10 Nov 2008
أ: أقسام الإيجاز
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإيجازِ
الإيجازُ إمَّا أنْ يكونَ بتَضَمُّنِ العبارةِ القصيرةِ معانيَ كثيرةً،
وهوَ مَرْكَزُ عنايةِ البُلغاءِ، وبهِ تَتفاوتُ أقدارُهم. ويُسَمَّى إيجازَ
قِصَرٍ، نحوُ قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.
وإمَّا أنْ يكونَ بحذْفِ كلمةٍ أوْ جملةٍ أوْ أكثرَ، معَ قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ، ويُسَمَّى: إيجازَ حذْفٍ.
فحذْفُ الكلمةِ كحذْفِ (لا) في قولِ امرئِ القَيْسِ:
فقلتُ: يَمينَ اللَّهِ أبْرَحُ قاعدًا ..... ولوْ قَطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
وحذْفُ الجملةِ كقولِه تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، أيْ: فتأسَّ واصْبِرْ.
وحذْفُ الأكثَرِ، نحوُ قولِه تعالى: {فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}، أيْ: أَرْسِلُوني إلى يُوسفَ لأستعْبِرَهُ الرؤْيَا، ففَعَلوا، فأتاهُ وقالَ لهُ: يا يوسفُ).
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): ( (أقسامُ الإيجازِ)
الإيجازُ إمَّا(1) أن يكونَ بِتَضَمُّنِ العبارةِ القصيرةِ معانيَ
كثيرةً، وهو مرْكَزُ عِنايةِ البُلغاءِ، وبه تَتفاوتُ أقدارُهم، ويُسَمَّى
إيجازَ قِصَرٍ(2)، نحوُ: قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ(3) حياةٌ}.
وإمَّا أن يكونَ بحذْفِ كلمةٍ(4)أو جملةٍ أو أكثرَ مع
قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ، ويُسَمَّى إيجازَ حذْفٍ، فحذْفُ الكلمةِ
كحذْفِ (لا) في قولِ امرئِ القيْسِ:
فقلتُ يمينَ اللهِ أبْرَحُ قاعِدًا ..... ولو قَطَعُوا رأسي لديكِ وأوْصالي
وحذْفُ الجملةِ كقولِه تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ(5)رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، أي فتَأَسَّ واصْبِرْ.
وحذْفُ الأكثرِ، نحوُ: قولِه تعالى: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ(6)}، أي أَرسِلوني إلى يُوسُفَ لأَِسْتَعْبِرَهُ الرُّؤيا، ففَعَلوا فأتاهُ وقالَ لهُ: يا يُوسفُ).
___________________
قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): ((1) قولُه: (الإيجازُ إلخ)،
أي: من حيثُ هو على ضَربَيْنِ؛ وذلكَ لأنَّ اللفظَ الناقصَ عن مقدارِ أصلِ
المرادِ الوافي بذلكَ المعنى المرادِ قد يُنظَرُ فيه إلى كثرةِ معناهُ
بدَلالةِ الالتزامِ أو التضمُّنِ من غيرِ أن يكونَ في نفسِ التركيبِ حذْفٌ
يَتوقَّفُ عليه أصلُ المعنى المرادِ عُرفًا، ويُسمَّى بهذا الاعتبارِ
إيجازَ القِصَرِ؛ لوجودِ الاقتصارِ في العبارةِ مع كثرةِ المعنى، وقد
يُنظَرُ فيه من جهةِ أنَّ التركيبَ فيه حذْفٌ يَتوقَّفُ عليه فهْمُ أصْلِ
المرادِ، ويُتوصَّلُ إليه بسهولةٍ لا بتكلُّفٍ، وإلاَّ كان إخلالاً،
ويُسمَّى إيجازَ الحذْفِ. والفرْقُ بينَ إيجازِ الحذْفِ والمساواةِ ظاهرٌ،
وكذا الفرْقُ بينَ مقامَيْهما؛ لأنَّ مقامَ المساواةِ هو مقامُ الإتيانِ
بالأصلِ، ولا مُقتضًى للعُدُولِ عنه، ومقامُ إيجازِ الحذْفِ هو مقامُ حذْفِ
أحدِ المُسْنَدَيْنِ أو المتعلِّقاتِ. وأمَّا الفرْقُ بينَ إيجازِ
القِصَرِ والمساواةِ وبينَ مقامَيْهما فهو أنَّ المساواةَ ما جَرَى به
عُرْفُ الأوساطِ الذينَ لا يَتنبَّهُونَ لإدماجِ المعاني الكثيرةِ في لفظٍ
يسيرٍ، والإيجازُ بالعكْسِ، ومقامُ المساواةُ كثيرٌ، مثلَ أن يكونَ
المخاطَبُ ممَّنْ لا يَفهمُ الإيجازَ، أو لا يَتعلَّقُ غرضُه بإدماجِ
المعاني الكثيرةِ، ومقامُ الإيجازِ كتَعَلُّقِ الغرَضِ بالمعاني الكثيرةِ،
ويكونُ الخِطابُ مع من يَتنبَّهُ لفهمِها ولا يُحتاجُ معهُ إلى بَسْطٍ.
(2) قولُه: (قِصَرٌ)، بكسْرِ القافِ على وزنِ عِنَبٍ.
