25 Oct 2008
المدلَّس والمرسل الخفي
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا.
فالأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلاَقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلى التَّأرِيخِ.
والثَّانِي:المُدَلَّسُ، وَيَرِدُ بِصِيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ؛ كَعَنْ،وَقَالَ.
- وَكَذَا: المُرْسَلُ الخَفِيُّ مِنْ مُعَاِصرٍ لَمْ يَلْقَ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (وَ)القِسْمُ
(الثَّانِي) وهو الْخَفِيُّ.
(4) (المُدَلَّسُ) بفتْحِ اللاَّمِ سُمِّيَ بذَلِكَ لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَنْ حَدَّثَهُ، وأوهَمَ سَماعَهُ للحَدِيثِ ممَّنْ لم يُحَدِّثْهُ به. - واشْتِقَاقُهُ من الدَّلَسِ -بالتَّحْرِيكِ- وهو اخْتِلاطُ الظَّلامِ بالنُّورِ، سُمِّيَ بذَلِكَ لاشْتِرَاكِهما في الخَفاءِ. (وَيَرِدُ)الْمُدَلَّسُ (بِصِيغَةٍ) مِن صِيَغِ الأَدَاءِ (تَحْتَمِلُ) وقوعَ (اللُّقَى) بَيْنَ الْمُدَلِّسِ ومَن أَسْنَدَ عنهُ. (كَعَنْ، وَ)كذا (قَالَ) ومتَى وقَعَ بِصِيغَةٍ صِرِيحَةٍ لا تَجَوُّزَ فيهَا، كَانَ كَذِبًا. وَحُكْمُ مَنْ ثَبَتَ عنهُ التَّدْلِيسُ: إذا كان عَدْلاً أنْ لا يُقْبَلَ منه إلاَّ ما صَرَّحَ فيه بالتَّحْدِيثِ على الأصَحِّ. (5) (وَكَذَلِكَ المُرْسَلُ الخَفِيُّ) إذا صَدَرَ (مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ مَنْ حَدَّثَ عنهُ) بلْ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ. والفَرْقُ بَيْنَ المُدَلَّسِ وَالْمُرْسَلِ الخَفِيِّ دَقِيقٌ حَصَلَ تَحْرِيرُهُ بما ذُكِرَ هنا: -وهو: أنَّ التَّدْلِيسَ يَخْتَصُّ بمَن رَوى عمَّن عُرِفَ لِقاؤُه إياهُ. -فأمَّا إن عاصَرَهُ ولم يُعرَفْ أنَّه لَقِيَهُ فهو الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ. -ومَن أَدْخَلَ في تَعْرِيفِ التَّدْلِيسِ المُعَاصَرَةَ ولو بغيرِ لُقًى؛ لَزِمَهُ دُخُولُ المُرْسَلِ الْخَفِيِّ في تَعْرِيفِهِ، والصَّوابُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهما، ويدُلُّ على أنَّ اعْتِبارَ اللُّقَى في التَّدْلِيسِ دونَ المُعَاصَرَةِ وحدَها لا بُدَّ منه إِطْبَاقُ أهلِ العِلْمِ بالحَدِيثِ على أنَّ رِوَايةَ المُخَضْرَمِينَ، كأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، مِن قَبِيلِ الإِرْسَالِ، لا من قَبيلِ التَّدْلِيسِ. ولو كانَ مُجَرَّدُ المُعاصَرَةِ يُكْتَفَى به في التَّدْلِيسِ؛لكانَ هؤلاءِ مُدَلِّسِينَ؛ لأنَّهم عَاصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعًا ولكنْ لم يُعْرَفْ هل لَقُوهُ أمْ لا؟ وممَّنْ قال باشْتِرَاطِ اللِّقَاءِ في التَّدْلِيسِ: الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، وكَلاَمُ الْخَطِيبِ في (الْكِفَايةِ) يَقْتَضِيهِ وهو الْمُعْتَمَدُ، ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقَاةِ بإخبارِهِ عَن نَفْسِهِ بذَلِكَ، أو بِجَزْمِ إِمَامٍ مُطَّلِعٍ، ولا يكْفِي أنْ يقعَ في بعضِ الطُّرُقِ زيادةُ راوٍ أو أكثرَ بَيْنَهما؛ لاحتمالِ أَنْ يَكُونَ مِن المزيدِ ولا يُحْكَمُ في هَذِهِ الصُّورَةِ بحُكْمٍ كُلِّيٍّ؛ لتَعارُضِ احتمالِ الاتِّصَالِ والانْقِطَاعِ. وقد صنَّفَ فيه الْخَطِيبُ كِتَابَ (التَّفْصِيلِ لِمُبْهَمِ الْمَرَاسِيلِ)، وَكِتَابَ (الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الأَسَانِيدِ)، وقد انتهتْ هنا: أقسامُ حُكْمِ السَّاقِطِ من الإسنادِ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (4) القسمُ الثاني:
وهو السقطُ الخَفِيُّ قَسَّمَهُ الحافظُ قِسْمَيْنِ:
- المُرْسَلُ الخَفِيُّ. - المُدَلَّسُ.
ذَكَرَ أَنَّ المُرْسَلَ الخَفِيَّ هو:
رِوَايَةُ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولمْ يَلْقَهُ،
فقال: (وكذلكَ المُرْسَلُ الخَفِيُّ إذا صَدَرَ مِن مُعَاصِرٍ لم يَلْقَ مَن حَدَّثَ عنه بلْ بينَه وبينَه وَاسِطَةٌ).
وقد سَبَقَ أَنْ قال في السقطِ الجَلِيِّ: (أو أَدْرَكَهُ لكنهما لم يَجْتَمِعَا)، وَتَقَدَّمَ هناكَ أَنَّ هذا النوعَ مِن الإدراكِ الأَلْيَقُ بهِ أَنْ يكونَ في المُرْسَلِ الخَفِيِّ، وقد اسْتَدْرَكَ الحافظُ فَذَكَرَهُ هنا أيضًا، ويُضَافُ إلى قولِ الحافِظِ: (لمْ يَلْقَ مَن حَدَّثَ عنهُ)، يُضَافُ: (أوْ لَقِيَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ)، ذلكَ أَنَّ بعضَ الرُّوَاةِ يَلْتَقِي بِرَاوٍ يَجِدُهُ في المسجدِ أو نحوَ ذلكَ وَلَكِنْ يَعْرِفُ الأَئِمَّةُ أَنَّهُ وإنْ كانَ قد لَقِيَهُ إلا أَنَّهُ لمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
فهذا النوعُ سَمَّاهُ الحافِظُ:المُرْسَلَ الخَفِيَّ.
- وَوَجْهُ كَوْنِهِ خَفِيًّا:
أَنَّهُ لا يُدْرَكُ بِمَعْرِفَةِ الوِلاَدَةِ، وَالوفاةِ.
(5) والقِسْمُ الثاني مِن الانقطاعِ الخَفِيِّ:
هو روايةُ الراوي عن شَيْخِهِ حديثًا أو أَكْثَرَ لم يَسْمَعْهُ منه، بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ مثلَ: عن، قال …، فإذا رَوَى عنه حديثًالم يَسْمَعْهُ منهُ فهذا مِن الخَفِيِّ جِدًّا ويُعْرَفُ كما قال الحافظُ عندَ الأَئِمَّةِ: بالتدليسِ.
- وفَاعِلُهُ:يُسَمَّى المُدَلِّسَ.
- والإسنادُ:الذي وُجِدَ فيهِ هذا العملُ يُسَمَّى المُدَلَّسَ.
وهذا النوعُ يُسَمَّى: تَدْلِيسَ الإسنادِ.
وذَكَرَ الحافظُ أَنَّ الصحيحَ في التدليسِ هو ما ذَكَرَهُ، وهو اشتراطُ هذه القيودِ فيهِ، وهذه القيودُ مَنْقُولَةٌ عن الشَّافِعِيِّ في (الرسالةِ)، وأبي حاتمٍ، وأبي بكرٍ البَزَّارِ، وابنِ القَطَّانِ، ومن الأقوالِ المَرْجُوحَةِ أَنَّ بعضَ الأَئِمَّةِ يُسَمِّي روايةَ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ، ولمْ يَلْقَهُ، أو لَقِيَهُ ولم يَسْمَعْ منهُ، يُسَمِّيهَا أيضا تَدْلِيسًا، وحينئذٍ فَقَوْلُ الإمامِ: فلانٌ يُدَلِّسُ عن فلانٍ، لا يَلْزَمُ منهُ أَنَّهُ عندَ هذا الإمامِ قدْ سَمِعَ منهُ، لأنَّ هناكَ من الأَئِمَّةِ مَن اصْطَلَحَ على أَنَّ روايةَ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولمْ يَلْقَهُ أو لَقِيَهُ ولمْ يَسْمَعْ منه تَدْلِيسٌ، فقالَ الحافِظُ: هذا مَرْجُوحٌ، والأَلْيَقُ باسمِهِ أَنْ يكونَ المُرْسَلَ الخَفِيَّ.
وهذا الذي قالَهُ صحيحٌ مِن جهةِ النظرِ؛ فإنَّهُ حقيقةٌ ليس فيهِ تَدْلِيسٌ شديدٌ، لأنَّ الراويَ أصلاً لم يَلْقَ مَن روى عنهُ، لكنْ فيهِ شُبْهَةُ تَدْلِيسٍ؛ لأنَّ غيرَ الإمامِ الذي يَعْرِفُ الانقطاعَ والاتصالَ بِمُجَرَّدِ الوفاةِ والولادةِ أو مِن الطبقاتِ فإنَّ هذا الراويَ دَلَّسَ عليهِ، إذْ إِنَّهُ سَيَظُنُّ لأوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّهُ قد سَمِعَ منهُ، فَفِيهِ شُبْهَةُ تَدْلِيسٍ، لكنَّ الأَحَقَّ باسمِ التدليسِ وهو الذي فيهِ تدليسٌ شديدٌ أَنَّ يَرْوِيَ عَمَّن سَمِعَ عنهُ حديثًا لم يَسْمَعْهُ منه.
إذا كان الراوي قد عاصرَ مَن روَى عنهُ، يقولُ الحافِظُ: أحيانًا يَأْتِي في بعضِ الأسانيدِ نفسُ هذا الراوي في نفسِ هذا الحديثِ يُدْخِلُ وَاسِطَةً بينهُ وبينَ مَن روى عنهُ، فيقولُ: هذهِ القرينةُ ليستْ دائمًا دليلاً على أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، فالحافظُ يقولُ: (إنَّ هذا ليس قاعدةً مُطَّرِدَةً، فأحيانًا تكونُ هذه الزيادةُ مِن المزِيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ)، يعني أَنَّ الراجحَ حَذْفُ هذهِ الواسطةِ، أو يكونُ الراوي قد سَمِعَ هذا الحديثَ مِمَّن روَى عنهُ بواسطةٍ، وسَمِعَهُ منهُ بدونِ واسِطَةٍ، فكانَ يُحَدِّثُ بهِ على الوجْهَيْنِ، وَيُشْبِهُ ما ذَكَرَهُ الحافظُ أَنْ يكونَ قد عَاصَرَ شخصًا ثم روَى عنهُ أحاديثَ مُبَاشَرَةً، وفي أحاديثَ أُخْرَى يَدْخُلُ بينه وبينَ مَن روى عنهُ واسطةٌ، فوجودُ هذهِ الواسطةِ لا يَعْنِي الجَزْمَ بأَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، وأنَّ ما رَوَاهُ عنهُ مباشرةً قد أَرْسَلَهُ عنهُ، إلا أَنَّ هذا قد يكونُ قرينةً في بعضِ الأحيانِ على أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، ويَسْتَخْدِمُهَا الأَئِمَّةُ لاَ سِيَّمَا إذا لم يَرِد التصريحُ بالسماعِ عنهُ في حديثٍ ما.
