9 Nov 2008
اختلاف التابعين في التفسير
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وكذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابعينَ ، وإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ أَخَذََهُ عنْ أهْلِ الكِتَابِ ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِم حُجَّةً علَى بَعْضٍ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)
القارئ: (" . . . وكذلك ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب , فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض , وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى؛ ولأن نقل الصحابة...").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (أقوى من نقل التابعي أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه و(إيش) بعده؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه عنه أقوى (غير مسموع) طيب و(إيش) بعده؟).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): ( (وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ التابعينَ وإنْ لمْ يَذْكُرْ أنَّهُ أَخَذَهُ عنْ أهلِ الكتابِ)، فكثيرٌ مِن التابعينَ أيضاً يَنقُلُونَ عنْ أهلِ الكتابِ، فيَنْقُلُونَ عنْ كعبٍ وعنْ وهبٍ وعنْ كُتُبٍ أَخَذُوها أيضاً، واسْتَنْسَخُوهَا مِنْ كُتُبِ بني إسرائيلَ.
(فمتى اخْتَلَفَ التابعونَ لمْ يكُنْ بعضُ أقوالِهم حُجَّةً على بعضِ..).
إذا اخْتَلَفُوا في تفسيرِ آيَةٍ فلا يُقالُ: الدليلُ معَ فلانٍ، أو الصوابُ قولُ فُلانٍ، إلاَّ بِحُجَّةٍ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (. . . بالنسبة إلى التفاسير المنقولة عن أهل الكتاب هذه كثرت في التابعين نجد أن طائفة من التابعين ينقلون التفسير عن المفسرين من أهل الكتاب أو عن الذين يحكون قصص الأولين من أهل الكتاب كما يذكرون في اسم أو في لون كلب أصحاب الكهف، وفي أسماء أصحاب الكهف وفي أسماء ملوك القرى ونحو ذلك، هذه كلها لاشك ليست من المنقول عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ولا عن الصحابة وإنما هي منقولة عن طائفة من أهل الكتاب كما ينقل ذلك محمد بن إسحاق بن يسار صحاب السيرة في السيرة وفي غيرها وكما ينقله غيره من المفسرين من التابعين أو تبع التابعين.
تفاسير الصحابة النقل فيها عن بني إسرائيل قليل جداً وفي الغالب أنهم إذا نقلوا النقل الذي يكون فيه ذكر لأمور غيبية لا يحمل على انهم أخذوه من بني إسرائيل بل يحمل في الغالب إلا ما استثني يحمل على أنهم أخذوه تفقهاً من القرآن أو مما جاء في السنة أو سمعوه من بعض الصحابة أو نحو ذلك؛ هذا لأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم قال لهم: ((إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)) وإذا ذكروا الشيء كتفسير للقرآن دون بيان أو دليل على أنه دليل من كلام أهل الكتاب فإن في هذا نوعاً من التصديق لهم وهذا فيما لم يرد ذكره.
لكن هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – في النظر إلى الأقوال التي تجدها في التفاسير ربما كان عليه بعض التحفظ ذلك لأنك تجد في التفاسير كتفسير ابن جرير، وكتفسير ابن كثير، وابن أبي حاتم وغير تلك التفاسير تجد النقول عن الصحابة في أشياء أشبه ما تكون بالإسرائيلية وهذا قد يقال إنه مما لم يصح السند به عنهم يعني أن المنقول عن الصحابة ما قد يكون من آثار بني إسرائيل فيجاب عنه بأحد جوابين:
الأول : أن يكون مما لم يصح بالإسناد عنهم.
الثانـي : أن يقال أنهم نقلوا التفسير بالاستنباط أو بما فهموه من القرآن والسنة ويظن الناس أن هذا عن بني إسرائيل وهذا كثير من الأقوال التي تنسب لابن عباس خاصة قد يظن أنها من الإسرائيليات ولكنها من باب الاستنباط من مثل حديث الفتون ومن مثل نزول القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا ونحو ذلك من التفسيرات يعني طبعاً هذا على كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – يأتي تفصيل لأقوال التابعين في التفسير والأقوال التي عليها دليل معلوم وكيف يمكن استنباط الأدلة في التفسير، والاعتناء بذلك وممن اعتنى به فيما يأتـي من هذه الرسالة المباركة –إن شاء الله تعالى -.
