9 Nov 2008
احتمال اللفظ لأكثر من معنى
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمن
التَّنازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيه
مُحْتَمِلاً لِلأَمْرَينِ ، إِمَّا لِكَونِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَةِ
كَلَفْظِ: (قَسْوَرَةٍ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي ويُرادُ بِهِ الأَسَدُ ، وَلَفْظِ : (عَسْعَسَ )
الَّذِي يُرادُ بِهِ إِقْبالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ . وَإِمَّا
لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الأَصْلِ ، لَكِنَّ المُرادَ بِهِ أَحَدُ
النَّوعَيْنِ ، أَوْ أَحَدُ الشَّيئينِ ؛ كَالضَّمائرِ فِي قَوْلِهِ : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) [سُورَةُ النَّجْمِ : 8-9 ].
وكَلَفْظِِ :(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) [سُورَةُ الْفَجْرِ : 1-3]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُرادُ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلفُ ، وقَدْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ .
فَالأَوَّلُ
: إمَّا لِكَوْنِ الآيةِ نَزَلَتْ مَرَّتينِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا
تَارَةً وَهَذَا تَارَةً ، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ
يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ ، إِذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثرُ
فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ والشَّافعيَّةِ والْحَنْبَلِيَّةِ ، وَكَثِيرٌ
منْ أَهْلِ الكَلامِ ، وَإمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِِ مُتَوَاطِئًا
فَيَكُُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِِيصِهِ مُوجِبٌ ، فَهَذَا
النَّوْعُ إِذَا صَحَّ فِيهِ القَوْلانِ كَانَ من الصِّنْفِ الثَّانِي).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)
القارئ: ("ومن
التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين إما لكونه
مشتركاً في اللغة كلفظ قسورة الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد ولفظ عسعس
الذي يراد يه إقبال الليل وإدباره, وإما لكونه).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب
اللفظ المشترك سبق أن عرفناه بأنه: ما اتحد لفظه وتعدد معناه , هذا اللفظ
المشترك ما اتحد لفظة وتعدد معناه؛ لأن هذا اللفظ مشترك بين معنيين مثاله:
القسورة، القسورة مشترك بين الرامي وبين الأسد {كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُّستَنفِرَة فَرَّت مِن قَسوَرَة}. حمر الوحش إذا رأت الرامي فرت والحمر الأهلية إذا رأت الأسد فرت , فهل المراد بالقسورة الرامي أو المراد بذلك الأسد؟
بعضهم
قال: المراد الأسد وبعضهم قال: المراد الرامي , وما دام اللفظ صالحاً
للمعنيين بدون تناقض فإنه يحمل على المعنيين جميعاً. وكذلك{والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس}
عسعس وايش معناه؟ لا أقبل وأدبر ما يمكن , بعضهم يقول: عسعس يعني أدبر
وبعضهم يقول: عسعسيعني أقبل , مفهوم؟ اللفظ محتمل إن وُجد ما يرجح أحد
المعنيين أخذنا به وإلا قلنا اللفظ صالح للأمرين فهو شامل فيكون أقسم
بالليل عند إقباله وعند إدباره , وإذا قلنا إن عسعس بمعنى أقبل ليقابل قوله:{وَالصُّبُح إِذَا تَنَفَّسَ} صار من هذه الناحية أرجح نعم.
هل تعرف يا عبد الرحمن بن داود مشتركاً غير القسورة وغير عسعس؟
_.............
_ (العين) وإيش مشترك بين
_...........
_وإيش بعد؟ والذهب والقَرء القَرء ما هو بالقُرء , القَرء مشترك بين الحيض والطهر.. كيف؟
قائل: يقول: والجاسوس العين
الشيخ: لا الجاسوس العين يكون مجاز , عند أهل المجاز , وعينها نفسها هذا توكيد ما هو مستقل
القارئ: ("وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين....سقط..... {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} وكلفظ..."
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب الضمائر ثم دنا , الفاعل من؟ الفاعل هو لكن من هو؟ طيب{ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} هل دنا يعود على الله أو يعود على جبريل؟
قال أحدهم: جبريل.
الشيخ: طيب قول قوله: {فأوحى إلى عبده}يعود على الله هذا هو الصحيح من أقوال المفسرين وبعضهم قال: إن الضمائر واحدة لله.
سائل: كيف فسروا دَنَا؟
الشيخ: دنا دُنُواً يليق بجلاله عز وجل مثل ما قال عز وجل: يدنو ربنا عشية عرفة إلى الخلائق..
سائل: {قاب قوسين أو أدنى} هل هي متعلقة بدنا؟
الشيخ: إي نعم يصح أن نقول: دنو الله عز وجل قاب قوسين مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (غير مسموع) هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ))
سائل: أو أدنى , أو أقل من ذلك.
