الدروس
course cover
أنواع اختلاف التنوع
9 Nov 2008
9 Nov 2008

10709

0

0

course cover
شرح مقدمة التفسير

القسم الأول

أنواع اختلاف التنوع
9 Nov 2008
9 Nov 2008

9 Nov 2008

10709

0

0


0

0

0

0

0

أنواع اختلاف التنوع

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَصْلٌ فِي اخْتِلافِ السَّلَفِ فِي التَّفسِيرِ ، وَأنَّهُ اخْتِلافُ تَنَوُّعٍ

وَالْخِِلاَفُ بَيْنَ السَّلفِ في التَّفسيرِ قَلِيلٌ ، وَخِلافُهُم في الأحْكَامِ أَكْثَرُ منْ خِلافِهِمْ في التَّفسيرِ ، وغَالبُ ما يَصِِحُّ عَنْهُمْ من الخِلافِ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ تَنَوُّعٍ لاَ اخْتِلاَفِ تَضَادٍّ، وَذَلِكَ صِنْفَانِ :
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمْ عَنِ المُرَادِ بعبارَةٍ غَيرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ ، تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى في المُسَمَّى غَيرِ الْمَعنَى الآخَرِ ، مَعَ اتِّحادِ الْمُسَمَّى ، بِمنْزِلَةِ الأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ ، كَمَا قِيلَ في اسْمِ السَّيفِ : الصَّارمُ والْمُهَنَّدُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى ، وَأَسْمَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْمَاءِ القُرْآنِ ؛ فَإنَّ أَسْمَاءَ اللهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى واحِدٍ .
فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعائِهِ بِاسْمٍ آخَرَ ، بَلْ إِنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ تعالَى :{ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ} [سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 110] وَكُلُّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ المُسَمَّاةِ وعلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الاسْمُ؛ كَالْعَليمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والعِلْمِ، وَالقَدِيرِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ والقُدْرَةِ، والرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والرَّحمةِ.
ومَنْ أَنكَرَ دِلاَلَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهرَ فَقَولُهُ منْ جِِنْسِ قَوْلِ غُلاةِ البَاطِنِيَّةِ القَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا يُقالُ هُوَ حَيٌّ وَلا لَيْسَ بحَيٍّ، بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقيضَيْنِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ القَرَامِطَةَ البَاطنيَّةَ لا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عَلَمٌ مَحْضٌ كَالمُضْمَراتِ، وَإنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا في أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى منْ صِفَاتِ الإثْبَاتِ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كانَ – مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ – مُوَافقًا لِغُلاَةِ الباَطنيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلكَ.
وَإنـَّما المقصودُ أنَّ كُلَّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ، وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ منْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ: مُحَمَّدٍ، وَأَحمَدَ، والمَاحِي، وَالْحَاشِرِ، وَالعَاقِبِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ القرآنِ مِثْلُ: القُرْآنِ، وَالفُرْقاَنِ، وَالهُدَى، وَالشِّفَاءِ، والبَيَانِ، وَالكِتَابِ، وأمْثَالِ ذلِكَ.
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ المُسمَّى عبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسمَّى هَذَا الاسْمِ، وقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَمًا، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً، كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قولِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} [سُورَةُ طه: 124]، مـَا ذكرُهُ ؟ فيُقَالُ لَه : هـُوَ القُرْآنُ مَثَلاً ، أَوْ مَا أَنْزَلَهُ من الكُتُبِ ، فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ ، والمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ ، وَتَارَةً إِلَى الْمَفعُولِ ، فَإِذَا قِيلَ : ذِكْرُ اللهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي ، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ ؛ مِثْلُ قوْلِ العَبْدِ : سُبْحَانَ اللهِ ، والحمْدُ للهِ ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَاللهُ أكْبَرُ . وإِذَا قِيلَ : بِالْمَعْنَى الأَوَّلِ ، كَانَ مَا يذكُرُهُ هُوَ ، وهُوَ كلامُهُ ، وهَذَا هُوَ المُرادُ في قولِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} ؛ لأنَّهُ قَالَ قبلَ ذلِكَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} سُورَة طَه : 123]، وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ من الذِّكرِ . وَقَالَ بَعْدَ ذلِكَ : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}[سُورَةُ طَه: 125 - 126].
وَالمقصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلامُهُ الْمُنَزَّلُ ، أَوْ هُوَ ذِكْرُ العَبْدِ لَهُ ، فَسَوَاءٌ قِيلَ : ذِكْرِِي كِتَابِي ، أَوْ : كَلاَمِي ، أَوْ : هُدَايَ ، أَوْنَحْوُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى واحِدٌ .
وَإِنْ كَانَ مَقصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا في الاسْمِ منَ الصِّفَةِ المختصَّةِ بِهِ ، فَلا بُدَّ منْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى ؛ مِثلُ أَنْ يَسْأَلَ عَن : {الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [سورة الحشر: 23]وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ اللهُ ، لَكِنَّ مُرَادَهُ : مَا مَعْنَى كَونِهِ قدُّوسًا سَلامًا مُؤمنًا ؟ وَنَحْوُ ذلِكَ .
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَن المُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ علَى عَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا من الصِّفَةِ مَا لَيْسَ في الاسْمِ الآخرِ ، كَمنْ يقُولُ : أحمدُ هُوَ الحاشرُ ، وَالْمَاحِي ، وَالعَاقِبُ . والقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ؛ أيْ : إنَّ المُسَمَّى واحِدٌ , لا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هيَ هَذِهِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بعْضُ النَّاسِ .
مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ :
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ القُرْآنُ ؛ أَي اتِّبَاعُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ منْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ : (( هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ ، وَالذِّكرُ الْحَكِيمُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ )) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ الإسْلامُ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ ، وغيرُهُ : (( ضَـرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ ، وَ فِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَ دَاعٍ يَدْعُو منْ فَوْقِ الصِّراطِ ، ودَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ )) قَالَ : (( فَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الإسْلامُ ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ ، وَالأبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ، وَالدَّاعِي علَى رَأْسِ الصِّراطِ كِتَابُ اللهِ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّراطِ وَاعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمنٍ )) .
فَهَذَانِ القَوْلانِ مُتَّفِقَانِ ؛ لأنَّ دِينَ الإسْلامِ هُوَ اتِّباعُ القُرْآنِ ، ولكنْ كُلٌّ منْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيرِ الوَصْفِ الآخرِ ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الصِّراطِ يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالثٍ ، وَكَذلِكَ قَوْلُ منْ قالَ : هُوَ السُّنَّةُ وَالجَمَاعَةُ ، وَقَوْلُ منْ قَالَ : هُوَ طَريقُ العبوديَّةِ ، وَقوْلُ منْ قَالَ : هُو طاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمثالُ ذلِكَ .
فَهَؤُلاَءِ كلُّهُمْ أَشَارُوا إِلى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ منْهُمْ بِصِفَةٍ منْ صِفَاتِهَا .
الصِّنفُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ منْهُمْ مِن الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمثيلِ ، وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوعِ ، لاَ علَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ ، مِثلُ سَائلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ " الخُبْزِ " فَأُرِيَ رَغِيفًا ، وَقِيلَ : هَذَا . فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا ، لاَ إِلَى هَذَا الرَّغيفِ وحدَهُ .
مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ في قولِهِ :{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا منْ عِبَادِنَا فَمنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } سورة فاطر : 32
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ ، والمنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَالْمُقْتَصِِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالسَّابقُ يَدْخُلُ فِيهِ منْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ ، فَالْمُقْتَصِِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ ، وَالسَّابقُونَ السابقون أُولَئِِكَ الْمُقرَّبُونَ .
ثُمَّ إِنَّ كُلاًّ منْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا في نَوْعٍ منْ أَنْواعِ الطَّاعاتِ :
كقَوْلِ القائِلِ : السَّابقُ الَّذِي يُصَلِّي في أَوَّلِ الوَقْتِ ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ : الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ .
أَوْ يقُولُ : السَّابقُ وَالْمُقْتَصِدُ قَدْ ذكرَهُمْ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ ، فَإنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ ، وَالظَّالمَ بِأَكْلِِ الرِّبَا ، وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ . وَالنَّاسُ في الأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ ، وإمَّا عادِلٌ ، وإمَّا ظالمٌ . فَالسَّابقُ المحسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الوَاجِبَاتِ ، وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا ، أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَلاَ يَأْكُلُ الرِّبَا . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ .
فَكُلُّ قَولٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ في الآيَةِ ، إنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِِعِ بِتَنَاوُلِ الآيةِ لَهُ ، وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ منَ التَّعريفِ بِالْحَدِّ الْمُطَابِِقِ . وَالعَقْلُ السَّليمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوعِ ، كمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ لهُ إلى رَغِيفٍ ، فَقِيلَ لهُ: هَذَا هُوَ الْخُبْزُ .
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا منْ هَذَا البَابِ قَوْلُهُم : هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا ، لا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا ، كَأَسْبَابِ النُّزولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفسيرِ ، كَقَوْلِهِم : إِنَّ آيَةَ الظِّهارِ نَزَلَتْ في امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ، وَإِنَّ آيةَ اللِّعانِ نَزَلَتْ في عُوَيْمِرٍ العَجْلانيِّ ، أَوْ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ ، وَإِنَّ آيَةَ الكَلالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ ، وَإِنَّ قولَهُ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]، نَزَلـَتْ في بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضيرِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [سُورَةُ الأَنْفَالِ: 16]، نزلـَتْ في بَدْرٍ، وَإِنَّ قولَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 106[ نَزَلَـَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّاريِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَقَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195]نَزَلَـتْ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ... الحديثُ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ ممَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ من الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ ، أَوْ فِي قَوْمٍ منْ أَهْلِ الكِتَابِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، أَوْ فِي قَومٍ منَ الْمُؤمِنِينَ .
فَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيةِ مُختَصٌّ بِأُولئِكَ الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِم ، فَإِنَّ هَذَا لا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلاَ عَاقِلٌ عَلَى الإِطْلاَقِِ).

هيئة الإشراف

#2

17 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)

القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم قال رحمه الله تعالى: " فصل في اختلاف السلف في التفسير وأنه اختلاف تنوع: الخلاف بين السلف في التفسير قليل , وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير , وغالب ما يصح عنهم منَ الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد , وذلك الصنفان..").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إذن أثبت المؤلف أن السلف قد يكون بينهم خلاف في تفسير القرآن لكن خلافهم في تفسير القرآن أقل من اختلافهم في الأحكام؛ لأن تفسير القرآن هو تبيين ألفاظه معناها والمرد بها, وهذا شيء يقل فيه الخلاف , لكن الأحكام مبنية على الاجتهاد والنظر والقياس فصار الاختلاف فيها أكثر منَ الاختلاف في التفسير؛ وذلكَ لاختلاف الناس في العلم والفهم , وقد سبق لنا أن هناك فرقاً بين التفسير بالمعنى والتفسير باللفظ , أن تفسير اللفظ شيء وتفسير المعنى الذي يراد بالآية شيء آخر , يعني أن اللفظ يفسر بمعناه بحسب الكلمة ويُفسر بالمراد به بحسب السياق والقرائن.
( إي ) نعم , أظن ما ناقشتكم في هذا لكن أنتم فاهمين هذا (هه) وهل تذكرون له مثالا؟
قال طالب: يقول الله تعالى {يوم يأت بعض آيات ربك} اشترط البعض لأنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى ( غير مسموع )
الشيخ: لا ما فسرها البعض , لو فسرنا ها بلفظها...
الطالب: لو فسرناها بلفظها تكون آية من آيات الله تاتي و..... [قطع]..........).

القارئ: (وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهما عن المراد بعبارة غير...").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (تجد الفرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد أن اختلاف التضاد لا يمكن الجمع فيه بين القولين؛ لأن الضدين لا يجتمعان , واختلاف التنوع أنه يمكن الجمع فيه بين القولين المختلفين؛ لأن كلّ واحدٍ منهما ذكر نوعاً , والنوع داخل في الجنس , وإذا اتفقا في الجنس (هه ) فلا اختلاف , إذا اتفقا في الجنس فلا اختلاف , هل فهمتم الفرق بين اختلاف التضاد واختلاف التنوع؟
اختلاف التضاد معناه أنه لا يمكن الجمع بين القولين لا بجنس ولا بنوع , وطبعا ولا بفرد من باب أولى, واختلاف التنوع معناه أنه يُجمع بين القولين في الجنس ويختلفان في النوع , يكون الجنس اتفق عليه الفاعلان ولكن النوع يختلف , وحينئذ هل يكون هذا اختلافا؟ لا؛ لأن ذكر كلّ واحدٍ منهما نوعاً كأنه على سبيل التمثيل ,كأنه على سبيل التمثيل وسيذكر المؤلف أمثلة لذلك لكننا لا بد أن نعرف الفرق بين اختلاف التنوع (هه) واختلاف التضاد , اختلاف التضاد معناه: أنه لا يمكن جمع بين قولين لتضادهما ,واختلاف التنوع معناه أنه يمكن الجمع بين القولين لاتفاقهما في الجنس (كده ) ولا لا؟ (طيب).

القارئ: (" أحدهما أن يُعبر كلّ واحدٍ منهما عن المراد بعبارة غير واضحة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند , وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن , فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد , فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر , بل الأمر كما قال تعالى: {قل ادع الله أو ادع الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وكل مقولته من أسمائه يدل على الذات المُسمى وعلى الصفة التي تضمنها الاسم".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب نستمع الآن اختلاف التنوع جعله المؤلف صنفين:
الأول: أن يُعبر كل واحد منهم , والمراد هنا بالضمير: منهم يعود على الصحابة , يعود على الصحابة بل على السلف إن شئت أعم , من الصحابة و التابعين يُعبر بعبارة غير عبارة صاحبه لكن تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى , يعني معناه: أنهما اتفقا على المراد , لكن عبر كل واحدٍ منهم عنه بتعبير غير التعبير الأول , غير تعبير الأول , وإلا فهما متفقان كما لو قال قائل في تعريف السيف قال: السيف هو المهند , وقال الثاني: السيف هو الصارم , وقال الثالث: السيف ما تُقطع به الرقاب وما أشبه ذلك , فهنا هل هذا خلاف؟
في الحقيقة ليس بخلاف , وقال إنسان: الغضنفر: الأسد , وقال الثاني: الغضنفر: القسورة , وقال الثالث: الغضنفر: الليث وما أشبه هذا, يكون هذا خلافاً؟ لا ليس خلافا ولا تنوعاً أيضاً لكن كل لفظة تدل على معنى لا تدل عليها اللفظة الأخرى والمسمى واحد إي نعم طيب.
انتبه لعبارتي أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى.
ثم قال المؤلف إنها بمنزلة الأسماء المتكافئة , هذا الكلام عندي التي بين المترادفة والمتباينة , عندكم المتكافئة هكذا؟
فيها إشكال إلا إذا كان يعني إذا كان المؤلف رحمه الله لها (غير مسموع) آخر لأن (اللي) بين المترادفة وبين المتباينة , المترادفة ما هي؟ الدالة على معنى واحد , والمتباينة الدالة على معنيين , فهذه الأسماء باعتبار دلالتها على المسمى (هه) مترادفة , وباعتبار دلالتها على معنى يختص بكل لفظ منها تكون متباينة , إي نعم صح , كما قيل...).


القارئ: ("كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند وذلك مثل, أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (أسماء الله كما تعرفون كثيرة جداً لكن مُسماها واحد , فهي مترادفة من حيث دلالتها على الذات , متباينة من حيث اختصاص كل اسم منها في المعنى الخاص به , وكذلك أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة فهي باعتبار دلالتها على الذات هه؟ وباعتبار دلالة كل لفظ منها على معنى آخر متباينة , وكذلك القرآن يسمى القرآن والفرقان والتنزيل وغير ذلك فهو باعتبار هذه الألفاظ باعتبار دلالتها على القرآن..وباعتبار أن كل واحدٍ منها له معنى خاص متباينة إي نعم.

القارئ: ("فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر, بل الأمر كما قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماه وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والعلم , والقدير يدل على الذات والقدرة , والرحيم يدل على الذات والرحمة , ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته..").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إذن هذه الأسماء الثلاثة باعتبار دلالتها على الذات مترادفة , وباعتبار دلالة الأول على العلم والثاني على القدرة والثالث على الرحمة يدل أن هذه متباينة. أي نعم).

القارئ: (" ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال هو حي ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين , فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسماً هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الله الحسنى من صفات الإثبات , فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقاً لغلاة الباطنية في ذلك , وليس هذا موضع بسط ذلك ").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (غير مسموع) المؤلف رحمه الله لتشبعه بهذا العلم صار لا بد أن يذكره , هنا في أسماء الله سبحانه تعالى انقسم الناس فيها إلى أقسام: منهم من جعلها أعلام محضة لا تدل على المعنى إطلاقاً , ومنهم من جعلها أعلاماً وأوصافاً , ومنهم من قال يجب.. يقولون لا نقول إنه حي ولا نقول إنه ليس بحي ننكر هذا وهذا , فالباطنية لا يقولون إنه حي ولا ليس بحي , يعني يقولون: لا نقول إنه حي ولا نقول إنه ليس بحي. إذن ما هو؟ (هه)
الطلبة: عدم!
هم يقولون يجيبون على هذا يقولون؛ لأن الحياة والموت لا يصح نفيهما وإثباتهما إلا لمن هو قابل لذلك , والله تعالى ليس بقابل للحياة ولا للموت ولهذا لايوصف ( غير مسموع ) بأنه حي ولا ميت. و(إيش) نجيب على هذا؟
نقول لهم: إن دعواكم إن الحياة والموت لا يوصف بها إلا من كان قابلاً لها مجرد دعوى أو عرف اصطنعتموه , فالله سبحانه وتعالى وصف الأصنام بأنهم أموات ونفى عنهم الحياة فقال: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أمواتٌ غير أحياء} وهم يعبدون شجراً و حجراً وما أشبه ذلك , عرفتم؟ فانتقد قولهم بنص القرآن.
ثم نقول لهم: هب أنا تنازلنا معكم , لكن أنتم تقولون إننا لا نقول إنه موجود ولا غير موجود فنفيتم عنه الوجود والعدم. وهذا مستحيل باتفاق العقلاء؛ لأن المقابلة بين الوجود والعدم مقابلة بين نقيضين , يجب إذا ارتفع أحدهما أن يثبت الآخر , وأنتم تقولون لا يجوز أن نقول إن الله موجود ولا يجوز أن نقول إن الله ليس بموجود لماذا؟ قال: إننا لو قلنا إن الله حي شبهناه بالأحياء , ولوقلنا إنه ميت شبهناه بالأموات.
نقول وعلى زعمكم شبهتموه بماذا؟
الطلبة: بالعدم.
لا يا أخي بالجمادات , ما دام تقولون إنه غير قابل للحياة والموت كالحجر (يبأى) الآن شبهتموه بالحجر بالجماد.
فإذا انتقلنا إلى المرحلة الثانية وهي قولهم: لا نقول موجوداً ولاغير موجود قلنا: الآن شبهتموه بماذا؟
الطلبة: العدم.
إذا قالوا لا نقول موجود ولاغير موجود , يعني أنك إذا قلت إنه غير موجود فقد ألحدت , وإن قلت معدوم فقد ألحدت إلحاد قال: لا نقول موجود ولا معدوم هذا ممكن ولا لأ؟ غير ممكن نقول: الآن شبهتموه بالمستحيلات والممتنعات التي لا يمكن وجودها , وهذا سبحان الله مر علينا في التوحيد , أنا أذكر أنه مر علينا (هه , طيب) إذن هذا مذهب الباطنية في الله عز وجل يقول: ما يمكن نثبت لله اسم ولا معنى بل ننفي عنه النقيضين.
والآخرون المعتزلة وأهل الظاهر (اللي) يغالون في إثبات الظاهر يقولون: إننا نثبت الاسم لكن ما نثبت له معنى , ونقول هذه الأسماء مجرد أعلام فقط: سميع بلا سمع وعليم بلا علم ورحيم بلا رحمة وهكذا , مجرد علم كما أنك تقول لهذا الرجل محمد وهو مُذمم ما فيه خصلة حميدة , وتقول لهذا الرجل عبد الله وهو من أكفر عباد الله , هو عبد الله وهو ينكر وجود الله (هه) إذن ما معنى قولنا عبد الله؟ مجرد علم يُعيِّن مسماه فقط , هم يقولون أسماء الله هكذا أعلام محضة ما لها معنى ما تحمل معنى إطلاقا إطلاقاً وهذا الكلام (اللي جابه) المؤلف جاء به استطراداً وإلا ما له دخل بالتفسير لأنه قال: "وليس هذا موضع بسط ذلك" نعم اللهم إلا أن يقال قد يدخل في التفسير من حيث إن في القرآن أسماء كثيرة لله عز وجل. أي نعم


القارئ: (" وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم , وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (طيب) فاهمين هذه أيضا؟ فهمنها؟ إن الاسم يدل على الصفة التي تضمها وعلى صفةٍ أخرى تضمنها اسم آخر بطريق اللزوم , مثاله: الخالق دل على الذات ( غير مسموع) وعلى صفات الخلق ودل على العلم الذي تضمنه اسم العليم وعلى القدرة التي تضمنها اسم القدير , كيف دل على العليم القدير وهو (بس) خالق؟ لأنه لا يمكن يخلق إلا بعلم وقدرة , لهذا قال الله عز وجل: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} وهذا واضح؛ لأن لو أن أحداً صنع جهازاً من أجهزة المسجلات يمكن يصنعه وهو ما يدري كيف يصنعه؟! طيب يمكن أن يصنعه وهو أشل؟! (ليش) ما يمكن؟ ليس له قدرة.نعم!).