في هذا القدر كفاية وأسال الله – جل وعلا – أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد). مكرر
شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار
قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (الإسرائيلياتُ كما ذَكرَ رحمهُ اللَّهُ ثلاثةُ أقسامٍ:
- قِسمٌ يُصدَّقُ لأنه وَردَ في شرعِنا، فالرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ إذا أَخبرَ عن قضيةٍ من قضايا بني إسرائيلَ فإنَّكَ تَقبَلُها؛ لأنَّها وردتْ إما في القرآنِ وإما في السُّنةِ.
- قِسمٌ يُرَدُّ؛ لأنه يخالفُ ما جاء في شرعِنا مخالفةً صريحةً واضحةً.
- قِسمٌ متردِّدٌ بينَ هذين القِسمَين , وهو الذي قال فيه الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((إذا حدَّثَكُم أهلُ الكتابِ فلا تُصدِّقُوهم ولا تُكذِّبوهم، فإما أن يُحدِّثُوكم بحقٍّ فتكذِّبُوه، وإما أنْ يُحدِّثُوكم بكذبٍ فتُصدِّقُوه)). فمثلًا إذا نظَرْتَ إلى القِسمِ الذي وَردَ في شرعِنا فإنك تَجدُ قصةَ موسى عليه السلامُ مع الخَضِرِ، وهي قصةٌ من قِصَصِ بني إسرائيلَ مرويةٌ بالسنَدِ الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فنَقبَلُ ما وَردَ فيها من التفاصِيلِ , وأنَّ اسمَ صاحبِ موسى الخَضِرُ؛ لأنَّ ذلك ورد في الكتابِ أو في سُنةِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ.
ولكن قد يَردُ في كتبِ أهلِ الكتابِ نسبةُ بعضِ الأشياءِ التي لا تليقُ بالأنبياءِ، والعياذُ باللَّهِ تعالى، وذلك مِثلَ زعمِهم أنَّ لوطًا عليه السلامُ زنَى بابْنَتَيْه، فهذا قَطعًا باطلٌ لا يُقبلُ، وإن كان لا يَزالُ حتى الآنَ موجودًا في كُتُبِهم؛ لأنَّه يخالِفُ شريعةَ النبيِّ أصلًا، فالنبيُّ يَنهَى عن هذا الأمرِ، فكيفَ يَقَعُ فيهِ؟!
أمَّا القِسمُ المتردِّدُ بينَ القِسمَين السابِقَينَ فهذا يُتوقَّفُ فيه، لا يُصدَّقُ ولا يُكذَّبُ، لا يُصدَّقُ؛ لأنه لا يُجزَمُ بصحَّتِه، ولا يُكذَّبُ؛ لأنه لم يَرِدْ في شَرعِنا ما يُكذِّبُه. فيَبقَى متوقَّفًا فيه. ولكنك تَجدُ بعضَ المعاصرِين يَرُدُّ هذا القِسمَ من الإسرائيلياتِ ويَجزِمُ ببطلانِه بحُجَّةِ غرابَتِه أو عدمِ قبولِ العقلِ له.
ومثالُ ذلك ما ذَكرهُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قولِه تعالى: {واتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَليلًا}. مِن أنَّ إبراهيمَ عليه السلامُ أصابَتْهُ مجاعةٌ فذَهبَ إلى أخٍ له في المَوْصِلِ فلم يَجِدْهُ –وكان أرادَ أن يَمتارَ منه – فلما أراد أن يَرجعَ ملأَ الجِرابَ الذي معه تُرابًا واستَحَى أن يَرجِعَ إلى أهلِه - يعني سارَةَ - وليس معه شيءٌ، فلمَّا وَصلَ إلى البيتِ طَرحَ الجِرابَ الذي معه، وكان مُتْعَبًا فذهبَ لينامَ. فلما استيقظَ وجدَ رائحةَ الطعامِ في البيتِ، فقال لزَوْجَتِه: من أين لك هذا الطعامُ؟ قالتْ: من خَلِيلِك الذي ذَهَبْتَ تمتارُ مِنه. فقال: إنما هو مِن خليلي الرَّحمنِ. فلذلك سُمِّيَ خليلَ اللَّهِ.
