9 Nov 2008
حاجة الأمة إلى فهم القرآن ماسة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَحَاجَةُ
الأُمَّةِ مَاسَّةٌ إِلَى فَهْمِ القُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللهِ
الْمَتِينُ ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ ، وَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ ،
الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ ،
وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِ ، وَلاَ تَنْقَضِِي عَجَائِبُهُ ،
وَلاَ يَشْبَعُ منْهُ الْعُلَمَاءُ.
مَنْ
قَالَ بِهِ صُدِّقَ ، ومَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ ، ومَنْ حَكَمَ بِهِ
عَدَلَ ، ومَنْ دَعَا إليه هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ومِنْ
تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ ، ومَن ابْتَغَى الهُدَى في
غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ.
قالَ تعالَى : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ
يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) سُورَةُ طه : 123-126 (قَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ
مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 15-16 (الر
* كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 1-2 (وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ
مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ )
وَقَدْ
كَتَبْتُ هَذِهِ المقدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسْبِ تَيْسِيرِ اللهِ
تَعالَى منْ إِمْلاَءِ الفُؤادِ ، وَاللهُ الْهَادِي إِلَى سَبيلِ
الرَّشادِ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)
القارئ: (وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثيرة الترديد ولا تنقضي عجائبه).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هنا
يقول المؤلف- رحمه الله-: إن الناس محتاجون إلي فهم كتاب الله ، وهذا واضح
، فحاجة الناس إلي فهم كتاب الله ظاهرة جداً، فإنهم في حاجة بل في ضرورة
إلي فهم كتاب الله؛ لأنه الكتاب الذي أمروا باتباعه، والإنسان لو يؤمر
باتباع كتاب مؤلف من المؤلفين احتاج إلي معرفته وشرحه فكيف بكتاب الله عز
وجل.
ثم وصف المؤلف القرآن الكريم بعدة أوصاف ، فقال عنه: ((الذي هو حبل الله المتين)) حبل الله لأن الله تعالي هو الذي وضعه، والحبل في الأصل: ما يتوصل به إلي غيره، كالسبب تقريباً؛ ولهذا فسر قوله تعالي: ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ )(الحج: 15)، أي: بحبل ووصف بأنه حبل الله لأنه موصل إلي الله عز وجل.
ووصفه بقوله: ((والذكر الحكيم)) وقد أخذ المؤلف- رحمه الله- هذا الوصف من قول الله تعالي: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:58) ، فهو ذكر، لأنه مذكر، وهو ذكر، لأن فيه الذكري لمن تمسك به ورفع ذكره، كما قال تعالي: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك)(الزخرف: 44) يعني رفعة وشرفاً. والحكيم : معناه المحكم أو المتضمن للحكمة البالغة في أحكامه.
وقوله:((والصراط المستقيم)) الصراط معناه الطريق، والمستقيم معناه المعتدل الذي ليس فيه ميل.
وقوله: (( والذي لا تزيغ به الأهواء))
الزيغ: معناه الميل، ومنه: زاغت الشمس إذا مالت، يعني أن أهواء الناس مهما
عظمت لا يمكن أن تزيغ به، بل إنه باق ثابت مهما سلط الناس عليه من الأهواء
فإنها لا تزيغ به لأنه هدى.
وقوله:(( ولا تلتبس به الألسن)) تلتبس:
أي تختلط ، لأنه بلسان عربي مبين فلا يمكن أن تختلط به الألسن، ولهذا حتى
الإنسان الأعجمي لو قرأه يقرؤه بلسان عربي، ولهذا كان من غير الممكن أن
يترجم القرآن ترجمة حرفية أبداً.