(3) قولُه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ)، أي: في
نفسِه حياةٌ، ولا يُقَدَّرُ في مشروعيَّتِه، وإلاَّ كان فيه حذْفٌ،
والموضوعُ أنَّه لا حذْفَ فيه، وأمَّا تقديرُ متعلِّقِ المجرورِ من فعْلٍ
أو اسمِ فاعلٍ فلأمْرٍ لفظيٍّ، أي: لمراعاةِ القاعدةِ النَّحْويَّةِ
المتعلِّقةِ بالتركيبِ، وهو أنَّ المجرورَ لا بدَّ له من متعلِّقٍ، ولم
يُحتَجْ لتقديرِه؛ لعدَمِ احتياجِ إفادةِ المعنى في العُرْفِ إليه، وهذا
ظاهِرٌ؛ فإنَّه لو قيلَ: زيدٌ كائنٌ في الدارِ، كان تطويلاً في عُرْفِ
الاستعمالِ، وحَشْوًا في عُرْفِ البُلغاءِ؛ لأنَّ الواجبَ إسقاطُه، ولكم
خيرٌ أوَّلُ، وفي القِصاصِ ثانٍ، وحياةٌ مبتدَأٌ مؤخَّرٌ؛ وذلكَ أنَّ
معناهُ الذي قَصَدَ أن يُفيدَه ولو بالالتزامِ كثيرٌ، ولفظُه يسيرٌ؛ لأنَّه
لمَّا دَلَّ بالمطابَقةِ على الحكْمِ بأنَّ القِصاصَ كانت فيه الحياةُ
للناسِ، استُفيدَ منه أنَّ الحياةَ الكائنةَ في القِصاصِ ليست
اتِّفاقيَّةً، وإلاَّ ساواهُ كلُّ شيءٍ في صحَّةِ اتِّفاقِ وجودِ الحياةِ
فيه، فتُؤُمِّلَ في وجهِ كوْنِه سببًا للحياةِ، فاستُفيدَ من حقيقتِه، التي
هي أن يُقْتَلَ القاتلُ ظُلمًا، أنَّ ذلكَ إنَّما هو لِمَا جُبِلَتْ عليه
النفوسُ من أنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنَّه إنْ قَتَلَ قُتِلَ وحدَهُ ولا
يُقتَلُ غيرُه فيه لم يَترخَّصْ في أن يَفعلَ ما يُتلِفُ به نفسَه، فحينئذٍ
يَنْكَفُّ عن القتْلِ فتَحْصُلُ له الحياةُ، وتَحْصُلُ معه للذي يَعزِمُ
على قتلِه، والحياةُ الثانيةُ بهذا الوجهِ غالبيَّةٌ لا كُلِّيَّةٌ؛
لإمْكانِ الإقدامِ من السَّفِيهِ على إتْلافِ نفسِه، ثمَّ هذا المعنى
يَسْتَوِي فيه جميعُ العقلاءِ، فعَمَّ ثبوتُ الحياةِ جميعَ الناسِ. وهذا
المعنى كثيرٌ اسْتُفِيدَ من لفظٍ موجَزٍ، وقد نَطَقَتِ العربُ بكلامٍ
قَصَدوا بهِ إفادةَ المعنى المُشارِ إليه في الآيةِ الكريمةِ على وجهِ
الإيجازِ، وهو القتْلُ أَنْفَى للقَتْلِ، إلاَّ أنَّ الآيةَ الكريمةَ
تَفْضُلُ الكلامَ المذكورَ من وجوهٍ: أحدُها، أنَّ عِدَّةَ حروفِ ما
يُناظِرُه منها، وهو في القِصاصِ حياةٌ، عَشَرَةٌ في التلفُّظِ، وعِدَّةَ
حروفِه أربعةَ عشرَ. وثانيها، ما فيها من التصريحِ بالمطلوبِ الذي هو
الحياةُ بالنصِّ عليها، فيكونُ أزْجَرَ عن القتلِ بغيرِ حقٍّ؛ لكونِه
أَدْعَى إلى الاقتصاصِ. وثالثُها: ما يُفيدُه تَنكيرُ حياةٌ من التعظيمِ؛
وذلكَ لمنعِهم عمَّا كانوا عليه من قتْلِ جماعةٍ بواحدٍ، أو النوعيَّةِ وهي
الحياةُ الحاصلةُ للقاتلِ بانكفافِه والمقتولِ بالكَفِّ عنه. ورابُعها،
اطِّرادُها، بخلافِ قولِهم؛ فإنَّ القتْلَ الذي يَنْفِي القتْلَ هو ما كان
على وجْهِ القِصاصِ لا غيرَه. وخامسُها، سلامتُها من التَّكرارِ الذي هو من
عيوبِ الكلامِ، بخلافِ قولِهم. وسادسُها، استغناؤها عن تقديرِ محذوفٍ
بخلافِ قولِهم؛ فإنَّ تقديرَه القتلُ أَنْفَى للقتْلِ من ترْكِه. وسابعُها،
أنَّ القِصاصَ ضِدُّ الحياةِ، فالجمْعُ بينَهما إطباقٌ. وزادَ في الإيضاحِ
وجْهًا آخَرَ، وهو جعْلُ القِصاصِ كالمنبَعِ والمعْدِنِ للحياةِ بإدخالِ
في عليه، وهناك وجوهٌ أُخَرُ قد تَمَحَّلَها الناسُ. ومن هذا الضرْبِ من
الإيجازِ آيةٌ حارَ جميعُ البُلغاءِ في فصاحتِها، وهي قولُه تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}،
أي لمَّا يَئِسُوا من يُوسُفَ وإجابتِه إيَّاهم اعتَزَلوا الناسَ خالصينَ
لا يُخالطُهم أحدٌ، يَتناجَوْنَ في تدبيرِ أمرِهم وماذا يقولونَ لأبيهم في
شأنِ أخيهم، ومنه أيضًا قولُه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}،
فجَمَعَ مكارِمَ الأخلاقِ بأسرِها؛ لأنَّ في العَفْوِ صلةَ القاطعينَ،
والصفْحَ عن الظالمينَ، وإعطاءَ المانِعينَ، وفي الأَمْرِ بالعُرْفِ
تَقْوَى اللَّهِ، وصِلةَ الرحِمِ، وصَوْنَ اللسانِ عن الكذِبِ، وغَضَّ
الطرْفِ عن الحُرُماتِ، والتبرُّؤَ من كلِّ قبيحٍ؛ لأنَّهُ لا يَجوزُ أن
يَأمُرَ بالعُرفِ وهو يُلابِسُ شيئًا من المنكَرِ، وفي الإعراضِ عن
الجاهلينَ الصبْرَ والحِلْمَ وتنزيهَ النفسِ عن مقابلَةِ السفيهِ بما
يُوتِغُ الدِّينَ ويُسقِطُ القَدْرَ. ومثلُ هذا في الْقُرْآنِ كثيرٌ، ومنه
قولُه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ"،
قيلَ: وما ذاكَ؟ قالَ: "الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي الْمَنْبِتِ
السُّوءِ". وقولُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ:
مَالُوا إلى شِعبِ الرِّحالِ وأَسنَدُوا ..... أيْدِي الطِّعانِ إلى قُلوبٍ تَخْفِقُ
فإنَّهُ لمَّا أرادَ أن يَصِفَ هؤلاءِ القومَ بالشجاعةِ في أثناءِ وَصْفِهم بالغرامِ عبَّرَ عن ذلكَ بقولِه أيدي الطِّعانِ. ويُحذَفُ نَافٍ مع شروطٍ ثلاثةٍ ..... إذا كانَ لا قبلَ المضارِعِ في قَسَمْ
ربِّ وفِّقْني فلا أعدِلْ عن ..... سَنَنِ السَّاعِينَ في خَيْرِ سَنَنْ
(4) قولُه: (بحذْفِ كلمةٍ)، أي: اسمًا كانتْ
أو فعْلاً أو حرفًا، عُمْدَةً كانتْ أو فَضْلَةً، فشَمِلَ حذفَ المُسْنَدِ
إليه والمُسْنَدِ والمفعولِ غيرِ المضافِ. وحذْفُ المضافِ نحوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، أي أهلَ القريةِ. وحذْفُ المضافِ إليه نحوُ: {كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}،
وكذلكَ كلُّ ما قُطِعَ عن الإضافةِ ممَّا وَجَبَتْ إضافتُه معنًى لا
لفظًا. وحذْفُ الموصوفِ نحوُ: أنا ابنُ جَلاَ، أي: أنا ابنُ رجلٍ جَلاَ،
أي: ظَهَرَ وانْكشَفَ أمرُهُ واتَّضَحَ بحيثُ لا يُجْهَلُ، أو كَشَفَ
معانيَ الأمورِ وبيَّنَها. وحذْفُ الصفةِ نحوُ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}،
أي: كلَّ سفينةٍ صحيحةٍ أو سليمةٍ أو غَيْرِ مَعيبةٍ أو جيِّدةٍ أو نحوِ
ذلكَ، بدليلِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّ الملِكَ
كانَ لا يَأخذُ المَعيبةَ. وحذَفَ حرفَ النفيِِ بشرطِه المشارِ إليه
بقولِه:
ويُشترَطُ في كونِ الحذفِ إيجازًا كما مَرَّ أمرانِ:
أحدُهما، أن يَتَوقَّفَ على المحذوفِ فَهْمُ أصْلِ المرادِ عُرْفًا،
والثاني أن يُتَوَصَّلَ إليه بسُهُولةٍ بأن تَدُلَّ عليه قرينةٌ قريبةٌ
واضحةٌ لا بعيدةٌ خفيَّةٌ بحيثُ يكونُ الفَهْمُ منها تَعَسُّفًا
وتَكلُّفًا، وإلاَّ كان الحذْفُ إخلالاً. وإلى هذا الشرْطِ أشارَ في
الكتابِ بقولِه: مع قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ، ولا بُدَّ للحذفِ من
نُكتَةٍ كمُجرَّدِ الاختصارِ في نحوِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، فحَذَفَ جوابَ الشرْطِ، أي: أَعرَضُوا، اختصارًا فِرارًا من العبَثِ لظهورِ المرادِ ممَّا بعدَهُ، وهو قولُه تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، وكونِ المحذوفِ كالجوابِ في قولِه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}،
تَرَى شيئًا لا يُحيطُ به الوصْفُ، وذلكَ عندَ قصْدِ المبالَغةِ؛ لكونِه
أمرًا مَرهوبًا منه في مَقامِ الوعيدِ، أو مرغوبًا فيه في مَقامِ الوعْدِ.