فهذه القصةُ إذا قلتَ: إنَّ الضابِطَ في قبولِ الإسرائيلياتِ هو العقلُ. فإنَّك تَجدُ أن العقولَ قد تختلِفُ في قبولِها، وكذلك إذا قلتَ: إن الضابِطَ في عدمِ قَبولِها هي الغرابةُ. فالغرابةُ وصفٌ غيرُ منضَبِطٍ.
كذلك من الإسرائيلياتِ ما وَردَ أنَّ بني إسرائيلَ كانوا يستحمُّون وهم عُراةٌ، وكان موسى عليه السلامُ لا يستحِمُّ معهم, بل يستحِمُّ وحدَه، فقال بنو إسرائيلَ: إنَّ موسى ما ترَكَ الاستحمامَ معهم إلا لأنه آدَرُ، وفي يومٍ من الأيامِ كان موسى يستحِمُّ وحدَه فوضَعَ ثيابَه على صخرةٍ، فلما انتهى من الاستحمامِ خرَجَ لأخذِ ثيابِه، فانطلق الحجَرُ يجري بثيابِه، فأخذ موسى عصاه, ولَحِقَ الحجَرَ, وهو يقولُ: ثوبي حجَرُ، ثوبي حجَرُ، فمَرَّ في سوقِ بني إسرائيلَ، فما رأى بنو إسرائيلَ أحسنَ منه خَلْقًا، حتى وقفَ الحجَرُ, وتَعِبَ هو من شدَّةِ الرَّكْضِ، فضربَه موسى عليه السلامُ حتى أوْجَعَه, ولَبِسَ ثيابَه.
فهذه القصةُ قد يقولُ بعضُهم: إنَّ فيها غرابةً. مع أنها ثابِتةٌ، فقد رواها البخاريُّ في صحيحِه في تفسيرِ قولِه تعالى: {يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تَكونُوا كالذين آذَوْا مُوسَى فبرَّأَهُ اللَّهُ مما قالوا وكان عندَ اللَّهِ وجِيهًا}.
والمقصودُ أنَّ الغرابةَ لا يُمكنُ أن تكونَ مقياسًا لرَدِّ الإسرائيلياتِ؛ لأنها غيرُ منضبطةٍ، بل الغرابةُ نسبيةٌ، كما أنَّ العقولَ نسبيةٌ، ولهذا قال الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((لا تُصدِّقُوهم ولا تُكذِّبوهم، فقد تُصدِّقُون بباطلٍ وقد تكذِّبُون حقًّا)) .
ولكن إذا وَردَ في الإسرائيلياتِ شيءٌ منسوبٌ إلى الأنبياءِ يُخالِفُ معتقدَ الأنبياءِ وشرائِعَهم، فهذا يُعرفُ قَطعًا أنه باطلٌ؛ لأنه يخالِفُ الشريعةَ. ولكنَّ الشريعةَ لا تَمنعُ مثلَ هذه الأخبارِ الغريبةِ.
وهناك مسألةٌ أُخْرى تتعلَّقُ بالإسرائيلياتِ خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالأنبياءِ, وهي قضيةُ العصمةِ، فبعضُهم إذا أراد أن يَرُدَّ بعضَ الإسرائيلياتِ قال: هذه منافيةٌ لعصمةِ الأنبياءِ.
مع أنَّ العصمةَ لا تعني عدمَ وقوعِ الخطأِ من النبيِّ مُطلقًا، وإلا فإنَّ الأنبياءَ قد يُخطِئون كما وقَعَ لموسى لما قتَلَ القِبْطيَّ، ولآدَمَ لمَّا أكَلَ من الشجرةِ وللرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في قضيةِ أُسارى بدرٍ وغيرِ ذلك.