مثلَ:
أَنْ يقولَ أحمدُ: عِرَاكٌ عن عائشَةَ مُرْسَلٌ، فالإمامُ أحمدُ،لم يَقِفْ على تصريحٍ بالتَّحْدِيثِ إلاَّ في طُرُقٍ ضَعَّفَهَا.
ثم قالَ أحمدُ: (يُدْخِلُ بينه وبينَ عائشَةَ، عُرْوَةَ، فَاسْتَدَلَّ بأنَّ عِرَاكًا،لم يَلْقَ عائشةَ بأَنَّهُ يُدْخِلُ بينه وبينها عُرْوَةَ، فهذهِ قرينةٌ اسْتَخْدَمَهَا الإمامُ أحمدُ، واسْتِخْدَامُهَا صحيحٌ).
قولُهُ: (ويُعْرَفُ عَدَمُ المُلاَقَاةِ بِإِخْبَارِهِ عن نَفْسِهِ بذلك أو بِجَزْمِ إِمَامٍ مُطَّلِعٍ) معنى مُطَّلِعٍ أيْ: على أحوالِ الرُّوَاةِ والاتصالِ والانقطاعِ مثلَ: البخاريِّ، وأحمدَ، وابنِ مَعِينٍ، وأبي زُرْعَةَ، وأبي حَاتِمٍ، فعلى كلامِهم الاعتمادُ في مسائلِ اللُّقِيِّ وعَدَمِهِ.
فإذا اتَّفَقَتْ كلمةُ الأَئِمَّةِ أو كادَتْ على أَنَّ فلانًالم يَلْقَ فلانًا؛ فالواجبُ على الباحثِ التسليمُ، سواءً عَرَفْنَا أنَّهُمَا في بلدٍ واحدٍ، أو أَنَّهُ دَخَلَ عليهِ، أو أَمْكَنَ اللقاءُ، أو نحوَ ذلكَ.
وإذا كانَ النَّقْلُ عن بعضِ الأَئِمَّةِ في السماعِ وعدمِهِ، ولمْ يُنْقَلْ عن غيرِهِم ما يُخَالِفُهُ، فإنَّنَا نَأْخُذُ بقولِ مَن نُقِلَ عنهُ ذلكَ، ولا نَتَعَقَّبُهُمْ إلاَّ في حالاتٍ نَادِرَةٍ.
وإذا اختلفوا وكان الجمهورُ على القولِ بأَنَّهُ لمْ يَلْقَهُ أو لم يَسْمَعْ منهُ، أو بِضِدِّ ذلكَ فالقاعدةُ أنَّنَا نَأْخُذُ بقولِ الجمهورِ.
وإذا اختلفوا وكانوا على فِرْقَتَيْنِ في السماعِ وعَدَمِهِ فهنا للباحثِ مجالٌ للترجيحِ والموازنةِ بينَ الرأْيَيْنِ. وأقولُ هذا الكلامَ لأنَّنَا نَجِدُ مِن كثيرٍ مِن الباحثينَ التَّعَقُّبَ على الأَئِمَّةِ ولاَ سِيَّمَا في نَفْيِ السماعِ.
(6) ذَكَرَ الحافظُ:حُكْمَ روايةِ المُدَلِّسِ:
بقولِهِ: (وَحُكْمُ مَن ثَبَتَ عنهُ التدليسُ إذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إلا ما صَرَّحَ فيهِ بالتحديثِ على الأَصَحِّ).
كلامُ الحافظِ هذا قُلِّدَ فيهِ تقليدًا تامًّا، ولاَ سِيَّمَا مِن المُشْتَغِلِينَ بعلمِ الحديثِ في العصرِ المُتَأَخِّرِ، فصاروا يَشْتَرِطونَ اشتراطًا مُبَالَغًا فيهِ في قَبُولِ روايةِ المُدَلِّسِ بأنْ يَقِفُوا على تَصْرِيحِهِ بالسماعِ، وبسببِ هذا تَكَلَّمُوا في أحاديثَ قد صَحَّحَهَا الأَئِمَّةُ ورُبَّمَا كانَ بعضُهَا في (الصَّحِيحَيْنِ)، والحافظُ قُلِّدَ في هذهِ القضيَّةِ على الإطلاقِ في هذا المكانِ مع أَنَّ لهُ تَقْسِيمًا في بعضِ كُتُبِهِ يُخَالِفُ هذا الإطلاقَ، فهو قالَ هنا: (وحُكْمُ مَن ثَبَتَ عنهُ التدليسُ إذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إلا ما صَرَّحَ فيهِ بالتحديثِ على الأَصَحِّ)، وهذه كلمةٌ قَاسِيَةٌ جِدًّا.
(7)وسَأَذْكُرُ تقسيمًا للمُدَلِّسِينَ الثقاتِ اجْتَهَدْتُ فيهِ، ومنهُ نأخذُ أحكامًا مُجْمَلَةً للتدليسِ:
تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ جماعةً مِن الأَئِمَّةِ يُطْلِقُونَ التدليسَ على روايةِ الراوي عَمَّنْ عاصرَهُ ولمْ يَلْقَهُ بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ، وعلى هذا فقدْ يَرْمُونَ أحدًا بالتدليسِ ومُرَادُهُم هذا، أيْ: أَنَّ مُرَادَهُم أَنَّ ذلكَ الراويَ رَوَى عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولم يَلْقَهُ، وليسَ مرادُهُم أَنَّهُ يَرْوِي عن شُيُوخِهِ الذين سَمِعَ منهم أحاديثَ لم يَسْمَعْهَا منهم بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ، فحينئذٍ لا يَصِحُّ أَنْ نَرُدَّ ما رَوَوهُ بالعَنْعَنَةِ عن شيوخِهِم الذين سَمِعُوا منهم بِمُجَرَّدِ رَمْيِهِم بالتدلِيسِ.
وقدْ نَبَّهَ ابنُ حَجَرٍ في (النُّكَتِ) إلى أَنَّ جماعةً مِمَّنْ رُمُوا بالتدليسِ من رجالِ (الصَّحِيحَيْنِ) هم بهذهِ المَثَابَةِ، وَضَمَّ إليهم مَن رُمِيَ بالتدليسِ بالظَّنِّ ولمْ يَثْبُتْ عنهُ ذلكَ.
إذا ثَبَتَ أَنَّ الراويَ يُدَلِّسُ التدليسَ المعروفَ وهو: أَنَّ يَرْوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ منهُ أحاديثَ لم يَسْمَعْهَا منهُ؛ فَأَدْنَى هؤلاءِ درجةً جماعةٌ مِن المُدَلِّسينَ اشْتُهِرَ عنهم التدليسُ وكَثُرَ عنهم، ومع ذلك اشْتُهِرَ عنهم التدليسُ عن الضعفاءِ، ومِن هؤلاءِ الوليدُ بنُ مسلمٍ، وبَقيةُ بنُ الوليدِ، ومحمدُ بنُ المُصَفَّى، وابنُ جُرَيْجٍ.
- قال: ابنُ مَعِينٍ في بَقِيَّةَ: (كأَنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ عن مائةٍ من الضعفاءِ قبلَ أَنْ يُحَدِّثَ عن راوٍ ثِقَةٍ)، فهؤلاءِ مُكْثِرُونَ مِن التدليسِ ومكثرونَ مِن التدليسِ عن الضعفاءِ والمَتْرُوكِينَ، وضَمُّوا إلى ذلكَ أيضًا أنواعًا أُخْرَى من التدليسِ سَيِّئَةً جِدًّا.
مثلَ:
التدليسِ المعروفِ بتدليسِ التَّسْوِيَةِ وهو: أَنْ يُبْقِيَ شيخَهُ وقد يُغَيِّرُ اسمَهُ، ثم يَحْذِفُ أُنَاسًا مِن وَسَطِ الإسنادِ، وهذا يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ، والوليدُ بنُ مسلمٍ، ومحمدُ بنُ المُصَفَّى، فهذا النوعُ مِن المُدَلِّسِينَ لا يُقْبَلُ حديثُهم إلا إذا صَرَّحُوا فيهِ بالتحديثِ.
وبعضُهم يَشْتَرِطُ أَنْ يُصَرِّحَ في إسنادِهِ كلِّهِ بالتحديثِ، فمثلاً إذا رَوَى الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن الأَوْزَاعِيِّ، عن الزُّهْرِيِّ؛ فإنَّا نَشْتَرِطُ أَنَّ يُصَرِّحَ الوليدُ نفسُهُ بالتحديثِ، وأنْ يُصَرِّحَ الأَوْزَاعِيُّ بالتحديثِ لأنَّ الوليدَ بنَ مسلمٍ يُسْقِطُ مَن بينَ الأَوْزَاعِيِّ والزُّهْرِيِّ، ومَن يُسْقِطُهُمْ هُمْ مِن ضعفاءِ شيوخِ الأَوْزَاعِيِّ.
أُنَاسٌ مُقِلُّونَ من التدليسِ فلم يُعْرَفُ عنهم التدليسُ، وإِنَّمَا عُرِفَ عنهم التدليسُ في الحديثِ أو الحديثَيْنِ أو الثلاثةِ، وَأَدْرَجَهُم الأَئِمَّةُ مِن ضِمْنِ المُدَلِّسِينَ؛ لأنَّهُم وَقَفُوا لهم على بعضِ الأحاديثِ التي دَلَّسُوهَا، فهذا الراجحُ فيهم لا كما قال الحافظُ بلْ كما قال ابنُ المَدِينِيِّ، وَنَقَلَهُ عنهُ ابنُ عبدِ البَرِّ: إنَّ هؤلاءِ يُحْكَمُ لِعَنْعَنَتِهِمْ بالاتصالِ، وذَكَرَ العَلاَئِيُّ في (جامعِ التحصيلِ) عددًا مِن الرُّوَاةِ مَثَّلَ بِهِمْ لهذا الضَّرْبِ جماعةٌ من المُدَلِّسينَ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، مُكْثِرُونَ مِن التدليسِ ولكنَّهم مع ذلكَ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ اعْتَنَى الأَئِمَّةُ بحديثِهِم ولم يُشْتَهَرْ عنهم كثرةُ التدليسِ عن الضعفاءِ، وهؤلاءِ هم غالِبُ المُدَلِّسينَ مِن الأَئِمَّةِ مثلَ: سفيانَ الثوريِّ، الأعمشِ، أبي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، هُشَيْمٍ ….، وإذا ذُكِرَ التدليسُ يُذْكَرُ مِن الأَئِمَّةِ أمثالُ هؤلاءِ؛ فهؤلاءِ هم الذينَ يَكْثُرُ الكلامُ عنهم؛ لأنَّ أكثرَ الأحاديثِ تدورُ عليهم، وهؤلاءِ لهم أحكامٌ خاصَّةٌ في التدليسِ، فالأصلُ في عَنْعَنَةِ هؤلاءِ أنَّهَا مقبولةٌ، لكنْ بِقُيُودٍ تَضْبِطُ هذا الأمْرَ.
