الدروس
course cover
النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن
9 Nov 2008
9 Nov 2008

5430

0

0

course cover
شرح مقدمة التفسير

القسم الأول

النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن
9 Nov 2008
9 Nov 2008

9 Nov 2008

5430

0

0


0

0

0

0

0

النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَصْلٌ في أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانيَ القرآنِ

يَجِبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ القرآنِ, كَمَا بيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )سُورَةُ النـَّحْلِ :(44)يَتَنَاوَلُ هَذَا وهَذَا .
وَقَدْ قَالَ أَبو عَبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميُّ : " حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ – كَعُثْمَانَ بنِ عفَّانَ ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ وغيرِهِمَا – أنَّهُمْ كانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِن النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فِيهَا مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِِ ، قَالُوا : فَتَعَلَّمنْا القُرْآنَ وَالعِلْمَ وَالعَمَلَ جَمِيعًا . "
وَلِهَذَا كانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ .
وَقالَ أَنَسٌ : " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ البقرَةَ وآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي أَعْيُنِنَا ."
وَأَقَامَ ابنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ البَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ – قِيلَ : ثَمَانِي سِنِينَ – ذَكَرَهُ مَالِكٌ .
وَذلِكَ أنَّ اللهَ تعالَى قَالَ :( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ )سُورَةُ ص :( 29 )، وقالَ : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ )سُورَةُ النِّسَاء ِ:(24)، وَقَالَ : أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ ).سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ :( 68 )،وتَدَبُّرُ الكَلامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لا يُمْكِنُ .
وكذلِكَ قالَ تعالَى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َ)سُورَةُ يُوسُفَ : (2) ، وعـَقـْلُ الكَلامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلامٍ فَالْمَقْصُودُ منْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ ، فَالْقُرآنُ أَوْلَى بذلِكَ .
وأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَومٌ كِتابًا في فَنٍّ من العِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلاَ يَسْتَشْرِحُوهُ ؛ فَكَيْفَ بِكَلامِ اللهِ تَعالَى الَّذِي هو عِصْمَتُهُم ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنيَاهُمْ ؟!
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحابةِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ قَلِيلاً جِدًّا ، وَهُوَ وَإِنْ كانَ في التَّابعينَ أَكْثَرَ منْهُ في الصَّحابةِ ، فهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسبةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كانَ الاجْتِمَاعُ وَالائْتِلاَفُ وَالعِلْمُ وَالبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ).

هيئة الإشراف

#2

17 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)

القارئ: (فصل في أن النبي صلي الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن

يجب أن يعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه؛ فقوله تعالي: ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: 44) يتناول هذا وهذا.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وكذلك قوله تعالي: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19)، يتضمن هذا وهذا، أي: بيان لفظه وبيان معناه، وفي هذا رد واضح على أهل التفويض، الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين معاني أسماء الله وصفاته، فإننا نقول لهم: قولكم هذا إما أن تعنوا أن الرسول صلي الله عليه وسلم جاهل بمعاني أسماء الله وصفاته،وإما أنه كاتم لما يعلمه من ذلك، فإن قلتم بالأول وصفتموه بالجهل، وإن قلتم بالثاني وصفتموه بالخيانة.
وقوله : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) اللام هذه للتعليل ، يعني لأجل هذا، وليست للأمر، والدليل على أنها ليست للأمر أن الفعل بعدها منصوب).

القارئ: (وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يحاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً (1) ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدً في أعيننا (2) ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يعني صار جليلاً معظماً؛ لأنهم لا يحفظونه إلا إذا عرفوا معناه، معني ذلك أن الإنسان إذا كان يحفظ البقرة لفظاً ومعنى، وآل عمران لفظاً ومعنى ، فعنده علم كبير).


القارئ: (وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين- قيل: ثماني سنين- ذكره مالك(3) وذلك أن الله تعالي قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن)(محمد: 24) ، وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل)(المؤمنون:68) وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) وعقل الكلام متضمن لفهمه).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (قوله تعالي: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاته) فبركة القرآن في تلاوته وتدبره، والعمل به، وما يحصل فيه من التأثير على القلب لزيادة الإيمان ، ومعرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأحكامه، وكذلك ما حصل فيه من التأثير على الأمم، حيث فتح الله بهذا القرآن مشارق الأرض ومغاربها كل هذا من بركاته، وكذلك ما حصل للمتمسكين به من الرفعة والعزة والظهور على جميع الأمم، وكذلك ما يحصل للمتمسك به من صحة القصد، وسلامة المنهج ، والسعادة في الدنيا والآخرة،فالمهم أن بركات هذا القرآن لا تحصى.
وقوله: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، هذا فيه ثناء عظيم على من تذكر بالقرآن واتعظ به، وأنه هو صاحب اللب، أي العقل.
وقوله تعالي: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن) هذا فيه حث على تدبر القرآن؛ لأن الله وبخ هؤلاء الذين لا يتدبرونه، وقوله تعالي: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل) كذلك، والمراد بالقول هنا القرآن، واقرأ قوله تعالي: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (المؤمنون 68،69) .فأتى بالقرآن وأتى بالسنة : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (المؤمنون:69) .
وقال تعالي: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) لعل هذه للتعليل ، وتعقلون يعني تفهمونه فهماً كاملاً؛ لأنه من المعلوم أنه لو نزل على العرب بلغة غير العربية، ما عقلوه ولا فهموه، والعقل يأتي بمعني الفهم، كما قال الله تعالي: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(البقرة: 75) ).


القارئ: (ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم، كالطب والحساب ولا يستشرحوه . فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟!).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذا كلام صحيح، فإننا لو كنا مثلاً ندرس كتاب زاد المستقنع، ونقرؤه ثم نمشي فإننا لا نستفيد، وكذلك لو قرأنا كتاباً مثلا في الطب أو في الكيمياء أو ما أشبه ذلك، بأن نقرأ ونمشي ، فإننا لن نستفيد أبداً، فلقد جرت العادة المؤكدة أنه لا يمكن أن نقرأ أي كتاب إلا ونستشرحه، بأن نطلب من يشرحه لنا، وإلا صارت قراءتنا له عبثاً.
ولا يقال إن القرآن يختلف عن ذلك لكون الإنسان يثاب على تلاوته، فيقال إن القرآن له جهتان: جهة تعبد وجهة عمل وتنفيذ ، فالأولى قد تحصل بأن يتعبد الإنسان لله عز وجل بقراءة القرآن. لكن الثانية التي نزل من أجلها (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) مفقودة في حق من لم يعرف معني القرآن ولم يتعظ به).


