11 Nov 2008
الإيمان بالحوض المورود
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَفِي عرصة القِيَامَةِ الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِن اللَّبنِ، وَأَحْلَى مِن الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن شرب مِنْهُ شَرْبَةً لم يَظْمأْ بَعْدَهَا أَبَدًا)) ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَفي عَرَصاتِ القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا من اللَّبنِ، وأحْلى منَ العَسَل، آنيتُهُ عَدَدَ نُجومِ السَّماَءِ، طولُهُ شهْرٌ وعَرضُهُ شهْرٌ مَنْ يَشربُ منهُ شَربةُ لا يظمأُ بعدَها أبداً)):(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) الأمرُ الثَّامنُ ممَّا يكونُ يومَ القيامةِ وهُو
ما ذكَرَهُ المؤلِّفُ بقولِهِ: ((وَفي عَرَصاتِ القِيامَةِ الحَوْضُ
المَوْرودُ لمحمَّدٍ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
العرَصات: جمعُ عرْصةٍ، وهي المكانُ المتَّسعُ بينَ البنيانِ، والمرادُ بهِ هنا مواقفُ القيامةِ.
والحوضُ في الأصلِ: مجمعُ الماءِ، والمرادُ بهِ هنا: حوضُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والكلامُ على الحَوْضِ مِنْ عِدَّةِ وجوهٍ:
أولاً: هذا الحَوْضُ موجودٌ الآنَ؛ لأنَّهُ
ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ خطَبَ ذاتَ
يومٍ في أصحابِه، وقَالَ: ((وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلى حَوْضِي
الآنَ)).
وأيضاً؛ ثبَتَ عنِ النَّبيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ أنَّهُ قَالَ: ((وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي)).
وهذا يُحتملُ أنَّهُ في هذا المكانِ، لكنْ لا نشاهِدُهُ؛ لأنَّهُ غَيبي، ويحُتملُ أنَّ المنبرَ يوضَعُ يومَ القيامةِ على الحوضِ.
ثانياً: هذا الحوضُ يُصَبُّ فيه ميزابانِ منَ
الكَوثرِ، وهو النَّهرُ العظيمُ، الَّذِي أعطيه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنَّةِ؛ ينزلانِ إلى هذا الحَوْضِ.
ثالثاً: زمنْ الحوضِ قبلَ العبورِ على الصِّراطِ؛
لأنَّ المقامَ يقتضِي ذلِكَ؛ حيثُ إنَّ النَّاسَ في حاجةٍ إلى الشُّربِ في
عَرَصاتِ القيامةِ قَبْلَ عبورِ الصِّراطِ.
رابعاً: يَرِدُ هذا الحوضَ المؤمنونَ باللهِ
ورسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتَّبِعُونَ لشَريعتِهِ،
وأمَّا مَنْ استنكَفَ واستكَبرَ عَنِ اتباعِ الشَّريعةِ؛ فإنه يُطْرَدُ
منْهُ.
خامساً: في كيفيَّةِ مائهِ: فيقولُ المؤلِّفُ
رحِمَهُ اللهُ: ((مَاؤُهُ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ اللَّبَنِ)): هذا في
اللَّونِ، أمَّا في الطَّعمِ؛ فقَالَ: ((وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ))، وفي
الرَّائحةِ أطيبُ مِنْ ريحِ المِسْكِ؛ كما ثَبَتَ بهِ الحديثُ عنِ
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سادساً: في آنيتِهِ: يقولُ المؤلِّفُ: ((آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ)).
هذا كما وَرَدَ في بعضِ ألفاظِ الحديثِ، وفي
بعضِها: ((آنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّماءِ))، وهذا اللَّفظُ أشملُ؛ لأنَّهُ
يكونُ كالنُّجومِ في العددِ وفي الوصفِ بالنُّورِ واللَّمعانِ؛ فآنيتُهُ
كنجومِ السَّماءِ كثرةً وإضاءةً.
سابعاً: آثارُ هذا الحوضِ: قَالَ المؤلِّفُ: ((مَنْ يشربُ منهُ شَرْبةً؛ لا يظمأُ بعدَها أبداً)): حتَّى على الصِّراطِ وبعدَه.
