11 Nov 2008
حجية الإجماع
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَالإِجْمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَاَن عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ ، وَبَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ ، وَانْتَشَرَت الأُمَّةُ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (والإجماعُ هو الأصلُ الثالثُ الذي يُعْتمَدُ عليه في العِلْمِ والدِّين.
وهم يَزِنونَ بهذه الأصولِ الثلاثةِ جميعَ ما عليه الناسُ من أقوالٍ وأعمالٍ باطنةٍ أو ظاهرةٍ مما له تعلُّقٌ بالدِّين.
والإجماع الذي ينضبطُ هو ما كان عليه السلفُ الصالحُ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمّة([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) لما ذكر طريقة أهل السنة في مسائل الأصول المعينة ذكر طريقهم الكلي في أخذ دينهم أصوله وفروعه، وأنهم سلكوا في ذلك الصراط المستقيم، والعصمة النافعة للكتاب والسُّنة، واتبعوا أعظم الناس معرفة وعلماً واتباعاً للكتاب والسُّنة وهم الصحابة رضي الله عنهم عموماً، والخلفاء الراشدون خصوصاً، فسلكوا إلى الله ذلك الطريق مستصحبين هذه الأصول الجليلة، وما جاءهم مما قاله الناس، أو ذهبوا إليه من المقالات، وزنوه بمعيار الكتاب والسُّنة، وإجماع الصّحابة، والقرون المفضّلة، فاستقامت طريقتهم، وسلموا من بِدَع الأقوال المخالفة لما عليه الرّسول وأصحابه في الاعتقادات، كما سلموا من بِدَع الأعمال، فلم يتعبدوا ولم يشرعوا إلا ما شرعه الله ورسوله).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (والإِجْماعُ هُوَ الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ والدِّيِن.
وهُمْ يَزِنُونَ بهذهِ الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ ما عليهِ النَّاسُ مِنْ
أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تعلُّقٌ بالدِّينِ.
والإِجْمَاعُ الَّذي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلافُ، [ وانْتَشَرَ في الأُمَّةِ
] ). (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
قولُهُ: (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أهلِ السُّنَّةِ … ) إلخ. هذا بيانُ
المنهجِ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في اسْتِنْبَاطِ الأحكامِ
الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، أُصُولِهَا وفُرُوعِهَا، بعدَ طَرِيقَتِهِمْ في
مسائلِ الأصولِ، وهذا المنهجُ يقومُ على أصولٍ ثلاثَةٍ:
أوَّلُهَا: كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي هوَ خيرُ الكلامِ وأَصْدَقُهُ، فَهُمْ لا يُقَدِّمُونَ على كَلامِ اللهِ كلامَ أحدٍ مِنَ النَّاسَ.
وثانِيهَا: سُنَّةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ، وما أُثِرَ عَنْهُ مِنْ هَدْيٍ وطريقَةٍ، لا يُقَدِّمُونَ
على ذلكَ هَدْيَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وثالثُهَا: ما وَقَعَ عليهِ إجماعُ الصَّدْرِ الأوَّلِ مِنْ هذهِِ الأُمَّةِ قبلَ التَّفرُّقِ والانْتِشَارِ وظهورِ البدعةِ والمقالاَتِ.
ومَا جاءَهُمْ بعدَ ذلكَ مِمَّا قالَهُ النَّاسُ وذهبُوا إليهِ مِنَ
المَقَالاَتِ وَزَنُوهَا بهذهِِ الأُصولِ الثَّلاثةِ التَّي هيَ الكتابُ،
والسُّنَّةُ، والإِجماعُ، فإنْ وَافَقَهَا قَبِلُوهُ، وإنْ خَالَفَهَا
ردُّوهُ؛ أيًّا كانَ قائِلُهُ.
وهذا هوَ المنهجُ الوسَطُ، والصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، الذي لا يَضِلُّ
سَالِكُهُ، ولا يَشْقَى مَنِ اتَّبَعَهُ، وَسَطٌ بينَ مَنْ يَتَلاَعَبُ
بالنُّصُوصِ، فَيَتَأَوَّلُ الكتابَ، وينكرُ الأحاديثَ الصَّحِيحَةَ، ولا
يَعْبَأُ بإجماعِ السَّلَفِ، وبينَ مَنْ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ،
فَيَتَقَبَّلُ كُلََّ رَأْيٍ، ويأخذُ بكلِّ قَوْلٍ، لا يُفَرِّقُ في ذلكَ
بينَ غَثٍّ وسَمِينٍ، وصَحَيحٍ وسَقِيمٍٍ.