القارئ: (ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو إن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وجه كون النزاع في التفسير في الصحابة أقل لسبين:
السبب الأول: أن القرآن نزل بلغتهم التي لم تتغير، فكانوا أفهم الناس لمعانيه ، وأفضل له، ثم تغيرت الألسن بعدهم.
السبب الثاني: قلة الأهواء فيهم وسلامة قصدهم ، فما تجد الرجل ينتصر لهواه ورأيه، ولكن كان الواحد منهم لا يقصد إلا الحق أينما وجده أخذه ، حتى أن الخليفة يرجع إلي الحق الذي ذكرته به امرأة من النساء ، ولم يقل أنا الخليفة لا يرد علي فأنا أعلم منها ولم يقل: أنا لي السلطة.
فلهذين السببين كان الخلاف بين الصحابة- رضوان الله عليهم- في تفسير كلام الله أقل.
ثم جاء التابعون من بعدهم فحصل نقص لا في السبب الأول ولا في السبب الثاني، بل إن التابعين كثرت الفتوح في زمنهم، واختلط العربي بالعجمي وتغيرت الألسن، وقد ذكر أن أول تأليف للنحو كان في عهد على بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد كثرت الأهواء والفتن وانتصار الإنسان لرأيه ، حتى أدى ذلك إلي التطاحن والتقاتل بين المسلمين، وعلى هذا فيكون الخلاف بينهم في تفسير كلام الله أكثر من الخلاف بين الصحابة، ثم كلما بعد العهد عن عصر النبوة، صار البلاء أشد، والتباس بالباطل الحق أعظم، وكما نجد الآن في زماننا ، كل عمود في مسجد تحته عالم يرى نفسه أنه ابن تيمية، وكل خيمة في مني فيها عالم يرى نفسه أنه أحمد بن جنبل أو الشافعي.
ولهذا كثرت الأهواء حتى إنك لتجد في المسألة التي ليس فيها فيما سبق إلا قول واحد أو قولان، تجد فيها عدة أقوال؛ لأن العلم قليل والهوى كثير، فترتب على نقص العلم وكثرة الهوى الضياع والخلاف والشقاق وعدم الائتلاف).


(1) رواه بن أبي شيبة (6/ 117)
(2) رواه أحمد في المسند (3م120، 121، 122)
(3) رواه مالك في الموطأ (1م205)

هيئة الإشراف

#3

17 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (يجبُ أنْ يُعلَمَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَيَّنَ لأصحابِهِ معانيَ القرآنِ، كما بَيَّنَ لهم ألفاظَهُ، كقولِهِ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم}، يَتناوَلُ هذا وهذا.(1)
وقدْ قالَ أبو عبدِ الرحمنِ السُلَمِيُّ: (حَدَّثَنا الذينَ كانوا يُقْرِءُونَنَا القرآنَ، كعُثْمانَ بنِ عَفَّانَ وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ وغيرِهما، أنَّهُم كانوا إذا تَعَلَّمُوا مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَشْرَ آياتٍ لمْ يَتَجَاوَزُوهَا حتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فيها مِن العلْمِ والعملِ، قالُوا: فتَعَلَّمْنَا القرآنَ والعلْمَ والعمَلَ جَميعاً).
ولهذا كانوا يَبْقُونَ مُدَّةً في حِفْظِ السورةِ( 2) .
وقالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (كانَ الرجُلُ إذا قَرَأَ البقرةَ وآلَ عِمرانَ جَلَّ في أَعْيُنِنَا)(3) .
وأقامَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُما على حِفْظِ البقرةِ عِدَّةَ سِنينَ، قِيلَ: ثَمانَ سِنينَ، ذَكَرَهُ مالِكٌ (4) .
وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}.
وقالَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
وقالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، وتَدَبُّرُ الكلامِ بدُونِ فَهْمِ مَعانيهِ لا يُمْكِنُ.
وكذلكَ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وعَقْلُ الكلامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ(5) .
ومِن المعلومِ أنَّ كُلَّ كلامٍ فالمقصودُ منهُ فَهْمُ مَعانيهِ، دونَ مُجَرَّدِ ألفاظِهِ، فالقرآنُ أَوْلَى بذلكَ، وأيضاً فالعادةُ تَمْنَعُ أنْ يَقرأَ قومٌ كتاباً في فَنٍّ مِن العلْمِ كالطِّبِّ والحسابِ ولا يَسْتَشْرِحُوهُ، فكيفَ بكلامِ اللهِ تعالى الذي هوَ عِصمَتُهم، وبهِ نَجاتُهم وسعادتُهم وقِيامُ دِينِهم ودُنياهُمْ؟! (6) .
ولهذا كانَ النزاعُ بينَ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في تفسيرِ القرآنِ قَليلاً جِدًّا(7)، وهوَ وإنْ كانَ في التابعينَ أكثرَ منهُ في الصحابةِ فهوَ قليلٌ بالنسبةِ إلى مَنْ بَعْدَهم، وكُلَّما كانَ العصْرُ أَشرفَ كانَ الاجتماعُ والائتلافُ والعلْمُ والبيانُ فيهِ أَكْثَرَ(8) ).


