1 Nov 2008
تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً
قال إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨هـ) : (تَعْرِيفُ أُصُولِ الفِقْهِ وَأَبْوَابِهِ:
وَأُصُولِ الفِقْهِ:طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ، وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلاَلِ بِهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: (كَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا): تَرْتِيبُ الأَدِلَّةِ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ أَحْكَامِ المُجْتَهِدِينَ).
شرح الورقات للعلامة: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي
قال جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٦٤هـ): ( (8) (وَأُصُولُ الْفِقْهِ) الَّذِي وُضِعَ فِيهِ هَذِهِ (الوَرَقاتُ).
طُرُقُهُ: أَيْ: طُرُقُ الْفِقْهِ، عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ:
- كَمُطْلَقِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
- وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
- وَالإِجْمَاعِ.
- وَالْقِيَاسِ.
- وَالاسْتِصْحَابِ
مِنْ حَيْثُ البَحْثُ عَنْ أَوَّلِهَا بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ لِلْحُرْمَةِ، وَالبَاقِي بِأَنَّهَا حُجَجٌ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. بِخِلاَفِ طُرُقِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفصِيلِ، نَحْوُ:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[البَقَرَةِ:43]، {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى}[الإِسْرَاءِ:32]، وَصَلاَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لِبِنْتِ الابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ؛ حَيْثُ لاَ عَاصِبَ لَهُمَا، وَقِيَاسِ الأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي امْتِنَاعِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاسْتِصْحَابِ الطَّهَارَةِ لِمَنْ شَكَّ فِي بَقَائِهَا؛ فَلَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْضُهَا فِي كُتُبِهِ تَمْثِيلاً.
(9) (وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا) أَيْ: بِطُرُقِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا لِكَوْنِهَا ظَنِّيَّةً، مِنْ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلاَلِ بِهَا
تَجُرُّ إِلَى صِفَاتِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهَا، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ.
فَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ هِيَ الْفَنُّ الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ؛ لِتَوَقُّفِ الْفِقْهِ عَلَيْهِ).
شرح الورقات لابن الفركاح الشافعي
قال تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري ابن الفركاح الشافعي (ت: 690هـ): (ولَمَّا ذَكَرَ معنى الأصولِ ومعنى الفِقْهِ، ومعنى الأشياءِ التي يُحتاجُ إلى تَصَوُّرِها في هذا الفَنِّ مِن العلْمِ والظنِّ والشكِّ والنظَرِ والدليلِ، أَخَذَ في بيانِ المُرَادِ بقولِنا: أُصُولُ الفقهِ:
فإنَّ التركيبَ الإضافيَّ يُفيدُ نِسبةً بينَ المضافِ والمضافِ إليهِ، لا تُعْلَمُ إلاَّ بمعرِفَةِ كلِّ واحدٍ منهما مُفْرَدًا، فإنَّ مَنْ عَرَفَ أنَّ زيدًا مَثَلاً عَلَمٌ لشخصٍ مُعَيَّنٍ. وعَرَفَ مَعْنَى القميصِ مَثَلاً، لا يَعْلَمُ نِسبةَ القميصِ إلى زيدٍ إلاَّ بقولِنا: قَمِيصُ زيدٍ، أو القميصُ لزيدٍ، وكذلكَ مَنْ عَرَفَ مَعنى الأصلِ ومعنى الفِقْهِ، لا يَعلمُ ما المرادُ بأُصُولِ الفقهِ حتَّى نَشْرَحَ لهُ معنى قولِنا: أُصُولُ الفقهِ. وذلكَ قولُهُ:
(10) (وأُصُولُ الفِقهِ طُرُقُهُ على سبيلِ الإجمالِ).
أَيْ: أصولُ الفِقهِ هيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إلى الفِقهِ بطريقِ الإِجْمَالِ.
احْتَرَزَ بالإجمالِ عن المذْهَبِ والخِلافِ؛ فإنَّ هَذَيْنِ الفَنَّيْنِ كلُّ واحدٍ منهما يَشتمِلُ على طُرُقِ الفِقهِ، ولكنْ على سَبيلِ التفصيلِ.
والمرادُ بالطُّرُقِ: الأَدِلَّةُ التي بها يُتَوَصَّلُ إلى إثباتِ الأحكامِ.
- كالأخبارِ.
- والإِجْمَاعِ.
- والقِياسِ.
