1 Nov 2008
فعل صاحب الشريعة
قال إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨هـ) : (الأَفْعَالُ
فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ: يَكُونَ عَلَى وَجْهِ القُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
-فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ يُحْمَلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ.
- وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ لاَ يُخَصَّصُ بِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فَيُحْمَلُ عَلَى الوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ عَنْهُ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ غَيْرِ القُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ في حَقِّهِ وَحَقِّنَا).
شرح الورقات للعلامة: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي
قال جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٦٤هـ): ( (1) (الأفعالُ) هَذِهِ تَرْجَمَةٌ. (2) (فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ) يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
(لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ القُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ) أَوْ لاَ يَكُونَ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ (فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ يُحْمَلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ) كَزِيَادَتِهِ صلى الله عيه وسلم فِي النِّكَاحِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
(3) (وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ، لاَ يَخْتَصُّ بِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأَحْزَابِ:21]، فَيُحْمَلُ عَلَى الوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا) فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا؛ لأَنَّهُ الأَحْوَطُ.
- (وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ) لأَنَّهُ الْمُتَحَقِّقُ بَعْدَ الطَّلَبِ.
- (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ فِيهِ) لِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
(وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ) فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا).
شرح الورقات لابن الفركاح الشافعي
قال تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري ابن الفركاح الشافعي (ت: 690هـ): ( (1) (الأفعالُ) فِعْلُ صاحبِ الشريعةِ لا يَخْلُو؛ إمَّا أنْ يكونَ على وجهِ القُربةِ والطاعةِ، فإنْ دلَّ دليلٌ على الاختصاصِ يُحْمَلُ على الاختصاصِ.
- وإنْ لمْ يَدُلَّ لا يَخْتَصَّ بهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فيُحمَلُ على الوُجوبِ عندَ بعضِ أصحابِنا.
ومِنْ أصحابِنا مَنْ قالَ: يُحْمَلُ على النَّدْبِ.
ومِنهم مَنْ قالَ: يُتَوَقَّفُ فيهِ.
فإنْ كانَ على وَجْهٍ غيرِ وَجْهِ القُربةِ والطاعةِ، فيُحْمَلُ على الإباحةِ).
صاحبُ الشريعةِ: هوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
والقصْدُ مِنْ هذا الفصْلِ الكلامُ على أفعالِ هِو بيانُ حُكْمِها.
أفعالُ النبيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما كانَ منها على سبيلِ القُربةِ، إذا عُلِمَ
بدليلٍ مُنْفَصِلٍ اختصاصُهُ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
مِثلُ: الوِصَالِ في الصوْمِ، حُمِلَ على الاختصاصِ.
فإنْ لمْ يُوجَدْ دَليلُ اختصاصٍ، مِثلُ: تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فهوَ مَحمولٌ على التشريعِ. واختُلِفَ فيهِ.
فقيلَ: إنَّهُ للوُجوبِ كأقوالِهِ.
واحْتُجَّ على ذلكَ بقولِهِ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقيلَ: يُحْمَلُ على الندْبِ؛ لأنَّ الأفعالَ لا صِيغةَ لها، فنَزَلَتْ على أقَلِّ مَراتِبِ الطلَبِ وهوَ النَّدْبُ.
وقيلَ: يُتَوَقَّفُ فيها حتَّى يُعْلَمَ بدليلٍ مُنْفَصِلٍ ما يُحْمَلُ عليهِ مِنْ إيجابٍ أوْ نَدْبٍ.
ومِن الدليلِ على وُجوبِ
التَّأَسِّي بأفعالِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُبادَرَةُ الصحابةِ
رَضِيَ اللهُ عنهم إلى ذلكَ؛ فإنَّهُم وَاصَلُوا لَمَّا واصَلَ، وخَلَعُوا
نِعالَهم في الصلاةِ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ في الصلاةِ، وحَلَقُوا
رُءُوسَهم لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ في الْمَوْسِمِ.
وأمَّا أفعالُهُ عليهِ
السلامُ العاديَّةُ؛ مِثلُ: (الأكْلِ والشرْبِ والنومِ) ونحوِ ذلكَ،
فإنَّهَا تَحتمِلُ الإباحةَ؛ فإنَّ ذلكَ أَقَلُّ مَراتبِ أفعالِهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
الأنجم الزاهرات للشيخ: محمد بن عثمان المارديني
قال شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني (ت: 871هـ): ( (1) أَقُولُ: لمَّا فَرَغَ منْ بيانِ الظَّاهرِ، شَرَعَ في بيانِ أفعالِهِ - عليْهِ السَّلامُ - وَهُوَ البابُ التَّاسِعُ.
وأرادَ بِهذَا الباب:ِ
بيانَ أحكامِ أفعالِهِ وانْقِسَامِهَا إلى أَنَّهَا تارةً تكونُ: خاصَّةً
بهِ (كالوِصالِ) في الصِّيامِ، ونكاحِهِ منْ غيرِ وليٍّ وغيرِ ذلكَ.