(الشرح مكرر مع جزئية معنى أهل السنة والجماعة)
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (والإِجْماعُ
هُو الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ
والدِّينِ.وهُمْ يَزِنُونَ بهذه الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ ما عليهِ
النَّاسُ مِنْ أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ
تعلُّقٌ بالدِّينِ. والإِجماع الَّذي يَنْضَبِطُ هُو مَا كانَ عَلَيْه
السَّلَفُ الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُم كَثُرَ الاخْتِلافُ، وانْتَشَر في
الأمَّةِ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (5- فمِن
صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ الاجتماعُ على الأخْذِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ
والاتِّفاقِ على الحقِّ والتَّعاوُنِ على البِرِّ والتَّقْوى، وقد أثْمَرَ
هَذَا وجودَ الإجماعِ (والإجماعُ هُوَ الأصلُ الثَّالِثُ الذي يُعتَمدُ عليه في العِلمِ والدِّينِ)
وقد عَرَّفَ الأصوليونَ الإجماعَ بأنَّه: اتِّفاقُ علماءِ العَصْرِ على
أمْرٍ دِينيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ قاطعةٌ يَجِبُ العَملُ به. وقولُه (وَهُوَ الأصلُ الثَّالِثُ) أي بعدَ الأصْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ وهُما الكتابُ والسُّنَّةُ.
6- مِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم (يَزِنُون بهَذِهِ الأصولِ الثَّلاثةِ) الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ (جميعَ ما عليه النَّاسُ مِن أقوالٍ وأعمالٍ باطنةٍ أو ظاهرةٍ، ممَّا له تعلُّقٌ بالدِّينِ)
فهم يَجعَلُون هَذِهِ الأصولَ الثَّلاثةَ مِيزاناً لِبَيانِ الحقِّ مِن
الباطلِ والهُدَى مِن الضَّلالِ فيما يَصْدُرُ مِن النَّاسِ مِن تصرُّفاتٍ
قوليَّةٍ أو فِعليَّةٍ اعتقاديَّةٍ أو عَمَليَّةٍ (ممَّا له تعلُّقٌ بالدِّينِ)
مِن أعمالِ النَّاسِ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والزَّكاةِ،
والمعاملاتِ وغيرِها. أمَّا ما ليس له تعلُّقٌ بالدِّينِ مِن الأمورِ
العاديَّةِ والأمورِ الدُّنْيويَّةِ فالأصلُ فيه الإباحةُ.
ثم بَيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ حقيقةَ الإجماعِ الذي يُجعلُ أصلاً في الاستدلالِ فقال: (والإجماعُ الذي يَنْضَبِطُ) أي يُجزَمُ بحصُولِه ووقوعِه: (هُوَ ما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ) لما كانوا قَلِيلِينَ مجتمِعينَ في الحِجازِ يُمْكِنُ ضَبْطُهم ومعرفةُ رأيهم في القَضِيَّةِ (وبعدَهم كَثُرَ الاختلافُ وانتشرَتِ الأُمَّةُ) أي بعدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ صار الإجماعُ لا يَنضَبِطُ لأمرَيْنِ:
أوَّلا: كثرةُ الاختلافِ بحَيْثُ لا يُمكِنُ الإحاطةُ بأقوالِهم.
ثانيا:
انتشارُ الأُمَّةِ في أقطارِ الأرضِ بعد الفُتوحِ بحَيْثُ لا يُمكِنُ
عادةً بُلوغُ الحادثةِ لكُلِّ واحدٍ منهم ووقوفِه عليها، ثم لا يُمكِنُ
الجَزمُ بأنَّهم أَطْبَقُوا على قولٍ واحدٍ فيها.
تَنْبيهٌ:
إنما اقتَصَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ على ذِكْرِ الأصولِ الثَّلاثةِ،
ولم يَذْكُرِ الأصلَ الرَّابعَ وَهُوَ القِياسُ؛ لأنَّ القِياسَ مختلَفٌ
فيه كما اختلَفوا في أصولٍ أخرى مَرْجِعُها كُتُبُ الأصولِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (والإِجْماعُ
هُو الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ
والدِّيِن، وهُمْ يَزِنُونَ بهذه الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ ما عليهِ
النَّاسُ مِنْ أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ
تعلُّقٌ بالدِّينِ.(1)
والإِجماع الَّذي يَنْضَبِطُ هُو مَا كانَ
عَلَيْه السَّلَفُ الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُم كَثُرَ الاخْتِلافُ، [
وانْتَشَر في الأمَّةِ ] ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (والإجماعُ) الإجماعُ يُطلَقُ لغةً: على العَزمِ، كما قال -سُبْحَانَهُ- {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ}، وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيلِ))، وهَذَا يَتأتَّى مِن الواحدِ والجماعةِ، ويُرادُ بِهِ أيضًا الاتِّفاقُ،
واصطلاحًا: "هُوَ اتِّفاقُ علماءِ العصرِ مِن الأمَّةِ على أمْرٍ دِينيٍّ"،
وهُوَ حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العَملُ بِهِ عندَ الجمهورِ، وأنْكرَه بعضُ المبتدِعَةِ مِن المعتزِلةِ والشِّيعةِ،
والدَّليلُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ قولُه تعالى: {وَمَن
يُشَاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}،
وعن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- مرفوعا: ((لاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ على ضَلاَلَةٍ أَبَداً)) رواه الترمذيُّ،
وعن أنسٍ رضي اللَّهُ عنه مرفوعا: ((لاَ
تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، فِإِنْ رَأَيْتُمُ
الاخِتْلاَفَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ)) رواه ابنُ ماجهْ،
وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: ((عَلَيْكُمْ باِلْجَمَاعَةِ، فِإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى)) رواه أحمدُ.
وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: ((مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ)) رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ،
وعن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((مَا رآهُ المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حَسنٌ، وما رآه المسلمونَ سَيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سَيِّئٌ)) رواه أبو داودَ الطيالسيُّ، وأَخرَجَه البزَّارُ، وأبو نُعيمٍ في ترجمةِ ابنِ مسعودٍ.
قولُه: (وهُوَ الأصلُ الثَّالِثُ) الأصْلُ لغةً: أَسْفلُ الشَّيءِ وأساسُه، واصطلاحا: ما بُنِيَ عليه غيرُه.
قولُه: (الثَّالِثُ) أي مِن الأدِلَّةِ التي هي الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والثَّالِثُ هُوَ الإجماعُ،
ولم يَزلْ أئمَّةُ الإسلامِ على تقديمِ الكتابِ على السُّنَّةِ، والسُّنَّةِ على الإجماعِ، وجَعلِ الإجماعِ في المرتبةِ الثَّالثةِ،
قال الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الحُجَّةُ كتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسولِه واتِّفاقُ الأئمَّةِ،
وروى
الترمذيُّ في جامِعِه عن مُعاذٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له لما بَعَثَه إلى اليَمنِ: ((كَيْفَ تَقْضي))؟ قال: أَقْضي بما في كتابِ اللَّهِ، قال: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟)) قال: بِسُنَّةِ رَسولِ اللَّهِ، قال: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ)) قال: أَجْتهِدُ برأيي، قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ)) اهـ.
قولُه: (الذي يُعتمدُ عليه في العِلمِ والدِّينِ)
أي: يُستنَدُ ويُرْكَنُ إليه، للأدلَّةِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على عِصمةِ
هَذِهِ الأمَّةِ مِن الاجتماعِ على ضلالةٍ، وأنَّ الإجماعَ كما تقدَّمَ
حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العملُ بِهِ لما تقدَّمَ.
قولُه: (وهم يَزنِونَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ
السُّنَّةِ والجَماعَةِ يَعْرِضُونَ جميعَ الأقوالِ والاعتقاداتِ على
هَذِهِ الأصولِ الثَّلاثةِ، – وَهِيَ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ –
ويَجعلون هَذِهِ الأصولَ الثَّلاثةَ هي المعيارُ التي تُوزنُ بِهِ
الأعمالُ؛ إذْ لا حُجَّةَ إلاَّ في هَذِهِ الأصولِ المتقدِّمةِ، وأمَّا
القِياسُ ففيه خلافٌ معروفٌ.
قولُه: (ممَّا له تعلُّق بالدِّينِ) أي: كصلاةٍ وصيامٍ وحَجٍّ وزكاةٍ ومُعامَلاتٍ ونَحوِ ذَلِكَ،
أمَّا ما
لا تَعلُّق له بالدِّينِ كأمورِ المعائِشِ والعاداتِ، فالأصلُ فيه الإباحةُ
فالإجماعُ ليس بحُجَّةٍ فيها، قال الكورانيُّ: لا معنى للإجماعِ في ذَلِكَ
لأنَّه ليس أَقْوى مِن قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهُوَ ليس
دليلا لا يُخالَفُ فيه، واستدلَّ على ذَلِكَ بما رَوى مسلمٌ في "صحيحِه" عن
أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)).
(2) قولُه: (والإجماعُ جميعُ ما عليه النَّاسُ) إلخ أي: مِن عباداتٍ ومعاملاتٍ وغيرِ ذَلِكَ.
قولُه: (مما له تعلُّق بالدِّينِ)
احتُرِزَ مِن اتِّفاقِهم على أمْرٍ دُنيويٍّ، كإقامةِ مصنعٍ أو حِرفةٍ أو
مَتْجرٍ أو نحوِ ذَلِكَ، فإنَّ ذَلِكَ ليس إجماعًا شَرعياًّ،
قال في
اللُّمَعِ: أمَّا أمورُ الدُّنْيَا كتَجْهِيزِ الجُيوشِ وتدبيرِ الحروبِ
والعِمارةِ والزِّراعةِ وغيرِها مِن مصالحِ الدُّنْيَا، فالإجماعُ ليس
بحُجَّةٍ فيها؛ لأنَّ الإجماعَ فيها ليس بأكثرَ مِن قولِ الرَّسولِ –صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد ثَبَتَ أنَّ قولَه إنَّما هُوَ حُجَّةٌ في
أحكامِ الشَّرْعِ دُونَ مصالِحِ الدُّنْيَا، ولهَذَا رُوِيَ أنَّه نَزَلَ
مَنْزِلاً فقِيلَ له إنَّه ليس برأيٍ فتَرَكَهُ.
