9 Nov 2008
معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومَعْرِفَةُ
سَبَبِ النُّزولِ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الآيةِ ؛ فَإِنَّ العِلْمَ
بِالسَّببِ يُورِثُ العِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ
قَوْلَي الفُقَهَاءِ أنَّهُ إِذَا لَمْ يُعرَفْ مَا نَوَاهُ الحالِفُ
رُجِعَ إِلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثارَهَا .
وَقَولُـُهم
: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أنَّهُ سببُ
النُّزولِ ، ويُرَادُ بِهِ تارَةً أنَّ هَذَا دَاخِلٌ في الآيَةِ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُن السَّبَبَ . كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الآيةِ كَذَا .
وقَدْ
تَنازَعَ العُلَمَاءُ في قَوْلِ الصَّاحبِ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
فِي كَذَا " هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ - كَمَا لَوْ يذكِرَ
السَّببُ الَّذِي أُنْزِلَتْ لأجْلِهِ - أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفسيرِ
منْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدٍ ؟
فَالبُخَاريُّ
يُدْخِلُهُ في الْمُسْنَدِِ ، وَغَيرُهُ لاَ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ ،
وَأَكْثرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الاصْطِلاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ
وغيرِهِ ، بِخلافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَببًا نزلَتْ عَقِبَهُ ، فإنَّهُم
كُلَّهُمْ يُدْخلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ .
وَإِذَا
عـُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِم : " نَزَلَتْ في كَذَا " لاَ يُنَافِي
قَوْلَ الآخرِ : " نزَلَتْ في كَذَا " ؛ إِذَا كَانَ اللفْظُ
يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ في التَّفسيرِ بِالمِثَالِ .
وَإِذَا
ذَكَرَ أَحَدُهُم لَهَا سَبَبًا نَزلَتْ لأجْلِهِ ، وَذَكَرَ الآخرُ
سَبَبًا ، فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ
تِلْكَ الأسْبَابِ ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتينِ ؛ مَرَّةً لِهَذَا
السَّببِ ، وَمَرَّةً لِهَذَا السَّببِ . وَهَذَانِ الصِّنفانِ اللَّذَانِ
ذَكَرْنَاهُمَا في تَنَوُّعِ التَّفسيرِ – تارَةً لتنوُّعِ الأسماءِ
والصِّفاتِ ، وَتَارةً لِذِكْرِ بَعْضِِ أنواعِ المسمَّى وأَقْسَامِهِ
كَالتَّمثيلاتِ – هُمَا الغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الأُمَّةِ الَّذِي
يُظَنُّ أنَّهُ مُخْتَلِفٌ !!).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)
القارئ: (ومعرفة
سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ,
ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يُعرف ما نواه الحالف رُجِع إلى سبب
يمينه وما هيجها وآثارها , وقوله ").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وكذلك
إذا لم يعرف ما نواه المطلق رُجع إلى سبب اليمين فمثلاً لو أن رجلاً رأى
مع امرأته شخصا فظنه أجنبياً فقال لها: أنتِ طالق بناء على أن الرجل الذي
معها أجنبي , ثم تبين أنه أخوها فإنها (إيش)؟ لا تطلق , كأنه قال: أنتِ
طالق لأنكِ صاحبت رجلاً أجنبياً أو صحبتيه.
وكذلك
أيضاً الحالف لو قال: والله لا أزور فلاناً؛ لأنه قيل له إن الرجل فاسق ثم
تبين له أنه ليس بفاسق نعم فإنه؟لا بأس يزوره (ولا لأ)؟ واحد قال والله لا
أزور فلانا ً(بس) ما قال لأنه فاسق لكن هو السبب في حلفه هذا أنه رجل فاسق
ثم تبين له بعد ذلك أنه ليس بفاسق فزاره هل يحنث ولا ما يحنث؟ لا يحنث؛
لأن السبب كالمشروط كأنه قال: والله لا أزوره لأنه فاسق , فيكون هذا السبب
كأنه مشروط.
وهذه
قاعدة تنفعك في باب الأيمان وفي باب الطلاق أن ما بُنيَ على سبب فتبين زوال
ذلك السبب فلا حكم له , لكن لو قال الحالف: أنا نويت والله لا أزور فلاناً
نويت مطلقاً لا أزوره لشخصه سواء كان فاسقاً أم عدلاً فزاره؟ يحنث؟ نعم؛
لأننا علمنا مراده علمنا مراده نعم.
أحد السائلين: صيغة القاعدة؟
الشيخ: صيغة القاعدة أن كل لفظ بُنيَ على سبب فتبين انتفاء ذلك السبب فإنه لا حكم له. سائل: وهل يكفر يا شيخ يكفر إذا حلف(غير مسموع)؟
الشيخ:
ما يكفر زال حكم اليمين لو قال: والله لا أزوره بناء على أنه فاسق فتبين
أنه ليس بفاسق فليزره ولا شيء عليه؛ لأن اليمين انحلت تبين أنها غير
مرادة....سقط.....
لكن إذا عرفنا السبب وأنهم كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة عرفنا معنى الآية.
ردا على سؤال غير مسموع: إن مسبب الآية النازلة أو الحديث الوارد.
_ ..............................
الشيخ:
مثلا , سبب نزول آية اللعان قتل هلال بن أمية زوجته (غير مسموع) نعم من
قال السبب..من هو المسبب الذي من أجله..من أجل السبب حصل؟ نزول الآية فورد
الحديث ونزول الآية هذا هو المسبب..الآية والحديث قد يكون سببها خفياً إلا
إذا عرفت , قد يكون معناها خفياً إلا إذا عرفت سبب النزول.
قائل: ومنهم من قال: يجب أن نقول: إنه ليس بحي ولا حي ألا نقول: إنه حي ليس بحي.
الشيخ:صححناها في آخر الكلام نبدأ (ناخد) أول مناقشة فيما سبق. ذكرنا أن اختلاف التنوع صنفان فما هما يا زيد؟
زيد: أولاً (غير مسموع) أحد السلف يعني (غير مسموع) المعنى بتعبير آخر لكن يؤديان إلى نفس المعنى المراد.
الشيخ:
يعني أن المسمى فيهما واحد لكن لكل واحد زاد على الآخر (غير مسموع) السلام
بأنه الله ما هو السلام؟ فقال هو: الله , والثاني قال: هو السالم من كل
نقص , والثالث قال السلام هو الحكيم الذي لا يفعل فعلاً عبثاً , نعم هذا
أيضاً من اختلاف التنوع ولكني ذكرت لكم فيما سبق أنه يختلف السؤال في هذه
المسألة , فإذا قال: من السلام تقول الله , وإذا قال: ما السلام؟
تقول:السالم من كل نقص؛ لأن (من) يستفهم فيها عن الذات و(ما) يستفهم فيها
عن الصفات نعم.
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قال رحمه الله تعالى: "وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول ويراد به تارة ").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب المؤلف رحمه الله يستطرد دائماً في مؤلفاته فهنا استطرد للتعبير عن
سبب النزول وهو ثلاثة أنواع،التعبير عن سبب النزول: تارة يقول: حصل كذا
وكذا فأنزل الله كذا , وتارة يقول: سبب نزول الآية (الفلانية )كذا وكذا ,
وتارة يقول: نزلت هذه الآية في كذا وكذا. هذه ثلاث صيغ.
أما
قوله سبب نزول الآية كذا فهي صريحة في أن هذا سبب النزول وأما قوله:كان كذا
وكذا فأنزل الله نعم فهي ظاهرة أيضاً وليست بصريحة , ظاهرة في أن هذا سبب
النزول؛ لأن حمل الفاء في مثل هذا للتعبيرعلى السببية أولى من حمله على
العطف المجرد والترتيب , فيكون ظاهرها أن هذه الحادثة سبب النزول. الثالث:
أن يقول نزلت هذه الآية في كذا فهذه فيها احتمال يعني متساوي الطرفين بين
أن يكون المراد أن هذه الآية معناها كذا وكذا فيكون تفسيراً للمعنى وبين أن
يكون ذلك ذكر لسبب النزول , فعلى الاحتمال الأول تكون (في) للظرفية والظرف
هنا معنوي وعلى الاحتمال الثاني تكون (في) للسببية أي بسبب كذا وكذا و(في)
معروف أنها تكون للسببية ونريد مثالاً من أحمد.....سقط.........