واختلفُوا في الأفعالِ الَّتي لمْ تَخْتَصَّ بِهِ، بلْ هيَ تشريعٌ لأُمَّتِهِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
منهمْ:
مَنْ جعلَهُ على الوجوبِ.
ومنهمْ:
مَنْ جعلَهُ على النَّدْبِ.
ومنهمْ:
مَنْ جعلَهُ على الإباحةِ على مَا يأتي إيضاحُهُ - إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
(2)
أقولُ: هذَا شُرُوعٌ في تَقْسِيمِ أفعالِهِ عليْهِ السَّلامُ: فَذَهَبَ
قومٌ إلى أنَّ أفعالَهُ عليْهِ السَّلامُ تُحْمَلُ على الوُجوب.
منهمْ: أَبُو سعيدٍ الاصْطَخْريُّ، وأبُو العبَّاسِ بنُ سُرَيْج، وأبُو عليِّ بنُ خَيْرَانَ.
واحتجُّوا بقولِهِ:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فدلَّ على أنَّ محبَّتَهُ تعالى مستلزِمةٌ لمتابعةِ رسولِهِ عليهِ السَّلامُ.
وكذَا قولُهُ تعالى: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وفعلُهُ عليْهِ السَّلامُ منْ جملةِ مَا أتى بِهِ، فدلَّ -أيضًا- على أنَّ الأخْذَ بأفعالِهِ واجبٌ.
وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ -رحمهُ اللهُ- منْ قولِهِ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ…} [الأحزاب:21] دالَّةٌ عَلى الوجوبِ، فيهِ نظرٌ على مَا يأْتي.
وذهبَ الشَّافِعيُّ إلى أنَّهُ يُحْمَلُ على النَّدبِ؛ لأنَّ قولَهُ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لأنَّ الأسْوَةَ الحسنةَ في أفعالِهِ قدْ يكونُ واجبًا، وقدْ يكونُ ندبًا.
والأصلُ: عدمُ الوجوبِ،
فَحُمِلَ على النَّدبِ حتَّى يدلَّ دليلٌ على الوجوبِ.
وذهبَ أبُو بكرٍ
الصَّيْرَفيُّ، وأبُو حامدٍ الغَزَاليُّ، والإمامُ الرَّازيُّ إلى
التَّوَقُّفِ؛ لأنَّ أفعالَهُ تدلُّ على الوجوبِ تارةً، وعلى النَّدبِ
تارةً، وعلى الإباحةِ تارةً، فتعيَّنَ التَّوقُّفُ ليدلَّ على أحدِهِمْ.
وغايةُ مَا في هذَا البابِ:
أنَّ أفْعالَهُ عليْهِ السَّلامُ لاَ تخلُو: أنْ تَخْتَصَّ بِهِ أوْ لاَ:
- فإنِ اخْتَصَّتْ بهِ كالوصالِ: فلاَ بَحْثَ فيهِ.
- وإنْ لمْ تَخْتَصَّ بهِ فلاَ يخْلُو:
- أنْ تكونَ على وجهِ الطَّاعةِ أوْ لاَ: فإنْ كانتْ على وجهِ الطَّاعةِ: نُظِرَ:
إنْ دلَّ دليلٌ على
وجوبِهِ: حُمِلَ عليْهِ، (كغُسْلِهِ منِ الْتِقَاءِ الخِتَانَيْن)ِ،
و(زيادةِ الرُّكوعِ في صلاةِ الكسُوفِ) دونَ سائِرِ الصَّلواتِ.
- وإنْ دلَّ على النَّدبِ: حُمِلَ عليْهِ (كالسُّنَّةِ الرَّاتبةِ)، و(التَّهجُّدِ ليْلاً) وغيرِ ذلكَ.
أمَّا إذَا لمْ تكنْ على وجهِ الطَّاعةِ فمباحةٌ (كنومِهِ عليْهِ السَّلامُ، وأكلِهِ،) واللهُ أعلمُ).
قرة العين للشيخ: محمد بن محمد الرعيني الحطاب
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المالكي [المعروف: بالحطاب] (ت: 954هـ): ( (1) (الأفعَالُ) هذِهِ تَرجَمَةٌ، والمرادُ بهَا بيَانُ حُكمِ أَفعَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) ولهذا قالَ المصنِّفُ: (فعْلُ صَاحِبِ الشَّريعَةِ) يَعنِي: النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لا يخلُو: إمَّا أَن يكونَ علَى وَجهِ القربةِ، والطَّاعَةِ، أو غيرِ ذلكَ) والقربةُ والطَّاعَةُ بمعنًى واحِدٍ.
