11 Nov 2008
الإيمان بوضع الموازين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ فَيُوزَنُ فيهَا أَعْمَالُ العِبَادِ {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 102-103]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فتُنْصَبُ المَوازينُ فَتوزَنُ بِها أعْمالُ العِبادِ(1) ))
فمَنْ ثَقُلتْ مَوَازِينُهُ هُمُ
المْفلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ موَازِينُهُ فَأُولِئكَ الَّذينَ خسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ في جَهنَّمَ خَالِدُون).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) الأمرُ الخامسُ مما يكونُ يومَ القيامةِ ما ذكره بقولِهِ: (فتُنْصَبُ المَوازينُ فَتوزَنُ بِها أعْمالُ العِبادِ)).
الَّذِي يَنْصبُ الموازينَ هُوَ اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لتوزنَ بِها أعمالُ العبادِ.
والمؤلِّفُ يقولُ: ((الموازين)): بالجمعِ، وقَدْ وردَتِ النُّصوصُ بالجمعِ والإفرادِ:
فمثالُ الجمعِ: قولُ الله تعالَى: (وَنَضَعُ
المَواَزِينَ القِسطَ لِيوَمِ القِياَمَةِ) [الأنبياء: 47]، وقَالَ تعالَى:
(وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فأُولَئِكَ هُمُ
المُفلِحُونَ وَمَن خَفَّت مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِين خَسِرُوا
أَنفُسَهُم) [الأعراف:8–9]
وأمَّا الإفرادُ؛ فقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلى الرَّحْمَنِ،
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزانِ: سُبْحَانَ
اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظيمِ)).
فقَالَ: ((في الميزانِ))؛ فأفرَدَ؛
فكيفَ نجمعُ بَيْنَ الآياتِ القرآنيَّةِ وبَيْنَ هذا الحديثِ؟!
فالجوابُ أنْ نقولَ: إنهَّا جمعَتْ باعتبارِ
الموزونِ؛ حيثُ إنَّهُ متعدِّدٌ، وأفردَتْ باعتبارِ أنَّ الميزانَ واحدٌ،
أو ميزانُ كلِّ أمةٍ.
أو أنَّ المرادَ بالميزانِ في قولِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((ثَقِيلَتَانِ في الميزانِ))؛ أيْ: في الوزنِ.
ولكنَّ الَّذِي يظهرُ – واللهُ أعلمُ – أنَّ
الميزانَ واحدٌ، وأنَّهُ جُمعَ باعتبارِ الموزونِ؛ بدليلِ قولِهِ: (فَمَن
ثَقُلَت مَوَازِينُهُ) [الأعراف: 8].
لكنْ يتوقفُ الإنسانُ: هَلْ يكونُ ميزانًا واحداً
لجميعِ الأممِ أو لكلِّ أمةٍ ميزانٌ؛ لأنَّ الأممَ كَمَا دلَّتْ عليه
النُّصوصُ تختلفُ باعتبارِ أجرِها؟!
وقولُهُ: ((تُنصَبُ الموازينُ)): ظاهرُه أنهَّا
موازينُ حِسِّيَّةٌ، وأنَّ الوزنَ يكونُ على حَسَبِ المعهودِ بالرَّاجحِ
والمرجوحِ، وذلِكَ لأنَّ الأصلَ في الكلماتِ الواردةِ في الكتابِ
والسُّنَّةِ حملُها على المعهودِ المعروفِ؛ إلَّا إذا قامَ دليلٌ على
أنَّها خلافُ ذلِكَ، والمعهودُ المعروفُ عندَ المخاطَبينَ منذُ نزولِ
القرآنِ الكريمِ إلى اليومِ أنَّ الميزانَ حِسِّيٌّ، وأنَّ هناكَ راجحاً
ومرجوحاً.
وخالفَ في ذلِكَ جماعةٌ:
فالمعتزلةُ قَالُوا: إنَّهُ لَيْسَ هُناك ميزانٌ
حِسِّيٌّ، ولا حاجةَ له؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قَدْ عَلِمَ أعمالَ العبادِ
وأحصاها، ولكنَّ المرادَ بالميزانِ: الميزانُ المعنويُّ الَّذِي هو العدلُ.
ولا شكَّ أنَّ قولَ المعتزلةِ باطلٌ؛ لأنَّهُ
مخالفٌ لظاهرِ اللَّفظِ وإجماعِ السَّلَفِ، ولأنَّنا إذا قُلْنا: إنَّ
المرادَ بالميزانِ: العدلُ؛ فلا حاجةَ إلى أنْ نعبِّرَ بالميزانِ، بَلْ
نُعبِّرُ بالعدلِ؛ لأنَّهُ أحبُّ إلى النَّفسِ مِنْ كلمةِ (ميزانٍ)،
وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تعالَى: (إن اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ)
[النحل: 90].
- وقَالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ الرُّجحانَ للعالي؛
لأنَّهُ يحصلُ فيه العُلُوُّ، لكنَّ الصَّوابَ أنْ نجريَ الوزنَ على
ظاهرِهِ، ونقولَ: إنَّ الرَّاجحَ هو الَّذِي ينزلُ، ويدلُّ لذلِكَ حديثُ
صاحبِ البطاقةِ؛ فإنَّ فيه أنَّ السِّجلَّاتِ تطيشُ وتثقلُ البطاقةُ، وهذا
واضحٌ؛ بأنَّ الرُّجحانَ يكونُ بالنُّزولِ.
وقولُهُ: ((فتوزن بها أعمالُ العبادِ)): كلامُ المؤلِّفِ رحمَهُ اللهُ صريحٌ بأنَّ الَّذِي يوزَنُ: العملُ.
وهنا مبحثانِ:
المبحثُ الأوَّلُ: كَيْفَ يُوزَنُ العملُ؛ والعملُ وصفٌ قائمٌ بالعاملِ، ولَيْسَ جسمًا فيوزَنُ؟!
والجوابُ على ذلِكَ: أنْ يُقَالَ: إنَّ اللهَ
سبحانَه وتعالَى يجعلُ هذه الأعمالَ أجسامًا، ولَيْسَ هذا بغريبٍ على
قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وله نظيرٌ، وهو الموتُ؛ فإنَّهُ يُجعلُ على صورةِ
كَبشٍ، ويُذبَحُ بَيْنَ الجنَّةِ والنَّارِ، مع أنَّ الموتَ معنًى، وليس
بجسمٍ، ولَيْسَ الَّذِي يُذبَحُ ملكُ الموتِ، ولكنَّهُ نفسُ الموتِ؛ حيثُ
يجعلُهُ اللهُ تعالَى جسمًا يشاهدُ ويُرى، كذلِكَ الأعمالُ يجعلُها اللهُ
عزَّ وجلَّ أجسامًا توزَنُ بهذا الميزانِ الحسِّيِّ.
المبحثُ الثَّاني: صريحُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ الَّذِي يوزَنُ العملُ؛ سواءٌ كان خيراً أم شرًّا:
وهذا هُوَ ظاهرُ القرآنِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ
تعالَى: (يَومَئِذٍ يَصدُرُ النَّاسُ أَشتَاتًا لّيُرَوا أَعمَالَهُم فَمَن
يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 6 – 8]؛ فهذا واضحٌ أنَّ الَّذِي يُوزَنُ العملُ؛
سواءٌ كان خيرًا أم شرًّا.
وقَالَ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلى الرَّحْمنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى
اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ))، وهذا ظاهرٌ أيضًا، بَلْ صريحٌ،
في أنَّ الَّذِي يُوزَنُ العملُ، والنُّصوصُ في هذا كثيرةٌ.
ولكنْ هناك نصوصٌ قد يُخالِفُ ظاهرُها هذا الحديثَ:
- مِنْها حديثُ صاحبِ البطاقةِ؛ رَجُلٌ يُؤتَى
بهِ على رُؤُوسِ الخَلائقِ، وتُعْرَضُ عليه أعمالُهُ في سِجلَّاتٍ تبلغُ
تسعةً وتسعينَ سجلاًّ؛ كلُّ سجلٍّ منها يبلغُ مدَّ البصرِ، فيقرُّ بِها،
فيقَالَ لَهُ: ألكَ عُذرٌ أو حَسَنةٌ؟ فيقولُ: لا؛ يا ربِّ! فيقولُ اللهُ:
بَلى؛ إنَّ لَكَ عندَنا حسنةً. فيؤتى ببطاقةٍ صغيرةٍ، فيها: أشهدُ أنْ لا
إلَهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ. فيقولُ: يا ربِّ! ما
هذه البطاقةُ مَعَ هذِهِ السِّجلَّاتِ؟! فيقَالَ: إنَّكَ لا تُظْلَمُ.
قَالَ: فتوضعُ السِّجلَّاتُ في كِفَّةٍ، والبطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشَتِ
السِّجلَّاتُ، وثَقُلَتِ البطاقةُ … الحديث.
وظاهِرُ هذا أنَّ الَّذِي يُوزَنُ، صحائفُ الأعمالِ.
= وهناكَ نصوصٌ أخْرَى تدلُّ على أنَّ الَّذِي يوزَنُ العاملُ؛ مثلُ:
قولِهِ تعالَى: (أُوْلَئِكَ الَّذِين كَفَرُوا
بآيات رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَت أَعمَالُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم
يَومَ القِيامَةِ وَزنًا) [الكهف: 105]؛ مَعَ أنَّهُ قد ينازَعُ في
الاستدلالِ بِهذه الآيةِ؛ فيقَالَ: إنَّ معنَى قولِهِ: (فَلاَ نُقِيمُ
لَهُم يَومَ القِيامَةِ وَزنًا)؛ يعني: قدرًا.
ومثلُ ما ثَبَتَ مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي
اللهُ عَنْهُ؛ أنه كان يَجْتَني سِواكًا من الأراكِ، وكانَ رَضِي اللهُ
عَنْهُ دقيقَ السَّاقَيْنِ، جَعَلَتِ الرُّيحُ تحركُهُ، فضحِكَ الصَّحابةُ
رَضِي اللهُ عَنْهُم، فقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)). قَالُوا: مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. قَالَ:
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَهُما فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ
أُحُدٍ)).
