11 Nov 2008
الإيمان بالبعث بعد الموت وقيام الناس لرب العالمين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَتُعادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ ، فَتَقُومُ القِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ تعالى بِهَا فِي كِتَابِهِ ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، وَتَدْنُو مِنْهُم الشَّمْسُ ، وَيُلْجِمُهُم العَرَق).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَتُعادُ الأرْواحُ إلى الأجْسادِ (1) وتَقُومُ الْقِيَامَةُ التِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا في كِتَابهِ، وَعلَى لسَانِ رَسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ
فَيَقومُ النَّاسُ مِنْ قُبورِهِمْ لِرَبِّ العالَمينَ حُفاةً عُراةً غُرْلاً(2)
(وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ)):(3)
((وَيُلْجِمْهُمُ العَرَقُ (4) )) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) (الأمرُ الأوَّلُ مما يكونُ في القيامة ما أشارَ إليه المؤلِّفُ بقولِهِ: ((فَتُعادُ الأرْواحُ إلى الأجْسادِ)).
هذا أوَّلُ الأمورِ: ويكونُ بعدَ النَّفخةِ
الثَّانيةِ في الصُّورِ، وذلِكَ بعدَ أنْ فارَقَتْها بالموتِ، وهذه غيرُ
الإعادةِ الَّتي تكونُ في البرزَخِ حينَ سؤالِ الميِّتِ عن ربِّه ودينِهِ
ونبيِّهِ، وذلِكَ أنَّ اللهَ يأمرُ إسرافيلَ فينفخَ في الصُّورِ،
فَيُصْعَقُ مَنْ في السَّماواتِ ومَنْ في الأرضِ؛ إلا مَنْ شاءَ اللهُ،
ثُمَّ يُنفَخُ فيه مرَّةً أخرى فتتطايرُ الأرواحُ مِنَ الصُّورِ إلى
أجْسادِها، وتحلُّ فيها.
وفي قولِ المؤلفِ: ((إلى الأجسادِ)): إشارةٌ إلى
أنَّ الأرواحَ لا تخرجُ مِنَ الصُّورِ؛ إلَّا بعدَ أنْ تتكاملَ الأجسادُ
مخلوقةً؛ فإذا كَمُلَتْ خِلقَتُها؛ نُفِخَ في الصُّورِ، فأُعِيدَت الأرواحُ
إلى أجسادِها.
وفي قولِهِ: ((تعادُ الأرواحُ إلى الأجسادِ)):
دليلٌ على أنَّ البعثَ إعادةٌ، ولَيْسَ تجديدًا، بَلْ هو إعادةٌ لما زالَ
وتحوُّلٌ؛ فإنَّ الجسدَ يتحوّلُ إلى ترابٍ، والعظامُ تكونُ رميمًا؛ يجمعُ
اللهُ تعالَى هذا المتفرِّقَ، حتَّى يتكوَّنَ الجسدُ، فتعادُ الأرواحُ إلى
أجسادِها، وأمَّا مَنْ زَعَمَ بأنَّ الأجسادَ تُخْلَقُ مِنْ جديدٍ؛ فإنَّ
هذا زعمٌ باطلٌ يردُّهُ الكتابُ والسُّنَّةُ والعقلُ:
- أمَّا الكتابُ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ:
(وَهُوَ الَّذِي يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيهِ)
[الروم: 27]؛ أيْ: يُعيدُ ذلِكَ الخَلْقَ الَّذِي ابتدأَه.
وفي الحديثِ القدسِي: ((يَقولُ اللهُ تعالَى:
لَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ))؛ فالكلُّ
على اللهِ هيِّنٌ.
وقَالَ تعالَى: (كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء: 104].
وقَالَ تعالَى: (ثُمَّ إِنَّكُم بَعدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيَامَةِ تُبعَثُونَ) [المؤمنون: 15 – 16].
وقَالَ تعالَى: (مَن يُحيِ العِظَامَ وَهِىَ
رَمِيمٌ قُل يُحيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلقٍ عَلِيمٌ) [يس: 78 – 79].
- وأما السُّنَّةُ؛ فَهِيَ كثيرةً جدًّا في هذا؛
حَيْثُ بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَنَّ النَّاسَ
يُحْشَرُونَ فِيها حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً))؛ فالنَّاسُ هم الَّذِين
يُحْشَرُونَ، ولَيْسَ سِواهُمْ.
فالمهمُّ؛ أنَّ البعثَ إعادةٌ للأجسادِ السَّابقةِ.