الشيخ: لا هذه أو سبق لنا وإيش معناها عند المفسرين؟ بمعنى بل أو للتحقيق؟ بمعنى بل والهمزة والهمزة (غير مسموع)بمعنى بل كقوله: {فأرسلناهم إلى مائة ألف أو يزيدون}
أي بل يزيدون , وبعضهم قال:لا إن (أو) هذه لتحقيق ما سبق كأنه يقول: إن لم
يزيدوا لم ينقصوا، كما تقول عندي ألف درهم أو أكثر , أنت لو قلت عندي ألف
درهم أو أكثر هل يفهم الناس أن عندك أكثر من ألف درهم؟ لا أكثر الناس
يفهمون المعنى أن الذي عندك لا ينقص عن ألف درهم , بل إما أن يزيد أو يكون
بقدره نعم طيب
القارئ: (وكلفظ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) وما أشبه ذلك , فمثل هذا قد فيجوز أن يراد به كل المعاني التي قالتها السلف وقد لا يجوز ذلك....سقط......والأول
إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها تارة هذا وأُريد بها هذا تارة وهذا
تارة , وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه إذ قد جوز ذلك أكثر
فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام , وإما لكون
اللفظ متواطئاً فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع إذا صح فيه
القولان كان من الصنف الثاني".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب أظن واضح الكلام الآن طيب يقول المؤلف: "ومن التنازع الموجود بينهم ما
يكون اللفظ فيه محتمل للأمرين" وذكر أن اللفظ يكون محتمل للأمرين بإحدى
واسطتين الأولى أن يكون اللفظ أن يكون مشتركاً كلفظ العين وما أشبهها ,
والثاني أن يكون متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد
الشيئين. المتواطئ ما هو؟ هو الذي طابق لفظه معناه مثل: إنسان حجر – شمس –
قمر وما أشبهها , هذا نسميه متواطئ لأن اللفظ يطابق المعنى فهما متواطئان
أي متفقان.
يقول
المؤلف: إما متواطئ لكن المراد به أحد النوعين , يكون هذا المتواطـئ له
نوعان فيراد به أحدهما ولكنّ هذا في الواقع قليل جداً , إلا أنه قد يوجد
ويكون تعيين أحد النوعين بحسب السياق , فمثلاً كلمة: (مع) في اللغة العربية
هي متواطئة في معناها , إذ معناها المقارنة والمصاحبة لكنها أنواع بحسب ما
تضاف إليه , فإذا قلت: الماء مع اللبن فهو مختلط , وإذا قلت: الزوجة مع
زوجها فمعناه بقاء عقد الزواج بينهما , وإذا قلت الضابط مع الجند فمعناه
أنه يراعيهم , هو لازم المصاحبة بذاته معهم يراعيهم ويلاحظهم , فكلمة (مع)
الآن تجد أنها كلها مطابقة فيها مصاحبة لكنها اختلفت هذه المصاحبة , اختلفت
أنواعها باعتبار ما تضاف إليه , ومن ذلك الضمائر التي أشار إليها المؤلف ,
فإنها هل نقول: إذا اختلفوا فيها هذا اختلاف تنوع ولا تضاد؟ نقول: إذا
كانت الضمائر صالحة للمعنيين فهو اختلاف تنوع , وكل واحد منهم ذكر نوعاً ,
وإذا لم تكن صالحة فهو اختلاف تضاد.
ثم
إنه تعرض المؤلف رحمه الله إلى أن المشترك هل يجوز به أن يراد معنياه.
والصواب أنه يجوز إذا لم يتنافيا مثل ما مر في (قسورة ) يجوز أن يراد بها
المعنيين , ويكون كل معنى كالمثال , يكون أن الله عز وجل أراد بقوله: {فرت من قسورة}
أي من الرامي فهم كحُمُر الوحش إذا رأت الرامي , أو المراد به الأسد فهم
كالحمير الأهلية إذا رأت الأسد فرت؛ لأنه ما عندنا قرينة تؤيد أحد المعنيين
, واللفظ صالح لهما ولا مناقضة بينهما , أما لو كان بينهما مناقضة فإنه لا
يمكن أن يراد به المعنيان مثل (القَرء) بمعنى الطهر وبمعنى الحيض , انتبه:
هل يمكن أن نقول: الآية صالحة للمعنيين جميعاً؟
الطلبة: لا.
الشيخ: لماذا؟ لأنه يختلف الحكم , ما يمكن يجتمعا. ومثل من راح في الساعة الأولى...
الوجــه الثانـي
الرواح
يطلق على المسير بعد زوال الشمس , ويطلق على مجرد المسير , فهو مشترك بين
مطلق الذهاب وبين نوع معين من الذهاب وهو المسير بعد زوال الشمس , هل يمكن
الجمع بينها؟ ما يمكن الجمع لأنك إذا قلت: من راح في الساعة الأولى معناه
إن الساعات (تبتدي) من زوال الشمس , يقول: الرواح والزوال هو الذهاب بعد
الزوال معناه ما (يبتدي) رواحك للجمعة إلا بعد زوال الشمس , وعلى هذا تكون
الساعات كم؟ تكون دقائق؛ لأن الإمام إذا زالت الشمس حضر , وإذا قلنا بأن
الرواح مطلق الذهاب صار الرواح يبتدأ من أول النهار إي نعم.