فإن كانَ علَى وَجهِ القُربَةِ والطَّاعَةِ، (فإنْ دَلَّ دليلٌ علَى الاخْتصَاصِ بهِ؛ يُحْمَلُ علَى الاختِصَاصِ) (كَالوِصَالِ في الصَّومِ)؛ فإنَّ الصَحَابَةَ لمَّا أرادُوا الوِصَالَ نَهَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهُ، وقالَ: ((لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ)). مُتَّفَقٌ علَيهِ. (وإنْ لَمْ يَدُلَّ) دَلِيلٌ علَى الاختِصَاصِ بهِ؛ (كالتَّهَجُّدِ)؛ (لا يُخَصَّصُ بهِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمُ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ})؛
أيْ: قدوةٌ صَالِحَةٌ، والأسوةُ؛ بكَسْرِ الهمزةِ وضمِّهَا: لغتَانِ،
قُرِئَ بِهمَا في السَّبعَةِ، وهوَ اسمٌ وُضِعَ مَوضعَ المَصدرِ؛ أي:
اقتداءٌ حَسنٌ، والظَّرفيَّةٌ هُنَا مجازِيَّةٌ؛ مِثلُ قَولِهِ تعالَى: {لَقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وإِخْوَتِهِ آيَاتٌ للسَّائِلِينَ}، وإذا لم يُخصَّصْ ذلكَ الفعلُ بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَعُمُّ الأُمَّةَ جَمِيعًا.
ثمَّ إنْ عُلِمَ حُكْمُ ذلكَ الفعلِ من وجوبٍ أو ندبٍ؛ فوَاضِحٌ، وإن لمْ يُعلمْ حُكْمُهُ (فيُحْمَلُ علَى الوجُوبِ عند بعْضِ أصْحَابِنَا)
في حقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي حَقِّنَا؛ لأنَّهُ
الأحْوطُ، وبهِ قالَ مالكٌ رضيَ اللَّهُ عنهُ وأكثرُ أصحَابهِ.(ومِن أَصحَابنَا مَن قالَ: يُحمَلُ علَى النَّدبِ) لأنَّهُ المُتَحَقِّقُ.(ومِنْهُمْ مَن قالَ: يتوقَّفُ عنهُ) لِتعارُضِ الأدلَّةِ في ذلكَ.
(3) (فإنْ كانَ) فعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (علَى وجهٍ غيرِ القُربَةِ والطَّاعَةِ)
كالقيامِ، والقعُودِ، والأكْلِ، والشُّربِ، والنَّومِ؛ (فَيُحْمَلُ علَى الإِبَاحةِ في حقِّهِ وحقِّنَا) وهذَا في أصْلِ الفعلِ.
- وأمَّا
في صفةِ الفعلِ؛ فقَالَ بَعَضُ المَالكيَّةِ: يُحْمَلُ علَى النَّدبِ،
ويؤيِّدهُ مَا وَرَدَ عن كثيرٍ منَ السَّلَفِ منَ الاقتداءِ بهِ في ذلكَ.
وقالَ بعضُهُم: يُحمَلُ علَى الإِباحَةِ أيضًا.
وعُلِمَ ممَّا ذكرَهُ المصَنِّفُ انحصَارُ أَفعَالهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في:
الوجُوبِ، والنَّدْبِ، والإِباحَةِ،
فلا يقَعُ مِنهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محرَّمٌ؛ لأنَّهُ معصومٌ، ولا مكروهٌ، ولا
خلافُ الأولَى؛ لقلَّةِ وقوعِ ذلكَ من المُتَّقِي منْ أمَّتِهِ؛ فكَيفِ
منهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!).
شرح الورقات للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان
قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: ( (1) أَفْعَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ؛ لأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلُهُ، وَتَقْرِيرُهُ؛
فَكَانَ الأَوْلَى
بالمُصَنِّفِ أَنْ يَجْمَعَهَا معَ الأخبارِ الآتيَةِ فِي بابٍ مُسْتَقِلٍّ
كما هيَ طريقةُ كثيرٍ من الأُصُولِيِّينَ.
وقد اهْتَمَّ الأُصُولِيُّونَ بالأفعالِ، وَأَفْرَدُوا فيها مُصَنَّفَاتٍ مُسْتَقِلَّةً.
وَأَفْعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
الأُولَى: أنْ يكونَ فَعَلَهَا علَى وجهِ القربةِ والطاعةِ.
الثانيَةُ: ألا يكونَ علَى وجهِ القربةِ والطاعةِ.
فإنْ كانَ علَى وجهِ القربةِ والطاعةِ فلا يَخْلُو منْ حالَيْنِ:
الأولَى:
أنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ علَى الاختصاصِ بهِ.
الثانيَةُ:
أَلا يَدُلَّ دليلٌ علَى الاختصاصِ بهِ.
فإنْ دَلَّ دليلٌ علَى الاختصاصِ بهِ حُمِلَ الفِعْلُ علَى الاختصاصِ بهِ.
وليسَ لأحدٍ أن يَفْعَلَهُ مِثْلَهُ، وذلكَ (كزيادتِهِ فِي النكاحِ علَى أربعِ نِسْوَة) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}، وَكُنَّ أَكْثَرَ منْ أربعٍ.
- و(كالوِصالِ فِي الصومِ)، و(النِّكَاحِ بلفظِ الهبةِ)، وغيرِ ذلكَ مِمَّا دَلَّ عليهِ القرآنُ أو السُّنَّةُ.