وقوله: (( ولا يخلق من كثرة الترديد)) معني
يخلق: أي يبلى، فهو على جدته، مهما كرره الإنسان فكأنه لم يقرأه من قبل ،
لكن الإنسان إذا كرر أبلغ قصيدة من قصائد العرب- من المعلقات السبع أو
غيرها- أو كرر أبلغ خطبة خطبها الخطباء كما يكرر القرآن لمل وسئم ، لكن من
القرآن ما نقرؤه في الصلاة الواحدة أكثر من مرة ومع ذلك لا نمل، وهذه من
آيات الله عز وجل في هذا القرآن الكريم.
وقوله: (( ولا تنقضي عجائبه))
لا تنقضي عجائبه لمن أعطاه الله تعالي فهماً لكتابه، فإنه يتذوق فيه
المعاني العظيمة الكثيرة، أما المعرض عنه فإنه قد لا يرى فيه عجباً واحداً،
لكننا هنا نصف القرآن من حيث هو قرآن، بقطع النظر عن القارئ).
القارئ: (ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (كل
هذه الأوصاف حق يعرفها المتأمل ، فإن العلماء لا يشبعون منه، وكلما كان
الإنسان بالله أعلم وبشرعه أعلم كان لكتابه أحب، فتجده دائماً يفكر ويتدبر
هذا القرآن ، سواء كان في مجلس العلم، أو وهو يمشي، أو في أي مكان،
فالإنسان لا يشبع منه أبداً.
وكذلك أيضاً: (( من قال به صدق)) لأنه قال قولاً هو أصدق الأقوال،فإذا قال قائل: إن الكافر في نار جهنم فقد صدق؛ لأنه قال بماء جاء به القرآن.
وقوله : (( ومن عمل به أجر)) يعني أثيب على عمله.
وقوله: (( ومن حكم به عدل))
من حكم به عدل سواء كان الحكم فصلاً بين الناس ،أو كان هذا الحكم حكماً
مطلقاً فمن قال: إن الميتة حرام، فقد عدل ، ومن قال: إنه يجب العدل بين
الزوجات مثلاً فقد عدل؛ لأن هذا الحكم في القرآن، ومن قال: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(البقرة:194) ،فقد عدل.
كذلك يقول: (( ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم))،
يعني هداه الله، فالإنسان إذا دعا إلى القرآن ، فقد هدي إلي صراط مستقيم،
أما إذا دعا إلي الهوي، وحرف القرآن من أجل هواه فإنه يضل، ولهذا قال: (( ومن ابتغي الهدى في غيره أضله الله)).
(( ومن تركه من جبار قصمه الله))ومعني
قصمه: في الأصل يغني قطع ظهره، ولكن لا يرد علينا أننا نجد من الجبابرة
الآن من ترك القرآن،لأننا نقول: إن القصم قد يكون في الدنيا وقد يكون في
الآخرة، فهذا إن فاته في الدنيا لم يفته في الآخرة).
القارئ: (قال تعالى: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طـه:123-126) ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (قوله: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) هذه الجملة جملة شرطية، لأن أصلها إن ما، وما زائدة للتوكيد، وفعل الشرط: يأتينكم ، وجواب الشرط جملة: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى) وهذه الجملة أيضاً جملة شرطية ، فالجملة الشرطية الثانية- من فعل الشرط وجوابه- جواب للشرط الأول.
وقوله تعالي: ( فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)
أي: لا يضل في علمه ، ولا يشقي في عمله ، وقيل: لا يضل في الدنيا ولا يشقي
في الآخرة ، والمعنيان متلازمان، لكن الغالب أن الضلال في مقابلة العلم
والهدي، وأن الشقاء في مقابلة السعادة.
وقوله تعالي: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) قيل : إن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
وقيل: إن المراد بالمعيشة الضن معيشته في الدنيا، وأنه وإن كان في سرور ظاهر، فإن قلبه في ضيق وضنك، كما قال الله تعالى: (فَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(الأنعام:125) وكما قال تعالى: .(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )(النحل:97) ،فإن هذا يدل على أن من ليس كذلك فحياته غير طيبة.
وقوله تعالي:( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وذلك حساً ومعني، ولهذا يقول: ( رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)يعني تركتها ولم تعمل بها، (وَكَذَلِكَ الْيَوْم تُنْسَى) يعني تترك.