ردا على مداخلة غير مسموعة: لا من طلوع الشمس.نعم.
_.....................
الشيخ:
نعم الفجر وليالٍ عشر قوله: الشفع والوتر هذا (اللي) يريد , وأما والفجر
وليال عشر.. حتى ليالٍ عشر فيها قولان , بعضهم قال: اليالي العشر هي ليالي
عشر رمضان , وبعضهم قال: الليالي العشر هي عشر ذي الحجة , فصار فيها قولان
لاشتراك اللفظ.
كذلك الشفع والوتر بعضهم قال: الوتر الله والشفع المخلوق؛ لأن الله قال: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وتر)) , وبعضهم قال: الشفع والوتر إنه العدد؛ لأن كل الخلائق متعددة إما إلى شفع وإما إلى وتر , واللفظ صالح للمعنيين جميعاً.
سائل: (غير مسموع) الصلاة.
الشيخ: لا , الصلاة وتر , وتر الصلاة , لكن صلاة الليل تختم بالوتر فتكون وتراً , وصلاة النهار تختم بالوتر فتكون وترا.
قائل: لا هناك في أربع ركعات وصلاة الظهر أربع ركعات.
الشيخ: والعصر؟
القائل: أربع ركعات شفع.
الشيخ: والمغرب.
القائل: ثلاث ركعات وتر.
الشيخ: هذه أوترت تلك , يعني المغرب جعلت ما سبق وتراً , ولهذا قال الرسول: ((إنها وتر النهار)) (غير مسموع) صلى واحدة فأوترت له ما قد صلى , إي نعم.
سائل: والراجـح؟
الشيخ: الراجـح إنها شاملة للمعنيين , كلما كانت الآية تتضمن معنيين لا يتنافيان تحمل عليهما.نعم.
سائل: (غير مسموع) الآية حملت معنيين متناقضين.
الشيخ: لا غير متناقضين؛ لأنه يجوز أن الله تعالى يقسم بالليل في حال إقباله وفي حال إدباره لأن كله من آيات الله عز وجل إي نعم).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): (يقولُ: ( . . . ومِن التنازُعِ المنقولِ عنهم ما يكونُ اللفظُ فيهِ مُحْتَمِلاً للأمْرَيْنِ..)
هذا
أيضاً قدْ يقولونَ: إنَّهُ اختلافٌ، ولكنَّ اللفظَ يَعُمُّ المعنييْنِ،
مُحْتَمِلاً للمعنييْنِ، إمَّا لكونِهِ مُشترِكاً في اللفظِ، يعني: هناكَ
ألفاظٌ مشترَكَةٌ يَشْتَرِكُ فيها مَعنيانِ، تُسَمَّى الألفاظَ
المشتَرَكَةَ التي تَصْدُقُ على عِدَّةِ معانٍ، كلفْظِ العينِ تَصْدُقُ على
العينِ الباصرةِ، كقولِهِ تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}، وتَصْدُقُ على العينِ النابعةِ كقولِهِ: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً}، وتَصْدُقُ أيضاً على العينِ الذي هوَ الجاسوسُ، يقالُ: بُعِثَ عيناً، يُسَمَّى هذا مُشْتَرَكاً.
وكلفظِ قَسْوَرَة في قولِهِ تعالى: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}، فُسِّرَ بأنَّ قَسورةَ هوَ الرامي، وفُسِّرَ بأنَّهُ الأسَدُ. والحُمُرُ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}
قيلَ: إنَّها الْحَميرُ الأهليَّةُ المُسْتَأْنَسَةُ التي تُرْكَبُ،
وقيلَ: إنَّها المُتَوَحِّشَةُ، حِمارُ الوَحْشِ الذي هوَ مِن الصَّيْدِ،
وهذا هوَ الذي يَليقُ بالرامي، الرامي إذا رَأَتْهُ تلكَ الْحُمُرُ
الوحشيَّةُ فإنَّها تَفِرُّ منهُ، وكذلكَ تَفِرُّ مِن الأسدِ.
وكَلَفْظِ عَسْعَسَ، يُرادُ بهِ في قولِهِ تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} عَسْعَسَ، قيلَ: إنَّ عَسْعَسَ يعني: أَقْبَلَ، وقيلَ: {عَسْعَسَ} يعني: أَدْبَرَ، يُفَسَّرُ بإقبالِ الليلِ وإدبارِهِ. ومِنْ ذلكَ أيضاً لفظُ القُروءِ في قولِهِ تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}،
القُرْءُ: يُطْلَقُ على الطُّهْرِ، ويُطْلَقُ على الْحَيْضِ، كُلٌّ منهما
لُغَةً يُطْلَقُ عليهِ أنَّهُ قُرْءٌ، كما في قولِ الأعشى يَمْدَحُ رجلاً
بكثرةِ الغَزْوِ: لَمَا ضاعَ فيها مِنْ قُرُوءِ نِسَائِك . يعني: مِنْ
أيَّامِ طُهْرِهِنَّ (غير مسموع)...
قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ))، يعني: أيَّامَ حَيْضِكِ.
يقولُ: (إمَّا لكونِهِ مُتَوَاطِئاً في الأصلِ).
والتَّوَاطُؤُ
هوَ معناهُ أنْ تكونَ اللفظةُ أو المعنى لهُ عِدَّةُ ألفاظٍ، يُعَبَّرُ
بهِ، يعني: المعنى الواحدُ قدْ يكونُ لهُ عِدَّةُ أسماءٍ كأسماءِ الأسدِ؛
فإنَّها أسماءٌ مُتواطئةٌ، الأسدُ والْهِزَبْرُ والليثُ، سُمِّيَتْ
مُتواطِئَةً؛ لأنَّها كأنَّ العربَ تَوَاطَئُوا على تَسميتِهِ بعِدَّةِ
أسماءٍ.
فالاشتراكُ
اشتراكُ أكثرَ مِنْ معنًى واحدٍ في لفظٍ واحدٍ كقَسْوَرَةٍ، والتواطؤُ
كونُ المعنى الواحدِ يُطْلَقُ عليهِ عِدَّةُ أسماءٍ.
يقولُ: لكنَّ المرادَ بهِ أحَدُ النوعَيْنِ أوْ أحَدُ الشيئَيْنِ، هذا المتواطِئُ، مَثَّلَ بقولِهِ تعالى: {ثُمَّ دَنَى فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}،
مَن الْمُرادُ بالذي دَنَى فَتَدَلَّى؟ قيلَ: إنَّهُ الْمَلَكُ دَنَى مِن
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وتَدَلَّى، فكانَ قابَ قوسَيْنِ،
وقيلَ: إنَّ المرادَ بهِ النبيُّ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
لَمَّا عُرِجَ بهِ أنَّهُ دَنَى مِنْ رَبِّهِ، وأنَّهُ كانَ قابَ قوسَيْنِ
أوْ أَدْنَى. واللفظُ محتمِلٌ، يعني: مُتَوَاطِئٌ.
ومِثْلُ الفجْرِ في قولِهِ تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}،
قيلَ: إنَّ المرادَ بالفجْرِ: الصلاةُ، وقيلَ: إنَّ الفجْرَ هوَ انفجارُ
الصبْحِ، والليالِ العشرُ قيلَ: إنَّها ليالي عشْرِ رمضانَ، وقيلَ: عشْرِ
ذي الْحَجَّةِ، مُتواطئٌ؛ يَصْلُحُ كذا وكذا. {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}
الشفْعُ هوَ العددُ الزَّوْجُ، والوَتْرُ هوَ العددُ الفَرْدُ، وقيلَ:
إنَّ المرادَ بها الصلواتُ، منها شَفْعٌ ومنها وَتْرٌ، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
يقولُ:
مِثلُ هذا قدْ يَجوزُ أنْ يُرادَ بهِ كلُّ المعاني التي قالَها السلَفُ،
وقدْ لا يَجوزُ ذلكَ، فالأوَّلُ إمَّا أنْ تكونَ الآيَةُ نَزلتْ
مَرَّتَيْنِ، فأُرِيدَ بها هذا تارةً وهذا تارةً، يعني: قدْ يُرادُ أنَّ
الآيَةَ نَزلتْ في مِثلِ {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
نَزلتْ في القُروءِ التي هيَ الأَطهارُ، والقُروءِ التي هيَ الْحِيَضُ، وما
أَشْبَهَ ذلكَ، وكذلكَ أنَّ التَّدَنِّيَ والتدَلِّيَ نَزَلَ مَرَّةً
يُرادُ بهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومَرَّةً يُرادُ بهِ
جبريلُ، يُمكِنُ أنْ يكونَ هذا وهذا.
يقولُ: (وإمَّا لكونِ اللفظِ مُشْتَرَكاً، فيَجوزُ أنْ يُرادَ بهِ مَعْنَيَاهُ...)
فيُطْلَقُ على هذا وهذا
كلفظةِ
القروءِ مُشْتَرَكَةٍ، ولفظَةِ عَسعسَ، ولفظةِ قَسْوَرَةٍ، هذهِ
مُشترَكَةٌ، يَجوزُ في كلِّ لفظٍ أنْ يُرادَ بهِ مَعْنَيَاهُ، ولهذا يقولُ
بعضُهم: إنَّ المرادَ إقبالُ الليلِ وإدبارُهُ، في: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} يعني: أَقْبَلَ وأَدْبَرَ؛ إذْ
(قدْ جَوَّزَ ذلكَ أكثرُ الفُقهاءِ؛ المالكيَّةِ والشافعيَّةِ
والحنبليَّةِ، وكثيرٌ مِنْ أهلِ الكلامِ جَوَّزوا أنْ يُرادَ باللفظِ
مَعْنَيَاه)ُ إذا كانَ يَصْلُحُ لهُ الْمَعْنَيَانِ.
