الحسن لذاته
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ؛
فَالْحَسَنُ لِذَاتِه، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ.
فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ في النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وإَلاَّ فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ).
نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ): ( (1) (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ)
أي: قَلَّ، يُقَالُ: خَفَّ القَوْمُ خُفُوفَا، قَلُّوا، وَالمُرَادُ مَعَ بَقِيَّةِ الشّرُوطِ المُتَقَدِّمَةِ فِي حَدِّ الصَّحِيحِ.
(2) (فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ)
(فـَ) هُو (الْحَسَنُ لِذَاتِهِ) لا لِشَيءٍ خَارِجٍ، وَهُوَ الذي يَكُونُ حُسْنُهُ بِسَبَبِ الاعْتِضَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ المَسْتُورِ إِذَا تَعَدَّدتْ طُرُقُهُ، وَخَرَجَ بِاشْتِرَاطِ بَاقِي الأوصَافِ الضَّعِيفُ، وَهَذَا القِسْمُ مِن الحَسَنِ مُشَارِكٌ للصَّحِيحِ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإنْ كَانَ دُونَهُ وَمُشَابِهًا لَهُ فِي انْقِسَامِهِ إِلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا فَوقَ بَعْضٍ. (3) (وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ) وَإِنَّمَا يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الطُّرُقِ؛ لأنَّ لِلصُّورَةِ المَجْمُوعَةِ قُوةً تَجْبُرُ القَدْرَ الذي قَصَّرَ بِهِ ضَبْطُ راوِي الحَسَنِ عَن راوِي الصَّحِيحِ، وَمِن ثَمَّ، تُطْلَقُ الصِّحَّةُ عَلَى الإِسْنَادِ الذي يَكُونُ حَسَنًا لِذَاتِهِ لَو تَفَرَّدَ إِذَا تَعَدَّدَ، وَهَذَا حَيثُ يَنْفَرِدُ الوَصْفُ. (4) (فَإِنْ جُمِعَا)أي: الصَّحِيحُ، وَالحَسَنُ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ كَقَولِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (5) (فَلِلتَّرَدُّدِ)الحَاصلِ مِن المُجتَهِدِ. (6) (فِي النَّاقِلِ)هَل اجْتَمعتْ فيه شُرُوطُ الصِّحَّةِ أو قَصُرَ عَنْهَا؟ وَهَذا (حَيْثُ) يَحْصُلُ منه (التَّفَرُّدُ) بِتَلْكَ الرّوَايةِ. وَعُرِفَ بِهَذَا جَوابُ مَن اسْتَشْكَلَ الجَمَعَ بَيْنَ الوصْفَينِ. فَقَالَ: الحَسَنُ قَاصِرٌ عَن الصَّحِيحِ، فَفِي الجَمْعِ بَيْنَ الوَصْفَينِ إِثْبَاتٌ لِذَلِكَ القُصُورِ وَنَفيُهُ. وَمُحَصَّلُ الجَوَابِ:أَنَّ تَرَدُّدَ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ فِي حَالِ نَاقِلِهِ، اقْتَضَى لِلمُجْتَهِدِ أَنْ لا يَصِفَهُ بِأَحَدِ الوَصْفَينِ؛ فَيُقَالُ فيه حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ عِندَ قَومٍ،صَحِيحٌ بِاعْتِبارِ وَصْفِه عِندَ قَومٍ. وغَايةُ مَا فيه أنَّه حَذَفَ منه حَرفَ التَّرَدُّدِ؛ لأنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: حَسَنٌ أو صَحِيحٌ. وَهَذَا كَمَا حَذَفَ حَرْفَ العَطْفِ مِن الذي بَعْدَهُ. وَعَلَى هَذَا: فَمَا قِيلَ فيه حَسَنٌ صَحِيحٌ، دُونَ مَا قِيلَ فيه صَحِيحٌ؛ لأنَّ الجَزْمَ أَقْوى مِن التَّرَدُّدِ، وَهَذَا حَيْثُ التَّفَرُّدُ، (وَإِلاَّ) إِذَا لَمْ يَحصُل التَّفَرُّدُ (فَـ) إِطْلاقُ الوصْفَينِ مَعًا عَلَى الحَدِيثِ يَكُونُ (بِاعْتِبارِ إِسْنَادَينِ) أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ وَالآخَرُ حَسَنٌ. وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فيه حَسَنٌ صَحِيحٌ فَوقَ مَا قِيلَ فيه صَحيحٌ فَقَطْ إذَا كَان فَرْدًا؛ لأنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تُقَوِّي. فَإنْ قِيلَ:قَدْ صَرَّحَ التِّرْمِذِيُّ بِأنَّ شَرْطَ الحَسَنِ: أَنْ يُرْوَى مِن غَيرِ وَجْهٍ. فَكَيفَ يَقُولُ فِي بَعضِ الأَحَادِيثِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاَّ مِن هَذَا الوَجْهِ؟ فَالجَوَابُ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ، لَم يُعَرِّف الحَسَنَ المُطْلَقَ، وَإِنَّمَا عرَّفَه بنوعٍ خاصٍّ منه وقعَ في كتابِه، وهو ما يقولُ فيه حَسَنٌ من غيرِ صِفَةٍ أُخْرَى. وذَلِكَ أنَّه يقولُ في بعضِ الأَحَادِيثِ حَسَنٌ. وَفِي بَعْضِهَا صَحِيحٌ. وَفِي بَعْضِهَا غَرِيبٌ. وفي بعضِها حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفي بعضِها حَسَن غَرِيبٌ. وَفِي بَعْضِهَا صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وفي بعضِها حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وتَعريفُه إِنَّمَا وقعَ على الأولِ فقطْ، وعِبارتُه تُرْشِدُ إلى ذَلِكَ حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: (ما قُلْنَا في كِتابِنا حَدِيثٌ حَسَنٌ فإِنَّمَا أَرَدْنَا به حُسْنَ إِسْنَادِهِ عندَنا؛ إذ كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى لا يكونُ راويه مُتَّهَمًا بِكَذِبٍ وَيُرْوَي من غيرِ وجْهٍ نَحْوَ ذَلِكَ ولا يكونُ شاذًّا فهو عندَنا حَدِيثٌ حَسَنٌ). فعُرِفَ بهَذَا أنَّه إِنَّمَا عرَّفَ الذي يقولُ فيه حَسَنٌ فقطْ. أَمَّا ما يقولُ فيه حَسَنٌ صَحِيحٌ،أو حَسَنٌ غَرِيبٌ،أو حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ؛ فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه كما لم يُعَرِّجْ على تعريفِ ما يقولُ فيه صَحِيحٌ فقط، أو غَرِيبٌ فقط، وكأنَّه ترَكَ ذَلِكَ استِغناءً بشُهرتِه عندَ أهلِ الفنِّ، واقْتصَرَ على تعريفِ ما يقولُ فيه في كتابِه حَسَنٌ فقطْ، إمَّا لغُموضِه، وإمَّا لأنَّه اصطلاحٌ جديدٌ. ولذَلِكَ قيَّدَه بقولِه: عندَنا، ولم يَنْسِبْهُ إلى أهلِ الحَدِيثِ كما فَعَلَ الْخَطَّابِيُّ، وبهَذَا التَّقريرِ يندَفِعُ كثيرٌ من الإيرَاداتِ التي طَالَ البحثُ فيها ولم يُسْفِرْ وَجْهُ تَوْجِيهِهَا، فللَّهِ الحمدُ على ما أَلْهَمَ وَعَلَّمَ).
نظم الدرر لفضيلة الشيخ: إبراهيم اللاحم
قال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: ( (1)3- الحَسَنُ لِذَاتِهِ.تعريفُ الحسنِ لِذَاتِهِ:
وَصْفُ الحديثِ بأَنَّهُ حَسَنٌ مَرَّ بِمَرْحَلَتَيْنِ:
المرحلةُ الأولَى:قبلَ أنْ يَسْتَقِرَّ الاصِطَلاحُ على تعريفٍ للحَسَنِ يُمَيِّزُهُ عن الصحيحِ، ويُمَيِّزُهُ عَمَّا دونَ الحَسَنِ وهو الضعيفُ، وهذه المرحلةُ لم يَرِدْ فيها أصْلاً تعريفٌ للحَسَنِ وإِنَّمَا وَرَدَ فيها استعمالٌ بِمَعْنَى أنْ يقولَ الإمامُ عن الحديثِ: هذا حديثٌ حسنٌ، أو رُبَّمَا يقولُ: حسنٌ صحيحٌ، وهذه المرحلةُ هي في القرنِ الثالثِ تقريبًا.
ومِمَّنْ اسْتَعَمَلَ كلمةَ الحسنِ كثيرًا الإمامُ الشَّافِعِيُّ، وابنُ المَدِينِيِّ، والإمامُ أحمدُ، والبخاريُّ، إلا أنَّ العلماءَ يقولون: إنَّ الأَئِمَّةَ في اسْتِعْمَالِهِم هذا لا يَقصِدونَ بهِ الحسنَ الذي هو قسيمٌ للصحيحِ وقسيمٌ للضعيفِ، بمعنى أنَّهُم:
- قد يُطْلِقُونَ كلمةَ (حَسَنٌ)، وقد يُريدونَ بها ما هو صحيحٌ على مَعْنَى التَّرَادُفِ أو استعمالِ كلمةٍ مكانَ الأُخْرَى، لأنَّهُم اسْتَعْمَلوا هذهِ الكلمةَ - وكلمةَ (حسنٌ صحيحٌ) - في أحاديثَ هي في أَعْلَى درجاتِ الصِّحَّةِ، بلْ أحيانًا يكونُ لها طرقٌ كثيرةٌ مشهورةٌ.
- كما أنَّهُم قدْ يُطلقِونَ وَصْفَ (الحُسْنِ)
ويَعْنُونَ به الحُسْنَ اللُّغَوِيَّ، أو الغرابةَ، أو غيرَ ذلِكَ.
وهذا كانَ قبلَ استقرارِ الاصطلاحِ، ومِمَّنْ نَبَّهَ إلى أنَّ الأَئِمَّةَ لم يكونوا يَسْتَخْدِمونَ مُصْطَلَحَ (الحَسَنِ) على التقسيمِ الثلاثيِّ ابنُ تَيْمِيَّةَ، والذَّهَبِيُّ، ونَقَلَ كلامَ الأوَّلِ جَمْعٌ من الأَئِمَّةِ مثلُ:السخاويِّ، وابنِ حَجَرٍ، ولم يَعْتَرِضَا عليهِ، وأحدُ المعاصرينَ لم يَفْهَمْ كلامَ ابنَ تَيْمِيَّةَ جَيِّدًا فَتَعَقَّبَهُ بِرِسَالَةٍ، ودارَ نِقَاشٌ طويلٌ حولَ هذا الموضوعِ.
المرحلةُ الثانيةُ:استعملَ فيها الأَئِمَّةُ كلمةَ (حَسَن) مُرْدِفِينَ ذلكَ لذلكَ بتعريفٍ للحديثِ الحَسَنِ؛ فَأَرَادُوا بهذا التعريفِ تَمْيِيزَ الحسنِ عن الصحيحِ، وعن الضعيفِ.
- وَوَرَدَتْ عِدَّةُ تعريفاتٍ له.
منها:عندَ التِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في آخِرِ كتابِهِ (السُّنَنُ) في (العِلَلِ الصغيرِ).
ومنها:تعريفٌ للخَطَّابِيِّ.