قولُه: (والإجماعُ الذي يَنضبِطُ)
إلخ أي: الإجماعُ الذي يَنضبِطُ، أي يُحفَظُ ويُضبطُ ضَبْطا تاماًّ
بِدُونَ نقصٍ، ويُمكِنُ العِلمُ بِهِ هُوَ ما كان عليه السَّلَفُ
الصَّالِحُ، لا ما بعدَ ذَلِكَ، فتَعذَّرَ العِلمُ بِهِ غالبًا لانتِشارِ
الإسلامِ وكَثرةِ العلماءِ وتفرُّقِهم في البلادِ، فالعِلمُ بحادثةٍ واحدةٍ
انتشَرَتْ في جميعِ الأقطارِ، ووَقَفَ كُلُّ مجتهدٍ عليها ثم أطْبَقُوا
فيها على قولٍ واحدٍ، هَذَا مما لا تُساعِدُ العادةُ على وُقوعِه، فَضلاً
عن العِلمِ به، وهَذَا هُوَ الذي أَنْكَره أحمدُ وغيرُه، لا وقوعَ
الإجماعِ.
قال الإسنويُّ: ولأجْلِ هَذِهِ الاحتمالاتِ قال الإمامُ أحمدُ: مَن ادَّعى الإجماعَ فهُوَ كاذِبٌ،
قال أبو المعالي: والإنصافُ أنَّه لا طَرِيقَ لنا إلى معرفةِ الإجماعِ إلا في زَمَنِ الصَّحابةِ،
وقال
البيضاويُّ: إنَّ الوقوفَ عليه لا يَتعذَّرُ في أيامِ الصَّحابةِ، فإنَّهم
كانوا قَليلِينَ مَحْصورِين ومُجتِمعِين في الحِجازِ، ومَن خَرجَ منهم
بَعدَ فتحِ البلادِ كان مَعروفًا في مَوضِعِه،
وقال ابنُ بَدْرانَ في شرحِ رَوضةِ النَّاظرِ بعد ذِكْرِ ما تقدَّمَ. قلتُ: وهُوَ الحقُّ البَيِّنُ. انتهى.
وقال ابنُ
القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الإعلامِ: وليس عَدمُ عِلمِه بالمخالِفِ
إجماعا، وقد كذَّبَ أحمدُ مَن ادَّعى الإجماعَ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعيُّ في
رِسالِته الجديدةِ، على أنَّ ما لا يُعلَمْ فيه بخلافٍ لا يُقالُ له
إجماعٌ،
وقال عبدُ
اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ: سمعتُ أبي يقولُ: ما يَدَّعِي فيه الرَّجُلُ
الإجماعَ فهُوَ كَذِبٌ، لعلَّ النَّاسَ اختلَفوا، هَذِهِ دَعْوى بِشْرٍ
المَرِيسِيِّ والأصَمِّ، فهَذَا هُوَ الذي أنكرَه أحمدُ والشَّافِعيُّ لا
ما يَظُنُّه بعضُ النَّاسِ أنَّه استبِعادٌ لوُجودِه).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (والإجماعُ هُوَا الأصْلُ الثَّالِثُ الذِي يُعْتَمَد عليهِ في العِلْمِ وَالدِّين، وهُمْ يزنُونَ بهذهِ الأُصُولِ الثلاثَةِ جميعَ مَا عَليْهِ النُّاسُ مِنْ أَقْوالِ وَأعْمَالٍ، باطنَةِ أو ظَاهرةٍ ممَّا لهُ تَعَلُّقٌ بالدينِ. والإجماعُ الذي يَنْضَبطُ هوَ مَا كانَ عليهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ إذْ بعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلافُ وانْتَشَرَتْ الأمَّةُ.(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) قَولُهُ: ((وَالإِجْمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي العِلْمِ وَالدِّينِ)):
يَعْنِي بِهِ الدَّلِيلَ الثَّالِثَ؛ لِأَنَّ الأَدِلَّةَ أُصُولُ الأَحْكَامِ؛ حَيْثُ تُبْنَى عَلَيْها.
وَالأَصْلُ الأَوَّلُ هُوَ الكِتَابُ،
وَالثَّانِي السُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ،
وَلِهَذَا يُسَمَّونَ: أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي العِلْمِ وَالدِّينِ، وَهِي: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ.