وإنْ لمْ يَدُلَّ دليلٌ
علَى الاختصاصِ بهِ، فلا يُحْكَمُ بالخُصُوصِيَّةِ، وهذا هوَ الأصلُ،
أَعْنِي: عَدَمَ الخُصُوصِيَّةِ إلا بِدَلِيلٍ؛ لأنَّ الأصلَ التَّأَسِّي
بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فيكونُ هذا النصُّ مَعْمُولاً بهِ حتَّى يقومَ الدليلُ المانعُ، وهوَ ما يُوجِبُ الخُصُوصِيَّةَ.
فإذا كانَ الفعلُ علَى
وجهِ القربةِ والطاعةِ ولا دَلِيلَ علَى الاختصاصِ ففيهِ خلافٌ، ومثالُهُ:
ما وَرَدَ عنْ شُرَيْحِ بنِ هَانِئٍ قالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ).
فالسواكُ عندَ دخولِ
البيتِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ قَوْلٌ، وَفِعْلُهُ علَى وَجْهِ
القربةِ، فهذا فيهِ خلافٌ علَى أقوالٍ ذَكَرَهَا الشَّوْكَانِيُّ فِي
إرشادِ الفحولِ (ص36) كما ذَكَرَهَا غَيْرُهُ.
وأَشَارَ المُؤَلِّفُ هنا إلَى ثلاثةِ أقوالٍ:
الأَوَّلُ:
الوجوبُ عَمَلاً
بالأَحْوَطِ، وهوَ قولُ أبي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشافعيَّةِ كَمَا حَكَاهُ
المُصَنِّفُ، وَرِوَايَةٌ عن الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الثاني:
النَّدْبُ لرُجْحَانِ
الفعلِ علَى التركِ، وهوَ قولُ بعضِ الشافعيَّةِ كما ذَكَرَ المُصَنِّفُ،
وروايَةٌ عن الإمامِ أحمدَ أيضًا، وَاخْتَارَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الثالثُ:
التَّوَقُّفُ لِعَدَمِ
مَعْرِفَةِ المرادِ ولِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ، وهذا أَضْعَفُ الأقوالِ،
قالَ الشَّوْكَانِيُّ: (وَعِنْدِي أنَّهُ لا مَعْنَى للوَقْفِ فِي الفعلِ
الذي قَدْ ظَهَرَ فيهِ قَصْدُ القربةِ، فَإِنَّ قَصْدَ القربةِ يُخْرِجُهُ
عن الإباحةِ إلَى ما فَوْقَهَا. وَالمُتَيَقَّنُ مِمَّا هوَ فَوْقَهَا
النَّدْبُ) ا. هـ ص38.
فالراجحُ -واللَّهُ
أَعْلَمُ- هوَ القولُ بالنَّدْبِ؛ لأنَّ القربةَ طاعةٌ، وهيَ غيرُ
خَارِجَةٍ عن الواجبِ والمندوبِ، والقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا
تَرْجِيحُ الفعلِ علَى التركِ، وهذهِ حقيقةُ المندوبِ، قالَ شيخُ الإسلامِ
ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وما فَعَلَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى وجهِ التَّعَبُّدِ فهوَ عبادةٌ يُشْرَعُ
التَّأَسِّي بهِ فيهِ، فإذا خَصَّصَ زَمَانًا أوْ مَكَانًا بِعِبَادَةٍ كان
تَخْصِيصُهُ تلكَ العبادةَ سُنَّةً…) (مَجْمُوعَ الفَتَاوَى 10/409).
هذا حُكْمُ ما فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى وجهِ القربةِ والطاعةِ.
أمَّا مَا فَعَلَهُ علَى وَجْهِ غيرِ القربةِ فهوَ كما يَلِي:
- ما فَعَلَهُ بِمُقْتَضَى الجِبِلَّةِ والبَشَرِيَّةِ: كالقيامِ،
والقعودِ، والنَّوْمِ، والأكلِ، والشربِ، فهذا لا حُكْمَ لهُ فِي ذاتِهِ؛
لأنَّهُ ليسَ منْ بابِ التَّكْلِيفِ، ولم يَفْعَلْهُ للتشريعِ؛ فلا
يَلْزَمُنَا أنْ نَتَأَسَّى بهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها،
بلْ يَفْعَلُ ذلكَ لأنَّهُ بَشَرٌ؛ لأنَّ كلَّ ذِي رُوحٍ من البشرِ لا
يَخْلُو عنها.
- إلا
إذا كانَ هذا الفعلُ لهُ هيئةٌ مُعَيَّنَةٌ: كَصِفَةِ أَكْلِهِ وشُرْبِهِ
وَنَوْمِهِ، ونحوِ ذلكَ، فهذا لهُ حُكْمٌ شرعيٌّ كما دَلَّتْ عليهِ
النصوصُ.
- ما فَعَلَهُ وَفْقَ العاداتِ،
وذلكَ (كلباسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فهذا النوعُ مُبَاحٌ
لم يُقْصَدْ بهِ التشريعُ، فلا اسْتِحْبَابَ للمتابعةِ؛ لأنَّ اللِّبَاسَ
مَنْظُورٌ فيهِ إلَى العادةِ التي اعْتَادَهَا أهلُ البلدِ، ولهذا لم
يُغَيِّر الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَاسَهُ الذي كانَ
يَلْبَسُهُ قبلَ النُّبُوَّةِ لَكِنْ يُعْلَمُ أنَّ الإسلامَ وَضَعَ
شُرُوطًا للباسِ الرجلِ والمرأةِ لا يَجُوزُ تَخَطِّيهَا.