وثالثٌ:لابنِ الجَوْزِيِّ، وكَثُرَ الكلامُ حولَ الحَسَنِ، والسبَبُ في ذلكَ أَنَّهُ دَرَجَةٌ متوسطةٌ يَتَجَاذَبَهُ الصحيحُ والضعيفُ، حتى قال الحافظُ الذَّهَبِيُّ في (الموقِظَةُ): (لاَ تَطْمَعْ في تعريفٍ للحسنِ جامعٍ مانعٍ)، أو نحوَ هذه العبارَةِ. ابنُ الصلاحِ قالَ: نَظَرْتُ في كلامِ الأَئِمَّةِ السابقينَ فَوَجَدْتُ أنَّ تعريفَهُم للحديثِ الحسنِ وإنِ اخْتَلَفَ إلا أنَّنَا إذا اسْتَخْدَمْنَا طريقةَ التقسيمِ فَمِن المُمْكِنِ أنْ نَجْمَعَ كَلاَمَهُم، فَنُقَسِّمَ الحسنَ إلى قِسْمَيْنِ:قسمٌ حسنٌ لذاتِهِ: أي: أنَّ حُسْنَهُ جاءَ مِن نَفْسِ الإسنادِ. قسمٌ أَصْلُهُ ضعيفٌ، وَحُسْنُهُ جاءَ مِن خارجِ الإسنادِ. وبعدَ ابنِ الصلاحِ اسْتَقَرَّ اصطلاحُ العلماءِ على تقسيمِ الحسنِ إلى قسميْنِ: الحسنُ لذاتِهِ:وتعريفُهُ مُخْتَصَرًا تَعْرِيفُ الحديثِ الصحيحِ لِذَاتِهِ بِشُرُوطِهِ، مع تغييرِ الشرطِ الثاني، فيقالُ فيه بَدَلَ تامِّ الضَبْطِ يُقَالُ: خفيفُ الضَبْطِ.وعَبَّرَ ابنُ الصلاحِ عن خفيفِ الضبطِ بقولِهِ: مَن في ضَبْطِهِ قصورٌ عن درجةِ راوي الحديثِ الصحيحِ. والعلماءُ بعدَ ابنِ الصلاحِ اسْتَخْدَمُوا تعريفاتٍ تدورُ كلُّهَا حولَ نفسِ المعنى، فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ الحديثَ الحسنَ هو: ما رَوَاهُ عدلٌ خفيفُ الضَّبْطِ، بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، غيرَ مُعَلَّلٍ وَلاَ شَاذٍّ، ومنهم مَن قالَ: هو ما اتَّصَلَ سَنَدُهُ، بِنَقْلِ العَدْلِ خفيفِ الضبْطِ عن مثلِهِ، ولا يكونُ شاذًّا وَلاَ مُعَلَّلاً.وَيُمَثِّلُونَ لهذا القسمِ بِذِكْرِ الرُّوَاةِ الذين خَفَّ ضَبْطُهُمْ، مثلَ: بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، فبَهْزٌ صَدوقٌ، ووالدُهُ صَدوقٌ، وجَدُّهُ صحابيٌّ؛ فهذه النسخةُ يُعَلِّقُ منها البخاريُّ، وهي ليستْ على شرطِهِ، وإلا لأَخْرَجَهَا مَوْصُولَةً، ولم يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ منها شيئًا، وإِنَّمَا أَخْرَجَ منها أصْحَابُ (السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ). ويُمَثِّلُونَ كذلكَ: بأحاديثِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ عَلْقَمَةَ، فمحمدُ بنُ عمرو مشهورٌ بالصلاحِ والعِبَادَةِ - بمعنى أَنَّهُ عَدْلٌ في نفسِهِ - ولكنْ في ضبْطِهِ قصورٌ، تَكَلَّمَ الأَئِمَّةُ فيه بسببِ هذا القصورِ، مِمَّا جَعَلَهُ يُخَطَّأُ في كَثِيرٍ مِن أَحَادِيثِهِ؛ فَنَزَلَتْ دَرَجَتُهُ عن دَرَجَةِ رَاوِي الصَّحِيحِ. - ويُمَثِّلُونَ كذلكَ:بأحاديثِ عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ عَقِيلِ بنِ أبي طالبٍ، ومحمدِ بنِ إِسْحَاقَ، وبعمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، ومِثْلَ: هذه الأسانيدِ التي اخْتُلِفَ في بعضِ رُوَاتِهَا، وَاتَّضَحَ مِن التعريفِ أنَّ وصفَ الإسنادِ بالحُسْنِ أَتَى مِن الإسنادِ نفسِهِ، وبهذا يُمَيَّزُ عَمَّا يُقَالُ فيهِ: الحَسَنُ لغيرِهِ.ثم ذَكَرَ الحافظُ قضيَّةَ الاحتجاجِ بالحديثِ الحسنِ؛ فهو يقولُ: إنَّ الحديثَ الحسنَ مُلْحَقٌ بالحديثِ الصحيحِ، وذَكَرَ بعضُ الأَئِمَّةِ أنَّ بعضَ الأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ رُبَّمَا تَشَدَّدَ ولمْ يَحْتَجَّ بالحديثِ الحَسَنِ، واشترطَ في الاحتجاجِ أنْ يكونَ الحديثُ صحيحًا، لكنْ يَنْقُلُونَ في هذا المقامِ عن أبي حاتمٍ أَنَّهُ سُئِلَ عن رَجُلٍ فقالَ: هو حسنُ الحديثِ، قيلَ: يُحْتَجُّ بِهِ؟قال: لا، الحُجَّةُ شُعْبَةُ، وسفيانُ. لكنْ هذا الكلامُ مُجْمَلٌ، قد لا يُؤْخَذُ منهُ رأيٌ لابنِ أبي حاتمٍ، في الحديثِ الحسنِ بعدَ استقرارِ الاصطلاحِ، والمشهورُ أنَّ الحديثَ الحسنَ في مقامِ الاحتجاجِ مُلْحَقٌ بالحديثِ الصحيحِ، مع ملاحظةِ ما يَأْتِي مِن كَلاَمٍ عليهِ. مراتبُ الحسنِ لِذَاتِهِ: أَشَارَ إليها الحافظُ إشارةً ولمْ يُفَصِّلْ، فَقَالَ: (إنَّ الحسنَ لذاتِهِ لهُ مراتبُ، بِحَسَبِ وَصْفِ ذلكَ الراوي الذي خَفَّ ضبطُهُ، والذي نزلَ مِن أجلِهِ الحديثُ عن رُتْبَةِ الصحيحِ إلى رُتْبَةِ الحَسَنِ، والذي رأيتُهُ ذَكَرَ مراتبَ للحديثِ الحسنِ هو الحافظُ الذَّهَبِيُّ في (الموقِظَةُ)، فذَكَرَ أنَّ الحَسَنَ يُقَسَّمُ إلى قِسْمَيْنِ، وهذانِ القِسْمَانِ فيهما إجمالٌ شديدٌ، فقد قَسَّمَ الحسنَ باعتبارِ كلامِ العلماءِ في ذلك الراوي إلى قِسْمَيْنِ: 1-ما يَخْتَلِفُ الأَئِمَّةُ في تَصْحِيحِهِ أو تَحْسِينِهِ: ومَثَّلَ لذلكَ بأحاديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، وبأحاديثِ محمدِ بنِ إِسْحَاقَ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، فَجَعَلَ مثلَ ذلكَ المَرْتَبَةَ الأُولى مِن مراتبِ الحسنِ، لأنَّ مِن الأَئِمَّةِ مَن يُصَحِّحُ هذه الأسانيدَ ومنهم مَن يُحَسِّنُهَا، ولَكِنْ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ إلى أنَّ منهم مَن يُضَعِّفُهَا أيضًا. 2-ما يَخْتَلِفُ الأَئِمَّةُ في تحسينِهِ وتضعيفِهِ: ومَثَّلَ لذلكَ بأحاديثِ الحارثِ بنِ عبدِ اللهِ الأعورِ، وعاصمِ بنِ ضَمْرَةَ، والحجَّاجِ بنِ أَرْطَأَةَ، فهذا مِمَّا اخْتَلَفَ الأَئِمَّةُ في تَحْسِينِهِ وَتَضْعِيفِهِ، وَالأَمْثِلَةُ التي ضَرَبَهَا منها ما يَكُونُ الراجحُ فيه أو يَسْتَقِرُّ العملُ على كونِهِ ضَعِيفًا، فالحارثُ الأعورُ تُضَعَّفُ أحاديثُهُ، والحجاجُ يُضَعَّفُ، وعاصمٌ تُحَسَّنُ أحاديثُهُ. فهاتانِ المَرْتَبَتَانِ هما اللذانِ ذَكَرَهُمَا الذَّهَبِيُّ، وهذه قسمةٌ عَقْلِيَّةٌ، وفيهما إجمالٌ شديدٌ كما أَشَرْتُ إليهِ؛ فَكُلُّ مَرْتَبَةٍ قَابِلَةٌ للتقسيمِ أيضًا، وَلَمْ يَهْتَمَّ الأَئِمَّةُ بِتَقْسِيمِ الحسنِ كما اهْتَمُّوا بِتَقْسِيمِ الصحيحِ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، فَنَكْتَفِي بِمَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ في تقسيمِ الحسنِ اختصارًا. وهناكَ أمورٌ في الحَسَنِ لذاتِهِ لم يَتَعَرَّضْ لها الحافظُ أَذْكُرُهَا على عَجَلٍ: - عَرَفْنَا أنَّ حديثَ الراوِي أَنْزَلَهُ خِفَّةُ ضَبْطِهِ عن دَرَجَةِ الحديثِ الصحيحِ لِذَاتِهِ، وَعَرَفَ الأَئِمَّةُ أنَّ ضبْطَهُ خفيفٌ؛ لأنَّهُم دَرَسُوا أحاديثَهُ فَوَجَدُوا أَنَّهُ يَكْثُرُ فيها الأوهامُ والأخطاءُ، وأَخْوَفُ ما يُمْكِنُ أنْ يُفْعَلَ أَنْ يَأْتِيَ الباحثُ إلى حديثِ الرجلِ الذي خَفَّ ضَبْطُهُ بسببٍ ما يُخْطِئُ فيهِ فَيَجْعَلُ هَذَا قَاعِدَةً لَهُ، فَكُلَّمَا مَرَّ على إسنادٍ فيه هذا الراوِي وَصَفَهُ بأَنَّهُ حسنٌ، بِنَاءً على أنَّ الحديثَ الحسنَ هو: ما خَفَّ ضَبْطُ رَاوِيهِ، فَيَأْتِي الخَلَلُ إذا طَرَدَ هذا الحُكْمَ مِن جِهَتَيْنِ: الجهةُ الأولى:أنَّ بعضَ الباحثينَ يأتي إلى أسانيدَ فيها هؤلاءِ الرُّاوَةُ الذين خَفَّ ضَبْطُهُمْ، وقد صَحَّحَهَا الأَئِمَّةُ - فَرَاحَ يُعَقِّبُ عَلَى كَلاَمِ الأَئِمَّةِ بِأَنَّ هذا الإسنادَ لا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الصحِيحِ؛ فَصِرْنَا نَرَى تَحْسِينَ أَحَادِيثَ مَوْجُودَةٍ في (الصحيحَيْنِ)؛ فَأَتَى الخَلَلُ هنا من تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ أَنَّ الحَسَنَ لِذَاتِهِ هو: ما خَفَّ ضَبْطُ رَاوِيهِ، فَطَبَّقُوهَا بِحَذَافِيرِهَا، فَصَارَ كُلُّ إِسْنَادٍ يَرِدُ فِيهِ فهو حَسَنٌ لِذَاتِهِ، وهناك قاعدةٌ تقولُ: (الراوي له حالٌ في نفسِهِ، وحالٌ في شيخِهِ، وحالٌ ثالثةٌ - وهي المُهِمَّةُ - وهي حالُهُ في حديثِهِ كلِّهِ، فهذا الراوي الذي خَفَّ ضبطُهُ بسببِ كلامِ العلماءِ فيهِ لِخَطَئِهِ في بعضِ الأحاديثِ نَجْزِمُ أَنَّهُ أصابَ في أحاديثَ، وأخطأَ في أحاديثَ، والأَئِمَّةُ بالنسبةِ لهؤلاءِ الرُّوَاةِ الذينَ يَتَأَرْجَحُونَ وَيُصَنِّفُونَهُمْ بِأَنَّ هذا صَدُوقٌ، أو لاَ بَأْسَ بِهِ، وَنَحْوَ ذلكَ يَصِلُونَ أحيانًا إلى درجةِ الجَزْمِ، أو تَرْجِيحِ أنَّ هذا الراوي ضَبَطَ هذا الحديثَ، فَمَتَى تَرَجَّحَ أَنَّهُ ضَبَطَ هذا الحديثَ - وَإِنْ خَفَّ ضَبْطُهُ - فَإِنَّا نَحْكُمُ على حديثِهِ بأَنَّهُ صحيحٌ، ونستطيعُ أنْ نَحْكُمَ على الإسنادِ نفسِهِ بأَنَّهُ صحيحٌ؛ فلا فائدةَ مُطْلَقًا بأنْ نُعَقِّبَ ونقولَ: فلانٌ خَفَّ ضبطُهُ فحديثُهُ حسنٌ، والأَئِمَّةُ قد صَحَّحُوا حديثَهُ، فهذا الإمامُ رَجَّحَ بِغَلَبَةِ الظنِّ أنَّ هذا الراويَ قدْ ضبطَ هذا الحديثَ، فهو في هذا الحديثِ ليس خفيفَ الضبطِ وإِنَّمَا تامُّ الضبْطِ، وهذه ناحيةٌ يَغْفُلُ عنها كثيرٌ من الباحثينَ، فرُبَّمَا مَزَّقُوا الأسانيدَ تَمْزِيقًا، فَيَأْتِي إلى الإسنادِ ويقولُ: إسنادٌ حسنٌ، وهو في (الصحيحِ).