10 Nov 2008
مواضع الفصل
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الفصْلِ
يَجبُ الفصْلُ في خمسةِ مواضعَ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ بينَ الجملتينِ اتِّحادٌ تامٌّ، بأنْ تكونَ الثانيةُ بَدَلًا من الأُولى، نحوَ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
أوْ بأنْ تكونَ بيانًا لها: نحوُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}.
أوْ بأنْ تكونَ مؤكِدَّةً لها، نحوَ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. ويُقالُ في هذا الموضِعِ: إنَّ بينَ الجملتينِ كمالَ الاتِّصالِ.
الثاني: أنْ يكونَ بينَ الجملتينِ تَبَايُنٌ تامٌّ، بأنْ يَختلِفَا خَبَرًا وإنشاءً، كقولِه:
وقالَ رائدُهمْ: أَرْسُوا نُزَاوِلُها ...... فَحَتْفُ كلِّ امرئٍ يَجْرِي بِمِقدارِ
أوْ
بأنْ لا يكونَ بينَهما مناسَبةٌ في المعنى، كقولِك: (عليٌّ كاتبٌ، الحمامُ
طائرٌ)؛ فإنَّهُ لا مناسَبَةَ في المعنى بينَ كِتابةِ عليٍّ وطَيرانِ
الْحَمامِ. ويُقالُ في هذا الموضِعِ: إنَّ بينَ الْجُملتينِ كمالَ
الانقطاعِ.
الثالثُ: كونُ الجملةِ الثانيةِ جوابًا عنْ سؤالٍ نَشَأَ من الجملةِ الُأولى، كقولِه:
زَعَمَ العَوازِلُ أنَّنِي في غَمْرَةٍ صَدَقُوا ولكِنْ غَمْرَتي لا تَنْجَلِي
كأنَّهُ قيلَ: أَصَدَقُوا في زعمِهم أَمْ كَذَبَوا؟ فقالَ: صَدَقُوا.
ويقالُ: بينَ الجُمْلتينِ شِبْهُ كمالِ الاتِّصالِ.
الرابعُ:
أنْ تُسبَقَ جملةٌ بجُمْلَتينِ يَصِحُّ عطْفُها على إحداهما لوجودِ
المناسَبةِ، وفي عطفِها على الأخرى فسادٌ، فيُترَكُ العطْفُ دَفْعًا
للوَهْمِ، كقولِه:
وتَظنُّ سَلْمى أنَّنِي أَبْغِي بها ...... بَدَلًا أُرَاها في الضَّلالِ تَهِيمُ
فجملةُ
(أُراها) يَصِحُّ عطْفُها على (تَظُنُّ)، لكنْ يَمْنَعُ منْ هذا تَوَهُّمُ
العطْفِ على جملةِ (أَبْغِي بها)، فتكونُ الجملةُ الثالثةُ منْ مَظنوناتِ
سَلْمَى، معَ أنَّهُ ليسَ مُرادًا. ويُقالُ: بينَ الْجُملتينِ في هذا
الموضِعِ شِبْهُ كمالِ الانقطاعِ. الخامسُ: أنْ لا يُقصَدَ تشريكُ الجملتينِ في الحكْمِ لقيامِ مانعٍ، كقولِه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}،
فجملةُ (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لا يِصِحُّ عطْفُها على (إِنَّا
مَعَكُمْ)؛ لاقتضائِه أنَّهُ منْ مَقُولِهم؛ ولا على جملةِ: (قَالُوا)؛
لاقتضائِه أنَّ اسْتِهْزاءَ اللَّهِ بهم مقيَّدٌ بحالِ خُلُوِّهِم إلى
شياطينِهم. ويُقالُ: بينَ الجملتينِ في هذا الموضِعِ تَوسُّطٌ بينَ
الكمالَيْنِ).(دروس البلاغة)
الحواشي النقية للشيخ: محمد علي بن حسين المالكي
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): ( (مواضعُ الفصْلِ)
يَجِبُ الفصْلُ في خمسةِ مواضعَ:
(الأوَّلُ): أن يكونَ بينَ الجملتينِ اتِّحادٌ تامٌّ(1)، بأن تكونَ الثانيةُ بَدَلاً من الأولى(2)، نحوُ:
{أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(3) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}، أو بأن تكونَ(4) بيانًا لها، نحوُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ(5) قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}، أو بأن تكونَ(6) مؤكِّدَةً لها، نحوُ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}.
ويُقالُ في هذا الموضعِ(7): إنَّ بينَ الجملتينِ كمالَ الاتِّصالِ.
(الثاني): أن يكونَ بينَ الجملتينِ تَبايُنٌ تامٌّ(8)، بأن يَختلفا خبرًا وإنشاءً(9)، كقولِهِ:
لا تَسأَل المرءَ(10) عن خلائقِهِ ..... في وجهِهِ شاهدٌ من الخبَرِ
وكقولِ الآخَرِ: وقالَ رائدُهم أَرْسُوا نُزَاوِلُها(11) ..... فحَتْفُ(12) كلِّ امرئٍ يَجرِي بمقدارِ أو بأن لا يكونَ بينَهما مناسبةٌ في المعنى(13)، كقولِكَ: عليٌّ كاتبٌ
الحمامُ طائرٌ؛ فإنه لا مناسبةَ في المعنى بينَ كتابةِ عليٍّ وطَيرانِ
الحمَامِ، ويُقالُ في هذا الموضعِ(14): إن بينَ الجُملتينِ كمالَ
الانقطاعِ(15). (الثالثُ): كَوْنُ الجملةِ الثانيةِ جوابًا عن سؤالٍ(16) نَشَأَ من الجملةِ الأُولَى(17)، كقولِه: جَزَى اللهُ الشدائدَ(18) كلَّ خيرٍ ..... عَرَفْتُ بها عَدُوِّيَّ من صَديقي ويُقالُ: بينَ الجملتينِ(19) شِبهُ كمالِ الاتِّصالِ(20). (الرابعُ): أن تُسبَقَ جملةٌ بجملتينِ يَصِحُّ عطْفُها على إحداهما لوجودِ
المناسبةِ(21)، وفي عطفِها على الأخرى فسادٌ(22)، فيُتْرَكُ العطْفُ(23)
دفْعًا للوَهْمِ، كقولِه: وتَظُنُّ سَلْمَى(24) أنَّني أبْغِي بها ..... بَدَلاً أُرَاها في الضلالِ تَهِيمُ فجُملةُ أُراها يَصِحُّ عطفُها على تَظُنُّ، لكن يَمنَعُ من هذا تَوَهُّمُ
العطْفِ على جملةِ أبْغِي بها، فتكونُ الجملةُ الثالثةُ من مَظنوناتِ
سَلْمَى، مع أنه ليس مُرادًا (25). ويُقالُ: بينَ الجملتينِ في هذا
الموضِعِ شِبهُ كمالِ الانقطاعِ(26). (الخامسُ): أن لا يُقْصَدَ تشريكُ الجملتينِ في الحكْمِ(27) لقيامِ مانعٍ، كقولِه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}،
فجملةُ اللهُ يَستهزئُ بهم، لا يَصِحُّ عطْفُها على إِنَّا معكم(28)؛
لاقتضائِه(29) أنه من مَقولِهم، ولا على جملةِ قالوا؛ لاقتضائِه أنَّ
استهزاءَ اللهِ بهم مُقيَّدٌ بحالِ(30) خُلوِّهِم إلى شياطينِهم. ويُقالُ:
بينَ الجملتينِ في هذا الموضعِ توَسُّطٌ بينَ الكَمَالَيْنِ(31). ____________________ قال الشيخ محمد علي بن حسين بن إبراهيم المالكي (ت: 1368هـ): ((1) قولُه: (أن يكونَ بينَ الجملتيْنِ اتِّحادٌ تامٌّ)،
أي: بأن تكونَ الثانيةُ بدَلاً أو بيانًا أو توكيدًا معنويًّا أو لفظيًّا
من الأُولى، وأمَّا النعتُ فلمَّا لم يَتميَّزْ عن عطْفِ البيانِ في
المفرداتِ إلاَّ بأنَّه يَدُلُّ على بعضِ أحوالِ المتبوعِ لا على ذاتِه،
والبيانُ يدُلُّ على ذاتِ المتبوعِ لا على وصْفٍ فيه، والدَّلالةُ على بعضِ
أحوالِ المتبوعِ ممَّا لا تَحقُّقَ له في الجمَلِ؛ لأنَّ الجملةَ إنَّما
تدُلُّ على النِّسبةِ، ولا يَتأتَّى أن تكونَ نسبةٌ في جملةٍ دالَّةً على
وصْفِ شيءٍ في جملةٍ أخرى، لم تَنْزِل الجملةُ الثانيةُ من الأُولَى
منزِلةَ النعْتِ من المنعوتِ، وقد تكونُ النِّسبةُ في جملةٍ موضِّحَةٍ
لنسبةِ جملةٍ أخرى؛ فلِذا نزَلَت الجملةُ الثانيةُ من الأُولى منزِلةَ
عطْفِ البيانِ من المبَيَّنِ، والاتِّحادُ التامُّ يَمنَعُ من العطفِ
بالواوِ ولا يَمنَعُ من العطفِ بغيرِ الواوِ كما هو المفهومُ من كلامِ
صاحبِ التلخيصِ، ومنَعَه من العطْفِ بها؛ لأنَّه كعَطْفِ الشيءِ على نفسِه
لاقتضائِه شدَّةَ المناسَبةِ بينَ الجملتيْنِ، ولا معنًى لعطْفِ الشيءِ على
نفسِه ضرورةً لحصولِ التَّنافي بينَ ما يَقتضيه العطْفُ بالواوِ من
المغايَرةِ وبينَ الاتِّحادِ التامِّ الواقعِ بينَ الجملتيْنِ. وكذا يُقالُ
في شِبهِ كمالِ الاتِّصالِ؛ لأنَّ شِبهَ الشيءِ حُكْمُه حُكْمُ ذلكَ
الشيءِ، لا يُقالُ: إنَّ هذا يَقتضي أنَّه لا يَصِحُّ، أو لا يَحْسُنُ
العطْفُ التفسيريُّ بالواوِ في المفرَدِ، مع أنَّه شائعٌ حسَنٌ؛ لأنَّا
نقولُ حُسْنُه ممنوعٌ عندَ البلغاءِ، وشُيوعُه إنَّما هو في عباراتِ
المصنِّفِينِ، لا في كلامِ البُلغاءِ، أو يُقالُ: إنَّ الواوَ في العطْفِ
التفسيريِّ غيرُ مستعمَلةٍ في العطْفِ، بل هي مستعارةٌ لمعنى حرْفِ
التفسيرِ هذا. ودَعْوَى الاتِّحادِ التامِّ في غيرِ البَدَلِ مسلَّمَةٌ،
وأمَّا في بدَلِ البعضِ والاشتمالِ فمبنيَّةٌ على قَوْلِ بعضِهم أنَّ
البدَلَ والمبدَلَ منه كالشيءِ الواحدِ، وهو لا يَتمُّ مع كونِ المبدَلِ
كالمعدومِ؛ إذ لا يَتَّحِدُ ما هو بمنزلةِ المعدومِ بالموجودِ، مع أنَّ
البعضَ من حيثُ هو، والمشتَمِلَ عليه من حيثُ هو، لا اتِّحادَ بينَه وبينَ
ما قبلَه، فالمناسِبُ أن يوجَّهَ منْعُ العطْفِ في بدَلِ البعضِ والاشتمالِ
بأنَّ الْمُبْدَلَ منه في نيَّةِ الطرْحِ عن القصْدِ الذاتيِّ، فصارَ
العطْفُ عليه كالعطْفِ على ما لم يُذْكَرْ، فافْهَمْ. وتَرَدَّدَ
العلاَّمَةُ الدُّسُوقِيُّ في كونِ كلٍّ من البَدَلِ والبيانِ والتأكيدِ
المعنويِّ واللفظيِّ الواقعِ في الجُمَلِ اصطلاحيًّا من جُمْلةِ التوابِعِ،
أو كالبدلِ والبيانِ والتأكيدِ المعنويِّ واللفظيِّ في حصولِ كلِّ ما
يَحصُلُ من كلٍّ. قيلَ: وممَّا يَدُلُّ على الثاني قولُ صاحبِ التلخيصِ في
كلٍّ منها: فوِزانُه وِزانٌ إلخ. وقد تُمنَعُ تلكَ الدلالةُ وكلامُ
الفنريِّ رُبَّما كان مفيدًا للأوَّلِ حيثُ قالَ: ولا يقالُ: إنَّ كلَّ
واحدٍ من التوكيدِ والبيانِ والبدَلِ من جُملةِ التوابعِ، والتابعُ هو
الثاني المعرَبُ بإعرابِ سابقِه الحاصلِ أو المتجدَّدِ، وحينئذٍ فلا بُدَّ
أن يكونَ للمتبوعِ إعرابٌ لفظيٌّ أو تقديريٌّ أو محلِّيٌّ، مع أنَّ الكلامَ
في الجمَلِ التي لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ لأنَّا نقولُ: المرادُ من
قولِهم هو الثاني المعرَبُ بإعرابِ سابقِه كونُه كذلكَ فيما لسابقِه
إعرابٌ، أو المرادُ بإعرابِ سابقِه نفيًا أو إثباتًا، أو أنَّ هذا تعريفٌ
للتابِعِ بالنظَرِ للغالبِ وهو ما إذا كان للسابقِ إعرابٌ ا.هـ. كلامُه.
وعليه فلا مانِعَ من أن يُقالَ: إنَّ ما كان بالألفاظِ المعلومةِ تأكيدٌ
معنويٌ بالنِّسبةِ للمفرداتِ، وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ بالنِّسبةِ
للجُمَلِ فهو الجملةُ الثانيةُ من المتخالِفتيْنِ مفهومًا بحيثُ يَلزَمُ من
تقرُّرِ معنى إحداهما تقرُّرُ معنى الأخرى، مثلَ: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} من قولِه تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، تأمَّلْ. دسوقيٌّ. (2) قولُه: (بأن تكونَ الثانيةُ بدَلاً من الأُولى)، أي: بدَلَ بعضٍ نحوُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
إلخ؛ فإنَّ المرادَ من هذا الخطابِ التنبيهُ على نِعَمِ اللَّهِ تعالى،
والمقامُ يَقتضي اعتناءً واهتمامًا بشأنِ ذلكَ التنبيهِ؛ لكونِه مطلوبًا في
نفسِه؛ لأنَّه تذكيرٌ للنِّعَمِ لتُشكرَ، وهو ذريعةٌ لغيرِه كالإيمانِ
والعملِ بالطاعةِ، وقولُه: {أمدَّكُم بأنعامٍ وبنينَ}
أوفى بتأديةِ التنبيهِ على النِّعَمِ لدَلالتِه عليها بالتفصيلِ، حيثُ
سُمِّيَتْ بنوعِها من غيرِ أن يُحالَ تفصيلُها على علْمِ المخاطَبِينِ
المعانِدِينِ لكُفْرِهم؛ إذ رُبَّما نَسبوا تلكَ النِّعمةَ إلى قدرتِهم
جَهْلاً منهم، ويَنسِبون له تعالى نِعمًا أخرى كالإحياءِ والتصويرِ، أو
بدلَ اشتمالٍ نحوُ: أَقُولُ لَهُ: ارحَلْ، لا تُقيمَنَّ عندَنا؛ فإنَّ
المرادَ بقولِه: ارحَلْ، لازِمُ معناهُ، وهو كمالُ إظهارِ الكراهةِ لإقامةِ
المتحدَّثِ عنهُ لديهم، وقولُه: لا تُقيمَنَّ عندَنا، يدُلُّ مع تأكيدِه
بالنونِ على كمالِ إظهارِ الكراهةِ بالمطابَقةِ العُرفيَّةِ حيثُ يُقالُ:
لا تَقُمْ عندي، ولا يقْصِدُ عُرْفًا كَفَّهُ عن الإقامةِ، بل مجرَّدَ
إظهارِ كراهةِ حضورِه. ولمَّا كان من حيثُ كونِه دالاّ على هذا المقصودِ
بالمطابَقةِ أوْفَى من دَلالةِ ارحلْ، عليه التزامًا، وهو مع ذلكَ ليس بعضَ
مدلولِ ارحلْ، ولا نفسَه، بل هو مُلابِسُه للملازَمةِ بينَهما، صارَ بدلَ
اشتمالٍ منه. والجملةُ الأُولى، وهي ارحلْ في البيتِ، وإن كان لها مَحلٌّ
من الإعرابِ باعتبارِ الحكايةِ عمَّا يقولُه في زمانِ الاستقبالِ؛ لأنَّ
أقولُ متسلِّطٌ عليها على المشهورِ، إلاَّ أنَّها مستأنَفةٌ لا محلَّ لها
باعتبارِ المحكيِّ، كما قالَ السيُّدُ، فافْهَمْ. وأمَّا بدَلُ الكلِّ،
فقيلَ: لا يدخلُ في كمالِ الاتِّصالِ؛ إمَّا لأنَّه لا يَتحقَّقُ في
الجُمَلِ مُطلَقًا لإغناءِ التوكيدِ فيها عنه؛ لأنَّ ما يُفرَّقُ به بينَ
بدلِ الكلِّ والتوكيدِ اللفظيِّ في المفرَداتِ من وُجوبِ مغايَرةِ
اللفظيْنِ، وكونِ التابعِ هو المقصودُ بالحكْمِ في البدَلِ بخلافِ
التوكيدِ، لا يَتحقَّقُ في الجمَلِ؛ لأنَّ التوكيدَ اللفظيَّ في الجمَلِ
فيه المغايَرةُ بينَ اللفظيْنِ دائمًا، وكلٌّ من الجمَلِ مستقِلٌّ، فيكونُ
كلٌّ منها مقصودًا، وهو ما ذَهَبَ إليه صاحبُ التلخيصِ؛ وإمَّا لأنَّ كمالَ
الاتِّصالِ إنَّما يُعتبَرُ فيما لا مَحَلَّ له من الإعرابِ، وبَدَلُ
الكلِّ إنَّما يَتحقَّقُ فيما له مَحَلٌّ من الإعرابِ؛ لأنَّه يتأتَّى فيه
قصْدُ الثانيةِ بسببِ قصْدِ نقلِ نِسبةِ العاملِ إليها بخلافِ التي لا
مَحلَّ لها من الإعرابِ؛ فإنَّه لا نِسبةَ فيها للعامِلِ حتَّى تُنقَلَ إلى
مضمونِ الجملةِ الثانيةِ، وهو ما ذَهَبَ إليه السيِّدُ حيثُ قالَ في
حاشيةِ الكشَّافِ: ثمَّ الظاهرُ أنَّ قولَه تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بدَلُ كلٍّ من قولِه تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ}. وأربابُ البيانِ لا يقولونَ بذلكَ في الجملةِ التي لا مَحلَّ لها من الإعرابِ ا.هـ. وذَهَبَ بعضُهم إلى دخولِ بدَلِ الكلِّ في كمالِ الاتِّصالِ؛ لأنَّه
يَتحقَّقُ في الجمَلِ مطلَقًا، أمَّا التي لها مَحَلٌّ فَلِمَا عَلِمْتَ.