ويَتْبَعُ أدِلَّةَ الفِقهِ كَيفيَّةُ الاستدلالِ بها، وذلكَ كتقديمِ الخاصِّ على العامِّ، وحَمْلِ المُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ، والنظَرِ في التعارُضِ.
والكلامُ في كَيفيَّةِ الاستدلالِ يَجُرُّ إلى بيانِ حالِ المُجْتَهِدِ والمُقَلِّدِ.
فهذا بيانُ ما تَشتمِلُ عليهِ أُصُولُ الفقهِ على سبيلِ الإجمالِ.
وهوَ طُرُقُ الفِقهِ وكيفيَّةُ استعمالِها وبيانُ حالِ مَنْ يَصِحُّ منهُ استعمالُها).
الأنجم الزاهرات للشيخ: محمد بن عثمان المارديني
قال شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني (ت: 871هـ): ( (6) أقولُ: لمَّا ذَكَرَ رَسْمَ الأُصُولِ، وَرَسْمَ الفِقْهِ، ورسْمَ العِلْمِ الَّذي بهِ يُتَوَصَّلُ إلى معرفتِهمَا: شَرَعَ في الفَرْقِ بيْنَ (الظَّنِّ) وَ (الشَّكِّ) اللَّذيْنِ بهمَا يُتَوَصَّلُ أيْضًا إلى معرفةِ الأصولِ والفِقْهِ فقالَ:
الظَّنُّ :تجويزُ أمريْنِ أحدُهُمَا أظهرُ منَ الآخر، كمَا لوْ هبَّتِ الرِّياحُ وتغيَّمَتِ السَّماءُ في الشِّتاءِ فإنَّ الرَّاجِحَ منْ هذيْنِ الاحتماليْنِ وقوعُ المطرِ، وهوَ الظَّنُّ، والطَّرَفُ المرجوحُ المقابلُ للرَّاجحِ يُسمَّى وهْمًا، واللهُ أَعْلَمُ.
(7) أقولُ: لمَّا فَرَغَ منْ تعريفِ الظَّنِّ الَّذي هوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ أخَذَ في بيانِ مَا يستوي طرفاهُ منْ غيرِ ترجيحٍ كمَا لوْ تيقَّنَ الوُضُوءَ والحدثَ، ثُمَّ جَهِلَ السَّابقَ منهُمَا.
فإنْ غَلَبَ عليْهِ تقدُّمُ أحَدِ الأمريْنِ سُمِّيَ الغَالبُ ظَنًّا، والثَّاني وهْمًا، وإنْ اسْتوى الطَّرفانِ منْ غيرِ ترجيحٍ سُمِّيَ شكًّا، وهذَا في اصْطِلاحِ أهلِ هذَا الفنِّ.
وإلاَّ ففي اللُّغَةِ: لاَ فَرْقَ بيْنَ الظَّنِّ والشَّكِّ، وبِهِ قَالَ الخليلُ بنُ أحمدَ.
وإنَّمَا ميَّزَ الشَّيْخُ -رحمَهُ اللهُ- بينَهُمَا؛ إشارةً لأقسامٍ تُرَدَّدُ على العلمِ، ولهَا مدخَلٌ في المذهبِ فتارةً يُتَوَصَّلُ إلى معرفةِ أصولِ الفقهِ بالعلمِ، وتارةً بالظَّنِّ، وتارةً بالشَّكِّ واللهُ أَعْلَمُ.
(8) أقولُ: لمَّا فَرَغَ منْ بيانِ الأصولِ، وبيانِ الفقْهِ، وبيانِ مَا يُحْتَاجُ إليْهِ في هذَا الفنِّ (منَ العلم) و(الظَّنِّ) و(الشَّكّ) و(النَّظَرِ) و(الدَّليل) شَرَعَ في بيانِ
معنى قولِهِ: (أُصُولُ الفِقْهِ).
فإنَّ التَّرْكيبَ الإِضَافيَّ لا يُفيدُ إلاَّ لِنِسْبَةٍ تكونُ بيْنَ المُضَافِ والمُضافِ إليْهِ.
وقدْ سَبَقَ أنَّهُ لاَ بُدَّ للمتكلِّمِ بهمَا منْ معرفةِ كلِّ واحدٍ منهُمَا منفردًا، ثُمَّ تُعْلَمُ النِّسْبَةِ بينَهُمَا، ثُمَّ يُضِيفُ أحدَهُمَا إلى الآخرِ.