والقرائنُ تَدُلُّ على هذا المعنى، ويَلزَمُ من كونِه بهذه الصفةِ نكتةٌ
أُخْرَى وهي ذهابُ نفسِ السامعِ إنْ تَصَدَّى لتقديرِه كلَّ مذهَبٍ
مُمكِنٍ، فما من شيءٍ يُقدِّرُه فيه إلاَّ ويُحتَمَلُ أن يكونَ هناكَ أعظمُ
من ذلكَ، فهذان النُّكْتتانِ، أعني كونَه لا يحيطُ به الوصْفُ، وكونَ نفسِ
السامعِ تَذهبُ فيه كلَّ مذهَبٍ ممكِنٍ، مفهومُهما مختلِفٌ، ومصدوقُهما
متَّحِدٌ، قد يَقصِدُهما البليغُ معًا، وقد يَخْطِرُ ببالِه أحدُهما فقطْ
فتَنَبَّهْ.
(5) قولُه: (كقولِه تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ}
إلخ)، أي: فليسَ قولُه: فقدْ كُذِّبَتْ جزاءَ الشرطِ؛ لأنَّ تكذيبَ
الرسُلِ متقدِّمٌ على تكذيبِه، ويَجبُ أن يكونَ مضمونُ الجوابِ مترتِّبًا
على مضمونِ الشرْطِ، وإنَّما تكذيبُ الرسُلِ قبلَه سببٌ لمضمونِ الجوابِ
المحذوفِ، وهو التأسِّي والصبرُ؛ وذلكَ لأنَّ المكروهَ إذا عَمَّ هانَ،
فأُقيمَ ذلكَ السببُ مَقامَ الجوابِ المحذوفِ مع كوْنِ فعْلِ الشرطِ
مضارعًا ليَسُوغَ حذفُهُ؛ إذ لا يُحذَفُ الجوابُ إذا كان فعْلُ الشرْطِ
مضارِعًا ما لم يَقُمْ شيءٌ مقامَه. وبالجملةِ فالحذْفُ على وجهيْنِ: أن لا
يُقامَ شيءٌ مقامَ المحذوفِ كما مَرَّ في قولِه: أنا ابنُ جَلاَ إلخ،
وقولِه: يمينَ اللَّهِ أَبْرَحُ إلخ، وسيأتي في قولِه تعالى: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ}، وأنْ يُقامَ نحوُ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} إلخ.
(6) قولُه: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}،
أي: فهذا الكلامُ حُذِفَ فيه خمْسُ جُمَلٍ مع ما لها من المتعلِّقاتِ، لا
يَستقيمُ المعنى إلاَّ بها، أشارَ المؤلِّفُ إلى تقديرِها بقولِه: {إِلَى يُوسُفَ}
إلخ، الأُولى لِأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا، أي: لأطلُبَ منهُ تعبيرَها
وتفسيرَها، والثانيةُ ففَعَلوا، والثالثةُ فأَتَاه، والرابعةُ فقالَ له،
والخامسةُ يا؛ فإنَّها نائبةٌ عن جملةِ أَدْعُو. وأمَّا قولُه: {إِلَى يُوسُفَ}
فمتَعَلِّقُ أرْسِلُونِ المذكورِ، وقولُه: يُوسُفُ الذي هو المنادَى هو
المذكورُ. قالَ اليَعقوبيُّ: ودليلُ تلكَ المحذوفاتِ ظاهرٌ؛ لأنَّ نداءَ
يُوسُفَ يَقتضي أنَّهُ وَصَلَ إليه، وهو متوقِّفٌ على فعْلِ الإرسالِ
والإتيانِ إليه، ثمَّ النداءُ محكيٌّ بالقولِ، ومعلومٌ أنَّه إنَّما طَلَبَ
الإرسالَ للاستعبارِ. فحَذْفُ كلِّ ذلكَ اختصارٌ للعلْمِ بالمحذوفِ؛
لئلاَّ يكونَ تطويلاً لعدَمِ ظهورِ الفائدةِ في ذكْرِه مع العِلْمِ به.
دسوقيٌّ).
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإيجازِ
الإيجازُ إمَّا أنْ يكونَ بتَضَمُّنِ العبارةِ القصيرةِ معانيَ كثيرةً،
وهوَ مَرْكَزُ عنايةِ البُلغاءِ، وبهِ تَتفاوتُ أقدارُهم. ويُسَمَّى إيجازَ
قِصَرٍ، نحوُ قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.
وإمَّا أنْ يكونَ بحذْفِ كلمةٍ أوْ جملةٍ أوْ أكثرَ، معَ قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ، ويُسَمَّى: إيجازَ حذْفٍ.
فحذْفُ الكلمةِ كحذْفِ (لا) في قولِ امرئِ القَيْسِ:
فقلتُ: يَمينَ اللهِ أبْرَحُ قاعدًا ..... ولوْ قَطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (أقسامُ الإيجازِ(1)
الإيجازُ(2) إما أن يكونَ(3) بتضمُّنِ(4) العبارةِ القصيرةِ(5) معانيَ
كثيرةً(6) وهو(7) مركزُ عنايةِ البُلَغَاءِ، وبه تَتفاوتُ أقدارُهم(8)،
ويُسمَّى إيجازَ قِصَرٍ(9)، نحوُ قولِه تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ(10) حَيَاةٌ(11)}.
