الدروس
course cover
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3939

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم العاشر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3939

0

0


0

0

0

0

0

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ)
ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ
).

هيئة الإشراف

#2

28 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروفِ، وينْهَوْنَ عن المنكر على ما تُوجِبهُ الشريعة([1])).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) أي باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب تبعاً للقدرة والمصلحة، ويسلكون أقرب طريق يحصل به المقصود بالرفق والسهولة، متقرِّبين بنصيحة الخلْق إلى الله، قاصدين نفع الخلْق، وإيصالهم إلى كل خير، وكفهم عن كل شر، ساعين في ذلك حسب وسعهم).

هيئة الإشراف

#3

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله


قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: (ثمَّ هُمْ معَ هذهِِ الأُصولِ …) إلخ. جَمَعَ المُؤَلِّفُ في هذا الفصلِ جمَاعَ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، التَّي يَتَخَلَّقُ بهَا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ من الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، وهوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ بالشَّرْعِ والَعَقْلِ، والنَّهيِ عنِ المُنْكَرِ، وهوَ كلُّ قبيحٍ عَقْلاً وشَرْعًا، على حَسَبِ ما تُوجبُهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ تلكَ الفريضَةِ؛ كمَا يُفْهَمُ مِنْ قولِهِ عليهِ السَّلامُ: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ )).
ومِنْ شُهُودِ الجُمَعِ والجَمَاعَاتِ والحَجِّ والجِهَادِ معَ الأُمَراءِ أيًّا كانُوا؛ لقولِهِ عليهِ السَّلام: (( صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ )).
ومِنَ النُّصْحِ لكلِّ مُسْلِمٍ؛ لقولِهِِ عليهِ السَّلامُ: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )).
ومِنْ فَهْمٍ صَحِيحٍ لِمَا تُوجِبُهُ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ مِنْ تَعَاطُفٍ وتَوَادٍّ وتَنَاصُرٍ؛ كمَا في هذهِِ الأحاديثِ التَّي يُشَبِّهُ فيهَا الرَّسُولُ المؤمنينَ بِالبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ المُتَمَاسِكِ اللَّبِنَاتِ، أوْ بِالْجَسَدِ الْمُتَرَابِطِ الأعْضَاءِ مِنْ دعوةٍ إلى الخيرِ، وإلى مكارمِ الأخلاقِ، فَهُمْ يَدْعُونَ إلى الصَّبْرِ على المَصَائِبِ، والشَّكْرِ على النَّعْمَاءِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ … إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا ذَكَرَهُ).

هيئة الإشراف

#4

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (هَذَا الفصْلُ كالمُتمِّمِ للفصْلِ الذي قَبلَه فيه بيانٌ لِصفاتِ أهلِ السُّنَّةِ التي هِيَ مِن مُكمِّلاتِ العقيدةِ فقولُه: (ثم هُم) أيْ: أهلُ السُّنَّةِ (مع هَذِهِ الأصولِ) أي: التي مَرَّ ذِكْرُها، أيْ: مع قِيامِهم بها عِلماً وعَملاً يَتحلَّوْنَ بصفاتٍ هِيَ مِن مُكمِّلاتِها وثَمراتِها، فهُم (يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَوْن عن المنْكَرِ) كما وَصَفَهم اللَّهُ بذَلِكَ في قولِه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والمعروفُ: هُوَ اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يُحبُّه اللَّهُ مِن الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، والمُنْكَرُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يَكْرَهُه اللَّهُ وينْهَى عنه.

(على ما تُوجِبُه الشَّريعةُ) أيْ: باليدِ، ثم باللِّسانِ، ثم بالقَلْبِ تَبَعاً للقُدرةِ والمصلحةِ. خِلافاً للمعتزِلةِ الذين يخالِفون ما تُوجِبُه الشَّريعةُ في هَذَا، فيَرَوْنَ أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهْيَ عن المُنْكَرِ هُوَ الخروجُ على الأئمَّةِ).

هيئة الإشراف

#5

28 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هذه الأصولِ يَأْمُرونَ بالمَعْروفِ، ويَنْهَوْنَ عنِ المُنْكَرِ على مَا توجِبُهُ الشَّريعَةُ.(1)).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) (فصل) قولُه: (ثم هُمْ) أي: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قولُه: (مع هَذِهِ الأصولِ المتقدِّمةِ يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهوْن عن المُنْكَرِ) كما وَصَفَهم اللَّهُ بِذَلِكَ فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}،
وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}،
وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وفي صحيحِ مسلمٍ والترمذيِّ وغيرِهما عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)).
فما تقدَّمَ دَليلٌ على عِظَمِ شأْنِ الدَّعوةِ إلى اللَّهِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وأنَّهما مِن أعظمِ الواجباتِ، وأصلٌ عظيمٌ مِن أصولِ الشَّريعةِ، ولولا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ لهُدِمَ بُنْيانُ الشَّريعةِ وتداعَى، وعمَّت الفَوْضى وساءت البلادُ، نسألُ اللَّهَ العافيةَ، والأدِلَّةُ على الحثِّ على الأمرِ بالمعروفِ والتَّرغيبِ فيه والوعيدِ الشَّديدِ في إهمالِه والتَّساهُلِ فيه كثيرةٌ جِداًّ. انتهى.
والمعروفُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما يُحبُّه اللَّهُ مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالِحِ، والمنكَرُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يَكرهُه اللَّهُ ونَهى عنه، انْتَهى اقتضاءُ الصِّراطِ المستقيمِ،