والشاهد
أن هذا فيه دليل على أن التمسك بهذا القرآن سبب للسعادة في الدنيا
والآخرة، وأن المتمسك به لا يضل ولا يشقى، وأن الإعراض عنه سبب للشقاء في
الدنيا والآخرة).
القارئ: (وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(15) (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (علم من هذا القرآن موحى به، وأنه سبب الهداية بإذن الله، وأن المهتدي به من اتبع رضوان الله،كما قال تعالي: ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: م2)وقال تعالي: (يَايُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57).
ثم يقول: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(المائدة: 16 ) وسبل السلام مفعول ثان ليهدي ، لأن((يهدي)) فعل ينصب مفعولين؛ الأول: من اتبع، والثاني: سبل السلام.
وفي هذه الآية قال تعالي: ((يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) مع أن سبيل الله واحد كما قال الله تعالي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(الأنعام:
153) والجمع بين الآيتين أن يقال: إن سبيل الحق واحد، لكن له فروع وشعب،
من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وجهاد، وبر، وصلة وما أشبه ذلك ، فهذه سبل
لكنها تجتمع كلها في سبيل واحد، وأيضاً لا يمكن أن تطلق سبل ويراد بها
الإسلام، وإنما تضاف كما في قوله: (سُبُلَ السَّلامِ) فإذا كانت كلها مؤدية
إلي السلام فهي الإسلام.
وقوله عز وجل: ( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه)
أي : المعنوية ؛ لأن القرآن هدايته معنوية، فيخرجهم من الظلمات أي: ظلمات
الجهل، وظلمات القصد ، وظلمات الجهل ألا يكون عند الإنسان علم، وظلمات
القصد أن يكون عنده علم لكن لا يريد الحق ولا يؤمن به، إذاً فالنور نور
العلم ونور العمل.
وقوله: ( بِإِذْنِه) في الآية:(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) قد يقول قائل: كيف قال الله تعالى يهدي به بإذنه مع أن الله تعالى لا يهدي إلا بعد أن يريد؟ فيقال: إن قوله: ( بِإِذْنِه) متعلق بقوله : ((مَنِ اتَّبَعَ )) يعني من اتبع رضوانه بإذنه؛ لأن الإنسان لا يستقل بعمله ولا رأيه، فهو لا يفعل إلا بإذن الله.
وقوله تعالي: ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، هذا من باب عطف الصفة، لأن قوله (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) هو معني قوله تعالي : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلا
أن تفسر الهداية الأولي بهداية التوفيق،والثانية بهداية الدلالة ، ولهذا
عديت الثانية بإلي وعديت الأولي بنفسها، ويكون المعني: أن من اهتدي
بالإسلام زاده الله تعالي علماً، كما في قوله تعالي: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً)(محمد: 17) ).
القارئ: ( وقال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )(إبراهيم: 1-2) ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذا
كالأول تقريباً لكن فيه فائدة ، وهي صحة إضافة الشيء إلي سببه المعلوم
لقوله: لِتُخْرِجَ يعني أنت، مع أن المخرج حقيقة هو الله، ولهذا قيده
بقوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ، حتى لا يظن أن
السبب مستقل ، فإضافة الشي إلي سببه المعلوم أمر جائز ، ولا أحد ينكره، فقد
جاءت به السنة، وجاء به القرآن إذا كان السبب معلوماً، إما بالشرع وإما
بالحس والواقع، ولكن هذا السبب يجب إذا اعتقدت أنه يحصل به الشي فيجب أن
تعلم أن هذا السبب ليس مؤثراً بنفسه، بل بإذن الله الذي جعله سبباً، ولهذا
قال هنا: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) .
وقوله : (الْحَمِيدِ)
بوزن الفعيل، وهل هو بمعني فاعل أو بمعني مفعول أو بمعناهما؟ الجواب أنه
بمعناهما،فهو محمود سبحانه وتعالى على أفعاله وصفاته، وهو حامد لعباده
الذين يستحقون الحمد والثناء.
