11 Nov 2008
السمع والطاعة لولاة الأمور من المسلمين أبراراً كانوا أو فجاراً
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ ، وَالْجِهَادِ ، وَالْجُمَعِ ، وَالأَعْيَاد ِمَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويَروْنَ إقامةَ الحجّ والجهاد، والجُمَعِ والأعياد مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فُجّاراً([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) وذلك لأن غرضهم الوحيد تحصيل المصالح وتكملتها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير، وترغيبه فيه قولاً وفعلاً، فيشاركون الولاة الظلمة في الخير، ويفارقونهم في الشرّ، ويحرصون على الاتفاق، وينهون عن الافتراق، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: (ثمَّ هُمْ معَ هذهِِ الأُصولِ …)
إلخ. جَمَعَ المُؤَلِّفُ في هذا الفصلِ جمَاعَ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ،
التَّي يَتَخَلَّقُ بهَا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ من الأمْرِ
بالمَعْرُوفِ، وهوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ بالشَّرْعِ والَعَقْلِ، والنَّهيِ
عنِ المُنْكَرِ، وهوَ كلُّ قبيحٍ عَقْلاً وشَرْعًا، على حَسَبِ ما تُوجبُهُ
الشَّرِيعَةُ مِنْ تلكَ الفريضَةِ؛ كمَا يُفْهَمُ مِنْ قولِهِ عليهِ
السَّلامُ: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ؛ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ )).
ومِنْ شُهُودِ الجُمَعِ والجَمَاعَاتِ والحَجِّ والجِهَادِ معَ الأُمَراءِ أيًّا كانُوا؛ لقولِهِ عليهِ السَّلام: (( صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ )).
ومِنَ النُّصْحِ لكلِّ مُسْلِمٍ؛ لقولِهِِ عليهِ السَّلامُ: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )).
ومِنْ فَهْمٍ صَحِيحٍ لِمَا تُوجِبُهُ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ مِنْ
تَعَاطُفٍ وتَوَادٍّ وتَنَاصُرٍ؛ كمَا في هذهِِ الأحاديثِ التَّي يُشَبِّهُ
فيهَا الرَّسُولُ المؤمنينَ بِالبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ المُتَمَاسِكِ
اللَّبِنَاتِ، أوْ بِالْجَسَدِ الْمُتَرَابِطِ الأعْضَاءِ مِنْ دعوةٍ إلى
الخيرِ، وإلى مكارمِ الأخلاقِ، فَهُمْ يَدْعُونَ إلى الصَّبْرِ على
المَصَائِبِ، والشَّكْرِ على النَّعْمَاءِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ
وقَدَرِهِ … إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا ذَكَرَهُ.
(الشرح مكرر مع الجزئية السابقة)).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (قولُه (ويَرَوْنَ إقامةَ الحَجِّ والجُمَعِ والأعيادِ مع الأمراءِ أَبْراراً كانوا أو فُجَّاراً) أي ويَعتقِدُ أهلُ السُّنَّةِ وُجوبَ إقامةِ هَذِهِ الشَّعائِرِ مع وُلاةِ أُمورِ المُسلِمِينَ (أبراراً كانوا أو فُجَّاراً) أي سواءٌ كانوا صالِحينَ مُستقِيمِينَ أو فُسَّاقاً فِسْقاً لا يُخْرِجُهمْ عن المِلَّةِ.