وأمَّا التي لا محلَّ لها فلأنَّها وإن كانت لا نِسبةَ فيها للعاملِ حتَّى
تُنقَلَ للجملةِ الثانيةِ إلاَّ أنَّه يَنزِلُ قصْدُ استئنافِ إثباتِها
منزِلةَ نَقْلِ الحكْمِ إلى مضمونِ الثانيةِ، ومثَّلَ لبدَلِ الكلِّ فيما
لا مَحَلَّ له بقولِ القائلِ: قَنَعْنَا بالأسودَيْنِ، قَنَعْنَا بالتمرِ
والماءِ، فإذا قَصَدَ الإخْبَارَ بالأُولى ثمَّ بالثانيةِ؛ لكَوْنِ الأُولى
كغيرِ الوافيةِ بالمرادِ لمَا فيها من إبهامٍ ما، والمَقامُ يَقْتَضي
الاعتناءَ بشأنِ المخبَرِ به تفصيلاً لمَا فيه من تشويقِ المخبَرِ أو نحوِ
ذلكَ، كانتْ بدَلَ كلٍّ. وأمَّا بدلُ الغلَطِ، فقيلَ: لا يَدخُلُ في كمالِ
الاتِّصالِ؛ لأنَّه لا يَقعُ في الفصيحِ، وفيه أنَّ الذي لا يَقعُ في
الفصيحِ الغلطُ الحقيقيُّ، وأمَّا إن كان غيرَ حقيقيٍّ بأن تَغالَطَ، بأن
يَفعَلَ المتكلِّمُ فعْلَ الغالِطِ لغرَضٍ من الأغراضِ فهذا واقعٌ في
الفصيحِ، إلاَّ أنَّه نادرٌ، ونُدرتُه لا تَقتضِي عدمَ دخولِه في كمالِ
الاتِّصالِ، فافْهَمْ. (3) قولُه: (نحوُ: {أمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
إلخ)، أي: نحوُ قولِ اللَّهِ تعالى حكايةً عن قولِ نبيِّه هودٍ لقومِه.
وجُملةُ أمدَّكُم بما تَعلمون لا محَلَّ لها؛ لأنَّها صِلةُ الذي في قولِه
تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
إلخ. وقد صرَّحَ ابنُ هشامٍ بأنَّ المحَلَّ للموصولِ دونَ الصلةِ، وصرَّحَ
العلاَّمةُ السيِّدُ بأنَّ المحلَّ لمجموعِ الصلَةِ والموصولِ، فمجَرَّدُ
الصلةِ لا مَحلَّ لها. دسوقيٌّ. (4) قولُه: (أو بأنْ تكونَ)، أي: الثانيةُ.
وقولُه: بيانًا لها، أي: للأُولى، لما فيها من الخفاءِ مع اقتضاءِ المقامِ
إزالتَه من غيرِ أن يُقصَدَ بها استئنافُ الإخبارِ بنِسبتِها كما في
البدَلِ. والفرْقُ بينَ البدَلِ والبيانِ مع وجودِ الخفاءِ في كلٍّ من
المبدَلِ منه والمبيَّنِ أنَّ المقصودَ في البدَلِ هو الثاني لا الأوَّلُ،
والمقصودَ في البيانِ هو الأوَّلُ، والثاني توضيحٌ له، فالإيضاحُ في
البدَلِ حاصلٌ غيرُ مقصودٍ بالذاتِ، وحاصلٌ مقصودٌ بالذاتِ في البيانِ. (5) قولُه: (نحوُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}
إلخ)، ضَمَّنَ وَسوسَ معنى أَلْقَى فعَدَّى بإلى، فكأنَّه قيلَ: فأَلْقَى
إليه الشيطانُ وسوستَه، وهذه الجملةُ فيها خفاءٌ؛ إذ لم تَتبيَّنْ تلكَ
الوسوسةُ، فبُيِّنَتْ بقولِه: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلَى}،
وأضافَ الشجرةَ للخُلْدِ بادِّعاءِ أنَّ الأكْلَ منها سببٌ لخلودِ الآكِلِ
وعدَمِ موتِه، ومعنى: وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى، لا يَتطَرَّقُ إليه نُقصانٌ،
فضْلاً عن الزوالِ. والآيةُ مثالٌ لكمالِ الاتِّصالِ بينَ الجملتيْنِ بسببِ
كونِ الثانيةِ بيانًا بقَطْعِ النظرِ عن كونِ الأُولى لها محلٌّ أو لا،
وإلاَّ فالجملةُ الأُولى في مَحلِّ جرٍ لعطفِها على جملةِ قُلنا المضافِ
إليها إذْ من قولِه تعالى في سورةِ طه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُو لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} الآيةَ، فافْهَمْ. (6) قولُه: (بأن تكونَ)، أي: الثانيةُ، وقولُه:
مؤكِّدةً لها أي: للأُولى. إمَّا تأكيدًا معنويًّا بأن يَختلِفَ مفهومُ
الجملتيْنِ، ولكن يَلزَمُ من تقريرِ معنى إحداهما تقريرُ معنى الأُخرى
لدَفْعِ المتكلِّمِ توهُّمَ السامعِ التجوُّزَ في الأُولى، نحوُ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، إذا جُعِلَتْ {الم}
طائفةً من الحروفِ واقعةً في أوائلِ السوَرِ إشارةً إلى أنَّ الكتابَ
المتحَدَّى به مُركَّبٌ من جنسِ هذه الحروفِ، أو جُعِلَتْ جُمْلةً
مستقِلَّةً على تقديرِ الم هذا، أوهذا الم، أو أذْكُرُ الم، أو أُقْسِمُ
بالم، وأنَّها إمَّا اسمٌ للسورةِ أو القرآنِ، أو اسمٌ من أسمائِه تعالى،
أو مؤَوَّلٌ بالمؤلَّفِ من هذه الحروفِ، و {ذَلِكَ الْكِتَابُ}
جملةٌ ثانيةٌ بجعلِ المبتدأِ ذلكَ، الدالُّ على كمالِ العنايةِ بتمييزِه
والتوسُّلِ ببُعدِه إلى التعظيمِ وعلوِّ الدرجةِ، والخبرِ الكتابَ المعروفَ
باللامِ للدَّلالةِ على الانحصارِ كما مَرَّ، والمرادُ أنَّه الكتابُ
الكاملُ في الهدايةِ الذي يَستحِقُّ أن يُسمَّى كتابًا كأنَّ ما عَدَاهُ من
الكتبِ السماويِّةِ في مقابَلتِه ناقصٌ، بل ليس بكتابٍ، ثمَّ إنَّه لمَّا
كانت هذه الجملةُ بسببِ ما فيها من المبالَغةِ المذكورةِ لو صَدَرَتْ من
غيرِ علاَّم الغُيوبِ لتوَهَّمَ السامعُ قبلَ التأمُّلِ في كمالاتِ الكتابِ
أنَّ مُفادَها من المبالَغةِ ممَّا يُرمَى به جُزافًا، وكان توهُّمُ
الجُزافِ فيها بمنزِلةِ توهُّمِ التجوُّزِ في جاءَني زيدٌ؛ لاشتراكِهما في
المساهَلةِ، أُكِّدَتْ بجملةِ لا رَيْبَ فيه دفْعًا لذلكَ التوهُّمِ جرْيًا
على قاعدةِ ما تَجِبُ مراعاتُه في البلاغةِ العرفيَّةِ باعتبارِ كلامِ
المخلوقِ، نعم دَفْعُ هذا التوهُّمِ بلا ريبَ فيه ظاهرٌ على تقديرِ عَوْدِ
ضميرٍ فيه إلى الكلامِ السابقِ، أعْنِي ذلكَ الكتابُ، كأنَّه قيلَ: لا ريبَ
فيه ولا مجازفةَ، وإمَّا على تقديرِ عَوْدِه للكتابِ كما هو الظاهرُ،
فمَبْنِيٌّ على أنَّه إذا لم يكن ريبٌ في كونِه كاملاً غايةَ الكمالِ لم
يكن قولُكَ ذلكَ الكتابُ بالمجازفةِ، فمَرْتَبَةُ لا ريبَ فيه مع ذلكَ
الكتابُ في دفْعِ توهُّمِ الجُزافِ مرتَبةُ نفسِه مع زيدٍ في قولِكَ جاءَ
زيدٌ نفسُه. وإمَّا تأكيدًا لفظيًّا بأن يكونَ مضمونُ الجملةِ الثانيةِ هو
مضمونُ الأُولى، نحوُ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}، حيثُ لم يُقْصَدْ بالثانيةِ استئنافُ الإخبارِ بنِسبتِها، وإلاَّ كانت بدَلَ كلٍّ من الأُولى، ونحوُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}،
أي: هو هدًى للضالِّينَ الصَّائِرينَ إلى التقوى لاتِّحادِ هذه الجملةِ مع
جملةِ ذلكَ الكتابُ في المعنى؛ لأنَّه لمَّا كان مدلولُ ذلكَ الكتابِ
المُطابقيُّ أنَّهُ الكتابُ لا غيرَ، وهو محالٌ، وإنَّما الغرَضُ وصفُهُ
بالكمالِ في الهدايةِ، ومدلولُ هو هدًى أنَّه نفسُ الهدايةِ، وهو محالٌ
أيضًا، وإنَّما الغرضُ كونُه كاملاً في إفادةِ الهدايةِ صارَا متَّحِدَيْنِ
في عدَمِ إرادةِ الظاهرِ، وفي إرادةِ الكمالِ في الهدايةِ، وصارت مرتَبَةُ
هدًى مع ذلكَ الكتابِ مرتبةَ زيدٍ الثاني في جاءني زيدٌ زيدٌ؛ فلذا لم
يَعْطِفْ هدًى للمتَّقِينَ على ذلكَ الكتابِ، كما لم يَعطِفْ على لا ريبَ
فيه، وإن اشتَرَكا في التأكيديَّةِ؛ لأنَّه لا يُعطَفُ تأكيدٌ على تأكيدٍ،
فلا يُقالُ: جاءَ القومُ كلُّهم وأَجْمَعونَ؛ لإيهامِ العطْفِ على
المؤكِّدِ، فافْهَمْ. (7) قولُه: (ويُقالُ في هذا الموضِعِ)، أي: المنحصِرُ في الأقسامِ الثلاثةِ المذكورةِ، أعني كونَ الثانيةِ بدَلاً أو بيانًا أو تأكيدًا من الأُولى. (8) قولُه: (أن يكونَ بينَ الجملتيْنِ تبايُنٌ تاٌّم)،
أي: إمَّا بينَ نِسبَتَي الجملتيْنِ، وإمَّا بينَ طَرَفَيْ كلٍّ منهما،
وصوَّرَ الأوَّلَ بقولِه: بأن يَخْتَلِفا خبرًا وإنشاءً، وصَوَّرَ الثاني
بقولِه: أو بأن لا يكونَ بينَهما مناسَبةٌ في المعنى، وإنَّما مَنَعَ
التبايُنُ التامُّ الوصْلَ بالواوِ لحصولِ التنَافي عندَ العطْفِ بالواوِ
بينَ ما تَقتضيهِ الواوُ من المناسَبةِ وما بينَ الجملتيْنِ من كمالِ
الانقطاعِ، وكذا يُقالُ في شِبهِ كمالِ الانقطاعِ؛ لأنَّ شِبهَ الشيءِ
حكْمُه حكْمُ ذلكَ الشيءِ. (9) قولُه: (بأن يَخْتَلِفَا خبرًا أو إنشاءً)،
أي: لفظًا ومعنًى، بأن تكونَ إحدَاهُما خبرًا لفظًا ومعنًى، والأخرى
إنشاءً لفظًا ومعنًى، نحوُ: لا تَسْألِ المرءَ، البيتَ، ونحوُ: وقالَ
رائدُهم، البيتَ، أو تكونَ إحداهُما خبرًا لفظًا إنشاءً معنًى، والأُخْرى
إنشاءً لفظًا خبرًا معنًى، نحوُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
رحِمَكَ اللَّهُ، لم يَعْطِفْ رحِمَكَ اللَّهُ على ألَيْسَ اللَّهُ إلخ؛
لأنَّه إنشاءٌ معنًى خبرٌ لفظًا، وألَيْسَ اللَّهُ إلخ خبرٌ معنًى، أي
اللَّهُ كافٍ عبدَهُ. إنشاءً لفظًا أو معنًى فقطْ بأن تكونَ إحداهما خبرًا
معنًى والأُخْرى إنشاءً معنًى، وإن كانتا خبريَّتيْنِ أو إنشائيَّتيْنِ
لفظًا نحوُ: ماتَ فلانٌ رحِمَه اللَّهُ، ونحوُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
اتَّقِ اللَّهَ أيُّها العبدُ، فلم يَعطِفْ رحِمَهُ اللَّهُ على ماتَ؛
لأنَّه إنشاءٌ معنًى، وماتَ خبرٌ معنًى، وإن كانتا خبريَّتيْنِ لفظًا، ولم
يَعطِف اتَّقِ اللَّهَ على ألَيْسَ اللَّهُ إلخ؛ لأنَّه إنشاءٌ معنًى،
وألَيْسَ اللَّهُ إلخ خبرٌ معنًى، أي اللَّهُ كافٍ عبدَهُ، وإن كانتا
إنشائيَّتيْنِ لفظًا. (10) قولُه: (لا تَسألِ الْمَرْءَ إلخ)، لم
يَعطِفْ في وجهِه شاهدٌ من الخبَرِ على لا تَسألْ إلخ؛ لأنَّه خبرٌ لفظًا
ومعنًى، ولا تسألْ إنشاءٌ لفظًا ومعنًى، وكلاهما لا مَحَلَّ له من
الإعرابِ. (11) قولُه: (وقال رائدُهم أرْسُوا نُزَاوِلُها إلخ)،
لم يَعطِفْ نُزاوِلُها على أرْسُوا؛ لأنَّه خبَرٌ لفظًا ومعنًى، وأرْسُوا
إنشاءٌ لفظًا ومعنًى؛ لأنَّه أمرٌ، وكلُّ أمرٍ كذلكَ. وقد مَرَّ عن صاحبِ
عروسِ الأفراحِ أنَّ ذلكَ مانِعٌ من العطْفِ باتِّفاقِ البيانِيِّينَ
باعتبارِ مقتَضَى البلاغةِ وما يَجبُ أن يُراعَى. وأمَّا عندَ أهلِ اللغةِ
ففيه الخلافُ المارُّ، قال: ومَن مَنَعَ العطْفَ منهم فمَنَعَهُ بالنظرِ
للبلاغةِ ومراعاةِ المطابقةِ بمُقْتَضَى الحالِ، ومن جوَّزَه منهم
فتَجويزُه بالنظرِ للغةِ لا بالنظرِ للبلاغةِ ومراعاةِ المطابَقةِ
بمُقتَضَى الحالِ، فلا خلافَ بينَ الفريقيْنِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الجائزَ
لغةً إذا لم يكن نادرًا لا يُنَافِي البلاغةَ، فإنَّ قيلَ: أرادَ أنَّ
الفصْلَ عندَ كمالِ الانقطاعِ واجبٌ في مقامٍ ممتَنِعٌ في آخَرَ، قُلْنَا:
هذا ممَّا لم يَذكروهُ ولم يَتعرَّضُوا لهُ أصْلاً، تأمَّلْ دسوقيًّا.
والرائدُ هو الذي يَتقدَّمُ القومَ لطلَبِ الماءِ والكَلأِ، وأَرْسُوا أي:
أقيموا بهذا المكانِ المناسِبِ للحربِ، وهو مأخوذٌ من أَرْسَيْتُ السفينةَ،
حبستُها في البحرِ بالمَرساةِ، وهي حديدةٌ تُلْقَى في الماءِ متَّصلَةً
بالسفينةِ فتَقِفُ، ونُزَاولُها أي: نُحاوِلُ أمْرَ الحربِ ونُعالِجُها. (12) وقوله: ( فحتْفُ كُلِّ إلخ) عِلَّةٌ
لمحذوفٍ، أي: ولا تَخافوا من الحتْفِ؛ لأنَّ حتفَ أيْ موتَ كُلِّ امرئٍ أيْ
نفسٍ يَجري بقدَرِ اللَّهِ تعالى، لا الجُبْنُ يُنجِيه، ولا الإقدامُ
يُردِيه. قالَ في عروسِ الأفراحِ: والجملةُ الأُولى، وهي أَرْسُوا في
البيتِ، وإن كانَ لها محَلٌّ باعتبارِ الحكايةِ؛ لأنَّ قالَ متسلِّطٌ عليها
على المشهورِ، إلاَّ أنَّها مستأنَفةٌ لا محَلَّ لها باعتبارِ المحكِيِّ،
والمقصودُ هنا إنَّما هو تعليلُ عدَمِ وصْلِ المحكِيِّ عنه ا.هـ بتصرُّفٍ. (13) قولُه: (أو بأن لا يكونَ بينَهما مناسَبةٌ في المعنى)،
أي: مع اتِّفاقِ الجملتيْنِ في الخبريَّةِ والإنشائيَّةِ؛ لئلاَّ يَدخُلَ
القِسْمُ الأوَّلُ في هذا أيضًا بأن لا تكونَ مناسَبةٌ بينَ المُسْنَديْنِ
والمُسْنَدِ إليهما معًا، نحوُ: زيدٌ قائمٌ، العِلْمُ حسَنٌ، ومنهُ مثالُ
الكِتابِ حيثُ لا مناسبةَ في المعنى بينَ عليٍّ والحمَامِ، كما لا
مُناسَبةَ بينَ الكتابةِ والطيرانِ، أو بينَ المُسْنَدِ إليهما فقطْ، نحوُ:
زيدٌ طويلٌ وعمرٌو قصيرٌ، حيثُ لا مُناسبَةَ بينَ زيدٍ وعمرٍو من صداقةٍ
وغيرِها، وإن تَحقَّقَ بينَ الطولِ والقِصَرِ التضادُّ، أو بينَ
المُسْنَدَيْنِ فقطْ نحوُ: زيدٌ طويلٌ وعمرٌو قائمٌ، عندَ فرْضِ الصداقةِ
بينَ زيدٍ وعمرٍو. (14) قولُه: (ويُقالُ في هذا الموضِعِ)، أي:
بقِسمَيْه، أعْنِي ما إذا كان بينَ نِسبَتِي الجملتيْنِ تبايُنٌ تامٌّ، وما
إذا انْتَفَت المناسَبةُ بينَ طَرَفَي كلٍّ من الجملتيْنِ مع اتِّفاقِ
نِسبتَيْهِما في الخبريَّةِ والإنشائيَّةِ. (15) وقوله: ( إنَّ بينَ الجملتيْنِ كمالَ الانقطاعِ)، أي: كما يُقالُ ذلكَ في الموضِعِ الثاني من الوصْلِ والعطْفِ هناكَ لدَفْعِ الإيهامِ. (16) قولُه: (كونُ الجملةِ الثانيةِ جوابًا عن سؤالٍ إلخ)،
أي: إمَّا عن مُطلَقِ سببِ الحكْمِ أي المحكومِ به الكائنِ في الجملةِ
الأولى بأن يكونَ التصديقُ بوجودِ السببِ حاصلاً للسائلِ، إلاَّ أنَّه
جاهلٌ حقيقةَ السببِ، فيَطلُبُ بما المقَدَّرَةِ شرْحَ ماهيَّتِه،
والتصديقُ الحاصلُ بوجودِ سببٍ معيَّنٍ حينئذٍ ضِمنِيٌّ ليسَ مقصودًا
للسائلِ نحوُ: قالَ لي كيفَ أنتَ قُلْتُ عليلُ ..... سَهَرٌ دائمٌ وحزْنٌ طويلُ فعليلٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه أي: أنا عليلٌ، وهذه الجملةُ مَنشأُ
السؤالِ أي: ما بالُكَ عليلاً؟ أو ما سببُ عِلَّتِكَ؟ وذلكَ أنَّه إذا
قيلَ: فلانٌ مريضٌ، لم يَتَصَوَّر السامعُ منه إلاَّ مجرَّدَ المرضِ،
ويَبقى السببُ مجهولاً، فيقولُ: ما سببُ مرضِه؟ فيكونُ السؤالُ عبارةً عن
طلَبِ تَصوُّرِ السببِ؛ لكونِه جاهلاً به، وإجابةُ ذلكَ السؤالِ
التصوُّرِيِّ بسببٍ خاصٍّ يَحصُلُ مطلوبُ السائلِ، أعْنِي تَصَوُّرَ سببِ
المرضِ مع التصديقِ بكونِ السببِ الخاصِّ سببًا، إلاَّ أنَّ هذا التصديقَ
لمَّا لم يُغايِر التصديقَ الحاصلَ للسامعِ قبلَ السؤالِ لم يكن هذا
السؤالُ إلاَّ لتصوُّرِ ماهيَّةِ السببِ، وحينئذٍ يكونُ السائلُ خاليَ
الذهْنِ من السببِ، وطالبًا لتَصوُّرِ السببِ المطلَقِ، فلا يؤكِّدُ
الكلامَ الملْقَى إليه؛ لأنَّ التأكيدَ إنَّما يَجيءُ لطالبِ الحكْمِ.