وأهلُ الكلامِ هنا: المتكلِّمونَ، وأكثرُهم مِن الحنفيَّةِ.
وإمَّا
لكونِ اللفظِ مُتواطئاً فيكونُ عامًّا إذا لمْ يَكُنْ لتخصيصِهِ مُوجِبٌ،
عَرَفْنَا أنَّ المُتَوَاطِئَ هوَ الشيءُ الذي لهُ عِدَّةُ أسماءٍ؛ فإنَّ
العربَ تَتوَسَّعُ في كثيرٍ مِن الأسماءِ، كما ذَكَرُوا أنَّهُم وَضَعُوا
للسَّيْفِ أَلْفَ اسمٍ، وللثعبانِ مِائتَيْنِ، وللأسدِ خَمْسَمائةٍ، فهذهِ
هيَ الألفاظُ المتواطئةُ، فيكونُ عامًّا إذا لمْ يكُنْ لتخصيصِهِ مُوجِبٌ.
(فهذا النوعُ إذا صَحَّ فيهِ القولانِ كانَ مِن الصِّنْفِ الثاني) ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)
القارئ: (. . . ومن التنازع الموجود عنهم: ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين:
- إما لكونه مشتركاً في اللغة كلفظ (قسورة) الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد.
ولفظ (عسعس) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (يعني
أن بعض الخلاف المنقول عن السلف راجع إلى اللغة فيكون اللفظ الذي اختلفوا
فيه في اللغة محتملاً، احتماله من لا جهة الحقيقة والمجاز كما يدعيه
المتأخرون، لكن من جهة أنه مشترك يطلق على هذا وهذا.
مثل: لفظ (القسورة) مثل لفظ (العين)، العين يطلق على أشياء كثيرة هذا عين الإنسان، وعين الذهب، وعين الماء، ونحو ذلك.
القسورة تطلق على الأسد هو قسورة يسمى بذلك.
القوس هذه قسورة {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} يعني فرت من أسد لأنها خافت منه، أو فرت من رامٍ بقوسه بنشابه هذا محتمل وهذا محتمل لاحتمال اللفظ واشتراكه في هذا وهذا.
(عسعس) {والليل إذا عسعس}
كذلك فإذاً هذا الاختلاف اختلاف المنقول قد يكون سببه اللغة وهذا لا يعني
أنه اختلاف تضاد بل إذا كان في اللغة هذا وارد وهذا وارد فإننا نقول إن هذا
صحيح وهذا صحيح كلٌ من القولين صحيح.
س: قبل
ما تتم سؤال في التفسير: يقول ذكرت أن اللام تأتي إذا كان المخاطب منكراً
أو منـزلاً منزلة المنكرة فمن هو المخاطب في قوله تعالى: {إنك لمن المرسلين}؟
المخاطب
بهذا الخطاب الخاص هو النبي عليه الصلاة والسلام لكن القسم هذه المؤكدات
ليست لإعلام النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بالرسالة وتأكيد الأمر
للنبي عليه الصلاة والسلام ولكن هي لمن أنكر رسالة النبي صَلّى اللهُ
عَلَيهِ وسَلَّم يعني أن المخاطب الخاص هو النبي عليه الصلاة والسلام ليس
المراد في هذه المؤكدات النبي عليه الصلاة والسلام وإنما المراد المخاطب
العام الذي يسمع هذا الوحي وهم كفار قريش، كثير من الآيات فيها مخاطبة
النبي عليه الصلاة والسلام ويعنى بخطابه ذكر ما عليه المشركون أو ذكر
أحوالهم ونحو ذلك).
القارئ: (وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين، أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} وكلفظ {والفجر وليال عشر والشفع والوتر} وما أشبه ذلك.
فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالتها السلف، وقد لا يجوز ذلك.
فالأول: إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة.
وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أو يراد به معنياه، إذ قد جوّز ذلك أكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام.
وإما لكون اللفظ متواطئاً، فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان الصنف الثانـي).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار
قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه: (وَمن
التَّنازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيه
مُحْتَمِلاً لِلأَمْرَينِ، إِمَّا لِكَونِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَةِ
كَلَفْظِ: ( قَسْوَرَةٍ ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي ويُرادُ بِهِ الأَسَدُ، وَلَفْظِ: (عَسْعَس) الَّذِي
يُرادُ بِهِ إِقْبالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ. وَإِمَّا لِكَوْنِهِ
مُتَوَاطِئًا فِي الأَصْلِ، لَكِنَّ المُرادَ بِهِ أَحَدُ النَّوعَيْنِ،
أَوْ أَحَدُ الشَّيئينِ؛ كَالضَّمائرِ فِي قَوْلِهِ: ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) [سُورَة النَّجْمِ: 8-9 ]
وكَلَفْظِِ: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) [سُورَة الْفَجْرِ: 1-3]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُرادُ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلفُ، وقَدْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ.