((دخلت النار امرأة في هرة حبستها))
في بمعنى سبب ما معناها دخلت في جوفها أي نعم.الحاصل أن العبارات التي
يُعبَّر بها عن أسباب النزول تنقسم لثلاثة أقسام صريحة وظاهرة ومحتملة (كده
ولا لأ )؟ طيب. وصيغة الصريحة أن يقول: سبب نزول الآية كذا وكذا، والظاهرة
كان كذا فنزلت , والمحتملة نزلت في كذا إي نعم , ولهذا المؤلف رحمه الله
يقول:"وقولهم نزلت هذه الآيات في كذا يراد به تارة أن هذا داخل في الآية
وإن لم يكن السبب" نعم.
القارئ: ("ويراد
به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما نقول: عني بهذه الآية
كذا وقد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى
المسند كما..."
[خلاف حول النسخ]
القارئ: ("كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس
بمسند فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند , وأكثر المساند
على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه فإنهم
كلهم يدخلون مثل هذا في المسند وإذا عرف هذا فقول...."
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (لأن قول الصاحب نزلت في كذا إذا أجريناه مجرى المسند صار معناه أن الأمر
حدث في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية تفسيراً له أو بياناً
لحكمه , وأما إذا جعلناه ليس جارياً مجرى المسند صار ذلك تفسيراً منه للآية
, وقد يكون صواباً وقد يخالفه غيره. إي نعم
القارئ: ("وإذا
عرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر نزلت في كذا إذا كان
اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال , وإذا ذكر أحدهم لها سبباً
نزلت لأجله وذكر الآخر سبباً فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك
الأسباب أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب وهذا ".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (ولكن الأول أقرب , إذا ذكر كل واحد منهما سبباً لنزول الآية بلفظ صريح أو
بلفظ ظاهر على حسب ما شرحناه فهل نقول: إن السبب متعدد والمسبب واحد , أو
نقول: إن السبب متعدد والمسبب متعدد وأن الآية صار لنزولها سببان أيهما
أقرب؟ الأقرب الأول؛ لأن تكرر نزول الآية خلاف الأصل، الأصل أن الآية هي
نزلت مرة واحدة فتكون الأسباب سابقة على نزول الآية يعني معناه وُجد سبب
وسبب وسبب ثم أنزل الله الآية مبينة لحكم هذه الأمور نعم , مع أنه نادر أن
تنزل الآية مرتين , هذا إن صح , وقد ذكر أن سورة الفاتحة نزلت مرة في مكة
ومرة في المدينة والله أعلم.
لكن
الكلام على أنه إذا تعدد ذكر الأسباب الصريحة في نزول الآية فإنها تحمل على
أحد أمرين ما هما؟ إما أن الأسباب متعددة والنزول واحد , وإما أن الأسباب
متعددة والنزول متعدد , هذا إذا كان كل من الصيغتين صريحاً في النزول , أما
لو قال أحدهم نزلت في كذا , وقال الآخر:كان كذا فنزلت الآية فمعلوم أن
نقدم الثاني؛ لأنه ظاهر , وكذلك لو قال الثاني: سبب نزولها كذا والأول قال
نزلت في كذا فأيهما نقدم؟ نقدم الثاني يا إخواني، الآن قال واحد منهم
قال:سبب نزول الآية كذا , والثاني قال: نزلت الآية في كذا لسبب يخالف الأول
أيهم نقدم؟ الذي قال: سبب النزول لأنه صريح نعم.
القارئ: ("وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف , ومن التنازع.."
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (غير مسموع) المؤلف رحمه الله تارة تنوع الأسماء والصفات مثل: صارم ومهند
ومسلول وسيف وما أشبه ذلك , وتارة لذكر بعض أنواع المسمى مثل تفسير: {منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} حيث فسر بعضهم هذا بالمصلين وهذا فسره بالمتصدقين نعم.
سائل: إذا ذكر أحدهم (غير مسموع) المحتملة هل هذا اختلاف تنوع؟
الشيخ:
نقول أن الأول (اللي كان) صريح فهو قطعاً سبب النزول , وأما الثاني فنقول:
هذا ذكر للمعنى يعني أن هذا الشيء داخل في معناه إي نعـم مثل لو قال:{فَوَيلٌ لِلمُصَلَّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلاَتِهِم سَاهُون}
قال: نزلت هذه الآية في الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها نعم , هل معناها أن
كان تأخير الصلاة عن أوقاتها سبب لنزولها؟ ليس معناها بل معناها الظاهر
والمتبادر أن هذا هو المراد في الآية فيكون مثل هذا القول تفسيراً وليس
ذكراً لسبب النزول. نعم).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): (قولُه: (مَعرفةُ سببِ النزولِ تُعِينُ على فَهْمِ الآيَةِ).
ولهذا
اشْتَغَلَ كثيرٌ مِن العُلماءِ بأسبابِ النزولِ، منهم الواحديُّ، لهُ
كتابٌ مَطبوعٌ، والسيوطيُّ أيضاً لهُ كتابٌ مَطبوعٌ في ذلك وإنْ كانوا قدْ
يَذكرونُ أسباباً بأسانيدَ ضعيفةٍ.
(فالعلْمُ بالسببِ يُورِثُ العلمَ بالمُسَبَّبِ).
إذا عُرِفَ سَببُ نزولِ الآيَةِ فُهِمَ المرادُ منها.
فمثلاً في قولُ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}.
نَرْجِعُ إلى سببِ النزولِ كمثال لهذا التقديم؛ وهو أنَّهُ لَمَّا جاءَ
وَفْدُ بني تَميمٍ قالَ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أَمِّرْ عليهم
الأقرعَ. فقالَ عُمَرُ: بلْ أَمِّرْ عليهم عُيَيْنَةَ. فقالَ أبو بكرٍ: ما
أَرَدْتَ إلاَّ خِلافِي. فقالَ عُمَرُ: ما أردْتُ خِلافَكَ. فنَزلتِ
الآيَةُ: {لاَ تُقَدِّمُوا}؛ أيْ: لا
تَتكلَّمُوا بشيءٍ بينَ يَدَي الرسولِ وهوَ أَعْلَمُ؛ لأنَّهُ هوَ الذي
يُنَزَّلُ عليهِ الوحيُ، فمَعرفةُ هذا السببِ تُبَيِّنُ معنى الآيَةِ.
كذلكَ أيضاً قولُهُ تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}،
إذا لمْ يُعرفْ سببَ نزولِها فقد يقع المسلم في حيرة في المقصود بالفاسق
والنبأ ونحوها، فإذا نَظَرْتَ إلى أنَّها نَزلتْ في الوليدِ بنِ عُقبةَ
الذي أَرسلَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليَطلُبَ زكاةَ بني
الْمُصْطَلِقِ، فكَذَبَ عليهم وقالَ: إنَّهُم مَنَعُوا الزكاةَ. فهذا
يُعْرَفُ بهِ معنى الآيَةِ، .
(ولهذا
كانَ أَصَحَّ قَوْلَي الفُقهاءِ: أنَّهُ إذا لمْ يُعْرَفْ ما نَوَاهُ
الحالِفُ رُجِعَ إلى سببِ يَمينِهِ وما هَيَّجَهَا وأثارَها)
ذَكَرُوا
ذلكَ في كُتُبِ الفِقهِ في كتابِ الأيمانِ، وقالُوا: إذا لم يُعْرَفْ ما
نَوَاهُ نِيَّةً رُجِعَ إلى سببِ اليمينِ وما هَيَّجَها، ثم ضَرَبُوا
مَثَلاً: لوْ أنَّ إنساناً طالَبَ إنساناً بِحَقِّهِ أوبِدَيْنِهِ فقالَ:
واللهُ لأُعْطِيَنَّكَهُ بعدَ خمسةِ أيَّامٍ، ثمَّ أَعطاهُ بعدَ ثلاثةِ
أيَّامٍ فهلْ يَحْنَثُ؟ لا يَحْنَثُ؛ لأنَّ سببَ اليمينِ الْمُطَالَبَةُ
كأنَّهُ طَالَبَهُ بدَيْنِهِ فحَلَفَ أن يُعْطِيَهُ، فالمرادُ الإسراعُ،
أوسببُ اليمينِ أنَّهُ يُسْرِعُ بوَفائِهِ. كذلكَ لوْ أنَّ إنساناً أَخَذَ
يَمُنُّ عليكَ مثلاً فيقولُ: إنَّي أنا الذي شَفَعْتُ لكَ، وأنا الذي
نَفعتُكَ، وأنا الذي أَعطيتُكَ، ونحوها، فحَلَفْتَ وقلْتَ: واللهِ لا
أَقْبَلُ منكَ شَرْبَةَ ماءٍ، فإذا قَبِلْتَ منهُ أَكلةً فهلْ تكونُ
حانِثاً؟ أنتَ لم تحلف إلاَّ على شَربةِ ماءٍ، ولكنَّ سببَ اليمينِ قَطْعُ
الْمِنَّةِ، كأنَّكَ تقولُ: اقْطَعْ مِنَّتَكَ ولا أُريدُ لكَ مِنَّةً ولوْ
بشَربةِ ماءٍ، فمعلومٌ أنَّكَ إذا أَكلْتَ عندَهُ طعاماً فإنَّ المِنَّةَ
أكبرُ مِنْ شَربةِ الماءِ، وكذلكَ إذا قَبِلْتَ منهُ كِسوةً فمِنَّتُهُ
تكونُ أَعظمَ مِنْ شَربةِ الماءِ، وأمثالُ ذلكَ يَرجعُ إلى سببِ اليمينِ
وما هَيَّجَها وأَثَارَهَا.