وقد تطابَقَ على وجوبِهما الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، وهما أيضًا مِن النَّصيحةِ، ولم يُخالِفْ في ذَلِكَ إلاَّ بعضُ الرَّافِضةِ، كما ذَكرَه إمامُ الحرمَيْنِ،
والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ فَرْضُ كفايةٍ مُخْتصَّانِ بأهلِ العِلمِ والدِّينِ يَعرفِونَ كونَ ما يأَمُرونَ بِهِ وما يَنْهَوْن عنه مِن الدِّينِ، فإنْ كان الذي عَلِمَ بالمنكَرِ واحداً تَعيَّنَ عليه الإنكارُ، أو كانوا جماعةً لكن لا يَحصُلُ المقصودُ إلا بهم جميعًا تَعيَّنَ عليهم.
ويُشترَطُ في وجوبِ الإنكارِ أنْ يَأْمَنَ المنكِرُ على نَفْسِه وأهلِه ومالِه، فإنْ خافَ على نَفسِه السَّيْفَ أو السَّوْطَ أو النَّفْيَ أو نحوَ ذَلِكَ مِن الأذى سَقَطَ عنه أَمْرُهم ونَهْيُهم، فإنْ خافَ السَّبَّ أو سماعَ الكلامِ السَّيِّئِ لم يَسقُطْ عنه الإنكارُ بِذَلِكَ، نصَّ عليه أحمدُ،

فإنِ احتمَلَ الأذى وقَوِيَ عليه فَهُوَ أفضلُ، نصَّ عليه أحمدُ أيضًا، وقيل له: أليس قد جاءَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) أي يُعرِّضَها مِن البلاءِ ما لا طاقةَ له به، قال: ليس هَذَا مِن ذَلِكَ،
وهل يَجِبُ إنكارُ المنكَرِ على مَن عَلِمَ أنَّه لا يُقبلُ منه؟ فيه روايتانِ عن أحمدَ، وصحَّحَ القولَ بوجوبِه، وهُوَ قولُ أكثرِ الصَّحابةِ كما ذَكَرَه ابنُ رجبٍ،
والمنكَرُ الذي يجبُ إنكارُه ما كان مُجْمَعاً عليه، أمَّا المختلَفُ فيه، فمِن أصحابِنا مَن قال: لا يجبُ إنكارُه على مَن فعلَه مجتهِدا أو مقلِّدا لمجتهدٍ تقليداً سابِقا، واسْتَثْنَى القاضي في الأحكامِ السُّلْطانِيَّةِ ما ضَعُفَ فيه الخلافُ،
ومَرَاتِبُ الإنكارِ ثلاثٌ كما تقدَّمَ مِن حديثِ أبي سعيدٍ، وفيه دليلٌ على أنَّ إنكارَ المنكَرِ يجِبُ بحسَبِ القُدرةِ عليه، وأنَّ إنكارَه بالقَلبِ لا بُدَّ منه بخلافِ الذي قَبْلَه، وأفادَ وُجوبَ تَغْييرِ المنكَرِ بكُلِّ طريقٍ، فلا يَكْفِي الوعظُ إنْ أَمْكَنَه إزالةُ المُنكَرِ باليَدِ، ولا يكفي بالقلبِ إذا أمْكنَ باللِّسانِ.
قولُه: (على ما تُوجِبُه الشَّريعةُ) أي: أنَّه يجبُ أنْ يكونَ الآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهِي عن المنكَرِ مَتَبَصِّرا عالِما بما يأمُرُ به، وأنَّه مُطابِقٌ للأمْرِ، قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}،

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ: ولا بدَّ مِن العِلمِ بالمعروفِ والمنكَرِ والتَّمييزِ بينهما، ولا بدَّ مِن العِلمِ بحالِ المأمورِ والمنْهِيِّ، ولا بدَّ في ذَلِكَ مِن الرِّفْقِ، ولا بدَّ أنْ يكونَ حَلِيماً صَبوراً على الأَذَى، فإنَّه لا بدَّ أنْ يَحصُلَ له أذًى، فإنْ لم يَحلُمْ وَيَصْبِرْ كان ما يُفِسدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ، فلا بُدَّ مِن هَذِهِ الثلاثةِ: العِلمُ، والرِّفقُ، والصَّبرُ، العِلمُ قبلَ الأمْرِ والنَّهْيِ، والرِّفقُ معه، والصَّبرُ بعدَه، اهـ.
وقال سفيانُ الثَّوريُّ: لا يأمُرُ بالمعروفِ ولا يَنْهَى عن المنكَرِ إلاَّ مَن كان فيه ثلاثُ خصالٍ: رَفيقٌ بما يأمُرُ رَفيقٌ بما يَنْهى، عَدلٌ فيما يأمُرُ، عَدلٌ فيما يَنْهى، عالِمٌ بما يأمُرُ عالِمٌ بما يَنْهى. انتهى.
وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الأعلامِ: وقد شَرَعَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لأُمَّتِه إيجابَ إنكارِ المنكَرِ ليَحصُلَ بإنكارِه ما يُحبُّه اللَّهُ ورسولُه، فإذا كان إنكارُ المنكَرِ يَستلزِمُ ما هُوَ أنكَرُ مِنه وأَبْغضُ إلى اللَّهِ ورسولِه فإنَّه لا يُسوَّغُ إنكارُه، وإنْ كان اللَّهُ يُبغِضُه ويَمقُت أهلَه، وهَذَا كالإنكارِ على الملوكِ والولاةِ بالخروجِ عليهم فإنَّه أسبابُ كُلِّ شرٍّ وفِتنةٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ، وقد استأْذَنَ الصَّحابةُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في قتالِ الأُمراءِ الذين يؤخِّرونَ الصلاةَ عن وَقْتِها فقالوا: أفلا نقاتِلُهم؟ قال: ((لاَ مَا أَقَامُوا الصَّلاَةَ))، وقال: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ)).