أَمَّا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَأَصْلَان
ذَاتِيَّانِ، وَأمَّا الإِجْمَاعُ؛ فَأَصْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ
لَا إِجْمَاعَ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.
أمَّا كَونُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَصْلاً يُرْجَعُ إِلَيْهِ؛ فَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:
-قَولُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسولِ) [النِّسَاء: 59].
-وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المَائِدَة: 92].
-وَقَولُهُ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحَشْر: 7].
وَقَولُهُ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النِّسَاء: 80].
وَمَنْ أَنْكَرَ أنْ تَكُونَ السُّنَّةُ أَصْلاً فِي الدَّلِيلِ؛ فَقَدْ أَنْكَرَ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ أَصْلاً.
وَلَا شَكَّ عِنْدَنَا فِي أَنَّ مَنْ قَالَ:
إنَّ السُّنَّةَ لَا يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الأَحْكَامِ الشَّرْعيَّةِ؛
أنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَن الإِسْلَامِ؛ لِأنَّهُ مُكَذِّبٌ وَمُنْكِرٌ
لِلقُرْآنِ؛ فَالقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ جَعَلَ السُّنَّةَ
أَصْلاً يُرْجَعُ إِلَيهِ.
وَأمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أنَّ الإِجْمَاعَ أَصْلٌ؛ فيُقَالُ:
أَوَّلاً: هَلِ الإِجْمَاعُ مَوْجُودٌ أَوْ غَيْرُ مَوْجُودٍ؟
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: لَا إِجْمَاعَ
مَوْجُودٌ إِلَّا عَلَى مَا فَيهِ نَصٌّ، وَحِينَئذٍ؛ يُسْتَغْنَى
بِالنَّصِّ عَن الإِجْمَاعِ.
فَمَثَلاً؛ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: العُلَمَاءُ
مُجْمِعُونَ عَلَى أنَّ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ خَمْسٌ؛ فَهَذَا
صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ فَرْضِيَّتِهَا بِالنَّصِّ.
وَمُجْمِعُونَ عَلَى تَحْريِمِ الزِّنى؛ فَهَذَا
صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ تَحْرِيمِهِ بِالنَّصِّ. وَمُجْمِعُونَ عَلَى
تَحْرِيمِ نِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِمِ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ ثُبُوتَ
تَحْرِيمِهِ بِالنَّصِّ.
وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: مَن ادَّعَى الإِجْمَاعَ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَمَا يُدْرِيهِ؟ لَعَلَّهُم اخْتَلَفُوا.
وَالمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ العُلَمَاءِ أنَّ
الإِجْمَاعَ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ دَلِيلاً ثَابِتٌ بِالقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ:
-فَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ تَعالَى: (فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)
[النِّسَاء: 59]؛ فَإِنَّ قَولَه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ
فَرُدُّوهُ): يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ لَا يَجِبُ
رَدُّه إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ اكْتِفَاءً بِالإِجْمَاعِ! وَهَذَا
الاسْتِدْلَالُ فِيهِ شَيءٌ!!
-وَمِن ذَلِكَ قَولُهُ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النِّسَاء: 115]، فقَالَ: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ).
-وَاسْتَدَلُّوا أيضاً بِحَدِيثِ: ((لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ)).
وَهَذَا الحَدِيثُ حَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ
وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، لَكِنْ قَدْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ
ضَعِيفَ السَّنَدِ، لَكِنْ يَشْهَدُ لِمَتْنِهِ مَا سَبَقَ مِن النَّصِّ
القُرْآنِيِّ.
فَجُمْهُورُ الأُمَّةِ أَنَّ الإِجْمَاعَ دَلِيلٌ
مُسْتَقِلٌّ، وَأنَّنا إِذَا وَجَدْنَا مَسْأَلَةً فِيهَا إِجْمَاعٌ؛
أَثْبَتْنَاهَا بِهَذَا الإِجْمَاعِ.
وَكَأنَّ المُؤلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ إِثْبَاتَ أنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ حُجَّةٌ.
قَولُهُ: ((وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ
الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِن أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ
بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ)).
((الأُصُولُ الثَّلَاثِةُ)): هِيَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ.
يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ
مِن قَولٍ أَوْ عَمَلٍ، بَاطِنٍ أَوْ ظَاهِرٍ، لَا يَعْرِفُون أنَّهُ
حَقٌّ؛ إِلَّا إِذَا وَزَنُوهُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ؛
فَإْنْ وُجِدَ لَهُ دَلِيلٌ مِنْهَا؛ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى
خِلَافِهِ؛ فَهُو بَاطِلٌ.