فالعصمةُ إنما تكونُ فيما يتعلَّقُ بالتبليغِ، وهذه لا خلافَ فيها، أما العصمةُ عن الصغائرِ فإنما تدلُّ على أنَّ الأنبياءَ إذا أخطئُوا لا يُقَرُّون على خَطئِهم بل ينزلُ الوحيُ بالصوابِ ويُغفرُ لهم خطؤُهم، كما هو واضحٌ في القرآنِ من قَصصِ موسى وآدَمَ عليهم السلامُ ممَّن ذَكرَ اللَّهُ في القرآنِ مغفرَتَه لذُنوبِهم وتجاوُزَه عن أخطائِهم. ولهذا قال الحسَنُ البصريُّ: إنَّ اللَّهَ سبحانَه وتعالى لم يَذكُرْ عيوبَ الأنبياءِ ليُزْرِيَ بهم، وإنما ذَكرَهم لتَقْتَدُوا بهم في المغفرَةِ بأنْ تَطلبُوا المغفرةَ من اللَّهِ.
فإذا قال أحدُهم: هذا يخالِفُ العصمةَ، فالجوابُ عنه أن يقالَ: ما المرادُ بالعصمةِ عندَكَ؟ فقد يكونُ المرادُ بالعصمةِ عندَه أنَّ النبيَّ لا يَقعُ في أيِّ خطأٍ، كما يرَى بعضُ الصوفيَّةِ, ولهذا تجِدُهم يُأَوِّلون الآياتِ التي فيها نسبةُ الخطأِ إلى الأنبياءِ ويُحرِّفُونها لتتَّفِقَ مع مفهومِهم للعصمةِ، كما فعلَ المعتزلةُ في تأويلِ آياتِ الصِّفاتِ حتى تتَّفِقَ مع آرائِهم.
فمثلًا قولُه تعالى: {عَبَسَ وَتَولَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. هذا عتابٌ صريحٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وهو يدلُّ على أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قد أخْطَأَ، ومع هذا نَجِدُ أنَّ بعضَهم يقولُ: إنَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لم يُخطِئْ وإنما تَركَ الأَوْلى؛ لأنَّ الخطَأَ عندَه يَقدَحُ في العصمةِ حسَبَ مفهومِه.
ومعلومٌ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بَشرٌ يُحِبُّ ويَرضَى ويَكرَهُ ويَسخَطُ ويأكُلُ ويَشرَبُ ويَنامُ مِثلَ غيرِه من البَشرِ، فلا يتميَّزُ عن الناسِ بشيءٍ إلا بدليلٍ.
فمثلًا تميُّزُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ واختصاصُه ببعضِ الخصائصِ كطِيبِ رائَحةِ عرَقِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وقوَّتِه في الجِماعِ، وكونِه تنامُ عيناه ولا ينامُ قلبُه، ونحوِ ذلك، مِثلُ هذه الخصائصِ لا يمكنُ أن تَثبُتَ إلا بالدليلِ، فما وَردَ فيه دليلٌ صحيحٌ من ذلك يُحكمُ به، وإلا فإنَّ الأصلَ أنَّ الأنبياءَ كغيرِهم من الناسِ.
وهذا خلافًا للصوفيةِ ومَن وافَقَهم ممَّن قالَ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ متَّصِفٌ بالكمالِ المُطلَقِ، وإنه لا يُخطِئُ بَتاتًا، وهذا بلا شكٍّ مخالِفٌ لظاهِرِ نُصوصٍ كثيرةٍ جدًّا في الكتابِ والسُّنةِ.
فالعصمةُ إذًا لها ثلاثةُ جوانبَ:
أحدُها : فيما يتعلَّقُ بالتبليغِ, وهذا لا شكَّ أنه معصومٌ فيه قطعًا.
الثانـي : أنه إذا أخطأَ بـُيِّنَ له خطؤُه, وغُفِرَ له ذَنْبُه.
الثالثُ : أنه فيما يتعلَّقُ ببشَريَّتِه فالأصلُ فيه أنه كالبشرِ إلا ما دلَّ الدليلُ على تميُّزِه فيه.
فإذا تعلَّقَ الأمرُ بالأنبياءِ فإنَّ العصمةَ ينبغي أن تُقاسَ بالمقاييسِ الشرعيةِ, وليس بالمقاييسِ العقليةِ التي هي مَحَلُّ خلافٍ وجدَلٍ.