(وقولُهم: نَزلتْ هذهِ الآيَةُ في كذا، يُرادُ بهِ تارةً أنَّهُ سَببُ النزولِ) .
قولُهُ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}،
قيلَ: إنَّها نَزلتْ في عُمَرَ، لَمَّا أنَّهُ تَضَرَّرَ بأنَّهُ وَطِئَ امرأتَهُ في الليلِ بعدَما نامَ،
وقيلَ:
إنَّها نَزلتْ في الرُّخصةِ في غَشَيَانِ النساءِ ليلاً، والمرادُ بذلكَ
أنَّها نَزلتْ في الرُّخصةِ في ذلكَ، سواءٌ كانَ سببُ النزولِ فُلاناً أوْ
غيرَهُ.
وكذلكَ قولُ اللهِ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}،
قيلَ: إنَّها نَزلتْ في الرُّخْصَةِ في إتيانِ الزوجةِ، في قُبُلِهَا مِن
الْخَلْفِ، لَمَّا كانَ الأنصارُ يَمتنعونَ مِنْ ذلكَ ويَأخذونَ ذلكَ على
أنه من فعلاليهودِ، فرَخَّصَ اللهُ بذلك في قولِهِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ويعني بالْحَرْث، هوَ مَحَلُّ البَذْرِ وهوَ الفَرْجُ، {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيفَ شِئْتُمْ.
فيُرادُ بهذا أنَّه مِنْ جُملةِ ما نَزلتْ فيهِ الآيَةُ، لا أنَّها خاصَّةٌ بهِ، (ويُرادُ بهِ تارةً أنَّ هذا داخلٌ في الآيَةِ، وإنْ لمْ يكُنْ هوَ السببَ، كما تقولُ: عَنَي بهذهِ الآيَةِ كذا وكذا).
فإذا قيلَ مَثلاً: عنْ قولِ اللهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}،
أنها نَزَلَتْ في الرُّخْصَةِ في الصدَقَةِ بَدَلَ الصيامِ، وأنَّ هذا داخلٌ في الآيَةِ،
وقِيلَ:
نَزلتْ في الشيخِ الكبيرِ والعجوزِ الكبيرةِ، اللذين يَشُقُّ عليهم
الصِّيَامُ، أنَّ لهم الفِدْيَةَ، فيقالُ: هذا أيضاً داخلٌ في الآيَةِ.
يقولُ رَحِمَهُ اللهُ: (تَنَازَعَ العلماءُ في قولِ الصحابيِّ، نَزلتْ هذهِ الآيَةُ في كذا، هلْ يَجرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ). يعني: مرفوعٌ (كما يُذْكَرُ السببُ الذي أُنْزِلَتْ لأَجْلِهِ)،
يعني: هلْ يكونُ مَرفوعاً أوْ يكونُ تَفسيراً مِن الصحابةِ، ليسَ بحديثٍ
مُسْنَدٍ مرفوعٍ، يعني: مَجْرَى التفسيرِ الذي ليسَ بِمُسْنَدٍ، البخاريُّ
رَحِمَهُ اللهُ أَكْثَرَ في كتابِ التفسيرِ مِنْ صحيحِهِ مِنْ هذهِ
الأسبابِ واعْتَبَرَهَا مرفوعةً، معَ أنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ يَهْتَمُّ
بالأحاديثِ المرفوعةِ، إنَّما وَضَعَ كتابَهُ للمرفوعاتِ التي يَرْوِيهَا
بأسانيدِهِ، فرأى أنَّ أسبابَ النزولِ وإنْ لمْ يُذْكَرْ أنَّها في زمانِ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَكَرَ أنَّها مرفوعةٌ، يُدْخِلُها في
الْمُسْنَدِ، وآخَرونَ لا يُدْخِلُونَها في المسنَدِ كمُسْلِمٍ، ولهذا ما
رَوَى في صحيحِهِ إلاَّ قليلاً مِنْ هذا الْجِنْسِ.
يقولُ: (أَكثرُ الأسانيدِ على هذا الاصطلاحِ).
يَعني أنَّهُم يَجْعَلُونَها موقوفةً، كمُسْنَدِ أحمدَ وغيرِهِ.
(أمَّا إذا ذَكَرَ سبباً نَزلت الآيَةُ عَقِبَهُ فإنَّهُم كلَّهم يُدْخِلُونَهُ في المسنَد)ِ.
مِثالُهُ
سؤالُ عُوَيْمِرٍ العجلانيِّ عن اللِّعانِ؛ فإنَّ هذا يُعْتَبَرُ
مُسْنَداً، وكذلكَ قِصَّةُ عمرَ لَمَّا أنَّهُ تَضَرَّرَ بتَرْكِ الوَطْءِ
في ليالي الصيامِ وغيرِهِ، يُعْتَبَرُ هذا أيضاً مُسْنَداً؛ لأنَّهُم
اشْتَكَوْا إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فنَزلت الآيَةُ.
يقولُ: (إذا عُرِفَ هذا فقولُ أحدِهم: نَزلتْ في كذا..)،
ثمَّ يقولُ الآخَرُ: نَزلتْ في كذا، فيَذكرونَ لها سَببَيْنِ، فالجوابُ:
أنَّهُ إذا كانَ اللفظُ يَتناولُهما فلا مُنافاةَ بينَهما؛ لأنَّ الآيَةَ
تَعُمُّ هذا، وهذا يَكْثُرُ إذا ما قالوا: نَزلتْ في فُلانٍ، أوْ نَزلتْ في
فِعْلِ كذا وكذا، ولا يَذكرونَ أنَّ هذا خاصٌّ، فلا يَحْصُلُ هناكَ
مُنافاةٌ بينَهما، مثالُهُ قولُ اللهِ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}،
ذُكِرَ أنَّ بعضَهم سَأَلُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ما
بالُ الهلالِ يَبْدُو ضَعيفاً, ثمَّ يَتكامَلُ؟ نَزلت الآيَةُ أنَّهُ
مواقيتُ للناسِ، يعني: جُعِلَ صَغيراً حتَّى يُعْرَفَ مَبدأُ الشهرِ، ثمَّ
قالَ بعضُهم: إنَّها نَزلتْ في سؤالِهم: ما الْحِكمةُ في الأهِلَّةِ؟
فقيلَ: مواقيتُ للناسِ، فلا يُنافِي أَحَدُ السببَيْنِ الآخَرَ.
ويَذكرونَ هذا كثيراً في بعضِ الأسبابِ، مثلَ قولِهِ تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} ذُكِرَ أنَّها نَزلتْ في أُناسٍ كانوا يَتَمَنَّوْنَ القتالَ {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}، أرادوا القتالَ، فقيلَ لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}.