فصارَ ها هنا ثلاثةُ أشياءٍ: العملُ، والعاملُ، والصَّحائفُ.
فقَالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ الجمعَ بَيْنَها أنْ
يُقَالَ: إنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يوزَنُ عملُهُ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ
يوزَنُ صحائفُ عمَلِهِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يوزَنُ هو بنفسِهِ.
وقَالَ بعضُ العلماءِ: الجمعُ بَيْنَهما أنْ
يقَالَ: إنَّ المرادَ بوزنِ العملِ أنَّ العملَ يوزَنُ وهُوَ في الصحائِفِ،
ويبقى وزْنُ صاحبِ العملِ؛ فيكونُ لبعضِ النَّاسِ.
ولكنْ عِنْدَ التَّأمُّلِ نجدُ أنَّ أكثرَ
النُّصوصِ تدلُّ على أنَّ الَّذِي يوزَنُ هو العملُ، ويُخَصُّ بعضُ
النَّاسِ، فتوزَنُ صحائفُ أعمالِهِ، أو يوزنُ هو نفسُهُ.
وأمَّا ما وَرَدَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ وحديثِ صاحبِ البطاقةِ؛ فَقَدْ يكونُ هذا أمرًا يخصُّ اللهُ بهِ مَنْ يشاءُ من عبادِهِ.
قولُهُ: (((فَمَن ثَقُلَت ْمَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [المؤمنون: 102])):
(فَمَن): شَرْطيَّةٌ.
وجوابَ الشَّرطِ جملةُ: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ).
وأتْتِ الجملةُ الجزائيَّةُ جملةً اسميةً بصفةِ
الحصْرِ (فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ)، والجملةُ الاسميَّةُ تفيدُ
الثُّبوتَ والاستمرارَ.
وجاءَتْ باسمِ الإشارةِ الدَّالِّ على البُعْدِ (فَأُوْلَئِكَ)، ولم يَقُلْ: فهم المفلحُونَ. إشارةٌ إلى عُلوِّ مرتبتِهِم.
وجاءَتْ بصفةِ الحصرِ في قولِهِ: (هُمُ)، وهو ضميرُ فصلٍ يفيدُ الحصرَ والتوكيدَ، والفصلَ بَيْنَ الخبرِ والصِّفةِ.
والمفلِحُ: هُوَ الَّذِي فازَ بمطلوبِهِ ونجا مِنْ مرهوبِهِ؛ فحصلَ له السَّلامةُ مما يكرَهُ، وحصَلَ لَهُ ما يُحِبُّ.
والمرادُ بثقلِ الموازينِ رجحانُ الحسناتِ على السَّيِّاتِ.
وقولُهُ: (فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ): فيه إشكالٌ مِنْ جهةِ العربيَّةِ؛ فإن
(مَوَازِينُهُ) الضَّميرُ فيه مفردٌ، و(فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ)
الضَّميرُ فيه جَمعٌ!!
وجوابُهُ أنَّ (مَنْ) الشَّرطيَّةَ صالحةٌ
للإفرادِ والجمعِ؛ فباعتبارِ اللَّفظِ يعودُ الضَّميرُ إليها مفردًا،
وباعتبارِ المعنَى يعودُ الضَّميرُ إِلَيْها جَمعاً.
وكَلَّما جاءَتْ (مَنْ)؛ فإنَّهُ يجوزُ أنْ تعيدَ
الضميرَ إليها بالإفرادِ أو بالجمعِ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ؛ قَالَ اللهُ
تعالَى: (وَمَن يُؤمِن باللهِ وَيَعمَل صَالِحًا يُدخِلهُ جَنَّاتٍ تَجرِى
مِن تَحتِهَا الأنهارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَد أَحسَنَ اللهُ لَهُ
رِزقًا)) [الطلاق: 11]؛ فتجدُ الآيةَ الكريمةَ فيها مراعاةُ اللَّفظِ ثُمَّ
المعنَى ثُمَّ اللَّفظِ.
قولُهُ: (وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِين خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جهنَّمَ خَلِدُونَ) [المؤمنون: 103].
والإشارةُ هُنا للبُعْدِ؛ لانحطاطِ مرتبتِهِم، لا لعلوِّ مرتبتِهِم.
وقولُهُ: (خَسِرُوا أَنفُسَهُم): الكافرُ قَدْ
خَسِرَ نفسَهُ وأهلَهُ ومالَهُ: (قُل إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِين خَسِرُوا
أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ) [الزُّمَر: 15]، بينَمَا
المؤمنُ العاملُ للصَّالحاتِ قد رَبِحَ نفسَهُ وأهلَهُ ومالَهُ وانتفَعُ
بِهِ.
