوجِبِ عِلْمِه بلازِمِ الفائدةِ. فالضميرُ في قولِه: ( منزِلَةَ
الجاهِلِ بها )، راجعٌ إلى الفائدةِ، لكنَّ الْمُرادَ بالفائدةِ حينئذٍ ما
يَعُمُّ لازِمَ الفائدةِ لكونِه فائدةً أيضًا، فيُلْقَى إليه الخبرُ بسببِ
هذا التنزيلِ كما يُلْقَى إلى الجاهلِ،ولوْ لمْ يكُنْ هذا التنزيلُ لم
يكُنْ إلقاءُ الخبَرِ إليه لائِقًا؛ لأنَّ العالِمَ بما يُقْصَدُ بالخبَرِ
من الفائدةِ أوْ لازمِها ليسَ منْ شأنِ العُقَلاءِ إلقاءُ الخبرِ إليه،
كقولِك لمَنْ يُؤْذِي أَبَاهُ: ( هذا أبوكَ )؛ فإنَّهُ لَمَّا آذَى أباهُ
معَ عِلْمِه بأنَّهُ أبوهُ نُزِّلَ منزِلَةَ الجاهِلِ بكونِه
أبَاهُ،وأُلْقِيَ إليه الخبَرُ كما يُلْقَى للجاهِلِ؛ تنبيهًا على أنَّهُ
هوَ والجاهلُ سواءٌ،وإيماءً إلى أنَّ هذا الإيذاءَ لا يُتَصَوَّرُ إلَّا
من الجاهلِ.
ومنها، تنزيلُ غيرِ المنْكِرِ منزِلةَ الْمُنْكِرِ إذا لاحَ وظَهَرَ عليهِ
شيءٌ منْ علاماتِ الإنكارِ التي يَزْعُمُ بها المتكلِّمُ كونَه منكِِرًا،
معَ أنَّهُ ليسَ كذلكَ في الحقيقةِ، فيؤَكَّدُ لهُ الكلامُ وجوبًا كما
يُؤَكَّدُ للمنِكِر، نحوَ: ( جاءَ شقيقٌ عارِضًا رُمْحَه )، أيْ: واضعًا
لرُمْحِه بحيثُ يكونُ عَرْضُه في جهةِ الأعداءِ على ما هوَ عادةُ مَنْ ليسَ
مُتَهَيِّئًا للحرْبِ، فمجيئُهُ على هذه الهيئةِ علامَةُ اعتقادِه أنَّهُ
لا رُمْحَ في بَنِي عمِّه الخُصُومِ له، فنُزِّلَ بسببِ هذه الَعَلامةِ
للإنكارِ منزِلَةَ المنكِرِ معَ أنَّهُ لا يُنْكِرُ أنَّ في أعدائِه منْ
بني عمِّه رِماحًا، وخوطِبَ بقولِه: ( إِنَّ بني عمِّكَ فيهم رماحُ )، على
وجه التأكيدِ كالمنكِرِ.وكقولِك للسائلِ المستبْعِدِ حصولَ الفرَجِ: (
إنَّ الفرَجَ لقريبٌ )، مؤَكِّدًا بإنَ واللامِ. فمُجَرَّدُ كونِه سائلًا،
وإنْ كانَ يَقتَضِي أنْ يُؤْتَى في الكلامِ الْمُلْقَى إليه بتأكيدٍ، لكِنْ
زيادةُ التأكيدِ على الواحدِ لتنزيلِه منزِلةَ المنكِرِ،وجَعْلِ
استبعادِه علامَةَ الإنكارِ .
وتنزيلُ المنكِرِ أو الشاكِّ منزلةَ الخالي الذهْنِ إذا كانَ معه من
الشواهدِ والدلائلِ ما إذا تَأَمَّلَه وتَفَكَّرَ فيهِ زالَ إنكارُه أوْ
شَكُّه،وانتقَلَ إلى مَرتبةِ خالي الذِّهنِ، فيُلْقى إليه الخبرُ غير
مُؤَكَّدٍ كما يُلْقَى إلى خالي الذِّهْنِ، كقولِكَ لِمَنْ يُنْكِرُ
مَنفعةَ الطبِّ أوْ يَشُكُّ فيها: الطبُّ نافعٌ، منْ غيرِ تأكيدٍ؛ فإنَّ
الدلائلَ الدالَّةَ على كونِ الطبِّ نافعًا لَمَّا كانت ظاهِرَةً بحيثُ لوْ
تَأَمَّلَها الْمُنْكِرُ أو الشاكُّ زالَ إنكارُه أوْ شَكُّه جُعِلَ
الجحودُ والشكُّ معها كالعَدَمِ،وأَلْقَى الكلامَ إلى الْمُنْكِرِ
والشاكِّ غيرَ مُؤَكَّدٍ كما يُلْقَى إلى خالي الذهْنِ .
و( منها )، وَضْعُ الماضي مَوْضِعَ المضارِعِ لغَرَضٍ:
كالتنبيهِ على تحقُّقِ الْحُصولِ، فإنَّ لفظَ الْمُضِيِّ مُشْعِرٌ بتحَقُّقِ الوقوعِ، نحوَ: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ }،
فعَبَّرَ بالماضي. وكانَ مُقْتَضَى الظاهِرِ: يأتي أمْرُ اللَّهِ، بصيغةِ
المضارِعِ لكونِه منتَظَرًا؛ تَنبيهًا على تحقُّقِ حصولِه ليَطْمِئِنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمؤمنونَ .
أو التفاؤلِ والتَّيَمُّنِ، وذلكَ لأنَّ السامعَ إذا سَمِعَ ما يَدُلُّ على
حصولِ مُتَمَنَّاهُ ووقوعِه حَصَلَ لهُ من السرورِ ما لم يَحْصُلْ إذا
عَبَّرَ بما يَدُلُّ على حصولِه في الاستقبالِ، نحوَ: ( إنْ شفاكَ اللَّهُ
اليومَ تَذْهَبْ معي غَدًا ). فالتعبيرُ بالماضي ههنا، وإنْ كانَ الأصْلُ
في كلمةِ ( إنْ )و( إذا ) أنْ يكونَ كلٌّ من الشرْطِ والجزاءِ جملةً
استقباليَّةً في اللفظِ، للتفاؤُلِ من المخاطَبِ، ودخولِ السرورِ عليهِ
بحصولِ الشفاءِ .
وعكسُه، أيْ: وضْعُ المضارعِ موْضِعَ الماضي لغَرَضٍ، كاستحضارِ الصورةِ
الغريبةِ في الخيالِ، يعْنِي إذا أُريدَ حكايةُ صورةٍ ماضيةٍ يُهْتَمُّ
باستحضارِها لغَرابةٍ عُبِّرَ عنها بصيغةِ المضارعِ الدالِّ على الحاضِرِ
الذي منْ شأنِه أنْ يُشاهَدَ، فكأنَّهُ يَسْتَحْضِرُ بلفظِ المضارِعِ تلكَ
الصورةِ ليُشاهدَها السامِعونَ، كقولِه تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا }،
فالتعبيرُ بالمضارِعِ، أيْ ( فَتُثِيرُ )، موضعَ الماضي، أيْ (
فَأَثَارَتْ )، إنَّما هوَ لاستحضارِ الصورةِ البديعةِ الغريبةِ الدالَّةِ
على قُدرتِه تعالى الباهرَةِ القاهرةِ.
وإفادةِ الاستمرارِ للفعْلِ استمرارًا تَجَدُّدِيًّا في الأوقاتِ الماضيةِ، نحوَ: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ }، أيْ: في كثيرٍ من الوقائعِ، { لَعَنِتُّمْ }،
أيْ: لَوَقَعْتُمْ في جَهْدٍ وَبَلَاءٍ، فالأصْلُ في كلمةِ ( لوْ )
دُخولُها على الماضي، لكنْ عُدِلَ ههنا إلى المضارِعِ لقَصْدِ إفادةِ
الاستمرارِ، أيْ: لو اسْتَمَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على
إطاعتِكم وموافَقَتِكم في كلِّ ما تَسْتَصْوِبُونَه بحسَبِ رأْيِكُم فيما
مَضَى وقتًا بعدَ وقْتٍ ومَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ كما هوَ مُرادُكم منهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذلكَ الاستمرارَ بقرينةِ {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} لوَقَعْتُمْ في بلاءٍ وجهدٍ .