مع أَنَّهُ من الواضحِ جِدًّا أنَّ الراويَ ضَبَطَ هذا الإسنادَ، لأَنَّهُ قدْ وَافَقَهُ عليهِ مثلاً أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ تَابَعُوهُ في هذه الروايةِ عن شيخِهِ، فيَجْزِمُ بأنَّ هذا الراويَ قد ضَبَطَ هذا الإسنادَ، أو يَأْتِي البخاريُّ مثلاً إلى هذا الراوي ويأخذُ أسانيدَهُ ويأخذُ منها الصحيحَ فما أخَذَهُ البخاريُّ من حديثِ هذا الراوي فهو من صحيحِ حديثِهِ، والراوي في هذه الأحاديثِ ليس خَفِيفَ الضبطِ وإِنَّمَا تامُّ الضبطِ، ووراءَ ذلك كلِّهِ أنْ يَعْرِفَ أنَّ الراويَ قد ضَبَطَ حَدِيثَهُ بِقَرِينَةِ أنَّ الرُّوَاةَ عنهُ لمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ معَ كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَخْذِهِمْ عَنْهُ، فَنُرَجِّحُ تَرْجِيحًا قوِيًّا أَنَّهُ قد ضَبَطَهُ، فهو صحيحٌ حينئذٍ، ولا إِشْكَالَ، وذلكَ في رُوَاةٍ تُكُلِّمَ في حِفْظِهِمْ، وَيَقْرَبُونَ مِن رُوَاةِ الحديثِ الصحيحِ، وهذا أَمْرٌ مُهِمٌّ، ولهذا تَكْثُرُ أحاديثُ المختَلَفِ فيهم في (الصحيحَيْنِ)، ولو ذَهَبَ الباحثُ إلى إِخْرَاجِ جميعِ الأسانيدِ التي تُكُلِّمَ في رُوَاتِهَا لَصَارَ في (الصحيحَيْنِ) أحاديثُ كثيرةٌ لا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ بِحَسَبِ التعريفِ الذي أَخَذْنَاهُ. فَكَلامُ الذَّهَبِيِّ الذي ذَكَرْتُهُ آنِفًا: (لاَ تَطْمَعْ في تعريفٍ للحديثِ الحسنِ جَامِعٍ مَانِعٍ). مُهِمٌّ وَمُتَأَكِّدٌ، وَنُؤَكِّدُهُ بهذهِ القَضِيَّةِ، أنَّ حديثَ الراوي وإنْ خَفَّ ضَبْطُهُ أحيانًا يُعْرَفُ بِقَرَائِنَ أَنَّهُ قد ضَبَطَ هذا الحديثَ، وحِينَئِذٍ يَصِحُّ أنْ نَصِفَهُ بأَنَّهُ صحيحٌ، ولا إشكالَ أنْ نَصِفَ هذا الإسنادَ بالذَّاتِ بأَنَّهُ صحيحٌ، ومِن الناسِ مَن يَتَكَلَّفُ ويقولُ: أَنَا أَصِفُ الإسنادَ ثم بعدَ ذلكَ أَصِفُ المَتْنَ، وهذا مِن التَّكَلُّفِ. الجِهَةُ الثانيَةُ:حَدِيثُ الراوِي الذي خَفَّ ضَبْطُهُ إذا قَامَت القرينةُ على أَنَّهُ لمْ يَضْبِط الحَديثَ: قد يَصِفُهُ الباحثُ بالحُسْنِ طَرْدًا لقاعدةِ أنَّ خفيفَ الضبطِ حديثُهُ حسنٌ لذاتِهِ، ولهذا أُنَبِّهُ إلى أَنَّهُ في مقابلِ أنْ نقولَ: إنَّ الراويَ إذا عَرَفْنَا أَنَّهُ إذا ضَبَطَ حَدِيثَهُ نُسَمِّيهِ صحيحًا، فَأَيْضًا إذا قَامَت القَرَائِنُ على أنَّ هذا الراويَ الذي خَفَّ ضبطُهُ لمْ يَضْبِط الحديثَ المُعَيَّنَ؛ فإسنادُهُ يكونُ ضعيفًا. وهناكَ قرائنُ لهذا، مِن أشهرِهَا:أنَّ الراويَ الذي خَفَّ ضبطُهُ إذا خَالَفَهُ الثِّقَاتُ بمعنى أَنَّهُ رَوَى هذا الحديثَ موصولاً، وجاءَ ثقةٌ، وَرَوَاهُ مُرْسَلاً، فَهُنَا قامت القرينةُ على أنَّ الراويَ لم يَضْبِطْ إسنادَهُ، فهُنَا نَحْكُمُ مباشرةً على إسنادِهِ بالضعفِ، ولو كان ثقةً لَقِيلَ: ثقةٌ في مقابلِ ثِقَةٍ، فقد يُحْكَمُ لِحَدِيثِهِ بالصوابِ، وإنْ كان قد رَفَعَهُ، وَخَالَفَهُ ثِقَةٌ، لَكِنْ حينَ خَفَّ ضَبْطُهُ فَبِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ الثقةَ اعْتَبَرْنَا هذا قرينةً على أنَّ هذا الحديثَ من الأحاديثِ التي لمْ يَضْبطْهَا؛ فنحكمُ عليه بالضعفِ، لذا يقولُ العلماءُ: حديثُ فلانِ بنِ فلانٍ الصحيحُ أَنَّهُ حَسَنٌ إذالم يُخَالَفْ. قرينةٌ ثانيَةٌ:هذا الراوي الذي خَفَّ ضَبْطُهُ وتُكُلِّمَ فيه؛ لأنَّ الأَئِمَّةَ عَرَفُوا أنَّ له أحاديثَ أخطأَ فيها، أحيانًا يُحْكَمُ على الراوي بأَنَّهُ خفيفُ الضبطِ لأَنَّهُ - وَنَضْرِبُ مثلاً بِمُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ - لاَ يُخَالِفْ، وَلَكِنَّهُ يَرْوِي الحديثَ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ، ثم يَرْوِي هذا الحديثَ بعينِهِ عن أبي سَلَمَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلاً، ثم يَرْوِيهِ ثالثةً عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ من قولِهِ، فهنا أَصْبَحَ للحديثِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، فهذا الاضطرابُ من سماتِ الراوي خفيفِ الضبطِ؛ فتارةً يروي الحديثَ مرفوعًا، وتارةً مُرْسَلاً، وتارةً مَوْقُوفًا، فإذا كان الراوي خَفِيفَ الضبطِ، وكان الحديثُ الذي أَمَامَنَا من الأحاديثِ التي تُكُلِّمَ في الراوي بِسَبَبِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ اضْطُرِبَ في هذا الحديثِ، فلا يَصِحُّ أنْ نقولَ: إنَّ هذا الحديثَ حسنٌ؛ لأنَّ الأَئِمَّةَ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا في هذا الراوي وَضَعَّفُوا بعضَ حديثِهِ بسبَبِ ما يَقَعُ في حديثِهِ من اضطرابٍ. القرينةُ الثالثةُ:أحيانًا لا تَقَعُ مُخَالَفَةٌ ولا اضْطِرَابٌ، ولكنْ تَقَعُ نكَارَةٌ فِي المَتْنِ، وهذهِ أَدَقُّ القرائنِ وَأَهَمُّهَا، لِنَكَارَةِ المَتْنِ دَلاَئِلُ وعَلاَمَاتٌ.منها: أنْ يأتيَ بِمُبَالَغَةٍ في ثوابٍ على عَمَلٍ يَسِيرٍ، أو مُبَالَغَةٍ في عِقَابٍ على ذَنْبٍ يَسِيرٍ، أو مُبَالَغَةٍ في مَنَاقِبِ صَحَابِيٍّ، أو إِمَامٍ، أو مَدِينَةٍ أو نَحْوَ ذلِكَ. ومنها:أَنْ يَأْتِيَ حَدِيثٌ يَنْفَرِدُ بهِ هذا الراوي الصَدُوقُ الذي خَفَّ ضَبْطُهُ، ولا يُعْرَفُ هذا الذي ذَكَرَهُ في نصوصِ الشَّرْعِ، أو أنْ تَكُونَ هُنَاكَ أحاديثُ صَحِيحَةٌ بِخِلاَفِهِ، وَنكَارَةُ المَتْنِ هذهِ يَغْفُلُ عنها كثيرٌ من الباحثينَ؛ فَحَسَّنُوا أَحَادِيثَ وَبُنِيَتْ عليها فَتَاوَى وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ وَنَحْوَ ذلكَ؛ بِنَاءً على طَرْدِ أَنَّ ما رَوَاهُ الصَّدُوقُ أو خَفِيفُ الضبطِ فهو حَسَنٌ، ولهذا فالأَئِمَّةُ مثلاً في نُسْخَةِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، مع ذهابِهِم إلى أنَّها حسنةٌ يُضِيفُونَ: مع تَجَنُّبِ مَا فِيهَا مِن مَنَاكِيرَ، فَهُمْ يُنَبِّهُونَ إلى أنَّ فيها مناكيرَ تُجْتَنَبُ. نَصِلُ إلى قضيةٍ مهمةٍ: متى يكونُ الحديثُ حسنًا لِذَاتِهِ، وَرَاوِيهِ خَفِيفُ الضبْطِ؟ هناك ثلاثةُ شروطٍ لذلِكَ: الشرطُ الأوَّلُ: ألا يُخَالَفَ، وهذا مذكورٌ في شروطِ الحديثِ الصحيحِ (لا يكونُ شَاذًّا ولا مُعَلَّلاً)، فَالْمُخَالَفَةُ هي الشُّذُوذُ والعِلَّةُ، وَلَكِنْ يُنَبِّهُ عليه هنا - وإن كان مذكورًا في الصحيحِ - لأنَّنَا قدْ نَأْخُذُ تعاريفَ من المصطلحِ ثم نُطَبِّقُهَا طَرْدًا لها دونَ تَمَعُّنٍ. الشرطُ الثاني:أنْ نَعْرِفَ أنَّ هذا الحديثَ ليس من الأحاديثِ التي ضُعِّفَ الراوي بِسَبَبِهَا، ويكونُ قد اضْطَرَبَ في هذا الحديثِ بَعَيْنِهِ، فإذا قُلْنَا مثلاً على رأيِ بعضِ الأَئِمَّةِ: عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عَقِيلِ بنِ أبي طالبٍ حديثُهُ حسنٌ، ولهُ رُوَاةٌ كَثِيرُونَ مثلَ: السُّفْيَانَيْنِ، وَحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ؛ فإذا اتَّفَقُوا على لفظٍ واحدٍ، وعلى صيغةٍ واحدةٍ للإسنادِ والمَتْنِ فَنَعْرِفُ أَنَّهُ قد ضَبَطَ حَدِيثَهُ؛ لأنَّهُمْ سَمِعُوهُ منهُ في فتراتٍ مُتَفَاوِتَةٍ دونَ أنْ يَضْطَرِبَ. أما إذا اختلفوا عنهُ فَنَعْرِفُ أنَّ هذا الحديثَ مما اضْطَرَبَ فيه هذا الراوِي، وَتُكُلِّمَ فيه مِن أَجْلِهِ. الشرطُ الثالثُ:ألاَّ يكونَ الحديثُ مُنْكَرًا، وَنَصَّ عليه جماعةٌ مِن الأَئِمَّةِ منهم الذَّهَبِيُّ، وهو مُهِمٌ؛ لأَنَّهُ يَكْثُرُ في أحاديثِ مَن هو صَدُوقٌ أو مَن تُكُلِّمَ في حِفْظِهِ. قد يقولُ قائِلٌ: إذا تَوَافَرَت الشروطُ في الحديثِ، لِمَ لاَ نَصِفُهُ بِالصِّحَّةِ؟ نقولُ: بسببِ خِفَّةِ الضبطِ؛ لأنَّ الراويَ، وإنْ قَبِلْنَا حَدِيثَهُ إِلاَّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الكلامِ فيهِ وَخِفَّةِ ضَبْطِهِ لاَ يَزَالُ في النفسِ منهُ شيءٌ، ولو قَامَتْ قَرِينَةٌ على صِحَّةِ حديثِهِ لاَلْحِقَ بالصحيحِ. ولهذا التَّأَرْجُحِ بينَ إمكانِ أن يكونَ الحديثُ صحيحًا، أو حسنًا، أو ضعيفًا. قيلَ: إنَّ الحديثَ الحَسَنَ، وَرَاوِيَهِ مِن أَعْقَدِ مَسَائِلِ عُلُومِ الحديثِ. والرُّوَاةُ على ثلاثةِ أقسامٍ: - رُوَاةٌ مُتَّفَقٌ على أَنَّهُمْ ثِقَاتٌ. - رُوَاةٌ مُتَّفَقٌ على أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ. - رُوَاة مُخْتَلَفٌ فيهم. وَمَرَّ بنا في الصحيحِ أَنَّهُ يَلْزَمُنَا ثلاثةُ شروطٍ؛ ليكونَ الإسنادُ صحيحًا، إلا أنَّ هذا لا يَعْنِي أنْ يكونَ الحديثُ كلُّهُ صحيحًا، لإمكانِ أنْ يَقَعَ شذوذٌ أو عِلَّةٌ، ويقالُ نفسُ الشيءِ في الحديثِ الحسنِ، إلا أَنَّهُ أَشَدُّ، لأَنَّهُ مع كَوْنِ الراوي ثِقَةً يُخْشَى أنْ يَقَعَ في حديثِهِ شذوذٌ أو عِلَّةٌ؛ فإنَّهُ في راوي الحديثِ الحسنِ من بابِ أَوْلَى؛ لأنَّ راويَ الحسنِ عَرَفْنَا خِفَّةَ ضَبْطِهِ بِسَبَبِ كثرةِ مُخَالَفَتِهِ، فَنَتَوَقَّعُ دائِمًا أَنَّهُ في هذا الحديثِ المُعَيَّنِ قد وَقَعَتْ منهُ مُخَالَفَةٌ. وَأَعْتَذِرُ عَن الإِطَالَةِ في هذا الموضوعِ، وأيضًا عن التَّكرارِ والإِعَادَةِ فيه، لأَنَّهُ مِن المَوَاضِعِ التي يَحْتَاجُهَا البَاحِثُ كثيرًا، وهو مَظِنَّةُ الزَّلَلِ، واللهُ أَعْلَمُ. (2)الثالثُ: الصحيحُ لِغَيْرِهِ. الحديثُ الحسنُ لذاتِهِ إذا وَرَدَ مِن طريقٍ آخَرَ مثلِهِ، أو رُبَّمَا أَقْوَى منهُ أو - كَمَا قال الحافظُ في بعضِ تعاريفِهِ - دونَهُ ولكنْ تَعَدَّدَت الطُّرُقُ؛ فإنَّهُ يُحْكَمُ للحديثِ بأَنَّهُ صحيحٌ، وأَطْلَقَ عليه الحافظُ أنَّهُ صحيحٌ لِغَيْرِهِ.وأوَّلُ مَن تَكَلَّمَ فيه:وأَبْرَزَهُ وشَرَحَهُ هو ابنُ الصلاحِ في (المقَدِّمَةِ)، وزادَهُ ابنُ حَجَرٍ إيضاحًا، وأكثرَ مِن أمثلَتِهِ في (النُّكَتِ على كتابِ ابنِ الصلاحِ). مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ للحديثِ الصحيحِ لغيرِهِ بحديثٍ لمحمدِ بنِ عمرِو بنِ عَلْقَمَةَ، وهو حديثٌ يَرْوِيهِ عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لَوْلاَ أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ))؛ فهذا الحديثُ إسنادُهُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِسَبَبِ وُجُودِ مُحَمَّدِ بنِ عمرٍو حَسَبَ كَلاَمِ ابنِ الصلاحِ، ويكونُ صحيحًا لغيرِهِ إذا وَرَدَ له مُتَابَعَاتٌ، أو شَوَاهِدُ، وذَكَرَ ابنُ الصلاحِ متابعةً لمحمدِ بنِ عمرٍو لكنَّهَا ليستْ متابعةً في شيخِهِ، وإِنَّمَا ذَكَرَ إسنادًا فقالَ: رَوَى هذا الحديثَ أبو الزَّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ ((….))