إذا أردتَ أن تطبِّقَ هذا الكلامَ على مروياتِ التفسيرِ من الإسرائيلياتِ، فإنك تَجِدُ مثلًا في قصةِ يوسفَ عليه السلامُ، وكيف أخبرَ الصحابةُ والتابعون عن قضيةِ هَمِّ يوسفَ عليه السلامُ بامرأةِ العزيزِ الوارِدِ في الآيةِ.
فقد سُئِلَ ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما – وهو حَبْرُ الأمَّةِ وتَرجُمانُ القرآنِ والمؤيَّدُ بدعوةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ – ما بَلغَ مِن هَمِّ يوسفَ؟ فقال: جَلسَ منها مَجلِسَ الخاتِنِ، وفي روايةٍ: الخائنِ ومعناهما متقارِبٌ.
فهذه روايةٌ إسرائيليةٌ وردتْ عن ابنِ عباسٍ، وهو عربيٌّ فصيحٌ وصحابيٌّ جليلٌ, وقد فسَّرَ الهمَّ بهذا المعنى، فَلِمَ لا تَقبلُ منه هذا التفسيرَ كما تَقبلُ منه مروياتِه الأخرى في اللغةِ والتفسيرِ والعقائدِ؟
وليس في هذا التفسيرِ ما يُخالِفُ العصمةَ؛ لأنَّ المفسِّرين اتَّفَقُوا على أنه لم يواقِعِ المعصيةَ، ولم يتجاوَزْ مرحلةَ الهَمِّ.
ومع هذا فإنَّكَ تجِدُ بعضَ المتأخِّرين يَطعَنُ في هذا التفسيرِ لكونِه مخالِفًا للعصمةِ في رأيِه، ويتأوَّلُ الآيةَ ببعضِ التأويلاتِ، فيقولُ: إنه لم يَهُمَّ أصلًا، أو: إنه همَّ بضَرْبِها، إلى غيرِ ذلك من التأويلاتِ الباطِلَةِ التي ليس عليها دليلٌ.
وممن قال بقولِ ابنِ عباسٍ تلميذُه مجاهدٌ وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ وابنُ قتيبةَ وابنُ الأنباريِّ وأبو جعفرٍ النَّحَّاسُ، وغيرُهم .
وكونُ يوسفَ عليه السلامُ وصَلَ إلى درجةِ الهمِّ, ثم رجَعَ عن المعصيةِ أَبْلَغُ في الدلالةِ على قوَّةِ إيمانِه عليه السلامُ؛ لأنَّ إزالةَ الهمِّ الذي وَصلَ إليه على ما قالَه ابنُ عباسٍ أصعَبُ على النَّفْسِ وأَثْقَلُ على المرءِ مِن الهمِّ الذي هو مجرَّدُ خاطرٍ عابرٍ.
وقد نبَّه على هذا شيخُ الإسلامِ, وذَكرَ حديثَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((ومَنْ همَّ بسيئةٍ فلم يَفْعَلْها كُتِبَتْ له حسنةً كاملةً)) وأنَّ يوسفَ عليه السلامُ لم يتجاوَزْ مرحلةَ الهَمِّ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى أنْقَذَهُ بما معه من الإيمانِ, وبرَّأَهُ من هذه المعصيةِ فلم يَقتَرِفْها، وهو بَعدَ المعصيةِ – كما يقولُ شيخُ الإسلامِ – أعلى منه قبلَ المعصيةِ؛ لأنه همَّ بسيئةٍ فلم يَعملْها فكُتِبَتْ له حسنةً كاملةً، فصار مقامُه أعلى، كما حَصلَ للعبدِ الذي حُبِسَ في الغارِ مع زَميلَيْهِ فأَخبَرَ أنه يُراوِدُ ابنةَ عمَّهِ عن نَفسِها، فلما أمْكَنَتْهُ من نفسِها وجَلسَ منها مَجلسَ الخائِنِ قالتْ له: اتَّقِ اللَّهَ, ولا تَفُضَّنَّ الخاتَمَ إلا بحقِّه. فنَـزَعَ عنها، فهذا يدلُّ على قوَّةِ إيمانِه, ولذلك استجابَ اللَّهُ دعاءَه فنَجا من الغارِ.