فهؤلاءِ الكفَّارُ خسِرُوا أنفسَهُم؛ لأنَّهم لم
يستفيدُوا مِنْ وجودِهِم في الدُّنْيا شيئاً، بَلْ ما استفادُوا إلَّا
الضَّررَ، وخَسِرُوا أموالَهُم؛ لأنَّهُم لم ينتفعُوا بِها، حتَّى ما
أعطُوه للخَلْقِ لينتفِعَ بهِ؛ فإنَّهُ لا ينفَعُهُم؛ كَمَا قَالَ تعالَى:
(وَمَا مَنَعَهُم أَن تُقبَلَ مِنهُم نَفَقَاتُهُم إِلاَّ أَنَّهُم
كَفَرُوا باللهِ وبِرَسُولِهِ) [التوبة: 54]، وخَسِرُوا أهلِيهِم؛ لأنَّهُم
في النَّارِ؛ فصاحبُ النَّارِ لا يأنسُ بأهلِهِ، بَلْ إنَّهُ مغلقٌ عليه
في تابوتٍ، ولا يَرَى أنَّ أحدًا أشدُّ منه عذابًا.
والمرادُ بخفَّةِ الموازيِنِ: رجحانُ السَّيِّاتِ
على الحسناتِ، أو فقدانُ الحَسَناتِ بالكُليَّةِ، إنْ قُلْنا بأنَّ
الكفَّارَ توزَنُ أعمالهُم؛ كما هو ظاهرُ هذِهِ الآيةِ الكريِمة وأمثالِها،
وهُوَ أحَدُ القَوْلَيْنِ لأهلِ العلمِ.
والقولُ الثَّاني: أنَّ الكفَّارَ لا توزَنُ
أعمالهُم؛ لقولِهِ تعالَى: (قُل هَل نُنَبِّئكُم بِالأَخسَرِينَ أَعمَلاً
الَّذِين ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنْيا وَهُم يَحسَبُونَ
أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا أُوْلَئِكَ الَّذِين كَفَرُوا بِئَايَاتِ
رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَت أَعمَالُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ
القِيَامَةِ وَزنًا) [الكهف: 103 – 105].
والله أعلم).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فتُنْصبُ الموازينُ فتُوزَنُ بها أعمالُ العبادِ([1]) (فَمَن
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ) [المؤمنون: 102-103].).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): ( ([1]) "الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال والعاملين والصحائف، أنه لا منافاة بينها، فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه، لا بذات العامل ولا بالصحيفة" اهـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد
خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (وهناكَ
تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فتوزَنُ بهَا أعمالُ العبادِ، وهيَ موازينُ
حقيقيةٌ، كلُّ ميزانٍ منهَا لهُ لسانٌ وكفَّتانِ، ويَقْلِِبُ اللهُ أعمالَ
العبادِ –وهيَ أعراضٌ– أجسامًا؛ لهَا ثُقْلٌ، فتُوْضَعُ الحسناتُ في
كِفَّةٍ، والسَّيِّئاتُ في كِفَّةٍ؛ كمَا قالَ تعالى:
{وَنَضَعُ المَوَازِيْنَ القِسْطَ لِيَوْمِ
القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإِنْ كَانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِن خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبينَ}.
ثمَّ تُنْشَرُ الدَّواوينُ، وهيَ صحائفُ الأعمالِ، {فأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ؛ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا، وَيْنَقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} أَوْ مِنْ وراءِ ظَهْرِهِ؛ {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا}، ويقولُ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوْتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}؛ قَالَ تعالَى:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرى المُجْرِمينَ
مُشْفِقينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا
الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغيرَةً ولاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
وأَمَّا قولُهُ تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْناهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ…}؛ فقَدْ قالَ الرَّاغِبُ: ((أيْ: عَمَلُهُ الذي طَارَ عنهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ)).
ولكنَّ الظَّاهِرَ أنَّ المرادَ بالطائرِ هُنَا نَصيبهُ في هذهِِ الدُّنيا،
ومَا كُتِبَ لهُ فيهَا من رِزْقٍ وعملٍ؛ كمَا في قولهِ تعالى: {أوَّلئِكَ يَنَا لُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتابِ}، يعني: ما كُتِبَ عليهِمْ فيهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ:
صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (ذَكَرَ
الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذَا الكلامِ بعضَ ما يَجرِي في يومِ
القيامةِ مِمَّا ذُكِرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ تفاصيلَ ما يجري في
هَذَا اليومِ مما لا يُدْرَكُ بالعقلِ، وإنما يُدرَكُ بالنُّقولِ
الصَّحيحةِ عن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم الذي لا يَنطِقُ عن الهَوى (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)
ومِن الحكمةِ في محاسَبةِ الخلائقِ على أعمالِهم ووَزْنِها وظهورِها
مكتوبةً في الصُّحُفِ مع إحاطةِ عِلمِ اللَّهِ بذَلِكَ ليَرى عبادُه كمالَ
حَمْدِه، وكمالَ عَدْلِه، وسَعَةَ رحمَتِه، وعظمةَ مُلْكِه، وذَكَرَ
الشَّيخُ مما يَجرِي في هَذَا اليومِ العظيمِ على العِبادِ:
1- (أنَّها تَدْنو منهم الشَّمْسُ)
أيْ: تَقْرُبُ مِن رُءُوسِهم، كما رَوى مسلمٌ عن المِقْدادِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم يقولُ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ)). قولُه: (وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ)
أيْ: يَصِلُ إلى أفواهِهِم فيَصيرُ بمنزلَةِ اللِّجامِ يَمنعُهم مِن
الكلامِ، وذَلِكَ نتيجةً لدُنُوِّ الشَّمسِ منهم، وذَلِكَ بالنِّسبةِ
لأكْثَرِ الخَلقِ ويُستثْنَى مِن ذَلِكَ الأنبياءُ ومَن شاءَ اللَّهُ.