ولها أسبابٌ أخرى، فإذا ذَكَرَ أحدُهم لها سبباً نَزلتْ لأجلِهِ، وذَكَرَ
الآخَرُ سبباً، فقدْ يُمْكِنُ صِدْقُهما بأنْ تكونَ نَزلتْ عَقِبَ تلكَ
الأسبابِ، ذَكَرَ ذلكَ بعضُهم في آيَةِ اللِّعانِ؛ لأنَّ أَحَدَ الرواةِ
قالَ: نَزَلَتْ في عُوَيْمِرٍ، والثاني قالَ: نَزلتْ في هلالٍ. ولعلَّ
الصحيحَ أنَّها نَزلتْ عَقِبَ قِصَّتِهَما، أوْ عَقِبَ سؤالِهما؛ لأنَّ
سؤالَهما كانَ مُتقارِباً، نَزلتْ عَقِبَ تلكَ الأسبابِ، وقيلَ: نَزلتْ
مَرَّتيْنِ؛ مَرَّةً بسَببِ هلالٍ، ومَرَّةً بسببِ عُوَيْمِرٍ. والأقرَبُ
أنَّها نَزلتْ مَرَّةً واحدةً، يَدخُلُ فيها هذا السببُ وغيرُهُ.
وهذانِ
الصِّنفانِ مِن الصِّنفِ الثاني الذي هوَ مِنْ أصنافِ اختلافِ التنوُّعِ
اللَّذَانِ ذَكرْنَاهُما في تَنَوُّعِ التفسيرِ، تَارةً لتَنَوُّعِ
الأسماءِ والصفاتِ، كما تَقَدَّمَ في أسماءِ اللهِ، وأسماءِ النبيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأسماءِ القرآنِ، وتارةً لذِكْرِ بعضِ أنواعِ
الْمُسَمَّى وأقسامِهِ، بعضُ أنواعِهِ كالمثالِ للخُبْزِ كالتمثيلاتِ،
فهذانِ الصِّنفانِ الغالبُ في تفسيرِ سَلَفِ الأُمَّةِ الذي يُظَنُّ أنَّهُ
مُخْتَلِفٌ.
وممَّنْ
يَذكُرُ الاختلافَ ابنُ جريرٍ؛ فإنَّهُ إذا ذَكَرَ آيَةً قالَ: اخْتَلَفَ
أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلكَ، فقالَ بعضُهم: كذا، ذَكَرَ مَنْ قالَ ذلكَ،
وقالَ آخَرونَ: كذا، ذَكَرَ مَنْ قالَ ذلكَ، ثمَّ في النهايَةِ يَجمَعُ
بينَهما، فيقولُ: إنَّ اللهَ ذَكَرَ كذا، وجائزٌ أنْ يكونَ مُرادُهُ كذا،
وجائزٌ أنْ يكونَ مُرادُهُ كذا وكذا.
يقولُ: (كالتمثيلاتِ، هما الغالبُ في تفسيرِ سَلَفِ الأُمَّةِ الذي يُظَنُّ أنَّهُ مُخْتَلِفٌ) ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)
القارئ: (والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين , وإنما غاية ما يقال: إنـها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.
والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص
ولغيره ممن كانت بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك
الشخص ولمن كان بمنـزلته.
ومعرفة
سبب النـزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب
ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف: رُجع إلى سبب
يمينه، وما هيجها وأثارها).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (يعني
رُجع إلى الحالف في بعض الأيمان يسأل عن نيته ماذا قصد بذلك؟ إذا ما اتضح
له الأمر يعني ما يجزم والله أنا ما عندي يقين ما أدري هو جاءني كذا وإلا
كذا هذا يحصل كثير يرجع في ذلك إلى سبب اليمين وما هيجها أيش السبب إذا كان
غضب أُخذ بحكمه، إذا كان رضى يقول: أنا والله جالس مرتاح كامل ثم أطلق هذه
العبارة سببها ما في سبب يحمله على شيء معين يعني يريد أن أخذ الأحوال
المعاني من جهة الأسباب أنه مطرد عند العلماء يعني رعاية الأسباب وفهم
الشيء بفهم سببه هذا موجود عند العلماء حتى في الفقه، فكيف بالتفسير.
القارئ: (وقولهم: (نزلت هذه الآية في كذا)
يراد به تارة أنه سبب النـزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم
يكن السبب كما تقول: عُني بهذه الآية كـذا. وقد تنازع العلماء في قول
الصاحب نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى المسند كما ذكر السبب..).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قوله هنا في أول الكلام أنه قد يجئ السبب الواحد للآية مختلفاً، وقد يجئ
ذكر السبب واحداً فإذا جاء السبب واحداً مثل قولهم في آية الظهار نزلت في
أوس بن الصامت، ونحو ذلك فهذا لا يعني أن عموم اللفظ يخص بهذا السبب بل إن
العموم له أفراد ومن أفراده هذه الحادثة التي حدثت، وهذا يدل له دلالة
واضحة ما جاء في الصحيح أن رجلاً قبّل امرأة في الطريق وجاء للنبي صَلّى
اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وقال: إني لقيت امرأة في الطريق أو قال في أحد
البساتين أو في أحد الحوائط ولا شيء يأتيه الرجل من امرأته إلا فعلته إلا
النكاح؛ يعني إلا الوطء فسكت النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ثم أنزل
الله – جل وعلا – قوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} والحسنات مثل الصلاة تذهب السيئات فأخذها، فقال الرجل: يا رسول الله ألي وحدي؟ قال: ((لا، بل لأمتي جميعاً)) وهذا يعني أن خصوص السبب لا يخص به عموم اللفظ.
{أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} هل هو لخصوص هذا الرجل؟
لا، قال النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: ((بل لأمتـي جميعاً)) فاستدل العلماء بهذا الحديث الذي في الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إذاً ما ذكرناه هنا أن أحد قسمي اختلاف التنوع أنه يرد لفظ عام يفسره الصحابة، يفسره السلف بأحد أفراده.
ذكر لك أمثلة ثم ذكر هنا أمثلة أسباب النـزول فأسباب النـزول من ذلك يكون اللفظ عام كل واحد يقول نزلت في كذا.
أحياناً يقول بعضهم نزلت في كذا وفي كذا وفي كذا وهذه كلها أفراد نعم إن
العلم بالسبب يورث العلم بمعنى الآية لأنها هي التي تسبب عنها أو التي
أنزلت لأجل هذا السبب.
تارة بكون الآية يقولون: نزلت في كذا ونزلت في كذا ولا يعنون أنه سبب النـزول ولكن يعنون أنه يصلح للآية.
مثلاً في سورة: {ويل للمطففين} هل هي مكية أم مدنية؟ قالوا نزلت في مكة ثم قال بعضهم نزلت في المدينة.
مثل سورة الفاتحة قالوا نزلت في المدينة.
مثل
المعوذتين (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) قالوا نزلت في كذا لما
سحر النبي عليه الصلاة والسلام ونزلت بعد ذلك ونحو ذلك من هذه الأنواع هذا
عند الصحابة وعند السلف يعنون به أنها تصلح لهذا المعنى يعني نزلت في كذا
تلاها النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم عليهم سورة المطففين لما ذهب إلى
المدينة فتكون نزلت في كذا لأنهم خوطبوا بها فإذاً قولهم نزلت في كذا هذا
الخلاصة نزلت في كذا لا يعني أولاً تخصيص المعنى بالسبب هذا واحد لأن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثانـي:
أنه قد تذكر أكثر من حادثة نزلت في كذا أو في كذا وهذه كلها أفراد للعام
لا يعني تخصيصها أو إلغاء معنى الآية لأجل الاختلاف في سبب النـزول.
الفائدة
الثالثة: أنهم قد لا يقولون نزلت في كذا ولا يعنون سبب نزولها أول مرة
ولكن يعنون أن الآية صالحة لتناول هذا الذي حصل حيث تلا النبي عليه الصلاة
والسلام عليهم تلك الآيات.
السبب
الثانـي: يختلفون بعضهم يقول نزلت في كذا وبعضهم يقول نزلت في كذا وبعضهم
يقول نزلت في كذا يعني الاختلاف في هذا السبب كذا وكذا لا يلغي دلالة الآية
يعني لا يكون أن الآية لا تدل على ما عمها لفظها لأجل أنهم اختلفوا في سبب
النـزول فأسباب النـزول أفراد للعموم مثل ما تقول العموم: القوم فيدخل
فيها فلان وفلان وفلان، إذا قلنا فلان وفلان وفلان اختلفنا تقول دخل الرجال
قلت أنت محمد وصالح وأحمد قال الثاني: لا خالد وأحمد وعبد العزيز قال
الثالث: لا عبد الله ومحمد وخالد اختلفوا في من هم الرجال هل الاختلاف في
هذا تحديد المعنى هل يعني اختلاف الدخول لا هم دخلوا لكن التحديد هذا هو
الاختلاف فيه.
