الدروس
course cover
تعارض الأدلة
1 Nov 2008
1 Nov 2008

9075

0

0

course cover
شرح الورقات في أصول الفقه

القسم الرابع

تعارض الأدلة
1 Nov 2008
1 Nov 2008

1 Nov 2008

9075

0

0


0

0

0

0

0

تعارض الأدلة


قال إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨هـ) : (إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ فَلاَ يَخْلُو:
إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ.
أَوْ خَاصَّيْنِ.
أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآخَرُ خَاصًّا.
أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ.
فَإِنَ كَانَا عَامَّيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِن الجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يُعْلَم التَّارِيخُ؛ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ يُنْسَخُ المُتَقَدِّمُ بِالمُتَأَخِّرِ، وَكَذَا إِنْ كَانَا خَاصَّيْنِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآخَرُ خَاصًّا فَيُخَصَّصُ العَامُّ بِالخَاصِّ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ فَيُخَصَّصُ عُمُومُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الآخَرِ).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

14 Dec 2008

الأسئلة

س1: بين بإيجاز اهتمام الأصوليين بمبحث (التعارض والترجيح).

س2: ما مناسبة ذكر المؤلف باب (التعارض والترجيح) بعد (الناسخ والمنسوخ)؟
س3: هل يقع التعارض في النصوص الشرعية مع التعليل؟
س4: ما أسباب وقوع التعارض؟
س5: هل الجمع بين النصوص يدل على وجود تعارض فيها؟
س6: عرف (التعارض) لغة واصطلاحاً.
س7: ما الحكم إذا كان التعارض بين دليلين عامين؟
س8: اذكر حالات التعارض بين نصين خاصين ومثل لكل حالة.
س9: ما الحكم إذا تعارض عام وخاص؟
س10: اذكر أحوال التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص منه من وجه ومثل لكل منها.

هيئة الإشراف

#3

14 Dec 2008

شرح الورقات للعلامة: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي


قال جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٦٤هـ): ( (1) (إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ، فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ، أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآخَرُ خَاصًّا، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حَالٍ).
مِثَالُهُ حَدِيثُ: ((شَرُّ الشُّهُودِ الَّذِي يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ)).
- وَحَدِيثُ: ((خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ)).
- فَحُمِلَ الأَوَّلُ:
عَلَى مَا إِذَا كَانَ مَنْ لَهُ الشَّهَادَةُ عَالِمًا بِهَا.
- وَالثَّانِي:
عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا.
- وَالثَّانِي: رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهُودِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا)).
وَالأَوَّلُ: مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ: ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ)) إِلَى قَوْلِهِ: ((ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا)).
(2) (وَإِنْ لَمْ يُمْكِن الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا، إِنْ لَمْ يُعْلَم التَّارِيخُ) أَيْ: إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مُرَجِّحُ أَحَدِهِمَا.
- مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [الْمُؤْمِنُونَ:6].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النِّسَاءِ:23].
- فَالأَوَّلُ يُجَوِّزُ جَمْعَ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وَالثَّانِي يُحَرِّمُ ذَلِكَ، فَرُجِّحَ التَّحْرِيمُ؛ لأَنَّهُ أَحْوَطُ.
(3) (فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتَأَخِّرِ) كَمَا فِي آيَتَيْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَآيَتَي الْمُصَابَرَةِ.وَقَدْ تَقَدَّمَت الأَرْبَعُ.
(4) (وَكَذَا إِنْ كَانَا خَاصَّيْنِ) أَيْ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، كَمَا فِي حَدِيثِ: ((أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ)) وهَذَا مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَحَدِيثِ: ((أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَرَشَّ الْمَاءَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا فِي النَّعْلَيْنِ)) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّشَّ فِي حَالِ التَّجْدِيدِ؛ لِمَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: أَنَّ هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ.
(5) (وَإِنْ لَمْ يُمْكِن الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُعْلَم التَّارِيخُ يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا إِلَى ظُهُورِ مُرَجِّحٍ لأَحَدِهِمَا) مِثَالُهُ مَا جَاءَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِن امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: ((مَا فَوْقَ الإِزَارِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَجَاءَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ))؛ أَي: الوَطْءَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ جُمْلَتِهِ الوَطْءُ فِيمَا فَوْقَ الإِزَارِ؛ فَتَعَارَضَا فِيهِ، فَرَجَّحَ بَعْضُهُم التَّحْرِيمَ احْتِيَاطًا، وَبَعْضُهُم الْحِلَّ؛ لأَنَّهُ الأَصْلُ فِي الْمَنْكُوحَةِ. (وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ نُسِخَ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتَأَخِّرِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ زِيَارَةِ القُبُورِ.
(6) (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآخَرُ خَاصًّا فَيُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ) كَتَخْصِيصِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: ((فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ)) بِحَدِيثِهِمَا: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ)) كَمَا تَقَدَّمَ.
(7) (وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، فَيُخَصُّ عُمُومُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الآخَرِ) بِأَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ.
مِثَالُهُ: حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْجُسُ))، مَعَ حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ: ((الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ)).
- فَالأَوَّلُ
خَاصٌّ بِالْقُلَّتَيْنِ، عَامٌّ فِي الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِهِ.
- وَالثَّانِي
خَاصٌّ فِي الْمُتَغَيِّرِ، عَامٌّ فِي الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا.
فَخُصَّ عُمُومُ الأَوَّلِ بِخُصُوصِ الثَّانِي حَتَّى يُحْكَمَ بِأَنَّ مَاءَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالتَّغَيُّرِ، وَخُصَّ عُمُومُ الثَّانِي بِخُصُوصِ الأَوَّلِ، حَتَّى يُحْكَمَ بِأَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَخْصِيصُ عُمُومِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الآخَرِ؛ احْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ.
مِثَالُهُ: حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)).
- وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ.
- فَالأَوَّلُ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ.
- وَالثَّانِي خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ عَامٌّ فِي الْحَرْبِيَّاتِ وَالْمُرْتَدَّاتِ، فَتَعَارَضَا فِي الْمُرْتَدَّةِ هَلْ تُقْتَلُ أَمْ لاَ؟
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تُقْتَلُ).