وإما أن يكونَ(12) بحذفِ كلمةٍ(13) أو(14) جملةٍ(15) أو(16) أكثرَ(17) مع قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ(18)، ويُسمَّى إيجازَ حذفٍ.
فحذفُ الكلمةِ(19) كحذفِ (لا)(20) في قولِ امرِئِ القيسِ :
فقلتُ يمينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعداً(21) ولو قَطَعُوا رأسي لدَيكِ وأَوْصَالِي(22)
وحذفُ الجملةِ(23) ، كقولِه تعالى: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكِ)(24) أي: فَتَأَسَّ واصْبِرْ(25).
وحذفُ الأكثرِ(26) نحوَ قولِه تعالى(27): ( فَأَرْسِلُونِ . يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)(28).
أي: أرسِلونيِ إلى يوسُفَ لأَسْتَعْبِرَه الرؤيا. ففَعَلوا فأتاه وقالَ له: يا يوسفُ(29) ).
______________________
(1) أقسامُ الإيجازِ.
لم يذكُـرْ هنا إلا قسمين فالجمْـعُ مرادٌ به أقلُّه, وهو اثنان
(2) (الإيجازُ) من حيث هو نوعان إيجازُ القصرِ
وإيجازُ الحذْفِ، قال البهاءُ السبكِىُّ: والفرْقُ بينَهما أنَّ الكلامَ
القليلَ إن كان بعضاً من كلامٍ أطولَ منه فهو إيجازُ حذفٍ, وإن كان كلاماً
يُعطِي معنًى أطولَ منه فهو إيجازُ قِصَرٍ انتهى.
وذلك لأنَّه
(3) (إما أن يكونَ) الإيجازُ حاصلاً.
(4) (بِتضمُّنِ) أي: باقتضاءِ.
(5) (العبارةِ القصيرةِ) أي: القليلةِ.
(6) (معانيَ كثيرةً) بدَلالةِ الالتزامِ أو التضمُّنِ من غيرِ أن يكونَ في
نفْسِ التركيبِ حذْفٌ يَتَوقَّفُ عليه أصلُ المعنى المرادِ.
(7) (وهو) أي: هذا النوعُ من الإيجازِ.
(8) (مركزُ عنايةِ البُلَغاءِ وبه تَتفاوتُ أقدارُهم, أي: مراتبُهم في
البلاغةِ. قال صاحبُ الكَشَّافِ: كما أنه يَجِبُ على البليغِ في مَظَانِّ
الإجمالِ أن يُجْمِلَ ويُوجِزَ فكذلك الواجبُ في مواردِ التفصيلِ أن
يُفصِّلَ ويُشْبِعَ.
(9) (ويُسمَّى إيجازَ قِصَرٍ) بكسرِ القافِ على
وزْنِ عِنَبٍ لوجودِ الاقتصارِ في العبارةِ مع كثرةِ المعنى, وأَطلقَ عليه
صاحبُ الإيضاحِ اسمَ الإيجازِ بقيدٍ فقط, وقد قسَّمَه الطِّيـبِيُّ إلى
قسمين؛ الأوَّلُ إيجازُ التقديرِ وهو أن يُقدَّرَ معنًى زائدٌ على
المنطوقِ. وسَمَّاه البدْرُ بنُ مالكٍ في المصباحِ بالتضييقِ؛ لأنه نَقَصَ
من الكلامِ ما صارَ لفظُه أضيقَ من قدْرِ معناه، نحوُ قولِه تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: خطاياه غُفِرَتْ فهي له, لا عليه، ونحوُ قولِه تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي: الضالِّين الصائرين بعدَ الضلالِ إلى التقوى. القسمُ الثاني: الإيجازُ الجامعُ وهو أن يَحْتوِيَ اللفظُ على معانٍ متعدِّدةٍ.
(10) نحوُ قولِه تعالى:{وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ} أي: في نفسِ القتلِ بالقتلِ عندَ وجودِ شروطِه.
(11){حَيَاةٌ}
وهذا من أبلغِ الإيجازِ؛ لأن لفظَه يسيرٌ ومعناه كثيرٌ؛ لأنه لَمَّا دلَّ
دَلالةً مُطَابِقيَّةً على أنَّ القِصاصَ فيه الحياةُ للناسِ استُفيدَ منه
بدَلالةِ الالتزامِ أن الإنسانَ إذا عَلِمَ أنه متى قَتَلَ قُتِلَ وحدَه,
ولا يُقتَلُ غيرُه لم يَترخَّصْ في أن يَفعلَ ما يُتلِفُ به نفسَه فحينئذٍ
يَنْكَفُّ عن القتلِ ولا يُقْدِمُ عليه، وفي ذلك حياتُه, وتَحصُلُ معه للذي
يَعزِمُ على قتلِه، ثم هذا المعنى يَستوي فيه جميعُ العقلاءِ, فيَعُمُّ
ثبوتُ الحياةِ جميعَ الناسِ، وقد نَطَقَت العربُ بكلامٍ موجَزٍ قَصَدوا به
إفادةَ المعنى المستفادِ من هذه الآيةِ وهو قولُهم {القتلُ أَنْفَى للقتلِ}
إلا أن الآيةَ تَفْضُلُ عليه بعشرين وجهاً أو أكثرَ منها: أنها أقلُّ
حروفاً؛ إذ حروفُها عشرةٌ وحروفُ قولِهم أربعةَ عشرَ، ومنها أن نفيَ القتلِ
لا يَستلزِمُ الحياةَ, والآيةُ ناصَّةٌ على ثبوتِها الذي هو الغرضُ
المطلوبُ. ومنها أن الآيةَ مطَّرِدَةٌ بخلافِ قولِهم فإنه ليس كلُّ قتلٍ,
أَنْفَى للقتلِ بل قد يكونُ أدْعَى له, وهو القتلُ ظُلماً، وإنما يَنفيه
قتلٌ خاصٌّ, وهو القِصاصُ.
(تنبيهٌ) ذكَرَ ابنُ الأثيرِ وصاحبُ عروسِ
الأفراحِ أنَّ من أنواعِ إيجازِ القِصَرِ بابَ الحصْرِ؛ لأنَّ الجملةَ فيه
نابَتْ مَنَابَ جملتين، وبابَ العطْفِ؛ لأن حرفَه وُضِعَ للإغناءِ عن
إعادةِ العاملِ، وبابَ النائبِ عن الفاعلِ، لأنه دَلَّ على الفاعلِ
بإعطائِه حكْمَه وعلى المفعولِ بوضْعِه، وبابَ الضميرِ؛ لأنه وُضِعَ
للاستغناءِ به عن الظاهرِ اختصاراً. وبابَ عَلِمْتُ أنك قائمٌ؛ لأنه
مُتَحَمِّلٌ لاسمٍ واحدٍ سدَّ مَسَدَّ المفعولين من غيرِ حذْفٍ، وبابَ
التنازُعِ إذا لم نَقَدِّرْ على رأيِ الفرَّاءِ، ومنها طرْحُ المفعولِ
اقتصاراً على جعْلِ المتَعَدِّي كاللازمِ, وجميعَ أدواتِ الاستفهامِ
والشرطِ والألفاظَ اللازمةَ للعمومِ كأحدٍ ولفظَ التثنيةِ والجمْعِ.