وهذهِ مِنْ حِكْمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الَّذِي يشْرَبُ مِنَ الشَّريعةِ في الدُّنْيا لا يخسرُ أبداً كذلِكَ.
ثامناً: مساحةُ هذا الحوضِ: يقولُ المؤلِّفُ
((طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)): هذا إذاً يقتضي أن يكونَ
مُدَوَّراً؛ لأنه لا يكونُ بهذه المساحةِ مِنْ كلِّ جانبٍ؛ إلَّا إذا كانَ
مدوَّراً، وهذه المسافةُ باعتبارِ ما هو معلومٌ في عهدِ النَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سيرِ الإبلِ المعتادِ.
تاسعاً: يصُبُّ في الحوض ميزابانِ مِنَ الكَوْثَرِ الَّذِي أعْطاهُ اللهُ تعالَى محمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عاشراً: هَلْ للأنبياءِ الآخَرِينَ أحْواضٌ؟
فالجوابُ: نَعَمْ؛ فإنَّهُ جاءَ في حديثٍ رواهُ الترمذيُّ –وإنْ كانَ فيه مقَالَ-:
((إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضاً)).
لكن هذا يؤيدُه المعنَى، وهو أنَّ اللهَ عزَّ
وجلَّ بحكمتِهِ وعدلِهِ كَمَا جعلَ للنَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوضاً يَرِدُهُ المؤمنونَ من أُمَّتِهِ؛ كذلِكَ يجعلُ
لكلِّ نبيٍّ حوضًا، حتَّى ينتفعَ المؤمنونَ بالأنبياءِ السَّابقينَ، لكنَّ
الحوضَ الأعظمَ هو حوضُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وفي
[عَرَصَاتِ] القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤهُ أَشَدُّ بَياضًَا مِنَ اللَّبَنِ، وأَحْلَى مِنَ
العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نجومِ السَّماءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وعَرْضُهُ
شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَربَةً؛ لا يَظْمَأُ بَعْدَها أَبَدًا (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) وأَمَّا قولُهُ: (فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ…)؛
فإنَّ الأحاديثَ الواردةَ في ذِكْرِ الْحَوْضِ تبلغُ حدَّ التَّواتُرِ،
رواهَا من الصَّحابةِ بِضْعٌ وثلاثونَ صحابيًّا، فمَنْ أنْكرَهُ؛ فأَخْلِقْ
بهِ أنْ يُحالَ بينهُ وبينَ ورودهِ يومَ العطشِ الأكبرِ، وقَدْ وردَ في
أحاديثَ: ((إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا)).
ولكنَّ حوضَ نبيِّنَا صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ أعظمُهَا وأحلاهَا وأكثرُهَا واردًا.
جعلنَا اللهُ مِنْهُمْ بفضلِهِ وكرمِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وفي
عَرَصَاتِ القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤه أَشَدُّ بَياضاً مِنَ اللَّبَنِ، وأَحْلَى مِنَ
العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نجومِ السَّماءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وعَرْضُهُ
شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَربَةً؛ لا يَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً.(1) ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) 5- مما يُوجَدُ في القيامةِ حَوْضُ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، وقد ذَكَرَهُ الشَّيخُ هنا وبَيَّنَ أَوْصافَهُ، فقال: (وَفِي عَرَصاتِ القيامةِ الحوْضُ المَوْرُودُ لِلنَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم) كما ثَبَتَ ذَلِكَ عن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم.
قال الإمامُ ابنُ القيِّمِ: وقد رَوى أحاديثَ الحَوْضِ أربعونَ صَحابِياًّ،
وكثيرٌ منها، أو أكْثَرُها في الصَّحيحِ -انتهى- وتَقدَّمَ بيانُ معنى
العَرَصاتِ.
والحَوْضُ لغةً: مَجْمَعُ الماءِ.