هيئة الإشراف

#4

14 Dec 2008

شرح الورقات لابن الفركاح الشافعي


قال تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري ابن الفركاح الشافعي (ت: 690هـ): ( (1) فَصْلٌ في التعارُضِ: إذا تعارَضَ نُطْقَانِ فلا يَخْلُو؛ إمَّا أنْ يكُونَا عامَّيْنِ، أوْ خاصَّيْنِ، أوْ أحدُهما عامًّا والآخَرُ خاصًّا، أوْ كُلُّ واحدٍ منهما عامًّا مِنْ وجهٍ وخاصًّا مِنْ وجهٍ آخَرَ.
- فإنْ كانا عامَّيْنِ، فإنْ أَمْكَنَ الجمْعُ يُجْمَعُ بينَهما.
- وإنْ لمْ يَتَمَكَّن الجمْعُ بينَهما يُتَوَقَّفُ فيهما إنْ لمْ يُعْلَم التاريخُ.
- فإنْ عُلِمَ التاريخُ فيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ بالمُتَأَخِّرِ.
- وكذلكَ إذا كانا خاصَّيْنِ.
- وإنْ كانَ أحدُهما عامًّا والآخرُ خاصًّا فيُخَصُّ العامُّ بالخاصِّ.
- وإنْ كانَ كلُّ واحدٍ منهما عامًّا مِنْ وجهٍ وخاصًّا مِنْ وجهٍ آخرَ، فيُخَصُّ عمومُ كلِّ واحدٍ منهما بخُصوصِ الآخَرِ.
التعارُضُ:
التفاعُلُ مِنْ عَرَضَ يَعْرِضُ، كأنَّ كلَّ واحدٍ مِن النصَّيْنِ عَرَضَ لِلآخَرِ لَمَّا خالَفَهُ.
والمرادُ بالنُّطْقِ: قولُ اللهِ تعالى وقولُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ودليلُ الأقسامِ المذكورةِ:
أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن النَّصَّيْنِ إمَّا أنْ يَتناوَلَ عَيْنَ ما تَناوَلَهُ الآخَرُ أوْ غيرَ ما تَناوَلَهُ.
فإنْ كانَ الأَوَّلُ فَهُمَا إمَّا عامَّانِ، أوْ خاصَّانِ، وإنْ تَناوَلَ غيرَهُ، فإمَّا أنْ يَتناوَلَ كلُّ واحدٍ منهما شيئًا لمْ يَتناوَلْهُ الآخَرُ أوْ لا، فإنْ كانَ الأوَّلُ فكلٌّ منهما عامٌّ مِنْ وجهٍ وخاصٌّ مِنْ وجهٍ، وإنْ كانَ الثاني فأَحَدُهما عامٌّ والآخَرُ خاصٌّ.
- مثالُ تَعارُضِ العامَّيْنِ قولُهُ تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فأباحَ مِلْكَ اليمينِ بحيثُ يَتناوَلُ كلَّ مَملوكٍ.
- وقولُهُ تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، فحَرَّمَ الجمْعَ بينَ الأختَيْنِ بحيثُ تَناوَلَ الْمِلْكَ والنِّكَاحَ، فيَجِبُ التوقُّفُ لاستواءِ النَّصَّيْنِ في التناوُلِ، ودَلالةُ كلِّ واحدٍ منهما على نَقيضِ ما دَلَّ عليهِ الآخَرُ؛ ولهذا قالَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ لَمَّا سُئِلَ عن الجمْعِ بينَ الأختَيْنِ بِمِلْكِ اليمينِ، قالَ: (أَحَلَّتْهُما آيَةٌ، وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ)، وتَوَقَّفَ في ذلكَ.
وأمَّا الفُقهاءُ فحَكَموا بالتحريمِ بدليلٍ مُنْفَصِلٍ، وهوَ أنَّ الأصلَ في الأَبْضَاعِ الحُرْمَةُ، وأنَّ التحريمَ أَحْوَطُ، فوَجَبَ المصيرُ إليهِ.
(2) وقولُهُ: (إنْ أَمْكَنَ الجمْعُ بينَهما يُجْمَعُ) يعني: إذا أَمْكَنَ حَمْلُ أحدِهما على حالٍ، والآخَرِ على حالٍ آخَرَ، فلا يَتعارضانِ؛ لأنَّهُما لمْ يَتوارَدَا على مَحَلٍّ واحدٍ.
ومِثالُ هذا: ما يُرْوَى مِنْ قولِهِ عليهِ السلامُ: ((شَرُّ الشُّهُودِ الَّذِي يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ)) ،
وقولُهُ: ((خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ))، فحُمِلَ الأوَّلُ على المُبَادَرَةِ إلى الشهادةِ قبلَ سُؤَالِها معَ عِلْمِ مَنْ لهُ الشَّهادةُ بهِ، وحُمِلَ الثاني على الشاهِدِ الذي لا يكونُ المشهودُ لهُ عالِمًا بهِ، فيَشْهَدُ ليَعلمَ صاحبُ الحقِّ بهِ.
وَلْيُعْلَمَ أنَّ الجمعَ بينَ العامَّيْنِ معَ إجراءِ كلِّ واحدٍ منهما على عُمومِهِ مُحالٌ؛ فإنَّهُ يُفْضِي إلى الجمْعِ بينَ النقيضَيْنِ.
فإنَّا لوْ حَكَمْنَا بأنَّ كلَّ مُبادِرٍ للشَّهادةِ شَرُّ الشهودِ وخيرُ الشهودِ، جَمَعْنا بينَ نَقيضَيْنِ، فإِطْلاقُ الجمْعِ بينَهما مَجازٌ معناهُ تَخصيصُ كلِّ واحدٍ منهما بحالٍ لا يَتناوَلُهُ الآخَرُ. (وإذا تَعارَضَ العامَّانِ ولمْ يُمْكِن الجمْعُ وكانَ التاريخُ مَعْلُومًا) جُعِلَ الثاني ناسخًا للأَوَّلِ.
- مِثلُ: آيَتَي العِدَّةِ؛ فإنَّ آيَةَ الاعتدادِ بأربعةِ أَشْهُرٍ وعَشْرٍ، ناسخةٌ لآيَةِ الاعتدادِ بالحَوْلِ؛ لَمَّا كانتْ بعدَها في النُّزولِ.
- وكذلكَ آيَتَي الْمُصابَرَةِ، نَسَخَتْ مُصابَرَةُ الواحدِ الاثْنَيْنِ مُصابَرَةَ الواحدِ العشرةَ؛ لأنَّ مُصابَرَةَ الاثنَيْنِ مُتأَخِّرَةٌ في النزولِ عنْ مُصابَرَةِ العَشرةِ.
(فإنْ لمْ يُعْلَم التاريخُ وَجَبَ التوَقُّفُ) حتَّى يُعْلَمَ الراجِحُ منهما بدليلٍ مُنْفَصِلٍ فيُعْمَلَ بهِ، كما ذَكَرْنا في آيَتَيْ مِلْكِ اليمينِ والجمْعِ بينَ الأُختيْنِ.
(والخاصَّانِ إذا تَعَارَضَا كالعامَّيْنِ) إنْ أَمْكَنَ الجمْعُ بينَهما جُمِعَ، وإنْ لمْ يُمْكِنْ وعُلِمَ التاريخُ نُسِخَ المتقدِّمُ بالمتأَخِّرِ، وإنْ لمْ يُعْلَمْ وَجَبَ التوَقُّفُ حتَّى يُعْلَمَ الراجِحُ بدليلٍ مُنْفَصِلٍ.
مثالُ تعارُضِ الخاصَّيْنِ والجمْعُ بينَهما مُمْكِنٌ: ما جاءَ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تَوَضَّأَ وغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وأنَّهُ تَوَضَّأَ ورَشَّ الماءَ على قَدَمَيْهِ وهما في النعلَيْنِ،

فجُمِعَ بينَهما بأنَّهُ غَسَلَهما وهما في النعلَيْنِ فسُمِّيَ ذلكَ رَشًّا مَجازًا.
- وقدْ جُمِعَ بينَهما بوَجْهٍ آخَرَ.
فقيلَ:
غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ في حالِ الحدَثِ، ورَشَّهُما في حالِ الطهارةِ؛ ولهذا جاءَ في روايَةِ الرَّشِّ في بعضِ الطُّرُقِ: ((هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ)).
ومِثالُ تَعَارُضِ الخاصَّيْنِ وأَحَدُهما ناسخٌ للآخَرِ: ما ذَكَرْنَاهُ مِن النهيِ عنْ زيارةِ القبورِ ثمَّ الإذنِ في زِيارَتِها.
ومثالُ تَعارُضِ الخاصَّيْنِ والتاريخُ مجهولٌ:
ما جاءَ أنَّهُ عليهِ السلامُ سُئِلَ عمَّا يَحِلُّ للرجُلِ مِن امرأَتِهِ وهيَ حائضٌ،فقالَ: ((مَا فَوْقَ الإِزَارِ)).
وجاءَ أنَّهُ قالَ: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ))؛ فتعارَضَ الخَبَرَانِ في الإباحةِ والتحريمِ، فمِن الفقهاءِ مَنْ رَجَّحَ التحريمَ نظرًا للاحتياطِ.
ومنهم مَنْ رَجَّحَ الإباحةَ عَمَلاً بأنَّ الأصلَ في المنكوحةِ الإباحةُ.
- ومثالُ تعارُضِ الخاصِّ والعامِّ: الأخبارُ الواردةُ في تقديمِ الصلواتِ في أوَّلِ الوقتِ.
- مِثلُ: قولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ)).
والأخبارُ الواردةُ في تأخيرِ العِشَاءِ، مِثلُ قولِهِ عليهِ السلامُ: ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقُّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ)).
- وقولِهِ عليهِ السلامُ: ((فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ))، معَ قولِهِ: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ الثَّمَرِ صَدَقَةٌ)).
وظاهِرُ مَذْهَبِنا أنَّ الخاصَّ يَقْضِي على العامِّ، سَوَاءٌ وَرَدَا معًا أوْ تَقَدَّمَ أحدُهما على الآخَرِ أوْ جُهِلَ تاريخُ وُرُودِهما.
وعنْ بعضِ الظاهريَّةِ: يَتعارَضُ الخاصُّ والعامُّ، ويُعْزَى هذا القولُ إلى أبي بكرٍ الأشعريِّ.
وعنْ بعضِ الفُقهاءِ: أنَّهُ إذا جُهِلَ تاريخُ وُرودِهما ولمْ يُعْلَم المتقدِّمُ منهما مِن المتأَخِّرِ تَعارَضَا وتَساقَطَا ووَجَبَ الرُّجوعُ إلى دليلٍ آخَرَ.
وعنْ أصحابِ أبي حَنيفةَ: إنْ كانَ الخاصُّ مُخْتَلَفًا فيهِ، والعامُّ مُجْمَعٌ عليهِ، لمْ يُقْضَ بهِ على العامِّ، وإنْ كانَ مُتَّفَقًا عليهِ قُضِيَ بهِ.
والدليلُ على وُجوبِ إعمالِ الخاصِّ وتخصيصِ العامِّ بهِ، هوَ أنَّ كلَّ واحدٍ مِن النَّصَّيْنِ يَتناوَلُ مَحَلَّ التعارُضِ، وأحدُهما نَاصٌّ على الدَّلالةِ والآخَرُ مُتناوَلٌ تَنَاوُلَ العمومِ، والنصُّ مُقَدَّمٌ على العامِّ؛ ولأنَّ إعمالَ العامِّ يَلْزَمُهُ تَرْكُ الخاصِّ جُملةً، وإعمالَ الخاصِّ لا يَلْزَمُهُ تَرْكُ العامِّ جُملةً، بلْ يكونُ العامُّ مُسْتَعْمَلاً فيما وَراءَ مَحَلِّ التخصيصِ، وذلكَ إعمالُ النَّصَّيْنِ على حَسَبِ الإمكانِ، وهوَ أَوْلَى مِنْ إلغاءِ أَحَدِهما بالكُلِّيَّةِ.
فإنْ قيلَ:
إذا تَقَدَّمَ العامُّ، ثمَّ وَرَدَ الخاصُّ بعدَهُ مُتراخِيًا عنهُ، كانَ ذلكَ تأخيرًا للبيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ، وذلكَ لا يَجُوزُ.
قيلَ: إذا وَرَدَ الخاصُّ قبلَ استعمالِ العامِّ في جميعِ مَوارِدِهِ كانَ ذلكَ بَيانًا للمُرادِ بالعامِّ، فإذا وَرَدَ قبلَ الاحتياجِ إلى الاستعمالِ لمْ يكُنْ ذلكَ تأخيرًا للبَيانِ.