قَولُهُ: ((وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ
هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ
الاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَت الأُمَّةُ)):
يَعْنِي: أَنَّ الإِجْمَاعَ الَّذِي يُمْكِنُ
ضَبْطُهُ وِالإِحَاطَةُ بِهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
الصَّالِحُ، وَهُمْ القُرُونُ الثَّلَاثَةُ، الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
وَتَابِعُوهُمْ.
ثُمَّ عَلَّلَ المُؤلِّفُ ذَلِكَ بِقَولِهِ:
((إذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَت الأُمَّةُ))؛ يَعْنِي:
أَنَّهُ كَثُرَ الاخْتِلَافُ كَكَثْرَةِ الأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ
تَفَرَّقُوا طَوَائِفَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ الحَقَّ،
فَاخْتَلَفَتِ الآرَاءُ وَتَنَوَّعَتِ الأَقْوَالُ.
((وَانتشرَت الأُمَّةُ)): فَصَارَتِ الإِحَاطَةُ بِهِمْ مِن أَصْعَبِ الأُمُورِ.
فَشَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ كَأنَّهُ
يَقُولُ: مَن ادَّعَى الإِجْمَاعَ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُمْ
القُرُونُ الثَّلَاثَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهْ الإِجْمَاعَ؛
لِأَنَّ الإِجْمَاعَ الَّذِي يَنْضَبِطُ مَا كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
الصَّالِحُ، وهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ إِجْمَاعٌ بَعْدَ الخِلَافِ؟
فَنَقُولُ: لَا إِجْمَاعَ مَعَ وُجُودِ خِلَافٍ سَابِقٍ, وَلَا عَبْرَةَ
بِخِلَافٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ الإِجْمَاعِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (قَولُهُ: والإجماعُ هُوَ الأصلُ الثَّالِثُ.
الإجماعُ فِي اللُّغةِ العزْمُ والاتِّفاقُ.
يُقَالُ: أجمعَ فلانٌ رأيَهُ على كذا إذا صَمَّمَ وعَزَمَ عَلَيْهِ قَالَ
تَعَالَى: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} واصطلاحاً: اتِّفاقُ
مُجتهدِي الأُمَّةِ فِي عَصرٍ واحدٍ على أمْرٍ دِينيٍّ وهُوَ حُجةٌ
قَاطِعةٌ فهَذِهِ الأصولُ الثَّلاثَةُ التي هي الكتابُ والسُنَّةُ
والإجماعُ هي التي يُعتمدُ عَلَيْهَا فِي الْعِلْمِِ والدِّينِ عندَ أهلِ
السُنَّةِ والجَمَاعَةِ.
وهناك أصلٌ رَابعٌ اختلفوا فيه وهُوَ القياسُ،
وبَعْضُهُمْ ذكرَ الاستحسانَ والمصالحَ المُرسلةِ، وهَذِهِ الأبحاثُ
مبسوطةٌ فِي كُتبِ أصولِ الفِقهِ.
وقَدْ زعمَ كثيرٌ مِن القَدرِيَّةِ والمعتَزِلةِ
أنَّهُ لا يَصِحُّ الاستدلالُ بالقرآنِ على حكمةِ اللهِ وعدلِهِ، وأنَّهُ
خالقُ كُلِّ شيءٍ وقادرٌ على كلِّ شيءٍ، وتَزْعُمُ الجَهْمِيَّةُ مِن هؤلاء
ومَن اتَّبعَهم مِن بعضِ الأشْعَرِيَّةِ وغَيْرِهِمْ أنَّهُ لا يصِحُّ
الاستدلالُ بذَلِكَ على عِلْمِ اللهِ وقُدرتِه وعِبادتِه وأنَّهُ مُستوٍ
على العرشِ.
ويزعمُ قومٌ مِن غالِيةِ أهلِ البِدعِ أنَّهُ لا
يصِحُّ الاستدلالُ بالقرآنِ والْحَدِيثِ على المسائلِ القَطعِيَّةِ
مُطلقةً بِناءً على أنَّ الدَّلالةَ اللَّفظيَّةَ لا تُفيدُ اليقينَ بما
زَعمُوا ويزعمُ كثيرٌ مِن أهلِ البِدعِ أنَّهُ لا يُستدلُّ بالأحاديثِ
المُتلقَاةِ بالقبولِ على مسائلِ الصِّفاتِ والقَدَرِ ونحوِهما مِمَّا
يُطلبُ فيه القطْعُ واليقينُ، ويزعمُ قومٌ مِن غاليةِ المُتَكلِّمين أنَّهُ
لا يُستدلُّ بالإجماعِ على شيءٍ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ: لا يِصحُّ
الاستدلالُ به على الأمورِ العِلميَّةِِ لأنَّهُ ظَنِّيٌّ.
أمَّا طُرقُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ فهي بإجماعِ
المُسْلِمِينَ: الكتابُ لم يختلفْ أحدٌ مِن الأئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كما
خالفَ بعضُ أهلِ الضَّلالِ فِي الاستدلالِ على بعضِ المسائلِ
الاعتقادِيَّةِ.