فإذا قيلَ: إنَّ يوسفَ عليه السلامُ قد همَّ بهذا الهمِّ فليس في ذلك ما يَقدَحُ من عِصمَتِه أو يَنْقُصُ من قدْرِه، بل فيه دلالةٌ على قوَّةِ إيمانِه عليه السلامُ وعَظمةِ قَدْرِه عندَ ربِّه.
والمقصودُ أنَّ مِثلَ هذه الموضوعاتِ لا تُؤخَذُ بالعقلِ المجرَّدِ، وإلا لم تَسلَمْ جميعُ الإسرائيلياتِ من الردِّ.
وليس معنى هذا أنه يَجِبُ أخذُ جميعِ الإسرائيلياتِ، ولكن ينبغي أنْ يَنْتَبِهَ مَن يَنقُدُ الإسرائيلياتِ ويرُدُّها مطلقًا إلى أنَّ روايةَ الإسرائيلياتِ كانت مِن منهجِ السَّلفِ، وأنه إذا انتقدَ الأخذَ بالإسرائيلياتِ فإنه ينتَقِدُ منهجًا كان سائدًا عندَ السَّلفِ من الصحابةِ والتابعين وأتباعِ التابعين، وهُمْ في القرونِ المفضَّلةِ الأولى، وأهلُ العِلمِ والعملِ، فكيف خَفِيَ عليهم أمْرُ الإسرائيلياتِ وظَهرَ للمتأخِّرين أنَّ تَرْكَ الإسرائيلياتِ أوْلى ؟!
وهناك أمرٌ آخَرُ، وهو أنَّ الأصلَ في التفسيرِ بالإسرائيلياتِ أنه من بابِ التفسيرِ بالرأيِ، وهذه قاعدةٌ مُهمَّةٌ ينبغي التركيزُ عليها. وذلك أنَّ المفسِّرَ إذا رأى أن هذه الإسرائيليةَ تفسِّرُ هذه الآيةَ، فإنَّ مجرَّدَ الاستنباطِ بحسَبِ الرأيِ. وقد تكونُ هذه الإسرائيليةُ مروِيَّةً عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وقد تكونُ مروِيَّةً عن بني إسرائيلَ.
فمثلًا قولُه تعالى: {ولقد فَتَنَّا سُليمانَ وأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} إذا رجعتَ إلى كتبِ التفسيرِ عن هذه الآيةِ فإنكَ تَجِدُ روايةً إسرائيليةً مأخوذةً عن بني إسرائيلَ, وهي خبرُ الجرادةِ وقصةُ خاتمِ سليمانَ الذي كان يَملِكُ به الجِنَّ، وهي قصةٌ معروفةٌ ومشهورةٌ.
وتَجِدُ أيضًا تفسيرًا آخَرَ للجسَدِ، ولكنه مرويٌّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فقد روى البخاريُّ تحتَ هذه الآيةِ قصةَ سليمانَ لمَّا قال: لأطوفَنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ تَلِدُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ غلامًا يُجاهِدُ في سبيلِ اللَّهِ. فقال له أحدُ جُلَسائِه أو قال له المَلَكُ: قلْ إن شاءَ اللَّهُ. فلم يَستثْنِ – أي: لم يَقلْ إن شاءَ اللَّهُ – فولدتْ له امرأةٌ واحدةٌ نصفَ غلامٍ.
فهذا خبرٌ إسرائيليٌّ صحيحٌ؛ لأنه رُوي بسندٍ صحيحٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ, ولكنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لم يَذكُرْ أنَّ هذا الخبَرَ تفسيرٌ لهذه الآيةِ، وإنما ذَكرَ هذا الخبرَ مجرَّدًا عن الآيةِ.
فجاء المفسِّرُ إلى هذه الآيةِ، وقالَ: قولُه تعالى: {وأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} هذه الآيةُ يفسِّرُها الخبرُ الذي رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في شأنِ سليمانَ عليه السلامُ.