فيُحْكَمُ على عَنْعَنَتِهِمْ بالانقطاعِ مَتَى أَدْخَلُوا بينَهم وبينَ شيوخِهِم واسطةً ولو في روايةِ شخصٍ واحدٍ، فإذا كَثُرَت الأسانيدُ عن سفيانَ الثوريِّ مثلاً عن شيخِهِ مباشرةً بصيغةِ عن ولكنْ في بعضِ الطُّرُقِ يأتي سفيانُ ويُدْخِلُ بينَهُ وبينَ شيخِهِ واسطةً فهذا الأَقْرَبُ أَنْ يكونَ سفيانُ دَلَّسَهُ.
أنْ يَنُصَّ إمامٌ من الأَئِمَّةِ أَنَّ فلانًالم يسمعْ هذا الحديثَ من فلانٍ، ولو لمْ يأتِ عنهُ بواسطةٍ، ولكنْ يَكْفِينَا نَصُّ هذا الإمامِ، ونَعْرِفُ نصوصَ هؤلاءِ الأَئِمَّةِ عن طريقِ كُتُبٍ اعْتَنَتْ بهذا الأمرِ، وتلاميذَ اعْتَنَوا بالمُدَلِّسينَ من شيوخِهم، فالإمامُ أحمدُ اعْتَنَى بأحاديثِ هُشَيْمِ بنِ بَشِيرٍ التي دَلَّسَهَا، فَنَصَّ في كتابِ (العِلَلِ) على أحاديثَ كثيرةٍ أَنَّ هُشَيْمًالمْ يَسْمَعْهَا مِمَّنْ رَوَاهَا عنهُ، فنحنُ نُسَلِّمُ للإمامِ أحمدَ، وتارةً يُسَمِّي الإمامُ الواسطةَ، وتارةً لا يُسَمِّيهَا.
أنْ تُوجَدَ عِلَلٌ في الإسنادِ مثلَ: اشتباهِ دخولِ إسنادٍ في إسنادٍ، أو روايةِ راوٍ لم يُعْرَفْ بالروايةِ عَمَّنْ رَوَى عنهُ أو نحوَ ذلكَ، أو في المَتْنِ نكَارَةٌ، فلو لمْ نَقِفْ على روايةٍ بِوَاسِطَةٍ يعني: لم يَكُنْ مِن النوعِ الأوَّلِ، ولمْ نَقِفْ على أنَّ إِمَامًا نَصَّ على أَنَّ هذا الإسنادَ مُدَلَّسٌ فحينئذٍ نَلْجَأُ في نَقْدِهِ إلى تعليلِ الحديثِ بالتدليسِ، وهذا كثيرٌ جِدًّا.
إذا انْتَفَتْ هذه الأمورُ الثلاثةُ فالذي يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ روايةِ هؤلاءِ الأَئِمَّةِ مَحْمُولٌ على الاتصالِ، ونُؤَكِّدُ على أمورٍ في هذا الحديثِ إذا مَرَّ على أَئِمَّةٍ وَنَقَدُوهُ وَدَرَسُوا إسنادَهُ وحَكَمُوا لهُ بالصِّحَّةِ وما الْتَفَتُوا إلى عِلَّةِ التدليسِ فلا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعِلَّهُ بالتدليسِ، وَأَعْظَمُ منهُ إذا صَحَّحَ الأَئِمَّةُ حديثًا وما وَقَفْنَا على أَحَدٍ أَعَلَّهُ بالتدليسِ، فالواجبُ أَنْ نُسَلِّمَ لهم بذلكَ ولاَ سِيَّمَا كتابِ البخاريِّ ومسلمٍ، ونحنُ نَعْرِفُ أنَّهُمَا اشْتَرَطَا الصِّحَّةَ وأنَّهُمَا يَذْهَبانِ إلى أَنَّ التدليسَ عِلَّةٌ، ونَعْرِفُ درجةَ تصحيحِ ابنِ حِبَّانَ إذا قُورِنَ بتصحيحِ الشيخَيْنِ، وهو قد نَصَّ في مقدمةِ كتابِهِ أَنَّهُ لم يَثْبُتْ من أحاديثِ المُدَلِّسينَ إلا ما صَرَّحُوا فيهِ بالتحديثِ من طُرُقٍ أخرى، فإذا كان هذا في (صحيحِ ابنِ حِبَّانِ)؛ فهو في كتابِ الشيخَيْنِ مِن بابِ أَوْلَى، وبِحَمْدِ اللهِ فإنَّ مَن يُطَالِبُونَ بالتصريحِ بالتحديثِ تَعِبُوا في ذلكَ، وغالبُ ما هو من روايةِ المُدَلِّسينَ في كتابِ الشيخَيْنِ قد وُجِدَ التصريحُ بالتحديثِ فيهِ في خارجِ (الصَّحِيحَيْنِ)، ولم يَبْقَ إلا القليلُ، وفي مثلِ هذا يَنْبَغِي حَمْلُ القليلِ على الكثيرِ، وكما قالَ المَزِّيُّ: ليس أَمَامَنَا إلا إِحْسَانُ الظَنِّ بالشيخَيْنِ وأنَّهُمَا لم يُثْبِتَا مِن أحاديثِ المُدَلِّسينَ إلا ما عَرَفُوا أَنَّهُ من صحيحِ حديثِ مَن دَلَّسُوا عنهُ.
وموضوعُ التدليسِ مِن الموضوعاتِ المُهِمَّةِ التي كَثُرَ حولهَا الكلامُ مِن الأَئِمَّة حَتَّى مِن المُتَقَدِّمِينَ أَنْفُسِهم، فللشافعيِّ رَأْيٌ قَوِيٌّ جِدًّا في التدليسِ فَيَحْكُمُ على الراوي بالتَّدليسِ إذا ثَبَتَ عنهُ أَنَّهُ دَلَّسَ مَرَّةً واحدةً، ثم يَحْكُمُ بعدَ ذلكَ أَنَّهُ لا يَقْبَلُ منهُ مُطْلَقًا إلا إذا صَرَّحَ بالتحديثِ.
ودونَ هذه الرُّتْبَةِ مَن لا يَحْكُمُ على المُدَلِّسِ بالتَّدليسِ إلا إذا كَثُرَ منهُ التَّدليسُ، ويَشْتَرِطُ في قَبُولِ حديثِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بالتحديثِ مثلَ: ابنِ المَدِينِيِّ.
- ومن الأَئِمَّةِ مَن قال: إنَّ المُدَلِّسَ إذا ثَبَتَ تَدْلِيسُهُ في حديثٍ رُدَّ حديثُهُ الذي ثَبَتَ فيهِ تَدْلِيسُهُ وإلا قُبِلَتْ عَنْعَنَتُهُ، وهذا ذَكَرَهُ ابنُ القَطَّانِ.
ومِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ هذا الموضوعَ شَائِكٌ أَنَّ الأمامَ أَحْمَدَ سَأَلَهُ أبو دَاوُدَ: المُدَلِّسُ إذا لمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا، وأَخْبَرَنَا هلْ هو حُجَّةٌ؟
فقال: لا أَدْرِي، وهذا يُشِيرُ إلى دِقَّةِ هذا الأمرِ، ويُضَافُ إلى ذلكَ تَصَرُّفُ أصحابِ الصحيحِ ولاَ سِيَّمَا البخاريُّ ومسلمٌ، فإنَّ الأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ على أنَّهُم قد أَخْرَجُوا من أحاديثِ المُدَلِّسينَ ما لمْ يُوجَدْ لهم فيه تصريحٌ بالتحديثِ، وزَادَ الأمرَ خطورةً تَصَرُّفُ كَثِيرٍ من الباحثينَ المتأخرينَ، إذا اسْتَقَرَّ عندَهُم أَنَّ مَن رُمِيَ بالتدليسِ لا يُقْبَلُ حديثُهُ إلا إذا صَرَّحَ بالتحديثِ، وطَرَدُوا ذلكَ في أحاديثَ في البخاريِّ ومسلمٍ فَصِرْنَا نَرَى تَعْلِيلَهَا بالتدليسِ وإنْ لمْ تُعَلَّ مِن قِبَلِ الأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ.
والضوابطُ التي ذَكَرْتُهَا آنِفًا إِنَّمَا هي على سبيلِ الإجمالِ، وتحتاجُ إلى مزيدٍ من التحريرِ والدِّقَّةِ والضبطِ والتقييدِ، ونظرًا لكثرةِ الكلامِ في التدليسِ فيَحْتَاجُ إلى بَحْثٍ مُوَسَّعٍ يُقَارَنُ فيهِ بينَ أقوالِ الأَئِمَّةِ، فإنَّ الناظِرَ في تصرفاتِ الأَئِمَّةِ وأقوالِهِم معَ قرائنَ أُخْرَى لنْ يُعْدَمَ رأْيًا وَسَطًا تَدْعَمُهُ الحُجَّةُ مُسْتَخْلِصًا من اختلافاتِهِم وآرائِهِم التي أَشَرْتُ إليهَا).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: (تعريفُ التَّدْلِيسِ:
(3) هوَ أنْ يَرْوِيَ الراوي عنْ شيخِهِ الذي سَمِعَ منهُ ما لم يَسْمَعْ منهُ بصِيغةٍ تَحْتَمِلُ السَّمَاعَ وعَدَمَهُ، كعَنْ وقالَ، ونحْوِها.