وقوله: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأرْضِ ) لفظ الجلالة هنا بدل من العزيز).
القارئ: (وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ (52) مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (الشورى:52-53) ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (قال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) ،(رُوحاً )
أي القرآن، وسماه الله تعالي روحاً، لأن به الحياة المعنوية، وإن شئت فقل
الحقيقية أيضاً، لأن من اهتدي به فإن له الحياة الكاملة في الدنيا وفي
الآخرة.
وقوله (رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ) يعني مما نأمر به ونوحي به، وبهذا استدللنا على أن القرآن غير مخلوق، من قوله (ًمِنْ أَمْرِنَا) ووجه ذلك أن الله قال في آية أخري : (ِأَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) فجعل الأمر قسيماً للخلق، والقرآن من الأمر لا من الخلق، فتبين بهذا أن القرآن غير مخلوق.
وقوله: ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ )
فالفعل تدري ينصب مفعولين علقت بما الاستفهامية ، وما: استفهام مبتدأ،
والكتاب خبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب سد مسد مفعولي تدري ؛
لأن الرسول صلي الله عليه وسلم ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن
يوحي إليه.
وقوله: ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ ) يعني: صيرنا هذا الروح الذي أوحينا إليك نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وكلمة ( مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)
عامة، ولا ندري من الذي يشاء الله أن يهديه بالقرآن، لكن إذا رجعنا إلي
الآية التي قبلها صار الذي يهديه به الله من اتبع رضوانه من عباده.
وقوله :( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، قال هنا (نَهْدِي بِهِ ) وفي نفس الآية:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) ..لكن بين الهدايتين فرق، ( نَهْدِي بِهِ) هداية توفيق وهداية ولابة، ولهذا عديت بنفسها (تهدي به من) ، وأما ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهي هداية دلالة، فالرسول صلي الله عليه وسلم يهدي لله ، ولا يهدي من، قال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت)(القصص: من الآية56) ، لكن ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهو عليه الصلاة السلام يدل الناس، لكن ليس بيده هداية التوفيق.
يقول تعالي: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض) هنا أضيف الصراط إلي الله عز وجل وقد أضيف في سورة الفاتحة إلي غير الله، فقال تعالي(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولا تعارض بين الإضافتين ، فإن إضافته إلي الله باعتبار أنه هو الذي وضعه لعباده، وأنه موصل إليه، وإضافته إلي الناس في قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) باعتبار أنهم أهله وسالكوه، فالإضافة مختلفة، فلهذا صح أن تضاف إلي هذا تارة وإلي هذا تارة.
وقوله:(أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)
الأمور هنا أي الشؤون ، فكل الأمور الدنيوية والأخروية ، الشرعية
والكونية، كلها تصير إلي الله سبحانه وتعالي، ولهذا لا مرجع للخلق إلا ربهم
سبحانه وتعالي، في جميع أحوالهم وشؤونهم الدينية والدنيوية ، كما قال
تعالي: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشوري:10) وكذلك الأمور الكونية (قُلْ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (88)(سَيَقُولُونَ لِلَّه)(المؤمنون: من الآية88-89) .
وتصدير الجملة بألا في قوله تعالي: ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) للتنبيه الدال على الأهمية، وتقديم المتعلق يفيد الحصر، يعني: ألا إلي الله لا إلي غيره).
القارئ: (وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يقول المؤلف: (( وقد كتبت هذه المقدمة))، والمقدمة يجوز فيها وجهان: المقدمة
والمقدمة فالمقدمة باعتبار أن الكتاب قدمها بين يدي الكاتب، والمقدمة باعتبار أنها تقدمه للكتاب ، كأنها تقدم الكتاب).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (ت: 1430هـ): ( (حاجةُ الأمَّةِ ماسَّةٌ إلى فَهْمِ القرآنِ الذي هوَ حَبْلُ اللهِ المتينُ، والذكْرُ الحكيمُ، والصراطُ المستقيمُ).