2- ومما ذَكَرَ في هَذَا اليومِ قولَه: (وتُنْصَبُ المَوازينُ وتُوزَنُ بها الأعمالُ)
المَوازينُ: جمعُ مِيزانٍ، وَهُوَ الذي تُوزنُ به الحسناتُ والسَّيِّئات
-وَهُوَ مِيزانٌ حقيقيٌّ له لِسانٌ وكِفَّتانِ- وَهُوَ مِن أمورِ الآخرةِ،
نُؤمِنُ به كما جاءَ، ولا نَبْحَثُ عن كيفيَّتِه إلاَّ على ضوءِ ما وَرَدَ
مِن النُّصوصِ، والحِكْمةُ في وَزْنِ الأعمالِ إظهارُ مقادِيرِها ليكونَ
الجزاءُ بحسَبِه (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) أيْ: رَجَحَتْ حَسناتُه على سَيِّئاتِه (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أيْ: الفائِزونَ والنَّاجُونَ مِن النَّارِ المُستحِقُّونَ لدُخولِ الجَنَّةِ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أيْ: ثَقُلَتْ سيِّئاتُه على حسناتِه (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِروُا أَنْفُسَهُمْ) أيْ: خابُوا وصارُوا إلى النَّارِ (فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) أيْ: ماكِثونَ في النَّارِ.
والشَّاهِدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ الموازينِ والوَزْنِ يومَ القيامةِ.
وقد وَرَد ذِكْرُ الوَزنِ والمَوازينِ في آياتٍ كثيرةٍ
مِن القرآنِ، وقد أفاد مجموعُ النُّصوصِ أَنَّهُ يُوزَنُ العامِلُ
والعَملُ والصُّحُفُ، ولا مُنافاةَ بينها، فالجميعُ يُوزَنُ، ولكنَّ
الاعتبارَ في الثِّقَلِ والخِفَّةِ يكونُ بالعَملِ نَفْسِه، لا بِذاتِ
العاملِ، ولا بالصَّحِيفةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. وقد تأوَّلَ المعتزِلةُ
النُّصوصَ في ذَلِكَ على أنَّ المرادَ بالوزنِ والميزانِ العَدْلُ، وهَذَا
تأويلٌ فاسِدٌ مُخالِفٌ للنُّصوصِ، وإجماعِ سلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها.
قال الشَّوْكانِيُّ: وغايةُ ما تَشبَّثُوا به مجرَّدُ
الاستبعاداتِ العقليَّةِ، وليس في ذَلِكَ حُجَّةٌ على أَحدٍ. فهَذَا إذا لم
تَقبَلْه عقولُهم فقد قَبِلَتْه عقولُ قومٍ هِيَ أقوى مِن عقولِهم مِن
الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم حتى جاءتِ البِدَعُ كاللَّيْلِ
المُظلِمِ، وقال كُلٌّ ما شاءَ، وتَركوا الشَّرْعَ خلْفَ ظهورِهم. اهـ.
وأمورُ الآخرةِ ليست مما تُدرِكها العقولُ واللَّهُ أعْلَمُ.
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَتُنْصَبُ المَوَازِيْنُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ العِبَادِ، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ فأُوُلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}. قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وَقَالَ: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ("وَالمَوَازِينُ:
جَمْعُ مِيزَانٍ، وَأَصْلُهُ: مِوْزاَنٌ فَقُلَبَتِ الوَاوُ يَاءً
لكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، واختُلِفَ في ذِكْرِه هنا بلَفْظِ الجَمْعِ. هلِ
المُرادُ أنَّ لكلِّ شخصٍ ميزاناً؟ أو لكلِّ عَمَلٍ ميزانٌ فيكونُ الجَمْعُ
حَقِيقَةً؟ أَوْ ليْسَ هُنَاكَ إِلا مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَالجَمْعُ
بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ أَوِ الأَشْخَاصِ؟ وَيَدُلُّ عَلَى
تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الجَمْعُ للتَّفْخِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ}
مَعَ أَنَّهُ لمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِلا وَاحِدٌ، وَالذي يَتَرَجَّحُ
أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ. وَلا يُشْكِلُ بِكَثْرَةِ مَن يُوزَنُ عَمَلُهُ؛
لأَنَّ أَحْوَالَ القِيَامَةِ لا تُكَيَّفُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا.
وَحَكَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَن أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ ردًّا عَلَى مَن أَنْكَرَ المِيزَانَ مَا
مَعْنَاهُ: قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ ليَوْمِ القِيَامَةِ}
وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِيزَانَ يَوْمَ
القِيَامَةِ، فَمَنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَصَّ مِمَّنْ
يُحَاسَبُ وَتُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ طَائِفَتَانِ: فَمِن الكَفَّارِ مَن لا
ذَنْبَ لهُ إِلا الكُفْرُ وَلَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي
النَّارِ مِن غَيْرِ حِسَابٍ وَلا مِيزَانٍ , وَمِن المُؤْمِنِينَ مَن لا
سَيِّئَةَ لهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ
الإِيمَانِ فَهَذَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. كَمَا فِي
قِصَّةِ السَّبْعِينَ ألفاً وَمَن شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهِمْ،
وَهُمُ الذينَ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ كَالبَرْقِ الخَاطِفِ
وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِدِ الخَيْلِ، وَمَن عَدَا هَذَيْنِ مِن الكُفَّارِ
وَالمُؤْمِنِينَ يُحَاسَبُونَ، وَتُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ عَلَى
المَوَازِينِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ أَهْلُ
السُّنَّةِ عَلَى الإِيمَانِ بِالمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ العِبَادِ
تُوزَنُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَنَّ المِيزَانَ لهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ
وَيَمِيلُ بِالأَعْمَالِ، وَأَنْكَرَتِ المُعْتَزِلَةُ المِيزَانَ
وَقَالُوا: هُوَ عِبَارَةٌ عَن العَدْلِ، فَخَالَفُوا الكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ ؛ لأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ المُوَازِينَ
لوَزْنِ الأَعْمَالِ ليَرَى العِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً
فَيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ.
وَالحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الأَعْمَالَ حِينَئِذٍ تُجَسَّدُ
أَوْ تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ فَتَصِيرُ أَعْمَالُ الطَّائِعِينَ فِي
صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ المُسِيئِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ
تُوزَنُ. وَرَجَّحَ القُرْطُبِيُّ أَنَّ الذي يُوزَنُ الصَّحَائِفُ
الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الأَعْمَالُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقَدْ أَخْـرَجَ
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّـانَ، عَن أَبِي
الدَّرْدَاءِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا يُوضَـعُ فِي المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ)) وَفِي حَـدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: ((تُوضَعُ
المَوَازِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَتُوزَنُ الحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ،
فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثَقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ
الْجَنَّةَ. وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ دَخَلَ
النَّارَ)). قِيلَ: فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: ((أُولَئِكَ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ)). أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ , وَقَالَ البَغْوَيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، ذُكِرَ بِلَفْظِ الجَمْعِ وَالمِيزَانُ وَاحِدٌ ؟ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لفْظُهُ جَمْعاً وَمَعْنَاهُ واحداً كَقَوْلهِ (يَأَيُّهَا الرُّسُلُ)،
وَقِيلَ: لكُلِّ عَبْدٍ مِيزَانٌ، وَقِيلَ الأَصْلُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ
عَظِيمٌ. وَلكُلِّ عَبْدٍ فِيهِ مِيزَانٌ مُعَلَّقٌ بِهِ. وَقِيلَ:
جَمَعَهُ ؛ لأَنَّ المِيزَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى الكِفَّتَيْنِ
وَالشَّاهِدَيْنِ وَاللِّسَانِ وَلا يَتِمُّ الوَزْنُ إِلا
بِاجْتِمَاعِهَا. اهـ.
وَالذي يُوضَعُ فِي المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ قِيلَ الأَعْمَالُ
وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضاً، إِلا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُهَا
يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْسَاماً. قَالَ البَغْوَيُّ: رُوِيَ نَحْوُ هَذَا
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: ((مِنْ
أَنَّ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ
كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَابَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ
صَوَافَّ))
وَمِن ذَلكَ فِي الصَّحِيحِ قِصَّةُ القُرْآنِ ((وَأَنَّهُ
يَأْتِي صَاحِبَهُ فِي صُورَةِ شَابٍّ شَاحِبِ اللَّوْنِ فَيَقُولُ مَن
أَنْتِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا القُرْآنُ الذي أَسْهَرْتُ ليْلَكَ وَأَظْمَأْتُ
نَهَارَكَ)).
وَفِي حَدِيثِ البَرَاءِ فِي قِصَّةِ سُؤَالِ القَبْرِ: ((فَيَأْتِي المُؤْمِنَ شَابٌّ حَسَنُ اللَّوْنِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ))
وَذَكَرَ عَكْسَهُ فِي شَأْنِ الكَافِرِ وَالمُنَافِقِ. وَقِيلَ: يُوزَنُ
كِتَابُ الأَعْمَالِ. وَقِيلَ: يُوزَنُ صَاحِبُ العَمَلِ. وَقَدْ يُمْكِنُ
الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآثَارِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلكَ كُلُّهُ صَحِيحاً،
فَتَارَةً تُوزَنُ الأَعْمَالُ، وَتَارَةً تُوزَنُ مَحَالُّهَا، وَتَارَةً
يُوزَنُ فَاعِلُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: إِذَا انْقَضَى الحِسَابُ كَانَ بَعْدَهُ وَزْنُ
الأَعْمَالِ، وَالوَزْنُ لإِظْهَارِ مَقَادِيرِهَا ليَكُونَ الجَزَاءُ
بِحَسَبِهَا قَالَ: وَقَوْلُهُ: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ ليَوْمِ القِيَامَةِ}
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَوَازِينُ مُتَعَدِّدَةٌ تُوزَنُ فِيهَا
الأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ الْمَوْزُونَاتُ
فَجُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الأَعْمَالِ المَوْزُونَةِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ وَالذي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ مِيزَانَ الأَعْمَالِ
لهُ كِفَّتَانِ حِسِّيَّتَانِ مُشَاهَدَتَانِ.