القارئ: ("وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل: محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل: القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب , وأمثال ذلك , فإن كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عَرف مسمى هذا الاسم.
وقد يكون الاسم علماً وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله: {ومن أعرض عن ذكري} ما ذكره فيقال له هو القرآن ( غير مسموع ) أو ما أنزله من الكتب فإن الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول , فإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يُذكر به مثل قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه وهذا هو المراد في قوله: {ومن أعرض عن ذكري} لأنه قال قبل ذلك: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} وهداه هو ما أنزله من الذكر.
وقال بعد ذلك: {قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} والمقصود أن يُعرف أن الذكر هو كلامه المنزل , أو هو ذكر العبد له , فسواء قيل ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك فإنالمسمى واحد").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (طيب) الآن مثلا قال المؤلف رحمه الله قال: "إذا كان مقصود السائل" يعني الذي يسأل عن تفسير آية من القرآن , إذا كان تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم , لو قال طيب الآن مثلا لك ما معنى قوله:{ومن أعرض عن ذكري} ما المراد بذكري؟ هل هو مضاف إلى الفاعل أو مضاف إلى المفعول , يعني هل المعنى مَن أعرض عن ذكره إيأي , أو المعنى مَن أعرض عن ذكري الذي أنزلته إليه؟
نعم , يحتمل يجوز أن معنى من أعرض عن ذكري أي عن ذكره إياي كما قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} أي لتذكرني بها , فالمعنى لذكري أي لذكره إياي أو أن المراد {ذكري} أي ما أنزلته عليه من الذكر وهو القرآن أو بعبارة أعم وهو أحسن ما أنزل الله من الكتب , فالمعنى من أعرض عن الكتب التي أنزلتها ليذكر بها.
وهذا المعنى إلى اللفظ أو إلى السياق أقرب لقوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} {ومن أعرض عن ذكري} والمراد بذكري هنا هداه الذي أنزله لأنه قال: {فمن اتبع هداي} {ومن أعرض عن ذكري} ولكنه عبر في الإعراض عن ذكره؛ لأن فيما أنزله من الهدي تذكيراً للإنسان وإنذاراً له وتخويفاًً.
فهنا إذا سأل عن الذكر فقيل له: الذكر قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر صار تفسيراً صحيحاً , وإذا سأل عن {ذكري} فقلنا له ذكره ما أنزله من الكتب على عباده صار معنى صحيحا و لا لا؟ لأن اللفظ صالح لهما جميعاً , إي نعم.
وهل هذا اختلاف تنوع و لا تضاد؟ تنوع؛ لأن المعنى الثاني لا يضاد المعنى الأول فكل ما أنزله الله عز وجل فهو مستلزم لذكره وهو تذكير لعباده إي نعم).

القارئ: ("وإن كان مقصود السائل معرفةَ ما في الاسم من الصفة المختصة به فلابد من قدرٍ زائد على تعيين المسمى , مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إذا قال من هو القدوس؟ قلنا الله , من السلام؟ الله , لكن إذا قال ما القدوس؟ ما السلام؟ فهنا يختلف الجواب؛ لأن سؤاله بما يدل على أنه أراد المعنى , يعني ما معنى القدوس؟ وما معنى السلام؟. أما لو قال من القدوس؟ ما يمكن تفسر القدوس له بل تُعيِّن (هه) المعنى المراد به المسمى بهذا , وهو الله سبحانه وتعال.نعم!

القارئ: (" وقد علم أنه الله لكن مراده ما معنى كونه قدوساً سلاماً مؤمناً ونحو ذلك , إذا عُرف هذا فالسلف كثيراً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه , وإن كان فيها من االصفة ما ليس في الاسم الآخر كمن يقول: أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب , والقدوس هو الغفور الرحيم أي إن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه , ومعلوم أن هذا ليس اختلاف").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وهذا أيضا هذا جواب ثالث , إذا قال من القدوس؟ من السلام؟ من المؤمن؟ فقلت: عالم الغيب والشهادة أو الذي وسعت رحمته كل شيء , أو هو الغفور الرحيم , هذا جواب ثالث غير السابقين , لكنه في المعنى (هه) مثل من عرفه بالذات؛ لأنني عندما أقول هو الغفور معناه ما فسر لي معنى القدوس ففهم مني أني أريد تعيين المسمى (الل؟ هو الذات , لكنه عبر بمعنى آخر جديد قد لا يطرأ على بالي , فأتى باسم يدل على صفة ليست في نفس الاسم المسئول عنه ( غير مسموع ) يعني معناه قد يكون التفسير للكلمة تفسيراً للمراد بها بقطع النظر عن صفتها , وقد يكون تفسير للكلمة من حيث معناها الذي تضمنته , وقد يكون تفسير الكلمة بمعنى آخر يوصف به من يُراد بها مثل: الغفور الرحيم السميع العليم إلى آخره. نعم.
ردا على سؤال غير مسموع: لا إذا كان يعلم إذا كان السائل يعلم , وقد يجيب بهذا مثلا يقول من هو القدوس ومن هو السلام؟ أقول هو الشديد العقاب لمن عصاه؛ لأني أعرف أن هذا الرجل يقيم على معصية الله , فأريد أن أذكره , أن أذكره , أو مثلاً يكون السائل لي إنساناً مشفقاً على نفسه خائفاً فأقول هو من كان على حسن ظن عبده به لماذا (هه )؟ لأذكره بحسن الظن بالله ولاشك ( غير مسموع ) إنه قدوس غفور رحيم لغير غرض أن هذا يعني بعيد , إي نعم).


القارئ: ("ومعلوم أن هذا ليس اختلافَ تضاد كما يظنه بعض الناس , مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم فقال بعضهم هو القرآن (غير مسموع ) واتباعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذى رواه الترمذي , ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: ((هو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم)) وقال بعضهم: هو الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران , وفي السورين أبواب مُفتحة , وعلى الأبواب سطور مُرخاة , وداع يدعو من فوق الصراط وداع يدعو على رأس الصراط)) قال: ((فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله , والداعي على فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن)).
فهذان القولان مٌتفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر , كما أن لفظ الصراط يُشعر بوصف ثالثاً , وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة ,وقول من قال: هو طريق العبودية وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك , فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (طيب إذن ففهمنا إنه إذا فسر السلف الكلمة بمعنى وفسرها آخرون منهم بمعنى آخر باعتبار أن هذه الصفة تشمل هذا وهذا فهو من باب اختلاف التنوع {اهدنا الصرط المستقيم} ( إيش ) ما المراد بالصراط؟
قائل: الطريق.
الشيخ: لأ , ما المراد به؟ ما هو ما معناه. معنى الصراط الطريق الواسع , لكن ما المراد به؟{اهدنا الصرط المستقيم} , ما المراد بالصراط؟
الإسلام هذا واحد هذا قول , وقول ثان إنه القرآن , والمؤلف جاء لكلٍ من هذين القولين بدليلٍ من السنة , لكن هل يتنافيان؟
أبداً لأن الإسلام هومافي القرآن , الإسلام هو ما في القرآن وحينئذ فلا تضاد بينهما سواء فسر بأنه قرآن أو فسر بإنه الإسلام ,واضح؟ واضح يا حسين؟
طيب إذن بماذا فسر الصراط؟
طالب: فسر بالإسلام..
الشيخ: وبالقرآن , وهذا الخلاف اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد , بدليل أن كل واحد منهما (إيش)؟ لا ينافي الآخر نعم.


القارئ: (" الصنف الثاني: أن يذكر كلٌ منهم من الاسم العام بعضَ أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه , مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز فأري رغيفاً وقيل له: هذا , فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده مثال ذلك".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (-صح قال ما هو الخبز؟ أعجمي ( غير مسموع ) قرص يصنع من البر بعد طحنه وبله بالماء وعجنه (هه) , ( غير مسموع) تعرف ولا لا , لكن إذا قلت معك خبزة مثل الخبز هذا هل يفهم إن ما بخبز في الدنيا (إلا ها اللي) بيدك؟ أو على سبيل التمثيل يفهم؟ , يفهم على سبيل التمثيل ولهذا لو ذهب إلى بقالة ووجد لفة خبز (غير مسموع ) فهذا التعيين ليس معناه أنه يراد أن يفسر اللفظ بهذا المعنى على وجه المطابقة لايزيد ولاينقص , لكنه على سبيل التمثيل , على سبيل التمثيل.
(طيب) ماذا عن عن هذا الأعجمي لو وجد خبز (تميس) بدل بر , بدل البر (إيش) يفهم إنه خبز ولا لا؟ هه ( غير مسموع ) لا يفهم والله , الظاهر إنه يفهم ( غير مسموع ). هذا إذن تفصيل طيب.


القارئ: ("مثال ذلك ما نقل في قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}" ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (طيب) {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا} كيف وصف الكتاب باسم موصولٍ للذكور العقلاء (الذين) {الكتاب الذين} (غير مسموع ) مفعول به (بإيش)؟ (طيب) والكتاب (غير مسموع ) مفعول ثان , والذين مفعول أول.... هو صحيح أنه أنه مفعول لكن بالعكس؟ {الكتاب}مفعول أول {والذين} مفعول ثان ويصلح كما قال لك الأصل أن الأول......
{ثُمَّ أَورَثنَا الكِتابَ الذينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا} من المراد بالذين اصطفى لله من عباده؟ هذه الأمة الإسلامية؛ لأن آخر كتاب نزل هو هذا القرآن , طيب فمنهم ظالم إلى آخره (غير مسموع ) المؤلف نعم).


القارئ: (" فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات , والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات , والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات , فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون ثم إن كلاً منهم").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (لا , اصبر , والسابقون أولئك المقربون (1) نعم).


القارئ: ("ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت , والمقتصد الذي يصلي في أثنائه , والظالمُ لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة , فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا , والعادل بالبيع , والناس في الأموال: إما محسن وإما عدل وإما ظالم , فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات , والظالم آكل الربا أو مانعُ الزكاة , والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذه الأقاويل , فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية , وإنما ذكـر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره , فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق , والعقل السليم يتفطن للنوع ").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (صحيح هذا هو الغالب أن التعريف بالمثال أبين وأظهر من التعريف بالحد المطابق , نعم لو قال لك قائل: ما هي البعير؟ فقلت: حيوان كبير الجسم طويل العنق نعـم ذو سنام , له ذيلٌ قصير وما أشبه ذلك من صفاته (إيش) يعرفه , حتى لو رآه يمكن يشك يقول لعل هناك شيء آخر يشابه له لكن إذا قلت: مثال البعير هذا اتضح ولا (لا)؟ اتضح والإيضاح بالمثال أكثر وضوحاً.
ولهذا ذهب كثير من الفقهاء رحمهم الله إلى التعريف بالحكم وإن كان عند المناطقة يرونه عيباً فمثلاً يقولون: الواجب هو ما أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه مثلاً..واستحق العقوبة تاركه , لكن لو قال الواجب هو ما أمر به الشرع على سبيل الإلزام قد يكون يُشكل على الإنسان أكثر نعم.
الحاصل الآن السلف فسروا: {الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه} بأن الظالم لنفسه هو الذي يؤخِّر الصلاة عن وقتها , وأن المقتصد هو الذي يصليها في أول الوقت , وأن السابق للخيرات هو الذي يصليها في أول وقتها أو بعبارة أصح على وقتها لأجل يشمل من يصليها في أول الوقت فيما يستن تقديمه وفى آخره فيما يسن تأخيره , ولهذا جاء حديث ابن مسعود: ((الصلاة على وقتها)) لأن في بعض الصلوات يسن تأخيرها كالعشاء , وإذا قيل: المقتصد هو الذي يؤدي الزكاة الواجبة والسابق للخيرات هو الذي يؤدي الزكاة مع الصدقات المستحبة , والظالم لنفسه هو الذي لا يزكي فهل بين القولين تناقض؟ لا؛ لأنه ذكر كل واحدٍ على حدة أي لأن كل واحد منهم ذكر نوعاً يدخل في الآية مع أن الآية أعم من هذا , تشمل كل ما ينطبق عليه ظلم النفس والسبق والاقتصاد نعم.
سؤال طالب: إذا ورد النص بأحد المعنيين فهل يصح (غير مسموع) المعنى الآخر؟.
الشيخ: إي نعم يعني بأن تقول: وتشمل الآيات كذا وكذا..مع وجود النص.
_ قول الرسول صلى الله عليه وسلم بتفسير الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله؟
ردا على سؤال غير مسموع: نعم يعني منها أو يقال إنه ما في زيادة أعلى من هذا فتكون هي المرادة.(غير مسموع)
الشيخ: بالحد... عندي المطابق، لا بالحد المطابق. عندي حاشية يقول لشيخ الإسلام ابن تيمية بحث نفيس في هذا الموضوع في كتاب الرد على المنطقيين. يوجد عندكم (غير مسموع)؟ موجودة بالحاشية. _ (كلام غير واضح من الشيخ) نعم).

القارئ: (" والعقل السليم يتفطن بالنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له هذا هو الخبز وقد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لاسيما إذا كان المذكور شخصاً كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (إيه) أنا عندي ثابت والمعروف أوس بن الصامت.
أحد الحاضرين قال: يقول في الحاشية
الشيخ: وإيش يقول؟
أحد الحاضرين قال: يقول: المعروف في كتب التفسير أن آية الظهار وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهَرُون مِنكُم مِّن نِّسائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهاَتُهُمُ} الآية في سورة المجادلة قد نزلت في خولة أو خويلة بنت ثعلبة زوج أوس بن الصامت وهو المشهور كذلك.
الشيخ: إي نعم لعله سهو من المؤلف أو سبقة قلم عندك أوس في الأصل والله الله أعلم إن كان النسخة (اللي) معي هي بخط المؤلف فهذا قد يكون سبق قلم أو سهو وإن كان (غير مسموع) عندكم فالمحشِّي معذور حيث حشى على شيء غلط).


القارئ: (" كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة أوْس بن الصامت إن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هـلال بن أمية وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن قوله: {وَأَنِ أحكم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} نزلت في بني قريظة والنضير وإن قـوله: {وَمَن يُّوَلِّهِم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ} نزلت في بدر , وإن قوله:{شهاده بينكم إذا حضر أحدكم الموت} نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن البدّاء , وقول أبي أيوب إن قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} نزلت فينا معشر الأنصار. الحديث.
ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قومٍ من المشركين بمكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو في قومٍ من المؤمنين , فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق , والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا (سقط) فلم يقل أحدٌ من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين , وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. و الآية التي لها سبب معين").
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وهذا القول هو الصحيح أنها تعم ذلك الشخص؛ لأنها تختص بنوع ذلك الشخص أو تعم نوع ذلك الشخص فقط , واضح؟. مثال ذلك.. وعلى كل حال هذا كله أمثلة هذه مثال ذلك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليس من البر الصيام في السفر )) , (( ليس من البر الصيام في السفر )) هذا اللفظ عام لكن سببه خاص بالنوع وخاص بالشخص , فهل نخصصه بذلك الشخص؟يقول شيخ الإسلام: ما أحد قاله من المسلمين. أو نخصصه بذلك النوع؟ نعم , يمكن إذا علمنا العلة والسبب أن العلة والسبب في ذلك النوع لا يتعدى لغيره فإننا نخصصه بذلك النوع , إذا أخذنا بالعموم (( ليس من البر الصيام في السفر )) قلنا إن الصيام في السفر ليس من البر سواء شق على الإنسان أم لم يشق , نعم , وإذا خصصناه بالشخص قلنا: ليس من البر باعتبار ذلك الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام عليه زحام مظلل عليه , كأنه قال: ليس صومه من البر , وهذا أيضاً خطأ , ما أحد يقوله من المسلمين مثل ما قال الشيخ.
وإذا قلنا: إنه خاص بالنوع قلنا ليس من البر الصيام في السفر فيمن حاله كحال ذلك الشخص يشق عليه فإنه ليس من البر أن يصوم في والسفر بخلاف من لا يشق , وهذا القول الوسط هو الصواب وأنه يجب أن يُعدَّ الحكم الوارد على سبب معين إلى نوع ذلك المعين فقط لا إلى العموم ولا أن يختص بنفس ذلك الشخص. أظن واضح الآن؟ طيب نعم.
سائل: لو قلنا يا شيخ لو خصصناه بعلة أخرى؟
الشيخ: لا , ربطه بعلته أولى إي نعم لأننا لو عممنا احتجنا إلى دليل على التخصيص لكن إذا.. كأنه من العام الذي أريد به الخصوص أحسن.
سائل: إذا لم يأت يعني فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكون أولى إذا لم يأت(غير مسموع) عنه صلى الله عليه وسلم فيكون يعني من غير قوله صلى الله عليه وسلم أن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تترك محارمه؟.
الشيخ: إيه لكن فرق بين ليس من البر وبين كونه البر ألا يصوم لأن إذا صار ليس من البر فهو من الإثم.
السائل:... الإثم لأن الله سبحانه وتعالى رخص له هذا الشيء.
الشيخ: لكن الرخصة لا نؤثِّم من لم يفعلها اللهم إلا أن يعتقد بنفسه الاستغناء عن رخصة الله فهذا شيء آخر , يكون آثم من هذا النوع وأما رجل يقول الحمد لله الذي رخص لي لكن أنا قوي ونشيط.إي نعم
سائل: في صحة قصة سالم مولى أبى حذيفة فيمن تشبه حاله حال سالم.
الشيخ: إي نعم يمكن يصح , مع أن ما فيه عموم مثل هذه يعني بس قال(غير مسموع ) تحرمي عليه فقط فهو مطلق نعم.
السائل: تؤخذ القاعدة يا شيخ الأولى بعموم اللفظ لا بخصوص السبب من هذه؟
الشيخ: (منين)؟
_...............
الشيخ: لا من إجماع المسلمين على أن الآيات الواردة بسبب تعم.
_........................
الشيخ: نعم؟ الأخير هو الذي يجعل القاعدة فيه وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه.
سائل:هنا يقول: الأقاويل , هذه يعني كلمة قالها الله سبحانه وتعالى في {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل} يعني أن هذا قول(غير مسموع)
الشيخ: لا الشيخ في كتابه هذا ما يريد هذا الأقاويل جمع قول فقط
_......................
_كالأساطير مثلاً..لا لا ما يريد هذا.
السائل: ممكن الإنسان يتكلم ويقصد به جمع قول.
الشيخ: نعم وهو كذلك نعم).

هيئة الإشراف

#3

17 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)


قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): (ابْتَدَأَ في هذا الفصْلِ يَذْكُرُ ما حَدَثَ بينَ السلَفِ مِن الاختلافِ في التفسيرِ، وأنَّهُ ليسَ تَفسيراً مُتَضَادًّا.
قولهُ: (الخلافُ بينَ السلَفِ في التفسيرِ قليلٌ):-
المرادُ بالسلَفِ: الصحابةُ والتابعونَ وتَابِعُوا التابعينَ،وهم أهلُ القرونِ الثلاثةِ الْمُفَضَّلَةِ.لقرْنُ الرابعُ وما بَعْدَهُ، إذا كانوا صالحينَ يُسَمَّوْنَ (الخَلَفَ)، وإذا كانوا مُخالِفينَ يُسَمَّوْنَ الْخَلْفَ، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} .
قولهُ: (والْخِلافَ بينَ السلَفِ لهُ في التفسيرِ قليلٌ ، وخلافُهم في الأحكامِ أكثرُ مِنْ خِلافِهم في التفسيرِ).
وَقَعَ خِلافٌ في الأحكامِ، فهناك بينَ الحَنَفِيَّةِ والمالكيَّةِ خِلافٌ في الأحكامِ، وكذلكَ بينَ المالكيَّةِ والشافعيَّةِ، معَ أنَّ الشافعيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- تلميذُ مالِكٍ وروى عنهُ مُوَطَّأَهُ، ومعَ ذلكَ خالَفَه ُفي أشياءَ كثيرةٍ.
فاخْتَلَفَ الأئمَّةُ الأربعةُ حتَّى في مسألةِ التسميَةِ في الصلاةِ:-
- فالإمام مالِكٌ لا يَراها جَهْراً ولا سِرًّا.
- وأمَّا الإمامُ الشافعيُّ - معَ أنَّهُ تلميذُ مالِكٍ - فيَذهبُ إلى الْجَهْرِ بها.
- والإمامُ أحمدُ يَذهبُ إلى أنَّهُ يُسَرُّ بها.
فهذه مَسألةٌ واحدةٌ حَصَلَ فيها هذا الاختلافُ، ولكلٍّ دَلِيلُهُ .
كذلكَ مسألةُ القُنُوتِ في صلاةِ الفَجْرِ:
- يَرَى الشافعيَّ أنَّهُ يَقْنُتُ في كلِّ صلاةِ صُبْحٍ، وأنَّهُ سُنَّةٌ.
إستدلالاًبقولِهِ تعالى: {وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} ، وذلكَ لأنَّهُ ذَهَبَ إلى أنَّ الصلاةَ الوُسطَى هيَ صلاةُ الفَجْرِ، وأنَّ اللهَ أَمَرَ فيها بالقُنوتِ.
- وأمَّا الإمامُ أحمدُ فذَهَبَ إلى أنَّها صلاةُ العصْرِ، واستَدَلَّ بأحاديثَ.
والخِلافُ كثيرٌ في الصلاةِ الوُسطَى، ولكنْ مجموعُ أقوالِهم أنَّها مِنْ جُمْلَةِ الصلواتِ الْخَمْسِ،
قوله: (وغالبُ ما يَصِحُّ عنهم مِن الخلافِ يَرْجِعُ إلى اختلافِ تَنَوُّعٍ لا اختلافِ تَضَادّ)ٍ.
يعني: أنَّها أنواعٌ لا أنَّها أَضْدَادٌ.
فالضِّدَّانِ: هما المُتَنَافِيَانِ اللَّذَانِ لا يُمْكِنُ الجمْعُ بينَهما.
أمَّا خلاف التنوُّعُ: فهوَ الذي يُمْكِنُ الجمْعُ بين أقوله، أوْ يُقَالُ فيه: هذا نَوْعٌ وهذا نَوْعٌ، مثلُ أنواعِ المأكولاتِفهي أَجْنَاسٌ، تَحْتَ كلِّ جِنْسٍ أنْوَاعٌ، فمَثلاً إذا سَمِعْتَ عن نَوْعٍ مِن التَّمْرِ يُقالُ لهُ: السُّكَّرِيُّ، تَسألُ: ما هوَ السُّكَّرِيُّ؟ فيُقَالُ: تَمْرٌ وتَسْأَلُ: ما هوَ الَبُرْحِيُّ؟ فيقالُ: تَمْرٌ، وما هوَ الصَّيْحَانِيُّ والعَجْوَةُ وما أَشْبَهُهَا؟ فيُقَالُ: تَمْرٌ، فهي أسماءٌ لِمُسَمًّى واحدٍ، ولكنْ لها أنواعٌ، فكُلُّ واحدٍ منها يُسَمَّى نوعاً،فهذا اختلافُ التنوُّعِ.
بخِلافِ اختلافِ التضادِّ؛ فإنَّ كُلاًّ منهما ضد الآخَرِ.
وبعدَ أنْ ذَكَرَ اختلافَ التنوُّعِ، واختلافَ التضادِّ، بَيَّنَ أنَّ اختلافَ التنوُّعِ صِنْفَانِ:
أحدُهما: (أنْ يُعَبِّرَ كُلُّ واحدٍ منهم عن المُرَادِ بعبارةٍ غيرِ عبارةِ صَاحبِهِ) .
يعني: كلُّ واحدٍ منهما يُفَسِّرُهُ بعبارةٍ، والمعنى واحدٌ، تَدُلُّ تلكَ العبارةُ على المعنى الموجودِ في الْمُسَمَّى، وذلكَ المعنى غيرُ المعنى الآخَرِ معَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى. قولهُ: (تَدُلُّ على معنًى في المُسَمَّى غيرِ المعنى الآخَرِ معَ اتِّحَادِ المُسَمَّى بمنزلةِ الأسماءِ المُتَكَافِئَةِ).
الأسماءُ المُتَكَافِئَةُ: هيَ المُتقارِبَةٌ والمترادِفةٌ، التي تدل على مُسَمًّى واحدٍ، فإذا قُلْتَ: هذا إنسانٌ، أو رَجُلٌ، أو بَشَرٌ، أو شَخْصٌ، فهيَ أسماءٌ لِمُسَمًّى واحدٍ يَنُوبُ بَعْضُها عنْ بعضٍ.
وأمَّا المتضادَّةُ: فهي الأسماء المشتركة لفظاُ والمتباينة دلالة، فيُطلَقُ مثلاً على الإنسانِ الحَيِّ حيوانٌ وعلى البَهَائِمِ حَيَوَانٌ، تقول: هذا البعيرُ حَيَوَانٌ، وهذهِ الشاةُ حيوانٌ، وهذا السَّبُعُ حيوانٌ، وهذا الفيلُ حيوانٌ.
فكلمةُ (حيوانٍ) أُطْلِقَتْ على هذهِ الأنواعِ معَ أنَّها مُتبايِنَةٌ، ولكنَّها اجْتَمَعَتْ في صِفةٍ واحدةٍ كالحياةِ، فهذا معنى التَّبَايُنِ.
مَثَّلَ للتكافؤِ بأسماءِ السَّيْفِ؛ وقد ذَكَرَ بعضُ اللُّغَوِيِّينَ أنَّ العربَ وَضَعَتْ للسيفِ أَلْفَ اسْمٍ، ووَضَعُوا للأسدِ خَمسَمِائةِ اسمٍ، ووَضَعُوا للثُّعبانِ مِائَتَي اسمٍ، فكُلَّما كانَ الشيءُ مَشهوراً عندَهم كانتْ مَكانتُهُ وشُهرتُهُ أَقْوَى أنْ يَهْتَمُّوا بهِ، ولكنَّ تلكَ الأسماءَ صفاتٌ، فيُسَمَّى السيف مثلاً الصَّارِمَ والمُهَنَّدَ والمَسْلُولَ والحُسَامَ وما أَشْبَهَها، وكلها تدل على مُسَمًّى واحد.
(كذلكَ - أيضاً - أسماءُ اللهِ تعالى، الأسماءُ الحسنى وأسماءُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأسماءُ القرآنِ) مُسَمَّاها واحدٌ، ولَكِنْ كُلُّ اسمٍ يَدُلُّ على صِفةٍ، ونَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لهُ عِدَّةُ أسماءٍ، وكلُّ اسمٍ يَدُلُّ على صِفةٍ؛ واللهُ تعالى لهُ الأسماءُ الحسنى، وكلُّ اسمٍ يَدُلُّ على صِفةٍ، فهيَ مِنْ حيثُ الذاتُ مُترادِفَةٌ، ومِنْ حيثُ المعاني غير مترادفة.
(أسماءُ اللهِ تعالى كُلُّها تَدُلُّ على مُسَمًّى واحدٍ)، يعني: على الذاتِ، (فليسَ دُعاؤُهُ باسمٍ مِنْ أسمائِهِ الحسنى مُضَادًّا لدعائِهِ باسمٍ آخَرَ).
إذا دَعَوْتَ اللهَ تعالى بِـ: يا قديرُ، أويا عَلِيمُ، أويا جليلُ، أويا كريمُ، فالْمَدْعُو واحدٌ، وكلُّ اسمٍ يَدُلُّ على معنًى، (قالَ اللهُ تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}) ، وقد ذَكَرُوا أنَّ المُشْرِكِينَ سَمِعُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعُو اللهَ أَحياناً ثمَّ يقولُ: ((يَا رَحْمَنُ ارْحَمْنَا)) ،فقالُوا: مُحَمَّدٌ يَدَّعِي أنَّ الإلهَ واحدٌ، وهوَ معَ ذلكَ يَدْعو اثنَيْنِ، فأَنْزَلَ اللهُ هذهِ الآيَةَ في [سورةِ الإسراءِ] {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فالمدْعُو واحدٌ، (وكلُّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللهِ تعالى يَدُلُّ على الذاتِ - دَلالةَ مُطابَقَةٍ -، ويَدُلُّ على الصفةِ التي تَضَمَّنَها الاسمُ - دَلالةَ تَضَمُّنٍ -)، فالعليمُ يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى، فإذا قُلتَ مَثلاً: هذا تنزيلٌ مِن العليمِ الخبيرِ، أوهذا كلامُ العليمِ الخبيرِ، ثم سَأَلَكَ إنسانٌ مَن العَلِيمُ؟ تقولُ: اللهُ، وسَأَلَكَ آخَرُ: ما معنى العليمِ؟ فتقولُ: العالِمُ بكلِّ شيءٍ، فالأوَّلُ سألَكَ مَن العليمُ؟ فقُلْتَ: اللهُ، والثاني سَأَلَكَ عنْ معناهُ فقُلْتَ: الْمُتَّصِفُ بالعلْمِ، فالسؤلانِ عنْ معنى كلمةٍ واحدةٍ. (القديرُ: يَدُلُّ على الذاتِ والقُدرةِ)، فإذاقلتَ مَثلاً: هذا كلامُ القديرِ، فمَن القديرُ؟ اللهُ، وما معنى القديرِ؟ ذُو القُدرةِ على كلِّ شيءٍ، وكذا (الرحيمُ: يَدُلُّ على الذاتِ والرحمةِ)، فإذا قُلْتَ مَثلاً: هذا تنزيلٌ مِن الرحمنِ الرحيمِ، وسَأَلَكَ إنسانٌ مَن الرحمنُ الرحيمُ؟تقولُ: اللهُ، وما مَعْنَى الرحمنِ الرحيمِ؟ تقولُ: واسعُ الرحمةِ.
فكلُّ اسمٍ منها ،دَلَّ على الذاتِ، وتُسَمَّى الدَلالةَ هنا مُطابَقَةٍ.
ودَلَّ على الصفةِ الْمُشْتَقَّةِ منهُ وتُسَمَّى دَلالةَ تَضَمُّنٍ .
(ومَنْ أَنْكَرَ دَلالةَ أسماءِ اللهِ تعالى على صفاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظاهرَ، فقَوْلُهم مِنْ جِنْسِ قولِ غُلاةِ الباطنيَّةِ القَرامطةِ الذين يقولون: لايقال هو حي و لا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين).
الباطنيَّةُ: طائفةٌ مِنْ غُلاةِ الرافضةِ يُسَمَّوْنَ القَرامِطَةَ؛ نِسبةً إلى رَجُلٍ يُقالُ لهُ: حَمدانُ قُرْمُطٌ؛ وذلكَ لأنَّهُ تَلَقَّى هذا العلْمَ الذي هوَ عِلْمُ الباطنِ عنْ أَحَدِ دُعاةِ الباطنيَّةِ، فدَعَى إليهِ في القَطِيفِ وما حولَهُ، فاعْتَنَقَهُ خَلْقٌ كثيرٌ سُمُّوا قَرامطةً وباطنيَّةً، وهم الذينَ انْتَشَرُوا وتَمَكَّنُوا في أوَّلِ القرنِ الرابعِ، وقَتَلُوا الحُجَّاجَ في سنةِ ثلاثِمائةٍ وسبعةَ عشرَ في يومِ التَّرْوِيَةِ، والناسُ في الحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وقَتَلُوا حينها خَلْقاً كثيراً وقَلَعُوا الحجَرَ الأسودَ، وبَقِيَ عندَهم اثنَيْنِ وعشرينَ سنةً حتَّى ضَعُفَ أمْرُهم وطُولِبُوا بِرَدِّهِ، فَرَدُّوهُ في سَنَةِ تِسْعٍ وثلاثينَ وثلاثِمائةٍ.
هَؤُلاءِ القرامطةُ باطنيَّةٌ. ومِنْ أقوالِهم يقولونَ:
- لا يُقالُ: اللهُ حَيٌّ، ولا ليسَ بِحَيٍّ. تعالى اللهُ عنْ قولِهم، فيَنْفُونَ الضِّدَّيْنِ.
- لا نَقُولُ: عليمٌ ولا ليسَ بعليمٍ.
- لا نقولُ: قديرٌ ولا ليسَ بقديرٍ.
- لا نقولُ: رحيمٌ ولا ليسَ برحيمٍ.
فيَنْفُونَ عنهُ الضِّدَّيْنِ، حتَّى إنَّ بعضَهم نَفَوا الضِّدَّيْنِ المُتقابلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَابُلُهُما تَقَابُلُ الوجودِ والعدَمِ، أو تقابُلُ السلْبِ والإيجابِ، حتَّى قالُوا: لا موجودَ ولا غيرَ موجودٍ، وهذا كُفْرٌ صريحٌ.
وهمْ مَوجودونَ، ٌ ولهم بَقَايَا في كثيرٍ مِن الدُّوَلِ.
(أولئكَ القرامطةُ الباطنيَّةُ لا يُنكِرونَ اسماً هوَ عَلَمٌ مَحْضٌ كالْمُضْمَراتِ، وإنَّما يُنكرونَ ما في أسماءِ اللهِ الحُسْنَى مِنْ صفاتِ الإثباتِ)
لا يُنكرونَ الضمائرَ وإنَّما يُنكرونَ المعانيَ التي دَلَّتْ عليها الأسماءُ، فهم يَنفُونَ دَلالةَ كلِّ اسمٍ على مُسَمَّاهُ.
(فمَنْ وافَقَهم على مَقصودِهم كانَ معَ دَعواهُ الغُلُوَّ في الظاهرِ مُوافِقاً لغُلاةِ الباطنيَّةِ في ذلكَ. وليسَ هذا مَوْضِعَ بَسْطِ ذلكَ).
وقدْ تَوَسَّعَ رَحِمَهُ اللهُ في الردِّ عليهم في كثيرٍ مِنْ كُتُبِهِ، حتَّى في المُخْتَصَراتِ تَعَرَّضَ لذلكَ كما في (التَّدْمُرِيَّةِ)وغيرها.
قولُه: (المقصودُ أنَّ كلَّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللهِ يَدُلُّ على ذاتِهِ، ويَدُلُّ على ما في الاسمِ مِنْ صفاتِهِ، ويَدُلُّ أيضاً على الصفةِ التي في الاسمِ الآخَرِ بطريقِ اللُّزُومِ).
فعلى هذا كلُّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللهِ لهُ ثلاثُ دَلالاتٍ:
- دَلالةٌ على الذاتِ بالمُطَابَقَةِ.
- ودَلالةٌ على الصفةِ المُشتَقَّةِ منهُ بالتَّضَمُّنِ.
- ودَلالةٌ على بَقِيَّةِ الصفاتِ وبَقِيَّةِ الأسماءِ بالالتزامِ.
فإذا قُلْنَا مَثَلاً: اسمُ الرحمنِ يَدُلُّ على الذاتِ مِنْ أسماءِ اللهِ تعالى، فهذهِ دَلالةُ مُطابَقَةٍ، وإذا قلنا كذلك أن الرحمنُ تَدُلُّ على صفةِ الرحمةِ؛ لأنَّها مُشْتَقَّةٌ مِن الرحمةِ، فهذهِ دَلالةُ تَضَمُّنٍ، يعني: أنَّهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَ اللهِ تعالى بالرحمةِ.
وكذلكَ نقولُ: إذا كانَ رَحيماً راحماً لَزِمَ أنْ يكونَ سَميعاً، ولَزِمَ أنْ يكونَ بصيراً، ولَزِمَ أنْ يكونَ حَيًّا، ولَزِمَ أنْ يكونَ كريماً، ولَزِمَ أنْ يكونَ غَفُوراً، ولَزِمَ أنْ يكونَ جَبَّاراً، ولَزِمَ أنْ يكونَ قَهَّاراً؛ لأنَّ الرحمنَ واسعُ الرحمةِ، فيَلْزَمُ بذلك وُجودُ تلكَ الكمالاتِ، فلا يكونُ رحيماً وهوَ ليسَ بِغَنِيٍّ، ولا يكونُ رحيماً وهوَ ليسَ بسميعٍ بصيرٍ، وهذهِ تُسَمَّى دَلالةَ اللزومِ.
وهذا معنى قولِهِ: (يَدُلُّ أيضاً على الصفةِ التي في الاسمِ الآخَرِ بطريقِ اللزومِ)، كما بَيَّنَ ذلكَ العلماءُ في مَواضعَ كثيرةٍ من كتبهم ومنها (شَرْحِ الوَاسِطِيَّةِ) لعبد العزيز السَلْمَانَ وغيرِهِ مِن الكُتُبِ.
(كذلك أسماءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثلِ مُحمَّدٍ وأحمدَ والمَاحِي والحاشرِ والعاقبِ). إذا قيلَ: مُحَمَّدٌ، قيلَ: هوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومَنْ أحمدُ - عندَ الإطلاقِ- ؟ هوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومَن الْمَاحِي؟ هوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكذا الحاشرُ والعاقبُ.
وهذهِ مُطَابَقَةٌ، فدَلالةُ المطابَقَةِ هنا تعني أنما دالة على الذاتِ،
ى (فمُحَمَّدٍ) : كثيرُ المحامِدِ، أوْ كثيرُ الْخِصالِ الحميدةِ، وسُمِّيَ بهِ؛ لكثرةِ خِصالِهِ الحميدةِ.
و(أحمدُ) الذي يَحْمَدُ اللهَ دائماً ويُثْنِي عليهِ.
و (الماحي) الذي مَحَا اللهُ تعالى بهِ الشِّرْكَ.
و(الحاشرُ) الذي يُحْشَرُ الناسُ على عقبهِ.
و(العاقبُ) الذي جاءَ عَقِبَ الأنبياءِ، وهوَ خاتَمُهم. فكلُّ اسمٍ لهُ دَلالةٌ على الذاتِ هنا جل على صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم.
(كذلكَ أسماءُ القرآنِ) :
فإذا قيلَ: ما القرآنُ؟ فتقولُ: هذا المكتوبُ في المصاحِفِ، وما معنى القرآنِ؟ تقولُ: الذي يُقرأُ ويُتْلَى.
وأذا قيل ما الفُرقانُ؟ تقولُ: كتابُ اللهِ، وما معنى الفُرقانِ؟ تقولُ: الذي فَرَقَ اللهُ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وكذلك اذا قيل ما الْهُدَى؟ تقولُ: كتابُ اللهِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ، وما معنى الْهُدَى؟ تقولُ: الذي يَهْدِي اللهُ بهِ مَنْ شاءَ هِدايتَهُ.
وكذلك اذا قيل ما الشفاءُ؟ تقولُ: كتابُ اللهِ، وما معنى الشفاءِ؟ تقولُ: الذي جَعَلَهُ اللهُ شفاءً لِمَا في الصدورِ، وكذلك اذا قيل ما البيانُ؟ تقولُ: كتابُ اللهِ، وما معناهُ؟ تقولُ: الذي بَيَّنَ اللهُ فيهِ الأحكامَ. وهكذا فكُلُّ اسمٍ لهُ دَلالةُ مطابَقَةٍ ودَلالةُ تَضَمُّنٍ.
قوله: (فإذا كانَ مقصودُ السائلِ تَعيينَ الْمُسَمَّى، عَبَّرْنَا عنهُ بأيِّ اسمٍ كانَ...) إذا قيلَ: ما الرحمنُ؟ فالجواب:هو اللهُ، وما العزيزُ؟ فالجواب:هو اللهُ، وما العزيزُ؟ فالجواب: هو الرحمنُ، فعَبَّرْنَا عنهُ بأيِّ اسمٍ كانَ يُعْرَفُ بهِ مُسَمَّى هذا الاسمِ.كذلك إذا قيل: مَن الحاشرُ؟ فالجواب: هو محمَّدٌ، ومَن العاقبُ؟فالجواب:هو محمَّدٌ،كذلك إذاقيل: ما المرادُ بالفُرقانِ؟ فالجواب: هوَ كتابُ اللهِ، عَبَّرْنَا عنه باسمِ مَنْ أسمائه، قدْ يكونُ ذلكَ الاسمُ عَلَماً، وقدْ يكونُ صِفَةَ العلَمِ، مِثْلَمَا قالَ ابنُ مالكٍ في الأَلْفِيَّةِ:

 اسـمٌ يُعَـيِّـنُ  الْمُسَـمَّـى  مُطْلَـقَـا ... عَـلَـمُـهُ  كجَـعْـفَـرٍ  وخِـرْنِـقَـا

فالعَلَمُ ما يُعْلَمُ بهِ عينُ الْمُسَمَّى، يعني: كلُّ إنسانٍ يُسَمِّيهِ أَبواهُ عندَما يُولَدُ باسمٍ يَخْتَصُّ بهِ. فيسمى مَثلاً سعيدٌ، أو سَعْدٌ، أو راشدٌ، ولكنْ هذا لا يَدُلُّ هذا على أنَّهُ مُتَّصِفٌ بمعنى ذلكَ الاسمِ؟ فَكَمْ مَنْ سُمِّيَ راشداً وهوَ مِنْ أهلِ الغِوايَةِ، وكمْ ممَّنْ سُمِّيَ سَعداً وليسَ مِنْ أهلِ السعادةِ، وإنَّما اسمٌ يُعَيِّنُه و يَتعيَّنُ بهِ،
(وقدْ يكونُ صِفةً، كمَنْ يَسألُ عنْ قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، ما ذِكْرُهُ؟...)
ففي ذلك جَوَابَانِ:
الأول: القرآنُ، أوْ ما أَنْزَلَ اللهُ مِن الكُتُبِ.

(الذِّكْرُ مَصْدَرٌ، والمصدَرُ تَارةً يُضافُ إلى الفاعلِ، وتارةً يُضافُ إلى المفعولِ) فيُقالُ: ذِكْرُ اللهِ إذا أُضيفَ إلى الفاعلِ. وأمَّا إذا أُضيفَ إلى المفعولِ فيُقالُ: ما يَذْكُرُهُ بهِ العِبادُ، ، (إذا قيلَ: ذِكْرُ اللهِ بالمعنى الثاني، كانَ ما يُذْكَرُ بهِ مِثلَ قولِ العبدِ: (سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكبرُ).

{مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}.لهُ تفسيرانِ :-
قيلَ: إنَّ المرادَ: كَلامِي، وهو القرآن َوهذا هو الصحيح
وقيلَ: غَفَلَ عنْ أنْ يَذْكُرَنِي، بالتسبيحِ والتحميدِ وما أَشْبَهَ ذلكَ.
والدليلُ على أنَّهُ أرادَ القرآنَ أنَّهُ قالَ قبلَ ذلكَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}، والهُدَى هوَ القرآنُ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}؛ أيْ: كلامي، {فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، وهُداهُ: هوَ ما أَنْزَلَهُ مِنْ هذا الذِّكْرِ. ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ: {قَالَ رَبِّ لِمَا حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا}،وكذلك آياتُهُ: هيَ كَلامُهُ.
هذا مِثالٌ، لهذا التفسيرِ،وهو أنَّ ذِكْرَ الله ِفي قوله تعالى {مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، قدْ يُرادُ بهِ ما أُذْكَرُ بهِ، وقدْ يراد به: ما أَذْكُرُهُ أناوما أَتَكَلَّمُ بهِ.
قوله: (المقصودُ أنْ يَعْرِفَ أنَّ الذِّكْرَ هوَ كلامهُ الْمُنَزَّلُ، أوْ هوَ ذِكْرُ العِبدِلهُ) إذا قيلَ: {أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، يعني: نَسِيَنِي ولمْ يَذْكُرْنِي، أوْ أَعْرَضَ عنْ كلامي ولم يَقْرَأْهُ ونَسِيَهُ فسواءٌ قيلَ: ذِكْرِي كتابي أوْ كلامي أوْ هُدَايَ مَثلاً كانَ الْمُسَمَّى واحداً.
فإذن{مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}.
-فَسَّرَهُ بعضُهم فقالَ: مَنْ أَعْرَضَ عنْ كتابي،
- وفَسَّرَهُ آخَرونَ: مَنْ أَعْرَضَ عنْ كلامي،
-وفَسَّرَهُ آخَرونَ: مَنْ أَعْرَضَ عنْ هُدَايَ،
-وفَسَّرَهُ آخَرونَ: مَنْ أَعْرَضَ عنْ بَيَانِي- يعني: عن القرآنِ- وكلْ هذهِ التفاسيرُ ليست مُتبايِنَةٌ، بلْ هيَ بمعنًى واحدٍ.
قوله: (وإنْ كانَ مقصودُ السائلِ مَعرفةَ ما في الاسمِ مِن الصفةِ الْمُخْتَصَّةِ بهِ) ،
أيْ: مَعرفةَ معنى الاسمِ الذي لأَجْلِهِ سَمَّى الصفةَ المختَصَّةَ بهِ، كالرحمنِ الصفةُ المختَصَّةُ بهِ الرحمةُ، والعزيزِ الصفةُ المختصَّةُ بهِ العِزَّةُ.
يقولُ: (فلا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زائدٍ على تَعيَيُّنِ المسمَّى) .
تَعَيُّينُ المسمَّى يَعْنِي: تشخيصَ الْمُسَمَّى وتخصيصَهُ، فإذا كانَ يَقْصِدُ معنى ذلكَ الاسمِ ولماذا سُمِّيَ بهِ، (مثلُ أنْ يَسألَ عن القدُّوسِ السلامِ المؤمِنِ)، وهوَ يَعرفُ أنَّها أسماءُ اللهِ، ولكنْ يَسألُ ما معنى قُدُّوسٍ؟ فيُقالُ: القُدُّوسُ الْمُقَدَّسُ، يعني: الْمُنَزَّهُ عن النقائصِ والعيوبِ، وكذلك لو قال : ما معنى السلامِ؟ونحوها. . فمُرادُهُ ما معنىُ كونُهُ قُدُّوساً سَلاماً مُؤمناً، ونحوُ ذلكَ)،هذهِ مُقَدِّمَةٌ.
قولهُ: (إذا عُرِفَ هذا فالسلَفُ- رَحِمَهم اللهُ- كثيراً ما يُعَبِّرونَ عن المسمَّى بعبارةٍ تَدُلُّ على عينِهِ) .
أيْ: تدل على عينِ ذلكَ الشخصِ أو الشيءِ، وإنْ كانَ فيهِ مِن الصفةِ ما ليسَ في الاسمِ الآخَرِ، كأنْ يقولَ: أحمدُ هوَ الحاشرُ والماحي والعاقِبُ، أوْ يقالُ: القُدُّوسُ هوَ الغفورُ والرحيمُ، فيَذْكُرونَ اسماً مِنْ أسماءِ اللهِيعّين اسماً آخر، فيقولون مثلاً: القُدُّوسُ هوَ اللهُ، والقُدُّوسُ هوَ الرحمنُ، والقُدُّوسُ هوَ العزيزُ، وهكذا (أيْ: أنَّ المسمَّى واحدٌ، لا أنَّ هذهِ الصفةَ هيَ تلكَ الصفةُ) فإنَّ صفةَ القدُّوسِ غيرُ صفةِ الغفورِ، فكلٌّ منهما يُشْتَقُّ منهُ اسمٌ. ومعلوم أن هذا ليسَ اختلافَ تَضَادٍّ -كما يَظُنُّهُ بعضُ الناسِ- ولكنَّهُ اختلافُ تَنَوُّعٍ.
ثمَّ ذَكَرَ مثالاً على ذلكَ، وهوَ تفسيرُهم للصراطِ المستقيمِ، المذكور في سورةِ الفاتحةِ فقيلَ: هوَ القرآنُ، وقيلَ: هوَ الإسلامُ، وقيلَ: هوَ النبيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهلْ هذا اختلافٌ؟ الكُلُّ حَقٌّ؛ فإنَّ مَنْ هَداهُ اللهُ تعالى إلى القرآنِ سَلَكَ بهِ طريقَ النَّجَاةِ، ومَنْ هَداهُ إلى الإسلامِ سارَ على هُدًى، ومَنْ هَداهُ إلى طريقِ النبيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فهوَ على صراطٍ سَوِيٍّ، فإذا قيل: الصراطُ هو القرآنُ أي اتِّباعُ القرآنِ هوَ الهدايَةُ.
واسْتَدَلَّ بما ذُكِرَ (في حديثِ عَلِيٍّ الذي رواهُ التِّرمذيُّ وأبو نُعيمٍ). أبو نُعَيْمٍ صاحبُ الْحِليَةِ وقد َتساهَل في الْحِليَةِ في روايَةِ أحاديثَ ضعيفةٍ، و قد رَوى هذا الحديث مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، ولكنَّ مَدارَهُ الحارثُ الأعورُ، وفيهِ أنَّ الحديثَ يقولُ: ((هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ))، وفي هذا الدَّلالةَ على أنَّ القرآنَ هوَ الحبلُ، وهوَ الذكْرُ، وهوَ الصراطُ، وفَسَّرَهُ آخَرونَ فقالوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} يعني: الإسلامَ، واسْتَدَلُّوا بحديثٍ أَصَحَّ، وهوَ حديثٌ عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذي رواهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ، ولَفْظُهُ: ((ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً))، يعني: طريقاً مُستقيماً، ((وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ))، يعني: سُورٌ مِنْ جهة ، وسُورٌ مِنْ الجهة الاخرى، مُرْتَفِعٌ هذا السُّورُمرتفع. ((وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ))، يعنى: على كلِّ بابٍ سِتارةٌ تَسْتُرُهُ، ((سُتُورٌ مُرَخَّاةٌ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ))، أي: واقفٌ على الصراطِ، يقولُ: أيُّها النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ، اسْلُكُوا الصِّرَاطَ، ولا تَعْوَجُّوا، ((وداعٍ يَدعو على رأسِ الصراطِ، كُلَّمَا أرادَ أَحَدٌ أنْ يَدخلَ مِنْ تلكَ الأبوابِ أوْ يَفتحَها يقولُ: وَيْحَكَ لا تَفتَحْهُ؛ فإنكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، ومَنْ وَلَجَهُ سَقَطَ))؛ لأنَّ هذا الصراطَ هوَ الذي يُوَصِّلُ إلى الجنَّةِ، والذينَ يَفْتَحُونَ ويَدخلونَ معَ هذهِ السُّتورِ يسقطون.
قولهُ: (فالصراطُ: هوَ الإسلامُ)، أي:هوَ طريقُ الإسلامِ، (والسورانِ: ُ حُدودُ اللهِ)، يعني: العُقوباتُ التي جَعَلَها زَواجرَ عن المعاصي زَواجرَ، (والأبوابُ المفَتَّحَةُ: المحارِمُ) أي: الْمُحَرَّمَاتُ: فهذا بابُ الزِّنا، وهذا بابُ الرِّبا، وهذا بابُ الغناءِ، وغيرها من مَحارِمُ اللهِ.
(والداعي على الصراطِ: كتابُ اللهِ)، جَعَلَهُ داعياً، يقول:ادْخُلُوا الصراطَ ولا تَعْوَجُّوا، (والداعي فوقَ الصراطِ: واعظُ اللهِ في قَلْبِ كلِّ مؤمنٍ)، يعني: الوُعَّاظُ الذينَ يَعِظُونَ ويُذَكِّرونَ، يقولُ أحدُهم: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ؛ فإنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، يعني: إذا دَخَلْتَ فيَ هذهِ الْمُحَرَّمَاتِ. نقولُ: هذانِ قولانِ: إنَّ الصراطَ المستقيمَ هوَ القرآنُ، أوْأنهَ الإسلامُ، وكلُّ واحدٍ عليهِ دليلٌ.
(فهذانِ القولانِ مُتَّفِقَانِ) ليسَ بينَهما تَضَادٌّ؛ (لأنَّ دِينَ الإسلامِ هوَ اتِّباعُ القرآنِ)، ومَن اتَّبَعَ القرآنَ فإنَّهُ على الصراطِ السَّوِيِّ.
(ولكنْ كلٌّ منهما نَبَّهَ على وَصْفٍ غيرِ الوَصْفِ الآخَرِ)، فالذينَ فَسَّرُوهُ بأنَّهُ القرآنُ مرادهمٌ أنَّ مَن اتَّبَعَهُ فأنَّهُ على الصراطِ.
والذينَ قالوا: هوَ الإسلامُ، لا يعارض لأنَّ الإسلامَ مأخوذٌ مِن القرآنِ ومِن السُّنَّةِ.
قوله:ُ (الصراطُ يُشْعِرُ بوَصْفٍ ثالثٍ، وكذلك قولُ مَنْ قالَ: هوَ السُّنَّةُ والجماعةُ،وقول من قال هو طريقُ العُبوديَّةِ، وقول من قال هو ُ طاعةُ اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فكلْ هذهِ الأقوالُ لَيْسَتْ مُتَبَايِنَةً، والصراطُ المستقيمُ يَعُمُّها كُلَّها.
قولُه: ( يقول هؤلاءِ) الذينَ فَسَّرُوا الصراطَ بهذه التفاسير السابقة ليسَ بينَهم اختلافٌُ: فكلهم ّأشاروا إلى ذاتٍ واحدةٍ، لكنْ وَصَفَها كلُّ ٍ منهم بصفةٍ مِنْ صفاتِها).
هذا هوَ الصِّنْفُ الأوَّلُ الذي هوَ نوعٌ مِنْ أنواعِ التفاسيرِ التي فَسَّرَها السلَفُ. سؤالٌ: هلْ هناكَ فَرْقٌ بينَ قَواعِدِ التفسيرِ وأُصُولِ التفسيرِ؟
جوابٌ: أصولُ التفسيرِ خاصَّةٌ بعلومِ القرآنِ، مثلُ البَحْثِ في الْمَكِّيِّ والْمَدَنِيِّ، ِ في نُزولِ الوحيِ، وكيفَ نَزَلَ ُ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، والبحثِ في القرآنِ، متى كُتِبَ ؟ ومتى نُسِخَ ؟ والبحْثِ فيْ أَئِمَّةِ المُفسِّرينَ، وفي التفاسيرِ التي فُسِّرَ بها القرآنُ، وأيُّها أصح وأفضلُ، فهيَ علومٌ كثيرةٌ تَتعلَّقُ بالقرآنِ، وأَجْمَعُ مَنْ كَتَبَ فيها الزَّرْكَشِيُّ صاحبُ البرهانِ، وهو مطبوعٌ في أربعِ مُجَلَّدَاتٍ، وكذلكَ تِلميذُهُ السيوطيُّ في الإتقانِ؛ فإنَّهُ أيضاً تَوَسَّعَ في ذلكَ، وقَبْلَهُم مُؤَلَّفاتٌ كثيرةٌ، ومِن المتأخِّرينَ صاحبُ مَناهلِ العِرفانِ؛ فإنَّهُ أيضاً تَوَسَّعَ في ذلكَ في مُجَلَّدَيْنِ.
سؤالٌ: ما هيَ كُتُبُ التفسيرِ التي َيُنصح طالبَ العلْمِ بالابتداءِ بها؟
جوابٌ: أَنْصَحُ بتفسيرِ ابنِ جريرٍ وابنِ أبي حاتمٍ؛ لأنَّهُما يُفَسِّرَانِ بالمأثورِ، وتفسيرِ ابنِ كثيرٍ وتفسيرِ البَغَوِيِّ، وإنْ كانَ تفسيري ابنُ جريرٍ والبَغَوِيُّ فيهما شيءٌ مِن الإسرائيليَّاتِ. ومِن المتأخِّرينَ تفسيرُ ابنِ السعديِّ وهو تفسيرٌ بالاستنباطِ، كذلكَ للشيخِ الجزائريِّ أيضاً تفسيرٌ، فهذهِ تفاسيرُ سليمةٌ، ونُحَذِّرُهُ مِنْ تفاسيرِ المبتدِعةِ مِن المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ.
فمِن تفاسيرالمتقدِّمينَ تفسيرُ المَاوَرْدِيِّ. وهوُ قريبٌ أنْ يُوصَفَ بالاعتزالِ، وكذلكَ الزَّمخشريُّ وإنْ كانَ يَتَسَتَّرُ باعتزالِهِ، فيُدْخِلُ الاعتزالَ مَداخلَ خَفِيَّةً، حتَّى قالَ البلقيني: أَخْرَجْتُ مِن الكَشَّافِ اعتزاليات بالْمَناقِيشِ.لدقتها وخفائها .
كذلكَ تفاسيرُ المتأخِّرينَ الذينَ فَسَّرُوا القران بما ظَهَرَ لهمْ من تأمله ، مثلُ تفسيرِ الطنطاويِّ ُ. وفي (ظِلالِ القرآنِ) وإن تضمنت استنباطاً قَوِيَّاًٌ، إلا أن فيهِ أغلاط كثيرةٌ، ومَنْ قرأَ الأخطاءَ التي جمعهاعبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الدُّوِّيْشُ رَحِمَهُ اللهُ عَرَفَ كيفَ أَخطأَ حتَّى يَتَجَنَّبَها ويُشيرَ إليها.
ومن التفاسير التي ينبه عليها تفسيرُ رُوحِ المعاني للأُلُوسِيِّ، وقد أَكثرَ فيهِ مِن النقولِ، إلا أن فيهِ بعضُ الأخطاءِ والتأويلاتِ.
وكذلك تفسيرُ الرازيِّ الذي تَوَسَّعَ فيهِ، وهوَ أَشْعَرِيٌّ وممن يُبالِغُ في نَصْرِ مَذهبِ الأشاعرةِ، ويُأَوِّلُ الصفاتِ التي يَنْفِيهَا الأشاعرةُ، وغيرُها مِن التفاسيرِ التي سَيَمُرُّ بنا بعضُها إنْ شاءَ اللهُ.
سؤالٌ: ما رَأْيُكم في التفاسيرِ العلْمِيَّةِ لكتابِ اللهِ، وما الضابطُ الذي نَقبلُ بهِ قولَ أهلِ الطبِّ والفلَكِ وغيرِهم في استخراجِ إعجازِ القرآنِ؟
جوابٌ: أرى أنَّ هؤلاءِ المتأخِّرينَ الذينَ حَمَّلوا القرآنَ ما لا يَحتملُهُ أنَّهُم مُخْطِئُونَ، وأَوَّلُوهُ بتأويلاتٍ بعيدةٍ عن المرادِ، مثلُ سَيِّد طنطاوي، هذا حَمَّلَ القرآنَ شيئاً يَبْعُدُ أنْ يُحْمَلَ عليهِ، وكذلكَ سَيِّد قُطْب أيضاً عنده بعض التكلُّفاتِ التي لا تُؤْخَذُ مِنْ ظاهرِ القرآنِ، ولكنْ لا يخلو من فوائدُ جيده، وكذلكَ تفسيرُ المَنَارِ- وإنْ كانَ لم يكتمل - فيهِ شيءٌ مِن التَّمَحُّلاتِ والتكلُّفَاتِ، ولا يُعْدَمُ مِنْ فائدةٍ.
ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ أنَّ الْخِلافَ بينَ السلَفِ في التفسيرِ قليلٌ، وغالبُ ما صَحَّ عنهم مِن الخِلافِ يَرْجِعُ إلى اختلافِ التنوُّعِ لا اختلافِ التَّضَادِّ،
وذَكَرَ أنَّ الاختلافَ صِنْفَانِ:
الصِّنْفُ الأوَّلُ:
أنْ يُعَبِّرَ كلُّ واحدٍ منهم عن المرادِ بعبارةٍ غيرِ عبارةِ صاحبِهِ، تَدُلُّ على معنًى في المسمَّى غيرِ المعنى الآخَرِ معَ اتِّحادِ المسمَّى، وذَكَرَ لهُ أمثلةً،
أماُ الصِّنْفَ الثانيَ ما أشار اليه بقوله:
(أنْ يَذْكُرَ كلُّ ٍ منهم مِن الاسمِ العامِّ بعضَ أنواعِهِ على سبيلِ التمثيلِ).
يَذْكُرُ بعضَ أنواعِ الاسم العام على سبيلِ الْمِثالِ، (وعلى تنبيهِ المستمِعِ على النوعِ لا على سبيلِ الْحَدِّ المطابِقِ للمحدودِ في عمومِهِ وخصوصِهِ)، والاسمُ العامُّ هو اللفظُ الذي يُفَسَّرُ بهِ.
واللهُ تعالى - مَثَلاً ذَكَرَ بعضَ الأسماءِ العامَّةِ بعدَّةِ أسماءٍ،
فذَكَرَ الجنَّةَ بعِدَّةِ أسماءٍ: كالفِرْدَوْسِ والنعيمِ والْخُلْدِ.
وذَكَرَ النارَ أيضاً بعِدَّةِ أسماءٍ:كجَهَنَّمَ والجحيمِ وسَقَرَ والسعيرِ ولَظًى والهاويَةِ. والمسمَّى واحدٌ، اسْمُها الذي يَعُمُّها النارُ، فإذا قيلَ: ما المرادُ بِجَهَنَّمَ؟ فيقالُ: النارُ، وإذا قيلَ: ما المرادُ بسَقَرَ؟ فيقالُ: اسمٌ مِنْ أسماءِ النارِ، ولماذا سُمِّيَتْبهذا؟ لأنَّها تَشْتَعِلُ على مَنْ فيها، ولأنَّها تُحْرِقُ، ونحوِ ذلكَ.
وكذلكَ أسماءُ الْجَنَّةِ؛ لأنَّ فيها خُلْداً، ولأنَّ فيها نعيماً، فهذا الاسمُ العامُّ يَذْكُرُ بعضَ أنواعِهِ على سبيلِ التمثيلِ، وعلى تنبيهِ المستمِعِ على النوعِ، لا على سبيلِ الْحَدِّ المطابِقِ للمحدودِ، في عمومِهِ وخصوصِهِ؛ فإنَّ اللغةَ فيها أسماءٌ مُحَدَّدَةٌ، مُطابِقَةٌ للمحدودِ، كما إذا قيلَ: ما المرادُ بالبيعِ؟ فتُفَسِّرُهُ فتقولُ: أنَّهُ عَقْدٌ على مَوصوفٍ في الذِّمَّةِ، أوأنَّهُ مُبادَلَةُ مالٍ أوْ مَنفعةٍ بِمِثْلِ أحدِهما على التأبيدِ
وكذلكَ إذا قيلَ: ما المرادُ بالصلاةِ شَرْعاً؟ فتُعَرَّف بأنَّها أقوالٌ وأفعالٌ مُفْتَتَحَةٌ بالتكبيرِ ومُخْتَتَمَةٌ بالتسليمِ.
ثم ذَكَرَ المؤلف مِثالَ (سائلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عنْ مُسَمَّى لفظِ الخُبْزِ، فأُرِيَ رغيفاً, وقيلَ) لهُ: (هذا. فالإشارةُ إلى نوعِ هذا, لا إلى هذا الرغيفِ وَحدَهُ)؛ أيْ: ليسَ الخبْزُ هوَ هذا الرغيفَ فقطْ، بلْ هذا مِنْ جُملتِهِ، أوْ مِنْ أنواعِهِ، أوْ هوَ ما يُشْبِهُ هذا، فالإشارةُ إلى نوعِ هذا, لا إلى هذا الرغيفِ وَحْدَهُ.
مثالُ ذلكَ: (ما نُقِلَ في قولِهِ – تعالى-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ} ) هذهِ الآيَةُ فَسَّرَها العلماءُ وأَكْثَرُوا في ذِكْرِ الأمثلةِ لهؤلاءِ الذينَ قَسَّمَهم اللهُ تعالى، فمنهم مَنْ جَعَلَ الظالمَ لنفسِهِ هوَ الكافرَ، ومنهم جَعَلَ الظالمَ لنفسِهِ هوَ بعضَ المؤمنينَ، وهناك مَنْ تَوَسَّعَ في هذه المسألة ومنهم ابنَ القَيِّمِ في كتابِهِ (طريقُ الهجرَتَيْنِ وبابُ السعادَتَيْنِ) ، ذَكَرَ ذلكَ استطراداً.
ولكنْ يَتَرَجَّحُ أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ: الظالمَ والمقتصِدَ والسابقَ، كلَّهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ، وإنْ كانوا يَتفاوتونَ في دَرجاتِها.
ومِن العلماءِ مَنْ قالَ: اثنانِ مِنْ أهلِ الجنَّةِ، وهماالمقتصِدُ والسابقُ، وأمَّا الظالِمُ فليسَ مِنْ أهلِ الجنَّةِ، بلْ مِنْ أهلِ النارِ، وجَعلوها مثلَ التقسيمِ الوارد في أوَّلِ سورةِ الواقعةِ، وفي آخِرِها؛ فإنَّ اللهَ قالَ في أوَّلِها: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، فهذهِ ثلاثةُ أقسامٍ فالسابقون وأصحاب الميمنة هم أهل الجنة،و أصحابَ الْمَشْئَمَةِ هم أهلُ النارِ، كذلكَ في آخِرِ السورةِ في قولِهِ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، إلى قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ}.