حصلت
الواقعة لِمَ؟ والله قال بعضهم السبب كذا وكذا وكذا، وقال آخرون لا السبب
هذه الواقعة كذا وكذا وكذا فالاختلاف في السبب لا يعني أنها لم تحصل أو أن
المعنى الذي فيها ليس بمؤخذ به، لا.
فإذاً
اختلافهم في أسباب النـزول هو من قبيل ذكر أفراد العام لا من قبيل التخصيص
ويريد شيخ الإسلام أن يذكره هذه القاعدة لأنه ذكرها بعد ذكر العام
وأفراده. (مكرر)
القارئ: (وقد
تنازع العلماء في قول الصاحب: (نزلت هذه الآية في كذا) هل يجري مجرى
المسند – كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله – أو يجري مجرى التفسير منه الذي
ليس بمسند؟ فالبخاري –رحمه الله تعالى- يدخله في المسند، وغيره لا يدخله
في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما
إذا ذكر سبباً نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (الحاكم في المستدرك قال كلمة في كتاب التفسير مهمة يقول: (وقول الصاحب
الذي شهد التنـزيل) لاحظ الكلمة (الذي شهد التنـزيل نزلت في كذا حديث مسند)
يعني مرفوع لأنه هو شهد ذلك، هذا معناه متصل هو شهده ورآه ويذكر ما شهده
بناءً على هذا فقول الصحابة الذين شهدوا هذه الأمور تكون من قبيل المسند لا
من قبيل الموقوف يعني ليست بآثار بل هي مسندة وهذا مثل ما ذكر ما جرى عليه
الإمام أحمد في مسنده وأصحاب المسانيد فليس كل ما فيها مرفوعة بل قد يكون
منها شيء يقول نزلت في كذا حصل كذا لأن مشاهدته للتنزيل مشاهدته للحادثة
هذه تكفي في كونه مسنداً فيكون المراد بالمسند أنه متصل بالنبي عليه الصلاة
والسلام إما قولاً أو زماناً.
القارئ: (وإذا عرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال.
وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله، وذكر الآخر سبباً فقد يمكن
صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين؛ مرة لهذا
السبب، ومرة لهذا السبب. وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير
تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه.
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (كونه يقول قد تكون نزلت مرتين طبعاً النـزول الاصطلاحي؛ يكون للمرة الأولى
نزلت لكذا التي هي المرة الأولى أما المرة الثانية فيكون إنزالها للتذكير
بها ينـزل بها جبريل عليه السلام إما سورة كاملة كـ(سورة الفاتحة) وإما بعض
سورة (ويل للمطففين) وغيرها فيكون للتذكير بشمول ما حدث لهذه الآيات أو
بشمول الآيات لما حدث بدخول ما حدث في الآيات وبشمول الآية لما حدث.
القارئ: (وهذان الصنفان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات: هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار
قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه:
(ومَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزولِ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الآيةِ؛ فَإِنَّ
العِلْمَ بِالسَّببِ يُورِثُ العِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ، وَلِهَذَا كَانَ
أَصَحَّ قَوْلَي الفُقَهَاءِ أنَّهُ إِذَا لَمْ يُعرَفْ مَا نَوَاهُ
الحالِفُ رُجِعَ إِلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثارَهَا).
هذه
العبارةُ الأخيرةُ من استطراداتِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ النافعةِ، فقد
كان بَحْرًا زَاخِرًا إذا تكلَّمَ أو كَتَبَ تداخَلَتْ عندَه الأمثلةُ في
أنواعِ العلومِ، فبيَّنَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن معرفةَ
سببِ النـزولِ يُعينُ على معرفةِ معنى الآيةِ؛ لأنَّ العلمَ بالسببِ
يُورِثُ العِلمَ بالمسبَّبِ، ولهذا كان أصحَّ قوْلَيِ الفقهاءِ أنه إذا لم
يُعْرَفْ ما نَواهُ الحالِفُ رَجعَ إلى سببِ يَمينِه وما هيَّجَها وأثارَها. أيْ: ماذا نَوى فيها , وما هو السَّببُ لحَلِفِه. فإذا عُرِفَ ذلك تبيَّنَ حِنثُه من عَدمِه.
ما
يُهِمُّ هنا هو ما يتعلَّقُ بالتفسيرِ، وهو أنَّ معرفةَ سببِ النـزولِ
يعينُ على فَهمِ الآيةِ، وهذه قاعدةٌ كليةٌ، فإذا عُرِفتِ الأسبابُ
الصريحةُ لنـزولِ الآيةِ عُرفَ تفسيرُ الآيةِ.
فقولُه تعالى: {وَيُنَـزِّلُ
عَليكمْ مِن السَّماءِ ماءً ليُطَهِّرَكُم به ويُذْهِبَ عنكمْ رِجْسَ
الشيطانِ وليَرْبِطَ على قُلوبِكُم ويُثَبِّتَ به الأقدامَ} فإذا جئتَ لتفسِّرَ قولَه تعالى: {ويُثَبِّتَ به الأقدامَ}
وجدتَ أنها من الناحيةِ اللغويةِ تحتملُ أن يكونَ المرادُ بها تقويةَ
القلوبِ , كما يقالُ: فلانٌ ثابتُ القَدَمِ إذا كان قوِيَّ القلبِ، وكما في
قولِه تعالى حكايةً عن بني إسرائيل: {وَثَبِّتْ أقْدامَنَا وانصرُنا على القومِ الكافرين} فثَبِّتْ أقدَامَنا معناها: قوِّ قلوبَنا.
ولكنك
إذا رجَعْتَ إلى سببِ نزولِ الآيةِ وما ذَكرهُ علماءُ السِّيَرِ من خبَرِ
المطرِ الذي نَزلَ في بدرٍ، وكان من آثارِ هذا المطَرِ أنه نَزلَ على أرضٍ
رَملةٍ بالنسبةِ للصحابةِ، فصارتْ أقدامُهم ثابتةً على الأرضِ؛ تبيَّنَ
أنَّ المرادَ الأقدامُ الحِسِّيَّةُ التي يُمشَى عليها.
والمعنى الأولُ وإن كان سائِغًا في جهةِ اللغةِ وقد فَسَّرَ به بعضُ أئمةِ اللغةِ , كأبي عبيدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى , فقال: {وَثَبِّتْ أقْدَامَنا} يُفرِغُ عليهم الصبرَ، وهذا صحيحٌ لو لم يكنْ للآيةِ قصةٌ مرتبطةٌ بها , وهي أشبهُ بسببِ النزولِ.
إذًا لا بُدَّ من معرفةِ سببِ النـزولِ أو قصةِ الآيةِ لكي يتبيَّنَ معنى الآيةِ.
ومثالُ معرفةِ قصَّةِ الآيةِ ما وَردَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {إنَّما النَّسِيءُ زيادةٌ في الكُفرِ يُضَلُّ به الذين كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا ويُحَرِّمُونَه عامًا}.
فمَن لا يَعرفُ المرادَ بالنَّسيءِ لا يستطيعُ أن يُفَسِّرَ الآيةَ،
والنسيءُ هو ما كانت تَفعلُه العربُ من تأخيرِ الأشهرِ الحُرمِ حيث يقِفُ
عظيمٌ من عظماءِ العَرَبِ وذَوِي الجلالةِ فيهم في المَوْسمِ –لأنَّ
المَوْسِمَ يتجمَّعُ فيه العربُ كلُّهم فكان أشبهَ بالنادي الإعلاميِّ
بالنسبةِ لهم، يسمعون فيه الأشعارَ والأخبارَ وغيرَها- فيقومُ هذا الرجلُ
في المَوسِمِ فيذكُرُ اسمَه واسمَ أبيه ويتحدَّثُ عن مآثِرِه ومآثِرِ
آبائِه وأجدادِهِ ومآثِرِ قومِه، ويقولُ: إني قد نسَأْتُ شهرَ اللَّهِ
المحرَّمَ إلى صفرٍ، فإذا عمَّ الخبَرُ بينَهم أجازوا لأنفُسِهم القتالَ في
شهرِ اللَّهِ المحرَّمِ، فصارتِ الأشهرُ كلَّ سنةٍ تُنْسَأُ حتى حجَّ
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فجَعلَ المحرَّمَ في مكانِه.