- ما فَعَلَهُ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فهذا حُكْمُهُ حُكْمُ المُجْمَلِ.
- فإنْ كانَ وَاجِبًا فالفعلُ واجبٌ.
- وإنْ كانَ مَنْدُوبًا فالفعلُ مندوبٌ.
- لكنَّهُ
واجبٌ علَى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا حتَّى
يَحْصُلَ البلاغُ، ثمَّ يَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الأُمَّةِ فِي ذلكَ.
فمثالُ الواجبِ: مَسْحُهُ الرأسَ كُلَّهُ بيانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرءوُسِكُمْ}.
ومثالُ المندوبِ: صَلاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ عندَ المقامِ بعدَ طوافِهِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقدْ نَقَلَ ابنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البارِي (1/499) الإجماعَ علَى جوازِ رَكْعَتَيِ الطوافِ إلَى أيِّ جِهَةٍ منْ جهاتِ الكعبةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ).
شرح الورقات للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم (مفرَّغ)
القارئ: (الأفعال)
فعل صاحب الشرع فلا يخلو أن تكون على وجه القربة أو الطاعة، فإن دل دليل
على اختصاصه به حمل عليه، وإن لم يدل لم يختص به لأنه تعالى قال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فيحمل على (الوجوب) عند بعض أصحابنا.
ومنهم من قال يحمل على (الندب).
ومنهم من قال (يتوقف فيه).
وإن كان على (غير القربة) و(الطاعة) فيحمل على (الإباحة).
قال الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم: (هذا باب جديد، وهو باب الأفعال، وقد أفرد بعض أهل العلم بعض المؤلفات الخاصة بهذا الباب:
منها: كتاب
(الرصف فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل والوصف)، لمحمد بن
محمد بن عبد الله العاقوري، مطبوع في مجلدين، ويغلب عليه جانب الحديث.
- وكتاب (المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول) -عليه الصلاة والسلام- لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، وقد طبع.
- وأيضاً كتاب اسمه (تفصيل الإجمال في تعارض الأفعال والأقوال) للعلائي، ولم يطبع حسب علمي، لم يطبع كاملا.
- وكتاب
(أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية) لمحمد بن
سليمان الأشقر، مطبوع ثلاثة أجزاء في مجلدين، في آخره شيء من كتاب
العلائي، والأفعال -أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام- يقتدى به صلى الله
عليه وسلم فيها، ولكن لا على سبيل العموم، لأن فيها تفصيلا.
- ومعلوم أن السنة:
هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره؛ فالفعل من السنة، والقول كذلك،
والتقرير كذلك، ولهذا حسن التعرف على ما يتعلق بهذا الباب والعناية به،
حتى يعرف الإنسان ما يقتدي به صلى الله عليه وسلم من الأفعال، وما ليس محل
اتباع واقتداء.
- الفعل:
قال في (القاموس): (الفِعل بالكسر: (حركة الإنسان)، أو (كناية عن كل عمل
متعدٍّ)، وبالفتح مصدر فَعَل (كمنع) )، ومعلوم أن النبي عليه الصلاة
والسلام كغيره من الأنبياء معصوم فيما يبلغ به عن الله، أما ما عدا هذا
ففيه كلام معروف، وقد أمر الله سبحانه بالاقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام
والتأسي به، قال الله جل وعلا {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
- قال
الحافظ (ابن كثير) في (تفسيره): (هذه الآية أصل في التأسي برسول الله صلى
الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس
بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب بصبره ومصابرته، ومرابطته
ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما
وأبدا إلى يوم الدين).
- قال (القرطبي) في (تفسيره): (الثانية: من المسائل المتعلقة بهذه الآية:قوله تعالى: {أسوة}، الأسوة القدوة، والأسوة: ما يتأسى به أي يتعزى به، فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله.
- وقال الله جل وعلا أيضا: {قل
إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور
رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}.
- قال
الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة
الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع
الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله)، كما ثبت في (الصحيح)
عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).
- ولهذا قال {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا}-أي تخالفوا عن أمره-{فإن الله لا يحب الكافرين} فدل على أن مخالفته في الطريقة أمر لا ينبغي والله لا يحب من اتصف بهذا.
- وكذلك يقول جل وعلا: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الأسوة وبه القدوة.
وكلمة السنة كما سبق لها إطلاقات:
- تطلق على ما جاء منقولا عن النبي عليه الصلاة والسلام.
- وتطلق في مقابلة البدعة، فيقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
- وتطلق على ما عمل عليه الصحابة كما في قوله عليه الصلاة والسلام ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)).
- تطلق على عمل الخلفاء الراشدين.
وبهذا نعرف أن السنة تطلق على:
- قوله عليه الصلاة والسلام.
- وعلى فعله.
- وعلى إقراره.