وكأنَّ المؤلِّفَ هنا - رَحِمَهُ اللهُ - اختارَ أنَّ الجميعَ مِنْ أهلِ الجنةِ؛ وذلكَ لأنَّ اللهَ تعالى أَوْرَثَهُمُ الكتابَ، قالَ تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، وكلمةُ {اصْطَفَيْنَا} تَدُلُّ على الاختيارِ، كما في قولِهِ تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}، وكقولِهِ جل وعلا: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، فالاصطفاءُ يَدُلُّ على أنَّهُم مِن الصَّفوةِ، وأنهم همْ صَفوةُ العِبادِ، وأنَّهُم كُلَّهم أُورِثُوا الكتابَ؛ ي أي: أنَّهُم عَمِلُوا بالكتابِ، فيكونُ الظالمُ لنفسِهِ قِسْماً منهم، ولكنَّهُ هوَ الْمُقَصِّرُ في العباداتِ ونحوِها؛ وذلكَ لأنَّهُ لا يَسْلَمُ أحدٌ مِنْ ظُلْمِ نفْسِهِ.
ولهذا حَكَى اللهُ تعالى عنْ ذي النُّونِ عليه السلام أنَّهُ قالَ: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، معَ أنَّهُ مِنْ أنبياءِ اللهِ، ولكنْ ظَلَمَ نفسَهُ ببعضِ الأعمالِ.
ومِن الأدلَّةِ أيضاً تعليمُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عندما سَأَلَه أنْ يُعَلِّمَهُ دُعاءً يَدعو بهِ في صلاتِهِ، فقالَ: ((قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً -وفي روايَةٍ كَبِيراً- وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ))، والحديثُ في الصحيحِ.
فعُرِفَ بذلكَ أنَّ الظالمَ لنفسِهِ مِن المؤمنينَ، ولكنْ هوَ الْمُقَصِّرُ، وما ذُكِرَ مِن الأنواعِ في هذا وفي غيرِهِ إنَّما هيَ أمثلةٌ.
قولُه : (فمعلومٌ أنَّ: الظالمَ لنفسِهِ يَتناوَلُ الْمُضَيِّعَ للواجباتِ والمُنْتَهِكَ للمُحَرَّمَاتِ ) ،مُضَيِّعٌ لبعضِ الواجباتِ وليس كلها، ولا يَترُكَ الواجباتِ التي يَكْفُرُ بتَرْكِها، فهو يَفعلُ بعضَ المحرَّماتِ ويَتركُ بعضَ الواجباتِ، فلذلكَ يُسَمَّى ظالماً، وأمَّا (المقتصِدُ: فهوَ يَتناوَلُ فاعلٌ الواجباتِ وتارِكٌ المحرَّماتِ،
وأمَّا السابقُ: فيَدخلُ فيهِ مَنْ سَبَقَ، فتَقَرَّبَ بالحسناتِ معَ الواجباتِ).
ومنهم مَنْ يقولُ:
إنَّ الظالمَ لنفسِهِ: هوَ الذي يَتركُ السُّنَنَ، ويَقتصِرُ على الفرائضِ، ويَفعلُ بعضَ المحرَّماتِ،
وأمَّا المقتصِدُ: فهوَ الذي يَقتصِرُ على الواجباتِ، يَفعلُها ويَتركُ المحرَّماتِ،
وأمَّا السابقُ: فهوَ الذي يَفعلُ أوْ يأتي بالواجباتِ وجميعِ المندوباتِ والمستحبَّاتِ ويَتركُ المحرَّماتِ، ويَتركُ المكروهاتِ، ويَتركُ الكثيرَ مِن المباحاتِ التي تَشغَلُ عن القُرُبَاتِ. وبيانُ تفسيرِ ذلكَ في تفسيرِ ابنِ كثيرٍ وغيرِهِ.
قولُه: (فالمقتصِدونَ همْ أصحابُ اليمينِ ).
أي: الذينَ ذُكِرُوا في قولِهِ تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}، والسابقونَ بالخيراتِ هم الذينَ ذُكِرُوا في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، وفي قولِهِ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}.
قولُه: (ثمَّ إنَّ كُلاًّ مِنهمِ يَذْكُرُ هذا في نوعٍ مِنْ أنواعِ الطاعاتِ، كقولُ القائل ً:
- السابقُ الذي يُصَلِّي في أوَّلِ الوقتِ، والمقتصِدُ الذي يُصَلِّي في أثنائِهِ، والظالمُ لنفسِهِ الذي يُؤَخِّرُ العصرَ إلى الاصفرارِ).
هذا مِثالٌ، ولا يعني حَصْراً لهؤلاءِ. (أو يقولُ : السابقُ والمقتصِدُ والظالمُ قدْ ذَكَرَهم) اللهُ (في آخِرِ سورةِ البقرةِ؛ فإنَّهُ ذَكَرَ المحسِنَ بالصدقَةِ، والظالمَ بأَكْلِ الربا، والعادلَ بالبيعِ)، ذَكَرَ اللهُ تعالى قولَهُ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} إلى قولِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً}، فهؤلاءِ فُسِّرُوا بأنَّهُم السابقونَ،- وهذا كمِثالٍ-. ثمَّ ذَكَرَ الظالمَ بقولِهِ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ}. ثمَّ ذَكَرَ العادلَ المقتصِدَ بقولِهِ: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}.
(والناسُ في الأموالِ) ذَكَرَ ثلاثةَ أقسامٍ:
إما مُحْسِنٌ وإما عادلٌ وإما ظالمٌ،
- فالمحسِنُ: هوَ السابقُ،
- والعادلُ: هوَ المقتصِدُ،
- والظالمُ: هوَ الظالمُ،
فَسَّرَ (السابقَ بالمحسِنَ بأداءِ المستحبَّاتِ معَ الواجباتِ)أي أن السابقَ، يَفعلُ الواجباتِ ويَتقرَّبُ إلى اللهِ تعالى بفعْلِ المستحبَّاتِ، ويَتركُ المُحرَّماتِ، ويَتركُ أيضاً المكروهاتِ، ويَتركُ الكثيرَ مِن المباحاتِ التي تَشغَلُ عن الخيراتِ،
(وأمَّا الظالمُ) فيَدخُلُ فيهِ (آكِلُ الربا أوْ مانعُ الزكاةِ)، يعني: نوعٌ مِنْ أنواعِ الظالمِ لنفسِهِ، (والمقتصِدُ الذي يُؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ، ولا يأكل الربا)
والحاصلُ أنَّ هذهِ تفاسيرُ لهذهِ الآيَةِ، وتفاسيرُها وأمثلتها كثيرةٌ، (فكلُّ قولٍ فيهِ ذِكْرُ نوعٍ داخلٌٍ في الآيَةِ، وإنما ذُكِرَ لتعريفِ المستمع بتناوُلِ الآيَةِ لهُ، أي يَذْكُرُ نوعاً مِنْ أنواعِهِ، (ويُنَبِّهُ بهِ على نظيرِهِ) فإذا قِيلَ: مِن الأمثلةِ في الصدقاتِ:
- السابقُ: هوَ الذي يَتصدَّقُ على الفقراءِ والمساكينِ ونحوِهم بما فَضَلَ عنْ حاجتِهِ،
- والمقتصِدُ: هوَ الذي يَقتصِرُ على أداءِ الزكاةِ وأداءِ الحقوقِ الواجبةِ،
- والظالمُ: هوَ الذي يَمْنَعُ كثيراً مِن الحقوقِ الواجبةِ، ويُؤَخِّرُ الزكاةَ، ويَمْنَعُ ويَبْخَلُ بما رَزَقَهُ اللهُ تعالى.
كذلكَ في الصيامِ يُقالَ مَثلاً: -
- السابقُ: هوَ الذي يَحْفَظُ صيامَهُ عن اللغوِ والرفَثِ، ويَتقرَّبُ إلى اللهِ بصيامِ ما يَقْدِرُ عليهِ مِن النوافلِ ونحو ذلك.
- والمقتصِد: هوَ الذي يَقتصِرُ على صيامِ الفرْضِ ولا يَنْقُصُهُ،
- والظالمُ: هوَ الذي يَظلمُ نفسَهُ بفعلِ شيءٍ مِن المعاصي في أثناءِ الصيامِ بسِبابٍ أوْ لَغْوٍ أوْ سَهْوٍ أوْ شَتْمٍ أوْ نحوِ ذلكَ، ولا يَتقرَّبُ إلى اللهِ بشيءٍ مِنْ فضائلِ الصيامِ، ولا مِنْ نوافلِهِ، فيكونُ ظالماً لنفسِهِ مُقَصِّراً في حَقِّها.
قولُه: (فإنَّ التعريفَ بالمثالِ قدْ يَسْهُلُ أكثرَ مِن التعريفِ بالحَدِّ المطابِقِ ).
والحدَّ المطابِقَ كما سبق هو تعريفَ الشيءِ بالحَدِّ الذي يُحَدَّدُ بهِ،
فبعرف الصيام مثلاً بأنه إِمْسَاكٌ مخصوصٌ مِنْ شخْصٍ مخصوصٍ عنْ أشياءَ مَخصوصةٍ.
ويعرف الحج بأنه هوَ قَصْدُ البيتِ الحرامِ في زمَنٍ مخصوصٍ لأداءِ أعمالٍ مخصوصةٍ، ويدخل في ذلك تعربف السلم مثلاً فيقال هوَ عَقْدٌ على موصوفٍ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٌ بثَمَنٍ مقبوضٍ بمجلِسِ العقْدِ،
فهذا كله تخصيصٌ، وتعريفٌ بالحَدِّ، كما يقالُ: ما المرادُ بالثوبِ؟ فيكون الجواب أنه ُ لِباساًٌ يَستُرُ الجُزْءَ الفلاني من جسم الإنسانِ، مَنسوجٌ مِنْ قُطْنٍ أوْ مِنْ صُوفٍ أوْ مِنْ كَتَّانٍ أوْ نحوِ ذلكَ، فهذا يُسَمَّى تعريفاً بالْحَدِّ.
وأمَّا التعريفُ بالمثالِ:
كأنْ تَأْخُذَ واحداً مِن الثيابِ، فتقولُ: هذا هوَ الثوبُ، فالتعريفُ بالمثالِ يعني: بالمشاهَدَةِ أَبلغُ، سيَّما لمن يجهلون باللُّغَةِ، كالأعاِ جم ونحْوِهم.
يقولُ: (العقلُ السليمُ يَتَفَطَّنُ للنوعِ كما يَتَفَطَّنُ إذا أُشيرَ لهُ إلى رغيفٍ، فقيلَ: هذا هوَ الْخُبْزُ)
أوْ أُشِيرَ لهِ مَثلاً إلى البيتِ إذا كانَ ً لا يَعْرِفُ مُسَمَّى البيتِ، فيُقالُ: هذا بيتٌ ٌ.
(قدْ يَجيءُ كثيراً مِنْ هذا البابِ كقولِهم: هذهِ الآيَةُ نَزلتْ في كذا، لا سيَّما إذا كانَ المذكورُ شَخْصاً)، نَزلتْ في كذا، يُرادُ بذلكَ نَزلتْ في جِنْسِ كذا، لا أنَّها نَزلتْ في ذلكَ الشخصِ، (كأسبابِ النزولِ المذكورةِ في التفسيرِ).
ذَكَرَ هذهِ الأمثلةِ: (كقولِهم: إن آيَةُ الظِّهارِ نَزلتْ في امرأةِ أوسِ بنِ الصامتِ) .
صحيحٌ أنَّ المُجَادِلَةَ التي سَمِعَ اللهُ قولَها هيَ امرأةُ أَوْسٍ، ولكن ليسَ المرادُ أنَّ هذا خاصٌّ بتلك المرأة؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}
(وإن آيَةُ اللِّعانِ نَزلتْ في عُوَيْمِرٍ العجلانيِّ أوْ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ)، وكِلاهُما حَصَلَ منهُ اللِّعانُ، وكِلاَ الحديثَيْنِ في الصحيحِ.
فعُويمرٌ العجلانيُّ قيلَ: إنَّهُ هوَ الذي شَكَّ في امْرَأَتِهِ لَمَّا نَزَلَت آياتُ القذْفِ في قولِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، فجاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ معَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فتَقتلونَهُ، أمْ كيفَ يَفعلُ؟ فكَرِهَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المسائلَ وعَابَهَا، ثمَّ رَجَعَ إليهِ وقالَ: إنَّ الذي سَأَلْتُكَ عنهُ قد ابْتُلِيتُ بهِ. فأَنْزَلَ اللهُ تعالى هذهِ الآياتِ.
وإماً هِلالُ بنُ أمَيَّةَ، - وهوَ أحَدُ الثلاثةِ الذينَ تابَ اللهُ عليهم في سورةِ التوبةِ - ؛ فإنَّهُ أيضاً ذُكِرَ أنَّهُ قَذَفَ امرأتَهُ بشَريكِ بنِ سَحْمَةَ، ثمَّ تَلاعَنَا، فكلُّ واحدٍ مِن المفسِّرينَ يقولُ: نَزلتْ في هِلالٍ، نَزلتْ في عُوَيْمِرٍ.
والمرادُ أنَّها نَزلتْ في جِنْسِ هذهِ الواقعةِ، لا أنَّها خاصَّةٌ بها.
(وكذلكَ آيَةُ الكَلالةِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةً}، في سورةِ النساءِ، كذلكَ في آخِرِ السورةِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} .
فالكَلالةُ اتَّفَقُ الصحابةُ على أنَّهُ مَنْ ماتَ وليسَ لهُ أولادٌ وليسَ لهُ أبٌ ولا جَدٌّ أي: مَنْ ليسَ لهُ فَرْعٌ وارثٌ، وليسَ لهُ أَصْلٌ وارثٌ ِ، نَزلتْ في جابرٍ لَمَّا ذُكِرَ أنَّهُ لَمَّا مَرِضَ ولمْ يكُنْ لهُ إلاَّ أخواتٌ، فسَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قبلَ أنْ يُولَدَ لهُ أولادٌ، فنَزلت الآيَةُ.
(كذلكَ قولُهُ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} ) في سورةِ المائدةِ، يقولُ اللهُ تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، في هذهِ الآيَةِ تَخْيِيرٌ، أي: إذا جاءُوكَ يَتحاكمونَ فلكَ الْخِيارُ، إمَّا أنْ تَحْكُمَ أوْ تُعْرِضَ. ولكنْ قيلَ: إنَّ هذهِ الآيَةَ نُسِخَتْ بالآيَةِ التي بعدَها، وهيَ هذهِ الآيَةُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}.
والصحيحُ أنَّ المرادَ إذا حَكَمْتَ فاحْكُمْ بينَهم بما أَنْزَلَ اللهُ، فتكونُ كالآيَةِ التي قَبْلَها، وهيَ قولُهُ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
بنو قُريظة: طائفةٌ مِن اليهودِ، وهم الذينَ قاتَلَهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعدَ أنْ نَقَضُوا عَهْدَهم لَمَّا جاءَ الأحزابُ، فلَمَّا قَاتَلَهم قَتَلَ رجالَهم وسَبَى نساءَهم وذُرِّيَّتَهُمْ.
وبنو النَّضيرِ: هم الذينَ جاءَ إليهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَستعينُهم في دِيَةِ قتيلَيْنِ، فهَمُّوا بما لمْ يَنَالُوا، قالوا لأحدِهم: اصْعَدْ على هذا السطْحِ وأَلْقِ عليهِ صَخرةً حتَّى تَقتلَهُ، فأَوْحَى اللهُ إليهِ بما هَمُّوا بهِ، فعندَ ذلكَ عَرَفَ أنَّهُم نَقَضُوا العهدَ، فحاصَرَهم حتَّى أَجلاهم إلى أَذْرِعَاتِ الشامِ، ونَزلتْ فيهم أوَّلُ سورةِ الحشْرِ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ}. حتى أنه كانَ بعضُ السلَفِ كابنِ عباسٍ يُسمُّونَهَا سورةَ النضيرِ.
(وإنَّ قولَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، نَزلتْ في غَزوةِ بَدْرٍ)، معَ أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ.
(وأنَّ قولَهُ: في سورةِ المائدةِ {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ،نَزلتْ في قَضِيَّةِ تَميمٍ الداريِّ وعَدِيِّ بنِ بَداءٍ)، في القِصَّةِ الذي ذَكَرَها ابنُ جَريرٍ وغيرُهُ في التفسيرِ، وهي أنَّ رَجلاً مِنْ بني سَهْمٍ مِنْ قريشٍ خَرجَ في تِجارةٍ لهُ، فماتَ ولمْ يكُنْ معهُ إلاَّ هذانِ، وهما لا يَزالانِ معَ النصارى، تَميمٌ وعَدِيٌّ، فأَوْصَى إليهما بتَرِكَتِهِ، فخَانَا فيها، فنَزلت الآيَةُ.
(وقولُ أبي أيُّوبَ: إنَّ قولَهُ تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ})في قِصَّةٍ في السُّنَنِ، وهيَ صحيحةٌ، وذَكَرَها أيضاً صاحبُ البلوغِ وغيرُهُ، أنَّ أبا أيُّوبَ لَمَّا رأى إنساناً - وهمْ يُقاتِلونَ - دَخَلَ في صَفِّ المشركينَ فقالَ الناسُ: أَلْقَى بِيَدِهِ إلى التَّهْلُكَةِ، فقالَ: إنَّكُم تَحْمِلُونَ هذهِ الآيَةَ على غيرِ مَحْمَلِها، وإنَّها نَزلتْ فينا مَعشَرَ الأنصارِ، لَمَّا أنَّ اللهَ تعالى نَصَرَ نَبِيَّهُ قُلْنَا: هَلُمُّوا فَلْنَتْرُك الجهادَ ونُقْبِلْ على أموالِنا ونُصْلِحْها، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فَفَسَّرَ التَّهلُكَةَ بأَنَّها تَرْكُ الجهادِ، هكذا في هذا الحديثِ، والآيَةُ عامَّةٌ في كلِّ شيءٍ يُسَمَّى تَهْلُكَةً.
والحاصلُ أنَّ هذا نظائرُهُ كثيرةٌ، في انهم يُفَسِّرُونَ الآيَةَ ببعضِ أَمْثِلَتِها، ومن أمثلة ذلك ي آيَةِ الْحَجِّ وهي قولُهُ تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}،
- فقد فَسَّرَ بعضُهم الرفَثَ بأنَّهُ الْجِماعُ،
- وفَسَّرَهُ بعضُهم بأنَّهُ الكلامُ المتعلِّقُ بالعوراتِ،
- وفَسَّرَهُ بعضُهم بأنَّهُ الكلامُ في النساءِ، وما يَتعلَّقُ بإتيانِ النساءِ، وفيما يَتعلَّقُ بالشهواتِ، ونحوِ ذلكَ، وكلُّها داخِلَةٌ فيها؛ لأنَّ الرفَثَ هوَ القولُ السيِّئُ، وإنْ كانَ يُطْلَقُ على الْجِماعِ كقولِهِ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} .
كذلك الفُسوقُ ً أَكْثَرُوا لهُ مِن الأمثلةِوالتفسيرات.
- فقالَ بعضُهم: الفُسوقُ مُضَارَّةُ الكاتبِ والشهيدِ، وأَخَذَوهُ مِنْ قولِهِ تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وإنْ تَفْعَلُوا فإنَّهُ فُسوقٌ بكم}. فجَعَلَ هذا فُسوقاً، ولكنْ هذا مِثال فقط من أمثلة الفسوق.
- وفَسَّرَهُ بعضُهم بالتنابُزِ، وأَخَذَهُ مِنْ قولِهِ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}، فجَعَلَ هذهِ هوَ الفسوقُ، ولكِنَّهُ مثالٌ أيضاً،
- وفَسَّرَهُ بعضُهم بأَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وأَخَذَهُ مِنْ قولِهِ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، إلى قولِهِ: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} وهو أيضاً مثال.
(ونظائرً كثيرمما يَذكرونَ أنَّهُ نَزَلَ في قَومٍ مِن المشركينَ بمَكَّةَ)، والآيَةُ على العمومِ، (أوْ في قومٍ مِنْ أهلِ الكتابِ اليهودِ والنصارى، أوْ في قومٍ مِن المؤمنينَ، فالذينَ قالوا ذلكَ لمْ يَقْصِدُوا أنَّ حُكْمَ الآيَةِ مُخْتَصٌّ بأولئكَ الأعيانِ دونَ غيرِهم)، ولهذا كان يمن قواعدِ التفسيرِ: إنَّ العبرةَ بعُمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ، ولوْ كانَ َهُ خاصاً بِمَنْ نَزَلَ فيهِ لَمَا اعْتُبِرَ بالآياتِ. وقد ذُكِرَ أنَّ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ كانَ إذا قَرَأَ آياتٍ نَزَلَتْ في أهلِ الكتابِ يقولُ: (مَضَى القومُ ولمْ يُعْنَ بهِ سِوَاكُمْ) .
- ففي مِثلِ قولِ اللهِ تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} تحذيراً للأمة وإنْ كانَ الخِطاب ً لليهودِ. - وفي مِثلِ قولِهِ تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تحذيراً للأمة أن يفعلوا كفعلهم وإنْ كانَ الْخِطابُ لليهودِ ايضاُ.- وفي مِثلِ قولِهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} - وإنْ كانتْ نَزلتْ في اليهودِ- تَحذيرٌ أنْ يُفْعَلَ كفِعلِهم. وأشباهُ ذلكَ كثيرٌ، فلا يقولُ مسلمٌ ولا عاقلٌ: إنَّ هذا خاصٌّ بِمَنْ نَزَّلَ فيهم اللهُ تعالى، وهو إنمايَذْكُرُ ذلكَ حتَّى يُحَذِّرَنا أنْ نَفعلَ كفِعْلِهم).