ومِثال: تَعَارُضِ الخبرَيْنِ وأحدُهما عامٌّ مِنْ وجهٍ وخاصٌّ مِنْ وَجهٍ، والآخَرُ كذلكَ: ما جاءَ مِنْ قولِهِ عليهِ السلامُ: ((إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا))، أوْ: ((لَمْ يَنْجُسْ))، معَ ما رُوِيَ أنَّهُ قالَ: ((الْمَاءُ طَهُورٌ، لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ)).
- فالخبَرُ الأوَّلُ:
خاصٌّ مِنْ حيثُ تَقييدُهُ بالقُلَّتيْنِ، عامٌّ مِنْ حيثُ الحُكْمُ بأنَّهُ لمْ يَنْجُسْ مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للتغيُّرِ ولا لعَدَمِهِ.
- والخبرُ الثاني:
عامٌّ مِنْ حيثُ الحكْمُ، بأنَّ الماءَ طَهورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ، خاصٌّ مِنْ حيثُ التعَرُّضُ للتَّغَيُّرِ، فنُزِّلَ عُمُومُ قولِهِ: ((الْمَاءُ طَهُورٌ)) على خُصوصِ قولِهِ: ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْقُلَّتَيْنِ))، ونُزِّلَ عُمومُ قولِهِ: ((لَمْ يَنْجُسْ)) على خصوصِ قولِهِ: ((إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ))، فَحُكِمَ أنَّ الماءَ القليلَ يَنْجُسُ بِمُلاقاةِ النَّجِسِ، تَغَيَّرَ أوْ لمْ يَتغيَّرْ؛ لعُمومِ مَفهومِ قولِهِ: ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ))، وحُكِمَ بأنَّ المتغَيِّرَ نَجِسٌ؛ لقولِهِ: ((إِلاَّ مَا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ)).
وإنَّما خُصَّ عُمومُ كلِّ واحدٍ بخصوصِ الآخَرِ لِمَا ذَكَرْنا مِن الدليلِ في تَعارُضِ العامِّ والخاصِّ؛ فإنَّ كُلَّ ما ذَكَرْنَاهُ يَجْمَعُ بينَ كلِّ واحدٍ مِنْ وَجْهَي العمومِ والخصوصِ في كلِّ واحدٍ مِن الخبرَيْنِ، فكانَ أَوْلَى مِن النظَرِ إلى أحدِهما دونَ الآخَرِ).