(12) (وإما أن يكونَ) الإيجازُ حاصلاً
(13) (بحذْفِ كلمةٍ) أي: بسببِ حذْفِ كلمةٍ,
سواءٌ كانت اسماً أو فِعلاً أو حرفاً، قالَ ابنُ جِنِّي في المحتَسِبِ:
أخبرَنا أبو عليٍّ قالَ: قالَ أبو بكرٍ: حذْفُ الحرفِ ليسَ بقياسٍ؛ لأن
الحروفَ إنما دخَلَت الكلامَ لضرْبٍ من الاختصارِ, فلو ذهبْتَ تَحْذِفُها
لكنتَ مختصِراً لها أيضاً, واختصارُ المختَصَرِ إجحافٌ به ا هـ أي: بل هو
سماعيٌّ, وسواءٌ كانت عُمْدَةً كالمبتدأِ والخبرِ والفاعلِ، أو فَضْلةً
كالمفعولِ. والمرادُ بحذفِ الكلمةِ ما يَشْمَلُ حذفَ جُزئِها كحذفِ النونِ
في لم يَكُ؛ فإنها حُذِفتْ للتخفيفِ, وحذْفِ الياءِ في {والليلِ إذا يَسْرِ} فإنها حُذِفتْ للتخفيفِ ورعايةِ الفاصِلةِ.
(14) (أو ) بسببِ حذفِ
(15) (جملةٍ) المرادُ بها خلافُ الكلمةِ فيَشملُ حذفَ فِعلِ الشرطِ وحدَه وحذْفَه مع أداتِه وحذفَ جوابِ الشرطِ.
(16) (أو) بسببِ حذْفِ.
(17) (أكثرَ) أي: من كلمةٍ واحدةٍ كحذْفِ المضافَين أو جملةٍ واحدةٍ.
(18) (مع قرينةٍ تُعَيِّنُ المحذوفَ) وهي كثيرةٌ
لفظيَّةً أو معنويَّةً, وكثرتُها من حيثُ الدَّلالةُ على تعيُّنِه, وأما
دليلُ الحذفِ فشيءٌ واحدٌ وهو العقلُ ويُسمَّى إيجازَ حذْفٍ (تنبيهٌ) اعلمْ
أنَّ الاحتياجَ إلى القرينةِ حيثُ لا يُقامُ شيءٌ مَقامَ المحذوفِ بخلافِ
ما إذا أُقيمَ شيءٌ مُقامَه مما يَدُلُّ عليه كعِلَّةٍ وسببٍ فلا حاجةَ
إليها نحوُ آيةِ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فإن تكذيبَ الرسُلِ سببٌ لمضمونِ الجوابِ المحذوفِ أُقيمَ مُقامَه, أي: فلا تَحْزَنْ؛ لأنه قد كُذِّبَتْ رسُلٌ من قبلِك فتدبَّرْ.
(19) (فحذفُ الكلمةِ) الواحدةِ
(20) (كحذفِ لا) النافيةِ فإنه يَطَّرِدُ
بشروطِه المشارِ إليها في قولِ بعضِهم: ويُحْذَفُ نافٍ مع شروطٍ ثلاثةٍ إذا
كانَ لا قبلَ المضارِعِ في قَسَمٍ.
(21) (في قولِ امرِئِ القيسِ: فقلتُ يمينَ اللهِ أبْرَحُ قاعداً) أي: لا أَبرحُ قاعداً.
(22) (ولو قَطَعوا رأسي لديكِ وأَوصالِي) أي: وأجزاءَ جِسمي. وقد وَرَدَ حذفُها مع فقدِ الشروطِ، نحوُ قولِه تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أي: لا يُطيقونَه.
(23) (وحذفُ الجملةِ) الواحدةِ كقولِه تعالى:
(24) {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}
فإن قولَه فقد كُذِّبَتْ إلخ ليسَ جوابَ الشرطِ؛ لأن الجوابَ يَترتَّبُ
مضمونُه على مضمونِ الشرطِ هنا وإنما هو قائمٌ مقامَ الجوابِ لدَلالتِه
عليه لكونِه سبباً لمضمونِه.
(25) (أي: فَتَأَسَّ واصبِرْ) فإن التأسِّيَ
والصبرَ المحذوفَ هو الجوابُ, وتكذيبَ الرسلِ المذكورَ سببُه, فكأنه قيلَ:
فتَأَسَّ واصبِرْ؛ لأنه قد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلِك وأنت مساوٍ لهم في
الرسالةِ فَلك بهم أُسوةٌ.
(26) (وحذْفُ الأكثرِ) أي: من جملةٍ واحدةٍ.
(27) نحوُ قولِه تعالى حكايةً عن أحدِ الفتَيَيْنِ الذي أَرسلَه العزيزُ إلى يوسُفَ ليَسْتَعْبِرَه ما رآه ا هـ.
(28) (فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) فإن هذا الكلامَ حُذِفَ فيه أكثرُ من جملةٍ واحدةٍ, وهي خمسُ جُمَلٍ مع ما لها من المتعلِّقاتِ, لا يَستقيمُ المعنى إلا بها.
(29) (أيْ أَرسِلُوني إلى يوسُفَ لأَسْتَعْبِرَه الرؤيا ففَعَلوا فأتاه, وقالَ له: يا يوسُفُ)
فالجملةُ الأُولى لأستعْبِرَه الرؤيا, أي: لأطلبَ منه تعبيرَها وتفسيرَها,
والثانيةُ: ففَعَلوا, أي: فأرسَلُوه والثالثةُ فأتاه والرابعةُ وقال له
والخامسةُ يا. فإنها نائبةٌ منابَ جملةِ أَدْعو, وأما قولُه إلى يوسفَ فهو
متعلِّقُ الجملةِ المذكورةِ أعني أَرْسِلونِ وقولُه يوسفَ الذي هو المنادَى
هو المذكورُ والقرينةُ على حذْفِ هذه الجُمَلِ ظاهرةٌ, وهي أن نداءَ يوسفَ
يَقتضِي أنه وَصَلَ إليه وهو متوقِّفٌ على فعْلِ الإرسالِ والإتيانِ إليه,
ثم النداءُ محكِيٌّ بالقولِ، والإرسالُ معلومٌ أنه إنما طُلِبَ للاستعبارِ
فحُذِفَ كلُّ ذلك إيجازاً للعلْمِ به؛ لئلاَّ يكونَ ذكْرُه تطويلاً لعدَمِ
ظهورِ الفائدةِ في ذكْرِه مع العلْمِ به).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): (أقسامُ الإيجازُ
الإيجازُ إمَّا أنْ يكونَ بتَضَمُّنِ العبارةِ القصيرةِ معانيَ كثيرةً
ضُمِّنَتْها تلكَ العبارةُ بدِلالةِ الالتزامِ أو التَّضَمُّنِ بلا حذْفِ
شيءٍ في نفسِ تركيبِها،وهوَ مَرْكَزُ عنايةِ البُلَغَاءِ لزيادةِ
اعتنائِهم إلى إدماجِ المعاني الكثيرةِ بلفظٍ يسيرٍ،ولا يَقْدِرُ عليهِ
غيرُهم منْ أوساطِ الناسِ،وبهِ تَتَفاوتُ أقدارُهم في
البلاغةِ،ويُسَمَّى هذا الإيجازُ إيجازَ قِصَرٍ؛ لوجودِ الاقتصارِ في
العِبارةِ معَ كثرةِ المعاني، نحوَ قولِه تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }،
فَإِنَّ الْمَعْنَى الذي تُفيدُه الآيةُ كثيرٌ معَ كونِ لفْظِه
يسيرًا؛وذلكَ لأنَّهُ لَمَّا دَلَّ بالمطابَقَةِ على أنَّ القِصاصَ فيهِ
الحياةُ للناسِ تأمَّلَ في وجهِ كونِه سببًا لهذه الحياةِ، فاستُفِيدَ منْ
تَأَمُّلِ معنى القِصاصِ الذي هوَ قَتْلُ القاتِلِ ظُلْمًا أنَّ ذلكَ
إنَّما هوَ لِمَا جُبِلَتْ عليهِ النفوسُ منْ أنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ
أنَّهُ إنْ قَتَلَ قُتِلَ ارْتَدَعَ عن ارتكابِ ما يُتْلِفُ بهِ نفسَه،
فحينئذٍ لا يَتَقَدَّمُ على القَتْلِ، فيَحْصُلُ لهُ وللذي يَعْزِمُ على
قَتْلِه حياةٌ. ثمَّ هذا المعنى يَسْتَوِي فيهِ جميعُ الْعُقَلَاءِ
فيَعُمُّ ثبوتُ الحياةِ لجميعِهم.وهذا المعنى كثيرٌ استُفيدَ منْ لَفْظٍ
يسيرٍ بلا حَذْفِ شيءٍ يَفْتَقِرُ التركيبُ إليه في تأديةِ معناهُ .