إلى أنْ قال: فَإِنْكَارُ المنكَرِ أربعُ درجاتٍ:
الأُولى: أنْ يَزولَ ويخلُفُه ضِدُّه.
الثَّانيةُ: أنْ يَقِلَّ وإنْ لم يَزُلْ بجُملَتِه.
الثَّالثةُ: أن يَخْلُفُه ما هُوَ مِثلُه.
الرَّابعةُ: أنْ يَخلُفُه ما هُوَ شَرٌّ مِنه.
فالدَّرجتانِ الأُولَيانِ مَشروعَتانِ، والثالثةُ موضعُ اجتهادٍ. والرَّابِعةُ محرَّمةٌ، فإذا رأيتَ أهلَ الفُجورِ والفُسوقِ يَلعبونَ بالشَّطَرَنْجِ كان إنكارُها عليهم مِن عَدمِ الفِقهِ والبصيرةِ، إلاَّ إذا نَقَلْتَهُم مِنه إلى ما هُوَ أحبُّ إلى اللَّهِ ورسولِه، كرَمْيِ النشابِ، وسَبْقِ الخيلِ ونحوِ ذَلِكَ، انتهى مُلخَّصا، وقال بعضُهم:

ومَن أزالَ منكَرا بأنْكَرا ....... كغاسِلِ الحيْضِ ببولٍ أَغْيَرا

وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ثم إنَّه يَأْمُر ويَنهى مَن كان عالِما بما يأمُرُ بِهِ ويَنْهَى عنه، وَذَلِكَ يَختلِفُ باختلافِ الشَّيءِ، فإنْ كان مِن الواجباتِ الظَّاهرةِ والمحرَّماتِ المشهورةِ كالصَّلاةِ والصِّيامِ والزِّنا ونحوِها فكُلُّ المسلِمِينَ عُلماءُ بها، وإنْ كان مِن دقائقِ الأفعالِ والأقوالِ، وما يَتعلَّقُ بالاجتهادِ لم يكُنْ للعَوامِّ مَدخَلٌ فيه، ولا لَهُم إنكارُه بل ذَلِكَ للعُلماءِ. انتهى).