هيئة الإشراف

#5

14 Dec 2008

الأنجم الزاهرات للشيخ: محمد بن عثمان المارديني


قال شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني (ت: 871هـ): ( (1) أقولُ: لمَّا فَرَغَ مِنْ بيانِ النَّسْخِ لُغَةً واصطِلاحًا وتقسيماتِهِ: شَرَعَ في التَّعَارُضِ.
وهوَ منْ تَتِمَّةِ النَّسْخِ؛ لأنَّ النُّطْقَيْنِ مِنَ الكِتَابِ، أَوْ السُّنَّةِ إذَا تعارضَا أيْ: كلٌّ منهُمَا عَرَضَ لنظيرِهِ بالمخالفةِ، فلاَ يخْلُو: (أَنْ يكونَا عَامَّيْنِ أوْ خاصَّيْنِ أَوْ أحدُهُمَا عامًّا والآخرُ خاصًّا أوْ كلٌّ منهُمَا عامًّا منْ وجهٍ وخاصًّا منْ وجهٍ).
فهذِهِ سِتَّةُ أقسامٍ يأتي الكلامُ عليهَا مُفَصَّلاً إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
(2) أقولُ: هذَا شُرُوعٌ في بيانِ القسميْنِ منِ الأقسامِ السِّتَّةِ.
- فالعامَّانِ: إنْ أمْكنَ الجمْعُ بينَهُمَا: جُمِعَ؛ لأَنَّهُ أَوْلَى منْ إلغاءِ أحدِهِمَا كقولِهِ عليْهِ السَّلامُ: ((شَرُّ الشُّهُودِ: الَّذينَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا)).
- وَقَالَ مرَّةً أُخْرى: ((خَيْرُ الشُّهُودِ: الَّذينَ شَهِدُوا قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا)) فَحُمِلَ الأَوَّلُ عَلى المُبَادِرِ بِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّ المَشْهُودَ لَهُ عَالِمٌ بهَا فهذَا حَرَامٌ.
بخلافِ مَنْ بادَرَ، ليُعْلِمَ صاحِبَهَا، ليتَوَصَّلَ لحَقِّهِ، فهذَا حَسَنٌ.
- وإنْ لمْ يمكنِ الجَمْعُ بيْنَ العامَّيْنِ كقولِهِ تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] فهذَا لفظٌ عمَّ النِّكاحَ والمِلْكَ: فوجبَ التَّوَقُّفُ.
- ولهذَا لمَّا سُئِلَ عُثْمَانُ عنِ الجَمْعِ بيْنَ الأخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمينِ: تَوَقَّفَ وَقَالَ: (أَحَلَّتْهُمَا آيةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آية).
ثُمَّ أَجْمَعَتِ العُلماءُ على عُمومِهِ في الوَطْءِ والنِّكاحِ، دونَ المِلْكِ أيْ: لاَ يَجْمَعُ بينَهُمَا إذَا كانَتَا عندَهُ بملْكٍ أنْ يطأَهُمَا، بَلْ إِذَا وَطِيءَ إحداهُمَا: حُرِّمَتِ الأُخرى إلى أَنْ تَزُولَ المَوْطُوءةُ عنْ مِلْكِهِ، وكذلكَ لاَ يَجُوزُ أنْ يجمعَ بينَهُمَا بنكاحٍ واحدٍ، بلْ لهُ أنْ يَجْمَعَ بينَهمَا بالمِلْكِ.
وإنْ لمْ يمكنِ الجمْعُ؛ وَلاَ الحَمْلُ على أحدِهِمَا، لكنْ عُلِمَ التَّاريخُ: كانَ الثَّاني ناسِخًا للأوَّلِ، كمَا سَبَقَ في عِدَّةِ الوفاةِ. واللهُ أعلمُ.
(3) وأمَّا قولُهُ:(وكذلكَ إذَا كانَا خاصَّيْنِ) أيْ: وكذلكَ إذَا كانَ النُّطْقانِ خَاصَّيْنِ وأمكَنَ الجمعُ بينَهُمَا جُمِعَ؛ لأنَّهُ أَوْلَى منْ إلغاءِ أحدِهِمَا كمَا سَبَقَ في العامَّيْنِ، وذلكَ مَا رُوِيَ عنهُ عليهِ السَّلامُ: ((أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ)) وَفي رِوَايةٍ:((رَشَّ عَلَيْهِمَا)) فَحُمِلَ الغَسْلُ على الحدثِ، والرَّشُّ على أنهُ كانَ طاهِرًا منْ غيرِ حَدَثٍ.
(وإنْ لمْ يمكنِ الجَمْعُ، وَعُلِمَ التَّاريخُ) كانَ الثَّاني ناسِخًا للأوَّلِ كمَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ عنْ زيارةِ القبورِ، ثُمَّ أُذِنَ في زيارتِهَا.
وإنْ لمْ يمكنِ الجمعُ، ولاَ عِلْمُ التَّاريخِ: وَجَبَ التَّوَقُّفُ كمَا أنَّهُ عليْهِ السَّلامُ لمَّا سُئِلَ عنْ مَا يَحِلُّ للرَّجلِ منَ الحائِضِ، فقالَ: ((مَا فَوْقَ الإِزَارِ)) وَفي روايةٍ: ((اصنَعُوا كلَّ شيْءٍ إلاَّ النِّكَاحَ)).
فالأوَّلُ:
مخصوصٌ بمَا بيْنَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ.
والثَّاني:
مخصُوصٌ بالفرْجِ - فقطْ -.
فذهبَ جماعةٌ إلى الأوَّلِ؛ احتياطًا.
وآخرُونَ إلى الثَّاني؛ لأنَّ الأصْلَ: الإباحةُ عندَ الإطلاقِ والتَّعارضِ؛ ليدلَّ دليلٌ على التَّحريمِ، واللهُ أعلمُ.
(4) أقولُ: لمَّا فَرَغَ منْ بيانِ القسمينِ منَ التَّعارُضِ: شَرَعَ في الأقسامِ الأربعةِ:
أحدُهَا:
(إذَا وَرَدَ الدَّليلُ عامًّا) كقولِهِ عليهِ السَّلامُ: ((فيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ)) فهذَا عامٌّ في القليلِ والكثيرِ.
والثَّاني:
قولُهُ عليْهِ السَّلامُ: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْ سُقٍ صَدَقَةٌ)).
فهذَا معارِضٌ للأوَّلِ، لكنْ وردَ للخصوصِ فحُمِلَ العامُّ عليْهِ، وَجُعِلَتِ الزَّكاةُ في خمسةِ أوْسقٍ فصاعدًا، وَلمْ تُجْعَلْ في أقلَّ منْ ذلكَ.
والثَّالثُ:
(العامُّ منْ وجهٍ والخاصُّ منْ وجهٍ) كقولِهِ عليْهِ السَّلامُ: ((إذَا كانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا)) فظاهرُهُ العمومُ؛ لأنَّهُ عليْهِ السَّلامُ لمْ يتعرَّضْ لتغيُّرِهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ، وَخُصَّ مِنْ وجهٍ آخرَ وهوَ: تقييدُهُ بالقُلَّتيْن.
والرَّابعُ:
(العَامُّ منْ وجهٍ، والخاصُّ منْ آخرَ) كقولِهِ عليْهِ السَّلامُ: ((الماءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ إلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ، أَوْ رِيْحَهُ، أَوْ لَوْنَهُ)) فظاهرُهُ: العمومُ؛ لأنَّهُ عليْهِ السَّلامُ لمْ يتعرَّضْ للقَليلِ، ولاَ لِلْكَثيرِ.
وَخُصَّ مِنْ وَجْهٍ آخرَ، وهوَ: تقييدُهُ بالتَّغَيُّرِ، فَحُمِلَ عُمُومُ الأَوَّلِ، وَهُوَ قولُهُ: ((لَمْ يَنْجُسْ)) على خُصُوصِ الثَّاني، وهُوَ قولُهُ: ((إلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ)) الحديثَ.

وَحُمِلَ عُمُومُ الثَّاني، وَهُوَ: (طَهَارَةُ المَاءِ) على خصوصِ الأوَّلِ: وهوَ (القُلَّتَانِ).
فظهرَ:
أنَّ الماءَ إذَا بلغَ قُلَّتَيْنِ لمْ يَنْجُسْ إلاَّ بالتَّغيُّرِ، ومَا تَغَيَّرَ تَنَجَّسَ سواءٌ قَلَّ، أوْ كَثُرَ، واللهُ أعلمُ).