واشتقاقُهُ: مِن الدَّلَسِ،وهوَ اختلاطُ الظلامِ بالنُّورِ،أوْ مِنْ إخفاءِ عَيْبِ الْمَبِيعِ؛ لاشتراكِهما في الْخَفَاءِ. (4) 2- الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ: كثيرٌ مِن العُلماءِ لم يُفَرِّقْ بينَ التدليسِ، والمُرْسَلِ الْخَفِيِّ، وبعضُ العُلماءِ الْمُحَقِّقِينَ كالخطيبِ البَغداديِّ، ومَنْ جاءَ بعدَهُ كالحافظِ ابنِ حَجَرٍ، فقالُوا: هُناكَ فَرْقٌ بينَ الْمُدَلَّسِ والْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ. تعريفُ الْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ: أنْ يَرْوِيَ الراوي عَمَّنْ عاصَرَهُ ولم يَسْمَعْ منهُ، ما لم يَسْمَعْ منهُ بصِيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ وعَدَمَهُ. ولا يَطَّلِعُ على هذهِ العِلَّةِ إلاَّ العُلماءُ الْمُدَقِّقُونَ حينَما يُحَقِّقُونَ في أَمْرِ هذا الرجُلِ هلْ سَمِعَ مِنْ هذا الشيخِ أوْ لم يَسْمَعْ منهُ؟ فهُنا سُمِّيَ السَّقْطُ خَفِيًّا، والمُدَلَّسُ أكثرُ صُعوبةً في الاطِّلاعِ عليهِ؛ لأنَّهُ تَحَقَّقَ مِنْ أنَّ هذا الشيخَ شَيْخُهُ. مَسألةٌ: إذا عاصَرَ الشيخَ، ولكنَّ هذهِ الْمُعَاصَرَةَ لا تُؤَهِّلُهُ للسَّمَاعِ، كأنْ يكونَ عاشَ خَمْسَ أوْ سَبْعَ سَنَوَاتٍ مِنْ حياةِ ذلكَ الشيخِ، فهلْ تَقولُ عنْ هذا الْحَدِيثِ: إنَّهُ مرْسَلٌ إرسالاً خَفِيًّا أوْ مُنْقَطِعاً؟ العُلماءُ يُعَبِّرُونَ عنْ هذا النوعِ بالإرسالِ، فمَثَلاً:عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ، فلوْ رُجِعَ إلى تَرجمتِهِ فإنَّهُم يَقولونَ: رِوايتُهُ عنْ أَبِيهِ مُرْسَلاً؛ لأنَّهُ أَدْرَكَ أَبَاهُ - وهوَ صَغيرٌ في السِّنِّ - فلم يَسْمَعْ منهُ، وبعضُهم قالَ: سَمِعَ منهُ أحاديثَ قَليلةً. والعُلماءُ اسْتَعْلَمُوا في روايَةِ عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ في روايتِهِ عنْ أبيهِ؛ فقالُوا: رِوايتُهُ عنْ أبيهِ مُرْسَلاً (ويَقْصِدُونَ بذلكَ الانقطاعَ؛ لأنَّهُ لم يَسمعْ مِنْ أبيهِ هذا الْحَدِيثَ). قولُهُ في الشرْحِ: (ويَدُلُّ على أنَّ اعتبارَ اللُّقِيِّ في التدليسِ دونَ الْمُعَاصَرَةِ وحدَها لا بُدَّ منهُ: إطباقُ أهْلِ العلْمِ بالْحَدِيثِ على أنَّ رِوايَةَ الْمُخَضْرَمِينَ كأبي عُثمانَ النَّهْدِيِّ، وقيسِ بنِ أبي حازِمٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ قَبيلِ الإرسالِ، لا مِنْ قَبيلِ التدليسِ). ولوْ كانَ مُجَرَّدُ المعاصَرَةِ يُكْتَفَى بهِ في التدليسِ، لكانَ هؤلاءِ مُدَلِّسِينَ؛ لأنَّهُم عاصَرُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قَطْعاً، ولكنْ لم يُعْرَفْ هلْ لاقَوْهُ أمْ لا؟ فأَبُو عُثمانَ النَّهْدِيُّ، وقَيْسُ بنُ أبي حازِمٍ،كَانَا في وَقْتِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، لكنَّهُما لم يَلْقَيَاهُ. فالحافِظُ ابنُ حَجَرٍ مِمَّنْ يَنْتَصِرُ للرأيِ القائلِ في التفريقِ بينَ الْمُدَلَّسِ، والْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ؛ لأنَّ هناكَ مِن العُلماءِ مَنْ لم يُفَرِّقْ بينَهما، فلم يَرَ هناكَ شيئاً اسْمُهُ الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ، بلْ جَعَلَ الْمُرْسَلَ الْخَفِيَّ داخلاً في تَعريفِ التدليسِ. فالحافِظُ يقولُ:بينَهما فَرْقٌ: - المُدَلَّسُ: لا بُدَّ أنْ يُتَحَقَّقَ فيهِ أنَّ ذلكَ التلميذَ سَمِعَ مِنْ ذلكَ الشيخِ. - وأمَّا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ: فإذا تَحَقَّقْنَا أنَّ التلميذَ عاصَرَ الشيخَ لكنَّهُ لم يَلْقَهُ. فأُتِيَ بمثالٍ، وهوَ أنَّ رِوايَةَ الْمُخَضْرَمِينَ - وهمْ قدْ عَاصَرُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ ولم يَلْقَوْهُ - أنَّهُ لم يَعُدَّهَا أحَدٌ مِن العُلماءِ مِنْ أنواعِ التدليسِ. وهذا الْمِثالُ عليهِ فيهِ مُلاحَظَةٌ؛ وهوَ: أنَّ هذا السَّقْطَ الذي بينَ هذَيْنِ التابِعِيَّيْنِ الْمُخَضْرَمَيْنِ وبينَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ يكونُ سَقْطاً جَلِيًّا. فقولُهُ: (ولكنْ....) ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّهُ عُرِفَ وتُحُقِّقَ مِنْ أنَّهُما لم يَرَيَا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، ولِذَا ما عُدَّا في الصحابةِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: عبد العزيز السعيد (مفرغ)
القارئ: ( (والثاني: المدلس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي، كـ (عن وقال)، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق من حدث عنه).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (النوع الثاني: من أنواع السقط هو السقط الخفي والانقطاع الخفي، وهذا قسمان: - المدلَّس. - والمرْسَل الخفي.
هذان النوعان فرق بينهما
ابن حجر تفريقاً دقيقاً، وإن كان في كلامه نظرٌ عند كثيرٍ من العلماء، ولكنه هو فرق تفريقاً دقيقاً:
الحديث المدلَّس يقولون:(هو رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه).
فهذا فيه إثبات لجملة السماع، يعني: يكون الراوي قد سمع من فلان أدركه ولقيه وسمع منه، ثم يأتي فيروي حديثاً لم يسمعه منه بصيغةٍ لا تدل على السماع، ولا على الانقطاع، بل بصيغةٍ موهمةٍ، مثل: (قال، وعن).
عندنا:
محمد بن إسحاق صاحب (السيرة)، هذا قال العلماء: مدلس، إذا روى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري حديثاً بلفظ (عن)، سمع منه، لكن أحياناً تكون هناك أحاديث فاتت محمد بن إسحاق، لم يسمعها من سعيد مباشرة، وإنما سمعها من سعيدٍ بواسطةٍ، فيأتي ويحذف الواسطة ولا يقول: حدثنا فلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، ولكن يقول: عن سعيد. ما يقول: حدثنا، ولا سمعت، ولا يأتي بشيءٍ يدل على السماع، ولكن لا يأتي أيضاً بشيء يدل على الانقطاع؛ ولا يقول مثلاً: ذكر عنه، أو روي عنه، أو حدثت عنه، ولكن يأتي بلفظة تحتمل السماع، وتحتمل عدم السماع.
مثلاً: يقول: عن سعيد، أو: قال سعيد، أو: ذكر سعيد، هنا السامع يظن أنه مما سمعه من سعيد؛ لأنه معروف بالرواية عن سعيد، لكن هذا الحديث بخصوصه ما سمعه من سعيد، فيقال حينئذٍ: هذه رواية المدلس.
يقولون: مثل ابن عيينة كما روى عنه علي بن خشرم - قال مرة: عن الزهري، فقالوا له: أسمعته من الزهري؟
قال: لا، ولا ممن سمعه من الزهري؛ حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
سفيان بن عيينة، ومعمر كلاهما يروي عن الزهري، وعبد الرزاق الصنعاني في طبقة تلاميذ ابن عيينة، فهو سمع هذا الحديث عن شيخه الزهري، هو مشهور بالرواية عن الزهري، بل بعض العلماء يقول: هو من أثبت الناس في الزهري؛ ما أخطأ إلا في عشرين حديثاً عن الزهري.
فهذا ابن عيينة، دلس بعض الأحاديث عن الزهري.
هذا هو المدلس، وهذا يسمى تدليس الإسناد.
- فيه نوع آخر يسمى تدليس التسوية؛ لأنه يتعلق بالسقط الخفي في الإسناد؛ لأن التدليس أنواع، المتعلق بالسقط في الإسناد.
- تدليس الإسناد.
وتدليس التسوية:
(أن يسقط راوياً بين راويين، سمع أحدهما من الآخر)، هذا يتبين بالمثال:
عندنا بقية بن الوليد، مشهورٌ بهذا النوع من التدليس، روى حديثاً عن أبي وهب الأسدي، وهو عبيد الله بن عمر الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عبيد الله بن عمر هذا يروي عن نافع ثقة، بقية بن الوليد، يقول العلماء: سوى هذا الإسناد، أو جوده، بمعنى: أنه ذكر أجود من في الإسناد، (بقية) هنا قال: حدثنا أبو وهب الأسدي، ما كذب؛ حدثه فعلاً عن نافع، عن ابن عمر، هنا بقية ابن الوليد ما أسقط شيخه، ولكن أسقط الشيخ الذي بين أبي وهب، وبين نافع، هذا الساقط هو إسحاق بن أبي فروة، وهو متروك، أسقط هذا الراوي.
لما أسقطه سوى الإسناد، فالمطلع على الإسناد يعتقد أنه صحيح؛ لأن أبا وهب، يروي عن نافع، لكن هذا الحديث ما رواه عن نافع، بينه وبين نافع واسطة، وقال فيه: عن، ما قال: حدثنا، أو سمعت، لو قال بقية: عن أبي وهب أنه قال حدثنا نافع.. حدثنا أو سمعت، لكان كذاباً، ولكنه أسقط هذا الراوي بينهما، فالمطلع على هذا الإسناد يظنه صحيحاً؛ لأن أبا وهب ليس بمدلس، وقد أمن تدليس (بقية) مع شيخه؛ لأنه قال: حدثنا أبو وهب، و(بقية) ثقةٌ، إذا صرح بالتحديث وحدث عن أهل الشام.
هذا هو الذي يسمى تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس بعض العلماء يشترط أن يسقط ضعيفاً بين ثقتين، لكن المؤلف في كتبه أطلق، بل قال: يصلح أن يكون الساقط ثقة، أو ضعيفاً؛ إذاً: هذا النوع من أنواع التدليس يعتبر من السقط الخفي في الإسناد، ليس من السقط الظاهر).
القارئ: ( (والثاني: المدلس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي، كـ (عن) ).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: ( (ويرد بصيغة تحتمل اللقي)
يعني: المدلَّس؛ لأنه لو قال: حدثنا، أو سمعت، أو جاء بصيغةٍ تدل على هذا، يتحول من كونه مدلساً إلى كونه كذاباً).
القارئ: ( (كـ (عن وقال) وكذا المرسل الخفي من معاصرٍ لم يلق من حدث عنه).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (هذا النوع، وهو المرسل الخفي: أن يروي عن معاصرٍ لم يسمع منه.
عندنا الإرسال الظاهر كما تقدم: إذا روى عن من لم يدركه، هذا يسمى إرسالا ظاهراً، ولهذا قال المؤلف: (ومن ثم احتيج إلى التاريخ) يعني: لمعرفة وفيات الرواة ومواليدهم؛ لأنها تكشف عن ذلك.