و(منها) وَضْعُ الخبَرِ مَوْضِعَ الإنشاءِ لغَرَضٍ، كالتفاؤلِ بوقوعِ
المعنى المرادِ، نحوَ قَوْلِكَ في مَقامِ الدعاءِ للمخاطَبِ: هداكَ اللَّهُ
لصالِحِ الأعمالِ، موضِعَ اللَّهُمَّ اهدِهِ، ليَتَفَاءَلَ بلفْظِ
الْمُضِيِّ على حصولِ الْهِدايةِ لصالِحِ الأعمالِ، وعَدِّها من الأمورِ
الواقعةِ التي حَقُّها الإخبارُ عنها بأفعالٍ ماضيةٍ .
وإظهارِ الرغبةِ والحرْصِ على وقوعِ المطلوبِ، نحوَ: ( رَزَقَنِي اللَّهُ
لقاءَكَ )، فعَبَّرَ بالماضي ولمْ يَقُل: ( اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي لقاءَهُ
)؛ إظهارًا للرغبةِ والحرْصِ على وقوعِ اللقاءِ .
والاحترازِ عنْ صورةِ الأمْرِ تَأَدُّبًا، كقولِكَ: ( إذا حَوَّلَ
الْمَوْلَى عنْ أمْرِكَ وجْهَهُ يَنْظُرُ مَوْلَايَ في أَمْرِي)، مقامَ
انظُرْ؛ للتأدُّبِ والاحترازِ عنْ صورةِ الأمرِ والاستعلاءِ .
وعكسُه، أيْ: وضْعُ الإنشاءِ مَوْضِعَ الخبَرِ لغَرَضٍ:
كإظهارِ العِنايةِ بالشيءِ والاهتمامِ بشأنِه، نحوَ: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}،
لم يَقُلْ: وإقامةِ وجوهِكُم، عَطْفًا على الْقِسْطِ كما هوَ مُقْتَضَى
الظاهِرِ؛ عنايةً بأمْرِ الصلاةِ، وإظهارًا لكونِها مِمَّا يُعْتَنَى
بشأنِه للشرَفِ والعَزازةِ .
والتحاشي عنْ موازاةِ اللاحقِ بالسابقِ، نحوَ: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }،
فَعَدَلَ عنْ لفظِ الْأَوَّلِ ولم يَقُلْ: وأُشْهِدُكُمْ؛ تحاشيًا عنْ
مُوازاةِ شهادتِهم بشَهادةِ اللَّهِ لِمَا بينَهما من الاختلافِ، فإنَّ
إشْهادَ اللَّهِ على الْبَراءةِ من الشرْكِ إشهادٌ صحيحٌ ثابتٌ، وأَمَّا
إشهادُهم فما هوَ إلَّا تَهَاوُنٌ بدينِهم،واستهانَةٌ بحالِهم .
والتسويةِ بينَ الفِعْلِ وضِدِّه، نحوَ: { أَنْفِقُوا طَوْعًا أوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ }،
فإيرادُ الأمْرِ ههنا في الموضِعِ الخبَرِ، أيْ: لنْ يُتَقَبَّلَ منكم
أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أوْ كَرْهًا؛ للدَّلالةِ على التسويةِ بينَ الإنفاقِ
طَوْعًا وبينَهُ كَرْهًا،والتنبيهِ على عَدَمِ تفاوتِ حالِ إنفاقِهم في
نَفْيِ التقبُّلِ، فإنَّ الأمْرَ في مِثْلِ هذا الكلامِ يُسْتَعْمَلُ
للتسويةِ .
(ومنها )، الإضمارُ في مَقامِ الإظهارِ، والمرادُ بمقامِ الإظهارِ مقامٌ لا
يُوجَدُ فيهِ ما يَقْتَضِي الإضمارَ منْ تَقَدُّمِ الْمَرْجِعِ، فإيرادُ
الْمُضْمَرِ في هذا الْمَقامِ لا يكونُ إلَّا لِغَرَضٍ وعُروضِ اعتبارٍ
ألْطَفَ منْ إيرادِ الْمُظْهَرِ فيهِ، كادِّعاءِ أنَّ مَرْجِعَ الضميرِ
دائمُ الحضورِ في الذهْنِ بحيثُ لا يُلْتَفَتُ إلى غيرِه، كقولِ الشاعرِ:
أَبَت الوِصالَ مَخافَةَ الرُّقَبَاءِ ..... وأَتَتْكَ تَحْتَ مَدَارِعِ الظَّلْمَاءِ
الفاعلُ ضميرٌ في أَبَتْ وأَتَتْ لم يَتَقَدَّمْ لهُ مَرْجِعٌ، فمُقْتَضَى
الظاهِرِ الإظهارُ لكونِ الْمَقامِ مقامَه لعَدَمِ تَقَدُّمِ الْمَرْجِعِ،
لكنْ عَدَلَ عنه إلى الإضمارِ ليُفيدَ ادِّعاءَ كونِ الْمَرجِعِ دائمَ
الحضورِ، وكونِ الذهْنِ غيرَ مُلْتَفِتٍ إلى غيِره.
وتمكينُ ما بعدَ الضميرِ في نفسِ السامعِ؛ لتَشَوُّقِه إليه أوَّلًا، فإنَّ
السامعَ إذا لم يَفْهَمْ من الضميرِ معنًى لعَدَمِ سَبْقِ ما يَرْجِعُ هوَ
إليه انتَظَرَ ما يَرِدُ عليهِ بعدَه وتَشَوَّقَ إليه، فإذا جاءَ بعدَ
الانتظارِ والتَشَوُّقِ كانَ أمْكَنَ في النفسِ وأوْقَعَ فيها؛ لأنَّ
النفسَ تكونُ أقْبَلَ لِمَا حَصَلَ بعد التَّشَوُّقِ والانتظارِ مِمَّا
حَصَلَ بلا شَوْقٍ وتَعَبٍ، نحوَ: هيَ النَّفْسُ ما حَمَّلْتَهَا
تَتَحَمَّلِ، {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، (نِعْمَ تِلْمِيذٌ الْمُؤَدَّبُ) .
فمُقْتَضَى الظاهِرِ في هذه الأمثلةِ هوَ الإظهارُ دونَ الإضمارِ؛ لعَدَمِ
تَقَدُّمِ الْمَرْجِعِ، لكنْ عَدَلَ عنه وأَوْرَدَ ضميرَ هيَ مكانَ
القِصَّةِ في الأَوَّلِ، وضميرَ هوَ مكانَ الشأْنِ في الثاني،والضميرَ
الْمُسْتَتِرَ في نِعْمَ مكانَ الاسمِ الظاهرِ في الثالثِ، أيْ: نِعْمَ
التلميذُ؛ لِيَتَهَيَّأَ السامعُ بالضميرِ لِمَا يَرِدُ بعدَه ويَتَشَوَّقَ
إليه، فيَتَمَكَّنَ في نفسِه إذا وَرَدَ عليهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ؛ لكونِه
واردًا بعدَ الانتظارِ وَالتَّشَوُّقِ .
وعَكْسُه، أيْ: الإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ لغَرَضٍ، كتقويةِ داعي
الامتثالِ لِمَنْ أَمَرْتَه بشيءٍ، كقولِك لعَبْدِكَ: ( سَيِّدُكَ
يَأْمُرُكَ بكذا )؛ فإنَّ مُقْتَضَى الظاهِرِ ههنا الإضمارُ، أيْ: أنا
آمُرُكَ بكذا، لكونِ الْمَقامِ مَقامَ التكَلُّمِ، لكِنْ جيءَ مكانَه
بلفْظِ السَّيِّدِ، وأَسْنَدَ الأمْرَ إليه؛ لأَجْلِ الدَّلالةِ على
قُوَّةِ داعي المأمورِ على امتثالِ الأمْرِ.
(ومنها ) الالتفاتُ: وهوَ نَقْلُ الكلامِ منْ حالةِ التَّكلُّمِ أو الخطابِ
أو الغَيْبَةِ إلى حالةٍ أُخرى منْ ذلكَ، بأنْ يُسَاقَ الكلامُ أوَّلًا
على واحدةٍ منْ هذهِ الثلاثةِ ثمَّ يُعْدَلَ منها إلى الأُخْرَى، معَ أنَّ
ظاهِرَ الحالِ يَقْتَضِي عدمَ ذلكَ العدولِ، وإلَّا لمْ يَصِحَّ عَدُّهُ
منْ أنواعِ إخراجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتَضَى ظاهِرِ الحالِ .