وأمَّا تقديرُ مُتَعَلِّقِ الجارِّ والمجرورِ منْ فِعْلٍ أو اسْمِ فاعلٍ
فهوَ لأمْرٍ لَفْظِيٍّ لا لاحتياجِ أصْلِ المعنى إليه.وقدْ أُشيرَ في
الْمُطَوَّلَاتِ إلى مَطَالِبَ أُخرى تُستفَادُ منْ هذا القولِ، فيَزِيدُ
بها معناهُ كثْرَةً، لكنْ لا يَلِيقُ ذِكْرُها في مِثْلِ هذا الْمُخْتَصَرِ
.
وإمَّا أنْ يكونَ بحذْفِ كلمةٍ أوْ جملةٍ أوْ أكثرَ معَ قرينةٍ تُعَيِّنُ
المحذوفَ،ويُسَمَّى إيجازَ حذْفٍ؛ لحصولِه بحذْفِ شيءٍ من الكلامِ،
فحَذْفُ الكلمةِ كحَذْفِ (لا) في قولِ امرئِ القيسِ:
فقلتُ: يمينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ..... ولوْ قَطَعُوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالِي
فقولُه: أَبْرَحُ، بمعنى لا أَبْرَحُ ولا أزالُ، فحَذَفَ حرفَ النفيِ
لعَدَمِ التباسِه بالإثباتِ، إذْ لوْ كانَ إثباتًا لمْ يكُنْ بُدٌّ من
اللامِ والنونِ معًا أوْ أحدِهما .ونحوَه قولُه تعالى: { تَاللَّهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ }، أيْ: لا تَفْتَؤُ ولا تَزالُ.
وحذْفُ الجملةِ، كقولِه تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ }،
أيْ: فَتَأَسَّ بتكذيبِ الرُّسُلِ منْ قَبْلِكَ، واصبِرْ على تكذيبِكَ.
فحُذِفَتْ هذه الجملةُ التي هيَ الجزاءُ للشَّرْطِ، ووُضِعَ موضِعَها { فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ }؛ استغناءً بالسبَبِ عن الْمُسَبَّبِ، فإنَّ تكذيبَ الرسلِ الْمُتَقَدِّمينَ سببٌ للتَّأَسِّي .
وحذفُ الأكثرِ من الجملةِ، نحوَ قولِه تعالى حكايةً عنْ صاحبِ السجنِ ليُوسفَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ وعلى نبيِّنا السلامُ: { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ }،
فإنَّ هذا القولَ حُذِفَ فيهِ أكثَرُ منْ جملةٍ واحدةٍ، لا يَسْتَقِيمُ
المعنى إلَّا بهِ، كما أَشارَ إلى تقديرِه بقولِه: أيْ ( أَرْسِلُونِي
إِلَى يوسفَ لأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا )، ففَعَلوا، فأتاهُ وقالَ لهُ: (
يا يُوسفُ )، فهذهِ جُمَلٌ عديدةٌ حُذِفَتْ بمُتَعَلِّقَاتِها إيجازًا
لدَلالةِ الكلامِ عليها).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ)
قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (أقسام الإيجاز:
الإيجاز إما أن يكون بتضمن العبارة القصيرة معاني
كثيرة، وهو مركز عناية البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، ويسمى هذا إيجار قصر،
وذلك مثل قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} كما قلنا.
وإما أن يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينةٍ تُعِّين المحذوف، ويسمى هذا إيجاز الحذف، ومن أمثلته قول الله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر}،
فأصل الكلام: يقول الإنسان يومئذ أين الوزر والمفر والمستقر؟ كلا لا وزر
ولا مفر ولا مستقر إلى ربك يومئذ المستقر والوزر والمفر. فحذف من كل جملة
ما أتى في أخرى، والجمل ثلاث، وكل واحدة منها فيها ثلاثة ألفاظ، حُذف من كل
جملة لفظان، وأثبت فيها ما لم يثبت في غيرها، فهذا الإيجاز بالحذف. ومن
ذلك حذف (لا) في قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً وإن قطعوا رأسي لديك وأوصالي
(يمين الله أبرح) أي: لا أبرح، فحذف (لا) هنا، فهذا
النوع من الإيجاز بالحذف؛ لأنها مفهومة، (يمين الله أبرح قاعداً) معناه: لا
أبرح قاعداً.
{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} معناه: أو أن لا نفعل في أموالنا ما نشاء، فحذفت (لا)؛ لأنها فهمت من الأسلوب.
وحذف الجملة كقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} أي: فتأس واصبر {فقد كذبت رسل من قبلك}، ومثل قول الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {فأرسلون. يوسف أيها الصديق أفتنا} فمعنى الكلام: فأرسلوني فأرسلوه فقال يوسف أيها الصديق أفتنا.
وكذلك قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت}، وفي الآية الأخرى: {اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} أو {فانبجست منه اثنتا عشرة عينا}
أصل الكلام: أوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا، أو فانبجت منه اثنتا عشرة عينا، فحذفت جملة كاملة؛ لدلالة
السياق عليها.