هذا استنباطٌ مِنْ حديثِ عَلِيٍّ الذي في سُنَنِ التِّرمذيِّ، وهوحديث ٌِ
طويلٌ رواهُ الحارثُ الأَعْوَرُ عنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سُئِلَ: مَا الْمُعْتَمَدُ؟ فذَكَرَ
هذهِ الصفاتِ في القرآنِ فقالَ: ((عَلَيْكُمْ
بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ،
وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لا تَزِيغُ بِهِ
الأَهْوَاءُ، وَلا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ
كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَشْبَعُ مِنْهُ
الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ
حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى
الْهُدَى مِنْ غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ)). هذهِ مِنْ صفاتِ
القرآنِ، والحديثُ طويلٌ مشهورٌ، ولكِنَّهُ ضعيفٌ؛ لضَعْفِ الحارثِ
الأعورِ؛ فإنَّهُ كَذَّابٌ، كما ذَكَرَ ذلكَ بعضُ الْمُفَسِّرِينَ.
الحارثُ الأعورُ يُقالُ لهُ: أبو عبدِ اللهِ، تِلميذٌ لعَلِيٍّ، ومعَ ذلكَ
فقدْ ذَكَرُوا أنَّهُ كَذَّابٌ. روى مُسلِمٌ في مُقَدِّمَةِ (صحيحِهِ)، عن
الشَّعْبِيِّ قالَ: (حَدَّثَنِي الحارثُ الأعورُ، وكانَ كذَّاباً).
واشْتُهِرَ أيضاً كَذِبُهُ في كثيرٍ مِن الأحاديثِ، ومعَ ذلكَ فَلَمَّا
كانَ تِلميذاً لعَلِيٍّ فإنَّ الرافضةَ يُقَدِّسُونَهُ ويُعَظِّمُونَهُ،
حتَّى أَلَّفَ بعضُ المُعَاصِرِينَ تأليفاً في تَرجمتِهِ والردِّ على
الذينَ ضَعَّفُوهُ، ولكنَّ الجمهورَ على أنَّهُ ضَعيفٌ.
وتحقيقُ أحمدَ شاكرٍ (للمُسْنَدِ) لَمَّا جاءَ إلى تَرجمتِهِ في أَوَّلِ
مسند عَلِيٍّ ذكر أنَّ فيهِ كلاماً كثيراً، مِنْ توثيقٍ وتضعيفٍ قال:
(ونَستخيرُ اللهَ فيه، ونرجح قول من ضعفوه)
ثمَّ أَخَذَ يُضَعِّفُ كلَّ حديثٍ يَرْوِيهِ الحارثُ عنْ عَلِيٍّ.
وإما هذهِ الصفاتِ الواردة في الحديث عن القرآن فهي صحيحةٌ، مُنْطَبِقَةٌ على القرآنِ.
فإنَّهُ حَبْلُ اللهِ في قولِهِ تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً}، فُسِّرَ بأنَّهُ القرآنُ.
وهوَ الذِّكْرُ الحكيمُ كما في قولِهِ تعالى: {مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}.
وهوَ الصراطُ المستقيمُ في قولِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}، إلى آخِرِ ما ذَكَرَ المؤلِّفُ ولم يَجْزِمْ بأنَّهُ حديثٌ؛ لأنَّهُ يَعْرِفُ ضَعْفَهُ.
اسْتَدَلَّ على هذهِ الصفاتِ بهذهِ الآياتِ، منها آياتُ ، قولُ اللهِ تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}،
لا شكَّ أنَّ الْهُدَى هنا هوَ الكتابُ والسُّنَّةُ الذي جاءَ بهِ النبيُّ
محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مَن اتَّبَعَهُ فلا يَضِلُّ ولا
يَشْقَى.
والاتِّباعُ يُرادُ بهِ: التَّمَسُّكُ بهِ.