فالنَّقْلُ من التكلُّمِ إلى الْخِطابِ نحوَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }،
فمُقْتَضَى الظاهِرِ إجراءُ الكلامِ على طريقِ التكلُّمِ، أيْ: أَرْجِعُ؛
ليكونَ الكلامُ جَارِيًا على نَسَقٍ واحدٍ، لكنْ عَدَلَ عنهُ إلى الْخِطابِ
وقالَ: { وَإِلَيْهِ تَرْجِعُونَ }، فكانَ نَقْلًا من التكلُّمِ إلى الْخِطابِ على خِلافِ مُقْتَضَى الظاهِرِ .
والنَّقْلُ من التَّكَلُّمِ إلى الْغَيْبَةِ نحوَ: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ }، ومُقْتَضَى الظاهِرِ ههنا أيضًا إجراءُ الكلامِ على التَّكَلُّمِ، أيْ: فَصَلِّ لنا؛ لكَونِ قولِه تعالى: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ }، تَكَلُّمًا. فالنقْلُ إلى قولِه تعالى: { لِرَبِّكَ }، التفاتٌ من التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ؛ لأنَّ الاسمَ الظاهِرَ منْ قَبيلِ الغَيْبَةِ .
والنقْلُ من الْخِطابِ إلى التَّكَلُّمِ كقولِ الشاعِرِ:
أَتَطْلُبُ وَصْلَ رَبَّاتِ الْجَمَالِ ..... وقدْ سَقَطَ الْمَشِيبُ عَلَى قَذَالِي
أيْ خَلْفَ رأسي، ففيهِ التفاتٌ من الْخِطابِ في أَتَطْلُبُ إلى
التكَلُّمِ، وكانَ مُقْتَضَى الظاهِرِ أنْ يقولَ: ( عَلى قَذَالِكَ ) . ومنها تَجَاهُلُ العارِفِ، وهوَ سَوْقُ المعلومِ مَسَاقَ غيرِه، بأنْ
يُعَبَّرَ عنهُ بما يَدُلُّ باعتبارِ أصْلِه على أنَّهُ غيرُ معلومٍ
لغَرَضٍ وفائدةٍ. فإنَّهُ لوْ كانَ هذا منْ غيرِ نُكْتَةٍ وفائدةٍ لم يكُنْ
منْ هذا البابِ. كالتوبيخِ والتعييرِ على أمْرٍ قدْ وَقَعَ، نحوَ قولِ ليلى بنتِ طريفٍ في
مَرْثِيَّةِ أخيها الوليدِ بنِ طريفٍ، وقدْ كانَ قَتَلَهُ يزيدُ بنُ
معاويةَ: ( أَيَا شَجَرَ الخابورِ )، وهوَ نَهْرٌ في دِيارِ بَكْرٍ، (مَا
لَكَ مُورِقًا )، أيْ: أيُّ شيءٍ ثَبَتَ لكَ في حالِ كونِكَ مُورِقًا، أيْ
مُخْرِجًا لأوراقِكَ، فالاستفهامُ ههنا للتَّعَجُّبِ والإنكارِ، ومُورِقًا
حالٌ من الكافِ في لكَ، (كأنَّكَ لم تَجْزَعْ على ابنِ طريفٍ)، فهيَ
تَعْلَمُ أنَّ الشجَرَ لم يَجْزَعْ على ابنِ طريفٍ، لكنَّها تجاهَلَتْ
فاستَعْمَلَتْ لفظَ كأنَّ الدالَّ على الشكِّ لتوبيخِ الشجَرِ على إيراقِه.
وفيهِ من المبالَغَةِ في وجوبِ الْجَزَعِ ما لا يَخْفَى . ومنها أسلوبُ الحكيمِ: وهوَ تَلَقِّي الْمُتَكَلِّمِ ومواجهتُه المخاطَبَ
بغيرِ ما يَتَرَقَّبُه ذلكَ المخاطَبُ من المتكلِّمِ، أوْ تَلَقِّي
المتكلِّمِ السائلَ بغيرِ ما يَطْلُبُه ويَسْأَلُه؛ تَنبيهًا على أنَّهُ
الأَوْلَى بالقصْدِ، أيْ: تنبيهًا على أنَّ ذلكَ الغيرَ الذي لا
يَتَرَقَّبُه المخاطَبُ في الأَوَّلِ، ولا يَطْلُبُه السائلُ في الثاني،
هوَ الْأَوْلَى بأنْ يُقْصَدَ ويُرادَ دونَ ما يَتَرَقَّبُ ويَطْلُبُ. فالأوَّلُ: أيْ تَلَقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يَتَرَقَّبُه، يكونُ بحمْلِ
الكلامِ، أيْ: بسببِ حَمْلِ المتكلِّمِ كلامَ المخاطَبِ، على خِلافِ مُرادِ
قائلِه الذي هوَ ذلكَ المخاطَبُ، كقولِ القَبَعْثَرَى للحجَّاجِ وقدْ
تَوَعَّدَهُ بقولِه: (لَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ )، ووجْهُ
تَوَعُّدِ الحجَّاجِ القَبَعْثَرَى بهذا القولِ على ما قِيلَ، أنَّ
القَبَعْثَرَى كانَ جالسًا في بُستانٍ معَ جماعةٍ منْ إخوانِه في زَمَنِ
الْحُصْرِمِ، أي العِنَبِ الأخْضَرِ، فذَكَرَ بعضُهم الْحَجَّاجَ، فقالَ
القَبَعْثَرَى: ( اللَّهُمَّ سَوِّدْوجْهَهُ، واقْطَعْ عُنُقَهُ،
واسْقِنِي منْ دَمِه )، فبَلَغَ ذلكَ الْحَجَّاجَ، فقالَ لهُ: ( أَنْتَ
قُلْتَ ذلكَ؟ ) فقال: نَعَمْ، ولكنْ أَرَدْتُ العِنَبَ الْحُصْرُمَ، بأنَّ
الْمُرادَ بتسويدِ وجْهِه استواؤُه، وبقطْعِ عُنقِه قَطْفُه،وبدَمِه
الخمْرُ الْمُتَّخَذُ منه، فقالَ لهُ الْحَجَّاجُ هذا القولَ مُتَوَعِّدًا
إيَّاهُ، فقالَ الْقَبَعْثَرَى: ( مِثْلُ الأميرِ يَحْمِلُ على الأدْهَمِ
والْأَشهَبِ )، فقالَ لهُ الْحَجَّاجُ: (وَيْلَكَ! أَرَدْتُ الحديدَ )،
فقالَ القَبَعْثَرَى: ( لَأَنْ يكونَ حديدًا خيرٌ منْ أنْ يكونَ بَلِيدًا )
. فتَلَقَّى الْقَبَعْثَرَى الْحَجَّاجَ بهذا القولِ بغيرِ ما
يَتَرَقَّبُه،وحَمَلَ كلامَه على خلافِ مُرادِه؛ إذْ أرادَ الحجَّاجُ
بالأدْهَمِ القيدَ،وبالحديدِ الْمَعْدِنَ المخصوصَ المعروفَ،وحَمَلَهُما
الْقَبَعْثَرَى، أي الأدْهَمَ على الفرَسِ الأدهَمِ الذي غَلَبَ
سوادُه،وأكَّدَ ذلكَ الحمْلَ بضَمِّ الأشهَبِ إليْهِ،وهوَ الفرَسُ الذي
غَلَب بياضُه،والحديدَ على الفرَسِ ذي الْحِدَّةِ، فكانَ المجموعُ محمولًا
على الفَرَسِ الأدْهَمِ الذي ليسَ بليدًا؛ تَنْبِيهًا على أنَّ حَمْلَ
الكلامِ على هذا المعنى هوَ الأَوْلَى بأنْ يَقْصِدَه الأميرُ مثلُ
الحجَّاجِ . والثاني، أيْ تَلَقِّي السائلِ بغيرِ ما يَطْلُبُه، يكونُ بتنزيلِ السؤالِ
منزلةَ سؤالٍ آخَرَ مناسِبٍ لحالةِ السائلِ ؛ تَنبيهًا على أنَّ ذلكَ
السؤالَ الآخَرَ المناسِبَ لحالِه هوَ الْأَوْلَى والأَهَمُّ بالسؤالِ
عنهُ، كما في قولِه تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }،
سألَ بعضُ الصحابةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ما بالُ
الهلالِ يَبْدُو دَقِيقًا، ثمَّ يَتَزَايَدُ حتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثمَّ
يَتَنَاقَصُ حتَّى يَعودَ كما بدأَ؟ فهذا بظاهِرِه سؤالٌ عنْ سببِ اختلافِ
القَمَرِ في زيادةِ النورِ ونُقصانِه، فجاءَ الجوابُ بقولِه تعالى: { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }،