، فقالَ ابنُ الصلاحِ: مِن إسنادِ أبي الزَّنَادِ عَرَفْنَا أنَّ محمدَ بنَ عمرٍو قد ضَبَطَ هذا الحديثَ، وعندَهَا نُسَمِّيهِ صحيحًا، لكنَّ ابنَ حَجَرٍ أَضَافَ إليه كَلِمَةً وَسَمَّاهُ صحيحًا لغيرِهِ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ الآنَ جاءتْهُ مِن خارجِ الإسنادِ، وكونُ ابنِ حَجَرٍ هو الذي أَضَافَ (لغيرِهِ) فمعنى هذا أنَّ الأَئِمَّةَ قد يُصَحِّحُونَ أحاديثَ لراوٍ بِنَاءً على طُرُقٍ أُخْرَى للحديثِ ولا يَقُولُونَ: إنَّهُ صحيحٌ لغيرِهِ، فكلمةُ (لغيرِهِ) اصْطِلاَحٌ مُتَأَخِّرٌ قُصِدَ بهِ التفريقُ بينَ ما صَحَّ بإسنادِهُ مُسْتَقِلاّ، وبينَ ما جاءتْهُ الصِّحَّةُ مِن خارجِ الإسنادِ وهو الذي يُسَمَّى الصحيحَ لغيرِهِ.قال ابنُ حَجَرٍ: (اعْتَبَرْتُ كثيرًا من أحاديثِ (الصحيحينِ)؛ فَوَجَدْتُ أنَّ تَصْحِيحَهَا لا يَتِمُّ إلاَّ على هذه الطريقةِ - أي: بالمُتَابَعَاتِ - فلو انْفَرَدَ واحدٌ من الرُّوَاةِ لَمَا كانَ حديثُهُ صحيحًا)، وهذا الذي قالَهُ صحيحٌ ولا إشكالَ في ذلك، فإنَّ الراويَ إذا كان ثِقَةً وَصَحَّحْنَا حديثَهُ فالراوي الذي في حفظِهِ كلامٌ يَسِيرٌ إذا اجْتَمَعَ مَعَهُ آخَرُ صَارَ في قُوَّةِ الثِّقَةِ الذي ليس فيهِ كلامٌ، فإذا حَكَمْنَا على حديثٍ في (الصحيحَيْنِ) بأَنَّهُ صحيحٌ بمجموعِ الطُّرُقِ، فليس معنى ذلك أنَّ واحدًا منهُمَا نُسَمِّيهِ حَسَنًا والآخَرَ حَسَنًا، فهذا تطويلٌ لا فائدةَ منه؛ فالراوي إذا عَرَفْنَا أَنَّهُ ضَبَطَ وإنْ كانَ بقرينةٍ خارجيَّةٍ يَصِحُّ أنْ نُسَمِّيَ حَدِيثَهُ المُفْرَدَ صحيحًا، والتفريقُ بينَ الإسنادِ، والحديثِ، أَكْثَرَ منهُ المتأخرونَ. وهناكَ أحاديثُ في (الصحيحَيْنِ) صُحِّحَتْ بقرينةٍ خارجيَّةٍ، وَمَثَّلُوا لذلكَ في البخاريِّ بحديثِ عائشةَ أنَّها سَأَلَت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الجِهَادُ؟ فقالَ: ((أَفْضَلُ العَمَلِ))قالتْ: أَوَ لاَ نُجَاهِدُ؟ قالَ: ((لَكُنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)) فهذا رَوَاهُ البخاريُّ من طَرِيقَيْنِ إلى عائشةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ، وقال ابنُ حَجَرٍ: إِنَّمَا صَحَّحَهُ البخاريُّ بمجموعِ الطريقَيْنِ. واعْتُرِضَ على ابنِ الصلاحِ في المثالِ الذي تَقَدَّمَ بأنَّ نُسْخَةَ محمدِ بنِ عَمْرٍو مُتَكَلَّمٌ فيها، والعاضِدُ لها حديثُ أبي الزَّنَادِ، وهو مِن نُسْخَةٍ قيلَ فيها: إنَّهَا مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، فَمَا الحاجَةُ إلى تَصْحِيحِ الحديثِ كلِّهِ بهذهِ الطريقةِ. قالَ ابنُ حَجَرٍ: (ابنُ الصلاحِ مَثَّلَ لنوعٍ من الصحيحِ لغيرِهِ، وهو: أنْ يأتيَ حديثٌ خفيفُ الضبطِ، ويكونُ العاضِدُ له أقوى منه، ثم ذَكَرَ مثالاً - حديثَ عائشةَ - كان الحديثُ فيه حسنًا وعاضِدُهُ حَسَنًا أيضًا؛ فيكونُ الحديثُ بمجموعِهِمَا صَحِيحًا)؛ فكأَنَّهُ يَعْتَذِرُ لابنِ الصلاحِ.بَقِيَ في الحديثِ الصحيحِ لغيرِهِ مسألةٌ: - الصحيحُ لغيرِهِ مَبْنِيٌّ على أنْ يَصِلَ الإسنادُ الأوَّلُ إلى درجةِ الحَسَنِ لذاتِهِ. -ثم أنْ تَصِلَ الأسانيدُ الأُخْرَى أيضًا إلى درجةِ الحسنِ، أو الصِّحَّةِ. -ثم يَصِلَ الإسنادانِ بِمَجْمُوعِهِمَا إلى الصِّحَّةِ؛ فهي مَرَاحِلٌ مُتَرَتِّبٌ بَعْضُهَا على بعضٍ؛ لِنَحْكُمَ على الحديثِ بأَنَّهُ صحيحٌ لغيرِهِ. إذاً أيُّهَا أَسْهَلُ وأقربُ طريقًا، الصحيحُ لغيرِهِ، أو الصحيحُ لذاتِهِ، أو الحسنُ لذاتِهِ؟ الأخيرانِ أسهلُ وأقربُ طريقًا؛ فالصحيحُ لذاتِهِ لهُ مقدمةٌ واحدةٌ، وهي أنْ تَتَوَافَرَ في الحديثِ شروطُ الصحيحِ لذاتِهِ، والحسنُ لذاتِهِ لهُ مقدمةٌ واحدةٌ، وهي أنْ تَتَوَافَرَ في الحديثِ شروطُ الحسنِ لذاتِهِ، أمَّا الصحيحُ لغيرِهِ فلهُ ثلاثُ مُقَدِّمَاتٍ، لِذَا فيُقالُ: إنَّ الصحيحَ لغيرِهِ مِن أكثرِ مواردِ النِّزَاعِ بينَ الأَئِمَّةِ في الحُكْمِ على الأحاديثِ، والسببُ أنَّهُم قد يَخْتَلِفُونَ في الإسنادِ الأوَّلِ الذي حَكَمْتَ بأَنَّهُ حسنٌ لذاتِهِ، ثم قد يَخْتَلِفُونَ في الإسنادِ الثاني، ثم قد يَخْتَلِفُونَ في النتيجةِ والوصولِ إلى الصحيحِ لغيرِهِ. ولهذا فإنَّ هذا البابَ مِن أَهَمِّ مواردِ النـزاعِ بينَ الأَئِمَّةِ في الحُكْمِ على الأحاديثِ تَصْحِيحًا وَتَضْعِيفًا، بَيْنَمَا نَجِدُ أنَّ أَقَلَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ هو الصحيحُ لذاتِهِ، لأنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ ضَابِطُونَ، ثم يَلِيهِ الحسنُ لذاتِهِ؛ لأنَّ رَاوِيَهُ خَفَّ ضَبْطُهُ. وهذه جملةٌ تحتَها تَفَاصِيلُ، لا يَتَّسِعُ المقامُ لِذِكْرِهَا وَضَرْبِ الأمثلةِ لَهَا. (3) قولُ بعضِ الأَئِمَّةِ في حُكْمِهِ على حديثٍ ما: حسنٌ صحيحٌ. تناولَ الحافظُ قضيةً خَتَمَ بها مباحثَ الصحيحِ لِذَاتِهِ والصحيحَ لغيرِهِ، وهذه القضيةُ تتعلَّقُ بإطلاقِ بعضِ الأَئِمَّةِ على حديثٍ واحدٍ وَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فيَقُولُ الإمامُ في وصْفِ حديثٍ واحدٍ: حسنٌ صحيحٌ.
مَرَّ بنا أَنَّ الحديثَ الحسنَ يَخْتَلِفُ عن الحديثِ الصحيحِ لذاتِهِ في درجةِ ضَبْطِ الراوِي، وحينئذٍ فلو أَخَذْنَا الكلامَ على إطلاقِهِ، وبِمَا مَرَّ بنا من تعاريفَ، لَكَانَ قولُ الإمامِ عن حديثٍ واحِدٍ: حسنٌ صحيحٌ، أي: أَنَّ رَاوِيَهُ تامُّ الضبطِ وفي نفسِ الوقتِ خفيفُ الضبطِ، أمَّا لو أَخَذْنَا قولَهُم (حسنٌ صحيحٌ)، قبلَ استقرارِ الاصطلاحِ، فهذا لا يُشْكِلُ، مثلَ: قولِ ابنِ المَدِينِيِّ، أو يَعْقُوبَ بنِ شَيْبَةَ، أو البخاريِّ أحيانًا؛ فَكُلُّ هذا قبلَ أَنَّ يكونَ للحَسَنِ تعريفٌ يُمَيِّزُهُ، فعلى كلامِ الأَئِمَّةِ السابقينَ لا إِشْكَالَ، لأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ وَصَفَ الحديثَ بِوَصْفَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ، لكنْ أُشْكِلَ على كثيرٍ من العلماءِ وَصْفُ التِّرْمِذِيِّ الذي أَكْثَرَ جِدًّا من وَصْفِ الأحاديثِ بهذه الصِّفَةِ في كتابِهِ، مع أَنَّهُ عَرَّفَ الحسنَ بتعريفٍ فَصَلَهُ بِهِ عن الصحيحِ.فقالَ العلماءُ: كيف يَجْتَمِعُ في حديثٍ واحدٍ وَصْفٌ قاصِرٌ ووصفٌ تامٌّ؟
فهذا الإشكالُ الذي أَوْرَدَهُ كثيرٌ من العلماءِ منذُ أَنْ قالَ التِّرْمِذِيُّ هذه الكلمةَ إلى الوقتِ الحاضرِ، وكلٌّ يُحَاوِلُ الإجابةَ بما يَدْفَعُ هذا الإشكالَ، فَأَجَابَ بعضُ العلماءِ بأجوبةٍ لمْ يَذْكُرْهَا الحافظُ، وَسَأَسْرُدُ بعضَهَا باختصارٍ، ثم أَعُودُ إلى كلامِهِ:
1- منهم مَن قال: لَعَلَّ مرادَهُ بالصِّحَّةِ الصِّحَّةُ الاصْطِلاَحِيَّةُ، وأَرَادَ بالحُسْنِ الحُسْنَ اللُّغَوِيَّ، بمعنى أَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، ولكنْ هذا التوجيهُ يَظْهَرُ ضَعْفُهُ حينَ يقولُ التِّرْمِذِيُّ في بعضِ الأحاديثِ: صحيحٌ أو صحيحٌ غريبٌ، فمعنى هذا الكلامِ على هذا القولِ أَنَّ مُتُونَ هذه الأحاديثِ مِن جِهَةِ اللُّغَةِ، والبَلاَغَةِ؛ ليستْ بِحَسَنَةٍ وإلاَّ لَوَصَفَهَا بقولِهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، إلى جَانِبِ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ إمامٌ من أَئِمَّةِ الحديثِ، فهو حينَ يُطْلِقُ هذه الأوصَافَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ الأوصافَ الاصطلاحِيَّةَ.
2-قالَ بعضُ العلماءِ (وهذا لابنِ كَثِيرٍ): الصحيحُ مَرْتَبَةٌ، والحسنُ مَرْتَبَةٌ، وما بَيْنَهُمَا فهو حَسَنٌ صحيحٌ، فتكونُ درجاتُ الحديثِ على هذا الكلامِ:
- أَعْلاَهَا صحيحٌ.
- ثم حَسَنٌ صحيحٌ.
- ثم حَسَنٌ.
وَشَبَّهَ هذا بما هو مُتَعَارَفٌ عليه عندَ الناسِ: هناكَ حُلْوٌ وهناكَ حامضٌ، وما بَيْنَهُمَا فهو مُزٌّ؛ فكذلك الحسنُ الصحيحُ، لكنْ هذا الكلامُ ضعيفٌ؛ لأنَّ التِّرْمِذِيَّ أَكْثَرَ جِدًّا مِن وَصْفِ الأحاديثِ بعبارةِ:
حَسَنٌ صحيحٌ، فمعنى هذا أَنَّ الأحاديثَ الصحيحةَ العاليةَ الصِّحَّةِ قليلةٌ جِدًّا، بالإضافةِ إلى أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَطْلَقَ (حسنٌ صحيحٌ) على أحاديثَ هي في غايَةِ الصِّحَّةِ.
نَأْتِي إلى كلامِ الحافظِ رَحِمَهُ اللهُ، فهو وَجَّهَ بِتَوْجِيهٍ تَابَعَهُ كثيرٌ من المؤلفِينَ الذين كَتبوا في علومِ الحديثِ فيما بعدُ، ومعَ أَنَّ هذا قولُ الحافظِ، إلا أَنَّهُ في كتابِهِ (النُّكَتُ) تَرَدَّدَ في هذا القولِ، وقالَ: (إنَّ عليهِ مَآخِذَ كثيرةً، ومع هذا فَأَنَا أقولُ بهِ، وقد تَابَعَهُ المتَأَخِّرُونَ مِمَّنْ كَتَبَ في المصطلحِ لِسُهُولَةِ إِدْرَاكِهِ وتَصَوُّرِهِ نَظَرِيًّا)، فهو يقولُ: ما يقولُ فيه التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صحيحٌ لا يَخْلُو مِن أَحَدِ حَالَيْنِ:
1- ألاَّ يكونَ للحديثِ إلا إسنادٌ واحدٌ، فالتِّرْمِذِيُّ عندَئذٍ يُبَيِّنُ لنا أَنَّ الأَئِمَّةَ مُخْتَلِفُونَ في أَحَدِ رُوَاةِ هذا الحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَن يُوَثِّقُهُ، ومِنْهُمْ مَن يُضَعِّفُهُ، فقولُهُ: حَسَنٌ صحيحٌ حكايةٌ مِن التِّرْمِذِيِّ لاختلافِ الأَئِمَّةِ في حالِ الراوِي.
2- أَنْ يكونَ للحديثِ إسنادانِ، فَمُرَادُ التِّرْمِذِيِّ حينئذٍ أَنَّ الحديثَ صحيحٌ بِأَحَدِ الإسنَادَيْنِ، فقد تَوَافَرَ فيه شروطُ الحديثِ الصحيحِ الخمسةُ، والإسنادُ الثاني حَسَنٌ تَوَافَرَ فيه شروطُ الحديثِ الحسنِ؛ فكأَنَّهُ يقولُ: حسنٌ باعتبارِ إسنادٍ، صحيحٌ باعتبارِ إسنادٍ آخَرَ.
هذا كلامُ الحافظِ، ثم راحَ يُوَجِّهُهُ بِتَوْجِيهٍ طويلٍ، ودَفَعَ عنهُ بعضَ الاعتراضاتِ.