- وعلى ما جاء عن الصحابة والخلفاء.
ولكن إطلاقها على القول والفعل والتقرير هو ما يطلق عليه السنة عند الأصوليين.
والأمثلة على الأقوال كثيرة جدا:
- كقوله عليه الصلاة والسلام ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
- وقوله عليه الصلاة والسلام ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).
- وقوله صلى الله عليه وسلم ((من غشنا فليس منا)).
وأمثال الأفعال كثيرة:
- كأفعاله صلى الله عليه وسلم في (الصلاة والصوم والحج) وغير ذلك
وأمثلة التقرير كثيرة:
- ومنها: قولي ومنها فعلي.
- مثال القولي: تقريره (الجارية) على قولها لما سألها سيدها أين الله؟
قالت في السماء، أقرها عليه الصلاة والسلام على ذلك قال: (أعتقها فإنها مؤمنة).
- والإقرار الفعلي كثير: مثل (أكل الفرس) على عهده عليه الصلاة والسلام.
- وقول جابر: كنا نعزل والقرآن ينزل، فكل هذا من السنة.
ولكن الأفعال تنقسم إلى أقسام:
- قد تكون هذه الأفعال خاصة، فالخصوصيات ليست محل بحث هنا.
- وقد تكون الأفعال أفعالاً جبلية، (كالنوم والأكل والشرب)، فالإنسان لو قال:
- أنا سآكل لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل.
- أنا
سأنام لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينام، هذا غير صحيح، كان عليه
الصلاة والسلام يأكل، ويشرب، وينام قبل أن يوحى إليه، هذه أفعال جبلية، لكن
محل السنة الأكل على صفة معينة، والشرب على صفة معينة، والنوم على صفة
معينة، هذا نعم، أما نفس الأكل ونفس الشرب ونفس النوم هذه أفعال جبلية لا
تدخل في الاقتداء والاتباع في ذاتها.
وقد قسم العلماء أفعاله عليه الصلاة والسلام أقساماً كثيرة:
منها تقسيم الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول) فإنه قسمها إلى سبعة أقسام:
الأول: ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية:
(كتصريف الأعضاء وحركات
الجسد)، فالحكم في هذا النوع أنه لا يتعلق به أمر باتباع ولا نهي عن
مخالفة، وليس فيه أسوة، ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
الثاني: ما لا يتعلق بعبادات ووضح فيه أمر الجبلة:
(كالقيام والقعود)،
وما أشبه ذلك، فهذا الحكم فيه أنه ليس فيه تأس ولا به اقتداء،ولكنه يدل على (الإباحة) عند الجمهور.
القسم الثالث: ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع:
لمواظبته عليه على وجه معروف ووجه (مخصوص)،
(كالأكل والشرب واللبس والنوم)، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة،
وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة، على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل.
- وأما
إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات، كما ورد عنه
الإرشاد إلى هيئة من هيئات (الأكل والشرب واللبس والنوم) فهذا خارج عن هذا
القسم داخل فيما سيأتي، وهذا القسم فيه قولان للإمام الشافعي:
- يُرجع فيه إلى الأصل، وهو عدم التشريع.
- أو إلى الظاهر وهو التشريع، والراجح الثاني، وقد حكى عن أكثر المحدثين، فيكون (مندوبا)، وهذا هو الأقرب.
- أما من قال أن هذا يدل على (الإباحة) فقط فهذا محل نظر.
القسم الرابع: ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم:
(كالوصال، والزيادة على أربع من النساء، والزواج بدون ولي وبدون شهود)، هذا خاص، ليس محل اقتداء.
- فلو قال إنسان: (أنا سأتزوج خامسة وسادسة) وما أشبه ذلك نقول: لا، لا يجوز لك ذلك.
- ونكاح ما زاد على أربع هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
- وكذلك لو أراد إنسان أن يواصل، نقول لا ينبغي لك هذا والوصال خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
- وكذلك لو أراد شخص أن يتزوج بدون شهود، أو بدون ولي، نقول ليس لك ذلك وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.
فهذا القسم خاص به عليه الصلاة والسلام لا يشاركه فيه غيره.
الخامس: ما أبهمه صلى الله عليه وسلم لانتظار الوحي:
كعدم تعيين نوع الحج مثلا.
- فهذا قيل: يقتدى به في ذلك.
- وقيل: لا.
قال إمام الحرمين في
(النهاية): (وهذا عندي هفوة ظاهرة، فإن إيهام رسول الله صلى الله عليه وسلم
محمول على انتظار الوحي قطعًا، فلا مسوغ للاقتداء به من هذه الجهة).
القسم السادس: ما يفعله مع غيره عقوبة له:
اختلفوا في هذا، هل يقتدى به فيه أم لا؟
فقيل: يجوز الاقتداء.
- وقيل: لا يجوز.
- وقيل: هو
بالإجماع موقوف على معرفة السبب؛ وهذا هو الصواب، فإن وضح لنا السبب الذي
فعله لأجله، يعني مع غيره عليه الصلاة والسلام كان لنا أن نفعل مثل فعله
عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز.