والجملةُ الاسميَّةُ في الجوابِ، أعْنِي سَهَرٌ دائمٌ إلخ، وإن كانت من
المؤكِّداتِ كما مَرَّ إلاَّ أنَّها لا تكونُ من المؤكِّداتِ إلاَّ إذا
انضَمَّ إليها مؤكِّدٌ، وإلاَّ فلا كما هنا، فعَدَمُ التأكيدِ هنا دليلٌ
على أنَّ السائلَ طالبٌ لتصوُّرِ السببِ مُطلَقًا، فافْهَمْ ومن ذلك: • جَزَى اللَّهُ الشَّدَائِدَ كلَّ خيرٍ * البيتَ، أي: لم تقولُ هذا
ويْحَكَ، وما الذي اقتَضَاكَ أن تُخالِفَ غيرَك بالترَضِّي عن الشدائدِ
وعَدَمِ بُغضِها؟ وإمَّا عن سببٍ خاصٍّ لهذا الحكْمِ أي المحكومِ به
الكائنِ في الجملةِ الأولى، يَسألُ السائلُ عنه: هل هو حاصلٌ أو غيرُ
حاصلٍ؟ فيكونُ المقامُ مقامَ أن يَترَدَّدَ في ثبوتِه؛ فلذا يُستَحْسَنُ
الإتيانُ بجوابِه مؤكَّدًا بمؤكِّدٍ واحدٍ، نحوُ: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}، فجملةُ ولا تُخاطِبْني إلخ منشأُ السؤالِ، أي: هل استَحَقُّوا العذابَ؟ وقولُه: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أيْ: محكومٌ عليهم بالإغراقِ، فلا سبيلَ إلى كَفِّه. هذا هو الاستئنافُ، ونحوُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}،فجملةُ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} منشأُ السؤالِ، وقولُه: {إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}
هذا هو الاستئنافُ، والسؤالُ المقدَّرُ: هل جِنسُ النفسِ مجبولةٌ على
الأمرِ بالسوءِ، فلا براءةَ لهذه النفسِ الشريفةِ المزكَّاةِ؟ فأُجيبَ:
نعمْ، إنَّ جنسَ النفسِ آمِرةٌ بالسوءِ مجبولةٌ عليه، فيكونُ هو السببُ
لنفيِ التَّبْرِئَةِ، وليسَ السؤالُ المقدَّرُ: ما سببُ عدَمِ تَبرِئَتِكَ
لنفسِكَ على ما سَبَقَ إليهِ الوهْمُ؛ لأنَّه معلومٌ، وهو الهَمُّ المفهومُ
من قولِهِ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}.
عبدُ الحكيمِ. إن قُلْتَ: ما وجهُ تأكيدِ الاستئنافِ في هذهِ الآيةِ بأنَّ
واللامِ واسميَّةِ الجملةِ، وهو مقامُ ترَدُّدٍ وطلبٍ تَنزيليٍّ لا
يَحسُنُ فيه إلاَّ مؤكِّدٌ واحدٌ؟ قلتُ: وجهُه، واللَّهُ أعلَمُ، هو وجودُ
الظنِّ القويِّ في خلافِ الحكْمِ المؤكِّدِ هنا؛ لأنَّ حالَ الأنبياءِ عندَ
من عَرَفَ زكاتَها يُبْعِدُ التردُّدَ في كونِ نفسِه عليه السلامُ تأمُرُ
بالسوءِ، ولكن لمَّا نَفَى تَبرئةَ النفسِ عن موجباتِ نُقصانِها صارَ
المقامُ مقامَ التردُّدِ باعتبارِ أصلِ معناهُ، كما نَقَلَهُ الدسوقيُّ عن
تقريرِ شيخِه العدويِّ، وعن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّه لمَّا
قالَ {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قالَ له جِبْرِيلُ عليه السلامُ: أَوَملَكٌ آخَرُ ولا حينَ هَمَمْتَ؟ فقالَ: وما أُبَرِّئُ نَفْسي ا.هـ. • وفي الْبَيْضَاوِيِّ: إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسوءِ من حيثُ إنَّها
بالطبْعِ مائلةٌ إلى الشهواتِ فتَهِمُّ بها، وتُستَعْمَلُ القُوى والجوارحُ
في أثَرِها كلَّ الأوقاتِ، {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي}:
إلاَّ وقتَ رحمةِ ربِّي، أو إلاَّ ما رَحِمَهُ اللَّهُ من النفوسِ
فعَصَمَهُ من ذلكَ. وقيل الاستثناءُ منقطِعٌ، أي: ولكنَّ رحمةَ ربي هي التي
تَصْرِفُ الإساءةَ ا.هـ. يعني أنَّ الأمرَ مجازٌ عن الهمِّ أي القصدِ
والعزْمِ الذي يَتبعُه استعمالُ القُوَى والجوارحِ غالبًا، وهو إشارةٌ
لوجهِ الشبهِ؛ فإنَّ في الأمرِ استعمالاً لها بالقولِ، وفي الهمِّ
استعمالاً لها بالحَمْلِ عليه، وكونِه في كلِّ الأوقاتِ مأخوذًا من صيغةِ
المبالَغةِ. خفاجيٌّ. وبيانُ ذلكَ أنَّ استحسانَ التأكيدِ بمؤكِّدٍ في
مقامِ التردُّدِ والطلَبِ لا يُشترَطُ فيه عندَ الجمهورِ وجودُ الظنِّ في
خلافِ الحكْمِ المؤكَّدِ خلافًا للشيخِ عبدِ القاهرِ، وعليه فيكونُ
التأكيدُ بمؤكِّدٍ واحدٍ في المقامِ المذكورِ حيثُ لم يُوجَد الظنُّ في
خلافِ الحكْمِ المؤكَّدِ، أمَّا إذا وُجِدَ الظنُّ في ذلكَ كما هنا فإنَّه
يَحسُنُ الزيادةُ على مؤكِّدٍ واحدٍ بحَسْبِ قوَّةِ الظنِّ وضَعفِه؛ لأنَّ
المخاطَبَ يكونُ بمنزِلةِ المنكِرِ بالنظرِ إلى الظنِّ المذكورِ، وإن كان
المقامُ مقامَ تردُّدٍ باعتبارِ أصلِ المعنى. كذا ظهَرَ لي فتأمَّلْهُ
بإنصافٍ، وسيأتي عن ابنِ يعقوبَ أنَّ الظنَّ في خلافِ الحكْمِ يَقتضي
التأكيدَ، فلِلَّه الحمْدُ. وأمَّا عن غيرِهما، أي: غيرِ السببِ الخاصِّ
وغيرِ السببِ المُطلَقِ، وهو شيءٌ آخرُ له تعلُّقٌ بالجملةِ الأولى، يَقتضي
المقامُ السؤالَ عنهُ إمَّا عامٌّ نحوُ: {قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ}،
أي: قالَ الرسُّلُ، أعني الملائكةَ المرسَلينَ لقومِ لوطٍ: نُسلِّمُ عليكَ
يا إبراهيمُ سلامًا، وهذه الجملةُ هي منشأُ السؤالِ، أي: فماذا قال
إبراهيمُ في جوابِ سلامِهم؟ فقيلَ: قالَ: سلامٌ عليكم، أي حيَّاهم بتحيَّةٍ
أحسَنَ؛ لكونِها بالجملةِ الاسميَّةِ الدالَّةِ على الدوامِ والثباتِ، كذا
قيلَ. ولا شكَّ أنَّ قولَ إبراهيمَ: سلامٌ، ليس سببًا لسلامِ الملائكةِ لا
عامًّا ولا خاصًّا. وعامٌّ في حدِّ ذاتِه، وأمَّا خاصٌّ كقولِه: زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أنَّني في غَمرةٍ ..... صَدَقوا ولكنْ غَمْرتي لا تَنْجَلي وقولُه: جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَه ..... إنَّ بني عمِّكَ فيهم رِماحُ فجملةُ زَعَمَ العواذلُ إلخ منشأُ سؤالٍ مقدَّرٍ؛ لأنَّ الزعْمَ مطيَّةُ
الكذِبِ، فيُفهَمُ أنَّ ما زَعَموه يَحتمِلُ الصدْقَ وعدمَه، فكأنَّه قيلَ:
أصَدَقُوا في ذلكَ الزعْمِ أم لا؟ وقولُه: صَدَقوا جوابُ ذلكَ السؤالِ
المقدَّرِ، وأتى به فعلاً ليُطابِقَ السؤالَ، ولم يُؤَكِّدْ مع أنَّ
الأنسبَ بكونِ الزعمِ مطيَّةَ الكذِبِ الظنُّ في خلافِ الحكْمِ لا مجرَّدَ
الشكِّ، وذلكَ الظنُّ يَقتضي التأكيدَ كما في ابنِ يعقوبَ على التلخيصِ؛
لأنَّ التأكيدَ تَقديريٌّ معهُ بمثلِ القَسَمِ، أي: صَدَقوا واللَّهِ
مثلاً. وجملةُ جاءَ شقيقٌ إلخ منشأُ سؤالٍ صادرٍ من شقيقٍ مقدَّرٍ، أي: هل
في بني عَمِّي رِماحٌ أم لا؟ وقولُه: إنَّ بني عَمِّك إلخ، جوابُ ذلكَ
السؤالِ المقدَّرِ. (17) قولُه: (نَشأَ من الجُمْلةِ الأُولى)، أيْ:
فوجَبَ فصْلُ الجملةِ الثانيةِ عن الجملةِ الأُولى، ويُسمَّى الفصْلُ
لذلكَ استئنافًا، كما تُسمَّى الجملةُ الثانيةُ نفسُها استئنافًا
ومستأنَفةً، وإنَّما وَجَبَ فصلُها عنها إمَّا لتنزيلِها منزِلةَ السؤالِ؛
لكونِها مشتمِلةً عليه ومُقتضيَةً له، كما قالَ صاحبُ التلخيصِ، وإمَّا
لتنزيلِ ذلكَ السؤالِ الذي تَقتضيهِ وتَدُلُّ عليهِ بالفَحْوَى، أيْ:
بالمفهومِ، منزِلَةَ السؤالِ الواقعِ كما قالَ السكَّاكِيُّ. والسؤالُ
والجوابُ المُحقَّقانِ إنْ نُظِرَ إلى مَعْنَيَيْهِما فبينَهما شِبهُ كمالِ
الاتِّصالِ إذٍ، كما أنَّ الجملةَ الأُولى في الأقسامِ الثلاثةِ التي
انْحَصَرَ فيها كمالُ الاتِّصالِ، أعْنِي البدَلَ والبيانَ والتأكيدَ،
مستَتْبِعَةٌ للثانيةِ، ولا تُوجدُ الثانيةُ بدونِ الأُولى، كذلكَ السؤالُ
مُستَتْبِعٌ للجوابِ، والجوابُ لا يُوجَدُ بدونِ السؤالِ، وحينئذٍ فكلٌّ من
صورةِ السؤالِ والجوابِ والاستئنافِ من شِبهِ كمالِ الاتِّصالِ، وإنْ
نُظِرَ إلى لفظَيْهِما فبينَهما كمالُ الانقطاعِ؛ لكَوْنِ السؤالِ إنشاءً
والجوابِ خبرًا، أو إنْ نُظِرَ إلى قائلَيْهما فكلٌّ منهما كلامُ
مُتَكلِّمٍ، ولا يُعطَفُ كلامُ متكلِّمٍ على كلامِ متكلِّمٍ آخَرَ غالبًا،
ومِنْ غيرِ الغالبِ ما يُقالُ: وعليكُم السلامُ، عطْفًا على السلامُ عليكم،
فَعَلى جميعِ التقاديرِ الفصْلُ مُتعيِّنٌ، وليْسَت الواوُ للعطفِ في قولِ
الشاعرِ: * فلا صَبْرٌ يَبدُو وفي اليَأْسِ راحةٌ * معَ أنَّ قولَهُ: وفي اليأسِ راحةٌ، جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ اقتضَتْهُ
الأُولى، أيْ: ما تَصنَعُ بهِ، وإنَّما هيَ للاستئنافِ. وليسَ قولُه تعالى:
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآيةَ، جوابًا لسؤالٍ نَشأَ من الآيةِ الأُولى، أَعْنِي قولَهُ تعالى: {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ وذلكَ لأنَّ الآيةَ
الأُولى نزَلَتْ في مَنْعِ الرسولِ عليهِ السلامُ من الاستغفارِ لعَمِّهِ،
ومنْعِ المؤمنيِنَ من الاستغفارِ لآبائِهم محتَجِّينَ في ذلكَ بأنَّ
إبراهيمَ استغْفَرَ لأبيهِ على ما في الكشَّافِ. فالآيةُ الأُولى منْعٌ لهم
عن الاستغفارِ للآباءِ والأقرَبينَ، والثانيةُ جوابٌ لتَمسُّكِهم
باستغفارِ إبراهيمَ، فعَطَفَ الثانيةَ عليها للتناسُبِ، فافْهَم هذا.
وتنزيلُ الجملةِ الأُولى منزِلةَ السؤالِ، أو تنزيلُ السؤالِ المقدَّرِ
مَنزلةَ السؤالِ الواقعِ، إنَّما يكونُ لنُكْتَة:ٍ (1) كإغناءِ السامعِ عن
أن يَسألَ تعظيمًا لهُ أو شَفقةً عليهِ. (2) أو إرادةِ أن لا يَسمَعَ من
السامعِ شيئًا تحقيرًا لهُ وكراهةً لكلامِهِ. (3) أو إرادةِ أن لا
يَنقَطِعَ كلامُكَ بكلامِ السامعِ لِئلاَّ يَفوتَ انسياقُ الكلامِ الذي
قَصَدَ أن لا يُنسَى منهُ شيءٌ. (4) أو إرادةِ تكثيرِ المعنى بتقليلِ
اللفظِ؛ وذلكَ بسببِ تقديرِ السؤالِ وترْكِ العاطِفِ. (5) أو إرادةِ
التنبيهِ على فَطانةِ السامعِ، وأنَّ المقدَّرَ عندَه كالمذكورِ. (6) أو
إرادةِ التنبيهِ على بَلادةِ السامعِ وعدمِ تَنَبُّهِه لذلكَ إلاَّ بعدَ
إيرادِ الجوابِ عنهُ؛ حيثُ لم يُورد السؤالَ بعدَ إلقاءِ المتكلِّمِ
الجملةَ الأولى التي هيَ منشأُ السؤالِ. (18) قولُه: (كقَوْلِه: جَزَى اللَّهُ الشدائدَ إلخ)،
أي: فجملةُ جَزَى اللَّهُ إلخ مَنشأُ سؤالٍ مقَدَّرٍ عن مطلَقِ سببِ
الحكْمِ، أي: ما سببُ دعائِكَ للشدائدِ على خِلافِ ما اعتادَه الناسُ؟
وقولُه: عَرَفْتُ بها إلخ، هذا هو الاستئنافُ. (19) قولُه: (ويُقالُ: بينَ الجملتيْنِ)، أي: الأُولى التي هيَ مَنشأُ السؤالِ المقدَّرِ، والثانيةُ التي هيَ مُستأنَفةٌ جوابًا لذلكَ السؤالِ المقدَّرِ. (20) وقوله: ( شِبْهُ كَمالِ الاتِّصالِ)، أي:
لِمَا عَلِمْتَ من أنَّه كما أنَّ الجملةَ الأُولى في الأقسامِ الثلاثةِ
التي انْحَصَرَ فيها كمالُ الاتِّصالِ، أعْنِي البدَلَ والبيانَ والتأكيدَ،
مستتْبِعَةٌ للثانيةِ، ولا تُوجَدُ الثانيةُ بدونِ الأُولى، ذلكَ السؤالُ
مستتْبِعٌ للجوابِ، والجوابُ لا يُوجَدُ بدونِ السؤالِ، وكذلكَ ما كانَ
بمنزِلةِ الجوابِ والسؤالِ، وهو الاستئنافُ وما قبلَهُ، وحينئذٍ فكلٌّ من
صورةِ السؤالِ والجوابِ والاستئنافِ من شِبهِ كمالِ الاتِّصالِ، وليست
صورةُ الجوابِ والسؤالِ داخلةً في صورةِ البيانِ كما قيلَ؛ لأنَّ الجوابَ
لا يَدفَعُ الإبهامَ الذي في السؤالِ؛ إذ لا إبهامَ فيه، إنَّما يَدفَعُ
الإبهامَ الذي في مَوْرِدِ السؤالِ. أفَادَه الدسوقيُّ عن عبدِ الحكيمِ. (21) قولُه: (لوجودِ المناسَبةِ)، أي: الجامعُ
العقليُّ أو الوهميُّ أو الخياليُّ بينَ المُسْنَدَيْنِ والمُسْنَدِ إليهما
في الجملةِ المسبوقةِ وإحدى السابقتيْنِ عليها كما سيَتَّضِحُ لكَ،
والمناسَبةُ التي لا تُناسِبُ كمالَ الانقطاعِ ولا شِبهَهُ هيَ المصحِّحَةُ
للعطْفِ بخلافِ هذهِ المناسَبةِ، فإنَّها غيرُ مصحِّحةٍ للعطْفِ؛ لأنَّ
معها الإبهامَ المُنافِي للعطْفِ، فيَصِحُّ وجودُها هنا، فافْهَمْ. (22) قولُه: (فسادٌ)، أي: خلَلٌ في المعنى، كما سيَتَّضِحُ ذلكَ في المثالِ الآتي. (23) قولُه: (فيُترَكُ العطْفُ)، أي: للجملةِ
المسبوقةِ على إحدى السابقَتَيْنِ التي تُناسِبُها في كلٍّ من المُسْنَدِ
والمُسْنَدِ إليهِ، وقولُه: (دفْعًا للوَهْمِ)، أي: وهْمِ السامعِ عَطْفَها
على غيرِ المقصودِ، ويُسمَّى الفصْلُ، أي: ترْكُ العطْفِ لدفْعِ الوهْمِ،