عن الحكْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ على ذلكَ الاختلافِ،وهيَ أنَّ الأهِلَّةَ
بحسَبِ ذلكَ الاختلافِ معالِمُ للنَّاسِ يُوَقِّتُونَ بها
أمورَهم،ويَعْرِفوُن َبها وَقْتَ الْحَجَّ، ولم يُجَابُوا ببيانِ السببِ
لذلكَ الاختلافِ ؛ لأنَّها، أيْ تلكَ الحكْمَةَ التي جاءَ الجوابُ عنها،
أهمُّ للسائلِ؛ إذْ لا يَتَعَلَّقُ لهم بالسبَبِ غَرَضٌ لا يَطَّلِعُ عليهِ
كلُّ أحَدٍ بسَهولةٍ، فنَزَّلَ سؤالَهم عنْ سببِ الاختلافِ مَنْزِلَةَ
السؤالِ عنْ حكْمَتِه؛ لكونِه الْأَوْلَى بالسؤالِ والأليَقَ بالحالِ؛
فلذلكَ أُجيبَ ببيانِ الحكْمَةِ لا ببيانِ السببِ . (ومنها ) التغليبُ،وهوَ تَرجيحُ أحدِ الشيئينِ المتصاحِبَيْنِ أو
الْمُتَشَابِهَيْنِ على الآخَرِ في إطلاقِ لفْظِه عليه، أيْ في إطلاقِ لفظِ
الْمُغَلَّبِ على الآخَرِ الْمُغَلَّبِ عليهِ ؛ بأنْ يَجْعَلَ الآخَرَ
متَّفِقًا معه في الاسمِ، ثمَّ يُطْلِقَ اللفظَ عليهما جميعًا . كتغليبِ المذَكَّرِ على المؤنَّثِ في قولِه تعالى في وَصْفِ مَرْيَمَ: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }،
فإنَّهُ غَلَّبَ ههنا المذكَّرَ على المؤنَّثِ، وأَطْلَقَ اللفْظَ
الموضوعَ للذكورِ فقطْ، وهوَ الجمْعُ بالياءِ والنونِ، على الذكورِ
والإناثِ جميعًا . ومنهُ، أيْ: ومنْ تَغليبِ المذكَّرِ على المؤنَّثِ، الأبوانِ للأبِ
والأمِّ، إلَّا أنَّ مخالَفَةَ الظاهِرِ فيما سَبَقَ منْ جهةِ الهيئةِ
والصيغةِ، وههنا منْ جهةِ المادَّةِ وجوهَرِ اللفظِ . وكتغليبِ المذَكَّرِ والأخَفِّ على غيرِهما، وجَعْلِ المغلَّبِ تثنيةً بهذا
الاعتبارِ، فالأصْلُ في هذا التغليبِ أنْ يُغَلَّبَ الأخفُّ على غيرِه،
إلَّا أنْ يكونَ الغيرُ مُذَكَّرًا، فيُغَلَّبَ على المؤنَّثِ وإنْ كانَ
المؤنَّثُ أخفَّ، ففي نحوَ: ( الْقَمَرَيْنِ )، أي: الشمسِ والقمرِ،
غُلِّبَ القمرُ لكونِه مذَكَّرًا، وإنْ كانَ لفظُ الشمسِ لسكونِ وسَطِه
أخَفَّ. وفي نحوَ الْعُمَرَيْنِ، أيْ أبي بكرٍ وعمرَ، غُلِّبَ عمرُ على أبي
بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالَى عَنْهُما لِخِفَّةِ لفْظِ عُمَرَ . وتغليبِ المخاطَبِ على غيرِه، نحوَ: { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا }، فالمخاطَبُ حقيقةً في قولِه تعالى: { أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا}، هوَ مَنْ آمَنَ بشُعَيْبٍ دونَه عليهِ السلامُ، لكِنْ أُدْخِلَ شعيبٌ بِحُكْمِ التغليبِ في { لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا }،
ونُسِبَ هذا الوَصْفُ إلى الجميعِ معَ أنَّهُ عليهِ السلامُ لمْ يكُنْ
فيها، أيْ في مِلَّتِهِمْ، قطُّ حتَّى يعودَ إليها ؛ لأنَّ مِلَّتَهُم
الكفْرُ، والأنبياءُ مَعْصُومُونَ عن الكفْرِ قبلَ الْبَعْثَةِ وبعْدَها
بالاتِّفاقِ . وكتغليبِ العاقِلِ على غيرِه، كقولِه تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }؛
إذ العالَمُ اسمٌ لِمَا يُعْلَمُ بهِ الصانِعُ من العُقلاءِ وغيرِ
العُقلاءِ، فغُلِّبَ العُقَلاءُ على غيرِهم، وأُوْرِدَ بصيغةِ الجمْعِ
بالياءِ والنونِ الْمُخْتَصَّةِ بالعقلاءِ وأوصافِهم ، هذا واللَّهُ
سبحانَه وتعالى أعلَمُ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ)
قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (ثم
من المحسنات المعنوية كذلك الأسلوب الحكيم، ويسمى أسلوب الحكيم أيضا، هو
الأسلوب نفسه يسمى حكيما أي محكماً، والله تعالى قد وصف القرآن بأنه حكيم، {تلك آيات الكتاب الحكيم}
والحكيم: معناه المحكم، يطلق على الكلام نفسه أنه حكيم بمعنى محكم، ويطلق
على المتكلم أنه حكيم أي يتكلم بالحكمة، فهذا الأسلوب يسمى الأسلوب الحكيم،
ويسمى أسلوب الحكيم، وهو: أن توجه كلام المتكلم إلى غير وجهته؛ لأن ذلك
أولى به، أن يخاطبك الإنسان بكلام فتقلبه أنت عليه وتوجهه وجهة غير التي
يريد؛ لأن ذلك أولى به.
ومثال ذلك ما حصل للقبعثرى مع الحجاج، القبعثرى شاعر
مشهور، أُتي به إلى الحجاج وكان الحجاج توعده، فلما أُدخل عليه قال له:
لأحملنك على الأدهم.
وهذا توعد له، يتوعده بأن يجعل في رجليه القيد، الأدهم اسم للقيد، قال له: لأحملنك على الأدهم.
فقال القبعثرى: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشقر.
فحمل الكلام إلى أنه سيعطيه فرساً أدهماً، فقال مثل الذي يحمل على الأدهم
والأشقر، قال: ويلك إنه حديد. قال: لئن يكون حديداً أحب إليّ من أن يكون
بليداً.
حمل الحديد هنا على السريع في السير، فهذا الأسلوب
يسمى الأسلوب الحكيم، ينقل الكلام عن مقتضاه الذي قصد به المتكلم إلى معنى
آخر غيره.
قال: أسلوب الحكيم: وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه،
أو السائل بغير ما يتطلبه؛ تنبيها على أنه الأولى بالقصد، فالأول يكون
مجمل الكلام، يكون بحمل الكلام، الأول يكون بحمل الكلام على خلاف مراد
قائله، أصلحوا هذه، يكون بحمل الكلام على خلاف مراد قائله، وذلك كقول
القبعثرى للحجاج وقد توعده بقوله: لأحملنك على الأدهم. قال: مثل الأمير
يحمل على الأدهم والأشهب. فقال له الحجاج: أردت حديدا، قال: ويلك إنه حديد.
فقال القبعثرى: لئن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا. أراد الحجاج بالأدهم
القيد، وبالحديد المعدن المخصوص الحديد المعروف، وحملها القبعثرى على
الفرس الأدهم الذي ليس بليدا، أي: الذي هو مؤدب سريع.