وذَلِكَ لأنَّ غَرَضَ المُسلِمِينَ مِن ذَلِكَ هُوَ جَمْعُ الكلمةِ
والابتعادُ عن الفُرقةِ والخلافِ؛ لأنَّ الوالِيَ الفاسِقَ لا يَنعزِلُ
بفِسقِه، ولا يَجوزُ الخروجُ عليه لِما يَترتَّبُ على ذَلِكَ مِن ضياعِ
الحقوقِ وإراقةِ الدِّماءِ. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ: ولَعلَّه لا يَكادُ يُعرَفُ طائفةٌ خرجَتْ على ذِي سلطانٍ إلاَّ
وكان في خُروجِها مِن الفسادِ أَكثرُ مِن الذي في إزالَتِه. اهـ. وأهلُ
السُّنَّةِ يُخالِفون في ذَلِكَ أهلَ البِدعِ مِن الخوارجِ والمعتزِلةِ
والشِّيعةِ الذين يَرَوْنَ قِتالَ الوُلاةِ والخروجَ عليهم إذا فعلوا ما
هُوَ ظُلْمٌ أو ظَنُّوه ظُلْماً، ويَرَوْنَ ذَلِكَ مِن بابِ الأمرِ
بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَرِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَيَرَوْنَ إِقامَةَ الحَجِّ والجِهَادِ والجُمَعِ والأعْيادِ معَ الأمَراءِ أَبْراراً كانُوا أَو فُجَّاراً. (1)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (ويَرَوْنَ)
أي: ويَعتقِدون، مَن رآه وارْتآه إذا اعْتقَدَه، أي مِن أصولِ أهلِ
السُّنَّةِ والجَماعَةِ أَنَّ الصَّلاةَ التي تُقيمُها ولاةُ الأمورِ
تُصلَّى خَلفَهم على أيِّ حالةٍ كانوا، كما يُحَجُّ معهم ويُغْزَى، ولا
يَرَوْنَ الخروجَ عليهم وقتالَهم بالسَّيفِ إذا كان فيهم ظُلْمٌ، خِلافا
للمُبتدِعَةِ مِن الخوارجِ والمعتزِلةِ والرَّافِضةِ الذين يَرَوْنَ جَوازَ
الخُروجِ على وُلاةِ الأمورِ إذا فَعَلُوا ما هُوَ ظُلمٌ أو ما ظَنُّوه هم
ظُلْما، ويَرَوْن ذَلِكَ مِن بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن
المنكَرِ، وقولُهم باطلٌ تردُّهُ أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ – قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا))، قالوا: فما تأمُرُنا؟ قال: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)).
وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((مَنْ
أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، ومَنْ عَصانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ،
ومَن يُطِعِ الأميرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ
عَصَانِي)).
وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا ((الجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً)) رواه أبو داودَ.
وفي الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ))،
وعن أبي ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: ((إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِياً مُجْدَعَ الأَطْرَافِ))،
وروى مسلمٌ في "صحيحِه" عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَنْ
خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ
حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةَ
الْجَاهِلِيَّةِ))،
وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) رواه مسلمٌ،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ
رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنْ
خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْراً مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وجوبِ طاعةِ ولاةِ الأمورِ،
فإذا
أَمَرُوا بطاعةِ اللَّهِ وَجَبَتْ طاعَتُهم، وإذا أَمَرُوا بمعصيةِ اللَّهِ
فَلا سَمْعَ ولا طَاعةَ، كما في الصَّحيحِ أنَّه قال: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ))، وَصَحَّ عنه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على الحثِّ على السَّمْعِ والطَّاعةِ لِولاةِ الأُمورِ إذا أَمَرُوا بطاعةِ اللَّهِ،
فإنَّ في
طاعةِ ولاةِ الأمورِ مِن المنافعِ والمصالِحِ ما لا يُحصى، ففيها سعادةُ
الدِّينِ وانتظامُ مصالِحِ العِبادِ في معاشِهم، ويَستعِينون بها على
إظهارِ دِينهِم وطاعةِ رَبِّهم، كما قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ
عنه-: إنَّ النَّاسَ لا يُصلِحُهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجِرٌ، إنْ كان فاجِراً عَبَدَ المؤمنُ رَبَّه، وحُمِلَ الفاجِرُ فيها إلى أجَلِه.
وقال الحسَنُ في الأُمراءِ: هم يَلُونَ مِن أُمُورِنا
خَمسا: الجمُعةُ والجماعةُ والعِيدُ والثُّغورُ والحُدودُ، واللَّهِ ما
يَستقِيمُ الدِّينُ إلا بِهم، وإنْ جَارُوا أو ظَلَمُوا، واللَّهِ لَمَا
يُصلِحُ اللَّهُ بهم أكثرَ مما يُفسِدون،
ورُوِيَ: ((سِتُّونَ سنةً مع إمامٍ جائرٍ خيرٌ من ليلةٍ واحدةٍ بلا إمامٍ)).