هيئة الإشراف

#4

19 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


القارئ: (الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه الصلاة وأزكى وأتم التسليم.. أما بـعـد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -:  

فـــصــل في اختـلاف الســلف في التفسيـر وأنه اختلاف تـنوع

الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:
أحدهما : أن يعبر كل واحد منهما عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنـزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند. وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم، وأسماء القرآن فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: {قل أدعو الله أو أدعو الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال هو حي ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين، فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسماً هو علم محض، كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقاً لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسـم الآخـر بطريـق اللزوم.
وكذلك أسماء النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم، مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن، مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب وأمثال ذلك.
فإن كان مقصود السائل تعيين المسمّى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علماً، وقد يكون صفة، كمن يسأل عن قوله: {ومن أعرض عن ذكري} ما ذكره؟
فيقال له: هو القرآن مثلاً، أو ما أنزله من الكتب، فإن الذكر مصدر والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول.
فإذا قيل: ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره وهو كلامه وهذا هو المراد في قوله: {ومن أعرض عن ذكري} لأنه قال قبل ذلك قال: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} وهداه ما أنزله من الذكر، وقال بعد ذلك: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها}.
والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنـزل، أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل: ذكري: كتابي أو كلامي، أو هداي أو نحو ذلك فإن المسمى واحد.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى مثل أن يسأل عن: (القدوس، السلام، المؤمن) وقد علم أنه الله، لكن مراده: ما معنى كونه قدوساً، سلاماً، مؤمناً؟ ونحو ذلك.
إذا عرف هذا، فالسلف كثيراً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسـم الآخر، كمن يقول: أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب.
والقدوس: هو الغفور والرحيم، أي أن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه.
ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم هو: القرآن أي اتباعه لقول النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: (هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم).
وقال بعضهم: هو الإسلام، لقوله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم في حديث النواس بن سمعان، الذي رواه الترمذي وغيره: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط، قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مؤمن)).
فهذا القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ (صراط) يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وأمثال ذلك.
فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعـد:
هذا الكلام مهم جداً للناظر في كلام السلف في التفسير، وقدم له بمقدمة وهي أن كلام السلف من الصحابة والتابعين في التفسير قد يكون مختلفاً ولكن خلافهم واختلافهم في التفسير قليل بالنسبة لاختلافهم في الأحكام الفقهية فإن اختلافهم في الأحكام كثير جداً وأما اختلافهم في التفسير فقليل وهذا الكلام قد لا يسلَّم له إذا نظر إلى أن الاختلاف في كل آية موجود عن السلف موجود عنهم الخلاف في تفسير كلمات أو في تفسير الآيات بين الصحابة والتابعين.
وهنا حتى لا يتعرض بمثل هذا الاعتراض قعد شيخ الإسلام – رحمه الله – هذه القاعدة التي هي من القواعد الأصولية وهي أن الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
وبيّن لك اختلاف التنوع ببيان أصل معناه، ثم ببيان أمثلة عليه واضحة من غير القرآن ثم مثل لذلك بـ "الصراط المستقيم" في القرآن وقبله بالذكر في القرآن وتقرير ذلك أن الاختلاف في الآية في تفسيرها أو في كلمة منها لا يعني أن يكون القول بل أقول إن الاتفاق في تفسير الآية أو في تفسير كلمة منها لا يعني أن يكون القول من الصحابي موافقاً للقول الآخر بحروفه بل قد يكون الاتفاق في المعنى ولا يسمى هذا اختلاف بل هو اتفاق؛ لأنهم في الحقيقة اتفقوا على المعنى أما اللفظ فجرى بينهم خلاف فيه.
فمن الناس من ينظر إلى اللفظ ويقول اختلف السلف في ذلك وهذا ليس بصحيح بل المفسر ينظر إلى المعنى لأن من يريد التفسير إنما يبين معنى الكلام وتبيين معنى الكلام يختلف باختلاف المفسر، يختلف باختلاف المعبر لأنه تعبير عما فهمه من الكلام، قد يكون هذا التعبير بالنظر إلى حاجة المتكلم من أنه سأل عن شيء معين، أو لحاجته التي فيها إصلاحه من جهة الهداية أو بالنظر إلى عموم اللفظ وما يشمله ونحو ذلك.
فقال إن الاختلاف في التنوع هذه بمنـزلة الألفاظ المتكافئة التي هي بين المترادفة والمتباينة.
وعند الأصوليين الألفاظ إما أن تكون متواطئة أو مشتركة أو مشككة أو مترادفة أو متباينة.
والترادف التام لا يوجد في القرآن ولا في اللغة أو إن وجد عند بعض المحققين من أهل العلم فإنه نادر الترادف التام يعني أن هذا اللفظ يساوي هذا من كل جهاته يساويه في المعنى من كل جهاته هذا الترادف.
أما التباين فأن تكون هذه غير تلك لفظاً ومعنىً، بينهما كما ذكر شيخ الإسلام وهو اختيار له وعند طائفة من الأصوليين غير ذلك؛ لأنهم يجعلون الأسماء المتكافئة من المتباينة، ويجعلون المتباينة قسمين لكن نسير على كلامه لأن الألفاظ المتكافئة بين المترادفة والمتباينة فهي ليست مترادفة كل لفظ هو الآخر لفظاً ومعنىً وليست هي المترادفة لأن اللفظ مع الآخر متساوٍ في المعنى تماماً لا اختلاف فيه وليست هي المتباينة من أن هذا اللفظ غير ذاك تماماً مع معناه المعنى مختلف تماماً كما أن اللفظ مختلف تماماً بل هي بين هذا وهذا متكافئة اشتراك في شيء واختلاف في شيء في دلالاتها على المسمى على الذات هذه واحدة في دلالاتها على أوصاف الذات هذه مختلفة مثل ما ذكروا أسماء السيف أنه السيف والصارم والمهند والبتار... إلخ هذه أسماء هل هي متباينة؟
على كلامه هي ليست بمتباينة لأن البتار والصارم والمهند كل هذه معناها السيف، وهل هي مترادفة؟ لا لأنه دلالتها على الذات واحدة لكن مختلفة في المعنى البتار: فيه أنه سيف وزيادة، زيادة وصف وهو كونه بتاراً.
المهند: سيف وزيادة، كونه جاء من الهند.
الصارم: سيف وزيادة أن من وصفه الصرامة وهكذا، فإذاً هي فيها ترادف من جهة الدلالة على المسمى وفيها تباين من جهة المعنى فصارت بين بين فصارت متكافئة يعني يكافئ بعضها بعضاً وهذا لا يقتضي التبيان ولا يقتضي الترادف هذا مثل ما جاء في الأسماء الحسنى كما مثل لك: فإن اسم الله العليم والقدوس والمؤمن والسلام هذه بدلالة الذات فإن العليم هو الله والقدوس هو الله والسلام هو الله والرحيم هو الله والملك هو الله من جهة دلالتها على الذات واحدة ومن جهة دلالتها على الصفة مختلفة فإن اسم الله القدوس ليس مساوياً في المعنى يعني من جهة الصفة لاسم الله الرحيم، اسم الله العزيز ليس مساوياً من جهة المعنى يعني الصفة التي اشتمل عليها الاسم لاسم الله القوي، ونحو ذلك، هذه تسمى متكافئة، يعني من حيث دلالتها على المسمى واحدة لكن من حيث دلالتها على الوصف الذي في المسمى مختلفة؛ لأن المسمى في الذات ذات أي شيء المسمى هذا يختلف فيه صفات متعددة إذا نظرت إليه من جهة يوصف بكذا ومن جهة أخرى يوصف بكذا وهو ذات واحدة.
مثل لهذا بالذكر: {من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} الذكر ما هو؟ هل هو القرآن؟ هل هو السنة؟ هل هو الرسول صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم؟ هل هو ذكر الله؟ يعني التسبيح والتحميد هذه كلها متلازمة، ظاهرها مختلفة، أناس فسروها بالقرآن، وناس فسروها بالسنة، وناس فسروها بكذا، لكن من حيث الدلالة فإنها متلازمة لأن من أعرض عن القرآن أعرض عن السنة أعرض عن الإسلام أعرض عن اتباع الرسول.
من أعرض عن السنة أعرض عن القرآن أعرض عن الإسلام... إلخ.
فإذاً الاختلاف هنا باعتبار المعنى باعتبار ما اشتمل عليه المسمى من أوصاف، فإذاً هذا لا يسمى اختلافاً بين مفسري السلف بل هو اتفاق لكن الاختلاف جاء في الدلالة على المعنى وهذا له أسباب كما ذكرت بعضها.
تفسير الصراط مر معنا أن الصراط فسر بأنه القرآن بأنه السنة والجماعة بأنه السنة بأنه الرسول صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم هذه التفاسير متلازمة بعضها لازم لبعض فإن الصراط الذي هو القرآن هو دال على السنة وهو الإسلام، هل سيهتدي إلى القرآن من لا يهتدي إلى السنة، هل سيهتدي إلى السنة من لا يهتدي إلى الإسلام؟ وهكذا.
فإذاً إذا رأيت اختلافاً للسلف في آية أو في كلمة من آية فانظر المسمى الذي يجمع هذا الاختلاف ثم انظر إلى المسمى من جهة صفاته من جهة معانيه المختلفة فتنظر إلى تفاسيرهم هل بينها تلازم؟ فإذا كان ثَمَّ تلازم بينها وأن الواحد يؤول إلى الآخر أو مرتبط بالآخر لا يقوم هذا إلا بهذا أو أنها صفات مختلفة كل واحد ينظر إلى جهة فإن هذا لا يسمى اختلافاً بل تقول فسرها بعضهم بكذا لا تقول اختلفوا اختلف المفسرون فيها إلا إن عنيت اختلاف التنوع بل تقوم فسرها بعضهم بكذا وفسرها بعضهم بالإسلام وفسر بعضهم الصراط بكذا ثم تقول بعد ذلك كما قال ابن كثير وابن جرير وجماعات العلماء بأن هذه الأقوال مؤداها واحد لأنـها تجمع ذلك.
مثلاً في قوله تعالى: {لنبؤنهم في الدنيا حسنة} في سورة النحل: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبؤنهم في الدنيا حسنة } هذه الحسنة ما هي؟
قال بعض المفسرين من السلف هي: المال، {لنبؤنهم في الدنيا حسنة} يعني لنعطينهم ولننـزلنهم في هذه الدنيا مالاً ونعطيهم مالاً جزيلاً، قال آخرون: هي الزوجات والجواري، قال آخرون: هي الإمارة حيث ينفذ أمرهم ونهيهم هذه كلها تفاسير نعم ظاهرها مختلف، لكن في الحقيقة يجمعها الحسن الذي يلائمهم، والحسنة فسرها العلماء بأنها ما يلائم الطبع ويسر النفس، وهم كانوا ظلموا من جهة أموالهم فإعادة الأموال والتوسع وتوسيع الأموال عليهم وكثرة الأرزاق عندهم هذا حسنة لا شك، والإمارة من ذلك والزوجات وكثرة الجواري لما حرموا منها في أول الإسلام من ذلك.
إذاً فهذه التفاسير ترجع إلى شيء واحد لا يعتبر هذا اختلافاً؛ لأن كل واحد ينظر إلى جهة.
المثال الذي ذكرته من الحسنة {لنبؤنهم في الدنيا حسنة} ويصدق على الصنف الثانـي الذي سيذكره شيخ الإسلام أكثر من دلالته على الأول لأنه من قبيل إطلاق بعض أفراد العام على العام لأن الحسنة تشمل أشياء كثيرة وتفسيرهم لها بأنها الزوجة أو المال أو الإمارة هي بعض أفرادها وهذا هو النوع الثانـي الذي سيذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ليس من النوع الأول، فإذاً النوع الأول من اختلاف التنوع أن يدل كل مفسر على المسمى الواحد ببعض صفاته، أو ببعض ما يتصل به القسم الثانـي سيأتـي).

القارئ: (الصنف الثاني أن يذكر كلٌ منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه، وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبـز فأري رغيفاً وقيل له: هذا فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.
مثال ذلك ما نقل في قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات، وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه.
والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع.
والناس في الأموال إما محسن وإما عادل، وإما ظالم.
فالسابق: المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات.
والظالم: آكل الربا، أو مانع الزكاة.
والمقتصد: الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل.
فكل قول: فيه ذكر نوع داخل في الآية، وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهٌ به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له: هذا هو الخبـز.
وقد يجئ كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصاً، كأسباب النـزول المذكور في التفسير، كقولهم: إن آية الظهار في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية اللعان في عويمر العجلاني).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا النوع الثانـي، أو الصنف الثانـي من اختلاف التنوع وذلك أن في القرآن كثيراً ما تستعمل الألفاظ العامة التي لها معانٍ كثيرة مثل ما ذكر من اسم المقتصد من اسم الظالم لنفسه، السابق بالخيرات.
مثل ما ذكرنا من لفظ الحسنة ويقابلها السيئة: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه}.
ولفظ السيئة كذلك وأشباه هذا في ألفاظ كثيرة تكون دلالات اللفظ متنوعة باعتبار أفراد يعني عام له أفراد كثيرة فيأتي المفسر من السلف من الصحابة فيذكر لفظاً منها يذكر لفظاً من أفراد تدخل تحت العام وهذا لا يعد خلافاً؛ لأنه ذكره كالتنبيه كما ذكر الآن شيخ الإسلام على أن هذا اللفظ يدخل فيه يعني اللفظ العام يدخل فيه هذا المعين وهذا المفرد باعتبار الحاجة إلى هذا التعيين بحسب حال السائل أو حال المستمع.
ومثاله: كما ذكرت قال: {فمنهم ظالم لنفسه}: الظالم لنفسه بأكل الربا هذا صحيح، الظالم لنفسه يدخل فيه آكل الربا، ولكن أكل الربا ليس مساوياً بالمطابقة للظلم للنفس، بل الظلم للنفس يكون بارتكاب أيٍّ من المنهيات أو بالتفريط في أيٍّ من الواجبات فإذا ذكر المفسر بعض أفراد الظلم إما بتفريط في بعض الواجبات أو لارتكاب بعض المنهيات وذكر غيره فرداً آخر من أفراد العام هذا فإن هذا لا يعد اختلافاً وإن سمي اختلافاً فهو من اختلاف التنوع وهذا كما ذكر من التعبير عن العام ببعض أفراده.
{ومنهم مقتصد}، المقتصد من هو؟
قال: هو الذي أدى الصلاة وترك الحرام، أداء الصلاة هذه بعض الواجبات، المقتصد هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات فإذا ذكرت بعض أفراد المقتصدين ذكرت أوصاف لبعض أفراد المقتصدين فإن هذا لا يعني تعييناً لتفسير اللفظ من حيث حقيقته بل ذكروا ما يتضمنه اللفظ باعتبار أنه فرد دخل تحت عام.
مثل أيضاً ما مثلت لكم بالحسنة، الحسنة عند العلماء هي ما يلائم الطبع ويسر النفس، النساء من ذلك يعني الزوجات والجواري من ذلك، والمال من ذلك، الإمارة والأمر والنهي من ذلك فلما قال الله – جل وعلا – فيهم: {لنبؤنهم في الدنيا حسنة} {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبؤنهم في الدنيا حسنة} فمن فسرها بأنها المال فسر الحسنة ببعض أفرادها ببعض ما يدخل فيه.
قال الآخر: هي المال هي الزوجات، قال الثالث: الإمارة، قال الرابع: أن يطاع والجاه ونحو ذلك فهذا لا يعد اختلافاً، بل كله داخل الاسم العام وهذا يفيد فائدة وهو أن السلف فسروا القرآن لأجل الهداية لا لأجل الألفاظ وهذا مما يحتاجه المفسر جداً أن يرى حاجة السائل فيفسر الآية باعتبار حاجته أو حاجة المستمعين فإن فسرها بذكر بعض أفرادها فإن هذا التفسير منه صحيح وليس بمخالف لتفاسير السلف فلا يرد اعتراض من يعترض يقول: إنك فسرت الحسنة مثلاً بأنها لمال لا هم فسروا الحسنة بأنها الجاه مثلاً أو الأمر والنهي نقول لا تعارض فإن المفسر قد يرى أن الحاجة أن ينص على بعض الأفراد.
إذاً فإذا كان اللفظ عاماً يدخل فيه كثير من الأفراد فإنه لا يصوغ تخصيصه، مثاله أيضاً في سورة النحل في قوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات} هنا الحفدة اختلف فيها المفسرون فمنهم من قال: الحفدة: هم أولاد الأولاد، الحفيد يعني ابن الابن.
قال آخرون: الحفدة: هم الأصهار يعني أزواج البنات.
وقال آخرون: الحفدة: هم العبيد والخدم.
وهذا لا يعتبر اختلافاً لأن إرجاع معنى اللفظ إلى أصله اللغوي يوضح لك أن هذه جميعاً من أفراد اللفظ وليست تخصيصاً له ذلك؛ لأن الحفد في اللغة هو المسارعة ومن أوصاف الخادم أنه يسارع في خدمة سيده وقد جاء في الحديث: ((إليك نسعى ونحفد)) يعني نسرع في طاعتك بالسعي وبما هو أسرع من السعي نحفد من جهة السرعة.
وسمي الخادم خادماً لأنه يسرع في إرضاء سيده.
كذلك ولد الولد باعتبار صغره وحداثة سنه ونحو ذلك وما لجده من الحقوق يسرع في إرضاء جده.
الأصهار أزواج البنات الأصل أنهم يرضون ويسرعون آباء أولادهم يعني من جهة البنات وهكذا.
فإذاً التفسير أن الحفدة يشمل هذا كله فمنهم من عبر عنه بأبناء البنين ومنهم من عبر عنه بالأصهار، ومنهم من عبر عنها بالخدم والعبيد وكل هذا صحيح لأن الحفدة جمع حافد وهو اسم فاعل الحفد والحفد المسارعة في الخدمة وهذا يصدق على هؤلاء جميعاً هذا من هذا القسم وهو أن يكون اللفظ عاماً فيفسر بأحد أفراده هذا لا يعتبر اختلافاً.
ولهذا ينظر المفسر أو تنظر وأنت تقرأ في التفسير إلى هذا بعناية الاختلافات تحاول أن تجمع بينها إما من الجهة الأولى المسمى والصفات وإما من هذه الجهة العام وأفراده.

الأسئــلة:
س: يقول اقترح قراءة مقدمة تفسير ابن كثير قبل قراءة التفسير؟
ج: مقدمة تفسير ابن كثير لخص فيها مقدمة شيخ الإسلام هذه فقراءتنا في هذه المقدمة لشيخ الإسلام تكفي عن قراءة مقدمة تفسير ابن كثير.

س: يقول هل هنا طبعة معينة – يعني لتفسير ابن كثير – أم هل هناك مختصر أو الأصل؟
ج: لا، تقرأ في الأصل لأنه أكثر فوائد، ففيه الحديث، والأسانيد، وفيه اللغة، وفيه علوم كثيرة. والطبعة التي هي أحسن فيما ظهر لي هي طبعة الشعب في ثمانية أجزاء، هذه أصح الطبعات فيما ظهر لي والله أعلم.

س: هذا سؤال طويل، يقول: هل هناك في القرآن مجاز وكيف ذلك؟
ج: الحال يحتاج تفصيله إلى محاضرة كاملة، لكن المختصر أن القرآن الصحيح أنه ليس فيه مجاز ومن ادعى المجاز في القرآن فهو على أحد قسمين:
1- إما أن يدعي المجاز في آيات الصفات، والآيات التي فيها ذكر للغيب هذه بدعة وضلال وغلط أيضاً في دعوى المجاز؛ لأن المجاز عند من عرفه:
(هو نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لمناسبة بينهما)، وفي هذا التعريف اشتراط أن يكون الوضع الأول معلوماً، والأمور الغيبية مثل الصفات وما يحدث يوم القيامة، أو اليوم الآخر والأشياء التي لم تر ولم تعرف وذكرها الله – جل وعلا – في كتابه لا يعلم وضعها الأول فنقلها إلى وضع ثانٍ غلط من جهة تطبيق المجاز كما قاله جمع من المحققين ممن ادعوا المجاز أو ممن بحثوا المجاز.
2- أما إن ادعى المجاز في غير آيات الصفات مثل الألفاظ في سياق الكلام في بعض الآيات فإن هذا غلط وخلاف الصواب، والمحققون حققوا أنه ليس في القرآن مجاز؛ لأن أصل المجاز وقاعدته أنه يصح نفيه، إذا قال القائل: رأيت أسداً لقائل أن يقول ليس بأسد، رأيت أسداً فكلمني، كل مجاز معياره صحة نفيه عند القائلين به، فإذا قال القائل: رأيت أسداً فكلمني لمن كلمه أو سمع منه أو هو ليس بأسد يعني يصح النفي والقرآن لا يجوز أن ينفى كلمة منه، فإذا قال تعالى: {جداراً يريد أن ينقض} القائلون بأن فيها مجازاً على قاعدتهم يجوز أن يقال: لا يريد أن ينقض.
في قـوله تعالى: {وأسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} من ادعى المجاز يقال له: هو يعترف أنه يصح أن يقال: (وأسأل القرية) ليست بقرية و (العير) ليست بعير هذا نفي للقرآن وهذا ممتنع وهذا من أقوى الأدلة التي أقامها من يبطل المجاز في غير آيات الصفات وأخبار الغيب لكن هو خلاف أدبي إذا ادعى في غير الآيات نقول خلاف الصواب لكن ليس ببدعة لكثرة القائلين به من العلماء.

[سؤال غير واضح من أحد الطلاب]؟
المجاز فيه بحوث مطولة جداً، لكن من أحسنها وأخصرها كتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله- في المجاز سماه: (منع جواز المجاز في المنـزل للتعبد والإعجاز).