هيئة الإشراف

#6

14 Dec 2008

قرة العين للشيخ: محمد بن محمد الرعيني الحطاب


قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المالكي [المعروف: بالحطاب] (ت: 954هـ): ( (فَصْلٌ) في بيَانِ مَا يُفعَلُ (في التَّعَارُضِ) بينِ الأَدِلَّةِ، وهوَ تَفاعُلٌ منْ عَرَضَ الشَّيءَ يَعْرِضُ، كأنَّ كُلاًّ منَ النَّصِّينِ عَرَضَ للآخَرِ حينَ خالَفَهُ.
(1) (إذا تعَارَضَ نُطْقَانِ) أي: نَصَّانِ من قولِ اللَّهِ سُبحانَهُ وتعالَى، أو من قولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أحدُهُمَا من قولِ اللَّهِ تعالَى والآخرُ من قولِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ (فلا يَخلُو: إمَّا أنْ يكُونَا عَامَّيْنِ، أو خاصَّيْنِ، أو أحدُهُمَا عامًّا والآخرُ خَاصًّا، أو كلُّ واحدٍ منهمَا عَامًّا منْ وجهٍ وخاصًّا منْ وجهٍ).
(2) (فإنْ كَانَا عامَّينِ: فإنْ أَمْكَنَ الجَمعُ بينَهُمَا؛ جُمِعَ) وذلكَ بأنْ يُحْمَلَ كُلٌّ منهُمَا علَى حَالٍ؛ إذْ لا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينهُمَا مع إجراءِ كُلٍّ منهمَا علَى عمُومِهِ؛ لأنَّ ذلكَ مُحَالٌ؛ لأنَّهُ يُفضِي إلَى الجمعِ بينَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِطْلاقُ الجمعِ بينَهمَا مجازٌ عن تخْصيصِ كُلِّ واحدٍ منهمَا بحالٍ.
مثالُهُ:
حديثُ مُسْلمٍ: ((أَلا أُخْبِرُكُمْ بَخَيْرِ الشُّهُودِ: الَّذي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا))،
- وحَديثُ الصَّحِيحَينِ: ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بعَدَهُمْ قومٌ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا)) فَحُمِلَ الأوَّلُ علَى ما إذا كانَ مَن لهُ الشَّهَادةُ غيرَ عالِمٍ بهَا، والثَّاني: علَى مَا إذَا كانَ عَالِمًا.
- وحَمَلَ بَعْضُهم الأوَّلَ علَى مَا كانَ في حقِّ اللَّهِ كالطَّلاقِ والعِتَاقِ، والثَّانِي: علَى غيرِ ذلكَ.
(وإِنْ لمْ يُمْكنُ الجَمْعُ بينَهُمَا) أي: بينَ النَّصَّينِ؛ (يُتَوَقَّفُ فيهِمَا) عنِ العملِ بهمَا (إنْ لمْ يُعلمِ التَّاريخُ) أي: إلَى أنْ يظهرَ مُرجِّحٌ لأحدِهِمَا.
- مثَالهُ قولُهُ تعالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
- وقولُهُ تعالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، فالأَوَّلُ يُجوِّزُ جمعَ الأختينِ بمِلكِ اليَمينِ، والثَّاني يُحرِّمُ ذلكَ، فتوقَّفَ فيهَا عثمَانُ رَضيَ اللَّهُ عنهُ لمَّا سُئلَ عنهَا، وقَالَ: " أَحلَّتْهُمَا آيَةٌ، وحَرَّمتْهُمَا آيَةٌ ".
ثمَّ حكمَ الفُقَهَاءُ بالتَّحرِيمِ لدلِيلٍ آخرَ، وهوَ أنَّ الأصلَ في الأبْضَاعِ التَّحريمُ.
(فإنْ عُلِمَ التَّاريخُ يُنْسَخُ المتَقَدِّمُ بالمتَأَخِّرِ) كمَا في آيَتَيْ عِدَّةِ الوفاةِ وآيتَيِ المُصابَرَةِ، والمُرادُ بالمُتَأخِّرِ: المتأخِّرُ في النُّزُولِ لا في التِّلاوَةِ، واللَّهُ أعلَمُ.
(وكَذَا إذا كَانَا) أي: النَّصَّانِ: (خَاصَّيْنِ) أيْ: فإنْ أمكَنَ الجمعُ بينَهمَا جُمِعَ؛ كما في حديثِ: أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضَأَ وغسَلَ رِجْلَيْهِ، وهذا مشهُورٌ في الصَّحيحينِ وغيرِهِمَا، وحديثِ: أنَّهُ توَضَّأ ورشَّ الماءَ علَى قدميهِ وهمَا في النَّعْلينِ. رواهُ النَّسَائيُّ والبيهَقيُّ وغيرُهُما.
فَجُمِعَ بينهُمَا بأنَّ الرَّشَّ في حالِ التَّجْديدِ؛ لِما في بعضِ الطُّرقِ أنَّ هذا وضوءُ مَن لمْ يُحدِثْ.
- وقيلَ:
المُرادُ بالوُضُوءٍ في حديثِ الغسلِ الوضُوءُ الشَّرعِيُّ، وفي حديثِ الرَّشِّ اللُّغويِّ، وهوَ النَّظافَةُ.
- وقيلَ:
المُرادُ أنَّهُ غَسَلهُمَا في النَّعْلينِ، وسُمِّيَ ذلكَ رشًّا تجاوُزًا.
وإن لمْ يمكِنِ الجَمعُ بينهمَا، ولمْ يُعلَمِ التَّاريخُ؛ تُوُقِّفَ فيهمَا إلَى ظُهورِ مُرجِّحٍ لأحدِهِمَا.
- مثالُهُ مَا جَاءَ أنِّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عمَّا يَحِلُّ للرَّجُلِ من امرَأَتِهِ وهيَ حائضٌ، فقالَ: ((مَا فَوْقَ الإِزَارِ)). روَاهُ أبُو داودَ.
- وجَاءَ أنَّهُ قَالَ: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلا النِّكَاحَ)) أَي: الوطءَ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
ومن جُملةِ ذلكَ الاستِمتَاعُ بمَا تحتَ الإِزارِ، فتَعَارضَ فيهِ الحدِيثانِ، فرَجَّحَ بَعضُهُم التَّحْريمَ احتياطًا، وبَعْضُهُم الحِلَّ؛ لأنَّهُ الأصلُ في المنْكُوحَةِ، والأوَّلُ هُوَ المَشْهُورُ عِنْدَنَا وعندَ الشَّاِفعيَّةِ، وقالَ بهِ أبُو حنيِفةَ، وجَمَاعةٌ منَ العُلَمَاءِ.
وَوقعَ في كلامِ الشَّرحِ بعدَ ذِكْرِ الحديثِ الثَّاني: ومن جُملةِ ذلكَ الوطءُ فيمَا فَوْقَ الإِزارِ، فيتعَارَضُ فيهِ الحَدِيثَانِ، والظَّاهرُ أنَّهُ سَهْوٌ؛ فإنَّ مَا فوق الإِزارِ يجوزُ الاستمتاعُ بهِ باتِّفاقِ العلماءِ،
وقالَ النَّوويُّ في " شرحِ مُسلمٍ ": بلْ حكَى جماعةٌ كثيرةٌ الإِجمَاعَ عليهِ، وإِن عُلِمَ التَّاريخُ؛ نُسِخَ المُتَقَدِّمُ بالمُتأخِّرِ؛ كما تقدَّمَ في حديثِ زيارةِ القُبورِ.
(وإنْ كانَ أحدُهُمَا عامًّا والآخرُ خاصًّا؛ فيُخصَّصُ العامُّ بالخاصِّ) كحديثِ الصحِيحَينِ: ((فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ))، وحَديثِهِمَا: ((لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدقَةٌ))، فَيُخَصُّ الأوَّلُ بالثَّاني، سواءٌ وَرَدَا معًا، أو تقدَّمَ أحدُهُمَا علَى الآخَرِ، أو جُهلَ التَّاريخُ. (وإنْ كانَ أحدُهُمُا عامًّا من وجهٍ وخاصًّا من وجهٍ؛ فيُخصُّ عُمُومُ كُلِّ واحدٍ منهُمَا بخُصوصِ الآخرِ) إن أمكنَ ذلكَ، وإِلا؛ احتيجَ إلَى التَّاريخِ.
- مثالُ مَا يمكنُ فيهِ التَّخصيصُ حديثُ أبي داودَ وغيرِهِ: ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لا ينْجُسُ))، معَ حديثِ ابنِ ماجَه وغيرِهِ: ((الْمَاءُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ))؛
- فَالأوَّلُ:
خاصٌّ في القُلَّتَينِ عامٌّ في المتغيِّرِ وغيرِهِ.
- والثَّاني:
خَاصٌّ بالتَّغَيُّرِ عامٌّ في القُلَّتينِ ومَا دونَهُمَا، فَيُخَصُّ عمومُ الأولِ بخُصُوصِ الثَّاني، فَيُحكمُ بأنَّ ما دونَ القُلَّتينِ يَنْجُسُ وإنْ لمْ يتغيَّرْ، هذا مذهبُ الشَّافعِيَّةِ، ورَجَّحَ المَالِكِيَّةُ الثانِي؛ لأنَّهُ نصٌّ، والأوَّلُ إِنَّما يُعَارضهُ بَمفْهُومهِ، والقصدُ التَّمثيلُ.
- ومثالُ ما لا يمْكِنُ تخصيصُ عمومِ كلٍّ منهُمَا بخصُوصِ الآخَرِ حديثُ البخَاريِّ: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)).
- وحديثُ الصَّحيحينِ: ((أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ))، فالأوَّلُ عامٌّ في الرِّجالِ والنِّساءِ، خاصٌّ بأهلِ الرِّدَّةِ، والثَّاني خاصُّ بالنِّسَاءِ، عامٌّ في الحَرْبِيَّاتِ والمُرْتَدَّاتِ، فَيتَعارضَانِ في المُرْتَدَّةِ: هل تُقتَل أمْ لا؟
فَيُطلَبُ الترجِيحُ.
وقد رُجِّحَ بقَاءُ عُمُومِ الأوَّلِ وتَخصيصُ الثاني بالحَربيَّاتِ بحَديثٍ وردَ في قتلِ المُرْتَدَّةِ. واللَّهُ أعلَمُ).