فالمقصودُ أنَّ مَن لا يعرفُ قصةَ النَّسيءِ لا يستطيعُ تفسيرَ هذه الآيةِ.
وقِسْ على ذلك غيرَه من الأمثلَةِ.
فمثلًا قولُه تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرثٌ لكم فَأْتُوا حَرْثَكُم أنَّى شِئتُمْ}
أي: كيف شئتمْ، فقد يَفهَمُ منه أحدٌ جوازَ إتيانِ المرأةِ في موضِعِ كذا.
لكنه إذا عَرفَ سببَ النـُّزولِ عَرفَ أنَّ المرادَ حكايةٌ عن أوضاعِ
الجماعِ، وليس حكايةً عن مكانِ الجماعِ.
والمقصودُ
أنَّ سببَ النـزولِ لا شَكَّ أنه مُعِينٌ على فَهمِ الآيةِ , لكنْ تَرِدُ
بعضُ الآياتِ النازلةِ على سببٍ وتكونُ مفهومةً من غيرِ السَّببِ، فقضيةُ
الظِّهارِ مثلًا يمكنُ أن نَعرِفَ معنى الآيةِ دونَ أن نعرِفَ القصَّةَ،
فقولُه تعالى: {قد سَمِعَ اللَّهُ قولَ التي تُجادِلُكَ في زَوجِها وتشتكي إلى اللَّهِ واللَّهُ يَسمَعُ تحاوُرَكُما إنَّ اللَّهَ سميعٌ بصيرٌ} الآياتِ، إذا عَرفتَ معنى الظِّهارِ في هذه الآياتِ فلا تحتاجُ إلى أن تَعرفَ القصةَ بتفاصيلِها. كذلك قولُه تعالى: {يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تتَّخِذوا عدُوِّي وعدوَّكُم أولياءَ} نزلتْ بسببِ حاطبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ، فإذا قرأتَ الآياتِ يمكنُ أن تَعلمَ المرادَ من غيرِ معرفةِ السَّببِ.
سـؤالٌ: هل هناكَ ضابِطٌ للقولِ بالعمومِ في مثلِ قولِه تعالى: {وقلِ اعمَلوا فسَيَرى اللَّهُ عمَلَكم ورسولُه والمؤمنونَ}.
جـوابٌ: تعميمُ هذه الآيةِ على كلِّ عملٍ يدخُلُ عليه إشكالان:
الأولُ: أنَّ الآيةَ نزلتْ في سياقِ المنافقين.
الثاني: أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لا يَرى أعمالَنا بعدَ وفاتِه.
ولكن
إذا أُخِذَتِ الآيةُ على سبيلِ الاستشهادِ – وليس على سبيلِ التفسيرِ ,
وبينَهما فرقٌ – فالاستشهادُ بابُه واسعٌ، وهو أوسعُ من التفسيرِ.
ولهذا لما دَخلَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على عليٍّ وفاطمةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ليلةً فقال: ((ألا تُصلِّيانِ)).
قال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: نفوسُنا بيدِ اللَّهِ إن شاءَ بعثَها.
يعني: فنقومُ للصلاةِ، فخَرجَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ , وهو
يَضرِبُ على فَخِذَه , ويقولُ: (({وكان الإنسانُ أكْثَرَ شيءٍ جدَلًا})).
فهذه
الآيةُ نزلتْ في سياقِ الكُفَّارِ، لكنه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ
استشهدَ بها على فعلِ عليٍّ؛ لأنه داخلٌ في مفهومِها؛ لأنه بينَ الآيةِ
وبينَ فِعلِ عليٍّ مناسبةٌ.
وكذلك الآيةُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فهذه الجملةُ من حيثُ هي صالحةٌ بأنْ يُستشهدَ بها على أفعالِ الناسِ.
وإذا
قيل (استشهادٌ) تبيَّن منه أنه ليس المقصودُ من الآيةِ أنَّ الرسولَ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسَلَّمَ يَعلَمُ أعمالَنا، وإنما المقصودُ حكايةُ الآيةِ
بنصِّها؛ لأنَّ الاستشهادَ يُحكَى فيه النصُّ المُستشهَدُ به بلفظِه دون
تغييرٍ.
فمِثلُ
هذا الاستشهادِ يجوزُ ولكن بشرطِ أن يكونَ بينَ المعنى المُسْتَدَلِّ عليه
والآيةِ ترابُطٌ، فلا يأتي أحدٌ – مثلًا – ويقولُ: الرِّبا لا يجوزُ
بدلالةِ قولِه سبحانَه وتعالى: {تَبَّتْ يَدا أبِي لَهبٍ وتَبَّ}؛ لأنه لا ترابُطَ بينَ الآيةِ وبينَ ما ذُكِرَ، لا مِن جهةِ الألفاظِ , ولا من جهةِ المعنى.
أَضربُ مثالاً آخَرَ، قولُه تعالى: {فلمَّا زَاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قلوبَهم}
هذه الآيةُ ذُكرتْ في سياقِ اليهودِ في قصَّةِ موسى عليه السلامُ، ولكنَّ
سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ: هم الخوارِجُ، وكذلك أبو
أُمامةَ يقولُ: نزلتْ في الخوارِجِ.
فهذان
الصحابِيَّانِ انتزَعا هذه الجملةَ من الآيةِ واستدلَّا بها على الخوارجِ؛
لأنَّ الخوارجَ ينطبِقُ عليهم أنهم قومٌ زاغوا فأزاغَ اللَّهُ قلوبَهم.
وهناك أمثلةٌ أخرى وردتْ فيها أحاديثُ وكلامُ السَّلفِ , ولكنْ ليس
المَقامُ مَقامَ بَسطِها.
وإذا قلنا: إنَّ هذا الاستشهادَ يجوزُ. فلا يعني هذا أنَّ أيَّ واحدٍ يمكنُ أن يتكلَّمَ بما شاءَ ويستدِلَّ مِن القرآنِ بما شاء.
فقبلَ
ثلاثةِ أيامٍ كنتُ في جُدَّةَ , وسأَلَني أحدُهم عن نفسِ الموضوعِ , وقال:
إنَّ عندَهم أُناساً يزعُمون أنَّ مَن لم يَفعلْ هذا فإنه مُقصِّرٌ في
حقِّ القرآنِ؛ لأنه لا يُطبِّقُ الآياتِ على واقِعِها.
وهذا
غيرُ صحيحٍ، فلا تفتحِ البابَ لكلِّ أحدٍ يقولُ ما شاء، والمقصودُ أنَّ
أصلَ المسألةِ صحيحٌ، ولكن قد يكونُ الاستدلالُ ببعضِ الآياتِ في بعضِ
المواطِنِ غيرَ صحيحٍ، فهذا يُرجَعُ فيه إلى العلماءِ.
سـؤالٌ: يقولُ: ما حُكمُ مَن قال عندَما يريدُ رَكْلَ الكُرةِ: باسمِ اللَّهِ مَجْرَاها ومُرْساهَا.
جـوابٌ:
هذا القولُ من الأشياءِ المحرَّمةِ؛ لأنَّ هناك قاعدةً , وهي أنَّ القرآنَ
إذا نزلَ في مَواطِنِ اللَّعبِ والهَزلِ فإنَّ ذلك لا يجوزُ {إنَّه لقولٌ فصلٌ وما هُوَ بالهَزْلِ}، فالمَواطنُ التي لا تدلُّ على احترامِ القرآنِ لا يجوزُ إطلاقًا أن تُذكرَ فيها الآياتُ.
وهذا
سؤالٌ حسَنٌ وفيه تقييدٌ جيِّدٌ، وقد كتبتُ فيه مقالةً مستقِلَّةً في
مَجَلَّةِ (مواكب/ عدد 12 / 1423) التي تصدُرُ عن الجمعيةِ الخيريةِ
لتحفيظِ القرآنِ الكريمِ بجُدَّةَ، وقد ذكرتُ فيها أنه إذا قيل في مواطِنِ
الهَزْلِ فهذا أصلًا حرامٌ، سواءٌ كان للاستشهادِ أو لغيرِ الاستشهادِ،
ولهذا بعضُ أهلِ الغناءِ الذين يُدخِلُون شيئًا من كلامِ اللَّهِ أو غيرِه
في وسَطِ كلامِهم، هذا لا شكَّ أنه محرَّمٌ , ولا يجوزُ إطلاقًا.