- وأما إذا فعل شيئا بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء، فتعين علينا القضاء بما قضى به صلى الله عليه وسلم.
القسم السابع والأخير: الفعل المجرد عما سبق:
- فإن ورد بياناً كقوله صلى الله عليه وسلم ((صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم))،
و(كالقطع من الكوع) بياناً لآية السرقة، هذا لا خلاف أنه دليل في حقنا
وواجب علينا، وإن ورد بيانا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من (وجوب وندب)،
(كأفعال الحج،وأفعال العمرة)، وما أشبه ذلك.
القارئ: (والأفعال فعل صاحب الشرع فلا يخلو أن تكون على: وجه القربة أو الطاعة.
- فإن دل دليل على اختصاصه به حمل عليه.
- وإن لم يدل لم يختص به لأنه تعالى قال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا.
- ومنهم من قال: يحمل على الندب. ومنهم من قال: يتوقف فيه.
- وإن كان على غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة.)
الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (والأفعال فعل صاحب الشرع، فلا يخلو أن تكون هذه الأفعال على وجه القربة أو الطاعة، فإن دل دليل على اختصاصه به حمل عليه)، معنى هذا واضح، المراد بالأفعال أفعال صاحب الشرع وهو: النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله هذه لا تخلو:
- إما أن تكون على وجه القربة والطاعة.
- أو لا تكون على وجه القربة والطاعة.
- كما
أنها أيضا قد يدل دليل على اختصاصه بها، أو لا؛ فإن دل دليل أن هذا فعل
خاص به عليه الصلاة والسلام، (كالوصال في الصيام ونكاحه من غير ولي وشهود)
وما أشبه ذلك فهذا خاص به، ليس لأحد أن يقتدي به فيما هو خاص به، وخصائصه
عليه الصلاة والسلام كثيرة، وأفردت بمؤلفات خاصة، من أوسعها (الخصائص
الكبرى) لجلال الدين السيوطي، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات.
أما إن كانت الأفعال غير خاصة به عليه الصلاة والسلام هل تحمل أفعاله على الوجوب أو على الندب أو على الإباحة؟
هذا فيه خلاف.
- إن لم يدل دليل على أن هذا الفعل خاص به عليه الصلاة والسلام فإنه يقتدى به لظاهر الآية قوله جل وعلا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} لكن الاقتداء هذا، هل هو على سبيل الوجوب؟
قيل ذلك، قال: (فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا).
قال بهذا: أبو سعيد الاصطخري، وأبو العباس ابن سريج، وأبو علي ابن خيران من كبار علماء الشافعية، وهذا معنى قوله: عند بعض أصحابنا.
- ومنهم من قال: يحمل على الندب.
- ومنهم من قال: إنه
يحمل على الإباحة، وأقرب هذه الأقوال الثلاثة القول بأنها محمولة على
(الندب)، لأن الأسوة والاقتداء به في أفعاله قد يكون واجباً.
- وقد يكون (ندبا)، والأصل (عدم الوجوب) فيحمل على (الندب) حتى يدل دليل على (الوجوب)، ذهب إلى هذا الإمام الشافعي).
العناصر
فعل صاحب الشريعة
أفرد بعض أهل العلم هذا الباب بمؤلفات مستقلة
كتاب (الوصف) للعاقوري
كتاب (المحقق) لأبي شامة
كتاب (تفصيل الإجمال) للعلائي
كتاب (أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها) للأشقر
موضوع باب الأفعال: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الاقتداء بها السنة: هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره تعريف الفعل الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المراد بالأفعال أفعال صاحب الشرع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث حكم الاقتداء بها
ثمرة دراسة هذا الباب: معرفة ما يقتدى به من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
فعله صلى الله عليه وسلم من السنة
إطلاقات كلمة (السنة)
الإطلاق الأول: ما جاء منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم
الإطلاق الثاني: في مقابلة البدعة
الإطلاق الثالث: عمل الصحابة ولا سيما الخلفاء الراشدون
السنة تطلق على قوله عليه الصلاة والسلام وعلى فعله وعلى إقراره
من أمثلة السنن القولية: حديث: (إنما الأعمال بالنيات...)
من أمثلة السنن الفعلية: أفعاله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج
أنواع السنن التقريرية
سنن تقريرية قولية
مثال السنن التقريرية القولية: تقرير الجارية على جوابها لما سئلت أين الله؟ بقوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة)
سنن تقريرية فعلية
مثال السنن التقريرية الفعلية: أكل الفرس على عهده صلى الله عليه وسلم
تعريف (الفعل) لغة
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن ربه عز وجل
العصمة المطلقة فيها خلاف بين أهل العلم
قول الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
الأسوة: القدوة
قول الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله...)
هذه الآية تسمى آية الامتحان
قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...)