س: هذا يسأل عن آية ما معناها إذا لم يكن في القرآن مجاز؟
ج: هذا بحث يطول يعني القرآن كله حقيقة، الحقيقة قد تكون على جهة الإفراد تفهم من جهة أفراد الكلام، وقد تكون تفهم من جهة تركيب الكلام مثل الظاهر، الظاهر قد يفهم من كلمة وقد تفهمه من التركيب.
فقول الله – جل وعلا -: {واْسأل القرية} هذا يفهم من الظاهر ليس من اللفظ (واسأل القرية) ظاهرها معلوم أن السؤال يقع على من في القرية هذا ظاهر اللفظ، واللغة العربية كحقيقة نأخذ بظاهر ألفاظها ومن ادعى المجاز حصر الحقيقة في الألفاظ ولم يذكر الحقيقة في التركيب، وحصر الظاهر في اللفظ ولم يذكر الظاهر في التركيب وهذا باطل؛ لأن الحقيقة قد تكون في التركيب والظاهر الذي هو يقابل التأويل هذا قد يكون أيضاً في التركيب {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} هذا واضح أن المراد به ليس رؤية الله – جل وعلا – لأنه قال: {كيف مد الظل} فهذا يفهم من ظاهر التركيب.
كذلك في قوله تعالى في سورة النحل: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} ما يؤخذ من هذه الآية صفة الإتيان لأنه ليس المراد هنا إتيان الله – جل وعلا – بذاته لأنه قال: {فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف} فظاهر الكلام الحقيقة التركيبية مفهومة تفهم أن المراد بعذابه أو بقدرته ونحو ذلك وهذا لا يعد تأويلاً ولا يعد قولاً بالمجاز.

س: ما رأيك أن تكون القراءة في مختصر الرفاعي لابن كثير؟
ج: ليس بمناسب.

س: يقول تقصد باختلاف التنوع أن كل مفسر نظر من زاوية فيفسره حسب المقام وحسب سؤال السائل فلا يسمى بذلك اختلافاً بل أقوالاً؟
ج: هذا جهة أن المسمى الواحد قد تكون له صفات كثيرة مثل ما ذكرنا السيف: صارم، ومهند، وبتار.
الأسد: أسامه، له عدة أسماء هذا كله باعتبار الصفات، أما والذات واحدة. أسماء الله – جل وعلا – الحسنى. أسماء النبي عليه الصلاة والسلام الحاشر والعاقب والماحي وأحمد ومحمد كلها دلالة على ذات واحدة وهو رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم لكن باعتبار الصفات تختلف إذا نظرت إلى كثرة صفاته المحمودة فهو محمد، إذا نظرت باعتبار تجدد صفاته المحمودة فهو أحمد، إذا نظرت إلى أنه عاقب للأنبياء فهو العاقب، إذا نظرت أن الأنبياء يحشرون على عقبه فهو الحاشر، وهكذا هذا باعتبار الصفات.
قد يكون أيضاً مثلما ذكر الصنف الثاني الأفراد مع العام، ونقف عند هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد).

القارئ: (الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى وأتم التسليم... أما بـعـد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -:
(وقد يجئ كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصاً، كأسباب النـزول المذكور في التفسير، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت.
وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلانـي أو هلال بن أمية.
وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله.
وإن قـوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله } نزلت في بني قريظة والنضير وأن قوله: {ومن يولهم يومئذ دبره} نزلت في بدر.
وإن قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} نزلت في قضية تميم الدراري وعدي بن بداء.
وقول أبـي أيوب: إن قوله: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة} نزلت فينا معشر الأنصار. الحديث.
ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب، اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين.
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قوله هنا في أول الكلام أنه قد يجئ السبب الواحد للآية مختلفاً، وقد يجئ ذكر السبب واحداً فإذا جاء السبب واحداً مثل قولهم في آية الظهار نزلت في أوس بن الصامت، ونحو ذلك فهذا لا يعني أن عموم اللفظ يخص بهذا السبب بل إن العموم له أفراد ومن أفراده هذه الحادثة التي حدثت، وهذا يدل له دلالة واضحة ما جاء في الصحيح أن رجلاً قبّل امرأة في الطريق وجاء للنبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وقال: إني لقيت امرأة في الطريق أو قال في أحد البساتين أو في أحد الحوائط ولا شيء يأتيه الرجل من امرأته إلا فعلته إلا النكاح؛ يعني إلا الوطء فسكت النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ثم أنزل الله – جل وعلا – قوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} والحسنات مثل الصلاة تذهب السيئات فأخذها، فقال الرجل: يا رسول الله ألي وحدي؟ قال: ((لا، بل لأمتي جميعاً)) وهذا يعني أن خصوص السبب لا يخص به عموم اللفظ.
{أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} هل هو لخصوص هذا الرجل؟
لا، قال النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: ((بل لأمتـي جميعاً)) فاستدل العلماء بهذا الحديث الذي في الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إذاً ما ذكرناه هنا أن أحد قسمي اختلاف التنوع أنه يرد لفظ عام يفسره الصحابة، يفسره السلف بأحد أفراده.
ذكر لك أمثلة ثم ذكر هنا أمثلة أسباب النـزول فأسباب النـزول من ذلك يكون اللفظ عام كل واحد يقول نزلت في كذا.
أحياناً يقول بعضهم نزلت في كذا وفي كذا وفي كذا وهذه كلها أفراد نعم إن العلم بالسبب يورث العلم بمعنى الآية لأنها هي التي تسبب عنها أو التي أنزلت لأجل هذا السبب.
تارة بكون الآية يقولون: نزلت في كذا ونزلت في كذا ولا يعنون أنه سبب النـزول ولكن يعنون أنه يصلح للآية.
مثلاً في سورة: {ويل للمطففين} هل هي مكية أم مدنية؟ قالوا نزلت في مكة ثم قال بعضهم نزلت في المدينة.
مثل سورة الفاتحة قالوا نزلت في المدينة.
مثل المعوذتين (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) قالوا نزلت في كذا لما سحر النبي عليه الصلاة والسلام ونزلت بعد ذلك ونحو ذلك من هذه الأنواع هذا عند الصحابة وعند السلف يعنون به أنها تصلح لهذا المعنى يعني نزلت في كذا تلاها النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم عليهم سورة المطففين لما ذهب إلى المدينة فتكون نزلت في كذا لأنهم خوطبوا بها فإذاً قولهم نزلت في كذا هذا الخلاصة نزلت في كذا لا يعني أولاً تخصيص المعنى بالسبب هذا واحد لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثانـي: أنه قد تذكر أكثر من حادثة نزلت في كذا أو في كذا وهذه كلها أفراد للعام لا يعني تخصيصها أو إلغاء معنى الآية لأجل الاختلاف في سبب النـزول.
الفائدة الثالثة: أنهم قد لا يقولون نزلت في كذا ولا يعنون سبب نزولها أول مرة ولكن يعنون أن الآية صالحة لتناول هذا الذي حصل حيث تلا النبي عليه الصلاة والسلام عليهم تلك الآيات.
السبب الثانـي: يختلفون بعضهم يقول نزلت في كذا وبعضهم يقول نزلت في كذا وبعضهم يقول نزلت في كذا يعني الاختلاف في هذا السبب كذا وكذا لا يلغي دلالة الآية يعني لا يكون أن الآية لا تدل على ما عمها لفظها لأجل أنهم اختلفوا في سبب النـزول فأسباب النـزول أفراد للعموم مثل ما تقول العموم: القوم فيدخل فيها فلان وفلان وفلان، إذا قلنا فلان وفلان وفلان اختلفنا تقول دخل الرجال قلت أنت محمد وصالح وأحمد قال الثاني: لا خالد وأحمد وعبد العزيز قال الثالث: لا عبد الله ومحمد وخالد اختلفوا في من هم الرجال هل الاختلاف في هذا تحديد المعنى هل يعني اختلاف الدخول لا هم دخلوا لكن التحديد هذا هو الاختلاف فيه.
حصلت الواقعة لِمَ؟ والله قال بعضهم السبب كذا وكذا وكذا، وقال آخرون لا السبب هذه الواقعة كذا وكذا وكذا فالاختلاف في السبب لا يعني أنها لم تحصل أو أن المعنى الذي فيها ليس بمؤخذ به، لا.
فإذاً اختلافهم في أسباب النـزول هو من قبيل ذكر أفراد العام لا من قبيل التخصيص ويريد شيخ الإسلام أن يذكره هذه القاعدة لأنه ذكرها بعد ذكر العام وأفراده).

هيئة الإشراف

#5

19 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار


قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه: (فَصْلٌ في خلافِ السَّلفِ في التفسيرِ، وأنه خلافُ تنوُّعٍ , وَالْخِِلاَفُ بَيْنَ السَّلفِ في التَّفسيرِ قَلِيلٌ، وَخِلافُهُم في الأحْكَامِ أَكْثَرُ منْ خِلافِهِمْ في التَّفسيرِ، وغَالبُ ما يَصِِحُّ عَنْهُمْ من الخِلافِ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ تَنَوُّعٍ , لا اختلافِ تضادٍّ)
في هذه العبارةِ الموجَزةِ يَنُصُّ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ على أنواعِ الاختلافِ الواردِ عن السَّلفِ وهو نوعان: اختلافُ تنوُّعٍ واختلافُ تضادٍّ، ولم يُبَيِّن المؤلِّفُ المرادَ باختلافِ التنوُّعِ واختلافِ التضادِّ في هذا الكتابِ، ولكنه أشار إليه في كتابِ اقتضاءِ الصراطِ المستقيمِ.
واختلافُ التنوُّعِ هو ما يمكنُ اجتماعُه في المفسَّرِ بلا تعارُضٍ ولا تضادٍّ، إما لرجوعِ الأقوالِ على معنًى واحدٍ، وإما لتنوُّعِ الأقوالِ وتعدُّدِها من غيرِ مُعارِضٍ؛ أي: أن اختلافَ التنوُّعِ ينقسمُ إلى قسمين:
قِسمٌ يعودُ إلى معنًى واحـدٍ.
قسمٌ يعودُ إلى أكثرَ مِن معنًى، ولكن هذه المعانيَ غيرُ متناقِضةٍ ولا متضادَّةٍ، فإذا كانت غيرَ متناقِضةٍ فإنَّ الآيةَ تُحملُ على هذه الأقوالِ التي قالها السَّلفُ.
أما اختلافُ التضادِّ فهو الذي يَلزمُ من القولِ بأحدِ القولَيْن انتفاءُ الآخَرِ، وهو كما ذَكرَ المصنِّفُ قليلٌ.
ومثالُه قولُه تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} فالضَّميرُ في (نَاداها) يعودُ على مَن؟ قال بعضُ المفسِّرين: ناداها عيسى. وبعضُهم قال: ناداها جبريلُ. فهذا الاختلافُ يَرجعُ إلى أكثرَ مِن معنًى؛ لأنَّ المنادِيَ واحدٌ (الضميرُ ضميرُ المُفرَدِ)،فهو إما أن يكونَ عيسى وإما أن يكونَ جبريلَ، ولا يمكنُ أن يكونَ المنادِي هو جبريلُ وعيسى معًا، فهذا يُعتبرُ اختلافَ تضادٍّ؛ لأنه لا يمكنُ أن تحتملَ الآيةُ المعنَيَيْن معًا. وستأتي - إنْ شاءَ اللَّهُ - تطبيقاتٌ عليه.
قولُه: (وَذَلِكَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمْ عَنِ المُرَادِ بعبارَةٍ غَيرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ، تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى في المُسَمَّى غَيرِ الْمَعنَى الآخَرِ، مَعَ اتِّحادِ الْمُسَمَّى، بِمنْزِلَةِ الأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ، كَمَا قِيلَ في اسْمِ السَّيفِ: الصَّارمُ والْمُهَنَّدُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى، وَأَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وَأَسْمَاءِ القُرْآنِ؛ فَإنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى واحِدٍ.
فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعائِهِ بِاسْمٍ آخَرَ، بَلْ إِنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ تعالَى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ} [سُورَة الإِسْرَاءِ: 110]،
وَكُلُّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ المُسَمَّاةِ وعلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الاسْمُ؛ كَالْعَليمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والعِلْمِ، وَالقَدِيرِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ والقُدْرَةِ، والرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والرَّحمةِ.
ومَنْ أَنكَرَ دِلاَلَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهرَ فَقَولُهُ منْ جِِنْسِ قَوْلِ غُلاةِ البَاطِنِيَّةِ القَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا يُقالُ هُوَ حَيٌّ وَلا لَيْسَ بحَيٍّ، بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقيضَيْنِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ القَرَامِطَةَ البَاطنيَّةَ لا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عَلَمٌ مَحْضٌ كَالمُضْمَراتِ، وَإنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا في أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى منْ صِفَاتِ الإثْبَاتِ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كانَ – مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ – مُوَافقًا لِغُلاَةِ الباَطنيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلكَ.

وَإنـَّما المقصودُ أنَّ كُلَّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ، وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ منْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.

وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ: مُحَمَّدٍ، وَأَحمَدَ، والمَاحِي، وَالْحَاشِرِ، وَالعَاقِبِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ القرآنِ مِثْلُ: القُرْآنِ، وَالفُرْقاَنِ، وَالهُدَى، وَالشِّفَاءِ، والبَيَانِ، وَالكِتَابِ، وأمْثَالِ ذلِكَ.
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ المُسمَّى عبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسمَّى هَذَا الاسْمِ، وقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَمًا، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً، كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قولِهِ:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} [سُورَةُ طه: 124] مـَا ذِكْرُهُ؟ فيُقَالُ لَه: هـُوَ القُرْآنُ. مَثَلاً، أَوْ مَا أَنْزَلَهُ من الكُتُبِ، فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ، والمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ، وَتَارَةً إِلَى الْمَفعُولِ، فَإِذَا قِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ؛ مِثْلُ قوْلِ العَبْدِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، والحمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أكْبَرُ. وإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الأَوَّلِ، كَانَ: مَا يذكُرُهُ هُوَ، وهُوَ كلامُهُ، وهَذَا هُوَ المُرادُ في قولِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}؛ لأنَّهُ قَالَ قبلَ ذلِكَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} سُورَة طَه: 123 ، وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ من الذِّكرِ. وَقَالَ بَعْدَ ذلِكَ: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}. [سُورَةُ طَه: 125 - 126] وَالمقصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلامُهُ الْمُنَزَّلُ، أَوْ هُوَ ذِكْرُ العَبْدِ لَهُ، فَسَوَاءٌ قِيلَ: ذِكْرِِي كِتَابِي، أَوْ: كَلاَمِي، أَوْ: هُدَايَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى واحِدٌ).
السائلُ الآنَ يريدُ أن يعرِفَ ما هو الذِّكرُ المرادُ في قولِه تعالى: {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}؟ والذِّكْرُ هنا يحتملُ أن يكونَ يُرادُ به ما يَذكُرُ به العبدُ ربَّه , وهو قولُه: سبحانَ اللَّهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا اللَّهُ. فهذه تسمَّى أذكارًا، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ بالذِّكرِ هنا هو القرآنَ، ويعبِّرُ عن القرآنِ بالذِّكرِ أو بالكلامِ أو بالهُدى، فيكونُ المعنى {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي: كلامي، أو هُدايَ، أو كتابي؛ لأنَّ هذه الألفاظَ وإن كانتْ معانيها مختلفةً فإنها تدلُّ على شيءٍ واحدٍ وهو القرآنُ.
فيقالُ للسائلِ هنا: {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} هو القرآنُ؛ لأنَّ مرادَه هو السؤالُ عن المقصودِ بالذِّكرِ، وليس السؤالَ عن معناهُ اللغويِّ.
قولُه: (وَإِنْ كَانَ مَقصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا في الاسْمِ من الصِّفَةِ المختصَّةِ بِهِ، فَلا بُدَّ منْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى؛ مِثلُ أَنْ يَسْأَلَ عَن: {الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ اللَّهُ، لَكِنَّ مُرَادَهُ: مَا مَعْنَى كَونِهِ قدُّوسًا سَلامًا مُؤمنًا؟ وَنَحْوَ ذلِكَ).
هذا هو الاحتمالُ الثاني: أن يكونَ السائلُ يعرفُ أنَّ المرادَ بـ (ذِكري) هو كتابُ اللَّهِ، لكنَّه يريدُ أن يعرفَ معنى لفظِ (ذكري) ما معناها؟
ومثلُه ما ذَكرهُ في المثالِ الآخَرِ (القُدُّوس) فالسائلُ يعرفُ أنَّ القدوسَ هو اللَّهُ , لكنه يريدُ أن يعرفَ ما معنى هذه الكلمةِ؟ فهو يسألُ عن الوصفِ الزائدِ عن المسمَّى الذي هو الصِّفةُ في القُدُّوسِ.
أيضًا (السلامُ) ما معنى السلامِ؟
فالنظَرُ هنا إلى مقصودِ السائلِ، فأحيانًا يكونُ مقصودُ السائلِ معرفةَ المسمَّى دونَ النظَرِ إلى معنى العبارةِ، وأحيانًا يكونُ السائِلُ يَعرفُ المسمَّى , لكنه يريدُ أن يعرفَ المعنى الذي في العبارةِ.
قولُه: (إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَن المُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ علَى عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا من الصِّفَةِ مَا لَيْسَ في الاسْمِ الآخرِ، كَمَنْ يقُولُ: أحمدُ هُوَ الحاشرُ، وَالْمَاحِي، وَالعَاقِبُ. والقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ؛ أيْ: أَنَّ المُسَمَّى واحِدٌ , لا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هيَ هَذِهِ الصِّفَةُ)
هذه فائدةٌ مُهِمَّةٌ في التفسيرِ وفي غيرِه، وهي أن نعرفَ أن السَّلفَ كثيرًا مـا يُعبِّرُون عن المسمَّى بعبارةٍ تُنَزَّلُ على عَينِه، ولا يعني هذا أنها مطابِقةٌ له في المعنى، لكنها تدلُّ على عَينِ المسمَّى.
فعندَما أقولُ: أحمدُ هو الحاشِرُ، ليس المرادُ أنَّ معنى أحمدَ هو معنى الحاشِرِ،وإنما المرادُ أنَّ أحمدَ هو الحاشِرُ , وهو الماحِي , وهو كذا. وستأتِينا في التفسيرِ أمثِلةٌ لهذا , إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
قولُه: (وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بعْضُ النَّاسِ، مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ القُرْآنُ؛ أَي اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ منْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: ((هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ )). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الإسْلامُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ، وغيرُهُ: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، وَ فِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو منْ فَوْقِ الصِّراطِ، ودَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ )). قَالَ: ((فَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الإسْلامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالأبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي علَى رَأْسِ الصِّراطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّراطِ وَاعِظُ اللَّهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمنٍ )) .
فَهَذَانِ القَوْلانِ مُتَّفِقَانِ؛ لأنَّ دِينَ الإسْلامِ هُوَ اتِّباعُ القُرْآنِ، ولكنْ كُلٌّ منْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيرِ الوَصْفِ الآخرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الصِّراطِ يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالثٍ، وَكَذلِكَ قَوْلُ مَنْ قالَ: هُوَ السُّنَّةُ وَالجَمَاعَةُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَريقُ العبوديَّةِ، وَقوْلُ مَنْ قَالَ: هُو طاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وأمثالُ ذلِكَ .
فَهَؤُلاَءِ كلُّهُمْ أَشَارُوا إِلىَ ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ منْهُمْ بِصِفَةٍ منْ صِفَاتِهَا).
المثالُ الذي طرَحَه هنا هو تفسيرُ السَّلَفِ لقولِه تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فذَكرَ جملةً من الأقوالِ، فبعضُهم قال: إنَّ الصراطَ هو القرآنُ. ومنهم مَن قال: إنَّ الصراطَ هو الإسلامُ. ومنهم مَن قال: هو السُّنَّةُ والجماعةُ. ومنهم مَن قال: هو طريقُ العبوديةِ. ومنهم مَن قالَ: هي طاعةُ اللَّهِ ورسولِه.
فهذه العباراتُ إذا نظرْتَ إليها وجدْتَها مختلفةً من جهةِ الألفاظِ، لكنَّها متَّفِقةٌ من جهةِ دلالَتِها على شيءٍ واحدٍ، وبينَها تلازُمٌ؛ لأنَّ السُّنةَ والجماعةَ هي طريقُ العبوديةِ، ولا يمكنُ أن تُسلَكَ بغيرِ القرآنِ , والقرآنُ مستلزِمٌ للإسلامِ، وكذلك طاعةُ اللَّهِ ورسولِه. فهذه الأقوالُ بينَها تلازُمٌ , وهي تعودُ إلى ذاتٍ واحدةٍ , كما ذَكرَ المصنِّفُ رحمهُ اللَّهُ.
فإذا عُبِّرَ عن الصراطِ بأنه القرآنُ أو بأنه الإسلامُ، أو بأنه اتِّباعُ طريقِ أبي بكرٍ وعمرَ مَثَلًا، فهذا كلُّه صحيحٌ؛ لأنَّه يرجِعُ إلى ذاتٍ واحدةٍ , وهي الصراطُ المستقيمُ.
وهنا فائدةٌ يَحسُنُ التنبيهُ إليها وقد أشرتُ إليها في الدرسِ السابقِ تتعلَّقُ ببيانِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ للقرآنِ، وهي أنه يُوجدُ في كلامِ شيخِ الإسلامِ المتقدِّمِ ما يدلُّ على أنَّ الصراطَ المستقيمَ هو القرآنُ أو الإسلامُ، وذلك في حديثِ علِيٍّ المتقدِّمِ – وإن كان في سنَدِه مقالٌ – قال: ((هو حَبلُ اللَّهِ المتينُ والذِّكرُ الحكيمُ وهو الصراطُ المستقيمُ)) وفي الحديثِ الآخَرِ قال: ((فالصراطُ المستقيمُ هو الإسلامُ ))، والرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وإن كان لم يَذكُرْ هذين الحديثَيْن في مقامِ التفسيرِ إلا أنَّ بينَهما وبينَ المعنى المذكورِ في الآيةِ توافُقًا من جهةِ المعنى، ومادام الأمرُ كذلك فيُمكنُ أن يقالَ: إنَّ الصراطَ المستقيمَ الذي في الآيةِ هو الصراطُ الذي ذَكرَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في الحديثِ؛ لأنَّ السُّنةَ تُفسِّرُ القرآنَ، ولكنَّ الذي رَبَطَ بينَ المَعنَيَيْنِ هو المفسَّرُ، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألةِ فيما بعدُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى.