هيئة الإشراف

#7

14 Dec 2008

شرح الورقات للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان


قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: ( (1) اهْتَمَّ الأُصُولِيُّونَ بِمَبَاحِثِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَعْدَ مَبَاحِثِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - الكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالإِجْمَاعِ، وَالقِيَاسِ؛ وذلكَ لأنَّ هذهِ الأدلةَ قدْ يَقَعُ بينَها تعارضٌ، ولا يُمْكِنُ إثباتُ الحُكْمِ إلا بإزالةِ هذا التعارضِ.
واعْلَمْ أنَّ التعارضَ بينَ نصوصِ الشريعةِ غيرُ مَوْجُودٍ فِي الحقيقةِ
لكنْ يَقَعُ ذلكَ بِحَسَبِ نَظَرِ المُجْتَهِدِ لقصورِهِ، وهوَ تَعَارُضٌ فِي الظاهرِ لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ علَى وجهٍ لا يُمْكِنُ فيهِ الجمعُ، أو النسخُ، أو الترجيحُ؛ وذلكَ لأنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ ما شُرِعَتْ إلا لجلبِ المصالحِ ودَرْءِ المفاسدِ، ولا يَتَحَقَّقُ ذلكَ معَ التعارضِ.
- وكانَ الأَوْلَى بالمُصَنِّفِ أنْ يُؤَخِّرَ بَحْثَ التعارضِ إلَى نهايَةِ الكلامِ علَى الأَدِلَّةِ، كَمَا جَرَى علَى ذلكَ غيرُهُ منْ أهلِ الأصولِ؛ لأنَّ التَّعَارُضَ يَتَعَلَّقُ بجميعِ الأَدِلَّةِ، لكنْ يُقَالُ: إنَّهُ جَعَلَهُ بعدَ النسخِ لِمَا بَيْنَهُمَا من المناسبةِ؛ لأنَّ الحُكْمَ بالنَّسْخِ مشروطٌ بمعرفةِ المُتَقَدِّمِ من المُتَأَخِّرِ، فإذا لم يُعْلَمْ ذلكَ وَقَعَ التعارضُ، فَيُحْتَاجُ إلَى معرفةِ طريقِ الخروجِ منْ ذلكَ.
وَالتَّعَارُضُ لُغَةً: تَفَاعُلٌ من العُرْضِ - بِضَمِّ العَيْنِ - وهوَ الناحيَةُ والجِهَةُ، كأنَّ الكلامَ المُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ فِي عُرْضِ بعضٍ؛ أيْ: ناحيتِهِ وَجِهَتِهِ فَيَمْنَعُهُ من النفوذِ إلَى حيثُ وَجْهُهُ، فهوَ إِذنْ بِمَعْنَى التَّقَابُلِ والتَّمَانُعِ.
واصطلاحًا: تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ بحيثُ يُخَالِفُ أحدُهُمَا الآخرَ، وذلكَ كأَنْ يَكونَ أَحَدُ الدليلَيْنِ يُفِيدُ الجوازَ والآخرُ يَدُلُّ علَى المَنْعِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُقَابِلٌ للآخرِ ومُخَالِفٌ لهُ.
وقدْ ذَكَرَ المُصَنِّفُ أنَّ التعارضَ لهُ أربعُ حَالاتٍ:
الأُولَى:
(أنْ يكونَ بينَ دَلِيلَيْنِ عَامَّيْنِ) أيْ: مُتَسَاوِيَيْنِ، بأنْ يَصْدُقَ كُلُّ واحدٍ منهما علَى ما يَصْدُقُ عليهِ الآخرُ.
والثانيَةُ:
(أنْ يكونَ بينَ دَلِيلَيْنِ خَاصَّيْنِ) أيْ: مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الخصوصِ بأنْ لا يَصْدُقَ كلُّ واحدٍ منهما علَى ما يَصْدُقُ عليهِ الآخرُ.
الثالثةُ:
(أنْ يكونَ بينَ دَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا عامٌّ والآخرُ خاصٌّ)
الرابعةُ: (أنْ يكونَ بينَ دَلِيلَيْنِ، كلُّ واحدٍ منهما عامٌّ منْ وجهٍ وخاصٌّ منْ وجهٍ آخرَ)
(1) والمُرَادُ بقولِ المُصَنِّفِ: (إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ) أيْ: نَصَّانِ منْ قولِ اللَّهِ تَعَالَى، أوْ منْ قولِ رسولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا الحالةُ الأُولَى: فللخروجِ من التعارضِ طُرُقٌ:
الأَوَّلُ:
أنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بينَ الدَّلِيلَيْنِ المُتَعَارِضَيْنِ، فَيُجْمَعُ بينَهُمَا بحيثُ يُحْمَلُ كلٌّ منهما علَى حالٍ لا يُنَاقِضُ الآخرَ.
والجمعُ أَوْلَى من التَّرْجِيحِ باتِّفَاقِ أهلِ الأصولِ؛ لأنَّ فيهِ العملَ بِكَلا الدَّلِيلَيْنِ.
ومثالُهُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهَرَ)). أَخْرَجَهُ مسلمٌ عن ابنِ عَبَّاسٍ.
- وعندَ أَهْلِ السُّنَنِ: ((أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهَرَ)).
- وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ)). وهوَ حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عُكَيْمٍ، فهذا مُعَارِضٌ فِي الظاهرِ للأَوَّلِ.
فَجُمِعَ بينَهُمَا بأنَّ الإهابَ اسمٌ لِمَا لم يُدْبَغْ، وبعدَ الدَّبْغِ يُقَالُ لهُ: شَنٌّ وَقِرْبَةٌ.
فيكونُ النَّهْيُ عن الانتفاعِ بالإهابِ ما لم يُدْبَغْ، فإذا دُبِغَ لم يُسَمَّ إِهَابًا فلا يَدْخُلُ تحتَ النهيِ.
- قالَ فِي سُبُلِ السلامِ (1/52): وهوَ جَمْعٌ حَسَنٌ وفي المسألةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
الثاني:
أنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا للآخرِ، وهذا إذا عُلِمَ التاريخُ بأنْ عُلِمَ السابقُ منهما، فيكونُ المُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لهُ، وَيُعْمَلُ بهِ دونَ المُتَقَدِّمِ.
- وَمِثَالُهُ قولُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
فهذهِ الآيَةُ تُفِيدُ التَّخْيِيرَ بينَ الصيامِ والإطعامِ، وَتُرَجِّحُ الصيامَ.
- وقولُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
تُفِيدُ تَعْيِينَ الصيامِ أَدَاءً فِي حقِّ غيرِ المريضِ والمسافرِ، وقضاءً فِي حَقِّهِمَا، ولكنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عن الأُولَى، فتكونُ ناسخةً لها بدليلِ قولِ سَلَمَةَ بنِ الأكوعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَت الآيَةُ التِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا).
الثالثُ:
فإنْ لم يُعْلَم التاريخُ يُتَوَقَّفْ فيهما إلَى أنْ يَظْهَرَ مُرَجِّحٌ لأحدِهِمَا علَى الآخرِ فَيُعْمَلَ بهِ.