فَالأَوَّلُ:
إمَّا لِكَوْنِ الآيةِ نَزَلَتْ مَرَّتينِ فَأُرِيدَ بِهِا هَذَا تَارَةً ,
وَهَذَا تَارَةً، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ
يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ؛ إِذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثرُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ والشَّافعيَّةِ والْحَنْبَلِيَّةِ، وَكَثِيرٌ منْ أَهْلِ
الكَلامِ، وَإمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِِ مُتَوَاطِئًا
فَيَكُُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِِيصِهِ مُوجِبٌ، فَهَذَا
النَّوْعُ إِذَا صَحَّ فِيهِ القَوْلانِ كَانَ من الصِّنْفِ الثَّانِي).
بعدَ
أن انتهى المؤلِّفُ من الصِّنفَين السابقَين ذَكرَ هذا النوعَ من الاختلافِ
, وهو في حقيقتِه وَحْدةٌ مستقِلَّةٌ، لكنَّ شيخَ الإسلامِ لم يَذكرْ له
عُنوانًا مستقلًّا.
وفي
هذا النوعِ توجدُ ألفاظٌ تحتملُ أكثرَ من معنًى؛ إما لكونِ اللفظِ مشترَكًا
في اللغةِ، والمشترَكُ هو ما اتَّحدَ فيه اللفظُ واختلفَ المعنى، كالقُرءِ
والعَينِ وعسْعَس والصريمِ ونحوِ ذلك.
فالقُرءُ
يُطلقُ في اللغةِ على الطُّهرِ ويُطلقُ على الحيضِ، والعَينُ تُطلقُ على
العينِ الباصرةِ , وعلى عينِ الماءِ , وتُطلقُ على الجاسوسِ.
كذلك لفظُ (قَسْوَرة) في قولِه تعالى: {كَأنَّهُم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}
يُرادُ به الأسدُ، ويُرادُ به الرامي، السياقُ يَحتملُ الأمرين معًا؛
لأنهما ليسَ بينَهما تضادٌّ، فما من قولَينِ صحيحَيْنِ في اللغةِ وقال بهما
السَّلفُ إلا جازَ تفسيرُ الآيةِ بهما معًا.
وهذا
من بلاغةِ القرآنِ كما نبَّهَ إليه بعضُ المفسِّرِينَ، وقالوا: إن احتمالَ
اللفظةِ الواحدةِ لأكثرَ من معنًى صحيحٍ يُعَدُّ من بلاغةِ القرآنِ.
كذلك لفظُ (عسْعَسَ) في قولِه تعالى: {وَاللَّيلِ إذا عَسْعَسَ والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ}
يُرادُ إقبالُ الليلِ وإدبارُه، فيكونُ المعنى: والليلِ إذا أقْبلَ أو
الليلِ إذا أدْبَرَ، وكلا المعنيَين مناسبٌ لما بعدَه، فعلى المعنى الأولِ
يكونُ الإقسامُ بأولِ الليلِ وأولِ النهارِ {والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ}، وعلى المعنى الثاني يكون الإقسامُ بآخرِ الليلِ وأولِ النهارِ، فكِلا المعنيَين صحيحٌ من جهةِ السياقِ.
فمِثلُ
هذا يجوزُ أن يُرادَ به كلُّ المعاني فنُفَسِّرَ عليها , فنقولَ: أَقْسَم
اللَّهُ بإقبالِ الليلِ وإدبارِه؛ لأنه ليس بينَ المعنيَين تضادٌّ، وكلاهما
سائِغٌ في اللغةِ.
ولا
عبرةَ بكونِ اللفظَيْن هنا (أَقبلَ وأَدبرَ) متضادَّيْن في اللغةِ، وإنما
المرادُ أنه يمكنُ حَملُ الآيةِ على المعنيَين مِن غيرِ تناقُضٍ؛ لأن
الإقسامَ بالليلِ ليس في وقتٍ واحدٍ، بل زمانُه مختلِفٌ.
وهذا بخلافِ التنازُعِ الوارِدِ في (القُرءِ) في قولِه تعالى: {والمُطَلَّقاتُ يَتَربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروءٍ}
لأنه لا يمكنُ الجمعُ بينَ القولِ بأنَّ القُرءَ هو الحيضُ، أو بينَ
القولِ بأنَّ القُرءَ هو الطُّهرُ؛ لأنَّ المرأةَ لا يُمكنُ أن تكونَ
حائِضًا طاهرًا في نفسِ الوقتِ.
وينبغي
التنبيهُ هنا إلى أنَّ شيخَ الإسلامِ رحمه اللَّهُ لمَّا ذَكرَ النوعَ
الأولَ من اختلافِ التنوُّعِ جعلَ الاختلافَ يعودُ إلى ذاتٍ واحدةٍ مع
اختلافِ المعاني , كما سبَق له في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} بكلامي أو كتابي أو هُداي، فهذه كلُّها تعودُ إلى ذاتٍ واحدةٍ , وهي القرآنُ.