وقال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}.
ففُسِّرَ الذكْرُ ها هنا بأنَّهُ:
- ذِكْرُ اللهِ تعالى باللسانِ وبالقلبِ وبالجوارحِ.
- وفّسَّر بأنَّهُ: القرآنُ.
لأنَّ اللهَ تعالى سَمَّاهُ ذِكْراً في آياتٍ كثيرةٍ. كقولِهِ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، يعني: القرآنَ.
ولأنَّ فيهِ تَذكيرَ الناسِ كقولِهِ تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ}.
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}، يعني: ضَيِّقَةً، ولوْ كانَ في الدُّنيا في سَعَةِ عَيْشٍ. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
قيلَ: إنَّهُ عَمًى حقيقيٌّ.
وقيل: أَعْمَى عنْ حُجَّتِهِ.
ولكنَّ قولَهُ: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً}، يَدُلُّ على أنَّهُ العَمَى الحقيقيُّ الذي هوَ طَمْسُ العينَيْنِ، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}، يعني: القرآنَ، أَعْرَضْتَ عنها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، نظيره قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}.
ثمَّ ذَكَرَ الآياتِ مِنْ سورةِ المائدةِ:، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، سَمَّاهُ نُوراً يُستضاءُ بهِ، ومُبِيناً؛ أيْ: بَيِّناً واضحَ الدَّلالة، {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}. السبُلُ: الطرُقُ السَّوِيَّةُ التي مَنْ سارَ عليها نَجا ، {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}، يعني: مَنْ قَصَدَ رِضَا اللهِ تعالى هَداهُ اللهُ، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}. الظلماتُ: يعني: الْجَهالاتُ والكُفْرِيَّاتُ، والنورُ: هوَ الإسلامُ، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، يعني: طريقٍ سَوِيٍّ.
ثمَّ ذَكَرَ الآياتِ مِنْ أَوَّلِ سورةِ إبراهيمَ، {الر. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، هذا الكتابُ هوَ القرآنُ، يخْرِجُ الرسولُ بهِ الناسَ مِن الظلُماتِ إلى النورِ {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}. الصراطُ هنا هوَ الطريقُ السَّوِيُّ، وأَضَافَهُ إلى اللهِ تعالى {العزيز الْحَمِيدِ}.
وكذلكَ الآياتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}،
وهوَ القرآنُ. والرُّوحُ: ما تَحْصُلُ بهِ الحياةُ الحقيقيَّةُ، وقدْ
يُطْلَقُ على ما تَحْصُلُ بهِ الحياةُ المعنويَّةُ، فالحياةُ الحقيقيَّةُ
هيَ الحركةُ، فمَثَلاً كُلُّ حيٍّ مُتَحَرِّكٍ إذا خَرَجَتْ رُوحُهُ
فإنَّهُ يَبْقَى جَسَداً لا حركةَ فيهِ، يُقَالُ: خَرَجَتْ رُوحُهُ ،
يَعْنِي: ماتَ، وإنْ كانَتْ قدْ تَخْرُجُ ثمَّ تَعودُ كما في النومِ أوْ
نَحْوِه،ولكنْ ها هنا الرُّوحُ رُوحٌ مَعْنَوِيَّةٌ، تَحْصُلُ بها حياةُ
القلوبِ. حياةُ القلوبِ هي حياةٌ مَعنويَّةٌ، بمعنى انتباهِ المسلِمِ
ومَعرفتِهِ لِمَا خُلِقَ لهُ، ومعرفته ما يَنفعُهُ وما يَضُرُّهُ، ويكونُ
ذلكَ بتَعَلُّمِهِ لهذا القرآنِ {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}، يعني: بأَمْرِنَا، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ}،أي: قبلَ أنْ يُنَزَّلَ إليهِ ما كانَ يَدْرِي ما الكتابُ ولا الإيمانُ، حتَّى أَنْزَلَ اللهُ تعالى عليهِ هذا الوحيَ.