هيئة الإشراف

#6

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)): (1) على ما تُوجِبُهُ الشَّريعَةُ).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1)  فَصْلٌ فِي مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ وَغُيْرِها مِن الخِصَالِ
((هُمْ))؛ أَيْ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
((مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ)): السَّابِقَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَ هَذَا، وَهُوَ اتِّبَاعُ آثارِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاتِّبَاعُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَإِيثَارِهِمْ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَاتِّبَاعُ إِجْمَاعِ المُسْلِمينَ؛ مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ:
((يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَن المُنْكَرِ)):
وَ((المَعْرُوفُ)): كُلُّ مَا أمَرَ بِهِ الشَّرْعُ؛ فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِهِ.
وَ((المُنْكَرُ)): كُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ؛ فَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ.
لِأَنَّ هَذَا هُو مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ) [آلِ عِمْرَان: 104].
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهونَّ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً)).
فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَن المُنْكَرِ، وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ لِلأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ أَنْ يَكُونَا عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ وَتَقْتَضِِيهِ.
وَلِذَلِكَ شُرُوطٌ:
الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ؛ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا عَلِمَ أنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِهِ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا عَلِمَ أنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَلَا يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى ذَوْقٍ وَلَا عَادَةٍ.
لِقُولِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ) [المَائِدَة: 48].
وَقَوْلِهِ: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإِسْرَاء: 36].
وَقَوْلِهِ: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَاَ يُفْلِحُونَ) [النَّحْل: 116].
-فََلَوْ رَأى شَخْصاً يَفْعَلُ شَيْئاً الأَصْلُ فِيهِ الحِلُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَنْهَاهُ عَنْهُ حتَّى َيْعلَمَ أنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
-وَلَوْ رَأَى شَخْصاً تَرَكَ شَيْئاً يَظُنُّهُ الرَّائِي عِبَادَةً؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أنَّ الشَّرْعَ أمَرَ بِهِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ بِحَالِ المَأْمُورِ: هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الأَمْرُ أَو النَّهْيُ أَمْ لَا؟ فَلَوْ رَأَى شَخْصاً يَشُكُّ هَلْ هُوَ مُكلَّفٌ أَمْ لَا؛ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمَا لَا يُؤمَرُ بِهِ مِثْلُهُ حَتَّى يَسْتَفْصِلَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِحَالِ المَأْمُورِ حَالَ تَكْلِيفِهِ؛ هَلْ قَامَ بِالفِعْلِ أَمْ لَا؟
-فَلَو رَأَى شَخْصاً دَخَلَ المَسْجِدَ ثُمَّ جَلَسَ، وَشَكَّ هَلْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَأْمُرُهُ بِهِمَا، حتَّى يَسْتَفْصِلَ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ يَومَ الجُمُعَةِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((أَصَلَيتَ؟)). قَالَ: لَا. قَالَ: ((قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)).
-وَلَقَدْ نُقِلَ لِي أنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: يُحَرَّمُ أَنْ يُسَجَّلَ القُرْآنُ بِأَشْرِطَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِهَانَةٌ لِلقُرْآنِ عَلَى زَعْمِهِ!! فَيَنْهَى النَّاسَ أنْ يُسَجِّلوا القُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الأَشْرِطَةِ؛ لِظَنِّهِ أنَّهُ مُنْكَرٌ!!
فَنَقُولُ لَهُ: إِنَّ المُنْكَرَ أَنْ تَنْهَاهُمْ عَن شَيءٍ لَمْ تَعْلَمْ أنَّهُ مُنْكَرٌ!! فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ فِي دِينِ اللهِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ العِبَادَاتِ، أمَّا العِبَادَاتُ؛ فَإِنَّنَا لَوْ رَأَيْنَا رَجُلاً يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَةٍ؛ لَمْ يَعْلَمْ أنَّها مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ؛ فَإِنَّنا نَنْهَاهُ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ فِي العِبَادَاتِ المَنْعُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَادِراً عَلَى القِيَامِ بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ بِلَا ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ؛ فَإِنْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِنْ صَبَرَ وَقَامَ بِهِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الوَاجِبَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِالقُدْرَةِ وَالاسْتِطَاعَةِ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التَّغَابُن: 16]، وَقَولُهُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّّّا وُسْعَهَا) [البَقَرَة: 286].
فَإِذَا خَافَ إِذَا أَمَرَ شَخْصاً بِمَعْرُوفٍ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ حِينَئذٍ. وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الأَمْرُ وَالصَّبْرُ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ، مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ القَتْلِ. لَكِنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الآَمْرَ إِذَا لَحِقَهُ الضَّرَرُ بِحَبْسٍ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَتْرُكُ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن المُنْكَرِ خَوْفاً مِمَّا حَصَلَ، حَتَّى فِي حَالٍ لَا يُخْشَى مِنْهَا ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَهَذَا مَا لَمْ يَصِلْ الأَمْرُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ مِن جِنْسِ الجِهَادِ؛ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِسُنَّةٍ ونَهَى عَنْ بِدْعَةٍ، وَلَوْ سَكَتَ؛ لَاسْتَطَالَ أَهْلُ البِدْعَةِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَفِي هَذِهِ الحَالِ يَجِبُ إِظْهَارُ السُّنَّةِ وَبَيانُ البِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مِن الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يُعْذَرُ مَن تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ.