ويدخُلُ
في هذا أيضًا مَن يتكلَّمُ بالقرآنِ؛ أي: تكونُ جميعُ جواباتِه أو جُلُّها
من القرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ لم يَنْزِلْ لهذا، فمَن كانت طريقَتُه أنه
كُلَّما تكلَّمَ أجاب بآيةٍ من القرآنِ فإنه يَدخُلُ في هذا، أما إذا كان
شِعْرًا جادًّا- وهو ما يُعرفُ بالاقتباسِ- فلا بأسَ، كما يُوجدُ في شعرِ
بعضِ الشعراءِ الإسلاميين.
قولُه: (وَقَولُـُهم:
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أنَّهُ سببُ
النُّزولِ، ويُرَادُ بِهِ تارَةً أنَّ هَذَا دَاخِلٌ في الآيَةِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُن السَّبَبَ. كَمَا تَقُولُ: عَنَى بِهَذِهِ الآيةِ كَذَا.
وقَدْ تَنازَعَ
العُلَمَاءُ في قَوْلِ الصَّاحبِ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي كَذَا "
وَهَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ - كَمَا لَوْ ذُكِرَ السَّببُ الَّذِي
أُنْزِلَتْ لأجْلِهِ - أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفسيرِ منْهُ الَّذِي
لَيْسَ بِمُسْنَدٍ، فَالبُخَاريُّ يُدْخِلُهُ في الْمُسْنَدِِ، وَغَيرُهُ
لاَ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا
الاصْطِلاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وغيرِهِ، بِخلافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَببًا
نزلَتْ عَقِبَهُ، فإنَّهُم كُلَّهُمْ يُدْخلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي
الْمُسْنَدِ. وَإِذَا عـُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِم: " نَزَلَتْ في
كَذَا " لاَ يُنَافِي قَوْلَ الآخرِ: " " نزَلَتْ في كَذَا ". إِذَا كَانَ اللفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ في التَّفسيرِ بِالمِثَالِ)
ما زالَ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ في استطرادٍ حولَ سببِ النـزولِ، وهو استطرادٌ نافعٌ ومُفيدٌ.
يقولُ
شيخُ الإسلامِ: إنه كثيرًا ما يَرِدُ في التفسيرِ عبارةُ " نَزلتْ هذه
الآيةُ في كذا " فيظُنُّ القارئُ أنَّ فلانًا المذكورَ هو سببُ نزولِ
الآيةِ، مِثلُ قولِ الصحابيِّ: نزلتْ في النفقةِ، يَقصِدُ قولَه تعالى: {ولا تُلْقُوا بأيدِيكم إلى التَّهلُكَةِ}
فمثلُ هذه العباراتِ التي تَرِدُ عن السَّلفِ في أسبابِ النـزولِ ,
القاعدةُ فيها أنه إذا قيل: " كان كذا فنزلتْ " أو " فأَنزلَ اللَّهُ "
الأصلُ في هذه العباراتِ أنها سببُ نزولٍ مباشِرٌ، ولكن قد تَرِدُ هذه
الصيغةُ أحيانًا , ولا يكونُ المذكورُ سببَ نزولٍ مباشِراً للآيَةِ.
أما
إذا قيلَ: " نَزلتْ هذه الآيةُ في كذا ". فالأصلُ أنَّ المرادَ بها
التفسيرُ؛ أي: إن ما ذُكرَ مما يَدخلُ في حكمِ الآيةِ، ولكن أيضًا قد
تَرِدُ هذه الصيغةُ أحيانًا , ويرادُ بها أنَّها سببُ نزولٍ مباشِرٌ.
فكلٌّ من الصيغِ قد يَرِدُ على خلافِ الأصلِ والمَرجِعُ في تحديدِ ذلك هو القرائنُ.
فإذا
كانتْ هناكَ قرينةٌ تدلُّ على أنه سببُ نزولٍ مباشرٌ –كأن يكونَ المتكلِّمُ
مثلًا هو صاحبَ القصَّةِ – فإنه يُعملُ بالقرينةِ. وذلك مِثلُ قولِ ابنِ
مسعودٍ: كنتُ أمشي مع رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فمَرَّ
بنا نَفرٌ من اليهودِ فسألُوه عن الرُّوحِ، قال: وكان متَّكئًا على عصًا..
إلى آخِرِ الحديثِ الذي ذَكرَه البخاريُّ في سببِ نزولِ: {ويَسألونَكَ عن الرُّوحِ}
فهذا يُعتبرُ سببَ نزولٍ؛ لأنَّ الذي باشَرَ القصَّةَ هو الذي يُحدِّثُ في
هذا الخبرِ، فلا يمكنُ أن يكونَ أرادَ بهذا اللفظِ غيرَ سببِ النـزولِ.
لكنَّ قولَه تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
يقولُ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمرَ: نزلتْ في صلاةِ الرجُلِ على راحلَتِه، ثم
يَذكرُ قصةً من خبرِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أنهم كانوا في
ليلةٍ مَطِيرةٍ، وأنهم لم يَعرِفوا القِبلةَ فصلَّى كلٌّ على راحلَتِه على
وَجْهِه. فهل مرادُه أنَّ هذا سببُ نزولِ الآيةِ , أو أنَّ ما ذُكِرَ
يدخُلُ في معنى الآيةِ؟ المقصودُ أنه لا بُدَّ أن ننظُرَ إلى المثالِ
ونحلِّلَه من خلالِ ما وَردَ فيه من ألفاظٍ وقرائِنَ.
ثم
ذَكرَ المصنِّفُ أنه إذا وَردَ عن الصحابيِّ أو التابعيِّ أو تابعِ
التابعيِّ فمَن بعدَه قولُهم: " نَزلتْ هذه الآيةُ في كذا ". فإنَّ هذا
القولَ يُستفادُ منه فائدتانِ:
الفائدةُ الأولى: أنَّ هذا من بابِ المثالِ.
الفائدةُ الثانيةُ: أننَّا نجعلُه من بابِ التفسيرِ , وليس من بابِ السَّببِ، وحينئذٍ لا يُوجدُ إشكالٌ في المسألةِ.
ومثالُ ذلك ما تقدَّمَ عن أبي أمامةَ – فيما رَواهُ الطبريُّ – في قولِه تعالى: {فلمَّا زَاغُوا أزاغَ اللَّهُ قلوبَهم}
قال: نزلتْ في الخوارِجِ. فليس مرادُه أنَّ الخوارجَ هم سببُ النـزولِ؛
لأنَّ هذا غيرُ معقولٍ، وإنما مرادُه أنَّ الخوارجَ يدخُلون في معنى هذه
الجملةِ.
كذلك قولُه تعالى: {وإنْ يُريدوا خيانَتَكَ فقد خانُوا اللَّهَ مِن قَبلُ فأمْكَنَ منهم}.
قال بعضُ السَّلفِ: نزلتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ أبي السَّرْحِ، ومعلومٌ أن
عبدَ اللَّهِ بنَ أبي السَّرْحِ ارتدَّ عن الإسلامِ , ثم رَجعَ إلى
الإسلامِ عامَ الفتحِ وتابَ، فقصَّتُه كانت بعدَ غزوةِ بدرٍ، وهذه الآيةُ
نزلتْ في سورةِ الأنفالِ، وهي متعلِّقةٌ بغزوةِ بدرٍ، فكيف يقالُ: المرادُ
هو عبدُ اللَّهِ بنُ أبي السَّرحِ؟ وإنما المرادُ من قولِهم: إنها نزلتْ
فيه أنه يدخُلُ في معنى الآيةِ.
فإذا
فُهِمَ أن المرادَ بقولِ السَّلفِ: " نزلتْ في كذا " هو المثالُ، وأنَّ ما
ذُكرَ يدخُلُ في معنى الآيةِ؛ فإنَّ هذا يَحُلُّ الإشكالَ الذي يَرِدُ
عندَما نقرأُ عباراتِ السَّلفِ المتعدِّدةَ على هذا النحوِ في الآيةِ
الواحدةِ.