ولكن
هنا في النَّوعِ الثاني من الاختلافِ يلاحَظُ أنَّ المعانيَ مختلفةٌ ,
وترجعُ إلى أكثرَ مِن ذاتٍ , كما في المشترَكِ والمتواطِئِ.
والتواطُؤُ
اصطلاحٌ منطقيٌّ يرادُ به نسبةُ وجودِ معنًى كلِّيٍّ في أفرادِه وجودًا
متوافِقًا غيرَ متفاوتٍ. ومن أشْهَرِ الأمثلةِ عليه أن تقولَ: محمدٌ إنسانٌ
, وعليٌّ إنسانٌ , وصالحٌ إنسانٌ، فالثلاثةُ متَّفِقون في الإنسانيةِ.
ومعنى الإنسانيةِ موجودٌ في كلِّ واحدٍ منهم وجودًا متوافِقًا غيرَ
متفاوتٍ.
وكذلك
إذا قلتَ: إنَّ البشرَ أبناءُ آدَمَ فإنَّ نسبةَ أحدِهم إلى الآدميةِ لا
تَختلِفُ عن نسبةِ الآخَرِ؛ لأنَّ معنى الآدمِيَّةِ نسبةٌ كليَّةٌ مشتركةٌ
بينَ الجميعِ.
ثم ذَكرَ المصنِّفُ من المتواطئِ نوعَين أحدُهما: الضمائرُ، والثاني عبَّر عنه بقولِه: " كلفظِ الفجرِ " إلى آخرِه.
ومَثَّلَ الضمائرَ بقولِه تعالى: {ثُمَّ دَنَا فتَدَلَّى فكان قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى} وذكَر أنَّ السَّلفَ اختلفوا في الضمائرِ الموجودةِ في الآيةِ تعودُ على مَن؟
فقيل:
إنَّ المرادَ بها جبريلُ، وهذا رأيُ الجمهورِ، وقيلَ: إنَّ المرادَ بها هو
اللَّهُ جلَّ جلالُه، وهو قولُ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
فإذا
نظرتَ إلى هذا الخلافِ وجدتَ أنَّ نسبةَ اسمِ الجلالةِ إلى الضميرِ لا
تختلفُ عن نسبةِ جبريلَ إليه، وهذا هو المتواطئُ، ومعنى هذا أنَّ أيَّ
خلافٍ في مرجعِ الضميرِ فإنَّ سببَه هو التواطؤُ.
مثالُ ذلك أيضًا: قولُه تعالى: {يا أيُّها الإنسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى ربِّكَ كَدْحًا فمُلاقِيهِ} فالضميرُ في (ملاقيه) يعودُ على ماذا؟ هل المرادُ: ملاقٍ ربَّكَ، أو ملاقٍ كَدْحَكَ؛ أيْ: عمَلَك؟ يَحتملُ هذا , ويحتملُ هذا.
النوعُ الثاني من المتواطِئِ: هي الأوصافُ التي حُذِفتْ موصوفاتُها , وقد مثَّلَ لها المصنِّفُ بقولِه تعالى: {والفَجْرِ وليالٍ عَشْرٍ والشَّفْعِ وَالوَتْرِ}
فالفجرُ قيل: المرادُ به فجرُ يومِ النَّحرِ، وقيلَ: فجرُ أولِ يومٍ من
السَّنةِ، فإذا نظرتَ إلى نسبةِ الفجريَّةِ وجدتَها لا تختلفُ في يومِ
النَّحرِ عنها في أولِ يومِ السَّنةِ، وهذا هو المتواطِئُ كما تقدَّمَ.
أيضًا قولُه تعالى: {والنَّازِعَاتِ غَرْقًا}
قيلَ: النازعاتُ ملائكةُ الموتِ تَنـزِعُ أرواحَ الكفارِ، وقيل: النازعاتُ
النجومُ تَنـزِعُ من أُفُقٍ إلى أُفُقٍ، وقيل: النازعاتُ السفُنُ تَنـزِعُ
من مكانٍ إلى مكانٍ.
فإذا
نظرتَ إلى هذه الأقوالِ وجدتَ أنَّ كلَّ هذه المذكوراتِ تتَّفِقُ في وجودِ
المعنى الكلِّيِّ الذي هو النَّزعُ، وإن كانت نسبةُ النَّـزعِ قد تختلفُ من
نوعٍ إلى آخَرَ، فالمعنى الكلِّيُّ موجودٌ في هذه الأفرادِ وجودًا
متوافِقًا، وهذا هو ما يسمَّى بالمتواطئِ كما تقدَّم.
ولكنَّ
وجودَ التفاوتِ بينَ هذه الأفرادِ في تحقيقِ معنى النسبةِ هو ما يسمَّى
عندَ المناطِقَةِ بالمشكِّكِ، وهو نوعٌ من المتواطئِ، مثلُ ما يقالُ في
بياضِ اللَّبَنِ وبياضِ الثَّلجِ، فكلاهما أبيضُ، ولكنَّ نسبةَ البياضِ
بينَهما متفاوِتةٌ؛ لأن بياضَ اللَّبَنِ يختلفُ عن بياضِ الثلْجِ.