والثاني أي القسم الثاني يكون بتنزيل السؤال منزلة سؤال آخر مناسب لحال المسألة، وذلك مثل قول الله تعالى: {ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}
فإن السؤال في الأصل، سألوه لماذا يكون الهلال دقيقا صغيرا في بدايته، ثم
يكبر حتى يكون قمراً بدراً كاملا؟ فالسؤال كان عن أمر فلكي حسابي ليس مهما
لهم، فنقلهم إلى أمر أهم منه وهو ما يتعلق بالدين بالأحكام الشرعية، {قل هي مواقيت للناس والحج}
لذلك قال، وسأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال الهلال يبدو
دقيقا ثم يتزايد حتى يصير بدراً، ثم يتناقص حتى يكون كما بدأ؟ فجاء الجواب
عن الحكمة المترتبة على ذلك، لأنها أهم للسائل، فنزل سؤالهم عن سبب
الاختلاف منزلة، السؤال عن حكمته، سبب الاختلاف أي اختلاف أحوال الهلال.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى الهلال فقال:
"أيها الخلق المتردد في منازل التقدير، والمتصرف في فلك التدبير". أي
المتصرف المتردد بالطلوع والغروب، والمتصرف بالزيادة والنقص، المتصرف معناه
المتقلب، التصرف التقلب، "آمنت بمن نوَّر بك الظلم وأسفر بك البهم، وجعلك
آية من آيات وحدانيته، وعلامة من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة
والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع،
وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل".
هذا الكلام بليغ جدا في التعجب في عجائب خلق الله، وقد أثنى الله على الذين يتعجبون في بدائع خلقه في عدد من آيات كتابه كقوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ونظير هذا أيضا جواب موسى عليه السلام لفرعون حين قال له: {قال ومن ربكما يا موسى}؟ فكان فرعون يريد أن يذكر له شجرا أو حجراً أو أن يتكلم عن ذات الرب سبحانه وتعالى، فما تكلم موسى عن هذا {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وكذلك في سورة الشعراء قال له.. (مداخلة غير مسموعة) نعم، قال فرعون: {وما رب العالمين}
أي ما هو؟ يسأله عن الماهية، وهذا لا يمكن أن يوصل إليه كما قال ابن أبي
زيد رحمه الله في عقيدته، يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية
ذاته، قال فرعون: {وما رب العالمين} بماذا أجاب موسى؟ قال: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} .
{قال لمن حوله ألا تستمعون} أي: قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون، كأنه ينتقد هذا الجواب، {قال ربكم ورب آبائكم الأولين} أجاب موسى أيضا بهذا الجواب: {ربكم ورب آبائكم الأولين} فماذا قال فرعون؟ قال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} فبماذا أجاب موسى: {قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم تعقلون}
فإن كنتم تعقلون فقد عرفتم الجواب، فهذا انتقال للسائل عن سؤاله الأصلي
إلى سؤال هو أولى به، فيجاب ليس على طبق سؤاله السابق، بل بجواب آخر.
ونظير هذا أن يزاد في الجواب أكثر من طبقه؛ لفائدة
وحكمة، كحديث العتكي المدلجي الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إنا نركب البحر ونأخذ معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به
ظمئنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته))، ((هو الطهور ماؤه)) هذا الجواب على السؤال، وزاد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ((الحل ميتته)) وليس ذلك من طبق السؤال، لكنه فائدة يزاد بها السائل؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل من طعام البحر، فأفادهم بذلك قبل أن يسألوا).
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:
فقال المؤلفون رحمهم الله تعالى:
الخاتمة: (في إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر):
إيراد الكلام على حسب ما تقدم من القواعد يسمى: إخراج الكلام على مقتضى الظاهر.
وقد تقتضي الأحوال العدول عن مقتضى الظاهر، ويورد الكلام على خلافه في أنواع مخصوصة).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن
اهتدى بهداه إلى يـوم الديـن.. وبـعـد:
جعل المؤلفون الخاتمة في الحديث عن علم المعاني بذكر قضية ترد في كثير
من أبواب هذا العلم، وقد اختلف البلاغيون في ذكر موضعها، فمن البلاغيين من
يذكر هذا الموضوع في باب أحوال المسند إليه، وبعضهم يذكر الموضوع بعد
انتهاء الموضوعات التي تتناول الجملة وما يتعلق بها وبمفرداتها فإذا انتهى
الحديث عنها ذكروا الخروج على مقتضى الظاهر فيما يتعلق بالجملة وجزئياتها،
وبعضهم كما فعل المؤلفون رحمهم الله يجعلونها في آخر الحديث عن علم المعاني
لكونها تمثل الوصف الذي يعد خاتمة للحديث عن علم المعاني؛ لأن هذا الخروج
يشمل أبواب المعاني كلها.
لو أننا رجعنا إلى تعريف البلاغة وأنه: مطابقة المقام لمقتضى
الحال، فعلم المعاني هو ما يخص تركيب الكلام ومطابقته لمقتضى الحال، كلمة
(مقتضى الحال): الحال لها ظاهر ومخالف للظاهر. الظاهر هو ما سارت عليه
الأبواب الستة أو الأبواب الثمانية بحسب اختلاف المؤلفين في توضيحها.
أما ما خالف الظاهر فهو ما يندرج تحت هذا الباب، ما خالف
الظاهر هو جزء من الحال؛ لأن الحال إما أن تكون موافقة للظاهر فيكون الكلام
في الأبواب الستة الماضية أو الثمانية الماضية مندرجاً تحتها، أو يكون
مخالفاً لما عليه الظاهر فيكون داخلاً في هذه الخاتمة التي أشار إليها
المؤلفون.
ولذلك ستكون الأبواب المذكورة في هذا الموضوع أو في هذه
الخاتمة في إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر داخلة في عدد من أبواب علم
المعاني، ليس في باب واحد وإنما في أبواب متعددة سيكون الحديث عنها وفق ما
أشار إليه المؤلفون).
القارئ: (منها: تنـزيل العالم بفائدة
الخبر، أو لازمها منـزلة الجاهل بها، لعدم جريه على موجب علم، فيلقي إليه
الخبر كما يلقى إلى الجاهل، كقولك لمن يؤذي أباه: هذا أبـوك).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (أول قضية تندرج تحتها إخراج
الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هي ما يتصل بقضية الخبر، فمسألة الخبر في
البلاغة ورد في بداية الحديث في أول علم البيان، أن أنواع الخبر ثلاثة هي:
الخبر لمن لا يعرف شيئاً عن الخبر، وهو ما سماه البلاغيون بالخبر الابتدائي لخالي الذهن.
أو يكون للمتردد أو الشاك ويسمى الطلبي.
أو يكون للمنكر فيسمى الخبر الإنكاري.
هنا إذا كان الأمر جاء على ظاهر الحال، لكن لو أن الأمر اختلف
وقد أشرت في حديثي عن الموضوع هناك إلى أن المتكلم ينبغي أن يكون مع
المخاطب المتكلم مع المخاطب مثل الطبيب مع المريض. فحالة المتكلم مع
المخاطب ينبغي أن يقدر المتكلم حال المخاطب سواء كانت متوافقة مع الظاهر أو
مخالفة للظاهر، ويكون كلامه مبنياً على ما يلائم هذه الحال، اقتضاه الظاهر
أو اقتضى غير الظاهر فيكون حينئذٍ مشابهاً لحالة الطبيب مع المريض؛ لأن
الطبيب قبل أن يصرف الدواء للمريض عليه أن يشخص حالته.
فالمؤلفون حين بدأوا بذكر قضية المخالفة مخالفة الظاهر في أضرب الخبر ذكروا أن منها:
تنزيل العالم بفائدة الخبر أو لازمها منـزلة الجاهل، وهذا ما ينظر إليه
في أضرب الخبر على أن العالم بالخبر هو الذي عنده خبر منه، ولذلك لا يلقى
إليه الخبر خالياً من التأكيد، إذا كان عنده شيء من هذا الخبر فيحتاج الأمر
إلى أن يؤكد له حتى يستقر في ذهنه، لأنه لو كان جاهلاً به لما احتاج إلى
مؤكدات، ولهذا مثلوا بقولهم: تنـزيل العالم بفائدة الخبر أو لازمها منـزلة
الجاهل بها، لعدم جريه على موجب علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى
الجاهل، كقولك لمن يؤذي أباه: هذا أبـوك.