ورُوِيَ أنَّ عمرَو بنَ العاصِ أوْصى ابنَه فقال: إمامٌ عادلٌ خيرٌ مِن مَطرٍ وابلٍ، وأَسدٌ خَطومٌ خيرٌ مِن إمامٍ ظَلومٍ، وإمامٌ ظَلومٌ غَشومٌ خيرٌ مِن فتنةٍ تَدومٌ،
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ:
إنَّ الخلافةَ حبلُ اللَّهِ فاعتصِمُوا ....... مِنه بعُروتِه الوُثْقى لمَن كَانَ
كم يَدفعُ اللَّهُ بالسُّلطانِ مُعضِلَةً ....... عن دِينِنا رَحمةً مِنه ودُنيانَا
لولا الخلافةُ لم تُؤمَنْ لنا سُبُلٌ ....... وكان أَضْعفُنا نَهْباً لأَقْوانَا
وأجمعَ العلماءُ على أنَّه يَجِبُ على المسلِمِينَ نَصْبُ خليفةٍ ووجوبُهُ في الشَّرعِ، وأدلَّةُ ذَلِكَ كثيرةٌ، ونَصْبُه يكونُ بأحدِ أمورٍ:
إمَّا باستخلافِ مَن قَبلَه له، كما فَعلَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في استخلافِه عُمرَ -رضي اللَّهُ عنهما-، أو باتِّفاقِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ على عَقدِها لصالِحٍ، أو بِجَعْلِها شورى بين جماعةٍ، كما فَعلَ عمرُ -رضي اللَّهُ عنه-، أو قَهرَ النَّاسَ حتى دَانوا له ودَعوه،
أمَّا ما قال أحمدُ في روايةِ عبدوسِ بنِ مالكٍ العطَّارِ: ومَن غَلبَ
عليهم بالسَّيفِ حتى صارَ خليفةً، وسُمِّيَ أميرَ المؤمنين فلا يَحِلُّ
لأحدٍ يُؤمِنُ باللَّهِ يَبِيتُ ولا يَراهُ إمامًا بَراًّ كان أو فاجِراً،
وقد أُفْرِدَتْ أحكامُ الإمامةِ بمصنَّفاتٍ فارِجعْ إليها.
قولُه: (أبراراً كانوا أو فُجَّارا) البِرُّ
بكَسْرِ الباءِ أصلُه: التَّوسُّعُ في فِعلِ الخيرِ، وهُوَ اسمُ جَمْعٍ
للخيراتِ كُلِّها، ويُطْلَقُ على العَملِ الصَّالِحِ الدَّائِمِ، والفُجورُ
يُطلَقُ على المَيْلِ إلى الفسادِ والانبعاثِ في المعاصي، وهُوَ اسمٌ
جامعٌ للشَّرِّ،
فتَجبُ طاعةُ ولاةِ الأمورِ في الطَّاعةِ، وتَحرُمُ مخالَفَتُهم والخروجُ
عليهم، سواءً كانوا أبراراً أو فُجَّاراً، فلا يَنعزِلُ الإمامُ بالفِسقِ
والظُّلمِ وتَعطيلِ الحقوقِ، ولا يُخلَعُ، ولا يَجُوزُ الخُروجُ عليه بل
يَجِبُ وَعْظُه، وَذَلِكَ لما يَترتَّبُ على ذَلِكَ مِن الفِتنِ وإراقةِ
الدِّماءِ وفسادِ ذاتِ البَيْنِ، فتكونُ المفسدَةُ في عَزلِه أكثرَ مِنها
في بقائِه، والشَّريعةُ جاءتْ بِجَلْبِ المصالِحِ ودَفعِ المضارِّ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولعلَّه لا يَكادُ
يُعرفُ طائفةٌ خَرَجَتْ على ذي سُلطانٍ إلاَّ وكان في خُروجِها مِن الفسادِ
أكثرُ مِن الذي في إزالَتِه،
وقال أيضًا في أثناءِ كلامٍ له: ونَهَى الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- عن قِتالِ أئمَّةِ الجَوْرِ، وأَمَرَ بالصَّبْرِ على جَوْرِهم،
ونَهَى عن القِتالِ في الفِتنةِ، فأهلُ البِدعِ مِن الخَوارِجِ والشِّيعةِ
والمعتزِلةِ وغيرِهم، يَرَوْنَ قِتالَهم والخروجَ عليهم إذا فَعلُوا ما
هُوَ ظُلْمٌ أو ظَنُّوه هم ظُلْما، ويَرَوْن ذَلِكَ مِن بابِ الأمرِ
بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المنكَرِ. اهـ.
وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحِ مسلمٍ: وأمَّا الخروجُ عليهم
وقتالُهم فحرامٌ بإجماعِ المسلِمِينَ، وإنْ كانوا فَسقةً ظالِمينَ، وقد
تَظاهَرَتْ الأحاديثُ بمعنى ما ذَكَرْتُه، وأجمعَ أهلُ السُّنَّةِ على
أَنَّ الإمامَ لا يَنْعَزِلُ بالفِسقِ، وقال العلماءُ: وسببُ عَدمِ
انعزالِه وتحريمِ الخروجِ عليه ما يَترتَّبُ على ذَلِكَ مِن الفتنةِ
وإراقةِ الدِّماءِ وإفسادِ ذاتِ البَيْنِ، فتكونُ المفسدةُ أكثرَ مِن
المفسدةِ في بقائِه. انتهى).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويَرَوْنَ إقامةَ الحجِّ والجهادِ والجُمَعِ والأعيَادِ مَعَ الأمَرَاءِ أبرَاراً كَانُوا أوْ فُجَّاراً (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) قَولُهُ:
((وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الحَجِّ، وَالجِهَادِ، وَالجُمَعِ، وَالأَعْيَادِ؛
مَعَ الأُمَرَاءِ؛ أَبْرَاراً كَانُوا أَوْ فُجَّاراً)).
الأَبْرَارُ: جَمْعُ بَرٍّ، وَهُوَ كَثِيرُ الطَّاعَةِ، وَالفُجَّارُ: جَمْعُ فَاجِرٍ وَهُوَ العَاصِي كَثِيرُ المَعْصِيَةِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ رَحِمَهُم اللهُ
يُخَالِفُونَ أَهْلَ البِدَعِ تَمَاماً؛ فَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الحَجِّ مَعَ
الأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْسَقِ عِبَادِ اللهِ.
وَكَانَ النَّاسُ فِيمَا سَبَقَ يَجْعَلُونَ
عَلَى الحَجِّ أَمِيراً؛ كَمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيراً عَلَى الحَجِّ فِي العَامِ التَّاسِعِ مِن
الهِجْرَةِ، وَمَا زَالَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، يَجْعَلُون لِلحَجِّ
أَمِيراً قَائِداً يُدْفَعُونَ بِدَفْعِه وَيَقِفُونَ بِوُقُوفِهِ، وَهَذَا
هُوَ المَشْرُوعُ؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى إِمَامٍ
يَقْتَدُونَ بِهِ، أمَّا كَوْنُ كُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَإِنَّهُ
يَحْصُلُ بِهِ فَوْضَى وَاخْتِلَافٌ.
فَهُمْ يَرَوْنَ إِقَامَةَ الحَجِّ مَعَ
الأُمَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقاً، حَتَّى وَإِنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ
الخَمْرَ فِي الحَجِّ، لَا يَقُولُونَ: هَذَا إِمَامٌ فَاجِرٌ، لَا
نَقْبَلُ إِمَامَتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْن أنَّ طَاعَةَ وَلِيِّ الأَمْرِ
وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقاً، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْرِجَهُ فِسْقُهُ
إِلَى الكُفْرِ البَوَاحِ الَّذِي عِنْدَنَا فِيهِ مِن اللهِ بُرْهَانٌ؛
فَهَذَا لَا طَاعَةَ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُزَالَ عَنْ تَوَلِّي أُمُورِ
المُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الفُجُورَ الَّذِي دُونَ الكُفْرِ مَهْمَا بَلَغَ؛
فَإِنَّ الوِلَايَةَ لَا تَزُولُ بِهِ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ، وَالطَّاعَةُ
لِوَلِيِّ الأَمْرِ وَاجِبَةٌ فِي غَيْرِ المَعْصِيةِ:
-خِلَافاً لِلخَوَارِجِ، الَّذِينَ يَرَوْنَ
أنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلإِمَامِ وَالأَمِيرِ إِذَا كَانَ عَاصِياً؛ لِأَنَّ
مِنْ قَاعِدَتِهِمْ: أنَّ الكَبِيرَةَ تُخْرِجُ مِن المِلَّةِ.