قطعًا، إمَّا لقَطْعِه لِتَوَهُّمِ السامعِ خلافَ المرادِ، وإمَّا لأنَّ
كلَّ فصْلٍ قُطِعَ، فيكونُ من تَسميةِ المقيَّدِ باسمِ المطلَقِ. (24) قولُه: (كقولِه: وتَظُنُّ سَلْمَى إلخ)، فكلٌّ من قولِه: (وتَظُنُّ سَلْمَى)، وقولِه: (أُراها في الضلالِ تهيمُ)،
جملةٌ خبريَّةٌ وبينَهما مناسَبةٌ لوجودِ الجِهةِ الجامعةِ، وهي
الاتِّحادُ بينَ مُسْنَدَيْهِما، وهي تَظُنُّ وأُرَى؛ لأنَّ مَعْنَى أُرَى
أظُنُّ، وشِبْهُ التضايُفِ بينَ المُسْنَدِ إليهما فيهما، وهو الضميرُ
المستَتِرُ في تَظُنُّ وأُراها؛ فإنَّ الأوَّلَ عائدٌ على سَلْمَى وهي
محبوبةٌ، والثاني عائدٌ على الشاعرِ وهو محبٌّ، وكلٌّ من المحِبِّ
والمحبوبِ يُشبِهُ أن يَتوقَّفَ تعقُّلُه على تَعَقُّلِ الآخَرِ، فلو عطَفَ
جملةَ أُراها على جملةِ تَظُنُّ سَلْمَى لكانَ صحيحًا؛ إذْ لا مانِعَ من
عطفِها عليها إذ المعنى حينئذٍ أنَّ سَلْمَى تَظُنُّ كذا وأَظنُّها كذا،
وهذا المعنى صحيحٌ ومرادٌ للشاعرِ، إلاَّ أنَّهُ قَطَعَها ولم يَقُلْ
وأُراها؛ لِئَلاَّ يَتوَّهَمَ السامعُ أنَّها عطْفٌ على أبْغِي، وحينئذٍ
يَفْسُدُ المعنى المرادُ، إذ المعنى حينئذٍ أنَّ سَلْمَى تَظُنُّ أنَّني
أبْغِي بها بَدَلاً، وتَظُنُّ أيضًا أنَّني أظنُّها تَهيمُ في الضلالِ،
وليس هذا مرادَ الشاعرِ؛ لأنَّ مرادَهُ أنَّني أحكُمُ على سَلْمَى بأنَّها
أَخطأَتْ في ظَنِّها أنِّي أبْغِي بها بدَلاً، ويَدُلُّ على أنَّ مرادَه ما
ذُكِرَ قولُه قبلَ ذلكَ: زَعَمَتْ هواكَ عَفَا الغَداةَ كما عَفَا ..... عنها طِلالٌ باللِّوَى ورُسومُ ودَعْوَى أنَّ الوصْلَ كما يُوهِمُ هنا خلافُ المرادِ، كذلكَ الفصْلُ
يُوهِمُ خلافَ المرادِ؛ لأنَّه يَجوزُ أن يكونَ أُراها خبرًا لأنَّ بَعْدُ
خبرًا وحالاً، أو بَدَلاً من أبْغِي، مدفوعةٌ بأنَّ الأصلَ في الجمَلِ
الاستقلالُ، وإنَّما يُصارُ إلى كونِها في حكْمِ المفرَدِ إذا دَلَّ عليه
الدليلُ. على أنَّ الشيخَ عبدَ القاهرِ نَصَّ على أنَّ ترْكَ العطْفِ بينَ
الجمَلِ الواقعةِ أخبارًا لا يَجُوزُ. دسوقيٌّ عن عبدِ الحكيمِ. نعمْ كما
يَجوزُ أن تكونَ جملةُ أُراها غيرَ استئنافٍ بأنْ يُقصَدَ بها الإخبارُ
كالتي قبلَها، أعني جملةَ تَظُنُّ، من غيرِ تقديرِ سؤالٍ مَنشؤُهُ جملةُ
تَظُنُّ، تكونُ هي جوابًا عنهُ، فيكونُ المانِعُ من العطْفِ هو الإبهامُ
السابقُ، ويكونُ البيتُ من أمثلةِ شِبْهِ كمالِ الانقطاعِ، كذلكَ يَجوزُ أن
تكونَ مستأنَفةً بأن يُقَدَّرَ سؤالٌ تكونُ هي جوابًا عنهُ، فيكونُ
المانِعُ من العطْفِ كوْنَ جملةِ أُراها كالمتصِلَّةِ بجملةِ تَظُنُّ؛
لاقتضاءِ جملةِ تَظُنُّ السؤالَ عن غيرِ السببِ العامِّ والخاصِّ، أو
تنزيلِها بمنزِلةِ السؤالِ عن ذلكَ، كأنَّهُ قيلَ: كيفَ تَراها في هذا
الظَّنِّ، أهوَ صحيحٌ أم لا؟ والجوابُ يَنفصِلُ عن السؤالِ لما بينَهما من
الاتِّصالِ كما عَلِمْتَ، ويكونُ البيتُ من أمثلةِ شِبهِ كمالِ الاتِّصالِ. (25) قولُه: (مع أنَّهُ ليسَ مُرادًا)، أي: بدليلِ قولِ الشاعرِ قبلَ ذلكَ: زَعَمَتْ هواكَ، البيتَ كما عَلِمْتَ. (26) قولُه: (ويُقالُ: بينَ الجملتيْنِ في هذا الموضعِ شِبهُ كمالِ الانقطاعِ)،
أي: باعتبارِ اشتمالِه على مانعٍ من العطْفِ، وهو إيهامُ خلافِ المرادِ،
مع وجودِ المصحِّحِ للعطْفِ، وهو التغايُرُ الكلِّيُّ، إلاَّ أنَّ ذلكَ
المانِعَ لمَّا كان خارجيًّا عن ذاتِ الجملتيْنِ يمكِنُ دفعُه بنصْبِ
قرينةٍ بخلافِ المانِعِ في كمالِ الانقطاعِ، فهو أمْرٌ ذاتيٌّ لا يُمكِنُ
دفْعُهُ أصْلاً، وهو كونُ إحداهِما خبريَّةً، والأخرى إنشائيَّةً، أو لا
جامِعَ بينَهما، لم يُجْعَلْ هذا من كمالِ الانقطاعِ. (27) قولُه: (في الحكْمِ)، يعني حكمَ الإعرابِ،
أي: الأمرُ الموجِبُ للإعرابِ كالخبريَّةِ والحاليَّةِ، إن كان للأُولى
محَلٌّ من الإعرابِ، أو قَيْدٌ زائدٌ على مفهومِ الجملةِ الأُولى إذا لم
يكنْ لها محَلٌّ من الإعرابِ، وقولُه: (لقيامِ مانِعٍ) أي: من العطْفِ، وهو لزومُ تشريكِ الثانيةِ في حكْمِ الأُولى، وهو غيرُ مرادٍ. (28) قولُه: (فجملَةُ اللَّهُ يَستهزئُ بهم، لا يَصِحُّ عطفُها على إنَّا معكم، ولا على جملةِ قالوا إلخ). أي: ولا على مجموعِ جملةِ الشرْطِ والجوابِ، التي هي قولُه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}، مع صحَّةِ العطْفِ على جملةِ الشرطِ والجزاءِ معًا، كقولِه تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، فقولُه: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}
معطوفٌ على مجموعِ الشرطِ والجزاءِ، لا على الجوابِ؛ إذ لا معنى لقولِنا:
إذا جاءَ أجَلُهم لا يَستقدِمُونَ، ومع وجودِ الجامعِ فإنَّ الاستهزاءَ في
الثانيةِ موافقٌ في المعنى لقولِهم في خَلَواتِهم؛ إذ قولُهم ذلكَ استهزاءٌ
واستخفافٌ بحقِّ المؤمنيِنَ باللَّهِ تعالى، والاستهزاءُ بالمؤمنِ
باللَّهِ تعالى استهزاءٌ بجانِبِه تعالى في نفسِ الأمْرِ، فالاستخفافُ في
الجملةِ مشترَكٌ بينَ الجملتيْنِ، والمُسْنَدُ إليهما بينَهما مناسَبةُ
العداوةِ التي هي كالتضايُفِ؛ لئلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّه معطوفٌ على جملةِ
قالوا أو جملةِ إنَّا معكم، فيُفيدُ الأوَّلُ الاختصاصَ بحالِ الخُلوةِ،
والثاني بكونِه مقولَ الكَفَرَةِ، وكلُّ ذلكَ غيرُ صحيحٍ، وتكونُ الآيةُ
على هذا من أمثلةِ شِبْهِ كمالِ الاتِّصالِ. نعمْ قد يُقالُ: إنَّ ما
ذُكِرَ في تقريرِ الجامعِ هنا يَقْتَضي أنَّ الجامعَ إنَّما يُعتَبَرُ بينَ
جُمْلَتي الجوابِ والمعطوفِ، وهو وإن كان موافقًا لجعْلِ أهلِ العربيَّةِ
جملةَ الشرطِ فَضْلَةً كسائِرِ الفَضَلاتِ، فلا يُعتبَرُ لها جامعٌ، إلاَّ
أنَّه يَستلزِمُ عدَمَ الفرْقِ بينَ عطْفِ جملةِ اللَّهُ يَستهزئُ بهم على
جملةِ الجوابِ فقطْ، أو عليهِ مع الشرْطِ مدْرَجًا في الجوابِ، حتَّى
كأنَّه فضْلةٌ من الفَضَلاتِ المعدودةِ في حيِّزِه في كونِ كلٍّ يُفيدُ
تقييدَ المعطوفِ بهِ، وهو اللَّهُ يَستهزئُ بهم، بحالِ خُلُوِّهم إلى
شياطينِهم، وهو غيرُ صحيحٍ، ويُجابُ بأنَّهُ وإن سُلِّمَ عدَمُ الفرْقِ
المذكورِ إلاَّ أنَّ التقييدَ عندَ اعتبارِ العطْفِ على مجموعِ جملةِ
الشرْطِ والجوابِ لا على الجوابِ فقط؛ إذا انتَفَى لمانِعٍ واضحٍ، كما في
قولِه تعالى: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، اقْتَضى العطْفَ، وإذا لم يَتَّضِح المانِعُ، كما في قولِه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}،
مُنِعَ العطفُ للإيهامِ؛ وذلكَ أنَّهُ وإن كانَ الظاهرُ المُتبادَرُ في
الخطابيَّاتِ تقييدَ المعطوفِ بقيْدِ المعطوفِ عليهِ المتقدِّمِ عليهِ
إلاَّ أنَّهُ قد يُخالِفُ الظاهرَ المُتبادَرَ لدليلٍ أقْوَى منهُ كما في
الآيةِ الأُولى، أعْنِي: فَإِذا جاءَ أجَلُهم لا يَستأْخِرونَ إلخ؛ فإنَّ
التقديمَ إذا جاءَ الأجَلُ مستحيلٌ استحالةً ظاهرةً فلا فائدةَ في نفيِه،
بخلافِ استهزاءِ اللَّهِ بهم إذا خَلَوْا إلى شياطينِهم في الآيةِ
الثانيةِ؛ فإنَّه ليسَ بهذه المثابةِ فافْهَم. ابنُ يعقوبَ بتلخيصٍ
وتوضيحٍ. (29) قولُه: (لاقتضائِه)، أي: عطْفُ اللَّهُ
يَستهزئُ بهم على إنَّا معكم، وقولُه: إنَّهُ، أي: اللَّهُ يَستهزئُ بهم من
مقولِهم، أي: الكَفَرَةِ، والحالُ أنَّهُ ليسَ كذلكَ، بل من مَقولِ
اللَّهِ تعالى، وقولُه: (لاقتضائِه)، أي: عطْفُ اللَّهُ يَستهزئُ بهم على جملةِ قالوا. (30) وقوله: ( إنَّ استهزاءَ اللَّهِ بهم مقيَّدٌ بحالِ إلخ)،
أي: كما قُيِّدَ المعطوفُ عليه به؛ وذلكَ لأنَّ المتعارَفَ في
الخَطابيَّاتِ تقييدُ الجوابِ بمضمونِ إذا مع الشرطِ، وإذا قُدِّمَ
متعلَّقُ الفعلِ، وهو إذا هنا، وعُطِفَ فِعْلٌ آخَرُ عليه يُفهَمُ اختصاصُ
الفِعْليْنِ به، كقولِنا يومَ الجُمُعَةِ: سِرْتُ وضَرَبْتُ زيدًا،
بدَلالةِ الفَحْوَى والذوْقِ؛ لأنَّهُ ليس طلبُ أحدِهما له بالأَوْلى من
الآخَرِ، بخلافِ ما إذا أُخِّرَ المتعلَّقُ عن أحدِهما وقُدِّمَ على
الآخَرِ، فقد صارَ المتقدَّمُ عليه هو المستحِقُّ له، فلا دليلَ ولا قرينةَ
على طلَبِ المتأخِّرِ له. هذا ما يُفيدُه كلامُ السعْدِ، قالَ: سَمِّ
وانظُرْ هل هذا أمْرٌ واجبٌ بحَسْبِ الاستعمالِ اعتبارُه في المعطوفِ نحوُ:
جاءني يومَ الجمعةِ أو راكبًا زيدٌ وعمرٌو، ولا يجوزُ في الاستعمالِ
خلافُه، بخلافِ ما إذا تأخَّرَ عن المعطوفِ عليه؛ فإنَّه لا يَجبُ أن يكونَ
معتَبرًا في المعطوفِ، فهل عطْفُ الجمَلِ الذي الكلامُ هنا فيه كذلكَ
محلُّ تردُّدٍ. انتَهَى كلامُه. (31) قولُه: (ويُقالُ بينَ الجملتيْنِ في هذا الموضعِ توسُّطٌ بينَ الكمالَيْنِ)،
أي: كما يُقالُ بينَ الجملتيْنِ في الموضعِ الأوَّلِ من الوصْلِ غيرَ أنَّ
الفصْلَ هنا لقصْدِ عدَمِ التشريكِ، كذا قيلَ. وفيه نظَرٌ من وجهيْنِ:
الأوَّلُ، أنَّه قد مَرَّ لكَ في الحاصِلِ أنَّهُ إذا قُصِدَ عدمُ التشريكِ
وجَبَ الفصْلُ في الأحوالِ الستَّةِ، أعْنِي التوسُّطَ بينَ الكمالَيْن،
وكمالَ الانقطاعِ مع الإيهامِ، وبدونِه، وكمالَ الاتِّصالِ، وشبْهَ كلٍّ من
الكمالَيْنِ، لا في خصوصِ التوسُّطِ بينَ الكمالَيْنِ. والثاني، أنَّ
التوسُّطَ بينَ الكمالَيْنِ عبارةٌ عن أن تَتَّفِقَ الجملتانِ خبرًا أو
إنشاءً، ويكونَ بينَهما جهةٌ جامعةٌ، أي: مناسَبةٌ تامَّةٌ، كما مَرَّ في
الكتابِ، وليس هو عبارةً عن أن لا يُقْصَدَ تشريكُ الجملتيْنِ في الحكْمِ
لقيامِ مانِعٍ كما يُفهَمُ صريحًا من قولِه: ويُقالُ بينَ الجملتيْنِ في
هذا الموضِعِ إلخ. فتأمَّلْ بإنصافٍ.
دروسُ البلاغةِ الصُّغْرى
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الفصْلِ
يَجبُ الفصْلُ في خمسةِ مواضعَ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ بينَ الجملتينِ اتِّحادٌ تامٌّ، بأنْ تكونَ الثانيةُ بَدَلاً من الأُولى، نحوُ:
{أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}.
أوْ بأنْ تكونَ بيانًا لها: نحوُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}.
أوْ بأنْ تكونَ مؤكِدَّةً لها، نحوَ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. ويُقالُ في هذا الموضِعِ: إنَّ بينَ الجملتينِ كمالَ الاتِّصالِ.
الثاني: أنْ يكونَ بينَ الجملتينِ تَبَايُنٌ تامٌّ، بأنْ يَختلِفَا خَبَرًا وإنشاءً، كقولِه:
لا تَسأَلِ الْمَرْءَ عَنْ خَلاَئِقِهِ ..... في وجهِه شاهدٌ من الْخَبَرِ
وقالَ رائدُهمْ: أَرْسُوا نُزَاوِلُها ..... فَحَتْفُ كلِّ امرئٍ يَجْرِي بِمِقْدارِ
وتَظنُّ سَلْمى أنَّنِي أَبْغِي بها ..... بَدَلاً أُرَاها في الضَّلالِ تَهِيمُ
حسن الصياغة للشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني
قال المؤلفون؛ حفني بن إسماعيل بن خليل ناصفٍ (ت: 1338هـ)، ومحمَّدُ ديابٍ بن إسماعيل بن درويش (ت: 1340هـ)، وسلطانُ محمَّدٍ (ت: بعد 1329هـ)، ومصطفى طَمُومٍ (ت: 1354هـ): (مواضعُ الفصْلِ (1)
يَجبُ الفصلُ(2) في خمسةِ مواضعَ(3):
(الأوَّلُ(4)) أن يكونَ بينَ الجملتين اتِّحادٌ تامٌّ(5) بأن تكونَ(6) الثانيةُ بدَلاً من الأُولى(7)، نحوُ(8)
{ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}(9)
أو بأن تكونَ(10) بياناً لها(11) نحوُ(12) { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ(13) الشَّيْطَانُ(14) قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ(15) } أو بأن تكونَ(16) مؤَكِّدَةً لها(17)، نحوُ(18): { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (19)
ويُقالُ فى هذا الموضعِ(20): إنَّ بيانَ الجملتين كمالُ الاتِّصالِ(21).