الشَّرْطُ الخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِن السُّكُوتِ؛ فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ أَوْ يَنْهَى عَن المُنْكَرِ.
وَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّ إِنْكَارَ المُنْكَرِ يَنْتُجُ مُنْهُ إِحْدَى أَحْوُالٍ أَرْبَعَةٍ: إِمَّا أَنْ يَزُولَ المُنْكَرُ، أَوْ يَتَحَوَّلَ إِلَى أَخَفَّ مِنْهُ، أَوْ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهُ.
-أمَّا الحَالَةُ الأُولَى وَالثَّانيةُ؛ فَالإِنُكارُ وَاجِبٌ.
-وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ؛ فَهِي فِي مَحَلِّ نَظَرٍ.
-وَأَمَّا فِي الرَّابِعَةِ؛ فَلَا يَجُوزُ الإِنْكَارُ؛ لِأَنَّ المَقْصُودَ بِإِنْكَارِ المُنْكَرِ إِزَالَتُهُ أَوْ تَخْفِيفُهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأَمُرَ شَخْصاً بِفِعْلِ إِحْسَانٍ، لَكِنْ يَسْتَلْزِمُ فِعْلَ هَذَا الإِحْسَانِ ألَّا يُصَلِيَ مَعَ الجَمَاعَةِ؛ فَهُنَا لَا يَجُوزُ الأَمْرُ بِهَذَا المَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ يُؤدِّي إِلَى تَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ أَجْلِ فِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ.
وَكَذَلِكَ فِي المُنْكَرِ لَوْ كَانَ إِذَا نَهَى عَن هَذَا المُنْكََرِ؛ تَحَوَّلَ الفَاعِلُ لَهُ إِلَى فِعْلِ مُنْكَرٍ أَعْظَمَ؛ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالِِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَن هَذَا المُنْكَرِ دَفْعاً لِأَعْلَى المَفْسَدَتَيْنِ بِأَدْنَاهُمَا.
وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108]؛ فَإِنَّ سَبَّ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ؛ لَا شَكَّ أنَّهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، لَكِنْ لِمَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَحْظُورٌ أَعْظَمُ مِن المَصْلَحَةِ الَّتِي تَكُونُ بِسَبِّ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ سبُّهُمْ للهِ تَعَالَى عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ نَهَى اللهُ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الحَالِ.
وَلَوْ وَجَدْنا رَجُلاً يَشْرَبُ الخَمْرَ، وَشُرْبُ الخَمْرِ مُنْكََرٌ، فَلَوْ نَهَيْنَاهُ عَنْ شُرْبِهِ؛ لَذَهَبَ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ أَعْرَاضَهُمْ؛ فَهُنَا لَا نَنْهَاهُ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ؛ لِأنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الآمِرُ أَو النَّاهِي قَائِماً بِمَا يَأْمُرُ بِهِ مُنْتَهِياً عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، وَهَذَا عَلَى رَأي بَعْضِ العُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالمعروفِ وَلَا يَنْهَى عَن المُنْكَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البَقَرَة: 44]؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ لَا يُصَلِّي؛ فَلَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ؛ فَلَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فَهُم اسْتَدَلُّوا بِالأَثَرِ وَالنَّظَرِ.
وَلَكِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِيهِ، وَيَنْهَى عَن المنكَرِ، وَإِنْ كَانَ يَأتِيهِ، وَإِنَّمَا وَبَّخَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا عَلَى أَمْرِهِمْ بِالبِرِّ، وَلَكِنْ عَلَى جَمْعِهِمْ بَيْنَ الأَمْرِ بِالبِرِّ وَنِسْيَانِ النَّفْسِ.
وَهَذَا القَوْلُ هُوَ الصَّحيحُ؛ فَنَقُولُ: أَنْتَ الآنَ مَأْمُورٌ بِأَمْرَيْنِ: الأَوَّلِ: فِعْلُ البِرِّ، وَالثَّانِي: الأَمْرُ بِالبِرِّ. مَنْهِيٌّ عَن أَمْرَينِ: الأَوَّلِ: فِعْلُ المُنْكَرِ، وَالثَّانِي: تَرْكُ النَّهْي عَن فِعْلِهِ. فَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ تَرْكِ المَأْمُورينِ وَفِعْلِ المَنْهِيينِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الآخَرِ.
فَهَذِهِ سِتَّةُ شُرُوطٍ؛ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ لِلجَوَازِ، وَهُنَّ الأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالخَامِسُ؛ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَاثْنَانِ لِلوُجُوبِ، وَهُمَا الرَّابِعُ وَالسَّادِسُ.
وَلَا يُشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أُصُولِ الآمِرِ أَوْ النَّاهِي كَأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ، بَلْ رُبَّمَا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَتَأَكَّدُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ أَنْ يَنْهَاهُمَا عَنْ فِعْلِ المَعَاصِي وَيَأْمُرَهُمَا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ.
قَدْ يَقُولُ: أَنَا إِذَا نَهْيتُ أَبِي؛ غَضِبَ عَلَيَّ، وَزَعِلَ، وَهَجَرَنِي؛ فَمَاذَا أَصْنَعُ؟
نَقُولُ: اصْبِرْ عَلَى هَذَا الَّذِي يَنَالُكَ بِغَضَبِ أَبِيكَ وَ هَجْرِهِ، وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ، وَاتَّبِعْ مِلَّةَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ حَيْثُ عَاتَبَ أَبَاهُ عَلَى الشِّرْكِ؛ فَقَالَ: (يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً…) إِلَى أَنْ قَالَ: (يَأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ))؛ أيْ: أَبُوهُ (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا) [مَرْيَم: 42-46]. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ أَيضاً لِأَبِيهِ آزَرَ: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبينٍ) [الأَنْعَام: 74]).