وَفِي حَدِيثِ البِطَاقَةِ: ((فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ))، قَالَ: ((فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ وَلا يَثْقُلُ شَيْءٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ ((وَلاَ يَثْقُلُ شَيْءٌ اسْمَ اللَّهِ)).
وَفِي سِيَاقٍ آخَرَ: ((تُوضَعُ المَوَازِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ))
الحَدِيثَ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ فَائِدَةٌ جَليلَةٌ وَهِيَ: أَنَّ
العَامِلَ يُوزَنُ مَعَ عَمَلهِ وَيَشْهَـدُ لهُ مَا رَوَى البُخَارِيُّ،
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُـلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ)). قَالَ: ((اقْرَأُوا إن شئتم: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً})).
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْنِي
سِوَاكاً مِن الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ
تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ القَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ: ((وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ لهُمَا أَثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِن أُحُدٍ)).
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَحَـادِيثُ أيضـاً بِوَزْنِ الأَعْمَـالِ أَنْفُسِهَا
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَبِي مَالكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالحَمْدُ للَّهِ تَمْلاَ المِيزَانَ))، وَفِي الصَّحِيحِ ((كَلِمَتَانِ
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ
ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ
اللَّهِ العَظِيمِ)). وَلا يُلْتَفَتُ إِلَى مُلْحِدٍ مُعَانِدٍ
يَقُولُ: الأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لا تَقْبَلُ الوَزْنَ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ
الوَزْنَ الأَجْسَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْلِبُ الأَعْرَاضَ أَجْسَاماً،
كَمَا رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يُؤْتَى
بِالمَوْتِ كَبْشاً أَغَرَّ فَيُوقَفُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ
فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ،
وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ،
وَيَرَوْنَ أَنْ قَدْ جَاءَ الفَرَجُ فَيُذْبَحُ وَيُقَالُ: خُلُودٌ لاَ
مَوْتَ)) وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ فَثَبَتَ وَزْنُ
الأَعْمَـالِ وَالعَـامِلِ وَصَحَائِفِ الأَعْمَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ
المِيزَانَ لهُ كِفَّتَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَرَاءَ ذَلكَ مِن
الكَيْفِيَّاتِ وَلَوْ لمْ يَكُنْ مِن الحِكْمَةِ فِي وَزْنِ الأَعْمَالِ
إِلا ظُهُورُ عَدْلهِ سُبْحَانَهُ لجَمِيعِ عِبَادِهِ فَإِنَّهُ لا أَحَدَ
أَحَبَّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِن اللَّهِ مِن أَجْلِ ذَلكَ أَرْسَلَ
الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَكَيْفَ وَوَرَاءَ ذَلكَ مِن
الحِكَمِ مَا لا اطِّلاعَ لنَا عَلَيْهِ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَ المَلائِكَةِ لمَّا قَالَ اللَّهُ لهُمْ: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَ قَليلاً} ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فتُنْصَبُ المَوَازِيْنُ، فتُوزَنُ بِها أَعْمالُ العِبادِ، (فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ. ومَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فأُولئكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ). (1) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (وتُنْصَبُ الموازينُ، وتُوزنُ فيها أعمالُ العِبادِ)، (فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ. ومَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فأُولَئِكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ) تكاثَرتْ أدلَّةُ الكتابِ في إثباتِ الميزانِ، كما
تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأحاديثُ، وأجْمعَ أهلُ الحقِّ على ثُبوتِه ووجوبِ
الإيمانِ به، وأنَّه ميزانٌ حقيقيٌّ حِسِّيٌّ له لِسانٌ وكَفَّانِ، كما
هُوَ صريحُ الأدلَّةِ، فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ
رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ يَا رَبِّ: عَلِّمْنِي شَيْئًا
أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ به، قَالَ: قُلْ يا مُوسَى لاَ إِلَهَ إلاَّ
اللَّهُ، قَالَ يَا رَبِّ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا؟ قال يا
مُوسَى: لو أنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي فِي
كِفَّةٍ ولاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ في كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ
إِلَهَ إلا اللَّهُ)) الحديثَ، ورَوى الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو في حديثِ البِطاقةِ، وفيه ((…
فَيُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَتُوضَعُ
السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فِي كِفَّةٍ
فَطَاشَتْ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ …)) الحديثَ، إلىِ
غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الكثيرةِ التي بلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ،
وجَمعَ المصنِّفُ الموازينَ ظاهِرُه تَعدُّدُها، والصَّحيحُ أنَّه ميزانٌ
واحدٌ، وجَمَعَه.