(الثاني)(22) أن يكونَ بينَ الجملتين تباينٌ تامٌّ(23) بأن يَختلفا خبراً وإنشاءً(24) كقولِه(25):
لا تَسْأَلِ المرءَ (26) عن خلائِقِه(27) ..... في وجهِه شاهدٌ من الخبرِ(28)
وكقولِ الآخَرِ(29): وقالَ رائدُهم(30) أَرْسُوا(31) نُزاوِلُها(32) ..... فحَتْفُ كلِّ امرئٍ يَجْري بمقدارِ(33) أو بأن لا يكونَ بينَهما(34) مناسَبةٌ في المعنى(35)،
كقولِك: عليٌّ كاتبٌ، الحمامُ طائرٌ، فإنه لا مناسَبةَ في المعنى بينَ
كتابةِ عليٍّ وطيرانِ الحمامِ(36)، ويُقالُ فى هذا الموضعِ(37) إنَّ بينَ
الجملتين كمالَ الانقطاعِ(38). (الثالث)(39) كونُ الجملةِ الثانيةِ جواباً عن سؤالٍ(40) نشأَ من الجملةِ الأُولى(41) كقولِه تعالى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي(42) إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}(43). ويُقالُ: بينَ الجملتين(44) شِبهُ كمالِ الاتِّصالِ(45). (الرابعُ(46)) أن تُسْبَقَ جملةٌ بجملتين يَصِحُّ عطفُها(47) على إحداهما(48) لوجودِ المناسَبَةِ(49) وفي عطفِها(50) على(51) الأخرى فسادٌ(52)، فيُتركُ العطفُ(53) دفْعاً للوَهْمِ(54)، كقولِه(55): وتَظُنُّ سَلْمَى أننى أَبْغِى(56) بها ..... بدَلاً(57) أُراها(58) فى الضلالِ تَهِيمُ(59) فجملةُ
(أُراها) يصِحُّ عطفُها على(60) تَظُنُّ(61)، لكن يَمْنَعُ من هذا(62)
توهُّمُ العطْفِ على جملةِ (أَبْغِى بها) فتكونُ الجملةُ الثالثةُ من
مظنوناتِ سَلْمى(63)، مع أنه ليس مراداً(64)، ويُقالُ: بينَ الجملتين فى
هذا الموضعِ شِبهُ كمالِ الانقطاعِ(65). (الخامسُ)(66)أن لا يُقصدَ تشريكُ الجملتين فى الحكْمِ(67) لقيامِ مانعٍ(68) كقولِه تعالى(69)
{ وَإِذَا خَلَوْا(70) إِلَى شَيَاطِينِهِمْ(71) قَالُوا(72) إِنَّا
مَعَكُمْ(73) إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(74) اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ(75) } فجملةُ: ((اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)) لاَ يصِحُّ عطفُها على(76) ((إنَّا معكُم))(77)؛ لاقتضائِه(78) أنه(79) من مَقُولِهم(80)، ولا على جملةِ قالوا(81)؛ لاقتضائِه(82) أنَّ استهزاءَ اللهِ بهم(83) مقيَّدٌ
بحالِ خُلُوِّهم إلى شياطينِهم(84). ويُقالُ بينَ الجملتين في هذا
الموضعِ(85) توسُّطٌ بينَ الكمالين(86). ___________________________ قال الشيخ علم الدين محمد ياسين بن محمد عيسى الفاداني المكي (ت: 1410هـ): ((1) (مواضعُ الفصْلِ) أي بالواوِ (2) (يَجِبُ الفصْلُ) أي: بالواوِ بينَ الجملتين اللتينِ لا إعرابَ لهما بحسَبِ البلاغةِ. (3) (في خمسةِ مواضعَ) كمالُ الاتِّصالِ وكمالُ
الانقطاعِ بلا إيهامٍ، وشِبهُ كمالِ الاتِّصالِ وشِبهُ كمالِ الانقطاعِ
والتوسُّطُ بينَ الكمالين مع الإيهامِ. الموضعُ (4) (الأوَّلُ) من مواضعِ الفصْلِ (5) (أن يكونَ بينَ الجملتين اتِّحادٌ تامٌّ) أي:
في المعنى كأنهما الشيءُ الواحدُ فيجِبُ الفصْلُ؛ إذ لو وُصِلَ وعُطِفَ
بالواوِ لكان بمنزلةِ عطْفِ الشيءِ على نفسِه لشدَّةِ المناسبَةِ بينَهما,
وهو ممتنِعٌ, وهذا الاتِّحادُ التامُّ يكونُ بأحدِ ثلاثةِ أمورٍ: الأمرُ
الأوَّلُ. (6) (بأن تكونَ) الجملةُ. (7) (الثانيةُ بدلاً من الأُولى) أي: بدَلَ
بعضٍ أو اشتمالٍ فقط يعني حيث كانت الأُولى قاصرةَ الدَّلالةِ على المعنى
المقصودِ لكونِها مُجْمَلةً أو خفيَّةً, والمقامُ يَقتضِي اعتناءً بشأنِ
النِّسبَةِ إلى هذا المعنى فإنه يُؤتَى بالثانيةِ بياناً وتقريراً
للنِّسبةِ، ولم يَقتصِرْ على الثانيةِ؛ لأن قصْدَها مرَّتين أوْكَدُ, وقد
علَّلَ جماعةٌ الفصْلَ في هذا القسمِ بأن المُبْدَلَ منه في نيَّةِ الطرْحِ
عن القصْدِ الذاتيِّ فصارَ العطْفُ عليه كالعطْفِ على ما لم يُذكَرْ
وقيلَ: لأن المُبْدَلَ والمُبْدَلَ منه كالشيءِ الواحدِ. (8) (نحوُ) قولِه تعالى حكايةً عن قولِ نبيِّه هودٍ عليه السلامُ لقومِه: { وَاتَّقُوا الذي } (9) { أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }
فإنَّ المعنى المقصودَ من هذا الخِطابِ التنبيهُ على جميعِ نِعَمِ اللهِ
والمقامُ يَقتضِي اعتناءً بشأنِه؛ لأن إيقاظَهم عن سِنَةِ غَفْلَتِهم عن
نِعَمِ اللهِ مطلوبٌ في نفسِه؛ لأنه تذكيرٌ للنِّعَمِ لتُشكَرَ, والشكْرُ
عليها ذريعةٌ إلى غيرِه كالإيمانِ والعملِ بالطاعةِ وكالتقوى المشارِ إليه
بقولِه تعالى: { وَاتَّقُوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}
والجملةُ الأُولى, وهي أمدَّكُم بما تَعلمون, غيرُ وَافيَةٍ بأداءِ هذا
المعنى؛ لأنها مُجْمَلةٌ إذ نِعَمُ اللهِ لم تكنْ مُسمَّاةً بنوعِها,
والجملةُ الثانيةُ, وهي أمدَّكُم بأنعامٍ وبنين, وافيةٌ به لدَلالتِها على
بعضِ تلك النِّعَمِ بالتفصيلِ حيث سُمِّيَتْ بنوعِها من غيرِ إحالةٍ في
تفصيلِها على عِلْمِهم, وهم معاندونَ لكفْرِهم؛ إذ ربَّما نَسَبَوا تلك
النعمَ إلى قدرتِهم جهْلاً منهم, ويَنسِبون له تعالى نِعَماً أخرى
كالإحياءِ والتصويرِ، وكانت هذه الثانيةُ من الأُولى بدَلَ بعضٍ من كلٍّ؛
لأن ما ذُكِرَ من النِّعَمِ في الثانيةِ بعضُ ما ذكِرَ في الأُولى. وأما
بدَلُ الاشتمالِ فنحوُ قولِ الشاعرِ: أقولُ له ارْحَلْ لا تُقِيمَنَّ عندَنا ..... وإلا فكنْ في السرِّ والجهْرِ مُسْلِمَا فإن المعنى المقصودَ للشاعرِ كمالُ إظهارِ الكراهةِ لإقامةِ
المتحدَّثِ عنه لديْهِم، والجملةُ الأُولى, وهي ارحلْ, غيرُ وافيةٍ به؛
لأنها تدُلُّ بالمُطَابَقَةِ على طلَبِ الرحيلِ وتدُلُّ بطريقِ اللزومِ على
كراهةِ الإقامةِ، والجملةُ الثانيةُ, وهي لا تُقِيمَنَّ عندَنا, وافيةٌ
به؛ لأنها تدُلُّ باعتبارِ الوضْعِ العُرْفِيِّ على إظهارِ كراهةِ إقامتِه
حتى إنه كثيراً ما يُقالُ لا تَقُمْ عندي ولا يَقْصِدُ بحسبِ العرْفِ
كفَّهُ عن الإقامةِ الذي هو المدلولُ اللغويُّ, بل مجرَّدَ إظهارِ
كراهيَّةِ حضورِه وإقامتِه والنونُ فيها دالَّةٌ على كمالِ هذا الإظهارِ
ومع كوْنِ هذه الثانيةِ وافيةً فهي بدَلُ اشتمالٍ من الأُولى؛ لأنَّ مفهومَ
هذه ليس بعضَ مفهومِ تلكَ ولا نفْسَه بل مُلابِسَه للتلازُمِ بينَهما
بحسَبِ الوجودِ. هذا وبِتقْيِيدِي البدَلَ بأنه بدَلُ بعضٍ أو اشتمالٍ فقط
خرَجَ بدَلُ الكلِّ وبدَلُ الغلَطِ فلا يكونُ كمالُ الاتِّصالِ فيهما، أما
بدَلُ الكلِّ فلأنه لا يُفارِقُ الجملةَ التأكيديَّةَ إلا باعتبارِ قصدِ
نقلِ النسبةِ إلى مضمونِ الجملةِ الثانيةِ في البدليَّةِ دونَ
التأكيديَّةِ, وهذا المعنى لا يَتحقَّقُ في الجمَلِ التي لا مَحَلَّ لها من
الإعرابِ؛ لأنه لا نِسبةَ بينَ الأُولى منها, وبينَ شيءٍ آخَرَ فيَنتقِلُ
إلى الثانيةِ وتُجعَلُ بدَلاً من الأُولى وإنما يُقصَدُ من تلك الجُملِ
استئنافُ إثباتِها وقيلَ: يكونُ كمالُ الاتِّصالِ فيه بأن يُنَزَّلَ قصْدُ
استئنافِ إثباتِها منزِلَةَ نقْلِ النسبةِ نحوُ قَنَعْنَا بالأسودَيْنَ
قنَعْنَا بالتمْرِ والماءِ، وأما بدَلُ الغلَطِ فإنه لا يَقعُ في فصيحِ
الكلامِ. قال الدُّسوقيُّ: وفيه أنَّ الذي لا يَقعُ في الفصيحِ الغلَطُ
الحقيقيُّ وأما إن كانَ غيرَ حقيقيٍّ بأن تَغَالَطَ أي: يَفعلَ المتكلِّمُ
فعْلَ الغالِطِ لغرَضٍ من الأغراضِ فهذا واقعٌ في الفصيحِ إلا أنه نادرٌ،
ونُدرتُه لا تَقتضي عدمَ دخولِ كمالِ الاتِّصالِ فيه. (10) (أو بأن تكونَ) الثانيةُ (11) (بياناً لها) أي: للأُولى لما فيها من
الخفاءِ, وهذا هو الأمرُ الثاني, يعني: حيث كانت الأُولى قاصرةً لخفاءِ
معناها والمقامُ يَقتضي إزالتَه فإنه يُؤْتَى بالثانيةِ على أنها عطْفُ
بيانٍ للإيضاحِ. (12) (نحوُ) قولِه تعالى: (13) {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} أي: إلى آدمَ عليه السلامُ. (14) {الشَّيْطَانُ} أي: أَلقَى الشيطانُ وسْوَستَه إليه فهذه الجملةُ فيها خفاءٌ؛ إذ لم تتبيَّنْ تلك الوسوسةُ فبُيِّنَتْ بقولِه: (15) ( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ)
وهذه الجملةُ الثانيةُ مفصولةٌ؛ لأن فيها تفسيراً وبياناً للأُولى, وأضافَ
الشجرةَ إلى الخُلْدِ بادِّعاءِ أنَّ الأكْلَ منها سببٌ لخلودِ الآكِلِ
وعدَمِ موتِه (اعلمْ) أنََّ الفرْقَ بينَ
البدَلِ وعطْفِ البيانَ مع اشتراكِهما في خفاءِ معنى الجملةِ السابقةِ هو
أنَّ المقصودةَ في البدَلِ هي الثانيةُ لا الأُولى, والمقصودةَ في عطْفِ
البيانِ هي الأُولى لا الثانيةُ، فالإيضاحُ في الأوَّلِ حاصلٌ غيرُ مقصودٍ
بالذاتِ، وفي الثاني حاصلٌ مقصودٌ بالذاتِ, وبعبارةٍ أخرى أنَّ جملةَ
البدَلِ يُقصَدُ بها استئنافُ الإخبارِ بنسبةِ الأُولى بخلافِ عطْفِ
البيانِ فإنه قَصَدَ بجملتِه بيانَ نِسبةِ الأُولَى لا استئنافِها. (16) (أو بأن تكونَ) الثانيةُ (17) (مؤكِّدَةً لها) أي: للأُولى، وهذا هو
الأمرُ الثالثُ وهو على نوعين: الأوَّلُ: أن تكونَ الثانيةُ مؤكِّدَةً
للأولى توكيداً معنويًّا بأن يَختلِفَ مفهومُهما ولكن يَلزَمُ من تقرُّرِ
معنى إحداهما تَقرُّرُ معنى الأخرى, والموجِبُ لذلك دفْعُ توهُّمِ السامعِ
التجوُّزَ في الأُولى نحوُ قولِه تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فإنه لَمَّا بُولِغَ في وصْفِ الكتابِ في الجملةِ الأُولى ببلوغِه إلى أقْصَى الكمالِ بجعْلِ المبتدأِ {ذلك} وتعريفِ الخبرِ باللامِ جازَ أن يَتَوهَّمَ السامعُ قبلَ التأمُّلِ في قولِه تعالى: (ذلك) مجازاً, فأَتْبَعَ ذلك بالجملةِ الثانيةِ وهي: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}
دفْعاً لهذا التوهُّمِ، وكانت هذه الثانيةُ مؤكِّدَةً للأُولَى تأكيداً
معنويًّا؛ لأنَّ كمالَ الكتابِ باعتبارِ ظهورِه في الاهتداءِ به, وذلك
بظهورِ حقِّيَّتِه وهو مُقتضَى الجملةِ الأُولَى, ونفيُ الرَّيْبِ, أي:
بُعدُه عن الحالةِ التي تُوجِدُ الرَّيْبَ في حَقِّيَّتِه لازِمٌ لكمالِه
في ظهورِ حقِّيَّتِه. النوعُ الثاني: أن تكونَ الثانيةُ مؤكِّدَةً للأولى
تَوْكيداً لفظيًّا بأن يكونَ مضمونُ الأُولَى هو مضمونَ الثانيةِ والموجِبُ
لذلك دفعُ توهُّمِ السامعِ الغلَطَ والسهْوَ في الأولى. (18) (نحوُ ) قولِه تعالى: (19) {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً})
فمضمونُ الجملتين متِّحِدٌ إلا أنه لَمَّا جازَ أن يَتَوهَّمَ السامِعُ
قبلَ التأمُّل وقوعَ الغلَطِ والسهْوِ في الجملةِ الأولى أَتْبَعَها
بالثانيةِ دفْعاً لهذا التوهُّمِ وكانت هذه الثانيةُ مؤكِّدَةً للأُولَى
توكيداً لفظيًّا. ثم التمثيلُ بهذا مبنيٌّ على أنه لم يَقْصِدْ بالثانيةِ
استئنافَ الإخبارِ بنسبَتِها وإلا كانت بدَلَ كلٍّ من الأُولَى فتدَبَّرْ. (20) (ويقالُ في هذا الموضِعِ) الأوَّلِ الذي هو الاتِّحادُ التامُّ بينَ الجملتين: والحاصلُ في الأمورِ الثلاثةِ. (21) (أنَّ بينَ الجملتين كمالَ الاتِّصالِ) أي: تمامَ الاتِّحادِ. (22) الموضعُ الثاني من مواضعِ الفصْلِ (23) (أن يكونَ بينَ الجملتين تباينٌ تامٌّ) أي:
في المعنى فيجِبُ الفصْلُ؛ لأن العطْفَ بالواوِ يَقتضِي كمالَ المناسبَةِ
فيهما والمناسبةُ منافِيةٌ لكمالِ الانقطاعِ الذي هو تمامُ التبايُنِ
ويكونُ بأحدِ أمْرَين؛ أوَّلُهما. (24) (بأن يَخْتَلِفا خبراً وإنشاءً ) أي: في
كونِ إحداهما خبراً والأخرى إنشاءً, وهذا صادقٌ بثمانِ صوَرٍ, كلُّها من
بابِ كمالِ الانقطاعِ؛ لأنَّ اختلافَهما إما في اللفظِ والمعنى معاً وهذا
أربعُ صوَرٍ, الجملةُ الأُولَى خبرٌ لفظاً إنشاءٌ معنًى، والثانيةُ إنشاءٌ
لفظاً خبرٌ معنًى أو عكسُها, والجملةُ الأُولَى إنشاءٌ لفظاً ومعنًى،
والثانيةُ خبرٌ لفظاً ومعنًى أو عكسُها أو في المعنى فقط وهذا أربعُ صوَرٍ
أيضاً: خبران لفظاً أُولاَهما إنشاءٌ معنًى، وخبران لفظاً أولاهما خبرٌ
معنًى، وإنشاءان لفظاً أُولاهما خبرٌ معنًى, وإنشاءان لفظاً أولاهما إنشاءٌ
معنًى. (25) (كقولِه ) أي: الشاعرِ (26) (لا تَسْأَلِ المَرْءَ) بفتحِ الميمِ, وضمُّها لغةٌ أي: الرجلَ. (27) (عن خلائقِه) جَمْعُ خَليقةٍ, وهي الطبيعةُ. (28) (في وجهِه شاهِدٌ من الخبرِ) فجملةُ: لا
تَسألْ إلخ إنشاءٌ لفظاً ومعنًى؛ لأنها نَهْيٌ، وجملةُ في وجهِه إلخ خبرٌ
لفظاً ومعنًى, ولم تُعطَفْ هذه عَلَى الأُولَى لاختلافِهما عَلَى أن
الغرَضَ تعليلُ النهيِ عن السؤالِ بمضمونِ الثانيةِ, وهذا يَقتضيِ الفصلَ
أيضًا فتدَبَّرْ. (29) (وكقولِ الآخرِ) هو الأخطلُ كما ذكَرَ سيبَوَيْهِ. (30) (وقالَ رائدُهم) أي: عَرِيفُ القومِ أعني: الشجاعَ الذي يَتقدَّمُهم لطلَبِ الماءِ والكَلأ. (31) (أَرْسُوا) أي: أقِيموا بهذا المكانِ المناسِبِ للحَرْبِ. (32) (نُزَاوِلُهَا) بالرفْعِ على
الاستئنافيَّةِ فكأنه قيلَ: لماذا أمَرْتَ بالإرساءِ؟ فقالَ: نُزاوِلُها,
أي: نحاولُ أمرَ الحربِ ونحتالُ لإقامتِها بأعمالِها. (33) (فكلُّ حَتْفِ امرِئٍ يَجرِي بمقدارِ)
علَّةٌ لمحذوفٍ, أي: ولا تَخافوا من الحتْفِ وهو الموتُ بمباشرَةِ أعمالِ
الحربِ؛ فإن المرءَ لا يَجري عليه حتْفُه إلا بقدَرِ اللهِ وقضائِه، باشَرَ
الحربَ أم لا، فجملَةُ: أرْسُوا إنشاءٌ لفظاً ومعنًى؛ لأنها أمرٌ, وجملةُ
نُزاولُها خبرٌ لفظاً ومعنًى, ولم تُعطَفْ هذه الثانيةُ على الأُولَى
لاختلافِهما، على أن الغرضَ بها تعليلُ الأمرِ بالإرساءِ بمزاولتِه أمرَ
الحربِ وهذا يَقتضي الفصْلَ أيضًا. ومما ذكَرْنا في المثالين علِمْتَ أن
لهما جِهتين؛ وجودَ الإنشائيَّةِ والخبريَّةِ, وهو كمالُ الانقطاعِ
الموجِبُ للفصْلِ, ووجودَ الاستئنافيَّةِ وهو مانِعٌ من العطْفِ أيضًا
فتَدبَّرْ. (34) (أو بأن لا يكونَ بينَهما) أي: بينَ طرفَيْ كلٍّ من الجملتين مع اتِّفاقِ نِسبتِهما في الخبريَّةِ أو الإنشائيَّةِ. (35) (مناسَبةٌ في المعنى) أي: جامعةٌ بينَهما
فلا تُعْطَفُ الثانيةُ على الأُولى مع اتِّفاقِهما لانتفاءِ الجامِعِ, إما
عن المسنَدِ إليهما فقط كقولِك: زيدٌ طويلٌ, وعمرٌو قصيرٌ حيث لا جامِعَ
بينَ زيدٍ وعمرٍو من صداقةٍ وغيرِها, وإن كانَ بينَ الطولِ والقِصَرِ جامعُ
التضادِّ، أو عن المسنَدَيْن فقط كقولِك: زيدٌ طويلٌ وعمرٌو عالِمٌ عندَ