كمَا إذَا تصوَّرْنَا الغلامَ -مثلاً- ثُمَّ زيدًا، ثمَّ عَلِمْنَا أنَّهُ مِلْكُهُ، فهذِهِ نسْبَةٌ تفيدُ إضافةَ الغلامِ إلى زيدٍ فكذَا منْ عَرَفَ (الأصْل) و(الفِقْه) فلاَ يعلمُ معنى التَّركيبِ حتَّى يُشْرَحَ لهُ مأخذُ الشَّيْخِ -رحمهُ اللهُ- في شرحِ معنى التَّركيبِ الَّذي هُوَ عَلَمٌ لِهذَا الفَنِّ فقالَ: (أصولُ الفِقْهِ: طُرُقُهُ على سبيلِ الإجمالِ) أيْ: دلائِلُهُ مجملةً، وإنَّمَا قيَّدَ دلائلَهُ بالإجمالِ ليُخْرِجَ الفقهَ؛ لأنَّ دلائِلَهُ مُفَصَّلَةٌ.
والمرادُ بالدَّلائِلِ: ما يُتَوَصَّلُ بِهَا إلى إِثْبَاتِ الأحكامِ، كالإجماعِ، والقياسِ، والأخبارِ.
وقولُهُ: (وكيفيَّةُ الاستدلالِ) يُشيرُ إلى حالِ المجتهدِ إلى أنَّهُ معَ معرفةِ الأدلَّةِ لاَ بُدَّ لهُ منْ معرفةِ كيفيَّةِ الاسْتدلالِ كَحَمْلِ المُطْلَقِ على المُقيَّدِ، وتقديمِ الخاصِّ على العامِّ، والنَّظرِ في المسائلِ الغامضةِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يأتي الكلامُ عليْهِ واضحًا إنْ شاءَ اللهُ -تعالى-.
وغايتُهُ:
أنَّ أصُولَ الفقهِ يشتملُ على الإجمالِ، وطرقِ الفقْهِ، وكيفيَّةِ استعمالِهَا، وحالِ المُجْتَهِدِ، واللهُ أَعْلَمُ.
(9) أقولُ: لمَّا فَرَغَ منْ بيانِ أصولِ الفقهِ، وبيانِ مَا يُتَوَصَّلُ بهِ إلى معرفةِ الأصولِ منْ علمٍ وظنٍّ وشكٍّ وغيرِ ذلكَ: شَرَعَ في عددِ أبوابِهِ إجْمالاً، ثمَّ يفصِّلُهُ بابًا بابًا إلى آخرِ ورقاتِهِ على مَا ستراهُ إنْ شَاءَ اللهُ وَاضِحًا).
قرة العين للشيخ: محمد بن محمد الرعيني الحطاب
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المالكي [المعروف: بالحطاب] (ت: 954هـ): ( (9) (و) عِلْمُ (أُصُولِ الفقهِ) الَّذي وضَعْتُ فيهِ هذهِ الورَقَاتِ: (طُرُقُهُ)؛ أَي: طُرُقُ الفِقْهِ الموصِّلةُ إليهِ (علَى سبيلِ الإجمَالِ) كالكَلامِ علَى مُطلَقِ الأمرِ، والنَّهيِ، وفِعلِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإجمَاعِ، والقيَاسِ، والاستصحَابِ، والعَامِّ والخَاصِّ، والمجمَلِ، والمبيَّنِ… وغيرِ ذلكَ، المبحوثُ عنْ أوَّلِهَا بأنَّهُ للوجوبِ حقيقةٌ، وعنِ الثَّانِي بأنَّهُ للحُرمَةِ كذلكَ، وعن البواقِي بأنَّها حُجَجٌ، وغيرِ ذلكَ ممَّا سيأتِي؛ بخلافِ طُرُقِ الفْقْهِ الموصِّلةِ إليهِ علَى سبيلِ التَّعْيِينِ والتَّفصيلِ؛ بحيثُ إنَّ كُلَّ طريقٍ توصِّلُ إلَى مسألَةٍ جزئيَّةٍ تدُلُّ علَى حُكمِهَا نصًّا أوِ استِنْبَاطًا؛ نحوُ:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ}، و{لا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، وصَلاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكعبَةِ كَمَا أخرَجَهُ الشَّيخَانِ، والإجماعِ علَى أنَّ لِبِنْتِ الابْنِ السُّدُسَ مع بِنتِ الصُّلْبِ حيثُ لا عاصِبَ لهَا، وقياسِ الأرْزِ علَى الـبُرِّ في امتناعِ بيعِ بعضِهِ ببعضٍ إلا مِثلاً بمِثلٍ يدًا بيدٍ، كَمَا رواهُ مسلِمٌ، واستصحَابِ العصمةِ لمَنْ شكَّ في بقائِهَا؛ فإنَّ هذهِ الطُّرقَ ليستْ منْ أصولِ الفقْهِ، وإنْ ذكرَ بعضَهَا في كتبهِ يعنِي أصُولَ الفقهِ تمثيلاً.