ولكنْ هذا الكلامُ دَقِيقٌ جِدًّا، ودِقَّتُهُ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً بِنَصِّهِ عن التِّرْمِذِيِّ، وإلاَّ فَلأوَّلِ وَهْلَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَتَوَقَّفَ فيهِ، لأَنَّهُ تَأْوِيلٌ فيهِ مِن التفصيلِ، والدِّقَةِ ما يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً عن التِّرْمِذِيِّ نَفْسِهِ، بأنْ يقولَ التِّرْمِذِيُّ: (أُرِيدُ مِن الحَسَنِ الصحيحِ - إذا لم يَكُنْ لَهُ إلا إسنادٌ - حكايةَ اختلافِ الأَئِمَّةِ في رَاوِي هذا الحديثِ، وإذا كانَ لهُ إسنادانِ فَأُرِيدُ بهِ أَنَّهُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ إسنادٍ، صحيحٌ باعتبارِ إسنادٍ آخَرَ)، ويَظْهَرُ هذا بِوُضُوحٍ إذا أَدْرَكْنَا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَلَّ أَنْ يُفْرِدَ الحديثَ بِوَصْفِ الصحيحِ، فَعَلَ ذلك في أحاديثَ مَعْدُودَةٍ، وَجُلُّ أَحْكَامِهِ أَنْ يَجْمَعَ بينَ الصِّحَّةِ والحُسْنِ.
نَأْتِي إلى قضيةِ الاعتراضاتِ التي وَرَدَتْ عليهِ،
وهي صحيحةٌ لاَ مَفَرَّ منها، ولا إِجَابَةَ عَنْهَا:
فَمِن الاعتراضاتِ: أَنَّ كُلَّ حديثٍ ليس لهُ إلا إسنادٌ واحدٌ
وقالَ فيهِ التِّرْمِذِيُّ: حسنٌ صحيحٌ؛ فمعناهُ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ يَحْكِي فيهِ اختلافَ الأَئِمَّةِ في ناقِلِهِ، وتَوَافُرُ هذا في كُلِّ حديثٍ ليسَ له إلاَّ إسنادٌ واحدٌ أَمْرٌ عَسِيرٌ، فَمَعْنَى كلامِ الحافظِ أَنَّ كُلَّ حديثٍ يكونُ غريبًا وليس له إلا إسنادٌ واحدٌ فإنَّ الأَئِمَّةَ مُخْتَلِفُونَ في رُوَاتِهِ أو في أَحَدِ رُوَاتِهِ، وهذا تَوَافُرُهُ صَعْبٌ، وَيَكْفِي أَنْ نَأْخُذَ حديثَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وَكَثِيرٌ مِن الأحاديثِ ليس لها إلا إسنادٌ واحدٌ، لمْ يَخْتَلِف الأَئِمَّةُ في رُوَاتِهَا.
وَيَلْزَمُ عليهِ أيضًا أَنَّ ما قالَ فيهِ التِّرْمِذِيُّ: صحيحٌ فقطْ، وليس لهُ إلا إسنادٌ واحدٌ لا خِلاَفَ في رُواتِهِ، وهذا أيضًا يَصْعُبُ تَوَافُرُهُ.
وَيَلْزَمُ أيضًا أَنَّ ما قالَ فيهِ التِّرْمِذِيُّ: (صَحِيحٌ فَقَطْ، وَلَيْسَ لهُ إلا إِسْنَادٌ واحدٌ أَنْ يكونَ أَعْلَى مِمَّا قالَ فيهِ: حسنٌ صحيحٌ، وليس لهُ إلا إسنادٌ واحِدٌ).
أَمَّا مَا كانَ لهُ إسنادانِ فهو يقولُ: حسنٌ باعتبارِ إسنادٍ، صحيحٌ باعتبارِ آخَرَ،
وهذا أيضًا عليهِ اعتراضٌ؛ فإنَّهُ يلزمُ عليهِ أَنَّ ما كَثُرَتْ طُرُقُهُ وقالَ فيهِ: حسنٌ صحيحٌ، أَنَّهُ حَسَنٌ باعتبارِ بعضِهَا، صحيحٌ باعتبارِ بعضِهَا الآخَرِ، وهذا تَوَافُرُهُ أَمْرٌ صَعْبٌ.
كذلكَ: ما يقولُ فيهِ: صحيحٌ فقطْ، ولهُ إسنادانِ أو أكثرُ يَلْزَمُ منهُ أَنْ يكونَ كُلٌّ مِنْهَا تَوَافَرَ فيهِ شروطُ الصحيحِ، وهذا أيضًا تَوَافُرُهُ فيهِ صُعُوبَةٌ.
فَالْخُلاَصَةُ:أَنَّ مَا قَالَهُ الحافظُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا التوجيهِ قريبُ المَأْخَذِ، سَهْلُ الفَهْمِ والتَّصَوُّرِ وَالإِدْرَاكِ نَظَرِيًّا، ولهذا تَابَعَهُ عَلَيْهِ مُؤَلِّفُونَ كَثِيرُونَ لاَ سِيَّمَا مِن المتَأَخِّرِينَ، ولَكِنَّهُ صَعْبُ التطبيقِ جِدًّا.
يَبْقَى كلامٌ لِبَعْضِ الأَئِمَّةِ في تَوْجِيهِ كلامِ التِّرْمِذِيِّ تَتَابَعَ عليهِ إمامانِ، أَحَدُهُمَا أَطْلَقَهُ أوَّلاً ثم جاءَ الآخرُ وَزَادَهُ إِيضَاحًا بما يُزِيلُ عنهُ الاعتراضَ.
- قال ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: (الصحيحُ مُشْتَمِلٌ على شروطِ الحسنِ وزيادةٍ، فَكُلُّ صحيحٍ فهوَ حَسَنٌ، وليسَ كُلُّ حسنٍ صَحِيحًا، فلهذا يُفْرِدُ الحسنَ، فإذا جاءَ إلى الصحيحِ قال فيهِ: حسنٌ صحيحٌ، وهذا قريبُ المَأْخَذِ، لكنْ يُشْكِلُ عليهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ: ما يقولُ فيه: صحيحٌ فقطْ، فكانَ الأَوْلَى فيهِ أَنْ يقولَ: حسنٌ صحيحٌ، أمَّا ما عَدَا ذلكَ فهو ظاهرٌ، ولاَ يَحْتَاجُ إلى نَصٍّ من التِّرْمِذِيِّ أَنَّ المُرَادَ كذا فَنَقُولُ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلى نَقْلٍ).
وَأَفْضَلُ مَن رَأَيْتُ تَكَلَّمَ عن هذا الموضوعِ هو الحافظُ ابنُ رَجَبٍ، وهو شارِحُ (سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)، فَلَمَّا وَصَلَ إلى آخِرِ الكتابِ شَرَحَ (عِلَلَ التِّرْمِذِيِّ الصَّغِيرِ)، وقد فُقِدَ شَرْحُ ابنِ رجبٍ (لِسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ) ، وَبَقِيَ شرحُهُ لـ (الْعِلَلِ) ، فإذا كانَ يُقَالُ: إنَّ الحافظَ ابنَ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فيما يَتَعَلَّقُ بِمُصْطَلَحَاتِ البخاريِّ وفي (صَحِيحِ البخاريِّ) ، إِلَيْهِ المَرْجِعُ بِسَبَبِ شَرْحِهِ (لصحيحِ البخاريِّ) (بِفَتْحِ البَارِي) ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقالَ: إنَّ اصطلاحاتِ التِّرْمِذِيِّ يُرَجَّحُ فيها قولُ ابنِ رجبٍ، لأَنَّهُ مِن الذين شَرَحُوا (سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ) ، وهو مِن الذين جَمَعُوا بينَ الفِقْهِ وبينَ فَنِّ الحديثِ وعِلَلِهِ.
يقولُ ابنُ رجبٍ: (إنَّ التِّرْمِذِيَّ لمْ يُعَرِّف الحَسَنَ الذي هو حَسَنٌ بِمُفْرَدِهِ - والذي عُرِفَ بالحَسَنِ لِذَاتِهِ - وإِنَّمَا عَرَّفَ الحَسَنَ بِمَا نُسَمِّيهِ الحَسَنَ لِغَيْرِهِ).
فقالَ التِّرْمِذِيُّ: (الحسنُ هو ما يُرْوَى عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يَكُونُ رَاوِيهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، ولا يكونُ شَاذًّا، وَيُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ نحوَ ذلكَ، فهذا تعريفٌ للحَسَنِ لغيرِهِ).
قال ابنُ رجبٍ: وتعريفُ التِّرْمِذِيِّ للحسنِ لغيرهِ هنا لا يَتَعَارَضُ مُطْلَقًا مع تَعْرِيفِ الحديثِ الصحيحِ، فليس هو قسيمًا لهُ بلْ قد يَجْتَمِعَانِ، فَرَاوِي الصحيحِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فيه: ليس مُتَّهَمًا بالكَذِبِ، ومن شروطِ الصحيحِ أَنْ لا يكونَ شَاذًّا، فليس هناكَ مانِعٌ مِن أَنْ تَجْتَمِعَ شروطُ الحسنِ التي ذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ مع شروطِ الصحيحِ؛ فإذا تَوَافَرَ في الحديثِ شروطُ الحديثِ الصحيحِ صَحَّ أَنْ نُسَمِّيَهُ صحيحًا، فإذا رُوِيَ مِن غيرِ وَجْهٍ نحوَ ذلكَ فهو حَسَنٌ، فحينئذٍ ما يقولُ فيه التِّرْمِذِيُّ: حسنٌ صحيحٌ فقدْ تَوَافَرَتْ فيه شروطُ الصحيحِ، ورُوِيَ أيضًا مِن غيرِ وجْهٍ نحوَ ذلكَ، فهو صحيحٌ وهو حَسَنٌ.
أمَّا ما يقولُ فيهِ التِّرْمِذِيُّ: (صحيحٌ) فقطْ، فهو لمْ يَصِفْهُ بأَنَّهُ حَسَنٌ؛ لأَنَّهُ لمْ يُرْوَ مِن وجهٍ آخَرَ، وأمَّا مَا يقولُ فيهِ حسنٌ فقطْ فلمْ يَصِفْهُ بأَنَّهُ صحيحٌ؛ لأَنَّهُ تَوَافَرَتْ فيه شروطُ الحسنِ التي ذَكَرَهَا، ولكنْ لمْ تَتَوَافَرْ فيهِ شروطُ الصِّحَّةِ، فَاكْتَفَى بِوَصْفِهِ بالحسْنِ، وأمَّا ما لمْ يَصِفْهُ بِحَسَنٍ صَحِيحٍ، وَلاَ بالصِّحَّةِ، وَلاَ بالحسْنِ؛ فهو لمْ تَتَوَافَرْ فيه شروطُ الصحيحِ ولاَ شروطُ الحَسَنِ فَبَقِيَ على ضَعْفِهِ.
إذًا فَتَرْتِيبُ دَرَجَاتِ الأحاديثِ عندَ التِّرْمِذِيِّ:
1-حسنٌ صحيحٌ: لأَنَّ شُرُوطَ الصِّحَّةِ تَوَافَرَتْ فيهِ، وأيضًا رُوِيَ مِن غيرِ وجهٍ نحوَ ذلكَ.
2-صحيحٌ: لأَنَّهُ تَوَافَرَتْ فيه شروطُ الصِّحَّةِ ولمْ يُرْوَ مِن وَجْهٍ آخَرَ.
3- حسنٌ: لأَنَّهُ لمْ تَتَوَافَرْ فيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ ففيهِ ضعفٌ، ولكنْ جاءَ مِن وجهٍ آخَرَ.
4-الضعيفُ: الذي لا يُوصَفُ بالصِّحَّةِ ولا بِالحُسْنِ.
وهذا الكلامُ قَوِيٌّ بِشَرْطٍ واحِدٍ: أَنْ يَتِمَّ تَطْبِيقُهُ في قَضِيَّةِ صَحِيحٍ فَقَطْ، هل التَزَمَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ ما قالَ فيهِ: صحيحٌ لمْ يُرْوَ مِن وجهٍ آخَرَ؟من النَّاحِيَةِ الفَنِّيَّةِ، كلامُ ابنِ رجبٍ في توجيهِ كلامِ التِّرْمِذِيِّ هو أَقْرَبُ ما قِيلَ.
(4)تَبْقَى قضيةٌ أُخْرَى، ذلك أنَّ الحافظَ أَوْرَدَ إشكالاً وأجابَ عليهِ: إذا قَالَ الترمذيُّ في وَصْفِ الحديثِ - وقد عَرَفْنَا أنَّ الترمذيَّ يَقُولُ عن الحسنِ: ما يُرْوَى مِن غيرِ وجْهٍ نحوَ ذلك -: حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاَّ مِن هذا الوجْهِ؟
فالحافظُ يقولُ: هنا لا يُرِيدُ التِّرْمِذِيُّ الحَسَنَ الذي عَرَّفَهُ في (العِلَلِ)، وهو الذي اشترطَ فيه أَنْ يُرْوَى من غيرِ وَجْهٍ، وكلامُ الحافظِ هذا فيه نَظَرٌ، فالتِّرْمِذِيُّ عَرَّفَ الحَسَنَ في كتابِهِ (العِلَلِ)، والذي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ ما يقولُ فيهِ إنَّهُ حسنٌ، فالحافظُ يقولُ: إذا قَرَنَ التِّرْمِذِيُّ الحسْنَ بِالْغَرَابَةِ، أو بالصِّحَّةِ؛ فالمرادُ بالحَسَنِ هنا الحَسَنُ الذي سَكَتَ عنهُ، وهو الحَسَنُ لذاتِهِ الذي لا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ، هذا مضمونُ كلامِ الحافظِ، وفيهِ بُعدٌ - واللهُ أَعْلَمُ.