وقد أَجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ على إثباتِ الحَوْضِ وخالفَتْ في
ذَلِكَ المعتزِلةُ، فلم تَقُلْ بإثباتِه، وأوَّلُوا النُّصوصَ الوارِدةَ
فيه، وأحالُوها عن ظاهرِها. ثم ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أوصافَ
الحوضِ، فقال: (ماؤُه أشدُّ بياضاً مِن اللَّبَنِ.. الخ)
وَهَذِهِ الأوصافُ ثابتةٌ في الأحاديثِ، كحديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو
المتَّفقِ عليه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ((حَوْضِي
مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ
مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ
لاَ يَظْمَأُ أَبَداً)) ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَفِي [عَرَصَاتِ] القِيَامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَياضَاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَداً).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَنَـسٍ قَالَ أَغْفَـى رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً فَرَفَعَ رَأْسَـهُ مُتَبَسِّماً
إِمَّا قَالَ لهُمْ وَإِمَّا قَالُـوا لهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ
رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ أُنْـزِلَتْ عَلَيَّ آنِفـاً سُـورَةٌ" فَقَـرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟" قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُوَ
نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ
كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ
الكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ العَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ:يَا رَبِّ إِنَّهُ
مِن أُمَّتِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَعَنْ ثَوْبَانَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرِدُونَ عَلَى الحَوْضِ وَأَنَا أَرُدُّ عَنْهُ النَّاسَ بِعَصَايَ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَرْضُهُ ؟قَالَ "كَمَا بَيْنَ مَقَامِي هَذَا إِلَى عَمَّانَ" قُلْنَا: وَمَا آنِيَتُهُ؟ قَالَ: "عَدَدُ
النُّجُومِ، فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ
وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ
بَعْدَهَا أبداً " قَالَ ثَوْبَانُ: فَادْعُوَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَكُمْ مِن وَارِدِيهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَوْضِي
مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ
الوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطَيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ
السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلاَ يَظْمَأُ بعده أَبَداً"
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لمُسْلمٍ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا
أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَى بِهِ
جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ عَلَيْهِ
قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ فَإِذَا
هُوَ مِسْكٌ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟ قَالَ: هُوَ الكَوْثَرُ الذي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ".
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ: ثُمَّ
يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ وَيَنْصَرِفُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالحُونَ
فَيَسْلُكُونَ جِسْراً مِنَ النَّارِ فَيَطَأُ أَحَدُكُمُ الجَمْرَ
فَيَقُولُ:حَسِّ يَقُولُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَانُهُ. أَلاَ
فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيَّكُمْ عَلَى
أَظْمَأِ_وَاللَّهِ-نَاهِلَةٍ عَلَيْهَا قَطُّ مَا رَأَيْتُهَا، فَلَعَمْرُ
إِلَهِكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلاَّ وُضِعَ عَلَيْهَا
قَدَحٌ يُطَهِّرُهُ مِنَ الطَّوْفِ وَالبَوْلِ وَالأَذَى".
"وَالأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ فِي الحَوْضِ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ،
رَوَاهَا مِن الصَّحَابَةِ بِضْعٌ وثَلاَثُـونَ صَحَابِيًّا بَلْ قَدْ
رَوَى أَحَادِيثَ الحَـوْضِ أَرْبَعُـونَ مِن الصَّحَـابَةِ وَكَثِيرٌ
مِنْهَا، وَأَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحِ،وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ أيضـاً.
وَهَلِ الحَوْضُ مُخْتَصٌّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمْ لكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ؟ فَالحَوْضُ الأَعْظَمُ مُخْتَصٌّ بِهِ لا
يَشْرَكُهُ فِيهِ نَبِيٌّ غَيْرُهُ وَأَمَّا سَائِرُ الأَنْبِيَاءِ فَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَن سُمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
لكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضاً وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ
وَارِدَةً وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً)).