الشرح:

قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): ( (1) ابتَدَأَ في هذا الفصلِ بنفسِ المقدِّمَةِ، وهيَ السببُ في البحثِ عنْ معاني القرآنِ؛ وذَكَرَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كما بين لأصحابه ألفاظَ القرآنِ فقدْ بين لهم معانيَهُ وشَرَحَهُ لهم، فبَيَّنَ لأصحابِهِ معانيَ القرآنِ وألفاظَهُ.
قالَ اللهُ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، فهوَ يَتناوَلُ هذا وهذا، يَتناوَلُ المعانيَ ويَتناوَلُ الألفاظَ.
ولا شَكَّ أنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم فُصَحَاءُ، يَعرِفونَ القرآنَ بِمُجَرَّدِ نُزولِهِ وسَماعِهِ؛ لأنَّهُ نَزَلَ بلُغَتِهم، ولأنَّهُم يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ فَهماً جَيِّداً، فلمْ يَكُونُوا يَسأَلُون عنْ معنى كلِّ آيَةٍ، بل الآياتُ الواضحةُ يَعرِفونَ دَلالتَها، ولكنْ هناكَ ما يَحتاجُ إلى بيانٍ، كالأشياءِ الْمُجْمَلَةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أَجْمَلَ مَثلاً ذِكْرَ الصلاةِ في قولِهِ: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}، وذَكَرَ بعضَ أَركانِها، كقولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}، وكقولِهِ: {وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ}.
ولكنْ بَقِيَ تفاصيلُ كثيرةٌ لم تذكر في القرآنِ، بَيَّنَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في سُنَّتِهِ كما هوَ معروفٌ، فمثلاً لمْ يُذْكَرْ في القرآنِ أنَّ عَدَدَ الصلواتِ خَمْسٌ، ولا عَدَدَ ركعاتِ كلِّ صلاةٍ، ولا مِقدارَ الركْنِ والواجبِ، ولا الأذْكَارَ التي تُقالُ في الركوعِ والسجودِ، ولا القراءةَ الواجبةَ، كلُّ ذلكَ أُخِذَ مِنْ بيانِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كذلكَ الزكاةُ والصيامُ والحَجُّ، وغيرها من شرائع الدين بَيَّنَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بسُنَّتِهِ، وتَحَمَّلَها عنهُ صَحَابَتُهُ رَضِيَ اللهُ عنهم، وبَيَّنُوهَا لأَتْبَاعِهِمْ.
(2) اسْتَدَلَّ بكلامِ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ. - وهوَ القارئُ المشهورُ تَجِدُونَهُ مَذكوراً في المصاحِفِ في آخِرِ كلِّ مُصْحَفٍ، يقولونَ: طُبِعَ هذا الْمُصْحَفُ على ما يُوافِقُ روايَةَ حَفْصِ بنِ سُليمانَ الكُوفيِّ، عنْ عاصمِ بنِ أبي النُّجُودِ، عنْ أبي عبدِ الرحمنِ عبدِ اللهِ بنِ حَبِيبٍ السُّلَمِيِّ-، أحَدِ التابعينَ المشهورينَ، يقولُ: (حَدَّثَنا الذينَ كانوا يُقْرِءُونَنَا القرآنَ). وعَدَّ منهم عثمانَ، وكانَ مِنْ حَملةِ القرآنِ.
(كانَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ) يَخْتِمُ القرآنَ كلَّ ليلةٍ، أي: يَبدأُ في أَوَّلِ الليلِ ويَخْتِمُ في آخِرِهِ، في رَكعةٍ واحدةٍ، ممَّا يَدُلُّ على أنَّ اللهَ سَهَّلَ عليهِ قراءة القرآنَ.
يقولُ بعضُ التابعينَ: إنِّي سَبَرْتُ عثمانَ لَيْلَةً وهوَ قائمٌ يُصَلِّيَ، فكانَ يَستَمِرُّ في القراءةِ ثمَّ يَسْجُدُ ثمَّ يَقومُ ويَسْتَمِرُّ في القيامِ ثمَّ يَسْجُدُ، وإذا هيَ سَجَداتُ القرآنِ لا يَقطَعُ قيامَهُ إلاَّ بسَجداتِ القرآنِ.
وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كانَ أيضاً مِن الْحَفَظَةِ للقرآنِ، يقولُ: (ما نَزَلَتْ آيَةٌ إلاَّ وأنا أَعْلَمُ أينَ نَزَلَتْ وفيم َ نَزَلَتْ، ولوْ أَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنِّي بالقرآنِ تَصِلُهُ الإبلُ لرَحَلْتُ إليهِ).
وفي الحديثِ، أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((خُذُوا الْقُرْآنَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: عَنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ))، فبَدَأَ بهِ، وهوَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه.
يقولُ: إنَّهُم كانوا إذا تَعَلَّمُوا مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَشْرَ آياتٍ لمْ يَتجاوَزُوها حتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فيها، فكانوا لا يَتَعَلَّمُونَ عَشْرَ آياتٍ حِفْظاً إلاَّ وقد تَعَلَّمُوا مَعانيَها وما فيها، قالُوا: ((فتَعَلَّمْنَا القرآنَ والعلْمَ والعملَ جميعاً)).
- القرآنَ يعني: لَفْظَهُ.
- والعلْمَ يعني: تَعَلُّمَ مَعَانِيه.
- والعملَ يعني: التطبيق َ، أي إنهم مِن اهتمامِهم بهِ يَتَعَلَّمُونَ ألفاظَهُ ومَعانيَهُ والعملَ بهِ، فيَبْقَوْنَ مُدَّةً طويلةً في حِفْظِ السورةِ؛ لأنَّهُم كانوا يَتَعَلَّمُونَهُ حِفظاً في عهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وما كَانَت المصاحِفُ موجودةً، إنَّما يُمْلِيهِ عليهم إملاءً، فبعضُهم يَكْتُبُ السورةَ أو الآياتِ في صحيفةٍ، ورُبَّما لا يَجِدُونَ إلاَّ أنْ يَكتبُوهَا في عِظامٍ أوْ نحوِها، ثمَّ بعدَ ذلكَ تُكَرَّرُ حتَّى تُحْفَظَ مِنْ ذلكَ اللوحِ، أوْ مِنْ تلكَ الصحيفةِ، ثمَّ يُكْتَبُ مكانَها وهكذا.