- وابنُ رجبٍ انْفَصَلَ عن هذا الإشكالِ بطريقتِهِ هو، وذلك أَنَّهُ فَسَّرَ الوجهَ الآخَرَ في كَلِمَةِ التِّرْمِذِيِّ: (مِنْ وجهٍ آخَرَ نحوَ ذلكَ)، بأنْ لا نَقْصُرَهُ على الأسانيدِ، فكلُّ ما رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُعَضِّدُ هذا وإنْ كانَ حديثًا آخَرَ بِمَعْنىً آخَرَ فهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ من وجهٍ آخَرَ، وأكثرُ من ذلكَ قال: ما يُرْوَى مِن فتوى صحابِيٍّ، أو مِن عَمَلِ السابقينَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ يُعَضَّدُ بهِ الحديثُ، وقالَ: هذا ليسَ بُمَسْتَغْرَبٍ؛ فإنَّ الشَّافِعِيَّ حينمَا ذَكَرَ الاحتجاجَ بالمُرْسَلِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْتَجُّ بالمُرْسَلِ بشروطٍ:
منها: أَنْ يَعْتَضِدَ إِمَّا بِمُسْنَدٍ آخَرَ، أو بِمُرْسَلٍ آخَرَ، أو يكونَ عليه عملٌ، أو يُفْتِيَ على وِفْقِهِ صَحَابِيٌّ أو نحوِ ذلكَ.
حينئذٍ الحديثُ حَسَنٌ غريبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ، وَلَكِنْ قد رُوِيَ مِن وَجْهٍ آخَرَ ولا يُشْتَرَطُ أَنْ يكونَ هذا الحديثَ بِعَيْنِهِ، بلْ ولاَ أَنْ يكونَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثالُ ذلكَ:حديثُ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، هو حَسَنٌ صحيحٌ غريبٌ، غريبٌ لأَنَّهُ ليسَ لهُ إلا إسنادٌ واحدٌ، ولكنَّهُ حَسَنٌ رُوِيَ مِن وُجُوهٍ أُخَرَ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فالأحاديثُ في مُطْلَقِ النِّيَّةِ كثيرةٌ، تُبَيِّنُ أَنَّ مَدَارَ الأعمالِ على النِّيَّةِ.
منها:حديثُ:((الرَّجَلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَيُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً))فقالَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُو فِي سَبِيلِ اللهِ))، وأحاديثُ كثيرةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاعْتِبَارَ بِالنِّيَّةِ، فَيَصِحُّ مِن هذا الوَجْهِ أَنْ يُوصَفَ بأنَّ الحديثَ حَسَنٌ، لأَنَّهُ رُوِيَ مِن غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وإنْ لمْ يَكُنْ لهُ إلا إسنادٌ واحِدٌ.
هناكَ تَنْبِيهٌ في هذا الموضوعِ: رواياتُ التِّرْمِذِيِّ عنهُ قليلةٌ، والذي اسْتَقَرَّ منها هي روايةُ شخصٍ واحدٍ وهو أبو العَبَّاسِ المَحْبُوبِيُّ عن التِّرْمِذِيِّ، ثم كَثُرَ تَدَاوُلُ هذهِ النُّسْخَةِ وَكَثُرَتْ نُسَخُهَا، وَلَكِنَّ الإشكالَ يَكْمُنُ في اختلافِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ في كلامِهِ على الأحاديثِ:
- ففي بعضِهَا: حَسَنٌ صحيحٌ.
-وفي بعضِهَا: حسنٌ فقطْ.
- وفي بعضِهَا: صحيحٌ فقطْ.
- وكلُّ ذلكَ في حديثٍ واحدٍ، ومِمَّن اعْتَنَى بالنُّسَخِ وَجَمَعَهَا الشيخُ (أحمدُ شاكرٍ)، لكنَّهُ لم يَطْبَعْ إلا مُجَلَّدَيْنِ فقطْ، وإذا قَارَنْتَهُمَا بالمجلداتِ الباقيةِ فهما مجلدانِ في مقابلِ ثمانيةٍ تقريبًا أو أَكْثَرَ؛ لأَنَّهُ عَلَّقَ على الكتابِ وَأَطَالَ في التعليقِ، فصارَ المقدارُ الذي أَخْرَجَهُ في مجلدَيْنِ بالنسبةِ للباقي لا يُسَاوِي قَدْرًا كَبِيرًا، فالباقي مِن الكتابِ لمْ يُحَرَّرْ وَلَمْ يُقَابَلْ عَلَى نُسَخٍ، فإذا أَرَدْتَ أَنْ تَنْقُل كلامًاَ لِلتِّرْمِذِيِّ مِمَّا لمْ يَذْكُرْهُ أحمدُ شاكرٍ فَيَحْسُنَ أَنْ تُقَارِنَهُ بكلامِ الأَئِمَّةِ الذينَ نَقَلُوا كلامَ التِّرْمِذِيِّ، مثلَ (الْمَزِّيِّ) في (تُحْفَةِ الأَشْرَافِ)، فقد الْتَزَمَ نَقْلَ كلامِ التِّرْمِذِيِّ، فَيُعْتَبَرُ كأَنَّهُ نُسْخَةٌ مِن التِّرْمِذِيِّ.
ومثلَ: الْمَجْدِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في (المُنْتَقَى).
وكذلكَ:مَن كَتَبَ في أحاديثِ الأحكامِ كابنِ عبدِ الهَادِي (في) (المُحَرَّرِ).
- وابنِ دَقِيقِ العيدِ في (الإِلْمَامِ) ، وابنِ حَجَرٍ في (بُلُوغِ المَرَامِ)، والزَّيْلَعِيِّ في (نَصْبِ الرَّايَةِ)، فهؤلاءِ يَنْقُلُونَ مِن نُسَخٍ مُوَثَّقَةٍ فَيُقَارِنُ الباحثُ بينها في إثباتِ كلامِ التِّرْمِذِيِّ على الأحاديثِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: سعد بن عبد الله الحميد
قال الشيخ سعد بن عبد الله الحميد: ( قولُه: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ فالْحَسَنُ لذَاتِهِ).
الْحَدِيثُ الحسَنُ لِذَاتِهِ:هو ما اتَّصَلَ سَنَدُه بنَقْلِ العدْلِ خَفيفِ الضبْطِ عن مِثْلِه إلى مُنتَهَاهُ، مِن غيرِ شُذوذٍ ولا عِلَّةٍ.
فمَثَلاً:محمَّدُ بنُ إسحاقَ (صاحبُ السيرةِ) اختَلَفَ فيه العُلماءُ، فمِنهم مَن تَكلَّمَ فيه، ومِنهم مَن وَثَّقَهُ، لكنَّ الْخُلاصةَ التي نَسْتَنْتِجُهَا مِن كلامِ العُلماءِ أنَّ هذا الرجُلَ في هذه الْمَرْتَبَةِ الرابعةِ، فقالوا: صَدوقٌ حسَنُ الْحَدِيثِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ في (مُسْنَدِه): حَدَّثنا إسماعيلُ ابنُ عُلَيَّةَ، قالَ: أَخْبَرَنَا محمَّدُ بنُ إسحاقَ، قالَ: حدَّثَنِيسعيدُ بنُ عُبيدٍ السَّبَّاقُ، عن أبيه، عن سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنه قالَ: كنتُ أَلْقَى مِن الْمَذْيِ شِدَّةً، فكنتُ أُكْثِرُ الاغتسالَ منه، فسَألْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ لي: ((يَكْفِيكَ مِنْهُ الْوُضُوءَُ)). فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، فكيفَ بما يُصيبُ ثَوْبِي منه، فقالَ:((يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنَ الْمَاءِ فَتَمْسَحَ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الثَّوْبَ)).
فإسماعيلُ بنُ إبراهيمَ ابنُِ عُلَيَّةَإِمامٌ ثِقَةٌ، وشيخُ محمَّدِ بنِ إسحاقَِ الذي هو سعيدُ بنُ عُبيدِ بنِ السَّبَّاقِ، ثِقَةٌ، ووالدُه محمَّدُ بنُ السَّبَّاقِ، وسَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ صَحَابِيٌّ، فإسنادُ الْحَدِيثِ كلُّه ثِقاتٌ ما عَدَا محمَّدَ بنَ إسحاقَ، فقالوا: صَدوقٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ، فهذا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أنْ يَكونَ مِثَالاً للحديثِ الحسَنِ لذاتِهِ.
فإذا جاءَ الْحَدِيثُ الحسَنُ لِذَاتِهِ مِن طَريقٍ آخَرَ حسَنٍ لِذَاتِهِ، أو مِن طريقٍ آخَرَ صحيحٍ؛ فبِمجموعِ هَذينِ الطريقينِ يَرْتَقِي مِن الْحَسَنِ لِذاتِه إلى دَرجةِ الْحَدِيثِ الصحيحِ لغَيْرِه.
ولذلك قالَ الحافِظُ: (وبِكثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ).
قـولُه: (فإنْ جُمِعَا فلِلتَّرَدُّدِ في الناقِلِ حيثُ التَّفَرُّدُ، وإلاَّ فبِاعتبارِ إسنادينِ) أيْ: فإنْ جُمِعَ وَصفُ حديثٍ واحدٍ بأنه حَسَنٌ صَحيحٌ، وهذا يَرِدُ وبخاصَّةٍ عندَ التِّرْمِذِيِّ، وقد يَرِدُ عندَ غيرِه، فهذا لا يَخْلُو مِن أحَدِ أَمرينِ:
1-إمَّا أنْ يكونَ ذلك الإسنادُ واحداً فقط مُتَفَرِّداً به ذلك الراوي (ليس له إسنادٌ آخَرُ) أيْ: أنه حديثٌ غَريبٌ، فهذا للتَّرَدُّدِ في الناقلِ الذي قالَ: حسَنٌ صحيحٌ؛، أيْ: يُمْكِنُ أنْ يكونَ الْحَدِيثُ حَسَناً، ويُمْكِنُ أنْ يكونَ صَحيحاً.
فهذا الْحَدِيثُ لم يَصِلْ للدرجةِِ العُلْيَا مِن الصِّحَّةِ، ولكنْ مِن الدَّرَجَةِ الدنيا، وفيها تَرَدُّدٌ، فيُمْكِنُ أن تكونَ مُلْحَقَةً بالْحَدِيثِ الْحَسَنِ لذاتِه.
2-فإنْ كانَ له أكثَرُ مِن إسنادٍ، فيَقولُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (فبِاعتبارِ إسنادينِ) بمعنى أنَّ هذا الْحَدِيثَ وَرَدَ بإسنادٍ حَسَنٍ، وبإسنادٍ صَحيحٍ، فهو باعتبارِ هذا السنَدِ حديثٌ حَسَنٌ، وباعتبارِ السنَدِ الآخَرِ حديثٌ صحيحٌ.
وهذانِ القَولانِ يُمْكِنُ أنْ يَنْطَبِقَا على بعضِ إطْلاقاتِ التِّرْمِذِيِّ، لكن لا يُمْكِنُ أنْ يُطْلَقَ على بَعْضِ إطلاقاتِه الأُخْرَى؛، لأنه قد وُجِدَ ما يَخْدُمُ هذينِ القولينِ.
وهنا استدراكٌ لم يَتَكَلَّمْ عليه الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ، وهو الْحَدِيثُ الْحَسَنُ لغيرِه وتعريفُه.
فالْحَدِيثُ الحسَنُ لغَيرِه: هو الْحَدِيثُ الضعيفُ إذا تَعَدَّدَتْ طُرُقُه، لكنْ بِشَرْطِ ألاَّ يكونَ الضعْفُ شديداً، أيْ: ألاَّ يكونَ الراوي مُتَّهَماً بالكَذِبِ، أو وَضْعِ الْحَدِيثِ؛ فهذا يقالُ له: الموضوعُ أو الْمَتْرُوكُ، ومِن أنواعِ شِدَّةِ الضعْفِ أنْ تَكْثُرَ العِلَلُ في الْحَدِيثِ، فلو جَاءنا حديثٌ فيه انقِطاعٌ، وفيه راوٍ ضَعيفٌ، وفيه راوٍ مَجهولٌ؛ فاجتمَعَتْ في هذا الْحَدِيثِ ثلاثُ عِلَلٍ؛ ولذلك يُعْتَبَرُ هذا الْحَدِيثُ الذي يُمْكِنُ أنْ يَنْجَبِرَ ضَعْفُه بتَعَدُّدِ الطُّرُقِ.
مثالُ ذلك:ما رَواهُ الْحُمَيْدِيُّ في (مُسْنَدِه)، وسعيدُ بنُ مَنصورٍ في (سُنَنِه)، والإمامُ أحمدُ في (مُسْنَدِه)، - عن شَيْخِهم سُفيانَ ابنِ عُيَيْنَةَ -رَحِمَه اللهُ- فيقولُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ عليِّ بنِ رَبيعةَ السُّلَمِيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه أنه قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((يَا جَابِرُ، أَعَلِمْتَ أَنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ، فَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي قَضَيْتُ أَن لاَّ يَرْجِعُونَ)).
فسُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، ثِقَةٌ، وشيخُهُ محمَّدُ بنُ علِيٍّ السُّلَمِيُّ، ثِقَةٌ أيضاً، وجابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ صَحَابِيٌّ، ولكنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ محمَّدِ بنِ عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فيهِ، فهوَ صَدوقٌ في نفْسِهِ، لكنْ في حِفْظِهِ ضَعْفٌ؛ فحديثُهُ لا يَصِلُ إلى دَرجةِ الْحَسَنِ لذَاتِهِ، فنَظَرْنَا إلى هذا الْحَدِيثِ فوَجَدْنَا لهُ طُرُقاً أُخْرَى.
مثلَ:ما أَخْرَجَهُ التِّرمذِيُّ وابنُ مَاجَهْ وابنُ حِبَّانَ مِنْ طريقِ مُوسَى بنِ إبراهيمَ بنِ كثيرٍ، وهوَ صَدُوقٌ وفي حِفْظِهِ ضَعْفٌ، ويَرْوِيهِ عنْ طَلْحَةَ بنِ خِرَاشٍ، عنْ جابرٍ بنَحْوِ الْحَدِيثِ الذي سَبَقَهُ. فهذا الْحَدِيثُ مِنْ هذَيْنِ الطريقَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَنْجَبِرَ ضَعْفُهُ، ونقولَ عنهُ: إنَّهُ حديثٌ حَسَنٌ لغَيْرِهِ).
شرح نخبة الفكر لفضيلة الشيخ: عبد العزيز السعيد (مفرغ)
القارئ: (فإن خف الضبط فالحسن لذاته.
هذا بيان للحديث الحسن لذاته.