القسم الأول: ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصريف الأعضاء
حكم القسم الأول: يفيد الإباحة ولا يتعلق به أمر ولا نهي
القسم الثاني: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة
حكم القسم الثاني: يفيد الإباحة وليس فيه تأسٍّ
القسم الثالث: ما يحتمل أن يخرج من الجبلة إلى التشريع
حكم القسم الثالث: فيه قولان والأرجح التأسي به على جهة الندب
القسم الرابع: ما علم اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم
مثال القسم الرابع: الوصال، والزيادة على أربع زوجات
حكم القسم الرابع: خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد فعله
القسم الخامس: ما أبهمه النبي صلى الله عليه وسلم لانتظار الوحي
مثال القسم الخامس: عدم تعيين نوع النسك
حكم القسم الخامس: لا يدخله الاتساء على الصحيح
القسم السادس: ما يفعله مع غيره عقوبة له
مثال القسم السادس: وصاله صلى الله عليه وسلم بالمواصلين تنكيلاً لهم
حكم القسم السادس: الصحيح أن حكم الاقتداء به فيه موقوف على معرفة السبب
القسم السابع: الفعل المجرد عما سبق
حكم القسم السابع: يقتدى به فيه
ذكر هذا التقسيم الشوكاني في (إرشاد الفحول)
الخلاف في حكم الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
محل النزاع في هذه المسألة: عند عدم الاختصاص وعدم وجود قرينة مرجحة للوجوب أو الندب أو الإباحة
القول الأول: الوجوب
القول الثاني: الندب وهو الراجح
القول الثالث: الإباحة
إن دل دليل على الاختصاص به صلى الله عليه وسلم فتحمل على الاختصاص
ليس لأحد أن يقتدي به صلى الله عليه وسلم فيما هو خاص به
خصائصه صلى الله عليه وسلم كثيرة وأفردت بمؤلفات خاصة
كتاب (الخصائص الكبرى) للسيوطي
إن دل الدليل على الوجوب حمل عليه كزيادة الركوع في صلاة الكسوف
إن دل الدليل على الندب حمل عليه قطعاً: كالسنة الراتبة
القسم الأول: أن تكون على وجه القربة والطاعة
الفرع الأول: أن يدل دليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها فلا يقتدى به فيها
الفرع الثاني: أن لا يدل دليل على الاختصاص فتحمل على الأسوة
الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنها للاتساء لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
مثاله: ابتداؤه صلى الله عليه وسلم بالسواك عند دخوله بيته
حكم هذا النوع من الأفعال
القول الأول:
الوجوب، وقال به الاصطخري وابن سريج وابن خيران من الشافعية، ونسب إلى
الإمام مالك وأكثر أصحابه وهو رواية عن أحمد وقال به أبوحنيفة
القول الثاني: الندب، وقال به الشافعي، ورواية عن أحمد واختاره الشوكاني
القول الثالث: التوقف، وقال به أبو بكر الصيرفي وأبوحامد الغزالي والرازي وهو أضعف الأقوال
القسم الثاني: أن تكون على غير وجه القربة والطاعة
الفرع الأول: أن يدل دليل على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بها
مثال الفرع الأول: عدم وجوب التسوية في القَسْمِ بين النساء
حكم الفرع الأول: لا يقتدى به فيها
الفرع الثاني: أن لا يدل دليل على الاختصاص
مثال الفرع الثاني: نومه صلى الله عليه وسلم وأكله بخلاف هديه في النوم والأكل فيسن الاتساء به فيهما
حكم الفرع الثاني: تحمل على الإباحة في حقه وحقنا
مبحث: الخلاف في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الحرام والمكروه وخلاف الأولى
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الوقوع في الشرك وكبائر الذنوب بالإجماع
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ والتقصير فيما يتعلق بالبلاغ والتشريع بالإجماع
النبي صلى الله عليه وسلم قد تقع منه بعض الذنوب لكنه معصوم من الإصرار عليها
قال تعالى: (واستغفر لذنبك)
وقال: (ووضعنا عنك وزرك)
وقال: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه جل وعلا وقد يجتهد وهو سيد العلماء لكنه معصوم من أن يُقَرَّ على اجتهاد خاطئ
من أمثلة اجتهاداته التي لم يقر عليها:
1- أخذه صلى الله عليه وسلم للغنائم يوم بدر قبل الإثخان في قتل الكفار
2- إعراضه عن الأعمى
3- إذنه لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة العسرة
من أمثلة اجتهاداته التي أقر عليها:
1- شربه للبن عندما خيره جبريل بين اللبن والخمر
2- اجتهاده في قتال الكفار يوم أحد خارج المدينة
3- تركه هدم البيت وإعادة بنائه على قواعد إبراهيم
الأسئلة
س1: اذكر بعض مؤلفات أهل العلم في باب (فعل صاحب الشريعة).
س2: بين بإيجاز ثمرة دراسة هذا الباب.
س3: تأتي (السنة) لعدد من الإطلاقات؛ اذكرها.
س4: هل عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عصمة مطلقة؟
س5: ما هي آية الامتحان؟
س6: عدد أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مع التمثيل لكل منها.
س7: ما محل النـزاع في مسألة حكم الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
س8: اذكر بعض المؤلفات في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
س9: ما حكم الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على جهة القربة والطاعة؟
س10: فصل الخلاف في حكم الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على غير جهة القربة والطاعة.
س11: اذكر الراجح في مسألة عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.