فرْضِ الصداقةِ بينَ زيدٍ وعمرٍو أو عنهما معاً نحوُ زيدٌ قائمٌ والعلْمُ
حسَنٌ و. (36) (كقولِك: عليٌّ كاتِبٌ، الحمامُ طائرٌ؛ فإنه لا مناسَبةَ في المعنى بينَ كتابةِ عليٍّ وطيرانِ الحمامِ) أي: بينَ المسنَدِ إليهما؛ عليٍّ والحمامِ وبينَ المسنَدَيْن؛ الكتابةِ والطيرانِ. (37) (ويقالُ في هذا الموضِعِ) الثاني
بقِسْمَيْه اللذَيْن أوَّلُهما التبايُنُ بينَ نسبَتَي الجملتين, والثاني
انتفاءُ المناسَبةِ بينَ طرفَيْ كلٍّ مِن الجملتين مع اتِّفاقِ
نِسبتَيْهما. (38) (كمالَ الانقطاعِ) أي: تمامَ التبايُنِ كما يُقالُ ذلك في الموضِعِ الثاني من موضِعَي الوصلِ بقَيْدِ الإيهامِ, كما سَبقَ فتدَبَّرْ. (39)
الموضِعُ (الثالثُ) من مواضعِ الفصْلِ (40) (كونُ الجملةِ الثانيةِ جواباً عن سؤالٍ) مقدَّرِ الوقوعِ. (41) (نَشأَ من الجملةِ الأولى) أي: أنَّ
الجملةَ الأولى اقْتَضتْ سؤالاً, ودلَّتْ عليه بالفَحْوَى, أي: قوَّةِ
الكلامِ باعتبارِ قرائنِ الأحوالِ وكأنه واقِعٌ بالفعْلِ محقَّقٌ مصرَّحٌ
به, وتكونُ الجملةُ الثانيةُ جواباً عن هذا السؤالِ وحينئذٍ فتُفْصَلُ
الثانيةُ عن الأولى؛ إذ لا يُعطَفُ جوابُ سؤالٍ على كلامٍ آخَرَ, وظهَرَ من
هنا أن الموجِبَ للفصْلِ في هذا الموضعِ هو كونُ الكلامِ جواباً لسؤالٍ,
وهو مذهَبُ السكَّاكِيِّ, وذَهبَ صاحبُ التلخيصِ إلى أنه هو تنزيلُ الأولى
منزِلةَ السؤالِ, فتكونُ الثانيةُ جواباً للجملةِ الأولى, ويُسمَّى هذا
الفصلُ استئنافاً, وكذا الجملةُ الثانيةُ نفسُها تُسمَّى استئنافاً
ومُسْتَأْنَفَةً. ثم السؤالُ الذي نَشأَ عن الأولى إما عن سببٍ أوْ لا،
والأولُ إما سببٌ عامٌّ أو لا, فالأقسامُ ثلاثةٌ: سببٌ عامٌّ وسببٌ خاصٌّ
وغيرُ السببِ، فالسببُ العامُّ هو سببُ الحكْمِ, أي: المحكومُ به الكائنُ
في الأولى على الإطلاقِ بمعنى أنه لم يُتصَوَّرْ فيه لتصوُّرِ سببٍ معيَّنٍ
(كقولِه) أي: الشاعرِ (جَزَى اللهُ الشدائدَ
كلَّ خيرٍ) فهذه الجملةُ اقتَضتْ سؤالاً عامًّا بقرينةِ العُرْفِ والعادةِ
تقديرُه: ما بالُك تقولُ هذا, وما السببُ الذي أدَّاكَ إلى أن تُخالِفَ
غيرَك بالترَضِّي عن الشدائدِ وعدَمِ بُغضِها, فأجابَ عن هذا السؤالِ
بقولِه: (عَرَفْتُ) أي: لأني عرَفْتُ ( بها عدُوُّيَ من صَدِيقي)
والسببُ الخاصُّ هو سببُ الحكْمِ في الأولى على الخصوصِ بمعنى أنه
تَصَوَّرَ نفْيَ جميعِ الأسبابِ إلا سببًا خاصًا تَردَّدَ في حصولِه
ونفيِه. (42) كقولِه تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي: مع طهارتِها من الزَّلَلِ. (43) (إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)
أي: مُنْطَبِعةٌ من أصلِها على طلَبِ شيء لا يَنبغي؛ فإنَّ الجملةَ الأولى
اقتَضتْ سؤالاً خاصًّا بقرينةِ التوكيدِ؛ لأنَّ مضمونَها وهو الحكْمُ بنفيِ
تبرئةِ النفسِ يَتبادَرُ منه أن ذلك لانطباعِها على السوءِ فكان المقامُ
مقامَ تَردُّدٍ في ثبوتِ أمرِها بالسوءِ، والقسمُ الثالثُ غيرُ السببِ هو
شيءٌ آخَرُ له تعلُّقٌ بالجملةِ الأولى يَقتضِي المقامُ السؤالَ عنه نحوُ
قولِه تعالى: (قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ)
أي: فماذا قالَ إبراهيمُ في جوابِ سلامِ الملائكةِ عليه, ولا شكَّ أنَّ
قولَ إبراهيمَ ليس سبباً لسلامِ الملائكةِ لا عامًّا ولا خاصًّا. (44) (ويُقَالُ بينَ الجملتين) أي: الأُولى التي هي مَنشأُ السؤالِ المقدَّرِ والثانيةِ التي هي مستأنَفَةٌ جواباً للسؤالِ المقدَّرِ. (45) (شِبهُ كمالِ الاتِّصالِ) لمشابَهتِه كمالَ
الاتِّصالِ في أنَّ ما بينَ الجملتين فيهما اتِّصالٌ وربْطٌ ذاتيٌّ منافٍ
للعطْفِ فيَجبُ الفصْلُ في هذا كما يَجبُ في كمالِ الاتِّصالِ؛ لأنَّ شبيهَ
الشيءِ حُكمُه حكْمُ ذلك الشيءِ. هذا ويُمكِنُ أن يكونَ الفصْلُ فيه
نَظراً للفظِ؛ لأن السؤالَ إنشاءٌ, والجوابَ خبرٌ فيكونُ بينَهما كمالُ
الانقطاعِ. الموضعُ (46) (الرابعُ) من مواضعِ الفصْلِ (47) (أن تُسبَقَ جملةٌ بجملتين يَصِحُّ عَطفُها) أي: عطْفُ الجملةِ المسبوقةِ اللاحقةِ. (48) (على إحداهما) أي: على إحدى الجملتين السابقتين. (49) (لوجودِ المناسَبةِ) أي: الجامعةِ
العقليَّةِ أو الوهميَّةِ أو الخياليَّةِ بينَ المسنَدَيْن والمسنَدَ
إليهما في الجملةِ المسبوقةِ وإحدى السابقتين عليها. (50) (وفى عطفِها) أي: الجملةِ المسبوقةِ. (51) (على) الجملةِ المسبوقةِ (52) (الأخرى فسادٌ) أي: للمعنى المرادِ. (53) (فيُترَكُ العطْفُ) أي: فيَجِبُ الفصْلُ بترْكِ عطْفِ المسبوقةِ على إحدى السابقتين التي تُناسِبُها في كلٍّ من المسنَدِ والمسنَدِ إليه (54) (دفعاً للوَهْمِ) أي: لوهْمِ السامعِ،
عطْفَ المسبوقةِ على السابقةِ غيرِ المقصودةِ ويُسمَّى هذا الفصْلُ قطْعاً
لقطعِه توَهُّمَ خلافَ المقصودِ, أو لأنَّ كلَّ فصْلٍ قُطِعَ فيكونُ من
بابِ تسميةِ المقيَّدِ باسمِ المطْلَقِ. (55) (كقولِه) أي: الشاعرِ. (56) (وتَظُنُّ سَلْمى أنني أبْغِي) أي: أَطْلبُ. (57) (بها بدَلاً) الباءُ للمُقابَلةِ. (58) (أُراها) بصيغةِ المجهولِ شاعَ استعمالُه بمعنى الظنِّ, وأصلُه أَراني اللهُ إيَّاها. (59) (في الضلالِ تَهِيمُ) مِن هامَ إذا ذَهبَ في الأرضِ من العِشْقِ وغيرِه, أي: تَتَحَيَّرُ في أوديةِ الضلالِ. (60) (فجملةُ أُراها يَصِحُّ عطفُها على ) جملةِ. (61) (تَظنُّ) لأنهما خبريَّتان ووُجِدتْ
بينَهما مناسبةٌ أي: جهةٌ جامعةٌ بينَهما وهي الاتِّحادُ بينَ مسنَديهما أو
شِبْهُ التضايُفِ بينَ المسنَدِ إليه فيهما وهو ضميرُ تَظُنُّ العائدُ على
سَلْمى, وهي محبوبتُه, وضميرُ أُراها العائدُ على الشاعرِ, وهو مُحِبٌّ
وكلٌّ من الْمُحِبِّ والمحبوبَةِ يُشبِهُ أن يَتوقَّفَ تعقُّلُه على
تَعقُّلِ الآخَرِ. ويكونُ معنى البيتِ حينئذٍ أنَّ سَلْمى تَظنُّ كذا
وأنَّني أَحكُمُ على سلمى بأنها أَخطأتْ في ظنِّها وهذا المعنى صحيحٌ
ومرادٌ للشاعرِ. (62) (لكن يَمنَعُ من هذا) أي: من عطْفِ أُراها على تَظنُّ بأن يقولَ الشاعرُ: وأُراها... إلخ. (63) (من مظنوناتِ سَلْمى) ويكونُ معنى البيتِ أنَّ سَلْمى تَظُنُّ أنَّني أبْغي بها بَدلاً وتَظنُّ أيضًا أنَّني أظنُّها تَهِيمُ في الضلالِ. (64) (مع أنه ليس مراداً) أي: للشاعرِ. هذا:
ويَحتمِلُ أن تكونَ جملةُ أُراها إلخ مستأنَفةً بأن يُقدَّرَ سؤالٌ وتكونَ
هي جواباً عنه، كأنه قيلَ: كيف تُراها في هذا الظنِّ؟ فقال: أُراها تَهيم
في الضلالِ. فيكونُ المانعُ من العطفِ حينئذٍ كونَ الجملةِ كالمتَّصِلَةِ
بما قبلَها أي: شِبْهَ كمالِ الاتِّصالِ. (65) (ويقالُ: بينَ الجملتين في هذا الموضعِ شِبْهُ كمالِ الانقطاعِ)
لمشابَهةِ كمالِ الانقطاعِ في أنَّ كلاّ مشتمِلٌ على مانِعٍ من العطفِ,
وهو هنا إيهامُ العطفِ خلافَ المقصودِ, وفي كمالِ الانقطاعِ تباينُ
الجملتين باختلافِهما خبراً وإنشاءً أو بانتفاءِ الجامِعِ بينَهما. نعم, إن
المانِعَ هنا خارجٌ عن ذاتِ الجملتين يُمكِنُ دفعُه بنصْبِ قرينةٍ، ولذا
لم يُجعلْ من كمالِ الانقطاعِ. (66)
الموضعُ (الخامسُ ) من مواضعِ الفصْلِ (67) (أن لا يُقصَدَ تشريكُ الجملتين في الحكْمِ)
أي: القيدُ الزائدُ على مفهومِ الجملةِ كالاختصاصِ بالظرفِ؛ لأنَّ الكلامَ
هنا كما سَبقَ قاصرٌ على الجملتين اللتين لا مَحَلَّ لهما من الإعرابِ.
فليس المرادُ به حينئذٍ الحكْمَ الإعرابىَّ، نعمْ يَصِحُّ أن يكونَ الكلامُ
غيرَ قاصِرٍ على الجمَلِ التي لا مَحَلَّ لها بل يَشْمَلُها ويَشْمَلُ
التي لها مَحَلٌّ، فيُرادُ بالحكْمِ في الأُولى المعنى المذكورُ, وبه في
الثانيةِ الحكْمُ الإعرابيُّ، يعني: الحالُ الموجِبُ للإعرابِ مثلَ كونِها
خبرَ المبتدأِ فإنه يُوجِبُ الرفْعَ، وكونِها حالاً أو مفعولاً فإنه
يُوجِبُ النصبَ، وكونِها مضافاً إليها فإنه يوجِبُ الخفْضَ، وكونِها صفةً
فإنه يُوجِبُ الإعرابَ الذي في المتبوعِ. (68) (لقيامِ مانِعٍ) أي: من العطْفِ وهو لزومُ
تشريكِ الثانيةِ للأولى في ذلك القيْدِ أو الحُكْمِ الإعرابيِّ، والتشريكُ
فيه نقيضُ المقصودِ؛ لأن المقصودَ الاستئنافُ فيَجِبُ الفصْلُ, سواءٌ كان
بينَهما جهةٌ جامعةٌ أم لا. (69) كقولِه تعالى حكايةً عن حالِ المنافقين: (70) (وَإِذَا خَلَوْا) أي: وإذا خَلا المنافقون من المؤمنين ورَجَعُوا. (71) (إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي: رؤسائِهم من الكافرين. (72) (قَالُوا) لشياطينِهم. (73) (إِنَّا مَعَكُمْ) أي: بقلوبِنا من حيث الثباتُ على الكفْرِ وعداوةُ المسلمين. (74) (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أي: بالمسلمين فيما نُظهِرُ لهم من الْمُداراةِ. قال تعالى: (75) ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي:
يُجازِيهم بالطرْدِ عن رحمتِه في مقابَلةِ استهزائِهم بالمؤمنين ودِينِ
الإسلامِ، ففي الكلامِ مُشاكَلَةٌ وإلا فالاستهزاءُ مستحيلٌ على اللهِ
تعالى. (76) (فجملةُ: اللهُ يَستهزئُ بهم لا يَصِحُّ عطفُها على) جملةِ. (77) (إِنَّا مَعَكُمْ) التي هي مَحكيَّةٌ لِقالوا. (78) (لاقتضائِه) أي: العطفِ المذكورِ. (79) (أنه) أي: أن قولَه: اللهُ يَستهزئُ بهم. (80) (من مَقولِهم) أي: من مقولِ المنافقين,
والحالُ أنه ليس كذلك, أي: لم يُقصَدْ تَشريكُها للأُولى في الحكْمِ
الإعرابيِّ, وهو كونُها من مقولِهم, بل هو استئنافٌ على أنه من مَقولِ
اللهِ تعالى، ففصَلَ بترْكِ العطفِ دفْعاً لإيهامِ خلافِ المقصودِ. (81) (ولا على جملةِ قالوا) أي: وليست جملةُ اللهُ يَستهزئُ بهم معطوفةً على جملةِ قالوا. (82) (لاقتضائِه) أي: العطفِ المذكورِ. (83) (أن استهزاءَ اللهِ بهم) وهو مضمونُ جملةِ: (اللهُ يَستهزئُ بهم). (84) (مقيَّدٌ بحالِ خُلُوِّهم إلى شياطينِهم)
توضيحُ ذلك أن جملةَ قالوا: إنَّا معكم مُقيَّدةٌ بظرفٍ, وهو إذا, وتقديمُ
الظرفِ يُفيدُ الاختصاصَ، وحينئذٍ فالمعنى أنهم إنما يقولون: إنا معكم في
حالِ خُلُوِّهم بشياطينِهم, لا في حالِ وجودِ أصحابِ محمَّدٍ، ولو عُطِفَ
اللهُ يَستهزئُ بهم على جملةِ قالوا لَلَزِمَ أنَّ استهزاءَ اللهِ بهم
مختَصٌّ بذلك الظرْفِ لإفادةِ العطْفِ تشريكَ الجملتين في الاختصاصِ به
فيكونُ المعنى لا يَستهزئُ اللهُ بهم إلاَّ إذا خَلَوْا كما أنهم لا يقولون
إنَّا معكم إلا إذا خَلَوْا والحالُ أنه ليس كذلك، أي: لم يُقصَدْ تشريكُ
الثانيةِ للأولى في ذلك القيْدِ؛ لأنَّ المرادَ باستهزاءِ اللهِ بهم الذي
هو مضمونُ الثانيةِ مجازاتُه لهم كما سَبقَ، ولا شكَّ أنَّ هذا متَّصِلٌ لا
انقطاعَ له بحالٍ، سواءٌ خَلَوْا إلى شياطينِهم أم لا، ففَصَلَ بترْكِ
العطْفِ لأجْلِ دفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ. (85) (ويقالُ: بينَ الجملتين في هذا الموضعِ) الخامسِ. (86) (توسُّطٌ بينَ الكمالَيْن) أي: بينَ كمالِ
الاتِّصالِ وكمالِ الانقطاعِ، كما يُقالُ لِمَا بينَ الجملتين في الموضعِ
الأوَّلِ من موضعِ الفصْلِ توسُّطٌ بينَ الكمالين مطلَقاً أو مع عدمِ
الإيهامِ، ووجهُ التسميةِ بهذا الاسمِ ظاهرٌ؛ لأنه لم يكنْ بينَ الجملتين
أحدُ الكمالَيْن, ولا شِبْهُ أحدِهما فتدَبَّرْ).
شموس البراعة للشيخ: أبي الأفضال محمد فضل حق الرامفوري
قال الشيخ أبو الأفضال محمد فضل
حق الرامفوري (ت: 1359هـ): ( ( مواضعُ الفَصْلِ )
يَجِبُ الفَصْلُ في خمسةِ مواضعَ:
الأوَّلُ، أنْ يكونَ بينَ الْجُملتينِ اتِّحادٌ تامٌّ،
بأنْ تكونَ الثانيةُ بَدَلًا من الأُولَى، وهذا إنَّما يكونُ إذا كانت
الجملةُ الأُولَى غيرَ وافيةٍ بتمامِ المرادِ؛ لكونِها مُجْمَلَةً أوْ
خَفِيَّةَ الدِّلالةِ، وكانَ الْمَقامُ يَقْتَضِي اعتناءً بشأنِ المرادِ؛
إذ لا بُدَّ حينئذٍ لإتمامِ المرادِ وإيفائِه من الإتيانِ بالبَدَلِ الوافي
بتمامِ المرادِ كمالَ الوفاءِ، نحوَ قولِه تعالى حِكايةً عنْ قولِ نبيِّه
هودٍ على نبيِّنا وعليهِ السلامُ لقومِه: { وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيونٍ }،
فإنَّ المرادَ منْ هذا القولِ التنبيهُ على نِعَمِ اللَّه تعالى،
والْمَقَامُ يَقْتَضي اعتناءً واهتمامًا بشأنِ ذلكَ التنبيهِ؛ لكونِه
ذريعةً للتَّشَكُّرِ الذي هوَ مَبْدَأٌ لكلِّ خيرٍ وطاعةٍ، والجملةُ
الْأُولَى لكونِها دالَّةً على تلكَ النِّعَمِ إجمالًا، ولإحالةِ تفصيلهِا
على علْمِ المخاطَبِينَ المعانِدِينَ بكفرِهم، غيرُ وافيةٍ بتمامِ هذا
المرادِ الذي هوَ التنبيهُ على نِعَمِه تعالى، فَأُورِدَتْ جملةٌ ثانيةٌ
بطريقِ الْبَدَلِ منها، وفُصِّلَتْ فيها النِّعَمُ، وسُمِّيَتْ أنواعُها
منْ غيرِ إحالةٍ على عِلْمِهم؛ لتكونَ وافيةً بتأديةِ المرادِ كمالَ
الوفاءِ .
أوْ بأنْ تكونَ بيانًا لها، وهذا إذا كانَ في الجملةِ الأولى خَفَاءٌ، وقُصِدَ بالثانيةِ إيضاحُها وإزالةُ ذلكَ الخفاءِ، نحوَ: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ }. ففي الجملةِ الأُولى، أيْ قولِه تعالى:{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ }، خفاءٌ؛ إذْ لمْ تُبَيَّنْ فيها تلكَ الوسوسةُ، فأُورِدَت الجملةُ الثانيةُ، وهيَ قولُه تعالى: { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، لبيانِ تلكَ الوسوسةِ وإيضاحِها .
أوْ بأنْ تكونَ مؤكِّدةً لها تأكيدًا مَعْنَويًّا، بأنْ
يَخْتَلِفَ مفهومُهما، ولكنْ يَلْزَمُ مِنْ تَقَرُّرِ معنى إحداهما
تَقَرُّرُ معنى الأخرى. أوْ تأكيدًا لَفْظيًّا، بأنْ يكونَ مضمونُ الثانيةِ
مضمونَ الأولى، فيُؤْتَى بالثانيةِ بعدَ الأُولَى ليُقَرَّرَ ذلكَ
المضمونُ في ذِهْنِ السامعِ بحيثُ لا يُتَوَهَّمُ فيهِ الغَلَطُ والسهوُ،
نحوَ: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا }،
فالجملةُ الثانيةُ ههنا تأكيدٌ لفظيٌّ للجملةِ الأولى لكونِ الثانيةِ
مُقَرِّرَةً للأولى معَ كونِهما مُتَّفِقَتَيْنِ في المعنى، فوِزَانُ
الجملةِ الثانيةِ وِزَانُ زيدٍ الثاني في قولِنا: جاءَ زيدٌ زيدٌ، ويُقالُ
في هذا الموْضِعِ: إِنَّ بينَ الجملتينِ كمالَ الاتِّصالِ .