من قام بعمل يتضرر أو يتأذى منه الأب، هذا يدل على ماذا؟ يدل
على أنه أنكر حقوق أبيه، ولذلك حين يصدر منه العمل، وهو إنكار حقوق الأب
وقيامه بما يؤذيه فهذا يدعو إلى أنه يستخدم في حقه الأسلوب الإنكاري ويحتاج
الكلام فيه إلى مؤكدات، ولكن يعامل على خلاف الظاهر، إذا كان الظاهر يقتضي
التأكيد فيعامل على خلاف الظاهر، فيقال له: هذا أبوك، دون أي مؤكد،
فالجملة على ظاهرها تحتاج إلى تأكيد لكنه عومل على خلاف مقتضى الظاهر
لماذا؟ والتعليل يقول: لعدم جريه على موجب علمه، لأنه خالف ما يعلمه من كون
هذا المؤذى أباه، فمعنى ذلك أنه يذكر بمنـزلة الأب، لا، لا يؤكد له
الكلام، إذا كانت حالة الأب وحالة معرفته للأب لم تردعه ولم تجعله يرعوي
عما يؤذى به أباه فحينئذٍ لا ينفع تأكيد الكلام معه ولذلك يلقى إليه الكلام
خالياً من المؤكدات، فيقال: هذا أبوك، وكأنه لون من التحذير، ويقال له:
كأنك تجهل بأن هذا المؤذى هو أبوك ولا يحتاج حينئذٍ إلى مؤكدات، وهذا
التعبير هذا الأسلوب فيه مخالفة للظاهر).
القارئ: (ومنها تنـزيل غير المنكر منـزلة المنكر، إذا لاح عليه شيء من علامات الإنكار، فيؤكد له، نحو:
جـــاء شـقـيق عـارضـاً رمــحـــه إن بني عمك فيهم رماح
وكقولك للسائل المستبعد حصول الفرج: إن الفرج لقريب).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هنا تنـزيل غير المنكر منزلة
المنكر، إذاً إذا كان الإنسان غير منكر فالأصل أن لا يؤكد له الكلام
بمؤكدات كثيرة إذا كان غير منكر، لكنه ينـزل منـزلة المنكر في حالة ظهور
علامات الإنكار عليه، يعني هو لا ينكر بلسانه ولكنه قام بأعمال تؤدي إلى
تصنيفه ضمن المنكرين تصنيفه عملياً ضمن المنكرين وليس قولياً.
فهذا الرجل الفارس الذي جاء مستعرضاً ورافعاً رمحه وكأنه يقول:
(لا فارس إلا أنا)، جاءت في هذه الحالة قولهم: (إن بني عمك فيهم رماح) هو
لا ينكر وجود فرسان في بني عمه هو لا ينكر ذلك إطلاقاً، ولكن حالته التي
جاء عليها كأنما هي تشير إلى حصول الإنكار منه، ولذلك هذا الإنكار هذا
التأكيد الذي جاء في قوله: إن بني عمك فيهم رماح، كأنه يقول له: إياك أن
تضع نفسك الفارس الوحيد.
ومثل الذي يستبعد حصول الفرج وهو يعرف أن الفرج قريب تقول له:
إن الفرج لقريب، فكأنما أكدت له لظهور علامات بدا من خلالها أنه يستبعد
حصول الفرج).
القارئ: (وتنـزيل
المنكر أو الشاك منـزلة الخالي إذا كان معه من الشواهد ما إذا تأمله زال
إنكاره أو شكه، كقولك لمن ينكر منفعة الطب أو يشك فيها: الطب نافع).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (المنكر أو الشاك درجتهما
تحتاج إلى توكيد وفقاً للأصل، أما خالي الذهن فلا يحتاج إلى أن يؤكد له
الكلام كما مر، لكن يمكن أن ينـزل المنكر أو الشاك منزلة الخالي، مثل ما مر
قبل قليل تنـزيل هذا أبوك، كأنه خلا من أي توكيد للكلام مع أن عقوقه لأبيه
يمكن أن يجعله يدرج ضمن المنكرين للأبوة، وحينما يعني مثل المؤلفون
بقولهم: من ينكر منفعة الطب أو يشك فيها يقال به: الطب نافع، دون أي
مؤكدات، لكن لو تعاملنا وفق الظاهر لاستخدمنا المؤكدات وقلنا: والله إن
الطب لنافع، لكن مثل هذا لا يعني يفيد معه إنكار الأشياء الواضحة لا تفيد
معه العبارات، ولذلك لا يلجأ إلى تكثيف المؤكدات فيما كان الإنكار فيه
لأشياء لو تأملها الإنسان لارتدع ورجع، ومن هذا يمثل البلاغيون بقول الله
عز وجل: {قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد}،
هذه هي محور الخلاف بين الرسول صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وبين كفار
قريش، إنكار وحدانية الله عز وجل، ومع ذلك ما جاءت المؤكدات، لكن هنا كأنه
يقال لهم: لو تبينتم الأمر ورجعتم إلى أنفسكم لتبين لكم أن الله واحدٌ،
ولذلك هنا لو أنه رجع إلى نفسه وإلى طبيعته لعرف أنه أنكر شيئاً من الأشياء
المألوفة التي لو رجع الإنسان إلى عقله لأدرك أنه أخطأ في هذا الإنكار).
القارئ: (ومنها وضع الماضي موضوع المضارع:
- كالتنبيه على تحقق الحصول، نحو: (أتى أمره فلا تستعجلوه) ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذه صورة أخرى من صور إخراج
الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، انتهت الصورة الأولى الخاصة بأضرب الخبر،
وهي قضية حالة المخاطب وهل هو جاهل أو عالم أو منكر.
الآن الحالة الثانية في استخدامات بعض الصيغ، فعندنا الفعل
الماضي يستخدم لما وقع، والفعل المضارع تستخدم لما يقع في الحاضر أو سيقع
في المستقبل. فهذه هو التصنيف الظاهر من خلال استخدام هذه الصيغ، لكن يمكن
أن يخالف الظاهر فيأتي الماضي لشيء لم يقع، ويكون حينئذٍ محققاً لغرض مهم
جداً وهو تحقق الحصول أو تحقق الوقوع، هذا الأمر الذي لم يقع هو بمثابة
الأمر الذي تم وقوعه وعرف ولذلك يقولون: هو يستخدم في الأشياء المتحقق
وقوعها ولذلك جاء قول الله عز وجل: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}
يلحظ (أتى) ثم (فلا تستعجلوه) فلا تستعجلوه لشيء لم يأتِ، وأتى لشيء قد
وقع، ولذلك استخدام الفعل الماضي هنا لتحقق مجيء يوم القيامة).
القارئ: (أو التفاؤل، نحو: إن شفاك الله اليوم تذهب معي غداً).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: ( (إن شفاك الله) كلمة (شفاك
الله) واضح تماماً أن الاستخدام فيها للفعل الماضي، وحالة المتحدث عنه
مريض، فالأصل أن يكون والشرط يكون المستقبل، (إن يشفيك الله اليوم تذهب معي
غداً)، ولكن ذكر الماضي هنا للتفاؤل بحصول الشفاء).
القارئ: (وعكسه، أي: وضع المضارع موضع الماضي لغرض: كاستحضار الصورة الغريبة في الخيال، كقوله تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} أي فأثارت).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (عكسه عكس وضع الماضي موضع المضارع، يعني: وضع المضارع موضع الماضي، ويلحظ هنا في الآية الكريمة: {وهو الذي أرسل} و (أرسل) تدل على المضي، {الرياح فتثير سحاباً}
أصل الموضوع لو أننا عبرنا عن هذا المعنى بكلامنا لكان: (وهو الذي أرسل
الرياح فأثارت) (أرسل فأثارت)، ولكن لما كان (أرسل فتثير)، إذاً تغير الوضع
صار مخالفاً للظاهر، ما سر مجيء الفعل المضارع بدل الماضي؟ الحقيقة هنا
قاعدة: إذا ورد الاستخدام للفعل المضارع لقضية حصلت في الماضي، فهذا
الاستخدام يكون لغرض استحضار الصورة، لأن الفعل المضارع دلالته على الحال
والاستقبال، فكأنه يحصل الآن كأن هذه الإثارة إثارة السحاب، إذا أرسل الله
عز وجل الرياح فأثارت السحاب منظر يحتاج إلى أن يُستحضر في الذهن، صورة
تحتاج إلى استحضار الذهن، فيعبر عنها بالمضارع لتكون الصورة حاضرة في ذهن
المخاطب، وهذا من الأشياء التي يعني يكون استخدام الفعل المضارع محققاً
لها).
القارئ: (وإفادة الاستمرار في الأوقات الماضية نحو: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم}، أي: لو استمر على إطاعتكم).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: ( {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم}،
لو أن الأسلوب جاء على ظاهره، لكان (لو أطاعكم في كثير من الأمر لعنتم)،
ولكن الغرض هو أن الفعل المضارع يدل على الحاضر والمستقبل فهنا كأنه هذه
الإطاعة مستمرة (لو استمر على إطاعتكم)، وليست الدلالة فقط على (لو أطاعكم)
في الماضي، ربما لو أطاعكم في المستقبل لما حصل ذلك، لا القضية مستمرة في
أن لو استمر على طاعتكم لحصل لكم العنت).