(3) يقولُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (كانَ الرجلُ إذا قَرَأَ البقرةَ وآلَ عِمرانَ جَلَّ في أَعْيُنِنَا). يعني: عَظُمَ قَدْرُهُ، إذا حَفِظَ هاتَيْنِ السورتَيْنِ، وهما نَحْوُ أربعةِ أجزاءٍ إلاَّ رُبُعاً.
قَدْرُهُ أي: مَكَانَتُهُ؛ وذلكَ لأنَّ في سورةِ البقرةِ كثير من الأحكامِ؛ ففيها ذِكْرُ الْحَجِّ، وذِكْرُ الصيامِ والنَّفَقَاتِ، والطلاقِ والرَّجْعَةِ والرضاعةِ، و غيرها وكذلكَ آلُ عِمرانَ فيها كثيرٌ مِن القَصَصِ والأحكامِ.
(4) ثمَّ قالَ: (أقامَ ابنُ عُمَرَ في حِفْظِ سورةِ البقرةِ عِدَّةَ سنينَ، قيلَ: ثمانَ سنينَ).
يعني: في حِفْظِها حِفْظاً قَوِيًّا، وكذلكَ أقامَ هذهِ الْمُدَّةَ في تطبيقِها والعملِ بها، ولا شَكَّ أنَّهُ يَقرأُ معَهَا غيرَها مِن السُّوَرِ، ولكنَّهُ لمْ يَتَجَاوَزْها حتَّى أَتْقَنَها في هذهِ الْمُدَّةِ.
(5) ثمَّ قالَ: (وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، التدَبُّرُ: التعَقُّلُ.
- وقالَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
- وقالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}.
- فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا}.
- وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
ولا يكونُ التدَبُّرُ بِدُونِ فَهْمِ المعاني، فالتدَبُّرُ هوَ: تَعَلُّمُ ألفاظِهِ ومَعانيهِ.
قالَ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أيْ: تَتَعَقَّلُونَهُ وتَفْهَمُونَ مَعانِيَهُ. والعقلُ الحقيقيُّ هوَ الذي يَتَضَمَّنُ فَهْمَ مَعانيهِ.
(6) (ومِن المعلومِ أنَّ كلَّ كلامٍ فالمقصودُ منهُ فَهْمُ مَعانيهِ دونَ مُجَرَّدِ ألفاظِهِ).
وقدْ سَمِعْتُ بعضَ مَشَايخِنَا يقولُ: (إنَّ حِفْظَ الكلامِ بدُونِ فَهْمٍ لمعانيهِ كالجسَدِ الْمَيِّتِ)، يعني: كما لوْ حَمَلْتَ جَسَداً مَيِّتاً ليسَ فيهِ رُوحٌ، فلوْ حَمَلْتَ سَخْلَةً مَيِّتَةً، على مَنْكِبَيْكَ تَعِبْتَ، بخِلافِ ما إذا فَهِمْتَ مَعناهُ؛ فإنَّهُ كالجسَدِ الحيِّ الذي يَمْشِي معكَ ويُعينُكَ ويُكَلِّمُكَ، فهوَ مَعكَ لا تَحْمِلُ منهُ هَمًّا، وهذا مِثالٌ.
ولا شَكَّ أنَّ فَهْمَ مَعانيهِ يُفيدُ العملَ بهِ؛ فإنَّ الذي لا يَفهمُهُ لا يُمْكِنُه العمل بهِ؟ فإذا كانَ هذا في مُطْلَقِ الكلامٍ، فالقرآنُ أَوْلَى بذلكَ، والعادَةُ تَمنعُ أنْ يَقرأَ قومٌ كِتاباً في فَنٍّ مِن العلْمِ،كالطبِّ مثلاً ولا يَسْتَشْرِحُوهُ، فلوْ أنَّ طَبيباً أُعْطِيَ كتاباً في الطبِّ، ثمَّ لمْ يَفْهَمْهُ، ولمْ يَدْرِ ما مُحتواهُ، فإنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَذهبَ إلى طبيبٍ أَعْلَمَ منهُ، ويَطلُبَ منهُ شرح هذا الكتابِ لهُ، يقولُ: اشْرَحْهُ لي حتَّى أَفهمَ ما هذا العلاجُ؟ وكيفَ يُستعمَلُ؟ وما أَشْبَهَ ذلكَ، فكلامُ اللهِ لا بُدَّ أنْ يكونَ أَوْلَى بالاهتمامِ؛ فإنَّهُ عِصمةُ المسلمينَ، قالَ تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً}؛ أيْ: تَمَسَّكُوا بهِ؛ فبهِ نَجاتُكم من العذاب، وسعادتُكم في دُنياكمْ وفي أُخْرَاكمْ وبهِ قيامُ دِينِكم ودُنياكمْ،التي تقومونَ بها في الدِّينِ والدنيا، ففَهْمُهَا ومَعرفتُها يَتَوَقَّفُ على مَعرفةِ آياتِ الكتابِ.
(7) (و النزاعِ بينَ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في تفسيرِ القرآنِ قليلٌ جِدًّا)، ولعلَّ السببَ أنَّهُم فَهِمُوا مَعانِيَهُ بِمُجَرَّدِ نزولِهِ؛ وذلكَ لأنَّهُم قومٌ فُصحاءُ، فلم يَكُونوا يَخْتَلِفُونَ في آياتِ القرآنِ إلاَّ قليلاً، وهوَ – أي الخلاف- (في التابعينَ أكثرُ منهُ في الصحابةِ)؛ وذلكَ لأنَّ في التابعينَ كثيرًا مِنْ غيرِ العربِ، يعني: مِن الموالي دَخَلوا في الإسلامِ وأُعْتِقُوا وتَوَلَّوا التفسيرَ بالنقلِ،فمَثلاً كُرَيْبٌ وعِكرمةُ ومُجاهدٌ وعطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، هؤلاءِ مِن التابعينَ، وهمْ مِن الموالي، مَنَّ اللهُ عليهم بالعلْمِ، فكانوا عُلماءَ معَ أنَّهُم ليْسُوا أَصْلاً مِن العربِ.
(8) قال: (وهو إنْ كانَ في التابعينَ أكثرُ منهُ في الصحابةِ فهوَ أيضاً قليلٌ) في التابعينَ (بالنِّسبةِ إلى مَنْ بعدَهم).
بالنِّسبةِ إلى تابعِي التابعينَ ومَنْ بعْدَهم، (كُلَّمَا كانَ العصرُ أشرَفَ كانَ الاجتماعُ والائتلافُ والعلْمُ والبيانُ فيهِ أكثرَ)، عَصْرُ الصحابةِ أَشرفُ، فاجتماعُهم وائتلافُهم أكثرُ، وعِلْمُهم وبيانُهم فيهِ أكثرُ، والتابعونَ هم مَنْ تَلَقَّوا التفسيرَ عن الصحابةِ).