الدرسُ السادسُ
قولُه: (الصِّنفُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ منْهُمْ مِن الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمثيلِ، وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوعِ، لاَ علَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، مِثلُ سَائلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ " الخُبْزِ " فَأُرِيَ رَغِيفًا، وَقِيلَ: هَذَا. فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا، لاَ إِلَى هَذَا الرَّغيفِ وحدَهُ)
يُفهَمُ من هذا أنَّ هناك لفظًا عامًّا يحتاجُ إلى تفسيرٍ. وهناك أقوالٌ للمفسِّرينَ جاءتْ على سبيلِ التمثيلِ، فإذا نظرْنَا إلى هذه الأقوالِ فإنَّا نَحمِلُها على التمثيلِ , لا على التخصيصِ.
إذًا هذه قاعدةٌ مهِمَّةٌ وهي أنَّ الأصلَ في تفسيرِ السَّلفِ للعمومِ أنه على التمثيلِ , لا على التخصيصِ، وسيأتي من خلالِ الأمثلةِ ما يبيِّنُ ذلك.
ثم إنَّ المصنِّفَ ذَكرَ هنا قضيةَ الحدِّ المطابِقِ , وذلك للردِّ على المَناطِقَةِ، وذلك أنَّ التحديدَ الدقيقَ للمصطلحاتِ الشرعيةِ ليس دائمًا صحيحًا، ومِن ثَمَّ لا يُستفادُ من هذا الحدِّ المطابِقِ في العلمِ بحقيقةِ الشيءِ ومعرفَتِه.
فلو قال قائلٌ مثلًا: عرِّفِ الصلاةَ. فقلتَ له: هي أقوالٌ وأفعالٌ مخصوصةٌ مُبْتَدَأَةٌ بالتكبيرِ , ومُخْتَتَمةٌ بالتسليمِ. فمِثلُ هذا التعريفِ هل يَحتاجُ إليه المسلمُ لمعرفةِ معنى الصلاةِ؟
وكذلك تعريفاتُ العلومِ مِثلِ علمِ الفقهِ، وعلمِ الأصولِ، وعلمِ التجويدِ، وغيرِ ذلك، ولهذا إذا أردتَ مثلًا أن تُعرِّفَ عِلمَ أصولِ الفقهِ تعريفًا جامعًا مانعًا فإنَّ هذا لا يُمكنُ؛ لأنَّ طلبَ الحدِّ المطابِقِ فيه نوعٌ من التعجيزِ، ولذلك فإنه يُكتفَى في التعريفِ بالوصفِ الذي يوضِّحُ مدلولَ العِلمِ، ولا يلزمُ ذِكرُ الحدِّ المطابِقِ تمامًا؛ لأنَّ المرادَ هو إفهامُ السامعِ، وذلك يتحقَّقُ بدونِ ذكرِ التحديدِ الدقيقِ لبعضِ المصطلحاتِ العلميَّةِ أو الشرعيةِ. وهذه فائدةٌ علميةٌ نبَّه عليها شيخُ الإسلامِ في الردِّ على المنطِقِيِّين.
ولهذا من الأشياءِ التي اطَّلعْتُ عليها في هذا المجالِ أنَّ أحدَ الذين كتَبُوا في علومِ القرآنِ أراد أن يُعرِّفَ علومَ القرآنِ، فاعترضَ على مؤلِّفٍ سابقٍ في تعريفِه لعلومِ القرآنِ بأنَّ تعريفَه غيرُ جامعٍ ولا مانِعٍ، ولمَّا ذَكرَ هو التعريفَ المختارَ عندَه لم يَستطِعْ أن يأتيَ بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ؛ لأنه لا يمكنُ لإنسانٍ أن يأتيَ بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ لعلومِ القرآنِ، ومِن ثَمَّ يُكتفَى بالإشارةِ إلى أمثلةٍ لهذا العِلمِ، فيقالُ: إنه العِلمُ الذي يبحثُ في مكِّيِّ السُّوَرِ ومَدَنِيِّها وناسِخِها ومنسوخِها ومُطلَقِها ومُقيَّدِها وأسبابِ نزولِها...إلخ. فهذا كافٍ في تصوُّرِ السائلِ لما يَدورُ عليه هذا العِلمُ، وإذا فَهِمَ هذا فإنه يُريحُ نفسَه كثيرًا من بعضِ التحديداتِ الدقيقةِ المتكلَّفةِ والمعقَّدةِ التي توجدُ في تعريفاتِ بعضِ العلومِ.
قولُه: (مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ في قولِهِ : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا منْ عِبَادِنَا فَمنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32 ]
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ، والمنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُقْتَصِِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالسَّابقُ يَدْخُلُ فِيهِ منْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ، فَالْمُقْتَصِِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، وَالسَّابقُونَ أُولَئِِكَ الْمُقرَّبُونَ.
ثُمَّ إِنَّ كُلاًّ منْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا في نَوْعٍ منْ أَنْواعِ الطَّاعاتِ، كقَوْلِ القائِلِ: السَّابقُ الَّذِي يُصَلِّي في أَوَّلِ الوَقْتِ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ، أَوْ يقُولُ: السَّابقُ وَالْمُقْتَصِدُ قَدْ ذكرَهُمْ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، فَإنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ، وَالظَّالمَ بِأَكْلِِ الرِّبَا، وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ. وَالنَّاسُ في الأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ، وإمَّا عادِلٌ، وإمَّا ظالمٌ. فَالسَّابقُ المحسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الوَاجِبَاتِ، وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا، أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الرِّبَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ.
فَكُلُّ قَولٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ في الآيَةِ، إنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِِعِ بِتَنَاوُلِ الآيةِ لَهُ، وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ منْ التَّعريفِ بِالْحَدِّ الْمُطَابِِقِ. وَالعَقْلُ السَّليمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوعِ، كمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ لهُ إلى رَغِيفٍ، فَقِيلَ له:ُ هَذَا هُوَ الْخُبْزُ.)
مثالُ اختلافِ التنوُّعِ الراجعِ إلى التفسيرِ بالمثالِ قولُه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيراتِ} ذَكرَ بعضُهم أنَّ السَّابِقَ هو الذي يُصلِّي في أوَّلِ الوقتِ، والمقتصِدَ الذي يُصلِّي في أثنائِه، والظالِمَ لنَفسِه هو الذي يؤخِّرُ العصرَ إلى الاصفرارِ. فمَن فسَّرَ هذه الآيةَ بهذا التفسيرِ اقتصر على نوعٍ من أنواعِ الطاعاتِ , وهو الصلاةُ المفروضةُ , وأداؤُها في الوقتِ المحدَّدِ، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ غيرَ ما ذُكِرَ لا يَدخُلُ في مفهومِ الآيةِ؛ لأنَّ هذا من بابِ التفسيرِ بالمثالِ.
ومنهم مَن قالَ: السابِقُ هو المُحسِنُ بأداءِ المستحبَّاتِ مع الواجباتِ؛ أي: أنه يؤدِّي الزكاةَ ويُنفِقُ إنفاقًا زائدًا على الزكاةِ. والظالِمُ لنَفْسِه آكِلُ الرِّبا أو مانعُ الزكاةِ , والمقتصدُ الذي يؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ ولا يأكُلُ الرِّبا، ولا يُنفقُ أكثرَ من الزكاةِ , فهذا التفسيرُ أيضًا للآيةِ إنما هو بنوعٍ آخَرَ من أنواعِ الطَّاعاتِ , وهو الزكاةُ، ولا يعني هذا عدمَ دخولِ غيرِها من الطاعاتِ في مفهومِ الآيةِ؛ لأنَّ هذا من بابِ التفسيرِ بالمثالِ، فيمكنُ أنْ تُرتِّبَه على أيِّ نوعٍ آخَرَ من أنواعِ الطاعاتِ كَبـِرِّ الوالدَين وتلاوةِ القرآنِ وغيرِ ذلك.
وأضْرِبُ لذلك مثالًا آخَرَ , وهو قولُه تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال بعضُ السَّلفِ: النعيمُ الأكلُ والشُّربُ، وقال بعضُهم: النعيمُ الصِّحةُ والأمنُ، وقال بعضُهم: النعيمُ هو الماءُ الباردُ في الليلةِ الصائفةِ والماءُ الحارُّ في الليلةِ الشاتِيَةِ. فما ذُكِرَ في هذه الأقوالِ ليس هو كلَّ النعيمِ، وإنما هو أمثلةٌ للنعيمِ، ولذلك فإنَّ عباراتِ السَّلَفِ في مِثلِ هذا تُحملُ على المثالِ , لا على التخصيصِ، فما ذُكرَ لا يَدخُلُ في النَّعيمِ ويدخلُ معه غيرُه مما لم يُذكَرْ؛ لأنَّ النعيمَ هو كلُّ ما يَتنَعَّمُ به الإنسانُ، ويدلُّ لذلك ما وَردَ في الحديثِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قال لأبي بكرٍ وعُمرَ لمَّا أكلوا من طعامِ الأنصارِيِّ: ؟؟؟؟؟ (({وَلَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ})). فأرادَ أن يُنبِّهَهم إلى أنَّ هذا الأكلَ من النعيمِ الذي يُسأَلون عنه.
وقد نبَّهَ المصنِّفُ هنا إلى ما ذُكِرَ سابِقًا مِن أنَّ التعريفَ بالمثالِ قد يُسهِّلُ أكثرَ من التعريفِ بالحدِّ المطابِقِ، والعقلُ السليمُ يتفطَّنُ للنوعِ كما يَتفطَّنُ إذا أُشيرَ إلى الرغيفِ , وقيل: هذا هو الخُبزُ.
وينبغي التَّنبيهُ إلى أنه إذا فَسَّرَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ الآيةَ بتفسيرٍ، وكانتْ عبارةُ القرآنِ أعمَّ وأشملَ من تفسيرِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فإذا كانت عبارةُ القرآنِ تحتملُ غيرَ ما قالَه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فإنه يجوزُ أن تُفسَّرَ به، ولكن لا يُرَدُّ قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ.
ومثالُ ذلك قولُه تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. فَسَّرَها صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بقولِه: ((ألا إنَّ القوَّةَ الرَّمْيُ, ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ)) فقولُه تعالى: {مِنْ قُوَّةٍ} نكرةٌ دالَّةٌ على العمومِ؛ لأنَّها مؤكَّدةٌ بـ " مِن " فهي تشملُ أيَّ قوةٍ سواءٌ كانت رميًا أو غيرَه. ولكنه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لمَّا فسَّرَها بالرميِ أرادَ أن يُمثِّلَ لأعلى قوَّةٍ تُؤثِّرُ في العدُوِّ، ومن الملاحَظِ أنَّ الحروبَ كلَّها من بدءِ الخلقِ إلى اليومِ تقومُ على الرَّمْيِ، فربما كانت السِّهامَ والمَنْجَنِيقَ واليومَ الطائراتِ والصواريخَ، وهذا التفسيرُ منه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لا يعني أنَّ غيرَ الرميِ من أنواعِ القوَّةِ لا يدخُلُ في مفهومِ الآيةِ، ولهذا فسَّرَ السَّلفُ القوةَ بذكورِ الخيلِ، وفسَّرَها بعضُهم بالسيوفِ والرماحِ , إلى غيرِ ذلك من التفسيراتِ، لكن ينبغي أن يكونَ ذِكرُ مثلِ هذه التفسيراتِ في حدودٍ ضيقةٍ؛ لأنَّ تفسيرَه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لا يُقارَنُ بتفسيرِ غيرِه.
هذا مُلخَّصٌ لما تناولَه شيخُ الإسلامِ في هذا الفصلِ , وهو (فصلٌ في خلافِ السَّلفِ في التفسيرِ)
فقدْ جعل الاختلافَ بينَ السَّلفِ على نوعَيْن: اختلافُ التنوُّعِ واختلافُ التضادِّ، واختلافُ التضادِّ هو أن يَرِدَ قولان لا يمكنُ اجتماعُهما في المفسَّرِ، فإذا قيلَ بأحدِهما انتفَى الآخَرُ.
واختلافُ التنوُّعِ هو أن يَرِدَ قولان يمكنُ اجتماعُهما في المفسَّرِ، وهو على نوعَين: ما يكونُ الخلافُ فيه راجعًا إلى معنًى واحدٍ، وما يكونُ الخلافُ فيه راجِعاً إلى أكثرَ من معنًى.
ثم ذَكَرَ أنَّ النوعَ الأولَ هو أن يعبِّرَ كلُّ واحدٍ منهما عن المُرادِ بعبارةٍ غيرِ عبارةِ صاحبِه تدلُّ على معنًى في المسمَّى غيرِ المعنى الآخَرِ مع اتحادِ المسمَّى، قال: بمنزلةِ الأسماءِ المتكافِئةِ، وهي التي تتَّفِقُ في الذاتِ وتختلفُ في المعنى، ومَثَّلَ لذلك بما وَردَ في أسماءِ السيفِ، وأسماءِ اللَّهِ , وأسماءِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ , وأسماءِ القرآنِ.
ثم انتقَلَ إلى قضيةٍ أُخرى تتعلَّقُ بمقصودِ السائِلِ، فأحيانًا يكونُ مقصودُه تعيينَ المسمَّى، وأحيانًا يكونُ قَدْرًا زائِدًا على تعيينِ المسمَّى , وهو أنه يريدُ أنْ يعرفَ الصِّفةَ التي في ذلك المسمَّى، فإذا كان مقصودُه تعيينَ المسمَّى فإنه يُعبَّرُ له بأيِّ عبارةٍ تدلُّ عليه، واسْتَشْهَدَ لذلك بقولِه تعالى: {وَمْنَ أَعْرَضَ عَنْ ذِكرِي} فيقالُ: ذِكرُه كتابُه أو كلامُه أو هُداه، فكلُّ هذه تعبيراتٌ صحيحةٌ، فيه تعبيرٌ عن الذاتِ بشيءٍ من أوصافِها.
أمَّا إذا كان مقصودُ السائِلِ معرفةَ ما في الاسمِ من صفةٍ فهذا لا بدَّ من تعريفِه بالمعنى الذي تَتَضَمَّنُه هذه الصفةُ، وذلك مِثلُ " العليمُ " فهو يسألُ عن معنى العِلمِ في هذا الاسمِ، أو " الرحيمُ " يسألُ عن معنى الرحمةِ، أو " الغفورُ " فهو يسألُ عن معنى المغفرةِ في هذا الاسمِ، وليس مرادُه معرفةَ مَن هو الغفورُ؟ فيقالَ له: هو اللَّهُ.
ثم ذَكرَ أنَّ هذا النوعَ ليس اختلافَ تضادٍّ، ونظَّرَ له بتفسيرِ قولِه تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} وذَكرَ جملةَ أقوالٍ , من أشهرِها تفسيرُه بالقرآنِ أو بالإسلامِ، وهما قولانِ متَّفِقان؛ لأنَّ بينَهما تلازُماً، فدينُ الإسلامِ كتابُه القرآنُ، والقرآنُ يتضمَّنُ شريعةَ الإسلامِ، ولهذا لو قِيلَ بغيرِ هذا مما يدلُّ على هذا المعنى لجَازَ، كالأقوالِ التي ذَكرَها المصنِّفُ بعدَ ذلكَ، كقولِ مَن قال: هو السُّنةُ والجماعةُ، وقولِ مَن قالَ: هو طريقُ العبوديَّةِ، إلى غيـرِ ذلكَ.
ثم ذَكرَ المصنِّفُ الثانيَ من أصنافِ اختلافِ التنوُّعِ، وهو أن يُذكرَ للمعنَى العامِّ مَثَلٌ ؟؟؟ هل، مثَّل لذلك بقولِه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فمِنْهُمْ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ}. فبعضُ المفسِّرِين جعلَها في أوقاتِ الصلاةِ، وبعضُهم جعلَها في المالِ، وذلك على سبيلِ المثالِ، فكلُّ عملٍ من أعمالِ الخيرِ ينقسِمُ الناسُ فيه إلى ظالِمٍ لنفْسِه , ومقتصدٍ , وسابقٍ بالخيراتِ.

الدرسُ السـابِعُ
قولُه: (وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا منْ هَذَا البَابِ قَوْلُهُم: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا، كَأَسْبَابِ النُّزولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفسيرِ، كَقَوْلِهِم: إِنَّ آيَةَ الظِّهارِ نَزَلَتْ في امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَإِنَّ آيةَ اللِّعانِ نَزَلَتْ في عُوَيْمِرٍ العَجْلانيِّ، أَوْ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ، وَإِنَّ آيَةَ الكَلالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنَّ قولَهُ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}
[سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]، نَزَلـَتْ في بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضيرِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [سُورَةُ الأَنْفَالِ: 16]، نزلـَتْ في بَدْرٍ، وَإِنَّ قولَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 106[ نَزَلَـَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّاريِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَقَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195] نَزَلَـَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ... الحديثَ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ ممَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ من الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي قَوْمٍ منْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَومٍ من الْمُؤمِنِينَ. فَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيةِ مُختَصٌّ بِأُولئِكَ الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِم؛ فَإِنَّ هَذَا لا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ , وَلاَ عَاقِلٌ عَلَى الإِطْلاَقِِ)
في هذه الجملةِ ينبِّهُ شيخُ الإسلامِ إلى أن ما يُحكَى من أسبابِ النـزولِ عن السَّلفِ فإنه يَحمِلُه على المثالِ إذا تعدَّدتِ الحكايةُ في سببِ النـزولِ، بمعنى أنَّك إذا وجَدْتَ آيةً حـُكِيَ أنها نَزلتْ في فلانٍ، وحكى ثانٍ أنها نزلَتْ في فلانٍ , وحَكَى ثالثٌ أنها نزَلَتْ في فلانٍ؛ فإنَّ هذا الخلافَ يُعتبرُ اختلافَ تنوُّعٍ , ولا يُعتَبَرُ اختلافَ تناقُضٍ. وهذه فائدةٌ مهِمَّةٌ ينبغي التركيزُ عليها.
وسواءٌ كانَ سببُ النزولِ صريحًا أم غيرَ صريحٍ؛ فإنَّ القاعدةَ العامَّةَ هي أنَّ أسبابَ النزولِ تعتبرُ أمثلةً للعمومِ الواردِ في الآيةِ؛ لأنَّ العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ.
ولو رجعتَ ـ مثلًا ـ إلى ما قيلَ في المرادِ بالأبتَرِ في قولِه سبحانَه وتعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فإنَّكَ سَتَجِدُ أقوالًا فيها تعيينُ الأبترِ، فقيل: هو العاصُ بنُ أميَّةَ، وقيلَ: الوليدُ بنُ المغيرةِ، وقيل: أبو جهلٍ، وقيل غيرُ ذلك.
وإذا نظرتَ في هؤلاءِ الثلاثةِ وجدتَ أنَّ معنى الآيةِ {إنَّ شَانِئَكَ} أي: مُبْغِضَكَ {هُوَ الأَبْتَرُ} أي: الأقطعُ عن الخيرِ، يصْدُقُ على كلِّ واحدٍ منهم , فكلُّ واحدٍ منهم يُعتبرُ مثالًا لمَن أَبغضَ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ , وهو مقطوعٌ عن الخيرِ.
ولو قيل أيضًا: إنَّ المرادَ بها أبو لهبٍ لَصَحَّ ذلك؛ لأنه مُبغِضٌ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ , وهو مقطوعٌ عن الخيرِ، وهكذا غيرُه مِن المشركين.
فالمقصودُ إذَنْ أنَّ أسبابَ النـزولِ تُعتبرُ أمثلةً أيـًّا كانت صيغةُ هذا النـزولِ؛ ولهذا قد يَرِدُ عن المفسِّرِ الواحدِ من السَّلفِ أنها نـزلتْ في فلانٍ، ويَرِدُ عنه أنها نزلتْ في غيرِه؛ لأنها من بابِ التمثيلِ.
قال المصنِّفُ: " فالذين قالوا بالنـزولِ لم يَقصِدُوا أنَّ حكمَ الآيةِ مختصٌّ بأولئكَ الأعيانِ دونَ غيرِهِم " لأنَّكَ لو قُلتَ: إنها مختصَّةٌ بأولئكَ الأعيانِ، فإنَّ العبرةَ عندَكَ هنا تكونُ بخصوصِ السَّببِ، ومِن ثَمَّ فإنَّه لا يدخُلُ في عمومِ اللفظِ أحدٌ غيرُ مَن وردتْ في شأنِه.
قال المصنِّفُ: " فإنَّ هذا لا يقولُه مسلمٌ ولا عاقلٌ على الإطلاقِ ". يعني: أنَّ كونَ الآيةِ نَزلَتْ في فلانٍ , ولا تتعدَّاهُ، فيقولُ مثلًا: إنَّ آيةَ الظِّهارِ نزلَتْ في أوسِ بنِ الصامِتِ , فهي تختصُّ بأوسِ بنِ الصامِتِ , ولا تتعدَّاهُ. فيَنقَطِعُ الحكمُ، هذا لا يقولُه أحدٌ، بل الصوابُ أنَّ أوسَ بنَ الصامِتِ هو سببُ النـزولِ , لكنه يُعتبرُ مثالًا للعمومِ الواردِ في الآيةِ. وسيأتي إن شاءَ اللَّهُ تعالى في التطبيقِ أمثلةٌ من هذا النوعِ، وسوف يَظهرُ من نِقاشِها أنها من بابِ التمثيلِ).