أيضًا قولُه تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ الجَوَارِ الكُنَّسِ}
قيل: الخُنَّسُ النجومُ والكواكبُ، وقيل: الخُنَّسُ بَقرُ الوحشِ
والظِّباءُ، فالخُنَّسُ مشتَقٌّ من الخُنوسِ وهو التأخُّرُ، وسمِّيت
النجومُ خُنَّسًا؛ لأنها تتأخَّرُ فلا تَظهرُ مباشرةً مع الليلِ , وكذلك
بقرُ الوحشِ والظِّباءُ إذا رأتْ إنسيًّا تأخَّرَتْ وهرَبَتْ، فوَصْفُ
الخُنَّسِ مشترَكٌ بينَهما كوصفٍ كُلِّيٍّ، وإن كان خنوسُ هذه يختلفُ عن
خنوسِ هذه، فأيُّ وصفٍ وردَ , وموصوفُه محذوفٌ، واختُلِفَ في هذا المحذوفِ؛
فإنَّ سببَ هذا الخلافِ هو التواطؤُ.
فمِثلُ
هذا الاختلافِ يمكنُ أن يُرادَ به المعنيان المذكوران فيكونَ المعنى أنَّ
اللَّهَ أَقسمَ بالنجومِ والكواكبِ وكذلك بقرِ الوحشِ وبالظِّباءِ، ما دام
أنَّ اللفظَ يحتملُ كِلا المعنيَين، وأنَّ كِلاهما مرويٌّ عن السَّلفِ، وإن
كان السياقُ قد يُرجِّحُ أحدَهما على الآخَرِ.
فسياقُ الآياتِ يُرجِّحُ أنَّ المقصودَ هو النجومُ والكواكبُ؛ لأنه قال: {واللَّيلِ إذا عَسْعَسَ والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ}.
وعَطفُ هذه الآياتِ الكونِيَّةِ على مِثلِها وهو النجومُ والكواكبُ أَنسَبُ من عطفِها على الوحشِ والظِّباءِ.
وقولُ المصنِّفِ: " إمَّا لكونِ الآيةِ نَزلتْ مرَّتين " هو احتمالٌ عقليٌّ؛ لأنَّ الأصلَ في نزولِ الآياتِ أن تنزلَ مرَّةً واحدةً.
ثم قال المصنِّفُ: " إما لكونِ اللفظِ المشترَكِ يجوزُ أن يرادَ به معنيَاه "
بعضُ
أهلِ العلمِ –ومنهم ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللَّهُ – يَرى أنه لا يجوزُ أن
يُرادَ بالمشترَكِ إلا معنًى واحدٌ، ولكنَّ الجمهورَ على أنه يَجوزُ أن
يرادَ به أكثرُ من معنًى ما دام أنه لم يَقُمْ دليلٌ على إرادةِ أحدِ
المعاني، فتكونُ المعاني كلُّها محتمَلةً.
ثم قال المصنِّفُ: " وإما لكونِ اللفظِ متواطِئًا فيكونُ عامًّا إذا لم يكن لتخصيصه موجبٌ " وذلك مثلُ (النازعات)
ورَدَ في تفسيرِها ستَّةُ أقوالٍ، فإذا لم يَكنْ للتخصيصِ موجِبٌ فإنَّكَ
تقولُ: كلُّ ما وُصِفَ بأنه نازعٌ فهو داخِلٌ في القَسَمِ، فيكونُ المعنى
أنَّ اللَّهَ أَقسمَ بالملائكةِ وبالنجومِ والسفُنِ وبالموتِ وبغيرِها مما
وردَ عن السَّلفِ؛ لأن هذه الأقوالَ كلَّها محتمَلةٌ.
قد
يقولُ قائلٌ: إنَّ المرادَ بها الملائكةُ التي تَنـزِعُ أرواحَ الكفارِ
بدلالةِ كذا وكذا، نقولُ:هذا ترجيحٌ، ولكنَّ الأقوالَ الأخرى محتمَلةٌ.
ولهذا
ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ رحمهُ اللَّهُ في هذه الآيةِ قال: إنَّ اللَّهَ
لم يُخصِّصْ نازعةً دونَ نازعةٍ، فالخَبرُ على عمومِه حتى يأتيَ ما
يُخصِّصُه. أو قريبًا من هذا الكلامِ.
ومعنى هذا أنه رجَّحَ جميعَ هذه المذكورةِ، وأنها كُلَّها صحيحةٌ على سبيلِ العمومِ.
إذًا
يُفهَمَ مما تقدَّمَ أنَّ المتواطِئَ – خصوصًا في الأوصافِ – يدخُلُ في
القِسمِ الثاني من أقسامِ اختلافِ التنوُّعِ الذي هو العامُّ الذي تُذكرُ
له أمثلةٌ).