هيئة الإشراف

#4

19 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، محمد بن عبد الله الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى وأتم التسليم.. أما بـعـد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -:

فـــصــل
في أن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بيـّن لأصحابه معاني القرآن

يجب أن يُعلم أن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بيـّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه فقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} يتناول هذا وهذا.
وقال أبو عبد الرحمن السُلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جل في أعيننا، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل ثمان سنين ذكره مالك، وذلك أن الله تعالى قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} وقال: {أفلا يتدبرون القرآن} وقال: {أفلم يدبروا القول} وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم.
ولهذا كان النـزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها.
ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيره: الشافعي، والبخاري، وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره، والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض مسائل الاستنباط والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.. انتهى).

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (الحمد لله، هذه الكلمات اشتملت على مسائل:
الأولـى:
أن الله – جل جلاله – أمر عباده أن يتدبروا القرآن، فقال: {أفلا يتدبرون القرآن} وقال: {أفلم يدبروا القول} وهذا فيه حث، وأمر لتدبر القرآن، وقال: {ليدبروا آياته} ومعلوم أن التدبر لا يمكن أن يحصل إلا بفهم المعاني وفهم معاني القرآن هو التفسير فنتج من هذه المقدمات أن التفسير مأمور به لهذا تكون عناية أهل العلم بالتفسير لأنه مأمور به في قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} فالذي يعرض عن التفسير معناه يعرض عن التدبر لأنه لا يمكن أن يتدبر إلا بعقل المعانـي وعقل المعانـي لا يمكن أن يكون إلا بمعرفة أقوال المفسرين في ذلك.
الأمر الثانـي :
أن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بيّن للناس معاني القرآن، بينه للصحابة وهم كانوا يأخذون من ذلك ما يحتاجون إليه فربما كان البيان واقعاً عما يفهمونه فيكون في مجرى التأكيد وربما كان البيان واقعاً عما لا يعلمونه فيكون علماً جديداً لا يأخذونه من اللغة وهذا لاشك وقع كثيراً ولكن المنقول عن رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم الأحاديث التي فيها التفسير عن رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم قليلة جداً بالنسبة إلى التفسير المنقول عن الصحابة).

هيئة الإشراف

#5

19 Nov 2008

شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار


قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قولُه: فصلٌ
يَجبُ أنْ يُعلَمَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ القرآنِ, كَمَا بيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } سُورَة النـَّحْلِ :44 يَتَنَاوَلُ هَذَا وهَذَا .
وَقَدْ قَالَ أَبو عَبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ – كَعُثْمَانَ بنِ عفَّانَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ وغيرِهِمَا – أنَّهُمْ كانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فِيهَا مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنا القُرْآنَ وَالعِلْمَ وَالعَمَلَ جَمِيعًا. وَلِهَذَا كانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ. وَقالَ أَنَسٌ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ البقرَةَ وآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي أَعْيُنِنَا.
وَأَقَامَ ابنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ البَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ – قِيلَ: ثَمَانِيَ سِنِينَ – ذَكَرَهُ مَالِكٌ. وَذلِكَ أنَّ اللَّهَ تعالَى قَالَ: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ } سُورَة ص: 29 [، وقالَ :{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } سُورَة النِّسَاء ِ: 24[، وَقَالَ: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ } سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 68 [. وتَدَبُّرُ الكَلامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لا يُمْكِنُ، وكذلِكَ قالَ تعالَى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َ} سُورَة يُوسُفَ: 2 [، وعـَقـْلُ الكَلامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلامٍ فَالْمَقْصُودُ منْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ، فَالْقُرآنُ أَوْلَى بذلِكَ.
وأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَومٌ كِتابًا في فَنٍّ من العِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلاَ يَسْتَشْرِحُوهُ، فَكَيْفَ بِكَلامِ اللَّهِ تَعالَى الَّذِي هو عِصْمَتُهُم، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنيَاهُمْ
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحابةِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ قَلِيلاً جِدًّا، وَهُوَ وَإِنْ كانَ في التَّابعينَ أَكْثَرَ منْهُ في الصَّحابةِ، فهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسبةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كانَ الاجْتِمَاعُ وَالائْتِلاَفُ وَالعِلْمُ وَالبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ.
ومِن التَّابعينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفسيرِ عَنِ الصَّحابَةِ، كمَا قالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ علَى ابنِ عبَّاسٍ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيةٍ منْهُ، وأسألُهُ عَنْها. وَلِهَذَا قَالَ الثَّوريُّ: إِذَا جَاءَكَ التَّفسيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ. وَلِهَذَا يَعتمِدُ علَى تفسيرِهِ الشَّافعيُّ والبخاريُّ وغيرُهُمَا منْ أَهْلِ العِلْمِ، وَكَذَلِكَ الإمَامُ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ في التَّفسيرِ، يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابعينَ تَلَقَّوا التَّفسيرَ عَن الصَّحابَةِ كَمَا تَلَقَّوا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكلَّمُونَ في بَعْضِ ذَلِكَ بِالاسْتِنْبَاطِ وَالاسْتِدْلاَلِ، كَمَا يَتَكَلَّمُونَ في بَعْضِ السُّننِ بِالاسْتِنْباطِ والاسْتِدلالِ).

هذا الفصلُ عقَدَهُ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى لبيانِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأصحابِه معانيَ القرآنِ، وقد اشتملَ على الموضوعاتِ التاليةِ:
البيانُ النبويُّ للقرآنِ.
اهتمامُ الصحابةِ بتعلُّمِ معاني القرآنِ.
قلَّةُ النـزاعِ بينَ الصحابةِ في التفسيرِ، وإن كان قد يُوجدُ أحيانًا.
إنَّ من التابعين مَن تلقَّى جميعَ التفسيرِ من الصحابةِ.
إنَّ التابعين قد يتكلَّمُون في التفسيرِ بالاستنباطِ والاستدلالِ.