المرسل الخفي:(هو رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه).
عندنا: الحسن البصري، - رضي الله عنه- عاصر أبا هريرة؛ لأنه انتقل من المدينة وله إحدى وعشرون سنة إلى البصرة؛ فأدرك أبا هريرة في المدينة وعاصره، لكنه لم يسمع منه، فإذا كان معاصراً للراوي وما ثبت أنه سمع منه أبداً، فكل رواية يرويها ويقول فيها: (عن) أو (قال)، يقال: هذا من المرسل الخفي؛ لأن مثل هذه اللفظة عنه تحتمل السماع، وعدم السماع.
وهذا النوع خفي؛ لأنه لا يدرك مباشرةً، بل لا بد أن يكون الإنسان على علم بعدم سماع هذا من هذا؛ لأن ألفاظ التحديث لا ترد بذاتها مباشرةً، وإنما ترد لأمورٍ كثيرةٍ، أو تقبل لأمور، ومن ذلك: (عن وقال)، إذا قال: راو (عن) أو (قال)، لا نستطيع أن نرد حديثه، ولا أن نقبله إلا بقيود.
كل حالة لها وضعها الخاص؛ فهنا إذا قال الحسن: عن أبي هريرة:
- يحتمل أن هذا تدليس يعني يكون الحسن قد سمع منه، ثم روى عنه أشياء ما سمعها.
- ويحتمل أن يكون ليس بتدليس.
- ويحتمل أن يكون إرسالاً خفياً، هذه الاحتمالات، إذاً صار الإرسال الخفي مخالفاً للإرسال الظاهر، بحيث إن الإرسال الظاهر.. يدرك مباشرة، أما الإرسال الخفي فلا يدرك في أول الأمر، بل لا بد.. نحتاج أن نعرف هل للحسن البصري سماع عن أبي هريرة أو لا؟ وهذه لا تدرك مباشرةً.
المعاصرة حصلت بينهما، لكن السماع ما ثبت فهذا يسمى إرسالاً خفياً؛ لأنه يخفى عند كثير من أهل العلم هذا يسمى تدليساً؛ لأن التدليس أصله من الدلس، هو اختلاط الظلمة بالنور، اختلط.
السماع بعدم السماع؛ فصار عندنا الإرسال الخفي في مرتبةٍ بين التدليس والإرسال الظاهر، إن ثبت السماع في الجملة وقال: عن، في حديث لم يسمع، وصار بينه وبين ما سمع منه واسطة، هذا يسمى تدليساً، وإن ثبت أنه لم يسمع منه، أو لم يدركه، تحول إلى الانقطاع الظاهر.
لكن إذا عاصره ولم يُنْفَ سماعه منه، يعني ما قالوا: ثبت أنه لم يسمع، فهنا يأتي الإرسال الخفي؛ لكن لو جزمنا وصار عندنا دليل أنه ما سمع قال: لم أسمع شيئاً من فلان، انتهى وصفه بالإرسال الخفي، وتحول إلى كونه إرسالاً ظاهراً.
هذا الإرسال الخفي:
يمثلون له برواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أبو عبيدة هذا ابن لعبد الله بن مسعود، عاصر أباه ولقيه، ولكنه ما سمع منه شيئاً، فمثل هذا قال العلماء: يسمى مرسلاً خفياً؛ لأنه موهمٌ، لأن لغير العالم بأنه لم يسمع من أبيه إذا رأى (عن) هذه احتملت عنده أنه سمع أو لم يسمع).
العناصر
النوع الثاني: المدلَّس
أهمية معرفة (المدلَّس)
أقسام التدليس:
القسم الأول: تدليس الإسناد
القسم الثاني: تدليس الشيوخ
القسم الثالث: تدليس التسوية
تدليس التسوية
مثال تدليس التسوية
حكم رواية من يدلس تدليس التسوية
مبحث التدليس يحتاج إلى بحث موسع ليخرج الباحث بقول وسط فيه
حكم الحديث المدلّس
اشتراط اللقاء في التدليس
الخلاف في اشتراط تصريح المدلس بالسماع
طرق معرفة عدم الملاقاة بين الرواة
تنبيه: رواية المحدث عن شيخه بواسطة لا تقتضي مطلقاً عدم سماعه إياه من شيخه
رواية الراوي عن شيخه حديثاً بواسطة قرينة توحي بأنه لم يسمعه منه مباشرة
العمل عند اختلاف الأئمة في سماع الراوي من شيخه
رواية الراوي عن شيوخه أحاديث لم يسمعها منهم هو التدليس المراد عند الأئمة
ذكر بعض من اشتهر بالتدليس
مسائل مهمة:
حكم من كان تدليسه قليلاً
حكم تدليس الحفاظ
طرق الحكم على تدليس الحفاظ بالانقطاع
إذا حكم الأئمة على حديث ولم يلتفتوا إلى علة التدليس فلا ينبغي الالتفات إليها
إذا صحح الأئمة حديثاً ولم يعله أحد بالتدليس فلا ينبغي مخالفتهم، لا سيما ما كان في الصحيحين
الأسئلة
س1: ما الفرق بين التدليس والإرسال الخفي؟
س2: اذكر أنواع التدليس.
س3: اذكر أسباب التدليس.
س4: اذكر أهم المؤلفات في التدليس.
س5: ما حكم الحديث المدلس؟
س6: ما الحكم إذا صحح الأئمة حديثاً ولم يلتفتوا إلى علة التدليس؟
شرح نخبة الفكر للشيخ عبد الكريم الخضير (مفرغ)
قال الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "والثاني -وهو السقط الخفي- المدلس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي كـ(عن) وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق"، السقط الظاهر أنواعه أربعة: التعليق والإرسال والانقطاع والإعضال، هذه الأربعة مجتمعة تشكل السقط الظاهر، السقط الخفي نوعان: التدليس والإرسال الخفي، ولذا قال: "والثاني -وهو السقط الخفي- المدلس ويرد بصيغة تحتمل اللقي كـ(عن)، وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق"، يعني -رحمه الله تعالى- أن القسم الثاني وهو ما كان السقط فيه خفياً بحيث يخفى على كثير ممن يشتغل بهذا العلم، بل لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الحديث وعلى الأسانيد لخفائه وغموضه نوعان، هما: المدلس والمرسل الخفي.
المدلس:
فالمدلس لغة: اسم مفعول مشتق من الدلس بفتحتين وهو الظلمة كالدلسة، ومنه قولهم: أتانا دلس الظلام، وخرج في الدلس والغلس، والتدليس: كتمان عيب السلعة على المشتري.
والتدليس في الاصطلاح: ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه، يعني هل التدليس بالنسبة للسيارات يمكن أن يحصل في ظاهر السيارة؟ في جرمها البادي للعيان؟ يعني لو صدمت السيارة وصلحت يمكن يدلس على المشتري فيها؟ نعم، ما يمكن، ما يمكن يدلس؛ لأنه ظاهر ما يخفى على أحد، لكن لو أقبلت السيارة على ما يسمونه التخبيط ثم وضع فيها شيء من الزيت الثقيل أو شبهه، تعبر يعني كم يوم حتى تمشي على المشتري الذي لا يفهم، هذا خفي، هذا تدليس.
عند الفقهاء من التدليس تسويد شعر الجارية، الجارية الشمطاء الكبيرة السن،.... تسويد شعرها تدليس، ويمثلون أيضاً بجمع ماء الرحى وإرساله، تصرية الإبل كل هذا تدليس على المشتري، لكن العرج في الدابة هذا تدليس؟ لا، ليس بتدليس؛ لأنه يرى، والله المتسعان.
المقصود أن المدلس في الاصطلاح: ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه، لكن الظاهر لا يمكن إخفاؤه، سمي بهذا الاسم لأن الراوي لما أخفى وجه الصواب على الواقف على الحديث كأنه أظلم أمره وغطاه.
أقسام التدليس:
وقسم التدليس إلى خمسة أقسام: تدليس الإسناد، تدليس التسوية، تدليس القطع، تدليس العطف، تدليس الشيوخ، وتدليس الإسناد: هو أن يروي المحدث عن من لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، للتفريق بين التدليس والإرسال الخفي لا بد أن نعرف حال الراوي عن من روى عنه، لا بد أن نعرف حال الراوي مع من روى عنه، فإن ثبت أنه سمع منه إن ثبت أنه سمع منه أحاديث ثم روى عنه حديثاً لم يسمعه بصيغة موهمة فهذا تدلس اتفاقاً، إذا ثبت أن الراوي لقي من روى عنه ثم روى عنه ما لم يسمعه منه، ثبت اللقاء في الأولى ثبت السماع، الثانية ثبت اللقاء بمن روى عنه، ثم روى عنه بصيغة موهمة ما لم يروه عنه فهذا أيضاً تدليس.
الصورة الثالثة: إذا روى الراوي عن من عاصره ممن لم يثبت لقاؤه له عن من عاصره بصيغة موهمة فإن هذا من الإرسال الخفي وليس من التدليس، إذا روى الراوي عن من لم يعاصره هذا الانقطاع الظاهر، فهي أربع صور:
تدليس الإسناد: أن يروي المحدث عن من لقيه ومن باب أولى إذا روى عن من سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، فيكون ذلك بلفظ محتمل للسماع وغيره كقال أو عن، ليوهم غيره أنه سمعه منه، ولا يصرح بأنه سمع منه هذا الحديث بعينه فلا يقول: سمعت أو حثني أو أخبرني ممن لم يسمع منه حتى لا يصير كذاباً بذلك؛ لأنه لو قال: سمعت أو حدثني أو أخبرني وهو في الحقيقة لم يسمعه ولم يحدثه ولم يخبره، صار الأمر أعظم من مسألة التدليس صارت كذب، ويجرح الراوي بذلك جرحاً شديداً، وقولنا: عن من لقيه شاملاً لمن سمع منه غير الحديث المراد أو لم يسمع منه شيئاً.
وأدخل ابن الصلاح في هذا القسم: رواية الراوي عن من عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه، وتبعه على ذلك الحافظ ابن كثير في اختصاره، وذهب الإمام الشافعي والبزار والخطيب والحافظ ابن حجر وغيرهم إلى أن هذه الصورة ليست من التدليس؛ لأن مجرد ثبوت المعاصرة لا يكفي في تحقيق التدليس، بل لا بد من ثبوت اللقاء بينهما، وأيدوا ما ذهبوا إليه بأن أهل العلم أجمعوا على أن المخضرمين الذين عاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم وغيرهما إذا روى أحدهم حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان روايته من قبيل الإرسال وليست من قبيل التدليس، ظاهر وإلا مو بظاهر؟ يعني فرق بين أن يكون الراوي سمع من روى عنه، لقي من روى عنه، احتمال السماع أقوى من مجرد المعاصرة، احتمال السماع منه أقوى من مجرد المعاصرة، وروايته عنه بصيغة موهمة وقد سمع منه أحاديث أو لقيه روايته عنه بصيغة موهمة ما لم يسمعه منه أخفى من معاصر لم يثبت لقاؤه له، فهذا يسمى تدليس وذاك إرسال خفي.