وهذا هوَ الطريقُ الثالثُ، وهوَ التَّرْجِيحُ، وهوَ لا يكونُ إلا بدليلٍ؛ لأنَّ الترجيحَ بِلا مُرَجِّحٍ باطلٌ، والترجيحُ هوَ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ المُتَعَارِضَيْنِ بدليلٍ، وللترجيحِ طُرُقٌ كثيرةٌ مذكورةٌ فِي المُطَوَّلاتِ.
- ومثالُهُ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ)). وهذا مَرْوِيٌّ عنْ بُسْرَةَ بنتِ صَفْوَانَ، وأبي هُرَيْرَةَ، وجابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وَغَيْرِهِم.
- وحديثُ قيسِ بنِ طَلْقِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ، أَعَلَيْهِ الوُضُوءُ؟
قالَ: ((لا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ)).
فهذانِ حديثانِ مُتَعَارِضَانِ فِي الظاهرِ، الأَوَّلُ يُوجِبُ الوضوءَ منْ مَسِّ الذَّكَرِ، والثاني لا يُوجِبُهُ، فَيُرَجَّحُ الأَوَّلُ علَى الثاني لِمَا يَأْتِي:
- أنَّ العملَ بهِ أَحْوَطُ؛ لأنَّهُ أَكْثَرُ طُرُقًا وَمُصَحِّحِيهِ أَكْثَرُ.
- لأنَّهُ ناقلٌ عن البراءةِ الأصليَّةِ، وهيَ عَدَمُ إيجابِ الوضوءِ، والناقلُ يُقَدَّمُ علَى المُبْقِي؛ لأنَّ معَ الناقلِ زيادةَ عِلْمٍ، حيثُ أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ليسَ موجودًا عندَ المُبْقِي علَى الأصلِ.
وهذا عندَ الجُمْهُورِ، والتَّرْجِيحُ هوَ أحدُ الأقوالِ فِي المسألةِ، ومن العلماءِ مَنْ لَجَأَ إلَى النَّسْخِ، رَاجِعْ تُحْفَةَ الأَحْوَذِيِّ (1/275).
أمَّا الحالةُ الثانيَةُ منْ أحوالِ التعارضِ، فهيَ أنْ يكونَ بينَ دليلَيْنِ خاصَّيْنِ كما تَقَدَّمَ، وللخروجِ من التَّعَارُضِ طُرُقٌ:
الأَوَّلُ:
الجمعُ كما تَقَدَّمَ، ومثالُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهرَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ.
- وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاهَا بِمِنًى.
قالَ النَّوَوِيُّ فِي شرحِ مسلمٍ (8/443): (وَوَجْهُ الجَمْعِ بينَهُمَا أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ للإفاضةِ قبلَ الزوالِ، ثمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بمكَّةَ فِي أَوَّلِ وقتِهَا، ثمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بها الظهرَ مَرَّةً أُخْرَى بأصحابِهِ حينَ سَأَلُوهُ ذلكَ..).
(2) الثاني:
فإنْ لم يُمْكِن الجمعُ، فالثاني ناسِخٌ إنْ عُلِمَ التاريخُ.
ومثالُهُ: قولُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ…} الآيَةَ.
- وقولُهُ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ…} الآيَةَ، فالثانيَةُ نَاسِخَةٌ للأُولَى، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى نِسَائِهِ، والإباحةُ دَلَّتْ عليها الآيَةُ الأُولَى.
وهذا التوجيهُ علَى أَحَدِ الأقوالِ كما فِي الإيضاحِ لناسخِ القرآنِ وَمَنْسُوخِهِ لِمَكِّيٍّ (ص336).
الطريقُ الثالثُ:
إذا لم يُمْكِن النسخُ فالترجيحُ، ومثالُهُ حديثُ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلالٌ.
- وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ.
فَيَرَى جَمْعٌ منْ أهلِ العلمِ تَرْجِيحَ الأَوَّلِ لِمَا يَأْتِي:
- أنَّ ميمونةَ صاحبةُ القِصَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ صاحبَ القِصَّةِ أَدْرَى بِمَا جَرَى لهُ فِي نفسِهِ منْ غيرِهِ، ولهذا قَرَّرَ الأُصُولِيُّونَ: أنَّ خبرَ صاحبِ الواقعةِ المَرْوِيَّةِ مُقَدَّمٌ علَى خبرِ غيرِهِ؛ لأنَّهُ أَعْرَفُ بالحالِ منْ غيرِهِ.
- لأنَّ حَدِيثَهَا مُؤَيَّدٌ بِحَدِيثِ أَبي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلالٌ، قَالَ: وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا، فَأَبُو رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ رَسُولُهُ إلَيْهَا، يَخْطِبُهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مُبَاشِرٌ للوَاقِعَةِ، وابنُ عَبَّاسٍ ليسَ كذلكَ.
- أنَّ مَيْمُونَةَ وأبَا رافعٍ كانَا بَالِغَيْنِ وقتَ تَحَمُّلِ الحديثِ المذكورِ، وابنَ عَبَّاسٍ ليسَ بَبَالِغٍ وقتَ التَّحَمُّلِ، وعندَ الأصُولِيِّينَ تَرْجِيحُ خَبَرِ الراوِي المُتَحَمِّلِ بعدَ البلوغِ علَى المُتَحَمِّلِ قَبْلَهُ؛ لأنَّ البالغَ أَضْبَطُ مِن الصبيِّ لِمَا تَحَمَّلَ.
وفي المسألةِ بحثٌ تَجِدُهُ مَرْقُومًا فِي كُتُبِ الحديثِ، فَرَاجِعْ: (فَتْحَ البَارِي) و(نَيْلَ الأوطارِ)، وغيرَهُمَا.
(3) الحالةُ الثالثةُ منْ أحوالِ التَّعَارُضِ: أنْ يكونَ بينَ دَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ والآخرُ خاصٌّ، فَيُخَصَّصُ العامُّ بالخاصِّ، ومثالُهُ قولُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. فهذهِ الآيَةُ دَلَّتْ علَى وجوبِ القطعِ فِي القليلِ والكثيرِ.
- وحديثُ: ((لا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا)). يَدُلُّ علَى تَحْدِيدِ نِصَابِ القطعِ، فيكونُ الحديثُ مُخَصِّصًا لعمومِ الآيَةِ علَى مذهبِ الجمهورِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
الحالةُ الرابعةُ:
أنْ يكونَ التَّعَارُضُ بينَ دَلِيلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعَمُّ من الآخرِ منْ وجهٍ وَأَخَصُّ منْ وجهٍ آخرَ، فَيُخَصَّصُ عمومُ كلِّ واحدٍ منهما بخصوصِ الآخرِ إنْ دَلَّ علَى ذلكَ دليلٌ، ومثالُهُ قولُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}؛ فهذهِ الآيَةُ عَامَّةٌ فِي الحامِلِ وَغَيْرِهَا، وخاصَّةٌ بالمُتَوَفَّى عنها.
- وقولُهُ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خاصَّةٌ بالحاملِ، عامَّةٌ فِي المُتَوَفَّى عنها وغيرِهَا؛ فَيُخَصَّصُ عمومُ الأُولَى بالثانيَةِ، فَتَخْرُجُ الحاملُ منْ عمومِ الأُولَى، وتكونُ عِدَّتُهَا وَضْعَ الحَمْلِ، سواءٌ كانتْ مُتَوَفًّى عنها أمْ غَيْرَهَا.