فبالنسبةِ للقضيةِ الأولى قال: يجبُ أن يُعلمَ أنَّ النبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ لأصحابِه معانيَ القرآنِ كما بيَّن لهم ألفاظَه فقولُه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يتناولُ هذا وهذا؛ أي: يتناولُ الألفاظَ التي قرَأَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على الصحابةِ، كما يتناولُ بيانَ معاني هذه الألفاظِ.
وهذا الموضوعُ قد طرَقَه شيخُ الإسلامِ في غيرِ ما مَوطنٍ، ومن هذه المواطِنِ ما ذَكرَه في مَعرِضِ ردِّهِ على أبي حامدٍ الغزاليِّ في كتابِ " بُغيةُ المُرتادِ " (من ص 330 إلى ص332) حيث ناقشَ أبا حامدٍ في مسألةِ التفسيرِ، ثم قال في آخرِها: " فقولُنا بتفسيرِ الصحابةِ والتابعين لعِلمِنَا بأنهم بلَّغُوا عن الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فيمتنعُ أن نكونَ نحن مُصيبِينَ في فهمِ القرآنِ وهم مخطِئونَ،وهذا يُعلمُ بطلانُه ضرورةً عادةً وشرعًا " فإذا رجعتمْ إلى هذا الموطنِ ستَجِدونَ أنه نصَّ على هذه المسألةِ وهي مسألةُ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قد بيَّنَ للصحابةِ معانيَ القرآنِ.
وإذا كان مرادُ شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى بيانَ المعاني هنا؛ أنَّ كلَّ لفظةٍ في القرآنِ بيَّنها الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فهذا فيه إشكالٌ، وإن كان النَّظَرُ إلى عمومِ ما طرَحَه في الرسالةِ كأنه يشيرُ إلى أنَّه لا يُريدُ هذا، وإنما يريدُ بيانَ ما يحتاجُ الصحابةُ إلى بيانِه.
بِناءً على ما تقدَّمَ فإنَّ البيانَ النبويَّ للقرآنِ على نوعـين:
النوعُ الأولُ: هو بيانُ ما يحتاجُ الصحابةُ إلى بيانِه من مُجمَلِ القرآنِ أو مُشْكِلِه، وهذا لا شكَّ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قد بيَّنَه، ولهذا كان الصحابةُ يسألونَه عن تفسيرِ بعضِ الآياتِ كسؤالِهم عن آيةِ الظُّلمِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ لأنَّهم فَهِمُوا منها معنًى استشكلوه فجاءوا إلى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ يسألونَه عنها , وكما في قولِه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا} سأَلُوه: ما البُشرى؟ فقال: ((هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ)).
فهذا النوعُ من البيانِ المُباشِرِ لآياتِ القرآنِ قد وَقعَ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في بعضِ المواضِعِ, ولكنْ قليلٌ بالنسبةِ لآياتِ القرآنِ الكريمِ.
النوعُ الثاني: وهو أن تكونَ السُّنَّةُ بعمومِها شارحةً للقرآنِ , وكونُ السُّنَّةِ في مُجمَلِها مفسِّرةً للقرآنِ قضيةٌ واضحةٌ، وقد أشار إليها كثيرٌ من العلماءِ، خصوصًا عندَ حديثِهم عن منـزلةِ السُّنَّةِ من القرآنِ.
وقد دلَّ عليها عدَّةُ أحاديثَ، منها حديثُ: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البَيضاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عنها إلا هالِكٌ، كتابِ اللَّهِ وسُنَّتِي)).
وقد ذكر الشاطبيُّ قريبًا من هذا في الموافقاتِ، فقال –وهو يتحدَّثُ عن علاقةِ السُّنَّةِ بالقرآنِ-: "إنَّ السُّنةَ إنما جاءتْ مبيِّنةً للكتابِ شارحةً لمعانِيه، ولذلك قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وقال: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ}، وذلك التبليغُ من وجهينِ: تبليغُ الرسالةِ , وهو الكتابُ، وبيانُ معانِيه، وكذلك فِعلُه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فأنتَ إذا تأمَّلْتَ موارِدَ السُّنةِ وَجَدْتَها بيانًا للكتابِ، هذا هو الأمرُ العامُّ فيها، وتمامُ بيانِ هذا الوجهِ مذكورٌ بعدُ إن شاءَ اللَّهُ. فكتابُ اللَّهِ تعالى هو أصلُ الأصولِ، والغايةُ التي تنتهي إليها أنظارُ النُّظَّارِ ومداركُ أهلِ الاجتهادِ، وليس وراءَه مرمًى؛ لأنه كلامُ اللَّهِ القديمُ، {وأنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى}، وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الكتابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شيءٍ وَهُدًى ورَحمَةً وَبُشْرَى للمُسْلِمِينَ}. وقال: {مَا فَرَّطْنَا في الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}. وبيانُ هذا مذكورٌ بعدُ إن شاءَ اللَّهُ.
إذًا هذه إشارةٌ إلى أنَّ جملةَ السُّنةِ شارحةٌ للقرآنِ، ولهذا مَن كان عالِمًا بالسُّنةِ فإنه يستطيعُ أن يوظِّفَ أحاديثَ الرَّسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لبيانِ القرآنِ، وللاحتجاجِ لأقوالِ المفسِّرينَ، وسيأتي إن شاءَ اللَّهُ تعالى مزيدُ تفصيلٍ حينما نتحدثُ عن الطريقِ الثاني من طرُقِ التفسيرِ، وهي تفسيرُ القرآنِ بالسُّنةِ، ولكنَّ المهمَّ هنا هو أنَّ البيانَ نوعانِ: مباشرٌ وهو قليلٌ، والبيانُ العامُّ وهو كثيرٌ جدًّا؛ لأنَّ السُّنةَ شارحةٌ للقرآنِ.
فإن قال قائلٌ: لماذا كان البيانُ المباشِرُ قليلًا؟