هيئة الإشراف

#7

28 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* فصلٌ في محاسنِ أهلِ السنَّةِ *

(فَصْلٌ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هذه الأحوالِ يَأْمُرونَ بالمَعْروفِ، ويَنْهَوْنَ عنِ المُنْكَرِ على مَا توجِبُهُ الشَّريعَةُ.
وَيَرَوْنَ إِقامَةَ الحَجِّ والجِهَادِ والجُمَعِ والأعْيادِ معَ الأمَراءِ أَبْراراً كانُوا أَو فُجَّاراً، ويُحافِظونَ عَلى الجَماعاتِ.
ويَدِينُونَ بالنَّصِيحَةِ للأمَّةِ، ويَعْتَقِدونَ معنى قَـوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((المُؤْمِنُ لِلْمُؤِمِنِ كَالبُنْيانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً))، وشَبكَ بينَ أَصابِعِهِ، وقوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَراحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ: إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ)).
ويَأْمُرونَ بالصَّبْرِ عِنْدَ البَلاءِ، والشُّكْرِ [ عند الرَّخاءِ ] والرِّضا بمُرِّ القَضاءِ.
ويَدْعونَ إِلى مَكارِمِ الأَخلاقِ، ومَحَاسِنِ الأعْمالِ، ويَعْتَقِدونَ مَعْنى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَكْمَلُ المُؤمِنينَ إِيْماناً أَحْسَنُهُم خُلُقاً)).
وَيَنْدُبُونَ إِلى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
ويَأْمُرونَ بِبِرِّ الوَالِديْن ِ، وصِلَةِ الأرْحامِ، وحُسْنِ الجِوارِ، والإِحسانِ إِلى اليَتَامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبيلِ، والرِّفْقِ بالمَمْلوكِ.
ويَنْهَوْنَ عَنِ الفَخْرِ، والخُيَلاءِ، والبَغْيِ، والاسِتطالَةِ عَلى الخَلْقِ بَحَقٍّ أَو بغيرِ حَقٍّ.
ويَأْمُرونَ بِمَعالي الأخْلاَقِ، ويَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسافِها).

الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (كما دلَّ القرآنُ والسُنَّةُ على ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ} وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهِ بِيدِهِ. الْحَدِيثَ.
وإذا كَانَ جِماعُ الدِّينِ وجميعُ الولاياتِ هُوَ أمْرٌ ونَهيٌ. فالأمرُ الَّذِي بَعثَ اللهُ به رسولَهُ هُوَ الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ الَّذِي بَعَثه به هُوَ النَّهيُ عَن المُنكرِ وهَذَا نعتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والْمُؤْمِنينَ.
وهَذَا واجبٌ على كلِّ مُسْلِمٍ قادرٍ وهُوَ فرضٌ على الكفايةِ ويصيرُ فرْضَ عَينٍ على القادرِ الَّذِي لم يَقمْ به غَيْرُهُ. والقُدْرةُ هُوَ السُلْطَانُ والولايةُ فَذَوو السُلْطَانِ أقدرُ مِن غَيْرِهِمْ وعليهم مِن الوجوبِ ما لَيْسَ على غَيْرِهِمْ فإنَّ مَناطَ الوجوبِ القُدْرةُ فيجبُ على كلِّ إنسانٍ بحسبِ قُدرتِه. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وجميعُ الولاياتِ الإسلامِيَّةِ مقصودُها الأمرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عَن المُنكَرِ وإذا كَانَ هُوَ مِن أعظمِ الواجباتِ فالواجباتُ والمُستحبَّاتُ لا بُدَّ وأنْ تكونَ المصلحةُ فيها راجِحةً على المَفسدةِ ؛ إذ بهَذَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ ونَزَلَتِ الكُتبُ، واللهُ لا يُحبُّ الفسادَ بَل كلُّ ما أَمَرَ اللهُ به فهُوَ صلاحٌ، وقَدْ أثْنَى اللهُ على الصَّلاحِ والمُصلحينَ، والَّذِينَ آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ ؛ وَذمَّ المُفسدينَ فِي غيرِ موضعٍ. فحيث كَانَتْ مفسدةُ الأمرِ والنَّهْيُ أعظمَ مِن مصلحَتِه لم تكن مِمَّا أَمَرَ اللهُ به، وإنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ واجباً وفَعَلَ مُحَرَّماً. إذ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أنْ يَتَّقيَ اللهَ فِي عِبادِه ولَيْسَ عَلَيْهِ هُداهم، وهَذَا معنى قَولِهِ تَعَالَى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والاهتداءُ إنَّمَا يَتمُّ بأداءِ الواجبِ. فإذا قام المُسْلِمُ بما يَجبُ عَلَيْهِ مِن الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عَن المُنكَرِ كما قام بغَيْرِهِ مِن الواجباتِ لم يَضرَّه ضَلالُ الضُلاَّلِ، وذَلِكَ يكونُ بالقلبِ تارةً، وباللِّسانِ تارةً، وتارةً باليدِ. فأمَّا القلبُ فيَجِبُ بكلِّ حالٍ إذ لا ضررَ فِي فِعلِهِ.
ومنْ لم يَفعلْهُ فلَيْسَ بمؤمنٍ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذَلِكَ أدْنى أو أضعفُ الإيمانِ وقَالَ: ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ، وقِيلَ لابنِ مسعودٍ: مَن مَيِّتُ الأحياءِ؟ فقَالَ: الَّذِي لا يعرفُ مَعروفاً ولا يُنكِرُ مُنكراً.
وهنَا خَلَطَ فريقانِ مِن النَّاسِ: فريقٌ يَتركُ ما يَجبُ مِن الأمرِ والنَّهْيِ تأويلاً لهَذِهِ الآيةِ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} كما قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّكم تَقرأونَ هَذِهِ الآيةَ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تَضَعونها فِي غيرِ مَوضِعها، وإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوُا المُنكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوَشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقابٍ منه.
والفـريقُ الثَّانِي: مَن يُريـدُ أنْ يأمُـرَ وَيَنْهى إمَّا بِلسانِهِ، وإمَّا بِيده مُطلقاً مِن غيرِ فِقْهٍ وحِلْمٍ وَصـبرٍ، وَنَظَـرَ فيما يَصلحُ مِن ذَلِكَ وما لا يَصلُحُ وما يَقـدِرُ عَلَيْهِ، وما لا يَقـدِرُ عَلَيْهِ كما فِي حَـدِيثِ أَبِي ثَعلبةَ الخُشنِيِّ: سألتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: ائْتَمِرُوا بِالْمَعْروفِ وَتَنَاهُوا عَن المُنكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحّاً مُطَاعاً وَهَوًى مُتَّبَعاً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرأْيِه، وَرَأَيْتَ أَمْرَ النَّاسِ لا يُدَانُ لك به فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِك وَدَعْ عَنْكَ أمْرَ العَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكَ أيَّاماً الصَّبْرُ فِيهِنَّ عَلَى مِثْلِ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ. فيأتِي بالأمرِ والنَّهْيِ مُعتقِداً أنَّهُ مُطيعٌ فِي ذَلِكَ اللهَ ورسولَهُ وهُوَ مُعتدٍ فِي حدودِه. كما انْتَصبَ كثيرٌ مِن أهلِ البِدعِ والأهواءِ كالخَوارِجِ والمُعتزِلةِ والرَّافِضَةِ وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلطَ فيما أتاهُ مِن الأمرِ والنَّهْيِ والجِهادِ عَلَى ذَلِكَ وكَانَ فسادُه أعظمَ مِن صَلاحِه. ولهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصَّبرِ عَلَى جَورِ الأئِمَّةِ، وَنَهى عَن قِتالِهم ما أقَامُوا الصَّلاةَ وقَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللهَ حُقُوقَكُمْ ؛ ولهَذَا كَانَ مِن أصولِ أهلِ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ لزومُ الجَمَاعَةِ وتَرْكُ قتالِ الأئِمَّةِ، وترْكُ القتالِ فِي الفِتنةِ، وأمَّا أهلُ الأهواءِ كالمُعتزِلةِ فيرَونَ القتالَ للأئمَّةِ مِن أصولِ دِينِهم. وجماعُ ذَلِكَ داخِلٌ فِي القاعدةِ العامَّةِ فيما إذا تعارَضَتِ المصالحُ والمَفاسِدُ والحسناتُ والسَّيِّئاتُ، أو تَزَاحَمت فإِنَّهُ يجبُ تَرجيحُ الرَّاجِحِ منها فيما إذا ازْدحَمت المصالِحُ والمَفاسِدُ وتَعارَضتْ. فإنَّ الأمرَ والنَّهْيَ وإن كَانَ مُتضمِّناً لتحصيلِ مَصلحةٍ وَدفعِ مَفسدةٍ فيُنظرُ فِي المُعارِضِ فإنْ كَانَ الَّذِي يفوتُ مِن المصالِحِ أو يَحصلُ مِن المفَاسدِ أكثرَ لم يَكُنْ مأمُوراً به. بَل