الثاني: أنْ يكونَ بينَ الجملتينِ تَبايُنٌ تامٌّ، بأنْ يَخْتَلِفا خبرًا وإِنشاءً، كقولِه: ( وقال رائدُهم )، وهوَ الذي يَتَقَدَّمُ القومَ لطَلَبِ الماءِ والكلأِ، والمرادُ بهِ ههنا عَرِيفُ القومِ، أي الشجاعُ الْمِقدامُ منهم، (
أَرْسُوا )، أيْ: أَقِيمُوا بهذا المكانِ الملائِمِ للحرْبِ، (
نُزَاوِلُها ) بالرفْعِ لا بالجزْمِ، جوابًا للأمْرِ، أيْ نحاوِلُ أَمْرَ
الحرْبِ وَنُعَالِجُهَا، ( فَحَتْفُ كلِّ امْرِئٍ يَجْرِي بِمِقْدَارِ )،
الفاءُ في قولِه: فحَتْفُ، للتعليلِ، أيْ: لا تخافوا بمحاولةِ الحرْبِ من
الْحَتْفِ والموتِ ؛ لأنَّ حتفَ كلِّ امرئٍ إلخ. فقولُه: أَرْسُوا، في هذا
الشِّعْرِ جملةٌ إنشائيَّةٌ لَفْظًا ومَعْنًى، وقولُه: نُزَاوِلُها، جملةٌ
خبريَّةٌ، وبينَهما تَبايُنٌ تامٌّ؛ فلذا لم تُعْطَف الثانيةُ على
الأُولَى. أوْ بأنْ لا يكونَ بينَهما مناسَبَةٌ في المعنى معَ كونِهما غيرَ
مختلِفَيْنِ خَبَرًا وإنشاءً، كقولِك: عليٌّ كاتبٌ، الحمامُ طائرٌ.
فإنَّهُ لا مُناسَبَةَ في المعنى بينَ كتابةِ عليٍّ وطَيَرَانِ الحمامِ، لا
باعتبارِ المسنَدِ إليه، ولا باعتبارِ المسنَدِ، معَ أنَّهُما
مُتَّفِقَانِ خَبَرًا. ويُقالُ في هذا الموضِعِ: إنَّ بينَ الجملتينِ كمالَ
الانقطاعِ، أيْ كمالَ الانقطاعِ بلا إيهامٍ؛ فإنَّ الموضعَ الثاني من
الوَصْلِ أيضًا يُقالُ فيهِ: إنَّ بينَ الجملتين كَمَالَ الانقطاعِ، لكنْ
يُقالُ: فيهِ كمالُ الانقطاعِ معَ الإيهامِ، كما قالَ في الحاشيةِ: كما
يُقالُ إلخ. فاختلافُ الحكْمِ بينَ هذينِ الكمالَيْنِ بوجوبِ الوصْلِ في
أحدِهما والفَصْلِ في الآخَرِ بسببِ إيهامِ خِلافِ المرادِ عندَ الفصْلِ
وعدمِه .
الثالثُ: كونُ الجملةِ الثانيةِ جوابًا عنْ سؤالٍ
نَشَأَ من الجملةِ الأُولى، فتُفْصَلُ الثانيةُ عن الأُولَى كما يُفْصَلُ
الجوابُ عن السؤالِ، كقولِه: ( زَعَمَ العواذِلُ )، جمْعُ عاذِلَةٍ، لكنَّ
المرادَ بها جماعةٌ عاذِلةٌ من الذكورِ بقرينةِ قولِه: صَدَقُوا، بضميرِ
الذكورِ، ( أَنَّنِي في غَمْرَةٍ )، أيْ: شِدَّةٍ، ( صَدَقُوا ولكِنْ
غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي)، أيْ: لا تَنْكَشِفُ. والمعنى أنِّي كما قالوا،
ولكنْ غَمْرَتِي ليستْ كغيرِها من الغَمْرَاتِ؛ فإنَّها غالبًا تَنْجَلِي،
وغَمْرَتِي لا تَنْجَلِي، ولا مَطْمَعَ لي في فَلَاحِي. فقولُه: صَدَقوا،
جوابُ سؤالٍ مُقَدَّرٍ كأنَّهُ قِيلَ: أَصَدَقُوا في زَعْمِهِم أمْ
كَذَبُوا ؟ فقالَ في الجوابِ: صَدَقُوا. ويُقَالُ في هذا الموضِعِ: بينَ
الجملتينِ شِبْهُ كمالِ الاتِّصالِ ؛ لأنَّ اتِّصالَ الجوابِ بالسؤالِ ليسَ
كاتِّصالِ الأقسامِ الثلاثةِ منْ كمالِ الاتِّصالِ، أيْ: البدَلِ وعطْفِ
البيانِ والتأكيدِ معَ مَتْبوعاتِها؛ لكونِها مُتَّحِدَةً معها، بخلافِ
الجوابِ بالنِّسبةِ إلى السؤالِ؛ فإنَّهُ مُغايِرٌ لهُ، لكنَّهُ شبيهٌ
باتِّصالِ هذه الأقسامِ في أنَّ الجملةَ الْأُولى في هذه الأقسامِ كما هيَ
مُسْتَتْبَعَةٌ للثانيَةِ، ولا تُوجَدُ الثانيةُ بدونِ الأُولى، كالسؤالِ
مُسْتَتْبَعٍ للجوابِ، والجوابُ لا يُوجَدُ بدونِ السؤالِ؛ فلذا يُقالُ
لهذا الاتِّصالِ: شبْهُ كَمالِ الاتِّصالِ .
الرابعُ: أن تُسْبَقَ جملةٌ بجملتينِ يَصِحُّ عَطْفُها
على إحداهما لوجودِ المناسَبَةِ، وفي عطفِها على الأخرى فسادٌ، فيُتْرَكُ
العطْفُ دفْعًا للوَهْمِ، أيْ دَفْعًا لوَهْمِ عطْفِها على الأخرى
الْمُوجِبِ للفسادِ في المعنى، كقولِه:
وتَظُنُّ سَلْمَى أنَّنِي أَبْغِي بها ..... بَدَلًا أُرَاها في الضَّلالِ تَهِيمُ
فجملةُ أُراها يَصِحُّ عطْفُها على جملةِ تَظُنُّ؛
لوجودِ المناسَبةِ بينَ هاتينِ الجملتيْنِ، وهيَ الاتِّحادُ بينَ
مُسْنَدَيْهِما لكونِ أرى بمعنى أَظُنُّ، وشِبْهِ التضايُفِ بينَ
الْمُسنَدِ إليه في الأُولى، وبينَهُ في الثانيةِ؛ فإنَّ المسنَدَ إليه في
الأُولى سَلْمَى، وهيَ محبوبةٌ، وفي الثانيةِ الضميرُ الْمُسْتَتِرُ في
أُرَى العائدِ إلى الشاعِرِ المتكلِّمِ، وهوَ مُحِبٌّ، فيَتَوَقَّفُ
تَعَقُّلُ كلٍّ منهما على تَعَقُّلِ الآخَرِ باعتبارِ وصْفِ المحبوبيَّةِ
والْمُحِبِّيَّةِ، فبينَ الجملتينِ مناسَبَةٌ باعتبارِ الْمُسْنَدَيْنِ
والْمُسْنَدِ إليهما، فلوْ عَطَفَ جملةَ أُراها على جملةِ تَظُنُّ سَلْمَى
لكانَ صحيحًا وموافِقًا لِمُرادِ الشاعِرِ؛ إذ المعنى حينئذٍ أنَّ سَلْمَى
تَظُنُّ كذا وأَظُنُّها كذا، لكنْ يَمْنَعُ منْ هذا العطْفِ تَوَهُّمُ
العطْفِ على جملةِ أَبْغِي بها، فتكونُ الجملةُ الثالثةُ، وهيَ جملةُ
أُراها أيضًا منْ مَظنوناتِ سَلْمَى، ويكونُ معنى الشِّعْرِ الإخبارَ
بظَنِّ سَلْمَى أنَّها تَظُنُّنِي موصوفًا بوَصْفَيْنِ؛ أَحَدُهما أنِّي
أَبْغِي وَأَطْلُبُ بها بَدَلًا، والآخَرُ أنِّي أَظُنُّها أنَّها تَهِيمُ
في أَوْدِيَةِ الضلالِ، معَ أنَّهُ ليسَ مرادًا للشاعِرِ، بلْ مرادُه
الإخبارُ عنْ ظنِّها أنِّني أَبْغِي بها بَدَلًا، والإِخبارُ عنْ ظَنِّ
نفسِه أنَّها تُخْطِئُ في ظَنِّها بي هذا الظَّنَّ، وَتَهِيمُ وتَذْهَبُ
بسببِ هذا الظنِّ في أَوديةِ الضَّلالِ. ويُقالُ: بينَ الجملتينِ في هذا
الْمَوْضِعِ شِبْهُ كمالِ الانقطاعِ؛ لتَحَقُّقِ المشابَهَةِ بينَهُ وبينَ
كمالِ الانقطاعِ في كَوْنِ الجملتينِ متغايرتينِ معَ وجودِ المانِعِ من
العَطْفِ، إلَّا أنَّ المانِعَ في صورةِ كمالِ الانقطاعِ هوَ التبايُنُ
التامُّ أوْ عَدَمُ وجودِ المناسَبَةِ، وههنا المانِعُ هوَ إيهامُ غيرِ
المرادِ . الخامسُ، ألَّا يُقْصَدَ تشريكُ الجملتينِ في الحكْمِ:
أيْ تشريكُ الجملةِ الثانيةِ للجملةِ الأُولَى في حكْمِها الإعرابيِّ الذي
لها، مِثلَ كونِها خبرَ مبتدأٍ أوْ صفةً أوْ مفعولًا أوْ نحوَ ذلكَ، أوْ في
قيدٍ زائدٍ على مفهومِها مثلَ الظرْفِوالشرْطِونحوَهما؛ لقيامِ مانعٍ
منْ ذلكَ التشريكِ، كقولِه تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }، فجملةُ { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } لا يَصِحُّ عَطْفُها على {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ لاقتضائِه أنَّهُ منْ مقولِهم، لأنَّهُ يَلْزَمُ حينئذٍ تشريكُ جملةِ { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } لجملةِ { إِنَّا مَعَكُمْ } في
كونِها مفعولَ قالوا، فيَلْزَمُ أنْ تكونَ هيَ أيضًا مقولةَ قولِ
المنافقينَ،وليسَ كذلكَ،ولا على جملةِ قالوا؛ لاقتضائِه أنَّ استهزاءَ
اللَّهِ بهم مُقَيَّدٌ بحالِ خُلُوِّهِمْ إلى شياطينِهم؛ لأنَّ جملةَ قالوا
مُقَيَّدٌ بظرْفٍ هووإذا خَلَوْا، بمعنى أنَّهُ إنَّما يقولونَ: إنَّا
معكم، في حالِ خُلُوِّهم إلى شياطينِهم لا في حالِ وجودِ أصحابِ النَبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، فلوْ عَطَفْتَ على هذه الجملةِ جملةَ { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
لزِمَ تشريكُها لها في كونِها مُقَيَّدَةً بذلكَ الظرْفِ، فيَلْزَمُ أنْ
يكونَ استهزاءُ اللَّهِ بهم أيضًا مُخْتَصًّا بحالِ خُلُوِّهِمْ إلى
شياطينِهم، معَ أنَّ استهزاءَ اللَّهِ بهم دائمٌ غيرُ مُقَيَّدٍ بحالِ
الخلودِ.ويُقالُ: بينَ الجملتينِ في هذا الموْضِعِ تَوَسُّطٌ بينَ الكمالَيْنِ، أيْ بينَ كمالِ الانقطاعِوكمالِ الاتِّصالِ؛ لأنَّ الجملةَ الثانيةَ في هذا الموْضِعِ لا تكونُ
مُتَّحِدَةً معَ الجملةِ الأُولَى بأنْ تكونَ بَدَلًا منها أوْ بيانًا لها
أوْ مُؤَكِّدَةً لها كما في كمالِ الاتِّصالِ،ولا مُبَايِنَةً عنها بأنْ
تكونَ مخالِفةً لها في الْخَبَرِيَّةِ والإنشائيَّةِ، أوْ لمْ يُوجَدْ
بينَها وبينَ الجملةِ الأُولى مناسَبةٌ في المعنى كما في كمالِ الانقطاعِ،
بلْ هيَ معَ كونِها مغايِرةً للجملةِ الأُولى في المفهومِ والمقصودِ تكونُ
موافِقةً لها في الخبريَّةِ، وتُوجدُ بينَها وبينَ الجملةِ الأولى مناسَبةٌ
وجهةٌ جامعةٌ أيضًا، فلا تكونُ فيها بالنِّسبةِ إلى الجملةِ الأولى كمالُ
الاتِّصالِولا كمالُ الانقطاعِ، بلْ هيَ بَيْنَ بَيْنَ ؛ فلذا يقالُ ههنا:
إنَّ بينَ الجملتينِ توَسُّطًا بينَ الكمالَيْنِ.ولهذا الوجهِ بعينِه
يُقالُ في الموضِعِ الأوَّلِ من الوَصْلِ أيضًا: إنَّ بينَ الجملتينِ
تَوَسُّطًا بينَ الكمالَيْنِ، إلَّا أنَّ الحكْمَ قد اخْتَلَفَ في هاتينِ
الصورتينِ للتوسُّطِ؛ لوجودِ مانعٍ من العَطْفِ ههنا وعدمِه هناكَ، كما قال
في الحاشيةِ: كما يُقالُ: بينَ الجملتينِ في الموْضِعِ الأوَّلِ إلخ . فعُلِمَ منْ هذا البيانِ أنَّ الأحوالَ التي بينَ الجملتينِ خمسةٌ: كمالُ الانقطاعِوشِبْهُهُ،وكمالُ
الاتِّصالِوشِبْهُهُ،والتوسُّطُ بينَ الكمالَيْنِ.وما ذكَرَهُ منْ
صورَتَيْ وجوبِ الوصْلِ ليسَ خارجًا عنْ هذه الخمسةِ، والأصْلُ في الأربعةِ
الأولى الفصْلُ، وفي الخامسةِ الوصْلُ، لكنَّ الحكْمَ قدْ يَختلِفُ لوجودِ
المانعِ من الفَصْلِ أو الوصْلِ).
شرح دروس البلاغة للشيخ: محمد الحسن الددو الشنقيطي (مفرغ)
قال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي: (مواضع الفصل، وهي خمسة. قال: يجب الفصل في خمسة مواضع:
الأول: أن يكون بين الجملتين اتحاد، إذا كان بين الجملتين اتحاد بأن تكون
الثانية شرحاً للأولى وبدلاً منها، فحينئذ لا يجوز العطف، فذلك مثل قول
الله تعالى: {أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون}
فالجملة الثانية شرح للأولى وبدلٌ منها، فلو قلت: أمدكم بما تعلمون وأمدكم
بأنعام وبنين، لتوهم أن الأنعام والبنين ليست مما يعلمون، فإذن لابد من
عدم العطف هنا.
كذلك أن تكون بياناً لها، أي: مبينة لبعض ما خفي في الجملة السابقة، مثل قول الله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، فوسوسته أمرٌ خفي؛ لأن الوسواس في الأصل صوت الحلي، صوت الحلي إذا تحرك هو الذي يسمى بالوسواس، ومنه قول الشاعر:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت
شعر الأعشى، وكذلك في شعر أبي تمام:
وإذا مشت تركت بقلبك ضعفه ..... ما بحليها من كثرة الوسواس
فصوت الحلي هو الذي يسمى بالوسواس {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} هو الوسواس صوت الحلي، فأطلق على الأمر المؤثر الذي فيه خفاء فكان عمل إبليس من هذا النوع، فسمي إبليس نفسه بالوسواس، وسمي عمله بالوسواس {من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس} المقصود به إبليس نفسه، والوسواس أيضاً يطلق على ما في صدور الناس من عمله، فلما قال: {فوسوس إليه الشيطان} احتاج هذا اللهو وهو وسوسة إلىشرح, فقال: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} هذا هو الوسواس، فالجملتان إذن بينهما كمال الاتصال، فلا يحل العطف؛ إذ لو قال: فوسوس إليه الشيطان، وقال: يا آدم هل أدلك، لكان معنى هذا أن قوله: يا آدم هل أدلك غير الوسواس، وأمر زائد عليه؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، أو بأن تكون مؤكدة لها، نحو: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} فأمهلهم رويداً هي تأكيد له لفظي لمهل الكافرين. اكتب اكتب فـ (اكتب) الثانية تأكيد لـ (اكتب) الأولى، فلا يجوز أن تقول: اكتب واكتب واكتب، تقول: اكتب اكتب، اخرج اخرج، لا يجوز أن تقول: اخرج واخرج؛ لأن ذلك يقتضي أن الخروج الأول غير الخروج الثاني، فكذلك مهل الكافرين أمهلهم رويداً، لو قال: مهل الكافرين وأمهلهم رويداً لكان هذا أمر بإمهال بعد إمهال، بإمهالين، وهذا الموضع يقال فيه بين الجملتين: كمال الاتصال، بينهما كمال الاتصال؛ إما للمجانسة التامة بينهما، أو لأن إحداهما شرح للأخرى، أو بيان لبعض ما خفي منها، أو توكيد لها، هذه أربعة أمور يجمعها جميعاً تمام الاتصال.
الموضع الثاني: أن يكون بين الجملتين تباين تام؛ بأن يختلفا خبراً وإنشاء، فحينئذ لا يجوز العطف؛ لأن العطف يقتضي الاشتراك والجمع، وهما متباينتان تماما، إحداهما خبر والأخرى إنشاء، وذلك مثل قوله:
لا تسأل المرء عن خلائقه في وجهه شاهد من الخبر
(لا تسأل المرء عن خلائقه)هذه جملة إنشائية طلبية، وقد سبق أن النهي من أنواع الإنشاء الطلبي، (في وجهه شاهد من الخبر) هذه جملة خبرية، والخبر لا يعطف على الإنشاء؛ لتباينهما.
ردا على سؤال غير مسموع: نعم.
ـ...........................
ـ لا، هي لا تسأل المرء
ـ..........................
ـ نعم.
ـ..........................
ـ بلى جزم الفعل، لكن الجزم على اللام لا تسأل، لكن عندما جاء بعدها أل اجتمع ساكنان فكسرت، ولو كانت غير مجزومة لكانت اللام مضمومة.
ـ......................
ـ يعني: أصلها لا تسأل، لكن لما جاء بعدها ساكن كسرت؛ لاجتماع ساكنين. وكذلك قول الشاعر:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها محتف كل امرئ يجري بمقدار
(وقال رائدهم أرسوا)، (أرسوا) جملة إنشائية طلبية، فهي أمر، وقد سبق أن الأمر من أنواع الإنشاء الطلبي، (نزاولها) جملة خبرية، فلا يجوز أن تقول: أرسوا ونزاولها؛ لتمام الانفصال بين الجملتين، فهذه إنشاء وهذه خبر.
أو بألا يكون بينهما مناسبة في المعنى كقولك عليٌّ كاتب، الحمام طائر، فلا مناسبة بين كتابة عليّ وطيران الحمام، لا علاقة بينهما أصلاً؛ فبينهما تمام الانفصال، فلا يجوز عطف إحداهما على الأخرى. وهذا النوع إنما يقع في ألسنة المولدين المحدثين أصحاب الحداثة، فيجمعون بين الجمل المتناقضة المتنافرة، ويعطفون بعضها على بعض، ويزعمون أنهم يشكلون بذلك لوحة لا يفهمها إلا الفنانون الذين يعرفون اللوحات، وهذا كله من وحي الشيطان الذي لا يوافق عقلاً ولا لغة؛ فإنه لا مناسبة في المعنى بين كتابة علي وطيران الحمام. ويقال في هذا الموضع بين الجملتين كمال الانقطاع، كمال الانقطاع، كمال الانفصال بينهما.