فالجوابُ: هو أنَّ القرآنَ نزَلَ بلُغةِ القومِ الذين هم الصحابةُ، وكانوا رضوانُ اللَّهِ عليهم يتعلَّمونَه –كما سَيَرِدُ في أثَرِ أبي عبد الرحمنِ السُّلَمِيِّ- ويتفهَّمون ما فيه من العِلمِ والعملِ، فإذا أشكلَ عليهم شيءٌ سألوا الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عنه، فيُعلِّمُهم الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ويُرشِدُهم ولهذا تُوفِّيَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وقد بيَّنَ لهم كُلِّيَّاتِ الشَّريعةِ العامَّةَ، فلما حدَثَ لديهم الجزئياتُ التي تحتاجُ إلى بيانٍ رَجَعوا إلى كتابِ اللَّهِ تعالى وإلى سُنَّةِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ليَقيسُوا عليها ويَسْتَنْبِطوا منها. فالمقصودُ إذًا أنَّ في حديثِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيانًا للقرآنِ بلا إشكالٍ، ولكنَّ المرادَ هو البيانُ العامُّ، وليس المرادُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بيَّنَ جميعَ معاني ألفاظِ الكتابِ؛ لأن كثيرًا من القرآنِ ظاهرٌ ومعلومٌ بالنسبةِ للصحابةِ.
ولهذا فلا يمكنُ أن يُقالَ: إنَّ شيخَ الإسلامِ أرادَ بالبيانِ بيانَ جميعِ معاني ألفاظِ الكتابِ، والظاهِرُ أنه –وإن كان نصَّ عليه كثيرًا- إنما أراد أن يَرُدَّ على أهلِ البِدَعِ الذين يفسِّرونَ القرآنَ بأهوائِهم دون الرُّجوعِ إلى السُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ.
فإن قال قائلٌ: إذا كان من القرآنِ ما هو ظاهِرٌ معلومٌ بالنسبةِ للصحابَةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم فلِمَ وقعَ الاختلافُ بينَهم في تفسيرِ القرآنِ , كاختلافِهم في معنى (القُرءِ) ومعنى (العادِياتِ) ونحوِ ذلك؟
فالجوابُ: أن هذا الاختلافَ قد يكونُ راجعًا إلى لغةِ العربِ، وقد يكونُ اختلافَ تنَوُّعٍ يرجعُ في حقيقَتِه إلى معنًى واحدٍ، ولْنَضْرِبْ مِثالًا على ذلك , وهو قولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} فقد اختلفَ السَّلفُ فيها هل المرادُ بـ (قَسْوَرة) هو الرَّامِي الذي يرمي أو المرادُ به الأسدُ؟ فلو كان هناك بيانٌ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لمعنى (قَسْوَرة) لمَا حَصَلَ الاختلافُ بينَ السَّلفِ في معناها, ولكن (قَسْوَرة) عندَ العربِ تَرِدُ بمعنى الرامي وبمعنى الأسدِ، فمَن حمَلَها على هذا المعنى فهو صحيحٌ , ومَن حمَلَها على هذا فهو صحيحٌ.
فمِثلُ هذا اللفظِ لم يكنْ يَحْتاجُ إلى بيانٍ من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لأنه معناه معروفٌ في لغةِ العربِ، ولهذا فمَن حمَلَه على هذا أو على هذا فكلامُه صحيحٌ , ولا إشكالَ في ذلك.
وهذا يدلُّ على أنَّ البيانَ قد حصَلَ بلا إشكالٍ، أما البيانُ الخاصُّ لمعنى كلِّ لفظٍ من ألفاظِ القرآنِ فهذا لم يَقعْ، وإلا لمَا وقع خلافٌ بينَ السَّلفِ في التفسيرِ أصلًا.
فإن قال قائلٌ: هل في عدمِ ثبوتِ التفسيرِ الخاصِّ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه ويَشملُ في جميعِ ألفاظِ القرآنِ حُجَّةٌ لأهلِ البِدَعِ بأنَّ تفاسيرَهم صحيحةٌ حيث لم تَرِدْ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ولا الصحابةِ ولا عن التابعين ولا عن أتباعِ التابعين؟
فالجوابُ: ما ذَكرَه شيخُ الإسلامِ في رَدِّهِ على الغزاليِّ في جواهرِ القرآنِ عندَما قال - وهو يتحدَّثُ عن التفسيرِ الباطنِ -: " إن كنتَ لا تقوى على احتمالِ ما يَقرَعُ سمْعَكَ مِن هذا النَّمطِ ما لم تُسْنِدِ التفسيرَ للصحابةِ فإنَّ التقليدَ غالِبٌ عليكَ " قال شيخُ الإسلامِ: " وأمَّا التفسيرُ الثابتُ عن الصحابةِ والتابعين فذلك إنما قَبِلُوه؛ لأنَّهم قد علِموا أنَّ الصحابةَ بلَّغُوا عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لفظَ القرآنِ ومعانِيَه جميعًا ". فكأنه أرادَ أن يَسُدَّ البابَ على مِثلِ هذه التأويلاتِ الباطِنَةِ.
ويقالُ أيضًا: إنَّ كونَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لم يبيِّنْ معنى لفظٍ معيَّنٍ للصحابةِ، فإنه لا يعني أنه يجوزُ لكُلِّ أحدٍ أن يفسِّرَ القرآنَ على رأْيِه دونَ أن يكونَ له مستَنَدٌ صحيحٌ، فنحن ننظُرُ للمستَنَدِ الذي اعتمده، فإن كان مستَندُه صحيحًا مقبولًا وجاريًا على أصولٍ عِلميَّةٍ فهذا أمرُه محتملٌ، وإن كان على غيرِ ذلك وهو من التفسيرِ الباطلِ فإنه يكونُ مردودًا , لا لكونِه لم يَرِدْ عن الصحابةِ والتابعينَ , ولكن لِعِلَّةٍ في نفسِ القولِ تمنعُه من أن يكونَ صحيحًا، مع أن عدَمَ وُرودِه يَرِدُ عن السَّلفِ قد يُضعِّفُه، ولكن لا يلزمُ منه الردُّ التامُّ له حتى يُنْظَرَ في دليلِه كما سيأتي لاحقًا إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
المسألةُ الثانيةُ التي ذكرَها شيخُ الإسلامِ هي عنايةُ السَّلفِ بتعلُّمِ معاني القرآنِ مع عنايَتِهم بتعلُّمِ ألفاظِه، وأوْرَدَ في ذلك أثَرَ أبي عبدِ الرحمنِ عبدِ اللَّهِ بنِ حبيبٍ السُّلَمِيِّ الذي قال: حدَّثَنا الذين كانوا يُقْرِئونَنَا القرآنَ كعثمانَ بنِ عفَّانَ وعبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ وغيرِهما أنهم كانوا إذا تعلَّمُوا من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عشْرَ آياتٍ لم يجاوِزُوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العِلمِ والعَملِ، قالوا: فتعلَّمْنا القرآنَ والعِلمَ والعملَ جميعًا.