الدرسُ الثامنُ
القضيةُ
الثانيةُ التي ذَكرَها المصنِّفُ هي قضيةٌ تتعلَّقُ بأصحابِ الصِّحَاحِ
والمسانيدِ والسُّنَنِ من المحدِّثين الذين دَوَّنُوا الحديثَ، فإذا وردتْ
عندَهم عبارةُ النزولِ هذه، فكيف يتعاملون معها؟
يقولُ
المصنِّفُ: إنَّ البخاريَّ يُدخِلُها في المسنَدِ؛ أي: المرفوعِ، وغيرَ
البخاريِّ لا يُدخِلُها في المسنَدِ؛ لأنَّ المسنَدَ إنما يُذكَرُ فيه ما
رواه الصحابيُّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، ولا تُذكرُ فيه
أقوالُ الصحابةِ.
قال: "
بخلافِ ما إذا ذَكرَ سببًا نزلتْ عَقِبَه؛ فإنهم كلَّهم يُدخِلون مثلَ هذا
في المسنَدِ " فقولُهم: "كان كذا فأنزلَ اللَّهُ كذا " أو " كان كذا
فنزلتْ " كلُّهم يتَّفِقون على أنَّها من قَبيلِ المسندِ؛ لأنه سببٌ
مباشرٌ، فهو في حُكمِ المرفوعِ؛ لأنَّ أسبابَ النزولِ في حُكمِ المرفوعِ.
فالبخاريُّ
رَحِمهُ اللَّهُ في كتابِ التفسيرِ من صَحيحِه يُورِدُ أقوالَ الصحابةِ
والتابِعينَ من غيرِ إسنادٍ؛ لأنَّها ليست على شَرطِه، فيقولُ مثلاً: قال
ابنُ عبَّاسٍ، قال مجاهِدٌ، قال عطاءٌ... إلخ.
ولكنه
إذا جاءتْ عبارةُ "نزلتْ في كذا" عن الصحابيِّ فإنه يُسنِدُه، فيقولُ:
حدَّثنا فلانٌ، حدَّثنا فلانٌ.. إلخ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذه العبارةَ
تَدخُلُ عنده في المسنَدِ، فلماذا أَدخلَ البخاريُّ عبارةَ النـزولِ في
المسنَدِ؟
ومثالُ ذلك ما أوردَه في تفسيرِ سورةِ الأنفالِ في صحيحِهِ، قال: " بابٌ قولُه: {يَسألُونكَ عن الأنفالِ قُل الأنفالُ للهِ والرسولِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بينِكم}
قال ابنُ عباسٍ: الأنفالُ: المغانِمُ. قالَ قَتَادَةُ: رِيحُكُم: الحرْبُ. يُقالُ: نافلةٌ: عطيَّةٌ .
حدثني
محمدُ بنُ عبدِ الرحيمِ، حدثنا سعيدُ بنُ سليمانَ، أخبرنا هُشيمٌ، أخبرنا
أبو بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ الأنفالِ
قال: نَزلتْ في بدرٍ.
وتَجِدُه
هنا نَقلَ عنِ ابنِ عباسٍ قولَيْنِ: الأولُ علَّقَه على ابنِ عباسٍ؛ لأنه
يراه من تفسيرِ الصحابيِّ، والثاني أَسنَدَه؛ لأنَّ فيه عبارةَ " نَزلتْ في
" .
ثم
ذَكرَ شيخُ الإسلامِ أنه إذا عُرِفَ هذا فقولُ أحدِهم: "نزلتْ في كذا". لا
ينافي قولَ الآخَرِ بأنها نزلتْ في معنًى آخَرَ؛ لأن هذا من بابِ التمثيلِ،
فلا يُشكِلُ حينئذٍ أن يَرِدَ عن السَّلفِ في الآيةِ الواحدةِ عِدَّةُ
أقوالٍ في أسبابِ النـزولِ ما دام معنى الآيةِ يحتملُ هذه الأقوالَ كلَّها.
فمثلاً
آيةُ اللِّعانِ قيل: إنها نزلتْ في عُوَيْمِرٍ العَجْلانيِّ، وقيل: نزلتْ
في هلالِ بنِ أميَّةَ، فمِثلُ هذا الاختلافِ لا يؤثِّرُ على معنى الآيةِ،
فلا يُختلفُ في تفسيرِها إذا كان سببُ نزولِها أحدَهما , عما إذا كان سببُ
نزولِها هو الآخَرَ.
فمِثلُ
هذا الخلافِ – وإن كان قديمًا بينَ الصحابةِ , كما في صحيحِ البخاريِّ
أنَّ من الصحابةِ مَن يرى أن سببَ نزولِها هو هلالٌ، ومنهم مَن يرى أنه
عويمرٌ – لا يتأثَّرُ به تفسيرُ الآيةِ، وإذا كان تفسيرُ الآيةِ يختلفُ
باختلافِ سببِ النـزولِ, فلا مانِعَ من تعدُّدِ سببِ النـزولِ حينَئذٍ.
أما
إذا كان سببُ النـزولِ يؤثِّرُ على تفسيرِ الآيةِ والمعنى المرادِ منها فلا
بدَّ من تحريرِ أسبابِ النزولِ سندًا ومتنًا لبيانِ الصحيحِ منها؛ لأنه
يترتَّبُ عليه اختلافُ معنَى الآيةِ وبيانُ تفسيرِها.
أما
إذا كان سببُ النـزولِ لا يختلفُ معنى الآيةِ بسببِه كما في المثالِ
السابقِ فإنَّ معرفةَ سببِ النـزولِ حينئذٍ تكونُ مسألةً متعلِّقةً
بالتاريخِ وسرْدِ الحوادثِ، وليس لها ارتباطٌ وثيقٌ بمعنى الآيةِ، فيكونُ
الأمرُ فيها واسعًا طالَما أنَّ معنى الآيةِ يحتملُ كلَّ تلك الأسبابِ
المذكورةِ.
قولُه: (وَإِذَا
ذَكَرَ أَحَدُهُم لَهَا سَبَبًا نَزلَتْ لأجْلِهِ، وَذَكَرَ الآخرُ
سَبَبًا، فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ
تِلْكَ الأسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتينِ؛ مَرَّةً لِهَذَا
السَّببِ، وَمَرَّةً لِهَذَا السَّببِ. وَهَذَانِ الصِّنفانِ اللَّذَانِ
ذَكَرْنَاهُمَا في تَنَوُّعِ التَّفسيرِ – تارَةً لتنوُّعِ الأسماءِ
والصِّفاتِ، وَتَارةً لِذِكْرِ بَعْضِِ أنواعِ المسمَّى وأَقْسَامِهِ
كَالتَّمثيلاتِ – هُمَا الغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الأُمَّةِ الَّذِي
يُظَنُّ أنَّهُ مُخْتَلِفٌ !!).
ما
زال الحديثُ حولَ تعدُّدِ أسبابِ النـزولِ، فإذا ذَكرَ أحدُهم لها سببًا،
وذَكرَ الآخرُ سببًا آخَرَ فمِن الممكنِ صِدْقُهما بأن تكونَ الآيةُ نزلتْ
عَقِبَ هذه الأسبابِ، فسورةُ الأنفالِ مثلًا يُذكرُ في سببِ نزولِها أنَّ
سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ أخذ سيفًا مِن الغنائمِ، فقال له الرسولُ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((ضَعْهُ في السَّلَبِ)). فلما ذهبَ دعاهُ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وتلا عليه: {يَسْأَلُونَكَ عَن الأنْفَالِ}، فسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ يَرى أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ بسبِبِه.
وفي روايةٍ أُخْرى: أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قال للصحابةِ: ((مَن قَتلَ قتيلًا فلَهُ سلَبُه)).
فلما فَعلُوا ردَّها حتى يَحْكُمَ بها، ثم وَزَّعَها عليهم مرَّةً أخرى
لما نزلتْ الآيةُ. فهذان السَّببانِ المذكوران لنـزولِ هذه السورةِ يمكنُ
صِدقُهما بأن تكونَ نزلَتْ بعدَهما؛ أي: بعدَ وقوعِ كِلْتَا الحالَتَيْن.
ثم
ذَكرَ شيخُ الإسلامِ بأنَّ هذَيْنِ الصِّنفَيْن السابِقَين – تنوُّعَ
العبارةِ والتفسيرَ بالمثالِ – هما الغالِبُ في تفسيرِ الأمَّةِ الذي
يُظَنُّ أنه مختلِفٌ).