(وكيفيَّةُ الاستدلالِ بهَا) أي: بطُرقِ الفقهِ الإجْمَاليَّةِ؛ من حيثُ تفاصيلُهَا وجزئِيَّاتُهَا عند تعارُضِهَا؛ من تقديمِ الخاصِّ علَى العامِّ، والمقيَّدِ علَى المُطلَقِ…. وغيرِ ذلكَ، وإنَّما حَصَلَ التُّعارُضُ فيهَا لكونِهَا ظنِّيَةً؛ إذْ لا تعارُضَ بينَ قاطِعَيْنِ.
وقولُهُ: (وكيفيَّةُ) بالرَّفعِ؛ عطفًا علَى قولِهِ: (طرقُهُ).
وكيفيَّةُ الاستدلالِ بالطُّرقِ المذكورةِ تَجُرُّ إلَى الكلامِ علَى صفاتِ مَنْ يستدِلُّ بِهَا، وهوَ المُجْتَهِدُ.
فهذهِ الثَّلاثةُ؛ أعْنِي:
- طرقَ الفِقهِ الإجْمَاليَّةَ.
- وكيفيَّةَ الاستدلالِ بهَا.
- وصفاتِ مَن يستدِلُّ بهَا.
هي الفنُّ المُسمَّى بهذَا اللَّقَبِ؛ أعني: أصُولَ الفقهِ، الـمُشعِرَ بمدحِهِ بابتنَاءِ الفقهِ عليهِ، وهوَ المعنَى الثَّاني الذَّي تقَدَّمتِ الإشارةُ إليهِ).
شرح الورقات للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان
قال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان: ( (5) (العِلْمُ النَّظَرِيُّ) وَيُسَمَّى المُكْتَسَبَ: وهوَ الموقوفُ علَى النظرِ والاستدلالِ، مثلُ العلمِ بأنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ العبادةِ، وأنَّ الإجارةَ عَقْدٌ لازمٌ. (وَالنَّظَرُ) هوَ الفِكْرُ فِي حالِ المنظورِ فيهِ؛ لَيُؤَدِّيَ إلَى عِلْمٍ أوْ ظَنٍّ. (وَالاسْتِدْلالُ) طَلَبُ الدليلِ لِيُؤَدِّيَ إلَى المطلوبِ منْ علمٍ أوْ ظنٍّ، وهوَ استفعالٌ من الدلالةِ؛ أيْ: طَلَبُ دِلالَةِ الدليلِ، كَالاسْتِنْصَارِ: طَلَبُ النُّصْرَةِ.
وعلَى هذا؛ فَمُؤَدَّى النظرِ والاستدلالِ واحدٌ، وهوَ أنَّ كُلاًّ منهما يُؤَدِّي إلَى المطلوبِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا المُصَنِّفُ فِي تعريفِ العلمِ الضروريِّ والمُكْتَسَبِ تَأْكِيدًا.
وقالَ بَعْضُهُم: (النَّظَرُ أَعَمُّ من الاستدلالِ؛ لأنَّهُ يكونُ فِي التَّصَوُّرَاتِ والتَّصْدِيقَاتِ، والاستدلالُ خاصٌّ بالتصديقاتِ) واللَّهُ أَعْلَمُ.
(6) (وَالدَّلِيلُ) لُغَةً: المُرْشِدُ إلَى المطلوبِ، أوْ ما يَحْصُلُ بهِ الإرْشَادُ.
فالأَوَّلُ: كالإنسانِ.
والثاني: كالْعَلامَةِ التي يُسْتَدَلُّ بها علَى شيءٍ.
واصطلاحًا: ما يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النظرِ فيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ.
وقولُنَا: مَا: اسمٌ موصولٌ؛ أي: الذي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ. (بِصَحِيحِ النَّظَرِ) هذا منْ إضافةِ الصفةِ إلَى الموصوفِ؛ أي: النظرِ الصحيحِ.
فِيهِ: أيْ فِي ذلكَ الشيءِ. (إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ) أيْ: تَصْدِيقِيٍّ، كأنْ يُقَالَ فِي الدلالةِ علَى تحريمِ النَّبِيذِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ))، فَيَلْزَمُ عنهُ: النَّبِيذُ حَرَامٌ.