القارئ: (ومنها وضع الخبر موضع الإنشاء لغرضٍ:
- كالتفاؤل، نحوك: هداك الله لصالح الأعمال).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا أيضاً من الصور الأخرى
التي يخرج فيها الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: (وضع الخبر موضع الإنشاء)؛
لأن الجملة عندنا جمل تصنيفها: خبرية وإنشائية، يمكن أن تستخدم الجملة
الإنشائية مكان الخبرية والعكس، وقد يكون مثل: هداك الله لصالح الأعمال،
وهنا الغرض هو الدعاء يعني صورة الكلام خبر والغرض منه الدعاء، كأنه: اللهم
اهده لصالح الأعمال. إذا كان الأصل أن تأتي إنشاء؛ لأنها دعائية ولكنها
جاءت على صورة الخبر، الغرض: للتفاؤل بحصول هذا الأمر، حينما نقول: رحمه
الله، الأصل فيها: اللهم أرحمه، ولكن (رحمه الله) الآن لأنها قد تكون هي
دعائية، وقد تكون خبراً موصوفاً بها أن رحمة الله حصلت له، لكن لأن الرحمة
لا يعلم هل حصلت أو لا حصلت، أو لم تحصل؛ لأنها من الأشياء الغيبية، مثلاً:
شفاك الله، إذا قلنا: شفاك الله، إن كان الأمر إن كان المريض لا يزال
مريضاً فهي تفاؤل بحصول الشفاء له وإن كان إخباراً عن حصول الشفاء له، كان
مريضاً فحصل له الشفاء فيكون خبراً، إذاً الذي يحدد ذلك هو حال المتحدث
معه، فحينما نقول: هداك الله لصالح الأعمال، إن كان الإنسان قد قام بأعمال
صالحة، وقد هداه الله إليها فهو خبر استخدم في موضعه، وإن كان دعاءاً له
بأن يلهمه الله عز وجل العمل الهداية لصالح الأعمال فهو إنشاء ولكنه جاء
على صورة الخبر والغرض من ذلك التفاؤل).
القارئ: (وإظهار الرغبة، نحو: رزقني الله لقاءك).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (وهذا من الأشياء التي أيضاً
يستخدم لها الخبر إذا كان مستخدماً في صورة الإنشاء، الإنشاء طبعاً الصورة
صورة خبر والغرض الإنشاء: رزقي الله لقاءك، كأنه يقول: اللهم ارزقني لقاؤه.
ولكن هو يقول: هذا الكلام كأنه يظهر الرغبة في لقاءه).
القارئ: (الاحتراز عن صورة الأمر تأدباً، كقولك: ينظر مولاي في أمري).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هنا لون من الأدب لأن؛ فعل
(انظر) وكأنه أمر يصدر من المتكلم إلى المخاطب، وحينما يقول: ينظر فلان في
أمري، كأنه لون من الخبر ولكن الغرض منه الإنشاء للتأدب معه).
القارئ: (وعكسه، أي: وضع الإنشاء موضع الخبر لغرض:
- كإظهار العناية بالشيء، نحو { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد}، ولم يقل: (إقامة وجوهكم، عناية أمر الصلاة) ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (لو أنا القارئ تأمل ما ورد في هذه الآية {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد}،
كان السياق في ظاهرة (قل أمر ربي بالقسط وإقامة وجوهكم) لكن جاء (وأقيموا)
بدل (وإقامة)، لأن موضوع الصلاة يحتاج إلى تنبيه وعناية خاصة لأنها تمثل
أحد أهم أركان الإسلام ولذلك تغير لون الخطاب فيها بدلاً من الخبر جاء
الإنشاء (وأقيموا) فيها أمر ليس مجرد الخبر، لأن الصلاة لها منزلة خاصة،
فذكرها بهذه الصيغة واختلاف صيغة الأسلوب للتنبيه على إظهار العناية بها).
القارئ: (وعكسه، أي: وضع الإنشاء موضع الخبر الغرض:
- كإظهار العناية بالشيء، نحو { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد}، ولم يقل: (وإقامة وجوهكم، عناية بأمر الصلاة).
- والتحاشي من موازاة اللاحق بالسابق، نحو: {قال إني أشهد الله وأشهدوا أني برئ مما تشركون}، ولم يقل: وأشهدكم، تحاشياً عن موازاة شهادتكم بشهادة الله).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا واضح {قال: إني أشهد الله وأشهدوا أني برئ مما تشركون}،
سياق الآية في ظاهره يقتضي: (قال إني أشهد الله وأشهدكم) حتى لا يوازي
السابق وهو الله جل وعلا بالمخاطبين (وأشهدكم) فيكون يعني ذكر لفظ الجلالة
مع المخاطبين وكأنهم بمنزلة واحدة، فقال: واشهدوا، حتى تغير الأسلوب فلا
يكون فيه مساواة في هذا الجانب).
القارئ: (والتسوية، نحو: {أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم} ).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (يلحظ أن الشاهد: {أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم} أين التسوية؟
التسوية: لأن الأصل في الكلام أن يكون: (لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو
كرهاً)، لكن: أنفقوا، هنا إنشاء وجاء ومعناه الخبر: لن يتقبل منكم أنفقتم
طوعاً أو كرهاً، فهذا الغرض منه التسوية).
القارئ: (ومنها الإضمار في مقام الإظهار لغرض، كادعاء أن مرجع الضمير دائم الحضور في الذهن، كقول الشاعر:
أبــت الـوصــال مـخـافــة الرقــبـاء وأتتك تحت مدارع الظلماء
الفاعل ضمير لم يتقدم له مرجع، فمقتضى الظاهر الإظهار.
وتمكين ما بعد الضمير في نفس السامع، لتشوقه إليه أو لا، نحو: هي النفس ما حملتها تتحمل – {هو الله أحد}- نعم تلميذٌ المؤدب).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (صورة من صور خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهي : الإضمار في مقام الإظهار.
الإضمار مقام الإظهار ، الضمير هو رمز لا يرد إلا وله مرجع، فإذا جاء
الضمير وليس له مرجع احتار الناس في تفسيره (ولكنه)، المتكلم إذا ادعى
المتكلم أن مرجع الضمير معروف لاشتهاره ، فهذا دليل على رغبته فيه الإعلاء
من شأن مرجع الضمير ، وكأنه مجمع على معرفته ، وهو دائم الحضور في ذهنه.
ويقول : كقول الشاعر:
أبـت الوصـال مـخــافــة الرقـبـــاء وأتتك تحت مدارع الظلماء
(أتت) : يعني معروف ، من هي؟ هي من يعنيها بقوله ، وتمكين ما بعد
الضمير من نفس السامع لتشوقه إليه أو لا ، نحو هي النفس ما حملتها تتحمل ،
لو قال : هي ستشتاق النفس إلى معرفة تفسير هذه القضية؛ لأنه لم يسبق هذا
الضمير مرجع، ولعل هذه تدخل في مسألة التفصيل بعد الإجمال، لأنه هنا : هي
كأنه أو الإبهام هنا إبهام ويراد توضيحه فيما بعده، فالجملة التي تأتي بعده
وخاصة ضمير الشأن وضمير القصة أكبر شاهد على هذا الموضع ، هي النفس ما
حملتها تتحمل ، وقوله هو ، ولم يسبق قبل ضمير قبل قيل هذا الضمير مرجع له ،
ولذلك {الله أحد} هو المفسر لهذا الضمير ، ومثله فاعل : نعم أو بئس يدخل في هذا الجانب).
القارئ : (وعكسه ، شيخ : أو لا ولا أولاً .
وتمكين ما بعد الضمير في نفس السامع؛ لتشوقه إليه أولاً ، نحو هي النفس ما حملتها تتحمل – {هو الله أحد}- نعم تلميذٌ المؤدب).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (تمكين ما بعد الضمير في نفس
السامع؛ لتشوقه إليه أولاً. لو الضمير إذا ذكر كما أسلفت يحتاج إلى مرجع
يفسره ، لأنه رمز ، لكن إذا ذكر الضمير دون تفسير دون ولم يسبق له مرجع ،
اشتاقت النفس إلى معرفة مرجعه أولاً ، إلى ما يرجع هذا الضمير ... ).