وَفِي مُسْنَدِ البَزَّارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
لي حَوْضاً مَا بَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلَى الكَعْبَةِ أَبْيَضَ مِن
اللَّبَنِ فِيهِ عَدَدُ الكَوَاكِبِ آنِيَةٌ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى
الحَوْضِ، وَلكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ وَكُلُّ نَبِيٍّ يَدْعُو أُمَّتَهُ
فَمِنْهُمْ مَن يَرِدُ عَلَيْهِ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَرِدُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ
العِصَابَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ الرَّجُلانِ وَالرَّجُلُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لا يَرِدُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ
بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ ثلاثاً" وَذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الحَوْضِ خَمْسُونَ مِن
الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَللْكَثِيرِ مِن هَؤُلاءِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلكَ
زِيَادَةٌ عَلَى الوَاحِدِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحَادِيثُهُمْ
بَعْضُهَا فِي مُطْلَقِ ذِكْرِ الحَوْضِ، وَفِي صِفَتِهِ بَعْضُهَا،
وَفِيمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، وَفِيمَنْ يُدْفَعُ عَنْهُ بَعْضُهَا
قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ المُتَأَخِّرِينَ وَصَّلَهَا إِلَى
رِوَايَةِ ثَمَانِينَ صَحَابِياً. اهـ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: مِمَّا يَجِبُ
عَلَى المُكَلَّفِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيُصَدِّقَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَصَّ نَبِيَّهُ مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَوْضِ المُصَرَّحِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ
وَشَرَابِهِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي يَحْصُلُ
بِمَجْمُوعِهَا العِلْمُ القَطْعِيُّ، إِذْ رَوَى ذَلكَ عَن النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الصَّحَابَةِ نَيِّفٌ عَلَى
الثَّلاثِينَ، مِنْهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُنِيفُ عَلَى العِشْرِينَ،
وَفِي غَيْرِهِمَا بَقِيَّةُ ذَلكَ مِمَّا صَحَّ نَقْلُهُ وَاشْتَهَرَتْ
رُوَاتُهُ، ثُمَّ رَوَاهُ عَن الصَّحَابَةِ المَذْكُورِينَ مِن
التَّابِعِينَ أَمْثَالُهُمْ، وَمِن بَعْدِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ
وَهَلُمَّ جَرًّا، وَأَجْمَعَ عَلَى إِثْبَاتِهِ السَّلَفُ وَأَهْلُ
السُّنَّةِ مِن الخَلَفِ، وَأَنْكَرَتْ ذَلكَ طَائِفَةٌ مِن المُبْتَدِعَةِ
وَأَحَالُوهُ عَن ظَاهِرِهِ، وَغَلَوْا فِي تَأْوِيلِهِ مِن غَيْرِ
اسْتِحَالَةٍ عَقْليَّةٍ وَلا عَادِيَّةٍ تُلْزِمُ حَمْلَهُ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى تَأْوِيلِهِ فَخَرَقَ
مَن حَرَّفَهَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ وَفَارَقَ مَذْهَبَ أَئِمَّةِ
الخَلَفِ. اهـ
وَوُرُودُ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ
الصِّرَاطِ، فَيَرِدُهُ قَوْمٌ وَيُذَادُ عَنْهُ آخَرُونَ وَقَدْ بَدَّلُوا
وَغَيَّرُوا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَن أَنَسٍ
قَالَ: سَأَلْتُ رَسُـولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَشْفَـعَ لي فَقَالَ: "أَنَا فَاعِلٌ" فَقُلْتُ: أَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: "اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: "أَنَا عِنْدَ المِيزَانِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: "أَنَا عِنْدَ الحَوْضِ".