لَمَّا فَرَغَ المُصَنِّفُ منْ تعريفِ العلمِ وبيانِ أقسامِهِ ذَكَرَ ما يُقَابِلُهُ، وهوَ الظَّنُّ؛ إذْ ليسَ هوَ من العلمِ؛ لأنَّ العلمَ هوَ الإدراكُ الجازمُ كما تَقَدَّمَ، والإدراكُ غيرُ الجازمِ لا يَخْلُو منْ حَالَيْنِ:
الأَوَّلُ: أنْ يَتَسَاوَى الأمرانِ فلا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا علَى الآخرِ عندَ المُجَوِّزِ (بِكَسْرِ الوَاوِ)، وإنْ كانَ أحدُهُمَا أَرْجَحَ عِنْدَ غَيْرِهِ أوْ فِي الواقعِ، وهذا هوَ الشكُّ.
الثاني: أنْ يَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ علَى الآخرِ، فالرَّاجِحُ: ظَنٌّ، والمَرْجُوحُ: وَهْمٌ.
(وَالشَّكُّ) ضِدُّ اليَقِينِ، جاءَ فِي لسانِ العربِ (13/457): (اليقينُ: العِلْمُ، وإزاحةُ الشكِّ، وتحقيقُ الأمْرِ. واليقينُ: ضِدُّ الشَّكِّ... وهوَ فِي الأصلِ بِمَعْنَى الاستقرارِ، يُقَالُ: يَقِنَ الماءُ فِي الحوضِ، إذا اسْتَقَرَّ وَدَامَ).
والشَّكُّ فِي الأصلِ: الاتِّصالُ واللُّزُوقُ.
ومنهُ حديثُ الغامِدِيَّةِ: ((أُمِرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ رُجِمَتْ))؛ أيْ: شُدَّتْ عليها وَجُمِعَتْ. ثمَّ صَارَ هذا اللفظُ يُطْلَقُ علَى التَّرَدُّدِ فِي شَيْئَيْنِ؛ بحيثُ لا يَمِيلُ القلبُ إلَى أَحَدِهِمَا.
وقَوْلُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ) فيهِ مُسَامَحَةٌ؛ فإنَّ الظَّنَّ ليسَ هوَ تَجْوِيزًا، وإنَّمَا هوَ الطرفُ الراجحُ المُقَابِلُ للطرفِ المَرْجُوحِ الذي هوَ وَهْمٌ كما ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا غلبةُ الظنِّ فهوَ غيرُ الظنِّ.
قالَ أبو هلالٍ العَسْكَرِيُّ فِي كتابِهِ (الفُرُوقُ فِي اللغةِ): (غَلَبَةُ الظنِّ عبارةٌ عنْ طُمَأْنِينَةِ الظنِّ، وهيَ رُجْحَانُ أحدِ الجَانِبَيْنِ علَى الجانبِ الآخرِ رُجْحَانًا مُطْلَقًا يُطْرَحُ معهُ الجانبُ الآخرُ). اهـ
والظَّنُّ وَغَلَبَةُ الظنِّ كلٌّ منهما يقومُ مَقَامَ اليقينِ عندَ الفقهاءِ، ويَجُوزُ بناءُ الأحكامِ الشرعيَّةِ إذا فُقِدَ اليقينُ الذي قَلَّما يَحْصُلُ عندَ الاجتهادِ.
قالَ العَلامَةُ ابنُ فَرْحُونَ فِي كتابِهِ (تَبْصِرَةُ الحُكَّامِ): (تَنْبِيهٌ: وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التحقيقِ الظَّنُّ الغالبُ؛ لأنَّ الإنسانَ لوْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ، أوْ وَجَدَ ذلكَ بِخَطِّهِ، أوْ بِخَطِّ مَنْ يَثِقُ بهِ، أوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ، فالمَنْقُولُ جوازُ الدَّعْوَى بمثلِ هذا، والحَلِفُ بِمُجَرَّدِهِ. وهذهِ الأسبابُ لا تُفِيدُ إلا الظنَّ دونَ التحقيقِ، لكنَّ غَالِبَ الأحكامِ والشهاداتِ إنَّمَا تَنْبَنِي علَى الظنِّ، وتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التحقيقِ). اهـ
وفي الفقهِ مسائلُ عديدةٌ حُكِمَ فيها بالصِّحَّةِ بِنَاءً علَى ما فِي ظنِّ المُكَلَّفِ، ذَكَرَ جملةً منها ابنُ اللَّحَّامِ فِي (قواعدِهِ) ص (82)، والأَسْنَوِيُّ فِي (التمهيدِ) ص65.