-وَخِلَافاً لِلرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
إِنَّهُ لَا إِمَامَ إِلَّا المَعْصُومُ، وَإِنَّ الأُمَّةَ
الإِسْلَامِيَّةَ مُنْذُ غَابَ مَنْ يَزْعُمُونَ أنَّهُ الإِمَامُ
المُنْتَظَرُ، لَيْسَتْ عَلَى إِمَامٍ، وَلَا تَبَعَاً لِإِمَامٍ، بَلْ
هِيَ تَمُوتُ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً مِنْ ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَى اليَوْمِ،
وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا إِمَامَ إِلَّا الإِمَامُ المَعْصُومُ، وَلَا
حَجَّ وَلَا جِهَادَ مَعَ أيِّ أَمِيرٍ كَانَ؛ لِأَنَّ الإِمَامَ لَمْ
يَأْتِ بَعْدُ.
لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
يَقُولُونَ: نَحْنُ نَرَى إِقَامَةَ الحَجِّ مَعَ الأُمَرَاءِ سَوَاءٌ
كَانُوا أَبْرَاراً أَوْ فُجَّاراً، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ الجِهَادِ مَعَ
الأَمِيرِ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقاً، وَيُقِيمُونَ الجِهَادَ مَعَ أَمِيرٍ
لَا يُصلِّي مَعَهَم الجَمَاعَةَ، بَلْ يُصَلِّي فِي رَحْلِهِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لَدَيْهِمْ
بُعْدُ نَظَرٍ؛ لِأَنَّ المُخَالَفَاتِ فِي هَذِهِ الأُمُورِ مَعْصِيَةٌ
للهِ وَرَسُولِهِ، وَتَجُرُّ إِلَى فَتَنٍ عَظِيمَةٍ.
فَمَا الَّذِي فَتَحَ بَابَ الفِتَنِ وَالقِتَالِ
بَيْنَ المُسْلِمِينِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الآرَاءِ إِلَّا الخُرُوجُ
عَلَى الأَئِمَّةِ؟!
فَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وُجُوبَ إِقَامَةِ الحَجِّ وَالجِهَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا فُجَّاراً.
وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْني أَنَّ أَهْلَ
السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لَا يَرَوْنَ أنَّ فِعْلَ الأَمِيرِ مُنْكَرٌ،
بَلْ يَرَوْنَ أنَّهُ مُنْكَرٌ، وَأنَّ فِعْلَ الأَمِيرِ لِلمُنْكَرِ قَدْ
يَكُونُ أَشَدَّ مِن فِعْلِ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الأَمِيرِ
لِلْمُنْكَرِ يَلْزَمُ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى إِثْمِهِ مَحَذُورَانَ
عَظِيمَانِ:
الأوَّلُ: اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ وَتَهَاونُهُمْ بِهَذَا المُنْكَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الأَمِيرَ إِذَا فَعَلَ
المُنْكَرَ سَيَقِلُّ فِي نَفْسِهِ تَأْثِيرُهُ فِي الرَّعِيَّةِ أَوْ
تَغْيِيرُ مِثْلِهِ أَوْ مُقَارِبِهِ
لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
يَقُولُونَ: حَتَّى مَعَ هَذَا الأَمْرِ المُسْتَلْزِمِ لِهَذَيْنِ
المَحْذُورَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ
وُلَاةِ الأُمُورِ، وَإِنْ كَانُوا عُصَاةً؛ فَنُقِيمُ مَعَهُم الحَجَّ
وَالجِهَادَ، وَكَذَلِكَ الجُمَعَ؛ نُقِيمُهَا مَعَ الأُمَرَاءِ، وَلَوْ
كَانُوا فُجَّاراً.