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ الحَوْضِ بَعْدَ الصِّرَاطِ بِمَا جَاءَ فِي
بَعْضِ الأَحَادِيثِ: أَنَّ جَمَاعَةً يُدْفَعُونَ عَنِ الحَوْضِ بَعْدَ
أَنْ يَكَادُوا يَرِدُونَ وَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ،وَوَجْه
الإشْكالِ أَنَّ الذي يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى
الحَوْضِ يَكُونُ قَدْ نَجَا مِن النَّارِ فَكَيْفَ يَرِدُ إِلَيْهَا ؟
وَيُمَكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَرَّبُونَ مِن الحَوْضِ
بِحَيْثُ يَرَوْنَهُ وَيَرَوْنَ النَّارَ فَيُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُصُوا مِن بَقِيَّةِ الصِّرَاطِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ القُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: ذَهَبَ صَاحِبُ القُوتِ
وَغَيْرُهُ: إِلَى أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَذَهَبَ
آخَرُونَ إِلَى العَكْسِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْضَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي المَوْقِفِ قَبْلَ
الصِّرَاطِ وَالآخَرُ دَاخِلُ الجَنَّةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى
كَوْثَراً، قَالَ الحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لأَنَّ الكَوْثَرَ نَهْرٌ
دَاخِلَ الجَنَّةِ وَمَاؤُهُ يَصُبُّ فِي الحَوْضِ وَيُطْلَقُ عَلَى
الحَوْضِ كَوْثَراً لكَوْنِهِ يُمَدُّ مِنْهُ , فَغَايَةُ مَا يُؤْخَذُ مِن
كَلامِ القُرْطُبِيِّ أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ قَبْلَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ
النَّاسَ يَرِدُونَ المَوْقِفَ عِطَاشاً فَيَرِدُ المُؤْمِنُونَ الحَوْضَ
وَتَتَسَاقَطُ الكُفَّارُ فِي النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا: رَبَّنَا
عَطِشْنَا فَتُرْفَعُ لهُمْ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ: أَلا
تَرِدُونَ؟ فَيَظُنُّونَهَا مَاءً فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلمٌ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: "أَنَّ الحَوْضَ يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِن الجَنَّةِ".
وَلَهُ شَاهِدٌ مِن حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى القُرْطُبِيِّ
لا لَهَ؛ لأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرُ جَهَنَّمَ
وَأَنَّهُ بَيْنَ المَوْقِفِ وَالجَنَّةِ، وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ
يَمُرُّونَ عَلَيْهِ لدُخُولِ الجَنَّةِ، فَلَوْ كَانَ الحَوْضُ دُونَهُ
لحَالَتِ النَّارُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَاءِ الذي يُصَبُّ مِن الكَوْثَرِ
فِي الحَوْضِ. وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّ الحَوْضَ بِجَانِبِ الجَنَّةِ
لِيَنْصَبَّ فِيهِ المَاءُ مِن النَّهْرِ الذي دَاخِلَهَا. وَفِي حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: "وَيُفْتَحُ نَهْرُ الكَوْثَرِ إِلَى الحَوْضِ". اهـ
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: وَاخْتُلِفَ فِي المِيزَانِ
وَالحَوْضِ أَيُّهُمَا يَكُونُ قَبْلَ الآخَرِ؟ فَقِيلَ: المِيزَانُ.
وَقِيلَ: الحَوْضُ. قَالَ أَبُو الحَسَنِ القَابِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ
الحَوْضَ قَبْلُ. قَالَ القُرْطُبِيُّ: وَالمَعْنَى يَقْتَضِيهِ؛ فَإِنَّ
النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشاً مِن قُبُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ
فَيُقَدَّمُ قَبْلَ المِيزَانِ وَالصِّرَاطِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ
الغَزَاليُّ فِي كِتَابِ كَشْفِ عِلْمِ الآخِرَةِ: حَكَى بَعْضُ السَّلَفِ
مِن أَهْلِ التَّصْنِيفِ أَنَّ الحَوْضَ يُورَدُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَهُوَ
غَلَطٌ مِن قَائِلِهِ القُرْطُبِيِّ هُوَ كَمَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ
القُرْطُبِيُّ: وَلا يَخْطُرُ بِبَالِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ بَلْ
فِي الأَرْضِ المُبْدَّلَةِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالفِضَّةِ لمْ يُسْفَكْ
فِيهَا دَمٌ وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ تَظْهَرُ
لنُزُولِ الجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ لفَصْلِ القَضَاءِ انْتَهَى.