هذا هوَ التعريفُ الثاني لأصولِ الفقهِ، وهوَ باعتبارِهِ لَقَبًا لهذا الفنِّ، وقدْ تَقَدَّمَ تعريفُهُ باعتبارِ مُفْرَدَيْهِ.
قال: (عِلْمُ أُصُولُ الفِقْهِ: طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا).
فقولُهُ: (طُرُقُهُ) أيْ: طُرُقُ الفقهِ، والمرادُ: أَدِلَّةُ الفِقْهِ الإجماليَّةُ، وهيَ القواعدُ العامَّةُ التي يَحْتَاجُ إليها الفَقِيهُ؛ مثلُ:الأمرُ للوجوبِ، والنَّهْيُ للتحريمِ، والإجماعُ حُجَّةٌ، ونحوِ ذلكَ من المسائلِ الكُلِّيَّةِ التي تَبْحَثُ فِي أُصُولِ الفقهِ، ولا يَتَعَرَّضُ الأُصُولِيُّ لِلأَدِلَّةِ التفصيليَّةِ إلا علَى سبيلِ التمثيلِ والإيضاحِ؛ مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} للأَمْرِ، ومثلُ صلاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكعبةِ، يُمَثِّلُ بهِ للفعلِ فِي أنَّهُ لا يَعُمُّ أَقْسَامَهُ، وَمِثلُ الإجماعِ علَى أنَّ بِنْتَ الابنِ تَأْخُذُ السُّدُسَ معَ بنتِ الصُّلْبِ؛ حيثُ لا مُعَصِّبَ لَهُمَا.
وقولُهُ: (وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا) هذا معطوفٌ علَى قولِهِ: (طُرُقُهُ) أيْ: أنَّ موضوعَ أصولِ الفقهِ: أَدِلَّةُ الفقهِ الإجماليَّةُ، وكيفيَّةُ الاستدلالِ بها علَى الأحكامِ، وَبَقِيَ أمْرٌ ثالثٌ، وهوَ: معرفةُ حالِ المُسْتَدِلِّ، وهوَ المُجْتَهِدُ، وإنَّمَا تَرَكَهُ المُصَنِّفُ؛ لأنَّ كيفيَّةَ الاستدلالِ تَجُرُّ إلَى صفاتِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بها، فاكْتَفَى بذِكْرِ كيفيَّةِ الاستدلالِ عنْ ذِكْرِ صفاتِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بها وهوَ المُجْتَهِدُ، وسَيَذْكُرُ ذلكَ فِي آخرِ الورقاتِ؛ فإنَّهُ قالَ: (وَمِنْ شُرُوطِ المُفْتِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالفِقْهِ... إلخ).
والمرادُ بقولِهِ: (وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِدْلالِ بِهَا) أيْ: كَيْفِيَّةُ الاستدلالِ بِطُرُقِ الفقهِ الإجماليَّةِ، وذلكَ بمعرفةِ دلالاتِ الألفاظِ، وشُرُوطِ الاستدلالِ.
فمِنْ دلالاتِ الألفاظِ: العُمُومُ والخصوصُ، والإطلاقُ والتقييدُ.
وشروطُ الاستدلالِ: كَحَمْلِ المُطْلَقِ علَى المُقَيَّدِ، وتخصيصِ العامِّ، ومعرفةِ التَّرْجِيحِ عندَ التَّعَارُضِ، ونحوِ ذلكَ مِمَّا يُبْحَثُ فِي أصولِ الفقهِ.
(وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها) في بعض النسخ زيادة: (ومعنى قولنا: كيفية الاستدلال بها ترتيب الأدلة في الترتيب والتقديم والتأخير، وما يتبع ذلك من أحكام المجتهدين) لكن أكثر النسخ ما فيها هذا، وإن كان يأتي بعض هذه الجمل.
أصول الفقه سبق لنا معناه، والمؤلف هنا فسره أو عرفه بأنه: (طرقه على سبيل الإجمال وكيفيه الاستدلال بها)، ولم يذكر حال المستدل).
العناصر
تعريف أصول الفقه
لا بد لفهم المركب الإضافي من فهم مفرديه، ثم فهم العلاقة بينهما
تعريف أصول الفقه اصطلاحًا، وشرح التعريف
معنى قول المؤلف في تعريف أصول الفقه: (وكيفية الاستدلال بها)