فَالأَمِيرُ إِذَا كَانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ
مَثَلاً، وَيَظْلِمُ النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ؛ نُصَلِّي خَلْفَهُ
الجُمُعَةَ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ
وَالجَمَاعَةِ يَرَوْنَ صِحَّةَ الجُمْعَةِ خَلْفَ الأَمِيرِ المُبْتَدِعِ
إِذَا لَمْ تَصِلْ بِدْعَتُهُ إِلَى الكُفْرِ؛ لِأَنَّهَمْ يَرَوْنَ أَنَّ
الاخْتِلَافَ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ شَرٌّ، وَلَكِنْ لَا
يَلِيقُ بِالأَمِيرِ الَّذِي لَهُ إِمَامَةُ الجُمُعَةِ أَنْ يَفْعَلَ
هَذِهِ المُنْكَرَاتِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضاً إِقَامَةُ الأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بِهِمْ، أَبْرَاراً كَانُوا أَوْ فُجَّاراً.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ الهَادِئَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الدَّينَ الإِسْلَامِيَّ وَسَطٌ بَيْنَ الغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ.
فَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: كَيْفَ نُصَلِّي خَلْفَ هَؤُلَاءِ وَنُتَابِعُهُمْ فِي الحَجِّ وَالجِهَادِ وَالجُمَعِ وَالأَعْيَادِ؟!
فَنَقُولُ: لِأَنَّهُمْ أَئِمَّتُنَا، نَدِينُ لَهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ:
امْتِثَالاً لِأَمْرِ اللهِ بِقَوْلِه:
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأَوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النِّسَاء: 59].
وَلِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُوراً
تُنْكِرُونَهَا)). قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ:
((أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ)). رَوَاهُ
مُسْلِمٌ. وَحَقُّهُمْ: طَاعَتُهُمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيةِ اللهِ.
فعَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ؛ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بنُ يَزِيدَ الجعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ! أَرَأيْتَ إنْ قَامَتْ
عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا؛
فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا؛ فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ
مَا حُمِّلُوا وعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسْرِ
وَاليُسْرِ وَالمَنْشَطِِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ
أَهْلَهُ. قَالَ: ((إِلَّا أَنْ تَرَوا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ فِيهِ
مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ)).
وَلِأَنَّنَا لَوْ تَخَلَّفْنَا عَنْ
مُتَابَعَتِهِمْ؛ لَشَقَقْنا عَصا الطَّاعَةِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى
شَقِّهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، وَمَصَائِبُ جَسِيمَةٌ.
وَالأُمُورُ الَّتِي فَيهَا تَأْوِيلٌ
وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ إِذَا ارْتَكَبَهَا وُلَاةُ الأُمُورِ؛
لَا يَحِلُّ لَنَا مُنَابَذَتُهُمْ وَمُخَالفَتُهُمْ، لَكِنْ يَجِبُ
عَلَيْنَا مُنَاصَحتُهُمْ بِقَدْرِ المُسْتَطَاعِ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ؛
مِمَّا لَا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ، وَأمَّا مَا يَسُوغُ فِيهِ
الاجْتِهَادُ؛ فَنَبْحَثُ مَعَهُمْ فِيهِ بَحْثُ تَقْدِيرٍ وَاحْتِرَامٍ؛
لِنُبَيِّنَ لَهُم الحَقَّ، لَا عَلَى سَبِيلِ الانْتِقَادِ لَهُمْ
وَالانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ، وَأمَّا مُنَابَذَتُهُمْ وَعَدَمُ طَاعَتِهِمْ؛
فلَيْسَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ( ((ومِن
أصولِ أهلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ أنَّهُمْ يُصلُّونَ الجُمعَ والأعيادَ
والجماعاتِ لا يَدعونَ الجُمعةَ والجَمَاعَةَ كما فَعلَ أهلُ البِدعِ مِن
الرَّافِضَةِ وغَيْرِهِمْ فإنْ كَانَ الْإِمَامُ مَستوراً لم يَظهرْ منه
بِدْعَةٌ ولا فجورٌ صلَّى خَلْفَه الجُمعةَ والجَمَاعَةَ باتِّفاقِ
الأئِمَّةِ الأربعةِ وغَيْرِهِمْ مِن أئمَّةِ المُسْلِمِينَ.