الخلاصة: أن للراوي مع من يروي عنه أربع حالات: الأولى: أن يثبت سماعه منه، الثانية: أن يثبت لقاؤه له دون السماع، الثالثة: أن تثبت المعاصرة له دون اللقاء، الرابعة: ألا تثبت المعاصرة، ومن باب أولى اللقاء والسماع، ويروي عنه بصيغة موهمة للسماع كـ(عن) و(أن)، فالأولى: إذا روى عنه ما لم يسمعه منه فتدليس اتفاقاً، والثانية: إذا روى عنه بصيغة موهمة -يعني وهو من ثبت لقائه له- شملها مسمى التدليس عند الجمهور خلافاً لأبي بكر البزار وأبي الحسن بن القطان حيث جعلها من الإرسال الخفي، والثالثة: إذا روى عن المعاصر ممن لم يلقه فالجمهور على أنه ليس من التدليس كما تقدم قريباً خلافاً لابن الصلاح حيث جعلها من التدليس، والرابعة: ليس من التدليس عند جماهير المحدثين خلافاً لجماعة من أهل الحديث فيما نقله عنهم ابن عبد البر في التمهيد لمجرد احتمال الصيغة، لمجرد احتمال الصيغة، تدليس الإسناد يسميه بعضهم تدليس الإسقاط، تدليس الإسقاط، لكن تسميته بتدليس الإسناد والتدليس كله في الإسناد، لكنهم تتابعوا على تسميته بتدليس الإسناد للتفريق بينه وبين أنواع التدليس الأخرى.
تدليس الإسقاط:
تدليس الإسقاط: التدليس جله فيه إسقاط، التدليس جله فيه إسقاط، مثال تدليس الإسناد: ما رواه أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان)) قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه، هنا الأعمش دلس الحديث، الأعمش سليمان بن مهران دلس الحديث فقال: "روى أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم" الآن الأعمش لقي إبراهيم وإلا ما لقيه؟ لقيه، وروى عنه بصيغة موهمة وهي العنعنة، روى عنه ما لم يروه عنه إلا بواسطة، ما رواه عنه مباشرة بل رواه بواسطة حكيم بن جبير، فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه، والأعمش معروف بالتدليس مع أنه ثقة، سليمان بن مهران ثقة لكنه مدلس، في رواة الصحيحين من المدلسين أمثلة منها: الأعمش، وهشيم، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
وفي الصحيح عدة كالأعمشِ
وكهشيم بعده وفتشِ
الأعمش لما استفسر قيل له: هل سمعت الحديث من إبراهيم؟ قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه، لكن لو قال: سمعته من إبراهيم؟ يقبل لأنه ثقة، لأنه ثقة يقبل قوله بأنه سمعه من إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه.
حكم تدليس الإسناد:
حكم تدليس الإسناد: مكروه جداً، ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة بن الحجاج من أشد العلماء ذماً له، فقد قال فيه أقوال شديدة منها: "التدليس أخو الكذب"، وقال: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس" ولا شك أن هذا من شعبة مبالغة وإفراط، مبالغة في الزجر، مبالغة في الزجر عن هذا النوع من التدليس، قال النووي: "وظاهر كلام شعبة أنه حرام وتحريمه ظاهر فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به، ويتسبب أيضاً إلى إسقاط العمل بروايات نفسه مع ما فيه من الغرر".
تدليس التسوية:
الثاني: تدليس التسوية: تدليس التسوية: وهو شر أنواع التدليس، تدليس التسوية: أن يروي المدلس حديثاً عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف الذي في السند ويجعل السند عن شيخه الثقة، عن الثاني الثقة، بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات بحسب الظاهر لمن لم يخبر هذا الشأن، شخص مدلس تدليس تسوية يروي الحديث عن زيد وزيد هذا ثقة، زيد يروي الحديث عن عمرو وعمرو ضعيف، عمرو يروي الحديث عن بكر وهو ثقة، وزيد لقي بكراً ثبت لقاء زيد لبكر، فإذا حذف عمرو الضعيف لا يحس بأن في الإسناد سقط؛ لأن زيد لقي بكر، فيكون الإسناد زيد عن بكر وأسقط الضعيف بين هذين الثقتين اللذين لقيا أحدهما الآخر هذا يسمى تدليس تسوية، سوى الإسناد فجعله كلهم ثقات، سماه بعض القدماء تجويد، فقالوا: جوده فلان، يريدون أنه ذكر من فيه من الأجواد وحذف الأدنياء، ومثاله: ما روى ابن أبي حاتم في العلل عن بقية بن الوليد قال: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر قال: "لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه"، قال أبو حاتم: "هذا الحديث له علة قل من يفهمها"، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي فكأن بقية بن الوليد كنى عبيد الله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن به حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى إليه، وكان بقية من أفعل الناس لهذا النوع من التدليس الذي هو شر أنواع التدليس، يعني من السهل أن لو سمى عبيد الله بن عمرو ليبحث في ترجمته وينظر لكنه كناه فقال: عن أبي وهب الأسدي كي لا يفطن به، لكي يظن أنه غيره، فلا يهتدى إلى المطلوب، وبقية ابن الوليد من أفعل الناس لهذا النوع من التدليس، وهذا التدليس كما قلنا: شر أقسام التدليس؛ لأن الثقة الأول ربما لا يكون معروفاً بالتدليس، ويجده الواقف على سند بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة، وفي هذا غرر شديد.
قد يقول قائل: كيف نعرف هذا النوع من التدليس؟ هناك شخص مدلس تدليس تسوية يروي عن شيخ بصيغة التحديث قال: حدثني فلان ثم يسقط شيخ هذا الثقة ويذكر شيخ شيخه الثقة، الذي بينهما ضعيف يسقطه، ويكون الشيخ قد لقي شيخه الذي نسب إليه ويسقط الضعيف، وأنت تبحث في الإسناد تجده كلهم ثقات لقي بعضهم بعضاً، والمدلس بقية بن الوليد صرح بالتحديث ممن فوقه، والتسوية في طبقة فوق طبقة شيخ المدلس، فعلى هذا في مثل هذا النوع يشترط أن يصرح بالتحديث في كل الطبقات، ما يكفي أن يصرح المدلس نفسه؛ لأنه ما من ثقتين إلا ويحتمل أن يكون هذا المدلس -تدليس تسوية- أسقط بينهما ضعيفاً، فإذا صرح بالتحديث في الإسناد كله أمنا من هذا التدليس.
ليس من هذا النوع إذا روى الثقة عن اثنين أحدهما ضعيف والآخر ثقة فيحذف الضعيف ويبقى الثقة، ليس من هذا النوع أن يروي الثقة عن اثنين: ثقة وضعيف، يقتصر على الثقة ويحذف الضعيف، نفترض في مثالنا الأول: زيد عن عمرو زيد ثقة عن عمرو وهو ضعيف وخالد وهو ثقة عن بكر وهو ثقة، يأتي فيحذف عمرو هل نحن بحاجة إلى عمرو؟ سند متصل بدونه، يقتصر على خالد لكونه ثقة، يعني إذا روى عن اثنين واحد ضعيف واحد ثقة، حذف الضعيف في إشكال؟ يعني أنت إذا جاءك من يقول: قدم زيد، واحد من أوثق الناس عندك، ثم جاءك شخص آخر جربت عليه كذب فقال: قدم زيد، هل يلزم أن تقول: قدم زيد أخبرني بذلك فلان وفلان، أو تقتصر على الثقة دون الضعيف؟ تقتصر على الثقة دون الضعيف.
مثال ذلك: ما رواه الإمام البخاري حيث حذف عبد الله بن عمر العمري واقتصر على الإمام مالك، الحديث جاء من طريقين من طريق عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف، وجاء من طريق مالك حذف العمري واقتصر على مالك، مثل مثالنا الذي ذكرناه، في حديث: ((إذا جاء أحدكم إلى فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات))..الحديث، هذا مخرج في الصحيح في البخاري، وكون البخاري حذف العمري ما هو بحاجة إليه، ليس بحاجة إليه، اقتصر على مالك ومالك فيه الكفاية.
تدليس القطع:
الثالث: تدليس القطع وهو أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع منه الحديث مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية، فيقول: حدثنا أو سمعت ثم يسكت، حدثنا ويسكت، ثم يقول: فلان وفلان، يوهم أنه سمع منهما ذلك الحديث وليس كذلك، هذا المدلس الذي يدلس هذا النوع من التدليس تدليس القطع يقول: حدثني ويسكت، ثم يقول: فلان وفلان، ويذكر بقية الإسناد، يقطع الكلام بين الصيغة -صيغة الأداء- وبين الراوي.
ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن علي المقدمي أنه كان يقول: سمعت وحدثنا، ثم يقول: هشام بن عروة والأعمش، عمر بن علي المقدمي يفعل تدليس القطع، وهو لم يسمعه ولم يحدثه به هشام بن عروة ولا الأعمش، وجعل بعضهم من هذا النوع إسقاط أداة الرواية والاقتصار على اسم الشيخ الذي لم يسمع منه الحديث مباشرة، ومثل له بما قاله علي بن خشرم قال: كنا عند ابن عيينة فقال -ابن عيينة قال-: الزهري، فقيل له: حدثك؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمعته منه؟ قال: لم أسمعه منه ولا ممن سمعه منه، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري كذا في علوم الحديث، يعني إذا قال: الزهري وحذف صيغة الأداء ما فيها لا تحديث ولا..، هناك في صيغة تحديث لكن في سكوت بين صيغة التحديث واسم الراوي، حدثني ويسكت، هشام بن عروة والأعمش، وما سمعه لا من هشام ولا من الأعمش، فإذا سكت ظُن أن فاعل التحديث من ذكر بعد السكوت، وفي الحقيقة ليس كذلك، ما ألحق بهذا النوع تحذف الصيغة أصلاً، كقول ابن عيينة: "الزهري" قيل له: "حدثك الزهري؟" قال: "الزهري" طيب صرح بالصيغة، سمعته من الزهري؟ قال: لا ما سمعته من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، يعني حذف اثنين، كذا في علوم الحديث لابن الصلاح.
الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- وهو معروف بشدة التحري والاحتياط، وهو من أبعد الناس عن التدليس، أحياناً يحذف الصيغة ويقتصر على اسم الشيخ، فيقول: "الحارث ابن مسكين" من دون ما يقول: أخبرنا ولا حدثنا، يقول: "الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع"، ليس من هذا النوع أبداً، لماذا لم يذكر الإمام النسائي الصيغة فيقول: أخبرنا؟ بالمناسبة سنن النسائي المطبوع كلها فيها: "أخبرنا الحارث بن مسكين" وهذا خطأ، النسائي يروي عن الحارث بن مسكين بدون صيغة، والسبب في ذلك أن الحارث ابن مسكين كان ممن يأخذ أجرة على التحديث، والنسائي -رحمه الله تعالى- كان ممن يعتني بمظهره، فلما دخل النسائي على الحارث طلب منه أجره، وكأنه رفع عليه الأجرة ظناً منه أنه غني، فرفض النسائي -رحمه الله تعالى- رفض يعطيه الأجرة فطرده الحارث بن مسكين من حلقة الدرس، فصار خلف سارية يسمع والحارث بن مسكين ثقة لكنه بشر، هو ثقة والإمام النسائي -رحمة الله عليه- شديد الورع والتحري، فلكون الحارث بن مسكين ثقة روى عنه النسائي، ولكون الحارث بن مسكين لم يقصد النسائي بالتحديث، ما قال: حدثني ولا أخبرني، ما قصده بالتحديث، بل العكس طرده من الدرس، وهذا من تمام ورع النسائي، فتجده يقول: "الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع" وهذا ليس من هذا النوع، ليس من تدليس القطع.
تدليس العطف:
رابعاً: تدليس العطف، تدليس العطف: هو أن يروي المحدث عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه ويكون قد سمع من أحدهما دون الأخر فيصرح عن الأول ويعطف الثاني عليه، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً وإنما حدث بالسماع عن الأول ونوى القطع، فقال: وفلان، أي وحدث فلان.
الواحد يعرف أن زيد وعمرو قد سمعا خبراً من بكر، زيد وعمرو مجتمعا -أو مجتمعين حال كونهما مجتمعين- يرويان عن بكر فيأتي خالد فيسمع من زيد ولا يسمع من عمرو، وهو يعرف أن عمرو سمع الخبر لكنه لا يرويه عنه، فيقول: حدثني زيد وعمرو أنهما سمعا بكراً، هو بالفعل سمع من زيد لكنه لم يسمع من عمرو، فيعطف عمرو وهو غير مسموع له على زيد، نعم هما سمعا الخبر من بكر، لكن عمراً لم يحدث خالداً، فيقول: حدثني زيد وعمرو يعطفه على زيد، فالسامع يظن أنه محدث له؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، كأنه قال: حدثني زيد وحدثني عمرو، لكنه لا يقصد ذلك، فيضمر في نفسه فيقول: حدثني زيد وعمرو غير مسموع لي مثلاً، هذا تدليس العطف، ومثلوا له بما ذكره الحاكم في المعرفة أن جماعة من أصحاب هشيم وهو معروف بالتدليس وهو من رجال الصحيح اجتمعوا يوماً على ألا يأخذوا منه تدليس، قالوا: نبي ننتبه، ترى التدليس خفي، يمكن يمشي علينا أشياء، لكن لا بد أن ننتبه، انتبهوا، أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوماً على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره: "حدثني حصين ومغيرة، حدثني حصين ومغيرة عن إبراهيم" ذكر أحاديث بهذه الصيغة، فلما فرغ قال لهم: هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا: لا، خلاص هو صرح بالسماع ما في إشكال، صرح بالتحديث، إذا صرح المدلس بالتحديث أمنا التدليس، فقالوا: لا، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفاً واحداًً، ما سمعت ولا حديث من الذي ذكرت لكم، لما كان يقول: حدثني حصين ومغيرة، نعم هو سمع من حصين لكنه لم يسمع من مغيرة، "وإنما قلت: حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي"، فأضمر في الكلام محذوفاً فسره بما ذكر.
تدليس الشيوخ:
الخامس: تدليس الشيوخ، تدليس الشيوخ: وهو أن يروي المحدث عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف، يعني لو قلت: حدثني أبو عبد الله النجدي، أو سمعت أبو عبد الله النجدي، نعم كما تقول: حدثني أو هذا الكتاب لأبي عبد الله التميمي، يعني مثلاً كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب من أجل أن يروج في غير هذه البلاد ويستفاد منه، والكتاب في غاية النفع، لكن لوجود الدعاية ضد هذه الدعوة السلفية المحمدية لا يقرئ في كتب الشيخ، في كثير من أقطار العالم الإسلامي لا يستفيدون من كتب الشيخ لوجود هذه الدعايات، فأنت من حسن ظنك أو تتصرف لكي يستفاد من هذا الكتاب فتقول: كتاب التوحيد لأبي عبد الله محمد بن سليمان التميمي، فتحذف عبد الوهاب لئلا يعرف الشيخ فيستفاد من كتابه، أنت هدفك طيب، وتؤجر على مثل هذا التدليس؛ لأنه أحياناً يكون هناك غرض حامل صحيح للتدليس، أحياناً يحذف الاسم بالكلية فلا ينسب إلى المؤلف من أجل إيش؟ أن يروج الكتاب؛ لأنه لو ذكر مؤلفه ما راج الكتاب، كثير من نسخ شرح الطحاوية لابن أبي العز بدون اسم، وكثير من النقول التي في هذا الشرح غير مضافة إلى أصحابها، يعني لو كان في النقول يقول: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال ابن القيم وقال غيره من الأئمة المعروفين من أئمة أهل السنة يمكن يهجر الكتاب، يترك؛ لأنه جاء وقت ساد في الأمة الإسلامية المذاهب المبتدعة، وضيق على أرباب المنهج الصحيح السليم، فأحياناً تروج الكتب بمثل هذه الطريقة وهذا فعل خير، الحامل لهذا الأمر ما في شك الباعث عليه بذل الخير، فلو أن ابن أبي العز -شارح الطحاوية- قال: قال شيخ الإسلام، قال ابن القيم، وهي منقولة بالحروف من كتبهم، لكن من أجل أن يروج مثل هذا الكلام الصحيح الصواب الموافق للكتاب والسنة حذف القائل، وهذا هدف طيب.
ابن عروة المشرقي حينما ألف كتابه: (الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري) ماذا صنع؟ كتب شيخ الإسلام في وقته تحرق، أي كتاب يوجد يحرق ويتلف، وكتب ابن القيم، صار يأتي إلى أي مناسبة فيها كتاب مؤلف لشيخ الإسلام ينقله بحروفه ليحفظ كتب شيخ الإسلام بهذا الكتاب الذي عنوانه: (الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري) فحفظ لنا كتب كثيرة من كتب شيخ الإسلام في هذا الكتاب، وأنتم تجدون من كتب شيخ الإسلام التي طبعت وهذا مأخوذ من (الكواكب الدراري) لابن عروة، هذه طريقة جيدة لحفظ العلم وإن كان فيها نوع تدليس.
أحياناً يكون ترويج العلم بالعكس، بمدارة بعض الناس، الآن لما تقرءوا في نيل الأوطار وسبل السلام وهما من أهل السنة بلا شك، تجد مثل هذين الكتابين مشحونة بأقوال طوائف المبتدعة، الهادوية والزيدية والناصر، والهادي إلى آخره، هؤلاء مبتدعة لا يعتد بقولهم، لا يعتد بقولهم عند أهل العلم، لماذا؟ لأن غالب سكان اليمن في ذلك الوقت من الهادوية، ولو أهملت أقوالهم ما راج الكتاب، والهدف إذا كان صحيح يغتفر فيه المفسدة اليسيرة تحصيلاً للمصلحة العظيمة، فلننتبه لهذا، لكن إذا كانت المفسدة كبيرة جداً، هل نقول: إن مثل هذا الترويج سائغ؟ لا، إذا كانت المفسدة كبيرة، الفيروز آبادي صاحب القاموس لما شرح البخاري وكانت مقالة ابن عربي في وحدة الوجود شائعة في بلاد اليمن، وهو في بلاد اليمن، نقل من الفصوص ومن الفتوحات المكية لابن عربي النقول الكثيرة من أجل إيش؟ أن يروج الكتاب، لكن ويش نقل؟ نقل القول بوحدة الوجود نسأل الله العافية، ونقل كلام ابن عربي الذي هو كفر صريح في هذا الكتاب من أجل أن يروج، هل هذا هدف مبرر لنقل مثل هذه الكفريات؟ لا، لا يبرر له ذلك، لا تؤلف إن كان أنت ما أنت مؤلف ولا أنت بنافع الناس إلا من خلال مفسدة عظمى، لا، لا تؤلف يا أخي، الناس ليسوا بحاجة إلى مثل هذا التأليف، لكن -والحمد لله تعالى- أن الأرضة أكلت الكتاب من أول مجلد إلى آخره، ما بقي منه ولا حرف واحد، هي نسخة المؤلف واحدة فأكلتها الأرضة من أولها إلى آخرها، والحمد لله على ذلك، ما بقي منه ولا حرف، فلننتبه إلى مثل هذا النوع من التدليس، التدليس حسب الغرض والهدف الحامل عليه، لا شك أن التدليس فيه غرر، لكن قد يكون هذا الغرر مغتفر يسير بالنسبة إلى تحصيل المصلحة العظمى، أما إذا كان الغرر كبير بالنسبة لتحصيل مصلحة ولو كانت كبيرة لا يجوز مهما كان المبرر له إذا كانت المفسدة كبيرة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، أظن هذا ظاهر، أقول: كثير من كتب الشيخ -رحمة الله عليه- التوحيد وكشف الشبهات وثلاثة الأصول، وغيرها من الكتب التي هي أنفع من كل كتاب بعد الكتاب والسنة طبعت في خارج المملكة باسم محمد بن سليمان التميمي حذف عبد الوهاب لئلا يتعطل الكتاب وينتفع به الناس، هذا جيد.
نعود إلى تدليس الشيوخ فتعريف هذا النوع من التدليس: أن يروي المحدث عن شيخ حديثاً سمعه منه ما فيه إسقاط، ليس فيه إسقاط فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف، لو قال: حدثني أبو صالح الشيباني، حدثني أبو صالح الشيباني يريد بذلك الإمام أحمد بن حنبل وهو معروف بأبي عبد الله وهو شيباني، لكن صالح أكبر من عبد الله، من أجل التدليس يكنيه وينسبه إلى كنية أو نسبة لا يعرف بها، قال بعضهم: حدثني أحمد بن هلال، ويريد بذلك الإمام أحمد.
مثال ذلك: ما رواه الخطيب البغدادي عن شيخه الحسن بن محمد الخلال، قول سعيد بن المسيب: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث سمى الخطيب شيخه الحسن بن أبي طالب، اسمه الحسن بن محمد الخلال، وقال مرة: أخبرنا أبو محمد الخلال، هذا نوع من التدليس، والخطيب في تصانيفه يكثر من هذا النوع، عن شيوخ يروي عنهم يصرح بأسمائهم، وهم ثقات عنده، لكن من باب التنويع والتفنن في العبارة، يقول: أخبرني مرة فلان، ومرة فلان ابن فلان، ومرة أبو فلان الفلاني، يتصرف من أجل أن يتفنن في العبارة لئلا يكثر من ذكر شيخ فيمله الناس.
ابن القيم يذكر عن شيخه كثيراً فيسميه أحياناً وأحياناً ينسبه، وأحياناً يكنيه، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس مراراً، كثير ما يقول ذلك، يتفنن في سياق ما يعرف بهذا الشيخ.