فَقَاتَلَ اللَّهُ المُنْكِرِينَ لوُجُودِ الحَوْضِ وَأَخْلِقْ بِهِمْ أَنْ
يُحَالَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ العَطَشِ الأَكْبَرِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ: "فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ"
ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الحَوْضَ مِن وَرَاءِ الجِسْرِ وَكَأَنَّهُمْ لا
يَصِلُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْطَعُوا الجِسْرَ، وَللسَّلَفِ فِي ذَلكَ
قَوْلانِ: حَكَاهُمَا القُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ وَالغَزَاليُّ،
وغَلِطَ مَن قَالَ :إِنَّهُ بَعْدَ الجِسْرِ. وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى
الحَوْضِ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِن
بَيْنِي وَبينِهُمْ فَقَالَ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟
فَقَالَ:إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ. قُلْتُ:مَا شَأْنُهُمْ ؟
قَالَ:إِنَّهُمْ ارْتَدُّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ
مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ". قَالَ: فَهَذَا الحَدِيثُ
مَعَ صِحَّتِهِ أَدَلُّ دَليلٍ عَلَى أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ فِي
المَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ؛ لأَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا هُوَ جِسْرٌ
مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِن النَّارِ.
قَلَتْ:وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَارُضٌ وَلا تَنَاقُضٌ وَلا اخْتِلافٌ، وَحَدِيثُهُ
كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَصْحَابُ هَذَا القَوْلِ إِنْ
أَرَادُوا أَنَّ الحَوْضَ لا يُرَى وَلا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلا بَعْدَ
قَطْعِ الصِّرَاطِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهِ يَرُدُّ
قَوْلَهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ المُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا
الصِّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمُ الحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لقِيطٍ هَذَا وَهُوَ لا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ
قَبْلَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّهُ قَالَ: طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ
فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطُّولِ وَالسِّعَةِ فَمَا الذي يُحِيلُ
امْتِدَادَهُ إِلَى مَا وَرَاءِ الجِسْرِ؟ فَيَرِدُهُ المُؤْمِنُونَ قَبْلَ
الصِّرَاطِ وَبَعْدَهُ؟ فَهَذَا فِي حَيِّزِ الإِمْكَانِ، وَوُقُوعُهُ
مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: "عَلَى أَظْمَأِ نَاهِلَةٍ قَطُّ ":
النَّاهِلَةُ: العِطَاشُ الوَارِدُونَ المَاءَِ أَيْ: يَرِدُوهُ أَظْمَأَ
مَا هُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصِّرَاطِ
فَإِنَّهُ جِسْرُ النَّارِ وَقَدْ وَرَدُوهَا كُلُّهُمْ فَلَمَّا قَطَعُوهُ
اشْتَدَّ ظَمَؤُهُمْ إِلَى المَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ القِيَامَةِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وفي
[عَرَصَاتِ] القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤه أَشَدُّ بَياضَاً مِنَ اللَّبَنِ، وأَحْلَى مِنَ
العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نجومِ السَّماءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وعَرْضُهُ
شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَربَةً؛ لا يَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً. (1)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) وقولُه: (ولكنْ تُعَدُّ أعمالُهم وتُحْصَى ويُوقَفُون عليها…) إلخ أي: تُحسَبُ أعمالُهم ويُخبَرون بها ويُقرَّرونَ بها، كقولِه: (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) وقال: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) الآية، إلى غير ذَلِكَ مِن الآياتِ.
قولُه: (عَرْصَة) بِوَزْن
ضَرْبةٍ لغةً: كُلُّ بُقعةٍ بين الدُّورِ واسِعةٌ ليس فيها بناءٌ،
وعَرَصَاتِ القيامةِ مواقِفُها مِن العَرْضِ والحِسابِ وغيرِ ذَلِكَ،
والحَوْضُ لغةً: مَجمَعُ الماءِ، والمرادُ بِهِ هنا هُوَ ما ذَكَرَه
المصنِّفُ، وهُوَ حقٌّ ثابتٌ بإجماعِ أهلِ الحقِّ، وأنْكَرَه الخوارِجُ
وبعضُ المعتزِلةِ، وقد تَوَاتَرَت الأحاديثُ في إثباتِ الحوْضِ. قال ابنُ
القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد رَوى أحاديثَ الحوضِ أربعون مِن
الصَّحابةِ، وكثيرٌ منها أو أكثرُها في الصَّحيحِ، اهـ.