ولم يَقُلْ أحدٌ مِن الأئِمَّةِ أنَّهُ لا تجوزُ
الصَّلاةُ إلا خلْفَ مَن عُلِمَ باطنُ أمْرِه بَل مازال المُسْلِمونَ مِن
بعدِ نَبيِّهم يصَلُّون خلفَ المُسْلِمِ المَستورِ. ولكنْ إذا ظَهَرَ مِن
المُصلِّي بِدْعَةٌ أو فجورٌ وأمكنَ الصَّلاةُ خلفَ مَن يُعْلَمُ أنَّهُ
مُبتدعٌ أو فاسقٌ مَعَ إمكَانِ الصَّلاةِ خلفَ غَيْرِهِ فأكثرُ أهلِ
الْعِلْمِ يُصحِّحون صلاةَ المأمومِ. وهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأَبِي
حنيفةَ وهُوَ أحدُ القَوليْنِ فِي مذْهَبِ مالكٍ وأَحْمَدَ.
وأمَّا إذا لم يُمكنِ الصَّلاةُ إلا خلفَ
المُبتدعِ أو الفاجرِ كالجُمعةِ التي إمامُها مُبتدعٌ أو فاجرٌ ولَيْسَ
هناك جُمعةٌ أخْرَى فهَذِهِ تُصلَّى خلفَ المُبتدعِ والفاجرِ عندَ عامَّةِ
أهلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ. وهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأَبِي حنيفةَ
وأَحْمَدَ بنِ حنبلٍ وغَيْرِهِمْ مِن أئمَّةِ أهلِ السُنَّةِ بلا خلافٍ
عِنْدَهُمْ. وكَانَ بعضُ النَّاسِ إذا كَثرتِ الأهواءُ يُحِبُّ أنْ لا
يُصلِّيَ إلا خلْفَ مَن يعرِفُه عَلَى سبيلِ الاستحبابِ كما نُقِلَ ذَلِكَ
عَن أَحْمَدَ أنَّهُ ذَكَرَ لِمَنْ سَألَهُ ولم يقلْ أحدٌ أنَّهُ لا تَصحُّ
إلا خلْفَ مَن عُرِفَ حالُهُ. فالصَّلاةُ خلْفَ المَستورِ جائزةٌ
باتِّفاقِ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ ومَن قَالَ إنَّ الصَّلاةَ مُحرَّمةٌ أو
باطِلةٌ خلْفَ مَن لا يُعرفُ حالُهُ فقَدْ خالفَ إجماعَ أهلِ السُنَّةِ
والجَمَاعَةِ وقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رُضوانُ اللهِ عليهم يَصلُّونَ
خلْفَ مَن يَعرفونَ فُجورَه كما صلَّى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ وغَيْرُهُ مِن
الصَّحَابَةِ خلْفَ الوليدِ بنِ عُقبةَ بنِ أَبِي مُعيطٍ وقَدْ كَانَ
يَشربُ الخمرَ وصلَّى مَرَّةً الصُّبحَ أربعاً وَجلدَه عُثْمَانُ بنُ
عَفَّانَ عَلَى ذَلِكَ وكَانَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وغَيْرُهُ مِن
الصَّحَابَةِ يصلُّون خَلْفَ الحجَّاجِ بنِ يُوسفَ، وكَانَ الصَّحَابَةُ
والتَّابِعونَ يُصَلُّونَ خلْفَ ابنِ أَبِي عُبيدٍ، وكَانَ مُتَّهماً
بالإلحادِ ودَاعياً إِلَى الضَّلالِ)).
وكذَلِكَ إقامةُ الجهادِ مَعَ الأئمَّةِ وإنْ
فَسقُوا لأنَّ المَصلحةَ الحاصِلةَ بالقتالِ معهم فِي سبيلِ اللهِ أعظمُ
مِن مفسدةِ فِسقِهم. وقَدْ خالفَ فِي ذَلِكَ الرَّافِضَةُ فقَالُوا: لا
جهادَ فِي سبيلِ اللهِ حَتَّى يَخرجَ الْإِمَامُ المُنتظرُ ويَشْترطونَ أن
يكونَ الْإِمَامُ مَعصوماً، وقَوْلُهم فِي غايةِ البُطْلانِ).