الخزرجي في (الخلاصة) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي قال في ترجمة الإمام محمد بن يحيى الذهلي: "روى عنه البخاري ويدلسه، روى عنه البخاري ويدلسه"، البخاري لم يقل في موضع: حدثنا محمد بن يحيى، بل قال تارة: محمد، حدثنا محمد من غير نسبة، وتارة محمد بن عبدالله، فينسبه إلى جده، وتارة محمد بن خالد، فينسبه إلى والد جده، أولاً: الذهلي ثقة، إمام من أئمة المسلمين، إمام من أئمة المسلمين، فكونه يُدَلَس لا يضيره، الأمر الثاني: الإمام البخاري يختلف مع الذهلي في مسألة اللفظ، لفظي بالقرآن مخلوق، يختلف البخاري معه في ذلك، فلكون الذهلي ثقة إمام روى عنه، ولكونه يختلف معه في هذه المسألة ما سماه باسمه الصريح الذي يعرفه به الناس، لئلا يظن أن البخاري بروايته عنه موافق له في مقالته، والخلاف بين الإمامين معروف، فيجاب عن صنيع الإمام البخاري هذا بما كان بينهما من الخلاف في مسألة اللفظ، فلثقته عنده خرج له، ولئلا تظن موافقته له في هذه المسألة لم يصرح باسمه كاملاً، وإلا ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان يقول: الإمام البخاري أبعد خلق الله عن التدليس، أبعد خلق الله عن التدليس".
تدليس الشيوخ مكروه إلا أنه أخف من الأنواع السابقة؛ لأن المدلس لم يسقط أحد، وإنما الكراهة بسب تضييع المروي عنه، وتوعير الطريق إلى معرفته على السامع، أما إذا كان امتحاناً للطلاب أو تفنناً في العبارة بحيث لا يخفى على أهل الفن فهو جائز، وهذا ما يفعله الخطيب البغدادي في مصنفاته.
قد يقول الشيخ: وهذا اختيار شيخنا أبي عبد الله النجدي، من أبو عبد الله النجدي؟ نعم؟
طالب:......
نعم، قد يتنبه بعض الطلاب فيقول: هو الشيخ ابن باز، وهو ما عرف بهذا، لكن من باب اختبار الطلاب وانتباههم وعدمه يفعل مثل هذا، إذا كان امتحاناً للطلاب أو تفنن في العبارة أحياناً يسمى الشخص، وأحياناً يكنى، وأحياناً ينسب من أجل ألا يمل السامع، يعني لو نقل عن شخص عشر مرات في مجلس واحد باسمه الكامل لا شك أن كثير من الناس يمل من التكرار، فمرة ينسب ومرة يكنى، ومرة يعرف به كاملاً، ومرة يلقب وهكذا.
تدليس البلدان:
يلتحق بتدليس الشيوخ تدليس البلدان، كأن يقول المصري: حدثني فلان في الأندلس وأراد موضعاً بالقرافة، أو يقول: بزقاق حلب ويريد موضعاً في القاهرة وهكذا، وظهر عندنا الآن أحياء بأسماء المدن وأسماء الأقاليم كأن يقول في الرياض مثلاً: حدثني فلان في القدس، حدثني فلان بالقدس، في حي اسمه القدس، والسامع يظن أن هذا رحل وتحمل المشاق، ذهب إلى القدس وسمع هذا الحديث منه، هذا تدليس، يسمى تدليس البلدان، هذا أمره سهل إذا كان المحدث والمحدث عنه من الثقات، لكنه إذا قصد به التشبع وكان الحامل عليه التشبع بأن يظن أن هذا رحل إلى البلدان والأقاليم وهو بين الحارات جالس في بلد واحد مثل هذا يذم، المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور.
الأغراض الحاملة على التدليس:
الأغراض الحاملة على التدليس كثيرة منها: ضعف الشيخ المدَلس، نعم إذا كان ضعيف فيسقطه من روى عنه وهذا الذي ذمه شعبة، ومن الأغراض الحاملة: صغر الشيخ، يكون الشيخ صغير السن أصغر من التلميذ، فيأنف التلميذ أن يروي عن شخص هو أصغر منه، هذا موجود في النفوس كثير فيسقطه؛ لأنه يأنف أن يقال أنه يروي عن شخص أصغر منه، مع أنه لا ينبل الرجل ولا يكمل حتى يروي عن من هو فوقه، ومن هو دونه ومن هو مثله من أقرانه، فسمة أهل العلم التواضع، ونسبة القول إلى قائله، والرواية إلى راويها، ومن بركة العلم إضافة القول إلى قائله، بعض الناس إذا سمع فائدة من واحد من طلابه يأنف أن يقول: قال فلان هذه الفائدة وهي فائدة جيدة، يقول: قيل، أو قال بعض الفضلاء، لئلا يقال: أن هذا يستفاد من طلابه، لا، نستفيد من طلابنا والحمد لله.
من الأغراض: إيهام علو الإسناد، إيهام علو الإسناد، نعم إذا كان السند خماسي فأسقط واحد منهم صار رباعي صار عالي بالنسبة للخماسي.
كثرة الرواية عنه: يعني يكثر من الرواية عن شخص من الأشخاص فيمل من كثرة: حدثني فلان قال: حدثني فلان يسقطه.
الخوف من عدم أخذ الحديث مع الاحتياج إليه: الخوف من عدم أخذ الحديث مع الاحتياج إليه، وهذا غرض صحيح، إذا كان الشخص على المنهج السوي المستقيم، وهو ثقة عدل ضابط في دينه وحفظه، وأنت في بيئة بينهم وبين هذا الشخص شيء، فإذا حدثت عنه فإنهم لا يأخذون به، لا يوافقونك على العمل بهذا الحديث؛ لأنه مروي من طريق شخص لا يريدونه، فتسقط هذا الراوي كما ذكرنا عن ابن أبي العز في إسقاطه اسم شيخ الإسلام وابن القيم من أجل أن يؤخذ هذا العلم، وهذا مقصد صحيح، والأمور بمقاصدها من ذلكم التفنن في العبارة وهذا ما يفعله الخطيب.
طبقات المدلسين:
طبقات المدلسين: إذا عرفنا أن التدليس عيب وذم لا بد من معرفة طبقات المدلسين؛ لأن في التدليس..، وقع في التدليس أئمة كبار، الحافظ ابن حجر قسم المدلسين إلى خمس طبقات: من لم يوصف بذلك إلا نادراً، يعني حصل منه مرة أو مرتين كيحيى بن سعيد الأنصاري، الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه كالثوري، أو لكونه لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة، الطبقة الأولى والثانية ما فيها إشكال، يروى عنهم بأي صيغة كانت؛ لأن الأئمة احتملوا تدليسهم، الكلام على الطبقة الثالثة فما دون، الطبقة الثالثة: من أكثر من التدليس مع ثقته كأبي الزبير المكي، أبو الزبير مكثر من التدليس ولذا لا يقبل من روايته إلا ما صرح فيه بالتحديث، وهذا يستثنى منه ما في الصحيح، عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال، محمولة على الاتصال، ولذا أبو الزبير عن جابر في صحيح مسلم كثيراً ما يقول: عن جابر، وقد يقول: سمعت جابراً، وأحياناً يقول: حدثني جابر، فإذا لم يصرح بالتحديث خارج الصحيح قلنا: لا بد أن يصرح، عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال؛ لأنها بحثت فوجدت كلها مصرح بها في المستخرجات وغيرها من الكتب، مع ثقتنا بالشيخين، فليس لأحد أن يضعف حديث في الصحيحين لأن راويه مدلس رواه بالعنعنة لا، يستثنى من ذلك الصحيحان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول.
الطبقة الرابعة: من أكثر من التدليس عن الضعفاء والمجاهيل.
والخامسة: من ضعّف بأمر آخر سوى التدليس، وهؤلاء لا يقبل منهم ولو صرحوا.
الرابعة: من أكثر من التدليس عن الضعفاء والمجاهيل لا بد من التصريح، فإذا صرحوا بالرواية عن الثقات وهم ثقات يقبلون وإلا فلا، من ضعف بأمر آخر سوى التدليس هذا لا يقبل ولو صرح.
حكم رواية المدلس:
حكم رواية المدلس: عرفنا في طبقات المدلسين أن الأئمة احتملوا تدليس أصحاب الطبقتين الأولى والثانية فتقبل عنعناتهم ولو من غير تصريح بالتحديث، وأما أصحاب الطبقة الرابعة فلا خلاف في عدم قبولهم إلا مع التصريح بالسماع، وأما أصحاب الطبقة الخامسة فلا يقبل حديثهم ولو صرحوا، وقد اختلف العلماء في قبول رواية المدلس من أصحاب الطبقة الثالثة كأبي الزبير عن جابر على أقوال:
الأول من هذه الأقوال: يرى جماعة من الفقهاء وأصحاب الحديث أن خبر المدلس غير مقبول مطلقاً لما يتضمن من الإيهام لما لا أصل له، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة.
الثاني: يرى جمع من أهل العلم أن خبر المدلس -ونعرف أن محل الخلاف الطبقة الثالثة، الثالثة فقط- يرى جمع من أهل العلم أن خبر المدلس مقبول مطلقاً، فلم يجعلوه بمثابة الكذاب، ولم يروا التدليس ناقضاً للعدالة، وزعموا أن نهاية أمره أن يكون ضرباً من الإرسال، والمرسل عرفنا الخلاف فيه.
الثالثة: قال آخرون بالتفصيل: إن كان المدلس يروي بلفظ السماع أو التحديث فهو مقبول محتج به، وإن روى بلفظ محتمل كالعنعنة فلا يقبل، وبهذا قال الشافعي وابن الصلاح والنووي وابن حجر وغيرهم.
الرابع: فصل آخرون فقالوا: إن عرف من المدلس أنه لا يروي إلا عن ثقة فإنه يقبل بأي صيغة روى، وإن كان المدلس يروي عن الثقات وغير الثقات فلا يقبل إلا إذا صرح بالتحديث، وذكر ابن عبد البر في التمهيد عن أئمة الحديث أنهم قالوا: لا يقبل تدليس الأعمش، لا يقبل تدليس الأعمش لماذا؟ لأنه إذا وقف أحال على غير ملي، يعني يروي عن غير الثقات، يعنون على غير الثقة، وقالوا: يقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظائرهما من الثقات، والراجح -والله أعلم- هو القول الثالث، وهو ما اختاره المحققون من العلماء وهو قبول خبر المدلس إذا صرح بالتحديث وإلا فلا، مع استثناء ما في الصحيحين.
وقوله: "وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق" تقدم تحقيق معنى المرسل الخفي والفرق بينه وبين التدليس، وعرفنا أنه إذا كان الراوي قد لقي وسمع من روى عنه وروى عنه ما لم يسمعه منه هذا يسمى تدليس، إذا كانت بينهما المعاصرة فقط ولم يثبت اللقاء ولا السماع وروى عنه بصيغة موهمة فإنه يسمى المرسل الخفي، وهذا هو الفرق بين المرسل الخفي والتدليس، نعم).