قيل: لأنَّ الميزانَ يَشتمِلُ على الكِفَّتَيْنِ والشَّاهِدَيْنِ
واللِّسانِ، ولا يَتِمُّ الوزنُ إلا باجتماعِها، ويَحتمِلُ أنَّ الجَمعَ
للتَّفخيمِ، كما في قولِه: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) مع أنَّه لم يُرسَلْ إليهم إلاَّ واحدٌ.
وقيل: يجوزُ أنْ يكونَ لفظُه جمعًا ومعناه واحِداً، كقولِه: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ)
وأمَّا الوزنُ فهُوَ للأعمالِ كما أشار إليه المصنِّفُ، واستدلَّ بالآيةِ
المذكورةِ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قال: قال رسولُ
اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ …)) الحديثَ.
وأَخرجَ أبو داودَ والتِّرمذيُّ وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ عن أبي الدَّرداءِ عنه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ))، وفي الصَّحيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه-، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: ((كَلِمَتَانِ
حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ
ثَقِيلَتَانِ في الْمِيزَانِ: سبحانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ
اللَّهِ الْعَظِيمِ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ
على أنَّ الوزنَ للأعمالِ، وإلى هَذَا ذَهَب أهلُ الحديثِ، وقيل: الوزنُ
لصحائفِ الأعمالِ، كما في حديثِ صاحبِ البطاقةِ، وصوَّبَهُ مَرْعِيٌّ في
بَهجَتِه، وذَهبَ إليه جمهورٌ مِن المفَسِّرينَ، وصحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ
والقرطبيُّ وغيرُهما.
وقيل يُوزَنُ صاحِبُ العَملِ، كما في الحديثِ: ((يُؤْتَى يَوْمَ القِيامَةِ بِالرَّجُلِ السَّمِينِ فَلاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ)، ثم قرأ قولَه -سُبْحَانَهُ-: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} الآيةَ.
وقال ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد يُمكِنُ الجمعُ بين هَذِهِ
الآثارِ بأنْ يكونَ ذَلِكَ كلُّه صحيحاً، فتارةً تُوزنُ الأعمالُ، وتارةً
تُوزنُ مَحالُّها، وتارةً يُوزنُ فاعِلُها، واللَّهُ أَعْلمُ.
قال الغزاليُّ والقرطبيُّ: ولا يكونُ الميزانُ في حقِّ كُلِّ أحدٍ،
فالسَّبْعون ألفًا الذين يَدْخلون الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ لا يُرفَعُ لهم
ميزانٌ ولا يأخُذونَ صُحُفا، اهـ.
وقال القرطبيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قال العلماءُ: إذا انْقَضَى الحسابُ
كان بعدَه وزنُ الأعمالِ؛ لأنَّ الوزنَ للجزاءِ، فينبغي أنْ يكونَ بعدَ
المحاسَبةِ، فإنَّ المحاسَبةَ لتقريرِ الأعمالِ، والوزنَ لإظهارِ
مَقاديرِها؛ ليكونَ الجزاءُ بحسَبِها، قال الشَّيخُ مرعيٌّ -رَحِمَهُ
اللَّهُ-: والحِكمةُ في الوَزْنِ مَع أنَّ اللَّهَ عالِمٌ بكُلِّ شيءٍ
إظهارُ العَدْلِ، وبيانُ الفَضلِ، حَيْثُ يَزِنُ مَثاقِيلَ الذَّرِّ مِن
خيرٍ وشرٍّ. انتهى. ومِن المقرَّرِ أنَّ أحوالَ البرزخِ وأحوالَ الآخرةِ لا
تُقاسُ على ما في الدُّنْيَا، وإن اتَّفقَت الأسماءُ، فنؤمِن بها كما
وَرَد مِن غيرِ بحثٍ عن كَتْمِها وحقيقِتها، كما أخبَرَ الصَّادِقُ
المصْدُوقُ مِن غيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ.
قولُه: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ) أي: رَجَحَتْ حسَناتُه على سَيِّئاتِه ولو بواحدةٍ قاله ابنُ عبَّاسٍ.
قولُه: (فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ) أي: الذين فازُوا فنَجَوْا مِن النَّارِ وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ، والفلاحُ هُوَ الفَوزُ والظَّفَرُ، والحُصولُ على المطلوبِ.
قولُه: (ومَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي: ثقُلَتْ سيِّئاتُه على حسَناتِه (فأُولئكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: خَابوا وفازوا بالصَّفقةِ الخاسِرةِ، وقولُه: (في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) أي مَاكِثُون فيها دائِمون، والخُلودُ هُوَ المُكْثُ الطَّوِيلُ.
أفادتْ هَذِهِ الآيةُ إثباتَ الميزانِ والرَّدَّ على المعتزِلةِ الذين
أَنْكَروه، وقالوا: الميزانُ عبارةٌ عن العدلِ، وهَذَا تأويلٌ فاسدٌ مخالفٌ
للكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وأفادتْ أنَّ الوزنَ للأعمالِ، وأمَّا
جمعُ الموازينِ مع أنَّه ميزانٌ واحدٌ فقد تَقدَّمَ الجوابُ عنه).