(والثَّانِي) السُنَّةُ المتواتِرةُ التي لا
تُخالفُ ظاهِرَ القرآنِ بَل تُفسِّرُه مِثلُ أعدادِ الصَّلاةِ وأعدادِ
رَكعاتِها ونُصبِ الزَّكاةِ وفَرائضِها وصفةِ الحجِّ والعُمرةِ وغيرِ
ذَلِكَ مِن الأحكامِ التي لم تُعرفْ إلا بتفسيرِ السُنَّةِ.
وأمَّا السُنَّةُ لا تُفسِّـرُ ظاهرَ القـرآنِ،
أو يُقَالُ تخالِفُ ظاهرَهَ كالسُنَّةِ فِي تقديرِ نِصابِ السَّرقةِ
ورَجْـمِ الزَّانِي وغيرِ ذَلِكَ، فمذْهَبُ جميعِ السَّلَفِ العملُ بها
أيضـاً إلا الخَـوارِجَ فإنَّ مِن قَوْلِهم. أو قولِ بَعْضِهِمْ: مُخالفةُ
السُنَّةِ حيث قَالَ أوّلُهم للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي وجْهِه: إنَّ هَذِهِ لَقسمةٌ ما أُريدَ بها وَجْهُ اللهِ.
ويُحكَى عَنْهُمْ أنَّهُمْ لا يَتَّبِعونه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا فيما بَلَّغه عَن اللهِ مِن القرآنِ
والسُنَّةِ المُفسِّرةِ لَهُ، وأمَّا ظاهرُ القرآنِ إذا خَالفَه الرَّسُولُ
فلا يَعملونَ إلا بظاهرِهِ وقَدْ يُنكرُ هؤلاء كثيراً مِن السُّننِ طَعناً
فِي النَّقلِ لا رَداًّ للمنْقُولِ. كما يَنقلُ كثيرٌ مِن أهلِ البِدعِ
السُّننَ المُتواترةَ عندَ أهلِ الْعِلْمِ كالشَّفاعةِ والحوضِ والصِّراطِ
والقَدَرِ وغيرِ ذَلِكَ.
(الطَّريقُ الثَّالِثُ) السُّنَنُ المتواترِةُ
عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا مُتلقَّاةٌ
بالقبولِ بينَ أهلِ الْعِلْمِِ بها. أو برِوايَةِ الثِّقاتِ لها، وهَذِهِ
أيضاً مِمَّا اتَّفقَ أهلُ الْعِلْمِ على اتِّباعِها مِن أهلِ الفِقْهِ
والْحَدِيثِ والتَّصوُّفِ وأكثرِ أهلِ الْعِلْمِ، وقَدْ أنكَرَها بعضُ أهلِ
الكلامِ، وأنكرَ كثيرٌ مِنْهُمْ أنْ يَحصلَ الْعِلْمُ بشيءٍ منها،
وإنَّمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فلم يُفرِّقوا بينَ المُْتلقى بالقبولِ
وغَيْرِهِ.
وكثيرٌ مِن أهلِ الرَّأيِ قَدْ يُنكرُ كثيراً
منها بشروطٍ اشْترطَها، ومعارضاتِ دَفْعِها بها وَوَضْعِها، كما يَردُّ
بَعْضُهُمْ بَعضاً لأنَّهُ بخلافِ ظاهرِ القرآنِ فيما زَعَمَ، أو لأنَّهُ
خِلافُ الأصولِ، أو قياسِ الأصولِ، أو لأنَّ عملَ متأَخِّري أهلِ المدينةِ
على خِلافِه، أو غيرِ ذَلِكَ مِن المسائلِ المعروفةِ فِي كُتبِ الفِقْهِ
والْحَدِيثِ وأصولِ الفِقْهِ (الطَّرِيقُ الرَّابِعُ) الإجماعُ وهُوَ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بينَ عامَّةِ المُسْلِمِينَ مِن الفُقَهاءِ
والصُّوفِيَّةِ وأهلِ الْحَدِيثِ والكلامِ وغَيْرِهِمْ فِي الجُملةِ،
وأنكرَهُ بَعضُ أهلِ البِدعِ مِن المُعتزِلةِ والشِّيعةِ. لكنَّ المعلومَ
منه ما كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وأمَّا بعدَ ذَلِكَ فَتعذَّرَ
الْعِلْمُ به غالباً، ولهَذَا اختلفَ أهلُ الْعِلْمِ فيما يُذكرُ مِن
الإجماعاتِ الحادثةِ بعدَ الصَّحَابَةِ.