وقد يكون المحذوف وصفاً فقط كقول الله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}،
فالمعنى: يأخذ كل سفينة سالمة، أو كل سفينة صحيحة غصبا؛ لأن مجرد الخرق لا
يخرجها عن أن تكون سفينة، والخضر أراد أن يخرقها؛ لأن السفينة المخروقة لا
يأخذها الملك، فلما قال: {كل سفينة} أي: كل سفينة صالحة أو صحيحة، وحذف أكثر من ذلك في قوله تعالى: {فأرسلون. يوسف أيها الصديق} أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فآتاه وقال له: يا يوسف أيها الصديق. فحذف كل هذا؛ لأنه يدل عليه السياق).
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الإيجاز كما أشرنا قبل قليل : هو التعبير الوافي عن المعنى المراد بأقل قدر من الألفاظ .
كيف يمكن أن يأتي المتكلم بأقل قدر من الألفاظ ؟
أقل قدر من الألفاظ هذه تتحقق عن طريقين :
- طريقة صياغة الجملة ثم حذف بعض أجزائها .
- والطريقة الثانية هي قضية بناء جملة تامة لكنها ذات دلالات أعمق وأكثر من دلالات الألفاظ .
فيقول المؤلفون : الإيجاز إما أن يكون
بتضمن العبارة القصيرة معاني كثيرة وهو مركز عناية البلغاء وبه تتفاوت
أقدارهم ، ويسمى إيجاز قصر ، نحو قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } .
هنا بناء الجملة الجملة وافية من حيث أركانها ، لا يوجد في هذه
الجملة ما يمكن أن يقال عنه بأنه محذوف ، وإنما صِيغت الجملة صياغة وافية
من حيث عدد أركانها ووفائها بكلماتها وأجزاء الجملة ، لكن كل لفظة من هذه
الألفاظ والألفاظ فيها مجتمعة تحمل ثراءاً في الدلالة تحمل إشعاعات في
المعاني تحمل معاني أكثر مما تحتمله الألفاظ ، فحينما ننظر إلى قول الله عز
وجل { ولكم في القصاص حياة } ما هذه الحياة التي تتحقق من خلال القصاص ؟
لو أننا أردنا أن نفسر معنى هذه الآية لوجدنا أنه يتحقق للناس حينما
يقيمون حد القصاص تتحقق لهم الحياة الهانئة الحياة السعيدة الحياة الكريمة ،
إذاً كل هذه المعاني أدتها هذه العبارة على وجازة لفظها وحروفها القصيرة .
النوع الثاني من الإيجاز : إما أن يكون الإيجاز بحذف كلمة أو
جملة أو أكثر ، ولكن هنا لابد من قرينة تعين المحذوف ، ويسمى هذا اللون من
لوني الإيجاز : هو إيجاز الحذف ، لأن الإيجاز تم عن طريق حذف بعض أجزاء
الكلام ، كيف يمكن تحديده ؟
يمكن تحديده من لخال إمكانية تحديد الموضع الذي حذف منه هذا الجزء أو ذاك .
وذكر المؤلفون : أنه يمكن أن تحذف الكلمة مثل كلمة ( لا ) في قول امرئ القيس :
فـقـلت : يـمـين الله أبــرح قــاعـداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وقدروا ذلك بأنه : ( فقلت يمين الله لا أبرح قاعداً ) فحذفت (لا)
للعلم بها ، وأزيد على مثل هذا حذف أداة في مواضع كثيرة جداً .
[ قال رب – يعني – يا رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ] .
{ رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً } .
فالتقدير ( يا رب ) وحذفت أداة النداء لذلك ، وربما يكون
المحذوف أكثر من ذلك ، يعني أكثر من كلمة ، يكون المحذوف جملة ، والجملة
لابد أن يكون هناك دليل أيضاً على مثل هذا الحذف .
فيقال في مثل قول الله عز وجل : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك }
الخطاب من الله جل وعلا لرسوله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ويريد تسليته
وتصبيره عما يحل به من مواقف من قبل قومه ، ولذلك التقدير في هذا المعنى :
(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فتأسى وأصبر ) تأسى بالذين من قبلك من
الأنبياء والذين كذبوا وأصبر على ما أصابك من قومك .
وقد يكون المحذوف أكثر من ذلك ، مثل قول الله عز وجل في سورة يوسف : { فارسلون * يوسف أيها الصديق}
يلحظ أن المؤلفين قدروا أن هناك مجموعة من الجمل حذفت ، فحينما ننظر في
هذا نقول : بعد قول يوسف فأرسلون ، بعد الذي رأى يعني بعد أن رأى الملك
رؤياه ، قال ذلك الذي كان مسجوناً مع يوسف : فأرسلون إليه ، قال : أرسلوني
إلى يوسف لاستعبره الرؤيا ، ففعلوا يعني فأرسلوه فأتاه وقال له : يا يوسف .
إذاً هنا خمس جمل حذفت ، وهذه ظاهرة في القرآن الكريم كثيرة في
القصص ، يضرب عن ذكر المواضع التي تفهم بعد ذكر الموضع التالي مباشرة ،
يعني حينما يقال : هذا يقول للملك : أرسلون ، ثم يقول : يوسف أيها الصديق ،
إذاً هو الآن صار يخاطب يوسف ، المرحلة التي بين إرسال الملك لهذا الرجل
ووصوله إلى يوسف ومخاطبته إلى يوسف ، ما كانت يعني مهمة في سياق القصة حتى
تذكر ألفاظها ؛ ولأنه يمكن أن تدرك تلك الألفاظ من خلال ذكر الموقفين ذكر
الموقف السابق والموقف اللاحق ، ولهذا جعل البلاغيون هذا اللون من الحذف ما
يسمى حذف الجمل ؛ لأنهم عددوا عدداً من الجمل حذفت وحددوها بخمس جمل .
وبعض البلاغيين يقول : إن هذا اللون من الحذف هو يدخل في إيجاز القصر؛ لأن
الحذف الذي يصح عليه حذف هو حذف جزء الجملة التي حذف كلمة لا يستغنى عنها
الكلام حذف كلمة لابد أن تقدر حتى نفهم الكلام ، لكن هنا ليس التقدير لكلمة
وإنما التقدير لحدت التقرير لمعنى ، والمعنى الذي ذكر أصلاً لم يكن مهماً
في سرد أحداث القضية حتى تذكر ألفاظه ولهذا هو حذف ولكنه يدخل في باب (
إيجاز القصر) ، وبعضهم توسط في هذا ، قال : هذا ليس من باب الحذف الاصطلاحي
الذي يقدر فيه المحذوف ، وإنما هو من باب الاختصار ، فجعلوا مصطلحاً
ثالثاً ليس إيجاز قصر وليس إيجاز حذف وإنما هو اختصار الأحداث ، اختصار
الأحداث والمعاني والاكتفاء ببعضها لمعرفة البقية ، وليس الغاية ما يتم
تقديره من ألفاظ ، فلو كان الأمر كذلك لأشير إلى شيء مما يدل عليها وهي بعض
أجزاء الجمل والجمل التي تعتمد على الأجزاء المحذوفة ، ولكن لأن القضية
التي لم تذكر ولم يشر إليها ليست مقصودة ولهذا لم تذكر . وبعض البلاغيين
كما أسلف جعل هذا اللون من الإيجاز مخصوصاً بمصطلح الاختصار ، وهو ترك بعض
الأحداث والانتقال إلى أحداث أخرى أكثر أهمية .