الموضع الثالث: كون الجملة الثانية جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى، وهذا الموضع ليس فيه كمال الاتصال ولا كمال الانفصال، فبعد أن سمعت الجملة الأولى ثار في ذهنك سؤال فأجيب عنه بالجملة الثانية إجابة معنوية، ولو لم تنطق أنت بذلك السؤال، وذلك مثل قول الله تعالى: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}، {وما أبرئ نفسي} هذه الجملة أثارت لدى السامع سؤالاً، وهو لماذا لا تبرئ نفسك؟ فجاء الجواب: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}، فلو عطف هنا فقال: وما أبرئ نفسي وإن النفس لأمارة بالسوء؛ لاختل المعنى، فلذلك كانت الجملة الثانية جواباً لسؤال آثارته الجملة الأولى، فلم تُعطف عليها، والجملتان هنا بينهما شبه كمال الاتصال، ليس بينهما كمال الاتصال، لكن بينهما شبه كمال الاتصال.
الصورة الرابعة: أن تُسبق جملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما؛ لوجود المناسبة، لكنها في عطفها على الأخرى فساد للمعنى؛ فيترك العطف دفعاً للتوهم، وذلك مثل قول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً ..... أراها في الضلال تهيم
فهنا جملتان تقدمتا، وهما (تظن سلمى)، و (أنني أبغي بها بدلاً) هاتان جملتان، فالجملة الأولى (أظن سلمى) يمكن أن تعطف عليها، و (أراها في الضلال تهيم) فهما جملتان أنت فاعلهما، أنت الذي تظن سلمى وأنت الذي تراها في الضلال تهيم، لكن لما جاء بعد الجملة الأولى جملة ثانية لا يصلح عطف الجملة الثالثة عليها، وهي (أنني أبغي بها بدلاً) هذه لا يصح عطف الجملة الثانية عليها؛ لأنه مفسد للمعنى الذي تريده، فلو قلت: وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً وأراها في الضلال تهيم، لاحتُمل أن يكون المعنى: وتظن أنني أراها في الضلال تهيم، فيكون الكلام لم يكمل بعد، وما موقفك أنت؟ تظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً وأني أراها في الضلال تهيم، فما موقفك أنت لم يأت؟بعد لو عطفت، لكن لو قلت: وأظن سلمى.. أقصد لو قلت: أراها في الضلال تهيم فقط دون العطف، لكان هذا موقفك أنت، فموقفك أنت إنكار ظنها هي، (وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم) فجملة (أراها) يصح عطفها على (تظن) لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة (أبغي) بها، فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى دون أن يبين موقفك أنت، مع أنه ليس مراداً. ويقال في هذا الموضع بين الجملتين شبه كمال الانقطاع، الجملتان هنا كأن بينهما كمال الانقطاع، والواقع أنهما ليس بينهما كمال الانقطاع، لكن بينهما شبه كمال الانقطاع، فلذلك لم تعطف على سابقتها.
الموضع الخامس: ألا يقصد تشريك الجملتين في الحكم؛ لقيام مانع يمنع من اشتراكهما فيه، كقوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}، فجملة {إنما نحن مستهزئون}، {الله يستهزئ بهم}، وجملة: {الله يستهزئ بهم} لا يصح عطفها على {إنا معكم}؛ لاقتضائه أنه من مقولهم، فلو قال: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون والله يستهزئ بهم، لظن أن ذلك من كلامهم الذي يقولونه لشياطينهم، وليس الحال كذلك؛ بل هذا رد عليهم، وكذلك {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا}، قالوا أيضاً لا يصح عطف {الله يستهزئ بهم} عليها؛ لاقتضائه أن استهزاء الله بهم مقيد بحل خلوهم إلى شياطينهم إذا قلت: إذا خلو هم إلى شياطينهم قالوا إنا معكم والله يستهزئ بهم، لكان معنى هذا أن يستهزئ بهم فقط في حال خلوهم بشياطينهم، وهذا القيد غير مقصود. وهذا الموضع يقال فيه بين الجملتين التوسط بين كمال الاتصال وكمال الانفصال، وهما كمالان، فيقال: بينهما توسط بين الكمالين توسطت الجملة بين الكمالين أي بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع).
شرح دروس البلاغة الكبرى للدكتور محمد بن علي الصامل (مفرغ)
القارئ: (مواضع الفصل:
يجب الفصل في خمسة مواضع:
الأول: أن يكون بين الجملتين اتحاد تام.
- بأن تكون الثانية بدلاً من الأولى، نحو: { أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين}.
- أو بأن تكون بياناً لها، نحو: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد}.
- أو بأن تكون مؤكدة لها، نحو: { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً}.
ويقال في هذين الموضعين: إن بين الجملتين كمال الاتصال).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (شرع المؤلفون في بيان مواضع الفصل وذكروا أنها خمسة، وهم يتفقون في هذا العدد مع ما ورد في جل كتب البلاغة.
الموضع الأول: هو أن يكون بين الجملتين اتحاد تام:
الجملة الثانية تتحد مع الجملة الأولى اتحاداً تاماً، اتحاد تام، أو
اتصال كامل، وكما ورد في مصطلحات البلاغيين كمال الاتصال، ومظاهر كمال
الاتصال في ثلاثة أمور إذا تحققت صح الوصف بأن الجملة الثانية متصلة
اتصالاً تاماً بالجملة الأولى.
فإذا كانت الجملة الثانية بدلاً من الجملة الأولى فالبدل والمبدل منه في
حكم الشيء الواحد، لأن الثاني إنما ذكر عوضاً عن الأول وكأنه حل محله وناب
منابه، فحينما نقرأ الشاهد الذي أورده المؤلفون على هذا قول الله عز وجل
قول الله عز وجل: {أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون} يلحظ هنا (أمدكم بما تعلمون) والثانية: (أمدكم بأنعام وبنين) ثم ورد بعده: (وجنات وعيون).
ما ذكر في الآية الثانية وما بعدها {أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون}
الانعام والبنين والجنات والعيون هي ما يعلمه هؤلاء مما أمدهم الله به
وكأنما ذكر بعد في الآية وما بعدها الجملة الثانية وما بعدها، هو نفسه الذي
أمدهم الله (بما تعلمون)، فالذي يعلمونه هو الأنعام والبنين والجنات
والعيون، إذاً الجملة الثانية هي بدل للجملة الأولى وهي بهذا تمثل الاتحاد
التام بين الجملتين، ولا يعطف ولا يوضع حرف العطف بين البدل والمبدل منه.
إذاً هذا هو الموضع الأول مما يوصف بأنه الاتحاد بين الجملتين أو الاتصال
الكامل أو كمال الاتصال.
- إذا كانت الصورة الثانية:
إذا كانت الجملة الثانية بياناً للجملة الأولى، وذكر المؤلفون قول الله عز وجل: {فوسوس إليه الشيطان * قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}.
يلحظ أن الجملة الثانية: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، يلحظ أن الوسوسة التي حصلت من الشيطان ذكرت مجملة في الجملة الأولى: {فوسوس إليه الشيطان}، هذه الوسوسة تتحقق عن طريق مجموعة من الأشياء حتى تبين هذه الوسوسة كيف كانت، جاء النص الذي وردت فيه الوسوسة { قال يا آدم هل أدلك على شجرة }
إذا (قال يا آدم) هو الوسوسة ذكر هناك إجمالاً وذكر بيانه في الجملة
الثانية، ولهذا الاتصال التام الاتحاد الكامل بين الجملتين واضح في هذا
الموضوع، فلم تعطف: (فوسوس إليه الشيطان وقال) لأنه لو جاءت: (فوسوس إليه
الشطيان وقال) لكانت الجملة الثانية غير الأولى لما يقتضيه العطف من
التغاير، ولكن لأنه (فوسوس له الشيطان قال) (قال) وما بعدها هي مبينة
للوسوسة المذكورة في الجملة الأولى.
أما الصورة الثالثة للاتصال الاتحاد التام والاتصال الكامل:
فهي أن تكون مؤكدة الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى. حين ننظر إلى وقل
الله عز وجل: {فمهل الكافرين} هذه الجملة الأولى، والجملة الثانية {أمهلهم رويداً} "مهل الكافرين" يلحظ أن الحديث عن فئة محددة والله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله {فمهل الكافرين} ثم ورد في الجملة الثانية: {أمهلهم}
فمادة الإمهال موجودة هنا والمسند إليه أيضاً موجود وهم وهي هذه الفئة
المتحدث عنها ، اختلف (فمهل) عن (أمهل) هذه قضية أخرى ، كلن الموضوع الآن
يتصل بالجملة الثانية صارت توكيداً للجملة الأولى وهي التأكيد على مسألة
طلب إمهال هذه الفئة ، طلب إمهال الرسول صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم لهذه
الفئة المتحدث عنها . إذاً لا يمكن أن يكون بين المؤكد والمؤكد لأنهما
بمنزلة الشيء الواحد فلا يصح الكلام حينما نقول : ( فمهل الكافرين وأملهم)
لأنه سيصير فيه تغاير بين (فمهل) و (أمهل) في هذا الجانب والمراد هو تأكيد
المعنى الأول).
القارئ: (الثاني : أن يكون بين الجملتين تباين تام ، بأن يختلف خبراً وإنشاءً ، كقوله :
وقــال رائـــدهم : أرســو نــزاولـها فحتف كل امرئٍ يجري بمقدار
أو بأن لا يكون بينهما مناسبة في المعنى ، كقولك : ( علي كانت ، الحمام
طائر) ، فإنه لا مناسبة في المعنى بين كتابة علي وطيران الحمام . ويقال في
هذا الموضع : إن بين الجملتين كمال الانقطاع).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (الموضع الثاني من مواضع الفصل هو
وجود التباين . يعني التباين بين الجملة الثانية والجملة الأولى ، لا علاقة
للجملة الثانية بالجملة الأولى من ناحيتين :
الناحية الأولى : الوصف النحوي للجملة التي يمكن أن توصف بأنها إنشائية
أو خبرية والوصف البلاغي ، فتحديد الإنشاء والخبر من حيث نوع الجملتين هو
تحديدهم من حيث الواقع ، علاقة المعنى بالواقع ، فالواقع هو الذي يحدد أهي
خبرية أم إنشائية ، فإذا كان المعنى موجوداً قبل تلفظ المتكلم أو يدعى
وجوده فهي خبر ، وإن كان المعنى لم يقع إلا بعد التلفظ فهو إنشاء ، إذاً من
هذه الزاوية إذا اختلفت الجملتان واحدة أصبحت إنشائية والثانية خبرية ،
فالأصل في هذه الحالة ألا تعطف الثانية على الأولى ، لماذا؟
لأن التباين يمنع الاشتراك ، لأن وجود أداة العطف وهي الواو
يقتضي أمرين : تباين من جهة بأن المعطوف والمعطوف عليه واشتراك من جهة أخرى
، اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في شيء ، فإذا كانت الجملة الأولى خبرية
والجملة الثانية إنشائية فالتباين هنا تام ، وهو مسوغ للفصل وعدم ورود واو
العطف في هذا الجانب .
وهذه قضية اختلف فيها البلاغيون والنحويون ، فموضوع عطف الخبر
على الإنشاء يجيزه بعض النحويين ويمنعه البلاغيون ، البلاغيون يمنعون عطف
الخبر على الإنشاء ، ولهم في ذلك حجة وهي مسألة هذا التباين الذي حصل في
نوعي الأسلوب ، وهو مسوغ لعدم العطف .
والنحويون يحتجون بورود عدد من الشواهد الفصيحة سواء كان في
كتاب الله عز وجل من آياته من آيات كتاب الله الكريم أو من شواهد الكلام
العربي المحتج به يرد عطف الخبر على الإنشاء ، وقد أول البلاغيون كل
الشواهد التي ذكرها النحويون مما يجوز فيه عطف الخبر على الإنشاء بلون سموه
عطف القصة على القصة ، وهو ما يتصل بقضية أن العطف ليس للموضع الذي ورد
قبل العطف مباشرة وإنما لموضع يلائمه من حيث الخبرية والإنشائية وإن كان
بعيداً وهذا كلام يطول يمكن أن يوجد أن يرجع إليه في المطولات .
الشاهد الذي أورده المؤلفون قولهم :
وقــال رائـــدهم : أرســو نــزاولـها ، فعندنا (نزاولها) ، هنا طبعاً
مقصود الشاعر وهو الأخطل يقول: أقيموا في هذا المكان (أرسوا) اقيموا في هذا
المكان لنزاول الحرب ، (فأرسوا نزاولها) برفع الفعل حتى لا يكون جواب
الطلب فيكون أشبه ما يكون بجملة واحدة ( فأرسوا نزاولها) ؛ لأن نزاولها
الآن صارت جملة خبرية ، (وأرسوا) جملة إنشائية لأنها أمر ، فاختلفت
الجملتان في الخبرية والإنشائية ولهذا كان مسوغاً لعدم الوصل بالواو بين
الجملتين .
هذا الموضع الأول الذي يمثل اختلاف الجملتين في الخبرية
والإنشائية ، والبلاغيون قالوا : لابد أن يكون هذا الاختلاف في اللفظ
والمعنى الاختلاف في اللفظ والمعنى ، ويمكن أن يكون الاختلاف في المعنى فقط
ويعني مر قبل القليل الإشارة إلى قوله قولك :(لا وشفاه الله ) .
أما الموضع الثاني من مواضع التباين التام يسمى وما يسمى كمال
الانقطاع أو الانقطاع الكامل بين الجملتين ولا يختص بنوع الصيغة من حيث
الخبرية والإنشائية ، وإنما يختص بالمعنى ، العلاقة المعنوية بين الجملتين ،
ومثل مثلوا لذلك بكلام مصنوع لأنه لا يقع في الكلام الفصيح الكلام الذي لا
تكون بين جمله صلة في المعنى ، فإذا قال إنسان: (علي كاتب ، ثم قال :
الحمام طائر) ، (فعلي كاتب) هذه تمثل جملة لها معنى ، و (الحمام طائر) تمثل
جملة لها معنى ولا علاقة لمعنى الجملتين ولهذا لا يرد مثل هذا الكلام في
الكلام الفصيح وإنما يورد في الكلام الذي يعلم به وتعلم به القواعد
والضوابط البلاغية لهذه المسائل ، ولذلك يقولون لا مناسبة بين طيران الحمام
ونسبة الكتابة لعلي ، ولو أن العطف حصل بين هاتين الجملتين لكان مطلوباً
أن يتحقق قدر من الاشتراك وقد تغن التغاير كما تدل على ذلك أداة العطف،
ولكن لا قدر للاشتراك هنا ، لأن نسبة الكتابة لعلي غير نسبة الطيران أو وصف
الحمام بأنه يطير ، فلا علاقة بين هاتين الجملتين ، ولهذا يسمى هذا الموضع
: كمال الانقطاع.
القارئ : (الثالث : كون الجملة الثانية جواباً عن سؤالٍ نشأ من الجملة الأولى كقوله :
زعــم الـعـواذل أنــنـي فـي غـمـرة صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
كأنه قيل : أصدقوا في زعمهم أم كذبوا ؟ فقال : صدقوا .
ويقال بين الجملتين شبه كمال الاتصال).
قال الدكتور محمد بن علي الصامل: (هذا الموضع الثالث من مواضع الفصل ،
ويسميه البلاغيون : شبه كمال الاتصال ، وهذا يتحقق في صورة وهي : إذا كانت
الجملة الثانية جواباً لسؤال أثارته الجملة الأولى ، الجملة الأولى حينما
ذكرت أثارت لدى المتلقي سؤالاً ، تأتي الجملة الثانية لتكون كالجواب لذلك
السؤال المقدر، فالشاهد الذي أورده المؤلفون رحمهم الله :
(زعم العواذل أنني في غمرة ) هذا هو الشاهد ، لو أن إنساناً وقف على هذا الشطر لخطر في باله أن الشاعر يقول:
زعـم الـعـواذل أنني في شدة وضيق ، طيب إذا كانوا إذا كان العوازل ، عفواً إذا كان العواذل يزعمون ذلك ، فما رأيك في هذا الزعم ؟
يأتي الشطر الثاني فيقول : ( صدقوا ولكن غمـرتي لا تنجلي ) إذاً ( زعم العواذل) – الذين يعذلونه –
(زعم العواذل أنني في غمرة ) إذا كان هذا زعم العواذل فما رأيك
أنت؟ يأتي الجواب في الجملة الثانية (صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي) غمرتي لا
تنتهي الشدة لا تنقضي ، فكأنه طرح السؤال بأي طريقة سواء كان ما رأيك في
زعمهم ؟ أو أن تقول [ انتهى الوجه الأول ] .
يكون الجواب [ انقطع الصوت ] .
.... معكم ، إنا معكم هذه الجملة ، فهل يصح عطف { الله يستهزئ بهم } على { إنا معكم } ؟
لا يصح ، لماذا؟ لأن المعنى يكون : قالوا : ( إنا معكم ) و (
إنا معكم ) هذه جملة مفعول لـ (قالوا) (وقالوا الله يستهزئ بهم ) لو كانت
معطوفة ، فيكون المعنى :( قالوا إنا معكم وقالوا الله يستهزئ بهم ) فيكون
(الله يستهزئ بهم ) من مقول المنافقين ، وهذا غير صحيح .
طيب الجملة الثانية التي يصح أن يقال إنه يمكن لو تم العطف
لنظر إليها ، وهي جملة : (قالوا) (قالوا) نفسها ، فيصح أن يقال : ( والله
يستهزئ بهم ) لو أن الواو كانت موجودة لكانت عطفاً على جملة (قالوا) ، وهذا
كذلك لا يصح ، لماذا ؟ لأن جملة قالوا مقيدة المشركون متى ، المنافقون
عفواً ، المنافقون متى يقولون : (إنا معكم) ؟ إذا خلوا إلى شياطينهم ، فهذا
القول مقيد بالشرط وهو لا يقولون هذا الكلام إلا إذا خلوا إلى شياطينهم ،
وأما لو كانوا في أوساط المؤمنين فلا يقولون ذلك، فإذاً جملة
(قالوا) مقيدة بالشرط الذي قبلها ، ولو عطفت جملة : (الله يستهزئ بهم) على
جملة (قالوا) ، لانتقل هذا القيد كذلك مع جملة (الله يستهزئ بهم ) ، فيكون
المعنى :
إذا دخلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، وإذا دخلوا إلى
شياطينهم قالوا : الله يستهزئ بهم ، فيكون استهزاء الله عز وجل بهؤلاء
المنافقين مقيد بدخولهم على شياطينهم وهذا أمر غير صحيح وليس مراداً والله
أعلم ؛ لأن الاستهزاء بالمنافقين غير مقيد بشرط أو زمن أو غير ذلك .
وهذا اللون مما يسميه البلاغيون : التوسط بين الكمالين ، يعني
عندنا كمال اتصال وكمال انقطاع ، كمال الاتصال يتحقق عن طريق اتحاد الجمل ،
اتحاد الجمل في نوع خبري كلها جملة خبرية ، إذاً هو جملة خبرية جملة خبرية
والمتحدث عنهم أمر واحد وهم المنافقون، إذاً فيه كمال فيه شيء من الاتصال ،
ولكن لو جئنا للمعنى سنجد أن المعنى مختلف ولا يصح أن تعطف الجملة الأخيرة
على ما قبلها لأن هذا العطف سيوقع في خلاف المعنى ، ولذلك يراد فصل الجملة
الثانية الجملة الأخيرة : (الله يستهزئ بهم ) عما قبلها ، حتى لا يكون
هناك اشتراك في مسألة المعنى ، وهذا ما يكون في الانقطاع ولهذا أخذت شيئاً
من الاتصال وأخذت شيئاً من الانقطاع ولذلك قالوا : التوسط بين الكمالين ،
كمنا الاتصال وكمال الانقطاع ، فهذه الجمل تمثل لون تمثل لوناً من التوسط ،
ولكن لوجود المانع قيام المانع الأصل إذا توسطت الأصل فيها أن يجوز العطف ،
ولكن نظراً لوجود هذا المانع هو الذي دعا لعدم ورود العطف أو ما يسمى
الفصل بين هذه الجملة وما قبلها والله أعلم).