والحسن لذاته:
يعنون به الذي يحكم له بالحسن لا بغيره، فلا يحتاج إلى عاضد يعضده ليكون حسناً لذاته، وإنما هو بمفرده ويكون حسناً).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: (قال المؤلف: (فإن خف الضبط فالحسن لذاته) يعني: فإن خف ضبط الناقل مع استيفاء الشروط المتقدمة المذكورة في قول المؤلف: (وخبر الآحاد بنقل عدلٍ، تام الضبط، متصل الإسناد، غير شاذٍّ، ولا معللٍ، هو الصحيح لذاته) هذه الشروط يجب توافرها، إلا تمام الضبط.
فعلى هذا يقال: خبر الآحاد بنقل عدل خفيف الضبط متصل الإسناد، غير شاذ، ولا معلل هو الحسن لذاته، فاجتمعت فيه شروط خمسة:
- عدالة الراوي الثاني:خفة الضبط.
الثالث:اتصال السند.
الرابع:السلامة من الشذوذ.
الخامس:السلامة من العلة.
فمدار الاختلاف بين الحديث الصحيح والحسن، هو ضبط الراوي.
الحديث الصحيح: يكون تام الضبط، قد تقدم بيان تمام الضبط.
وفي الحسن لذاته: يكون خفيف الضبط، ما هو خفيف الضبط؟
خفيف الضبط يعنى به:من ارتفعت حاله عمن يُضَعَّفُ حديثه، ونزلت عمن يصحح حديثه.
وهذا لا يعرف إلا إذا اطلع الإنسان على مراتب الرواة، وعرف أحوالهم.
ولهذا قال العلماء: إن الحديث الحسن من أصعب أنواع علوم الحديث؛ لأن الضابط في خفة الضبط ليس معلوماً على وجه يصح معه الاعتدال في الحكم دائماً، ولا القياس عليه.
ولهذا نرى في مثل هؤلاء الرجال الذين يحسن حديثهم، أن العالم الواحد يختلف قوله في الراوي، ثم يختلف قوله في الحكم على حديثه.ونرى أيضا أن النقاد من أئمة الجرح والتعديل يختلفون فيه؛ لأن حاله ليست بينةً؛ تارةً يقول العالم: هذا ارتفع عن حد الضعيف إذا قارنه بغيره من الضعفاء.
وتارة يقول:هذا ضعيف. إذا قارنه مع الثقات.
فلهذا مثل هذا النوع ترى في تراجمهم اختلافاً بين العلماء.
وفي بعضهم نرى أن العالم الواحد يكون له في الراوي قولان، وهذا يدل على أنه ليس هناك معيارٌ دقيقٌ لقياس مستوى حفظ هذا الراوي خفيف الضبط، إذا كان ليس هناك شيءٌ محددٌ لمعرفة ضبطه إلا الاطلاع الدائم على كتب الجرح والتعديل، والقراءة في أحوال الرواة؛ فإن الإنسان إذا قرأ مثل هذه المختصرات؛ فإنه يعتمد على كلام المتأخرين ممن لخصوا أقوال الأئمة، والمتأخرون المشهور منهم الذين اعتمد على قولهم الحافظ ابن حجر والذهبي- رحمهم الله-.
الذهبي وابن حجر استعملا ألفاظا تقرب للإنسان خفة الضبط.
فإذا وجدنا أن الذهبي يقول عن رجل: (حسن الحديث، أو جيد الحديث، أو صالح الحديث، أو صدوق)؛ فإن هذا نجعل حديثه حسناً، دلنا على ذلك مقارنة كلام الذهبي بعضه ببعض؛ تراه مثلاً في (الميزان) أحيانا يقول: (فلانٌ صدوقٌ حسن الحديث)، وأحياناً يقول في (الميزان): (صدوق) ثم يقول في كتابه من تكلم فيه وهو موثق يقول: (حسن الحديث).
فإذا قابلت ألفاظه بعضها ببعض وجدت أنه يقصد بها حسن الحديث.
- كذلك:ابن حجر رحمه الله إذا قال في راوٍ في (التقريب): (صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس).
- وكذلك:الذهبي إذا قال: (لا بأس به، أو ليس به بأس)؛ فهذا يكون حديثه حسنا.
- أو قال ابن حجر: (حسن الحديث) خاصةً في غير (التقريب) ، فهذا يكون حديثه حسناً.
أو وجدنا أحدا من العلماء المتأخرين الذين فرقوا بين الصحيح والحسن، كالعراقي ونحوهم، إذا قالوا في الراوي: (حسن الحديث) إنما يعنون به: الحسن الاصطلاحي، ويكون في الراوي خفةً في ضبطه، إذا وجدنا مثل: هذه الألفاظ، هذه تدلنا على أن رواية هذا الراوي للحديث تجعله حديثا حسناً.
رواة الحديث الحسن لا مطعن في عدالتهم،إنما الكلام في حفظهم؛ لأن الراوي الذي يطعن في عدالته دائر بين أمرين:
- إما التوثيق.
-وإما التضعيف.
ليس هناك شيء وسط، فمن عدله في دينه، وعدل حفظه، أو حكم له بالضبط، فهذا يجعله ثقةً، ومن طعن في عدالته؛ فهذا يكون ضعيفاً عندهم؛ فإذا طعن في العدالة وعدل فيها فليس هناك مرتبةٌ متوسطةٌ، ليس هناك إلا الضعف، أو الثقة، والعدالة.
أما إذا طعن في ضبطه، فهو يتأرجح بين ثلاثة أحوال:
-إما أن يكون ثقةً، والكلام فيه لا يضر.
- وإما أن يكون الكلام جاء من طرفين وناقدين كبيرين، ولم يكن هناك مرجح ظاهر، فيكون حديثه حسناً.
- أو أنه يترجح جانب الضعف وتدل المرجحات على ضعفه، فعندئذ يحكم على حديثه بأنه ضعيف.
لكن إذا طعن في عدالة الرجل لا يكون حديثه حسناً.
إما أن يكون الطعن هذا غير ثابت، والرجل ضابط، حافظ؛ فيبقى حديثه صحيحاً، وإما أن يطعن في عدالته مع حفظه، فيكون حديثه ضعيفاً.
أمثلة رواة الحديث الحسن:
- محمد بن عجلان، هذا ممن نص الذهبي على أن حديثه حسن، ولهذا طعن في حفظه.
- محمد بن إسحاق، صاحب (السيرة)، اعتمد المتأخرون تحسين حديثه، وإن كان قد تكلم بعض العلماء في عدالته، لكن الكلام هذا ضعيف في عدالته، إنما كلام الأئمة المعتبرين في توثيقه.
- عاصم بن أبي النجود، (عاصم ابن بهدلة)، هذا أيضا ممن اختلف فيه، واعتمد أن حديثه حسن، فإذا جاءنا حديث فيه عاصم بن أبي النجود مثل: حديث عاصم، عن زر، عن صفوان، قال: ((كنا سفراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن..)) إلى آخر الحديث. هذا الحديث فيه: عاصم، زر ثقة، وابن مسعود صحابي، إذا وجدنا فيه عاصماً هذا فنقول: هذا حديث حسن؛ لأن فيه عاصماً،وعاصمٌ خفيف الضبط، عرفنا خفة الضبط من كلام العلماء فيه، فمثل هذا يقال: هذا حديث حسن لذاته.
إذا جاء لهذا الحديث طريق آخر يُرَقِّيه إلى الصحيح لغيره، فعندنا في هذا الحديث جاء من حديث: أبي الغريف، عن صفوان، وأبو الغريف هذا قال العلماء: صدوقٌ حسن الحديث.
فاجتمع عندنا: راوٍ صدوق (حسن الحديث)، وراوٍ صدوق (حسن الحديث) فهذه الطريق تقوي هذه الطريق، فيصير الحديث صحيحاً لغيره، بمجموع الطريقين يكون صحيحاً لغيره.
إذا عرفنا أن الحديث الحسن يرتقي إلى الصحيح لغيره؛
فيبقى تعريف الصحيح لغيره:
هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه؛ بأن يوجد طريق مثل هذا الحديث الحسن لذاته أو أرفع منه؛ فإذا وجدنا حديثاً صحيحا يقوي الحسن لذاته حكمنا على الحسن لذاته بأنه صحيح لغيره، يعني: ليس بمفرده، وإنما صححناه من أجل غيره، إذا وجدنا مماثلا له يعني حسن لذاته وحسن لذاته نرقيه إلى الصحيح لغيره.
أما لو جاءنا دون الحسن لذاته؛ وجدنا ضعيفاً، فإنه لا يقوي الحسن لذاته؛ لأنه يشترط في المقوِّي أن يكون مماثلاً للمقوَّى، أو أقوى منه، فإن كان مثله رقاه، وإن كان دونه لم يرقه، وإن كان أرفع منه رقاه.
وعلى هذا يقال: الحديث الصحيح لغيره:هو الحسن لذاته إذا اعتضد بمثله أو فوقه. فإذا كان الشاهد أو المتابع دونه فهذا لا يرتقي بالحديث إلى الصحيح لغيره.
فعلى هذا ظهر عندنا أن الحديث الذي تكلم عنه المؤلف، الصحيح لذاته.
ثم تكلم عن الحديث الحسن، وهو الذي استجمع شروطاً خمسة:
(عدالة الراوي، خفة الضبط، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة)
فإذا فقد شرطا من هذه الشروط كان ضعيفاً، إذا كان راويه لم يكن خفيف الضبط، بل دون ذلك، وإذا فقد شرطاً من الشروط الباقية أيضاً فيكون ضعيفاً.
ثم بعد ذلك: إذا عرفنا الحديث الحسن لذاته، يتخرج عليه - الصحيح لغيره، فيكون الصحيح لغيره: هو الحديث الحسن لذاته، إذا اعتضد بمثله أو بما هو فوقه؛ لأن الحديث الصحيح لغيره قال العلماء: لا يعرف إلا بعد أن يعرف الحسن لذاته؛ فصار هذا هو الحديث الحسن).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: ( (وبكثرة طرقه يصحح).
هذا هو الصحيح لغيره، لكن كثرة الطرق لا يعنى بها أي: كثرة، بل لا بد أن يكون الطريق مماثلاً أو أقوى، إلا في حالةٍ واحدةٍ استثناها بعض العلماء: أن يكون عندنا حديثٌ حسنٌ، ثم تأتي طرقٌ أخرى ضعيفةٌ، لكن ليس الضعف شديداً، بحيث إن كثرة هذه الطرق الضعيفة مع هذه الطريقة الحسنة لذاتها تغلب جانب حفظ الراوي، فيرتقي الحديث للصحيح لغيره.
أما لو جاء طريق واحدة دونه وهي ضعيفة لا ترقيه، لكن لو كثرت هذه الطرق الضعيفة كثرةً، ولم يكن هذا الضعف شديداً، واجتمع مع حديث حسن لذاته، فإنه يمكن أن نقول: إن هذه الطرق بمجموعها ترقي هذه الطريقة الحسنة لذاتها إلى درجة الصحيح لغيره).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز السعيد: ( (فإن جمعا)
يعني: إن جمعا بين الحسن والصحيح، بأن قيل: (حديث حسن صحيح).
كما يصنع الترمذي وغيره، وصنعه الدارقطني، وصنعه البغوي في شرح (السنة).
المؤلف يقول: إذا وجدنا حديثا قيل عنه إنه: (حسن صحيح) معلوم أن الحسن يفرق عن الصحيح، فإن قلنا: إنه يريد حسناً خالفنا كلمة الصحيح، وإن قلنا: إنه يريد صحيحا خالفنا كلمة الحسن.
قال المؤلف: هذا ننظر في الحديث الذي يأتينا هل له طريق أو طريقان؟
إن كان له طريقٌ واحدٌ قال: هذا يحمل على أن هذا الذي حكم على الحديث بأنه تردد في الحكم على الحديث، يعني كأنه يقول: (حسن صحيح) يعني: كأنه مرتبة ليس جازماً بأنه صحيح فيرقيه، وليس جازماً بأنه حسن فيبقيه على الحسن، فهو مترددٌ في الحكم؛ فلتردده قال: (حسنٌ صحيحٌ) ، هذا إذا كان له طريق واحدة.
- أما إذا كان له طريقان، فيقول المؤلف: يكون المراد أن هذا الحديث حسن بطريق وصحيح بطريق أخرى، كأن الذي حكم على الحديث نظر إلى الإسنادين، فقال: (حسنٌ) يعني: من هذه الطريق، و(صحيحٌ) من الطريق الأخرى، لكنه لم يفصح بذلك، والجمع بينهما: (حسن صحيح): هذا من المعضلات التي لم يوجد لها حل، وقد ذكر فيها توجيهات كثيرةٌ، لكن ليس عليها معول.
ومنها:كلام المؤلف؛ لأنه وجد أن الترمذي يقول: (حديث حسن صحيح) وليس له إلا إسنادٌ واحدٌ، ورواته من الأئمة المشهورين الذين لا يتردد في ثقتهم، أطلق هذا على أصح الأسانيد، بل على الأحاديث المخرجة في الصحيحين بأصح الأسانيد، وليس له إلا طريقٌ واحدٌ، فهذا يبعد أن يكون الترمذي تردد في هؤلاء الثقات الأئمة الحفاظ.
كذلك: (باعتبار طريقين) هذا أيضا فيه ضعفٌ؛ لأن هذا مبنيٌّ على فيما يظهر تصور نظري، لا عملي؛ لأنه توجد أحاديث خرجت بأسانيد صحيحة وقيل عنها: حسن صحيح. فليس أحد الإسنادين حسناً والآخر صحيحاً، بل كلاهما صحيح، ومع ذلك قيل عنه أنه (حسن صحيح).
والذي يظهر أن العلماء لهم اصطلاح، لكنه ما توصل إليه يعني: ما ظهر هذا الاصطلاح للناس؛ فيحتمل لأن كونه يقوله الترمذي، ويقوله الدارقطني ويقوله من بعدهما، هذا يدل على أنه اصطلاح مفهوم، لكن من كتب في الاصطلاح لم يتوصل إلى نتيجة، أو لا يتوصل إلى هذا الاصطلاح. فالله أعلم به.
ولهذا كل قول قيل في هذه المسألة فهو منتقدٌ، وخاصةً ما يأتي على كلام الترمذي -رحمه الله-؛ لأن أكثر الكلام في الحسن الصحيح عند الترمذي، وهو الذي أكثر العلماء من توجيه قوله، ووصلت الأقوال في توجيه قوله إلى ثمانية أقوال أو أكثر وكلها أقوالٌ منتقدةٌ).