وجاء مفسِّرٌ آخَرُ, وقال: هذه الآيةُ يفسِّرُها خبرُ الجرادةِ وقصةُ خاتمِ سليمانَ عليه السلامُ. والحديثُ المرويُّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ هو خبرٌ صحيحٌ لكنه ليس هو المرادَ من الآيةِ.
إذا رَجَعْنا إلى الآيةِ {وأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} وجَدْنا أنَّ معناها واضحٌ لا يحتاجُ إلى معرفةِ القِصةِ وتفاصيلِها، فهي تُخبرُ أنَّ اللَّهَ تعالى ابتَلَى سليمانَ بإلقاءِ جسدٍ على كرسِيِّه، والجَسدُ معروفٌ في اللغةِ , ولكنَّ شَكلَ هذا الجَسدِ وصِفَتَه لم تُذكرْ، وليست مُهمَّةً، المُهمُّ أنْ أَعرفَ أنَّه أُلقِيَ على كُرسِيِّهِ جَسدٌ، وأنَّ هذا كان فتنةً له، وأنه عَرفَ أنه أخطأَ فاستغفَرَ ربَّه وأنابَ إليه، وهذا كافٍ في تفسيرِ الآيةِ.
إذًا فالإسرائيلياتُ المذكورةُ في قصةِ الجرادةِ وخاتمِ سليمانَ فيها غرابةٌ شديدةٌ جدًّا، ولكن يَجِبُ أن تَعلمَ أنَّ هذا جاءَ من طريقِ الرأيِ.
إذًا: القاعدةُ: أنَّ أيَّ روايةٍ إسرائيليةٍ يُفسَّرُ بها كتابُ اللَّهِ فهي من بابِ التفسيرِ بالرأيِ؛ لأنَّ المفسِّرَ يرى أنَّ هذا الخبرَ الإسرائيليَّ يُفسِّرُ هذه الآيةَ. فهذا من عَملِ المفسِّرِ، وليس داخلًا في المأثورِ إطلاقًا.
فيَجبُ هنا أن نفرِّقَ بينَ قضيتَين هما: كونُ الإسرائيليةِ منقولةً، وكونُها تفسِّرُ الآيةَ. وألَّا نَخلِطَ بينَهما؛ لأنَّ الأُولَى من بابِ المأثورِ والثانيةَ من بابِ الرأيِ.
هذا ملخصٌ سريعٌ فيما يتعلَّقُ بالإسرائيلياتِ، أرجو أن يكونَ فيه وضوحٌ وصوابٌ، وقد كثُرَ الكلامُ حولَ هذه القضيةِ، فترى كثيرًا من المعاصرِين يقولُ مثلًا: عيوبُ تفسيرِ ابنِ جريرٍ مثلًا أنه يَروي الإسرائيلياتِ، وابنُ كثيرٍ وإن كان مَنهَجُه نقدَ الإسرائيلياتِ إلا أنه أخلَّ بهذا المنهجِ في بعضِ المواطِنِ. مع أن نَقدَ الإسرائيلياتِ بهذا الأسلوبِ الذي يُريدُه هؤلاءِ المتأخِّرُون لم يكنْ من مَنهجِ السَّلفِ في التفسيرِ.
وقولُ المصنِّفِ: "فمَتَى اختلف التابعون لم يكنْ بعضُ أقوالِهم حُجَّةً على بعضٍ. " هذه قاعدةٌ وهي أنَّ التابعين– وكذلك الصحابةُ – إذا اختلفوا على أكثرَ مِن قولٍ فلا يكونُ قولُ بعضِهم حُجَّةً على بعضٍ، فلا يقولُ أحدٌ مثلًا: أنا أختارُ هذا القولَ؛ لأنه قولُ مجاهدٍ؛ لأنه إمامُ التابعين، أو يختارُ قولَ عكرمةَ؛ لأنه أَعلمُ الناسِ بالتفسيرِ، ويقدِّمُه على أقوالِ غيرِه من التابِعين؛ لأن أقوالَهم ليست حُجَّةً على بعضِهم البعضِ.
فهذه الطريقةُ ليست هي الطريقةَ الصحيحةَ في ترجيحِ الأقوالِ بعضِها على بعضٍ، بل ينبغي الرجوعُ في ذلك إلى ما أيَّدَه الدليلُ). مكرر