واخْتُلِفَ فِي مسائلَ منه كإجماعِ التَّابِعينَ
على أحدِ قَوليِ الصَّحَابَةِ والإجماعِ الَّذِي لم يَنقرِضْ عصرُ أهلِهِ
حَتَّى خالفَهم بَعْضُهُمْ، والإجماعِ السُّكوتيِّ وغيرِ ذَلِكَ.
وَكُلُّ ما أجمعَ عَلَيْهِ المُسْلِمونَ فإِنَّهُ
يكونُ منصوصاً. فالمُخالِفُ لهم مُخالفٌ للرَّسولِ كما أنَّ المُخالِفَ
للرَّسُولِ مُخالِفٌ للهِ، وهَذَا يَقتضِي أنَّ كلَّ ما أُجْمِعَ عَلَيْهِ
قَدْ بيَّنه الرَّسُولُ، وهَذَا هُوَ الصَّوابُ فلا يُوجدُ قَطُّ مَسْأَلةٌ
مُجمعاً عَلَيْهَا إلا وفيها بيانٌ مِن الرَّسُولِ ولكنْ قَدْ يخْفَى
ذَلِكَ على بعضِ النَّاسِ ويُعْلَمُ الإجماعُ فَيُستدلُّ به.
وهُوَ دليلٌ ثانٍ مَعَ النَّصِّ، وَكُلٌّ مِن
هَذِهِ الأصولِ يدلُّ على الحقِّ مَعَ تَلازِمِها فإنَّ ما دلَّ عَلَيْهِ
الإجماعُ فقَدْ دلَّ عَلَيْهِ الكتابُ والسُنَّةُ، وما دلَّ عَلَيْهِ
القرآنُ فعَن الرَّسُولِ أُخِذَ فالكتابُ والسُنَّةُ كِلاهما مأخوذٌ
عَنْهُ، ولا يوجَدُ مَسْأَلةٌ يُتفَقُّ عَلَيْهَا إلا وفِيها نصٌّ،
والمسائلُ المُجمعُ عَلَيْهَا قَدْ تكونُ طَائِفَةٌ مِن المُجتهدِينَ لم
يَعرفوا فيها نَصاًّ فقَالُوا فيها باجتهادِ الرَّأيِ الموافِقِ للنَّصِّ.
لكنْ كَانَ النَّصُّ عندَ غَيْرِهِمْ. وابنُ جَريرٍ وطَائِفَةٌ يَقُولونَ:
لا ينْعَقِدُ الإجماعُ إلا عَن نصٍّ نَقلوه عَن الرَّسُولِ مَعَ قَوْلِهم
بصِحَّةِ القياسِ، ونحن لا نَشترِطُ أنْ يكونوا كُلُّهم عَلِموا النَّصَّ
فَنَقلُوه بالمَعْنى كما تُنقلُ الأخبارُ ؛ لَكِن اسْتقْرَينا مواردَ
الإجماعِ فوجَدْناها كُلَّها مَنصوصةً. ومَن قَالَ مِن المتأخِّرين: إنَّ
الإجماعَ مُستنَدُ مُعظمِ الشَّرِيعَةِ فقَدْ أخْبرَ عَن حالِهِ فإِنَّهُ
لمَّا نَقصتْ مَعرِفتُه بالكتابِ والسُنَّةِ احتاجَ إِلَى ذَلِكَ.
وهَذَا كقَوْلِهم: إنَّ أكثرَ الحوادثِ يُحتاجُ
فيها إِلَى القياسِ لعدمِ دلالةِ النُّصُوصِ عَلَيْهَا. فإنَّمَا هَذَا
قولُ مَن لا معرفةَ لَهُ بالكتابِ والسُنَّةِ ودلالِتِها على الأحكامِ.
وقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّهُ ما مِن
مَسْأَلةٍ إلا وقَدْ تَكلَّمَ فيها الصَّحَابَةُ أو فِي نظيرِها فإِنَّهُ
لَمَّا فُتِحت البلادُ وانتشرَ الإسْلَامُ حَدثتْ جميعُ أجناسِ الأعمالِ
فتَكَلَّمُوا فيها بالكتابِ والسُنَّةِ. وإنَّمَا تَكلَّمَ بَعْضُهُمْ
بالرَّأيِ فِي مسائلَ قليلةٍ، والإجماعُ لم يَكُنْ يَحتجُّ به عامُّتهم،
ولا يحتاجونَ إِلَيْهِ. إذ هم أهلُ الإجماعِ فلا إجماعَ قبْلَهم.
لكنْ لمَّا جَاءَ التَّابعونَ قَالَ عُمَـرُ
وابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ: يُقْضَى بما فِي الكتابِ والسُنَّةِ. ثُمَّ
بما فعلَهُ الصَّالحون كسُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ، وهَذِهِ آثارٌ ثابِتةٌ عَن
عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وهم مِن أشهرِ الصَّحَابَةِ بالفُتيا
والقضاءِ وهَذَا هُوَ الصَّوابُ).