الكشاف التحليلي
· - خاتمة في إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر
§ - قد تقتضي الأحوال العدول عن مقتضى الظاهر إلى خلافه في أنواع:
° - النوع الأول:تنزيل العالم بمنزلة الخبر أو لازمها منزلة الجاهل بها، مثاله قولك لمن يؤذي أباه:هذا أبوك
° -النوع الثاني: تنزيل غير المنكر منزلة المنكر كقوله:إن بني عمك فيهم رماح، وعكسه كقولك لمن ينكر منفعة الطب:الطب نافع
- - مثال وضع الماضي موضع المضارع لغرض التنبيه على تحقق الوصول:{أتى أمر الله فلا تستعجلوه}
- - مثال وضع الماضي موضع المضارع لغرض التفاؤل:إنْ شفاكَ اللَّهُ اليومَ تَذْهَبْ معي غدًا.
- - مثال وضع المضارع موضع الماضي لغرض استحضار الصورة الغريبة في الخيال:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}
- - مثال وضع المضارع موضع الماضي لغرض إفادة الاستمرار في الأوقات الماضية:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
° - النوع الثالث:وضع الماضي موضع المضارع لغرض:
° - النوع الرابع:وضع المضارع موضع الماضي لغرض:
° - النوع الخامس:وضع الخبر موضع الإنشاء لغرض:
- - كالتفاؤل، ومثاله:هداكَ اللَّهُ لصالحِ الأعمالِ.
- - وإظهارِ الرغبةِ، نحوُ: رزَقَنِي اللَّهُ لقاءَكَ.
- - والاحترازِ عنْ صورةِ الأمْرِ تَأَدُّبًا، كقولِكَ: يَنْظُرُ مولايَ في أَمْرِي.
° - النوع السادس:وضع الإنشاء موضع الخبر، لغرض:
- - كإظهارِ العنايةِ بالشيءِ، نحوُ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
- - والتحاشِي عنْ موازاةِ اللاحقِ بالسابقِ، نحوُ: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
- - والتسويةِ، نحوُ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}
° - النوع السابع:الإضمار في مقام الإظهار لغرض
- - كادعاء أن مرجع الضمير دائم الحضور في الذهن، ومثاله:أَبَتِ الوِصالَ مَخافةَ الرُّقباءِ
- - وتمكينُ ما بعدَ الضميرِ في نفْسِ السامعِ؛ لتشوُّقِه إليهِ أوْ لا، نحوُ: هيَ النفسُ ما حَمَّلْتَها تَتَحَمَّلُ-
° - النوع الثامن:الإظهار في مقام الإضمار لغرض:
- - كتقويةِ داعي الامتثالِ، كقولِكَ لعَبْدِكَ: سيِّدُكَ يَأْمُرُكَ بكذا.
° - النوع التاسع:الالتفات، وهوَ نَقْلُ الكلامِ منْ حالةِ التكلُّمِ أو الخطابِ أو الغَيْبةِ إلى حالةٍ أُخْرى منْ ذلكَ.
- - مثال النقل من التكلُّمِ إلى الْخِطابِ، نحوُ: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
- - مثال النقل من التكلُّمِ إلى الغَيْبةِ، نحوُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ}.
- - مثال النقل من الخطَابِ إلى التكلُّمِ، قول الشاعرِ:أَتَطْلُبُ وَصْلَ رَبَّاتِ الجمالِ * وقدْ سَقَطَ المشيبُ على قَذَالِي؟
° - النوع العاشر: تجاهل العارف، وهو سوق المعلوم مساق غيره
لغرض كالتوبيخ، ومثاله:َيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا* كأنَّكَ
لمْ تَجْزَعْ على ابنِ طَريفِ
° - النوع الحادي عشر:أسلوب الحكيم، وله طريقان:
- الطريق الأول:تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، فالأوَّلُ: يكونُ
بِحَمْلِ الكلامِ على خِلافِ مرادِ قائلِهِ، كخبر القَبَعْثَرَى للحجَّاجِ
- خبر الحجاج مع القبعثرى
- الطريق الثاني:تلقي السائل بغير ما يتطلبه، تزيلِ السؤالِ منزلةَ سؤالٍ آخَرَ مناسِبٍ لحالةِ السائلِ، كما في قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
° - النوع الثاني عشر:التغليب، وهوَ ترجيحُ أحَدِ الشيئينِ على الآخَرِ في إطلاقِ لفْظِه عليهِ:
- - مثال تغليبِ المذكَّرِ على المؤنَّثِ في قولِه تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}
- - مثال تغليبِ المذكَّرِ والأخَفِّ على غيرِهما، نحوُ القمرينِ
- - مثال تغليب المخاطَبِ على غيرِه، نحوُ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}
- - مثال تغليبِ العاقلِ على غيرِه، كقولِه تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
§ - إيراد الكلام على ما سبق من القواعد يسمى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر
· أسلوب الحكيم:
§ يسمى كذلك الأسلوب الحكيم، والحكيم بمعنى محكم
§ هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه أو تلقي السائل بغير ما يطلبه، تنبيهاً على أنه أولى بالقصد
° الفرق بينهما:أنَّ تلَقِّيَ السائلِ مبْنِيٌّ على السؤالِ
بخلافِ تلَقِّي المخاطِبِ، وإنَّما يُتلَقَّى المتكلِّمُ في الأوَّلِ بغيرِ
ما يَترقَّبُه حيث يُراعَى مُقْتَضَى الحالِ.
° أثر أسلوب الحكيم
° يسمى أسلوب الحكيم بالمغالطة وبالقول بالموجب
§ القسم الأول:تلقي المخاطب بغير ما يترقبه:
° يكون بحمل الكلام على خلاف مراد قائله
- مثاله لما قال الحجاج للقبعثرى:لأحملنك على الأدهم -متهدداً يريد القيد-، قال القبعثرى:مثل الأمير يحمل الأدهم والأشهب -يريد الفرس-
- خبر الحجاج مع القبعثرى.
° أقسام تلقي المخاطب بغير ما يترقبه:
° القسم الأول:أنْ يُخَصِّصَ الصفةَ بعدَ أنْ كانَ ظاهرُها في
كلامِ المخاطَبِ العمومَ، بذكْرِ مُخَصَّصٍ يُناسِبُ معناها المحمولةَ هيَ
عليهِ، وهو نوعان:
- النوع الأول:أن يكون متعلِّقُهُ اصطلاحيًّا كالمفعولِ والجارِّ والمجرورِ، مثاله:
- قلتُ: ثَقُلْتَ إذ أَتَيْتَ مِرارًا * قالَ: ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بالأَيادِي
- النوع الثاني:ألا يكون متعلقه اصطلاحياً، ومثاله:وقد
بُهِتُوا لمَّا رَأَوْنِي شاحِبًا * فقالوا: بهِ عينٌ، فقلتُ:
وعَارِضُ
- هذا النوع هوَ الذي تَداوَلَ بينَ الناسِ، ونَظَمَه أصحابُ البديعيَّاتِ.
° القسم الثاني:أن يعترف بالصفةِ الموجِبةِ للحكْمِ، لكنْ
بشرطِ أن يُثبِتَهَا لغيرِ مَن أثْبَتَها له مخاطَبَةً أوَّلاً من غيرِ
تَعَرُّضٍ لثبوتِ ذلكَ الحكْمِ وانتفائِه
- مثاله:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَزَلَّ وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وخبر القبعثرى
§ القسم الثاني:تلَقِّي السائلِ بغيرِ ما يَطلُبُه.
° يكون يتنزيل السؤال منزلة السؤال آخر مناسب لحال المسألة هو أولى
- مثاله:قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}؛ حين سألوا:ما بال الهلال يبدوا دقيقاً ثم يتزايد..؟
° لم يُجابوا بالسببِ والعلَّةِ لأنَّه أمْرٌ لا يَتعلَّقُ بمنصِبِ النبوَّةِ؛ إذ العلومُ قسمانِ:
- - قسمٌ يُعلَمُ من الشرْعِ كالعلومِ الدينيَّةِ.
- - وقسمٌ يُعلَمُ من غيرِه؛ إذ لا تَعَلُّقَ له بمعرفةِ اللَّهِ وأمورِ الدينِ كمِثلِ هذا
° ذهب بعض المفسرين أن سؤال الصحابة إنَّما كان عن السببِ الغرَضِيِّ والفائدةِ المآليَّةِ في ذلك
° عظم شأن الله لمن تأمل خلق السموات والأرض والنجوم
° نظير أسلوب الحكيم أن يزاد في الجواب أكثر من طِبْقِه؛ لفائدة وحكمة، ومثاله حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)