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً}، فسَمَّاهُ رُوحاً وسَمَّاهُ نُوراً، {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}. المشيئةُ هنا هيَ الإرادة القَدَرِيَّةُ،أي: مَنْ قَدَّرَ اللهُ تعالى هِدَايتَهُ، فإنَّهُ يَهْتَدِي بهذا النورِ، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، الهدايَةُ هنا هدايَةُ الدِّلالةِ، أيْ: لَتَدُلُّ مَن اتَّبَعَكَ إلى {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ}.
والصراطُ هنا: الطريقُ الذي يُسارُ عليهِ، ولكنَّ السيرَ عليهِ إنَّما هوَ
بالأعمالِ وليسَ صراطاً يُسَارُ عليهِ بالأقدامِ ولا بالأقوالِ فقطْ، بل
بالتطبيقِ العمَلِيِّ.
{صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} مُلْكاً وخَلْقاً وعَبيداً {أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}.
ذَكَرَ أنَّهُ كَتَبَ (هذهِ المقدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً)، ولوْ تَوَسَّعَ فيها لقَدَرَ على أنْ يَجعلَها مُجَلَّداً أوْ أكثرَ (بحَسَبِ تيسيرِ اللهِ تعالى).
(مِنْ إِمْلاءِ الْفُؤَادِ)، يعني: أنَّهُ
أَمْلاها مِنْ قَلْبِهِ، ولمْ يَحْتَجْ فيها إلى مُراجعَةِ كُتُبٍ، ولا إلى
أَخْذٍ مِنْ نُقولٍ، مِنْ تَيسيرِ اللهِ تعالى، واللهُ الهادي إلى سبيلِ
الرشادِ).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)
القارئ: (وحاجة
الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو: (حبل الله المتين، والذكر الحكيم
والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق
عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق،
ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن
تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله) قال تعالى: {فإما
يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن
له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربِ لم حشرتني أعمى وقد كنت
بصيراً * قال كذلك آتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.
وقال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي
به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه
ويهديهم إلى صراط مستقيم}.
وقال تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس
من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما
في السموات وما في الأرض }
وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت
تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في
الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}.
وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة، بحسب تيسير الله تعالى، من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذه
الجمل تضمنت في أولها وصف القرآن بأنواع من الأوصاف معروفة عند العلماء
بأنها في حديث علي بن أبي طالب وهذه الأوصاف التي سمعتم رويت عن علي موقوفة
ومرفوعة في وصف القرآن بأنه: (حبل الله المتين وصراطه
القويم من حكم به عدل ومن دعا إليه هدي... إلخ من تركه من جبار قصمه الله
ومن ابتغى العزة في غيره أذلـه الله... إلخ) والصواب أنها موقوفة
على علي ولا يصح رفعها كما صحح ذلك الحفاظ كابن كثير وشيخ الإسلام وجماعة.