العناصر
القسم الثاني: الحديث الحسن لذاته
أقسام الحديث الحسن:
قسم ابن الصلاح الحديث الحسن إلى قسمين:
القسم الأول: الحسن لذاته
القسم الثاني: الحسن لغيره
المرتبة الثانية: ما اختلف الأئمة في تحسينه وتضعيفه
تعريف الحديث الحسن لذاته
أمثلة للحديث الحسن لذاته
وصف الحديث بأنه حسن مر بمرحلتين:
المرحلة الأولى: قبل أن يصطلح على تعريف للحسن يميزه عن الصحيح
المرحلة الثانية: بعد استعمال لفظ (الحسن) استعمالاً اصطلاحيا ً
علة الحكم بالحسن: خفة ضبط الراوي
الفرق بين خفة الضبط وضعف الضبط
تنبيه: يخطئ بعض الباحثين في طرد هذه العلة من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم قد يحسنون أحاديث في الصحيحين مع أن الراوي قد ضبط حديثه
قاعدة مهمة: الراوي له حال في نفسه، وحال في شيخه، وحال ثالثة في حديثه كله
سبب كثرة أحاديث الرواة المختلف فيهم في الصحيحين
متى يحكم بالصحة على حديث من هو في الأصل خفيف الضبط ؟
منهج البخاري في أحاديث خفيف الضبط
شرح كلام الذهبي: (لا تطمع بتعريف للحسن جامع مانع)
الجهة الثانية: أنهم قد يحسنون حديثاً قامت القرائن على عدم ضبط الراوي له
القرائن التي يحكم بموجبها على حديث خفيف الضبط بالضعف:
القرينة الأولى: مخالفة الثقات
القرينة الثانية: الاضطراب في الحديث
القرينة الثالثة: النكارة في المتن
نكارة المتن يغفل عنها كثير من الباحثين
شروط الحديث الحسن لذاته:
الشرط الأول: عدم المخالفة، وهي (الشذوذ والعلة)
الشرط الثاني: أن لا يكون هذا الحديث من الأحاديث التي ضعف الراوي بسببها
الشرط الثالث: ألا يكون الحديث منكرا
الاحتجاج بالحديث الحسن
توجيه بعض كلام الأئمة في عدم الأخذ بالحديث الحسن
أقسام الرواة:
القسم الأول: رواة متفق على أنهم ثقات
القسم الثاني: رواة متفق على أنهم ضعفاء
القسم الثالث: رواة مختلف فيهم
مسألة: مراد بعض الأئمة بقولهم: حديث حسن صحيح
ذكر من كان من الأئمة يجمع وصف الحسن والصحة على بعض الأحاديث
أولاً: معنى إطلاق الوصفين على الحديث الفرد
ثانياً: معنى: إطلاق الوصفين على الحديث غير الفرد
مراد الترمذي بقوله: (حسن صحيح)
معنى (الحديث الحسن) عند الترمذي:
تعريف الترمذي للحديث الحسن
قول ابن حجر في معنى (الحديث الحسن) عند الترمذي
الاعتراضات على قول ابن حجر في معنى (الحديث الحسن) عند الترمذي
قول ابن دقيق العيد في معنى (الحديث الحسن) عند الترمذي
(الحديث الحسن) عند الترمذي ليس مقصوراً على ما رواه المستور كما فهمه ابن الصلاح
قول ابن رجب في معنى (الحديث الحسن) عند الترمذي
أفضل من تكلم عن معنى الحديث الحسن عند الترمذي ابن رجب في شرح العلل
مسألة: شرح قول الترمذي: (حسن غريب)
توجيه ابن حجر لقول الترمذي: (حسن غريب)
توجيه ابن رجب لقول الترمذي: (حسن غريب)
ترتيب درجات الصحيح عند الترمذي
اختلاف نسخ الترمذي في حكمه على الحديث
القسم الثالث: الصحيح لغيره
تعريف الصحيح لغيره
مثال الصحيح لغيره
أول من تكلم عن الصحيح لغيره
ذكر أول من أضاف (لغيره) إلى الحديث الصحيح
الأوجه المعتبرة التي يرتقي بها الحسن لذاته إلى الصحيح لغيره
القسم الرابع: الحسن لغيره
تعريف الحسن لغيره
مثال الحسن لغيره
ذكر ما يعتبر للحكم على الحديث بأنه حسن لغيره
تعريف (المستور)
الأسئلة
س1: اذكر أقسام الحديث الحسن عند ابن الصلاح.
س2: اذكر مراتب الحديث الحسن لذاته.
س3: قد يخطئ بعض الباحثين في طرد علة الحديث الحسن من جهتين اذكرهما.
س4: ما منهج الإمام البخاري في أحاديث خفيفي الضبط؟
س5: ما معنى قول الذهبي: (لا تطمع بتعريف للحسن جامع مانع)؟
س6: اذكر القرائن التي يحكم بموجبها على حديث خفيف الضبط بالضعف.
س7: عدد شروط الحديث الحسن لذاته.
س8: هل الحديث الحسن حجة؟
س9: ما مراد الترمذي بقوله: حديث حسن صحيح؟
س10: عرف الحديث الصحيح لغيره.
س11: ما هي الأوجه المعتبرة التي يرتقي بها الحديث الحسن لذاته إلى الصحيح لغيره؟
س12: متى يحكم على الحديث بأنه حسن لغيره؟
شرح نخبة الفكر للشيخ عبد الكريم الخضير (مفرغ)
قال الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير: (الحسن لذاته:
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "فإن خف الضبط: فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يصحح، فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين".
يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "فإن خف الضبط فالحسن لذاته" ، المراد إذا خف الضبط يعين قل الضبط المشترط للصحيح لذاته الذي سبق وهو تمامه مع بقية الشروط مع توافر بقية الشروط، قلنا: إن المشترط لصحة الحديث: عدالة الرواة، تمام الضبط، اتصال السند، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة، نشترط للحسن لذاته: عدالة الرواة، الضبط -لا نقول: تمام الضبط- يخف قليلاً، اتصال الإسناد، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة، إذا خف الضبط ولم يصل إلى حد يكون فيه الراوي سيء الحفظ ولا كثير الغلط، فإنه ينزل حديثه من درجة الصحيح إلى درجة الحسن لذاته، فالحسن لذاته ما اتصل إسناده بنقل عدل خف ضبطه، غير معل ولا شاذ، ما اتصل إسناده بنقل عدل خف ضبطه غير معل ولا شاذ، هذا ما اختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله-، وتبعه جمع ممن جاء بعده.
عرفه الخطابي بقوله: "ما عرف مخرجه واشتهر رجاله"، فلم يشترط انتفاء الشذوذ، ولا انتفاء العلة، وفيه مناقشات طويلة حول تعريف الخطابي، وأجوبة لا يتسع المقام لبسطها.
الترمذي عرف الحسن بقوله: "كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا،ً ويرى من غير وجه نحو ذاك"، فاشترط لتسمية الحديث حسناً ثلاثة شروط، لكنه لم يشترط اتصال السند، فيدخل فيه المنقطع بكافة أنواعه، ولم يشترط انتفاء العلة القادحة، فيدخل فيه المعل.
ابن الجوزي عرف الحسن بقوله: "الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل"، هناك مناقشات طويلة حول هذا التعريف حتى قال السخاوي: إنه ليس على طريقة التعاريف، ما فيه ضعف قريب محتمل، هذا ليس على طريقة التعاريف يعني التي من شرطها أن تكون جامعة مانعة، لا شك أن الحسن لكونه مرتبة متوسطة مترددة بين الصحة والضعف صعب الحد، تعريفه فيه صعوبة، حتى حكم جمع من أهل العلم أنه ميئوس من تعريفه، لماذا؟ لأنه مرتبة متوسطة، السقف معروف، والأرض معروفة، لكن الهواء الذي بينهما؟ إما أن يطلع حتى يقرب من السقف، أو ينزل نزولاً شديداً حتى يقرب من الأرض، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
والحسن المعروف مخرجاً وقد
(حمد) –يعني الخطابي- وقال الترمذي: ما سلم
بكذب ولم يكن فرداً ورد
وقيل: ما ضعف قريب محتمل
اشتهرت رجاله بذاك حد من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم قلت: وقد حسن بعض ما انفرد فيه وما بكل ذا حد حصل
كل هذه التعاريف ما حصل بها الحد.
وقيل: ما ضعف قريب محتمل
فيه وما بكل ذا حد حصل
فأقرب التعاريف هو تعريف الحافظ الذي ذكره هنا، "بكثرة طرقه يصحح" الحسن لذاته إذا جاء من أكثر من طريق كل منها حسن بذاته فإنه يصل إلى درجة الصحيح لغيره، فالصحيح لغيره هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، يقول ابن حجر: "لأن للصورة المجموعة قوة تجبر القدر الذي قصر به ضبط راوي الحسن عن راوي الصحيح، عرفنا أن راوي الصحيح في الدرجة العليا من الضبط، وراوي الحسن أقل منه، فإذا جاء من يعضده ممن هو على مستواه نعم، في درجته في الحفظ الذي هو أقل من حفظ راوي الصحيح يجبر بعضهم بعضاً، وينجبر هذا بذاك، ومن ثم تطرق الصحة على الإسناد الذي يكون حسناً لذاته لو تفرد إذا تعدد، يعني إذا تعدد يكون الحديث صحيحاً، وإن لم يكن صحيحاً لذاته بل هو صحيح لغيره، ومثلوا له بحديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) رواه الترمذي، وقال: صحيح لأنه قد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا يقول الحافظ العراقي:
والحسن المشهور بالعدالة
طرق أخرى نحوها من الطرق
إذ تابعوا محمد بن عمرِو
والصدق راويه إذا أتى له
صححته كمتن (لولا أن أشق)
عليه فارتقى الصحيح يجري
ارتقى إلى درجة الصحيح لأن محمد بن عمرو بن علقمة توبع وهو في حفظه شيء، عدل لكن في حفظه شيء ينزل حديثه من درجة الصحيح إلى درجة الحسن.
"فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد وإلا فباعتبار إسنادين" إن جمع الحكم بالصحة والحسن على حديث واحد، يعني إذا قيل: هذا حديث حسن صحيح، هل يمكن أن يقال: هذا حديث حسن صحيح؟ نعم؟ نعم، قال الترمذي كثيراً: "هذا حديث حسن صحيح"، هذا فيه إشكال وإلا ما فيه إشكال؟ ما في إشكال؟ استشكل الجمع بين الصحة والحسن، لا شك أنه مشكل، لماذا مشكل؟ لأنك إذا قلت: هذا حديث حسن حكمت عليه بالدرجة الدنيا، وإذا قلت: صحيح حكمت عليه بأنه بالدرجة العليا، فكونك تجمع بين حكمين مختلفين على شيء واحد هذا لا شك أنه مشكل، يعني لما تنجح في الاختبار ما يقال لك: إيش تقديرك؟ تقول: جيد جداً ممتاز، صحيح وإلا لا؟ تقديرك جيد جداً ممتاز، جيد جداً يعني حسن، ممتاز يعني صحيح، فيه إشكال وإلا ما فيه إشكال؟ فيه إشكال؛ لأنك إذا حكمت عليه بالصحة حكمت بأنه بلغ الدرجة العليا، وإذا قلت: حسن أنزلته عن هذه الدرجة، لا شك أنه مشكل، والإشكال مع اتحاد الجهة، لكن إذا انفكت الجهة انتهى الإشكال، إيش معنى هذا الكلام؟ خلونا في مثالنا العادي إذا قيل: ما تقديرك؟ تقول: جيد جداً ممتاز، إيش جيد جداً ممتاز؟ تقول له: التقدير العام جيد جداً وفي التخصص ممتاز، نقول: كلامك صحيح، مثله إذا قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" إن كان مروي من طرق فهو من طريق صحيح ومن طريق حسن، هذا ما فيه إشكال، ولذا يقول الحافظ: "فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين"، فباعتبار إسنادين واحد صحيح وواحد حسن، طيب، إذا قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، هل نقول: إنه صحيح من طريق حسن من طريق آخر وهو ما له إلا طريق واحد؟ يأتي الاحتمال الأول للتردد في الناقل، يعني الذي حكم على الحديث متردد ما جزم، شاك في الراوي هل يبلغ درجة الصحيح في الضبط والحفظ والإتقان أو ينزل عنها فيكون مما خف ضبطه متردد في الخبر، متردد في حكمه على الحديث تبعاً لتردده في الحكم على ناقله.
على الاحتمال الأول أنه حسن باعتبار طريق صحيح باعتبار طريق آخر هل هو أقوى أو إذا قيل: صحيح فقط؟ أيهما أقوى؟ إذا قيل: حسن صحيح والحديث مروي من طرق بعضها صحيح وبعضها حسن هل هو أفضل وإلا إذا جزمنا وقلنا: حديث صحيح؟ إذا ترددنا، إذا قلنا: حسن صحيح؛ لأنه صحيح من طرق، وحسن من طرق أخرى، يعني هل يضيره أن يكون حسن بعد كونه صحيح؟ أما إذا كان الجمع بين الحكمين التردد هل بلغ أو ما بلغ؟ لا شك أن الصحيح المجزوم به أقوى من المتردد فيه، فإذا جمع وصف الصحة مع وصف الحسن في حديث واحد كقول الترمذي كثيراً هذا حديث حسن صحيح فلا يخلو من حالين:
أن يروى الحديث بإسناد واحد فإطلاق الوصفين ناشئ عن التردد الحاصل من المجتهد في راويه الناقل له، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها؟ وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح دون ما قيل فيه: صحيح فقط؛ لأن الجزم أقوى من التردد.
الثانية: أن يروى بأكثر من إسناد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح فوق ما قيل فيه: صحيح فقط.
هناك أجوبة أخرى عن هذا الإشكال وصل ثلاثة عشر جواباً، هناك جواب ثالث: أن المراد بالحسن الحسن اللغوي دون الاصطلاحي، فيراد بقوله: حسن أن لفظه حسن، لكونه مما فيه بشرى للمكلف وتسهيل عليه وتيسير له وغير ذلك مما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، قال ابن الصلاح: "إنه غير مستنكر –يعني هذا الجواب-، وهناك أجوبة أخرى لا نطيل بذكرها، نعم).