- وقدْ دَلَّ علَى هذا التخصيصِ حديثُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ أنَّها وَضَعَتْ بَعْدَ وفاةِ زَوْجِهَا بليالٍ، فَأَفْتَاهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ تَتَزَوَّجَ، فَدَلَّ ذلكَ علَى أنَّ الحاملَ المُتَوَفَّى عنها غيرُ داخلةٍ فِي عمومِ آيَةِ البقرةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ).

هيئة الإشراف

#8

14 Dec 2008

شرح الورقات للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم (مفرَّغ)


القارئ: (فصل في التعارض: (إذا تعارض نصان فلا يخلو إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً، أو كل واحد منها عامّاً من وجه وخاصّاً من وجه، فإن كانا عامين وأمكن الجمع بينهما جمع، وإلا يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ، فإن علم التاريخ فيُنسخ المتقدم بالمتأخر، وكذلك إن كانا خاصين).

قال الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاسم: (هذا يتعلق بالتعارض والترجيح بين الأدلة وهذا الباب يذكره الأصوليون في آخر الأصول حتى يشمل الأدلة التي سبقته، أما المؤلف فإنه ذكره قبل أن يذكر الإجماع والقياس وهما من الأدلة، كان الأولى التأخير، لكن بعضهم يقول إن ذكر التعارض مناسبته أنه لما تكلم عن الناسخ والمنسوخ ناسب أن يذكر التعارض بعده، لأن التعارض هذا يحتاج الإنسان فيه إلى جمع، ويحتاج إلى بعض الأشياء، وهي قريبة من النسخ.
التعارض في اللغة: التقابل والتمانع.
أما
في الاصطلاح فهو: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر، يوجد دليل يعارضه دليل آخر.
وأقسام التعارض أربعة:
الأول:
أن يكون بين دليلين عامين، وله أربع حالات:
الأولى: أن يمكن الجمع بينهما: بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر، فيجب الجمع، مثال ذلك: قوله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيم}.
- وقوله -جل وعلا-: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْت}.
- قد يقول بعض الجهلة: هذا القرآن متناقض، في آية {إنَّكَ لَتَهْدِي} وفي آية: {إنَّكَ لا تَهْدِي}، وهذا ليس فيه تعارض أبدا، والجمع بين الآيتين أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق، وهذه ثابتة للرسول عليه الصلاة والسلام.
- أما الآية الثانية فالمراد بها هداية التوفيق للعمل والاستجابة للدين، هذه الهداية بيد الله سبحانه، لا يملكها النبي عليه الصلاة والسلام ولا غيره.
الحالة الثانية: إن لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ إن علم التأريخ، فيعمل به دون الأول، مثال ذلك: قوله سبحانه في الصيام: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، في هذه الآية التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام، وقوله جل وعلا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، هذه الآية تفيد تعيين الصيام أداءً في حق غير المريض والمسافر، وقضاء في حقهما، وهي متأخرة عن الأولى، فتكون ناسخة، فهذا فيه تعارض، لكن هذا التعارض قد ارتفع وعلم التأريخ حيث أن الآية الأولى قد جاء بعدها ما ألغى حكمها ونسخه، وهذا القسم لا إشكال فيه، إذا لم يمكن الجمع بين النصين وعلم التاريخ فإن المتأخر ناسخ للمتقدم.
الحالة الثالثة: إن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مس ذَكره فليتوضأ))، وسئل عليه الصلاة والسلام عن الرجل يمس ذكره عليه الوضوء؟
فقال: ((لا، إنما هو بضعة منك)) فيرجح الأول، لأنه أحوط، وأكثر طُرقاً، ومصححوه أكثر، ولأنه ناقل عن الأصل ففيه زيادة علم، فمن مس ذكره فليتوضأ هذا هو الراجح، أما: ((إنما هو بضعة منك)) هذا مرجوح، لأن هذا الحديث ضعيف عند بعض أهل العلم، ومنسوخ عند آخرين، ولكن إن قلنا إنه منسوخ فيكون تابعا للقسم الثاني، وعلى القول بأنه غير منسوخ لكنه مرجوح، وأن الأمر بالنقض أقوى وأثبت. فإن هذا يكون فيه عمل بالراجح.
الحالة الرابعة: إن لم يوجد مرجح وجب التوقف، ولكن هل يوجد لهذا مثال لا يرد عليه اعتراض، هذا محل نظر، ما فيه فيما يظهر والله أعلم، لكن هذا مقتضى التقسيم فقط، ما سبق هذا بين نصوص عامة: {إنَّكَ لَتَهْدِي}، {إنكَ لا تَهْدِي} عام، ((من مس ذكره)) هذا عام،
كذلك {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، هذا عام، الحاصل أن النصوص العامة الجمع بينها إذا تعارضت إما أن يجمع بينهما بأن يحمل هذا على حال وهذا على حال، أو يعلم التأريخ فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم، أو يجهل لكن هناك مرجح فيعمل به، أو يوجد التعارض ولا يوجد مرجح، فيجب الوقف إن وجد ما يدخل تحت هذا القسم.
القسم الثاني:
أن يكون التعارض بين نصين خاصين فله أربع حالات أيضا:
الأولى: أن يمكن الجمع بينهما، فيجب مثل حديث جابر رضي الله عنه: في صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام ((أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر يوم النحر بمكة)) .
- وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-((أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها -يعني الظهر- بمنىً))، فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة في أول وقتها، ولما خرج إلى منى أعادها بمن فيها من أصحابه، طلبوا منه أن يصلي بهم فصلى بهم -عليه الصلاة والسلام-
الحالة الثانية: إن لم يمكن الجمع، فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثاله قوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك …} الآية، وقوله سبحانه: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن}؛ فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال.
الحالة الثالثة: إن لم يمكن النسخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح.
- مثل حديث ميمونة-رضي الله عنها- أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو حلال.
- وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو محرم فالراجح الأول لأن ميمونة هي صاحبة القصة فهي أدرى بها، وقد أيد حديثها حديث أبي رافع - رضي الله عنه - أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تزوجها وهو حلال، قال: وكنت الرسول بينهما.
الحالة الرابعة: إن لم يوجد مرجح يجب التوقف فيه إن وجد مثال صحيح على هذا.
القسم الثالث:
أن يكون التعارض بين عام وخاص، فيخصص العام بالخاص، لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، خلافا للحنفية.
- مثاله قوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سقت السماء العشر)).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ فيخصص الأول بالثاني، ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق.
القسم الرابع:
أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر، فيخصَّص به، مثاله: قوله -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
- وقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
- فالأولى خاصة في المتوفى عنها في الحامل وغيرها.
- والثانية خاصة في الحامل، عامة في المتوفى عنها وغيرها، لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سُبيعةالأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال؛ فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تتزوج، فعلى هذا تكون عدة الحامل إلى وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أو غير متوفى عنها، هذه حالة.
الحالة الثانية: إن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عُمل بالراجح، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)).
- قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)).
فالأول: خاص في تحية المسجد: ((إذا دخل أحدكم المسجد)) هذا خاص في تحية المسجد، عام في الوقت ((إذا دخل أحدكم المسجد)) هذا عام في كل وقت. والخصوص في تحية المسجد.
والثاني: خاص في الوقت ((لا صلاة بعد الصبح))، هذه خاص بهذا الوقت، ((حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس))، هذا النص خاص في الوقت، عام في الصلاة، ((لا صلاة)) هذا عام، ((بعد الصبح))، هذا خاص بالنسبة للوقت.
- والأول عام بالنسبة للصلاة، فالنص الأول خاص في تحية المسجد، عام في الوقت، والحديث الثاني خاص في الوقت، عام في الصلاة، يشمل تحية المسجد وغيرها، لكن الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول.
- فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عنها، وذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد، كقضاء المفروضة، وإعادة الجماعة، فضعف عمومه.
الحالة الثالثة: إن لم يقم دليل ولا مُرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكلٍّ منهما فيما لا يتعارضان فيه، والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها، لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح، لأن النصوص لا تتناقض، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيّن وبلغ، ولكن هذا التعارض يقع بحسب نظر المجتهد وقصوره، ما يوجد تعارض بين النصوص، لأنها من حكيم خبير، لا يمكن أن تتعارض في الواقع، لكن قد تتعارض بالنسبة للمجتهد فيعمل بحسب هذه القواعد).

القارئ: (وإن كان أحدهما خاصّاً والآخر عامّاً فيُخص العام بالخاص، وإن كان كل واحد منهما خاصّاً من وجه وعامّاً من وجه فيخص عموم كل واحد بخصوص الآخر).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

14 Dec 2008

العناصر

التعارض والترجيح بين الأدلة:
اهتمام الأصوليين بمبحث (التعارض والترجيح)
باب التعارض الترجيح يذكره الأصوليون في آخر الأصول حتى يشمل الأدلة التي سبقته
مناسبة ذكر المؤلف باب (التعارض والترجيح) بعد (الناسخ والمنسوخ)
النصوص الشرعية لا تعارض فيها
التعارض من الاختلاف، وقد عصم الله تعالى الشريعة من الاختلاف
يقع التعارض في نظر المجتهد لا في النصوص الشرعية الصحيحة
أسباب وقوع التعارض
تعارض العام والخاص
تعارض المطلق والمقيد
تعارض الناسخ والمنسوخ
تعارض نص صحيح مع نص لا يصح
تعارض فهم دلالة النص
الجمع بين النصوص لا يدل على وجود تعارض فيها
تعريف (التعارض)
تعريف (التعارض) لغةً
تعريف (التعارض) اصطلاحًا


أقسام (التعارض):
القسم الأول: أن يكون بين دليلين عامين، وله أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر؛ فيجب الجمع
أمثلة الحالة الأولى
الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول؛ لأن فيه عمل بكلا الدليلين
الجمع بين العامين مع إجراء كل واحد منهما على عمومه محال
الحالة الثانية: أن لا يمكن الجمع؛ فالمتأخر ناسخ إن علم التأريخ، فيعمل به دون الأول
أمثلة الحالة الثانية
الحالة الثالثة: أن لا يعلم التاريخ؛ فيعمل بالراجح إن وجد مرجِّح
أمثلة الحالة الثالثة
المراد بالترجيح
للترجيح طرق كثيرة مذكورة في المطولات
الحالة الرابعة: أن لا يوجد مرجح؛ فيجب التوقف
لا يوجد مثال على الحالة الرابعة لا يرد عليه اعتراض، وإنما ذكرت من باب التقسيم فقط
القسم الثاني: أن يكون التعارض بين نصين خاصين، وله أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يمكن الجمع بينهما؛ فيجب الجمع
أمثلة الحالة الأولى
الحالة الثانية: أن لا يمكن الجمع؛ فالثاني ناسخ إن علم التاريخ
مثال الحالة الثانية
الحالة الثالثة: أن لا يمكن النسخ؛ فيعمل بالراجح إن وجد مرجِّح
أمثلة الحالة الثالثة
الحالة الرابعة: أن لا يوجد مرجِّح؛ فيجب التوقف فيه
القسم الثالث: أن يكون التعارض بين عام وخاص
إذا تعارض عام وخاص فيخصص العام بالخاص
أمثلة القسم الثالث
الدليل على وجوب إعمال الخاص
القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه، وأخص منه من وجه، فله ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر، فيخصَّص به
أمثلة الحالة الأولى
الحالة الثانية: أن لا يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر؛ فيعمل بالراجح
أمثلة الحالة الثانية

الحالة الثالثة: أن لا يقوم دليل ولا مُرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني؛ فيجب العمل بهما في غير موضع التعارض