وقال الحافِظُ جلالُ الدِّينِ السيوطيُّ في كتابِه
البُدورُ السَّافِرةُ: وَرَدَ ذِكْرُ الحوْضِ مِن روايةِ بضعةٍ وخمسين
صحابِياًّ، منهم الخلفاءُ الأربعةُ الرَّاشِدون، وحفَّاظُ الصَّحابةِ
المكْثِرون -رضي اللَّهُ عنهم-، ثم ذَكَرَ الأحاديثَ واحداً واحداً. انتهى.
فمنها ما رَواهُ البخاريُّ عن أنسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي مَا بَيْنَ
أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ
كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ)).
وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن جُندُبِ بنِ عبدِ اللَّهِ
البَجليِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ …))
والفَرَطُ الذي سَبَقَ إلى الماءِ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" وغيرِهما مِن
حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: قال
رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((حَوْضِي
مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ
مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ
لاَ يَظْمَأُ أَبَداً))، وفي روايةٍ: ((حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ)) وَهِيَ عندَهما أيضاً، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ المتَواتِرةِ في إثباتِ الحوْضِ، فيجبُ الإيمانُ بِذَلِكَ واعتقادُ ثُبوتِه.
قولُه: (وفي عَرْصةِ القيامةِ)
ظاهرُه أنَّ الحوْضَ قَبْلَ الصِّراطِ؛ لأنَّه يَختلِجُ ويُمنعُ منهُ
أقوامٌ قد ارتَدُّوا على أعقابِهم، ومِثلُ هؤلاء لا يُجاوِزون الصِّراطَ،
وروى البخاريُّ عن سهلِ بنِ سعدٍ الأنصاريِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ
–صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنِّي فَرَطُكُمْ
عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ
أَبَداً، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي،
ثُمَّ يُحَالُ بِيْنِي وَبَيْنَهُمْ)).
قولُه: (الحوضُ المورودُ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-)
ظاهرُه أنَّ الحوضَ خاصٌّ بِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- دُونَ غيرِه
مِن الأنبياءِ والمُرسَلِينَ، ولكنْ جاءَ في عِدَّةِ أحاديثَ أنَّ لِكُلِّ
نبيٍّ حوضًا تَرِدُ عليه أُمَّتُه، وإنَّما الحوضُ الأعظمُ مختصٌّ بِهِ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لا يَشْرَكُه فيه غيرُه، فحوْضُه -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- هُوَ أعظمُ الحياضِ وأحْلاها وأكثرُها وَارِداً،
كما أَخْرجَ التِّرمذيُّ مِن حديثِ سَمُرةَ رَفَعَه: ((إِنَّ
لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضاً وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَوضِهِ بِيَدِهِ عَصاً
يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَتَبَاهُوْنَ
أَيُّهُمْ أَكْثَرُ تَبَعاً، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ
تَبَعاً))، واختُلِفَ في الميزانِ والحوضِ أيُّهما يكونُ قَبلَ
الآخرِ، فقيل: الميزانُ، وقيل: الحوضُ. قال أبو الحسَنِ القابسيُّ:
والصَّحيحُ أنَّ الحوضَ قَبلُ. قال القرطبيُّ: والمعنى يَقتضِيه، فإنَّ
النَّاسَ يَخرجون عِطاشا مِن قُبورِهم فيُقدَّم قَبلَ الميزانِ والصِّراطِ.
قال القرطبيُّ: هُما حوضانِ الأوَّلُ قَبلَ الصِّراطِ وقَبلَ الميزانِ على
الأصحِّ، فإنَّ النَّاسَ يَخرجون عِطاشاً مِن قُبورهِم، فيَرِدُونه قَبلَ
الميزانِ، والثَّاني: في الجَنَّةِ، وكِلاهما يُسمَّى كَوْثرا، كما روى
مسلمٌ في "صحيحهِ" عن أنسٍ قال: بَيْنَا رسولُ اللَّهِ بين أظْهُرِنا إذْ
أغْفَى إغفاءةً ثم رَفعَ رأسَه مُبتسِما، فقلنا: ما أَضحككَ يا رسولَ
اللَّهِ؟ قال: ((أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ))، فقرأ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، ثم قال: ((أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ))؟ قلنا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ((فِإنَّهُ
نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ حَوْضِي،
تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ
السَّمَاءِ يُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ
مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَمَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)) ).