ثم ذَكرَ الشيخُ أنه بسبب ذلك كان أحدُهم ربما بَقِيَ مدةً طويلةً في حفظِ السُّورةِ الواحِدةِ كما وقع لابنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما؛ وذلك لأنَّ المقصودَ عندَهم ليسَ مجرَّدَ حِفظِ الذِّهنِ فقط، إنما المرادُ حِفظُ الذِّهنِ مع تعلُّمِ ما في السُّورِ من العلمِ والعملِ. ولهذا لما حَفِظَ ابنُ عمرَ هذه السورةَ ذبَحَ جَزُورًا احتفالًا بهذا الأمرِ العظيمِ، وبعضُ المعاصرِين يستدلُّ بفعلِ ابنِ عمرَ هذا على شرعيةِ الاحتفالاتِ التي تقيمُها بعضُ المراكزِ الدَّعَويَّةِ أو غيرُها لإنهاءِ دورةٍ أو غيرِها من أعمالِ الخيرِ، حيث يدلُّ فِعلُه على أنَّ هذا العملَ في الجملةِ كان موجودًا عندَ السَّلفِ.
وقضيةُ عنايةِ الصحابةِ بالقرآنِ من القضايا التي تحتاجُ إلى بحثٍ واهتمامٍ، وهي موضوعٌ جيِّدٌ ومُهِمٌّ نتعرفُ من خلالِه على طريقةِ السَّلفِ في تعلُّمِ القرآنِ حروفًا ومعانيَ , وعلى طريقةِ عمَلِهم بالقرآنِ.
وقد استدلَّ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ على أنه لا بدَّ من أن يكونَ الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم قد عَرَفوا التفسيرَ وأخَذُوه عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بثلاثِ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ , وهي قولُه تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وقولُه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرَآنَ} وقولُه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القوْلَ}.
وهذه الآياتُ –وإن كانت نزلَتْ في سياقِ الكفارِ أو المنافقين- فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ المؤمنينَ غيرُ مطالَبِينَ بالتدبُّرِ، بل هم أولى مَن يتدبَّرُ القُرآنَ، لأنهم مخاطَبونَ به، لا يمكنُ فَهْمُ معنى الكلامِ إلا بتدبُّرِه, ومادام أنَّ الصحابةَ قد وَردَ عنهم العِلمُ والعملُ بالقرآنِ فهذا يدلُّ على أنهم قد فَهِموا القرآنَ وتدبَّرُوا معانِيَه.
والتدبـُّرُ على قِسـمينِ:
تدبُّرٌ لفَهْمِ المعنى؛ كما إذا كنتَ تقرأُ سورةً من القرآنِ فمرَّتْ عليك لفظةٌ لا تَعرِفُ معناها، فمِن التدبُّرِ أن تعرفَ معنى ما تقرأُ، فبحثُكَ عن المعنى المرادِ نوعٌ من التدبُّرِ.
تدبُّرُ الاستنباطِ بعدَ فهمِ المعنى المرادِ من الكلامِ، وذلك بتقليبِ الفِكرِ في دَلالاتِه وإشارَتِه وما يُفهمُ منه.
فالتدبُّرُ إذَنْ على مرحلتين؛ مرحلةٍ سابقةٍ ومرحلةٍ لاحقةٍ.
قال: " وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وعَقلُ الكلامِ متضمِّنٌ لفَهمِه " فاللَّهُ أنزلَ القرآنَ عربيًّا لكي يَفهمَه مَن نَزلَ بلُغتِهم، ثم يُبلِّغوا معناه لغيرِهم من الأمَمِ، فكيف يَعقِلُونه ويُبلِّغُونه , وهم لا يَفهمونَ معناه؟
قال: " ومِن المعلومِ أنَّ كلَّ كلامٍ المقصودُ منه فَهْمُ معانِيهِ دونَ مجرَّدِ ألفاظِه، فالقرآنُ أَوْلَى بذلك". وهذا واضحٌ، فلو أنه طُلِبَ منكَ دراسةٌ لشِعرِ فلانٍ من الناسِ، فهل يمكنُ أن تَدْرُسَ الشِّعرَ دون أن تَفْهَمَ معانِيَه؟ فإذا كان هذا في كلامِ البَشرِ فما بالُكَ بكلامِ اللَّهِ سبحانَه وتعالى?
ولهذا قال: " إنَّ العادةَ تمنعُ أن يَقرأَ قومٌ كِتابًا في فَهمِ مسألةٍ من العِلمِ كالطِّبِّ والحسابِ ولا يَسْتَشْرِحوه، فكيفَ بكلامِ اللَّهِ تعالى؟ نحنُ الآنَ نَستشرِحُ كلامَ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى , وهو من كلامِ البشَرِ، فكيف بكلامِ اللَّهِ تعالى؟
إِذَنْ فمَن قرأَ القرآنَ وهو لا يَعرِفُ معناه فينبغي له أن يطْلُبَ معرفةَ هذا المعنى، كما فَعلَ الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم حيث سألُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ عن معاني بعضِ الآياتِ التي أَشْكَلَتْ عليهم.
قال: " ولهذا كان النـزاعُ بينَ الصحابةِ في تفسيرِ القرآنِ قليلاً جدًّا؛ لأنَّهم تلَقَّوُا التفسيرَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، ولهذا لو جَمَعْتَ تفسيرَ الصحابةِ مجرَّدًا ونظَرْتَ في الخلافِ بينهم فإنك ستَجِدُه أقلَّ من الخلافِ بينَ التابعين ومَن جاء بعدَهم.
قال:" وهو إن كان في التابعين أكثرَ منه في الصحابةِ فهو قليلٌ بالنسبةِ لمَن جاءَ بعدَهم، وكُلَّما كان العصرُ أَشْرَفَ كان الاجتماعُ والائتلافُ والعلمُ والبيانُ فيه أكْثَرَ
". هذه قاعدةٌ علميةٌ مُطَّردةٌ ففي عهدِ أبي بكرٍ كان المسلمون أكثرَ إجماعًا وتآلُفًا, ثم في عهدِ عُمرَ، ثم بدأ ذلك يَقِلُّ في عهدِ عثمانَ، ثم قَلَّ في عهدِ عليٍّ، فكلما ابتعدَ عصرُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ ازدادتْ شُقَّةُ الاختلافِ , وظهرتْ خلافاتٌ جديدةٌ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ في خَلْقِه، نسألُ اللَّهَ السلامةَ من هذه الاختلافاتِ والفتنِ).