هذه لمحة من أسلوب الإيجاز والإطناب والمقامات التي تدعو إلى
استخدام هذين الأسلوبين والمساواة كما لاحظنا حينما ورد ذكر المؤلفين
لتحديد المساواة وأيضاً أقل يعني وأنها المعاني التي تذكر بألفاظ مساوية
لها .
المشكلة أن المؤلفين حينما ذكروا هذا قالوا : أوساط الناس ،
المساواة تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له ، للمعنى الألفاظ مساوية
للمعاني ، تكون على الحد الذي جرى به عرف أوساط الناس ، هنا يحدد أوساط بمن
؟ بالذين لم يرتقوا إلى درجة البلاغة ولم ينحطوا إلى درجة الفهاهة ، هذا
تحديد نوع الناس الذين ينظر إلى المعيار التحديد من خلالهم ، ولكن الآية
بعدما تذكر بعد هذه العبارة لا يفهم بأنها هي وسط بين هذا وذاك ، ولكن لأن
فهم هذه الفئة من الناس تفهم المعاني التي اشتملت عليها هذه الآية وهو قول
الله عز وجل : {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} يفهمها أولئك الناس الذين ذكرت صفاتهم مثل ما يفهمها غيرهم من الناس بأنها تحمل معاني مشابهة أو بعددها من الألفاظ .
وإن كانت مسألة تحديد الألفاظ وتحديد المعاني ، الألفاظ يسهل
أن تحدد أعدادها لأنها محسوسة ومرئية ومنطوقة ، لكن المعاني هي التي يصعب
أن تحدد أعدادها لأنها قضايا تتصل بمسألة العقل .
أختم الحديث عن هذا الموضوع بالإشارة إلى أن باب الإيجاز
والإطناب تدخل فيه مجموعة كبيرة من الأبواب البلاغية التي سبق ذكرها أو
التي سيأتي الإشارة إليها في علمي البيان والبديع إن شاء الله . فمثلاً
الحديث الذي مرّ في باب الحذف والذكر ، كل ما ذكر في باب الحذف يدل في باب
الإيجاز ، ما ذكر عند البلاغيين لم يرد في هذا المختصر وهو الخروج على
مقتضى الظاهر خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر مثل وضع المضمون موضع
المظهر : {قل هو الله أحد * الله الصمد} بدلاً من ( هو الصمد) ، هذا أيضاً يدخل في باب الإيجاز .
مما يدخل في باب الإيجاز القصر ؛ لأن جملة القصر في قوة جملتين
كما أسلفنا في دراستنا للقصر ، وكذلك الواو وكذلك الوصل من المواضع التي
مرت في الدرس السابق ، ولأن الواو حينما تذكر يستغنى بذكر الواو عن إعادة
العامل ، وهذا يتضح أكثر في العطف بين المفردات ، وما سيأتي إن شاء الله في
الحديث عن البيان .
فالتشبيه البليغ مثلاً يدخل في باب الإيجاز ، لماذا ؟ لأنه
يعتمد على حذف الأداة ووجه الشبه ، إذاً فيه جزء محذوف ، والاستعارة كذلك ،
والمجاز المرسل مثله ، والكناية مثلها .
إذاً عدد من الموضوعات البلاغية سواءً كانت في علم المعاني أو
في علم البيان أو في علم البديع كما سنرى في الاحتباك إن كان المجال سيأتي
إلى ذكره والإشارة وغير ذلك من الألوان البلاغية ؛ لأن التقسيم هنا باعتبار
العلاقة بين الألفاظ المنطوقة والمعاني المدركة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ؛؛؛؛).
الكشاف التحليلي
· - أقسام الإيجاز:
§ - القسم الأول:إيجاز قصر
° - قوله: (قِصَر) بكسر القاف على وزن عِنَب
° - معنى إيجاز القصر
° - هذا النوع مركز عناية البلغاء وبه تتفاوت أقدارهم
° - سبب تسميته بإيجاز القصر
° - قسم الطيبي إيجاز القصر إلى نوعين:إيجاز التقدير، والإيجاز الجامع
° - مثال إيجاز القِصَر:{ولكم في القصاص حياة}، وتوضيح المثال
- - تنبيه:ذكر ابن الأثير وغيره أن من أنواع إيجاز القصر:باب
الحصر، وباب العطف، وباب النائب عن الفاعل، وباب الضمير، وباب علمت أنك
قائم، وباب التنازع، وجميع أدوات الاستفهام والشرط والألفاظ اللازمة للعموم
§ - القسم الثاني:إيجاز حذف
° - يكون الإيجاز بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف
- - توضيح:قوله :(بحذف كلمة) يشمل ذلك ما إذا كانت اسماً أو
فعلاً أو حرفاً، عمدة أو فضلا، فشمل حذف المسند إليه والمسند والمفعول غير
المضاف والمضاف والمضاف إليه وغير ذلك، مع الأمثلة
- - مثال حذف الكلمة:حذف (لا) في قول امرئ القيس:فقلت يمين الله أبرح قاعداً.
- - فائدة:يطرد حذف (لا) النافية مع شروط جمعها بعضهم فقال:ويُحْذَفُ نافٍ مع شروطٍ ثلاثةٍ * إذا كانَ لا قبلَ المضارِعِ في قَسَمٍ
- - وقد وَرَدَ حذفُها مع فقدِ الشروطِ، في قولِه تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أي: لا يُطيقونَه.
- مثال حذف الوصف فقط: قول الله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}
- - مثال حذف الجملة الواحدة:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}
- - مثال حذف أكثر من جملة:{فَأَرْسِلُونِ.* يُوسُفَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}
- - توضيح:قوله:(أو أكثر) قد يريد به أكثر من كلمة كحذف الجار والمجرور ، أو أكثر من جملة
° - يشترط في كون الحذف إيجازاً أمران:أحدُهما أن يَتَوقَّفَ
على المحذوفِ فَهْمُ أصْلِ المرادِ عُرْفًا، والثاني أن يُتَوَصَّلَ إليه
بسُهُولةٍ بالقرينة
° - الفرق بين إيجاز الحذف والمساواة
° - الفرق بين إيجاز القصر والمساواة
§ - لا بد للحذف من نكتة، ومن ذلك:
° - مجرد الاختصار، ومثاله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
° - وكون المحذف كالجواب، ومثاله:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، تَرَى شيئًا لا يُحيطُ به الوصْفُ،
° - وذهابُ نفسِ السامعِ إنْ تَصَدَّى لتقديرِه كلَّ مذهَبٍ مُمكِنٍ
- - فائدة: هاتان النُّكْتتانِ :كونَه لا يحيطُ به الوصْفُ،
وكونَ نفسِ السامعِ تَذهبُ فيه كلَّ مذهَبٍ ممكِنٍ، مفهومُهما مختلِفٌ،
ومصدوقُهما متَّحِدٌ).