يكونُ مُحرَّماً إذا كَانَتْ مَفسدتُه أكْثرَ مِن مَصلحتِه. لكنْ اعتبارُ مقاديرِ المصالحِ والمفاسدِ هُوَ بميزانِ الشَّرِيعَةِ، فمتى قَدرَ الإنسانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لم يَعدلْ عَنْهَا وإلا اجْتهدَ بِرأيِهِ لمعرفةِ الأشياءِ والنظائرِ. وقَلَّ أنْ تعوزَ النُّصُوصُ مَن يكونُ خَبِيراً بها وبِدلالتِها عَلَى الأحكامِ، وعَلَى هَذَا إذا كَانَ الشَّخصُ أو الطَّائِفَةُ جامِعينَ بين معروفٍ ومُنكرٍ بحيث لا يُفرِّقون بينهما. بَل إمَّا أنْ يَفعلوهما جَميعاً أو يَترُكوهما جميعاً. لم يَجُزْ أن يأمروا بمعروفٍ بَل ولا أن يَنْهوا عَن مُنكرٍ. بَل يُنظرُ فإنْ كَانَ المعروفُ أكثرَ أُمِرَ به، وإنِ اسْتلزمَ ما هُوَ دونَه مِن المُنكَرِ ولم يُنْهَ عَن مُنكْرٍ يَستلزمُ تَفويتَ معروفٍ أعظمَ منه. بَل يكونُ النَّهْيُ حينئذٍ مِن بابِ الصَّدِّ عَن سبيلِ اللهِ والسَّعيِ فِي زوالِ طاعتِه وطاعةِ رسولِهِ وزوالِ فعلِ الحسناتِ، وإن كَانَ المُنكَرُ أغلبَ نُهِيَ عَنْهُ وإنِ استلزمَ فواتَ ما هُوَ دونَه مِن المعروفِ ويكونُ الأمرُ بذَلِكَ المعروفِ المُستلزِمِ للمُنْكَرِ الزَّائدِ عَلَيْهِ أمْراً بمُنْكَرٍ وَسعياً فِي معصيةِ اللهِ ورسولِهِ. وإنْ تكَافَأَ المعروفُ والمُنْكَرُ المُتلازمانِ لم يُؤمرْ بهما ولم يُنهَ عنهما. فتارةً يَصلحُ الأمرُ، وتارةً يصلحُ النَّهْيُ، وتارةً لا يصلحُ أمْرٌ ولا نَهيٌ. حيث كَانَ الأمرُ والنَّهْيُ مُتلازِمين. وذَلِكَ فِي الأمورِ المُعيَّنةِ الواقِعةِ.
وأمَّا مِن جِهةِ النَّوعِ فَيؤمَرُ بالمعروفِ مُطلقاً ويُنهَى عَن المُنْكَرِ مُطلقاً وفِي الفاعلِ الواحـدِ والطَّائِفَةِ الواحدةِ يُؤمرُ بِمعروفِها وَيُنهى عَن مُنكرِها، وَيُحمدُ مَحمـودُها وَيُذمُّ مَذمومُها بحيث لا يَتضمَّنُ الأمرُ بالمعروفِ فواتَ أكثرَ منه أو حصولَ مُنْكَرٍ فوقَه، ولا يَتضمَّنُ النَّهْيُ عَن المُنْكَرِ حصولَ أنكرَ منه أو فواتَ معروفٍ أرْجحَ منه. وإذا اشْتبهَ الأمرُ اسْتبانَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَتبيَّنَ لَهُ الحقُّ ؛ فلا يَقدمُ عَلَى الطَّاعةِ إلا بعِلْمٍ ونِيَّةٍ. وإذا تَرَكَها كَانَ عاصِياً فَتركُ الأمرِ الواجبِ معصيةٌ وفِعلُ ما نُهِيَ عَنْهُ مِن الأمرِ مَعصيةٌ.
ومِن هَذَا البابِ إقرارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأمثالِهِ مِن أئمَّةِ النِّفاقِ والفجورِ لِما لهم مِن أعوانِ فإزالةُ مُنكرِهِ بنوعٍ مِن عِقابِه مُستلزِمَةٌ إزالةَ معروفٍ أكثرَ مِن ذَلِكَ بغضبِ قَومِه وَحَميَّتِهم. وبنفورِ النَّاسِ إذا سَمعوا أنَّ محمداً يَقتلُ أصحابَهُ.
وقَالَ ابنُ القيِّمِ: وقَدْ شرَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأمَّتِه إيجابَ إنكارِ المُنْكَرِ لِيحصلَ بإنكارِه مِن المعروفِ ما يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ فإذا كَانَ إنكارُ المُنْكَرِ يَستلزمُ ما هُوَ أنكرُ منه وأبغضُ إِلَى اللهِ ورسولِهِ فإِنَّهُ لا يسوغُ إنكارُه وإنْ كَانَ اللهُ يَبغضُه ويَمقُتُ أهلَه.
وهَذَا كالإنكارِ عَلَى المُلوكِ والوُلاةِ بالخروجِ عليهم. فإِنَّهُ أساسُ كلِّ شَرٍّ وِفتْنِه إِلَى آخِـرِ الدَّهرِ، وقَدِ استأذنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قتالِ الأُمراءِ الَّذِينَ يُؤخِّرونَ الصَّلاةَ عَن وقْتِها وقَالُوا: أفلا نُقاتِلُهم فقَالَ: لاَ مَا أَقَامُوا الصَّلاةَ. وقَالَ: مَن رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلاَ يَنْزَعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ.
ومنْ تَأمَّلَ ما جَرى عَلَى الإسْلاَمِ فِي الفِتنِ الكِبارِ والصِّغارِ رآها مِن إضاعةِ هَذَا الأصلِ وعدمِ الصَّبرِ عَلَى مُنْكَرٍ. فَطَلَبَ إزالَتَه فَتولَّدَ منه ما هُوَ أكبرُ منه فقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بمكَّةَ أكبرَ المُنكراتِ ولا يستطيعُ تَغييرُها بَل لمَّا فَتحَ اللهُ مكَّةَ وصارتْ بَلدَ إسلامٍ عَزمَ عَلَى تغْييرِ البيتِ ورَدِّه عَلَى قواعدِ إبراهيمَ ومَنَعهُ مِن ذَلِكَ مَعَ قُدرتِه عَلَيْهِ خَشيةُ وقوعِ ما هُوَ أعظمُ منه فإنكارُ المُنْكَرِ أربعُ درجاتٍ:
(الأُولى) أنْ يزولَ ويَخلفَهُ ضِدُّه
(الثَّانيةُ) أنْ يَقلَّ وإِنْ لم يُزلْ بِجُملتِهِ
(الثَّالثةُ) أنْ يَخلفَه ما هُوَ مِثلُه.
(الرَّابِعةُ) أنْ يَخلفَه ما هُوَ شَرٌّ منه
فالدَّرجتانِ الأُوليانِ: مَشروعانِ. والثَّالثةُ: مَوضعُ اجتهادٍ والرَّابعةُ: مُحرَّمةٌ.
فإذا رأيتَ أهلَ الفجورِ والفسوقِ يَلعبونَ بالشِّطرنجِ كَانَ إنكارُك عليهم مِن عدمِ الفِقْهِ والبَصِيرةِ إلا إذا نَقلْتَهم منه إِلَى ما هُوَ أحبُّ إِلَى اللهِ ورسولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّابِ وَسبقِ الخيلِ ونحوِ ذَلِكَ.
وإذا رأيتَ الفُسَّاقَ قَدِ اجْتمعوا عَلَى لَهْوٍ ولعبٍ أو سماعِ مُكاءٍ وتَصديةٍ فإنْ نَقلتَهم عَنْهُ إِلَى طاعةِ اللهِ فهُوَ المُرادُ وإلا كَانَ تَرْكُهم عَلَى ذَلِكَ خيراً مِن أنْ تُفرِّغَهم لِما هُوَ أعظمُ مِن ذَلِكَ فكَانَ ما هم فيه شَاغلاً لهم عَن ذَلِكَ. وكما إذا كَانَ الرَّجُلُ مُشتغلاً بكُتبِ المجونِ ونحوِها وخِفتَ مِن نقْلِهِ عَنْهَا انتقالَهُ إِلَى كُتبِ البِدعِ والضَّلالِ والسَّحرةِ فَدعْه وكُتُبَه الأولى. وهَذَا بابٌ واسِعٌ.
وسَمِعْتُ شيخَ الإسْلَامِ ابنَ تيميةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَه ونوَّرَ ضرِيحَه يقولُ: مَررتُ أنا وبعضُ أصْحَابِِي فِي زمنِ التَّتارِ بقومٍ مِنْهُمْ يَشربونَ الخمرَ فأنكرَ عليهم مَن كَانَ معي فأنكرْتُ عَلَيْهِ وقلتُ: "إنَّمَا حرَّمَ اللهُ الخمرَ لأنَّهَا تَصدُّ عَن ذِكرِ اللهِ وعَن الصَّلاةِ وهؤلاء يَصدُّهم الخمرُ عَن قتلِ النُّفوسِ وَسبيِ الذُّرِّيةِ وأخْذِ الأموالِ فَدَعْهم اهـ).