القرآن وصف بأنه نور، وذلك لأن الله – جل وعلا – هو النور من أسماء الله –
جل وعلا – النور وكلامه نور، ودينه نور ولا شك أن النور إنما يكون مع حامله
بقدر استفادته منه ولهذا كان مهماً أن نفهم القرآن حتى يعظم النور فليس كل
حافظ للقرآن معه ذلك النور، بل العالم بالقرآن المهتدي به الوقاف عند
حدوده، المحل لحلاله، المحرم لحرامه معه من النور في قلبه وفي بصيرته بقدر
ما حمل من النور من نور القرآن، ونور القرآن عظيم جداً {قد جاءكم من الله نور}
وهو النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم؛ لأنه يهدي إلى النور وهو الإسلام
وجاء بالنور وهو القرآن، فالله جل وعلا نور وكتابه نور ورسوله نور والإسلام
دينه نور: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}
فالنور هنا هو الإسلام، فإذا كان كذلك وكان الكتاب هو النور، لاشك أنه
تعظم الحاجة إلى العناية إلى تفهيم القرآن وبتفسير القرآن، ومعرفة معاني
القرآن حتى إذا تلي القرآن علم العبد معانيه لهذا من جهل الناس بالقرآن،
وعدم معرفتهم به أنهم ربما سكبت عيونهم الدمعة مراتٍ تلو مرات في غير
القرآن، وقلما يبكون عند تلاوة القرآن، والله جل وعلا وصف الذين يتلون
الكتاب حق التلاوة الذين يعلمون معاني القرآن بأنهم إذا تليت عليهم آيات
الرحمن خروا سجداً وبكياً. القرآن له سلطان على قلوب محبيه لاشك، لكن هذا
إنما يكون عند من له فهم في القرآن له معرفة له علم به وبقدر ما عنده وما
يفتح الله -جل وعلا- عليه من أمور الإيمان يوفق إلى ذلك، فسبيل النور هذا
الذي وصف في هذه الآيات التي استدل بها شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- إنما
يكون بفهم القرآن وهذه المقدمة منه لتبين لك أن الاهتمام بتفسير القرآن من
أهم المهمات لفهم معاني القرآن، ولا يكون ذلك إلا بفهم أصول التفسير فإن
معرفة معاني القرآن مبنية على مقدمات هي من أصول التفسير في كثير منها.
فأصول التفسيـر التي يأتي بيانها يحتاج إليها المتلقي للتفسير والمفسر،
نختم بهذا ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وأما الأسئلة التي
جاءت فنجمعها مرة – إن شاء الله – نجيب عليها جميعاً).
شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار
قال الشيخ مساعد بن سليمان الطيار: (قال المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وحَاجةُ الأُمَّةِ ماسَّةٌ إلى فَهْمِ القُرآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ
اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ،
الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ،
وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ، وَلاَ تَنْقَضِِي
عَجَائِبُهُ) .
وهذا لا شكَّ فيه وإنَّ
الأُمَّةَ بحاجةٍ إلى أن تَفْهَمَ القرآنَ في الجملةِ، وإن كان حُكمُ
تعلُّمِ تفسيرِ القرآنِ بالنسبةِ للفردِ هو أنه لا يَجبُ عليه منه إلا ما
لا يَتِمُّ دينُه إلا به.
ولكنه بالنسبةِ لعامَّةِ
الأُمةِ فإنَّ تعلُّمَ التفسيرِ يُعتبرُ من فروضِ الكفاياتِ التي لا يجوزُ
أن تخْلُوَ الأُمةُ من قائمٍ بها.
ثم ذَكرَ المصنِّفُ بعدَ
ذلك صفاتِ القرآنِ كما وردتْ في الأثَرِ الواردِ عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عنه،وفي بعضِ الآياتِ التي ذَكرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فيها أوصافَ
القرآنِ.
وقولُه: (من إملاءِ الفؤادِ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى سَبيلِ الرَّشادِ).
يستفادُ منه أمرانِ:
الأولُ:
أنَّ المصنِّفَ أمْلَى هذه المقدمةَ من حِفظِه، ولم تكنْ لديه المراجعُ
ليَرجِعَ إليها، وهذا يدلُّ على قوَّةِ حِفظِه وسَعَةِ اطِّلاعِه.
الثاني:
أنَّ المصنِّفَ لم يُراجِعْها، ولم تُقرأْ عليه، فإذا جاء فيها خطأٌ أو
سَبقُ قلَمٍ فإنَّ ذلك راجِعٌ إلى كونِها إملاءَ الفؤادِ. والإملاءُ لا
يكادُ يَسلَمُ من الخطأِ كما هو معروفٌ ومُجرَّبٌ، فإنَّ الإنسانَ إذا كتب
شيئًا ثم راجَعه فإنه يزيدُ فيه وينقُصُ ويُبدِّلُ ويُصحِّحُ ما وقع فيه من
خطأٍ بسببِ سبقِ الخاطرِ أو القلمِ).