فإذا قُلْتَ: ربمَّا يُؤْكَلُ الإنسانُ مِنْ
قِبَلِ السِّباعِ، ويتحوَّلُ جسمُهُ الَّذِي أكلَهُ السَّبْغُ إلى تغذيةٍ
لهذا الآكِلِ تختلِطُ بدمِهِ ولحمِهِ وعظمِهِ وتخرجُ في روَثِهِ وبولِهِ؛
فما الجوابُ على ذلِكَ؟
فالجوابُ: أنَّ الأمرَ هينٌ على اللهِ؛ يقولُ:
كُنْ! فيكونُ، ويتخلَّصُ هذا الجسمُ الَّذِي سُيبْعَثُ مِنْ كلِّ هذه
الأشياءِ الَّتي اختلطَ بهِا، وقدرةُ اللهِ عزَّ وجلَّ فوقَ ما نتصوُّرُهُ؛
فاللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
قوله: (وَتَقومُ القِيامَةُ الَّتي أخْبَرَ اللهُ بِها في كِتابِهِ وَعَلى لِسانِ رَسولِهِ وَأجْمَعَ عَلَيْها المُسْلِمونَ)).
هذِهِ ثلاثةُ أنواعٍ مِنَ الأدلَّةِ: كتابُ اللهِ تعالَى، وسُّنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإجماعُ المسلمِين.
فأمَّا كتابُ اللهِ تعالَى؛ فَقَدْ أكَّدَ اللهُ
تعالَى في كتابِهِ هذِهِ القيامةَ، وذكَرَها اللهُ عزَّ وجلَّ بأوصافٍ
عظيمةٍ، توجبُ الخوفَ والاستعدادَ لهَا:
فقَالَ تعالَى: (يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعةِ شَيءٌ عَظِيمٌ يَومَ تَرَونَهَا
تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ
حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1 – 2].
وقَالَ تعالَى: ((الحَاقَّةُ مَا الحَاقَّةُ وَمَا أَدرَاكَ مَا الحَاقَّةُ) [الحاقة: 1 – 3].
وقَالَ تعالَى: (القَارِعَةُ مَا القَارِعَةُ
وَمَا أَدراكَ مَا القَارِعَةُ يَومَ يَكُونُ النَّاسُ كَالفَرَاشِ
المَبثُوثِ وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهنِ المَنفُوشِ) [القارعة: 1 – 5].
والأوصافُ لها في القرآنِ كثيرةٌ؛ كلُّها
مُروِّعةٌ مخوِّفةٌ؛ لأنهَّا عظيمةٌ، وإذا لم نؤمنْ بِها؛ فلَنْ نعمَلَ
لَها؛ إذْ لا يمكنُ للإنسانِ أنْ يعملَ لهذا اليومِ حتَّى يؤمنَ بهِ وحتَّى
يذكُرَ له أوصافَهُ الَّتي توجبُ العملَ لهذا اليومِ.
وأمَّا السُّنَّةُ؛ فالأحاديثُ في ذكرِ القيامةِ
كثيرةٌ، بَيَّنَ الرَّسولُ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بها ما يكونُ
فيها؛ كما سيأتي إنْ شاءَ اللهُ في ذكِر الحوضِ والصِّراطِ والكتابِ وغيرِ
ذلِكَ مما بيَّنهُ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وأمَّا الإجماعُ – وهو النَّوعُ الثَّالثُ –؛
فَقَدْ أجمعَ المسلمونَ إجماعاً قطعيًّا على الإيمانِ بيومِ القيامَةِ،
وَلِهَذَا كَان مَنْ أنكَرَهُ؛ فهو كافرٌ؛ إلاَّ إذا كانَ غريباً عن
الإسلامِ وجاهلاً؛ فإنَّهُ يعرَّفُ؛ فإنْ أصرَّ على الإنكارِ بَعْدَ ذلِكَ؛
فهو كافرٌ.
- وهُناكَ نوعٌ رابعٌ مِنَ الأدلَّةِ، وهو الكتبُ
السَّماويَّةُ؛ حَيْثُ اتَّفقَتْ على إثْباتِ اليومِ الآخِرِ، وَلِهَذَا
كانَ اليهودُ والنَّصارَى يؤمنونَ بذلِكَ، وحتَّى الآنَ يؤمنونَ بهِ،
وَلِهَذَا تسمعونَهُم يقولُونَ: فلانٌ المرحومُ، أو: رحمَهُ اللهُ، أو: ما
أشْبَهَ ذلِكَ؛ مما يدلُّ على أنهَّم يؤمنونَ باليومِ الآخِرِ إلى يومِنا
هذا.
وثَمَّ نوعٌ خامسٌ، وهو العقلُ، ووجْهُ ذلِكَ
أنَّهُ لَو لم يكُنْ هذا اليومُ؛ لكانَ إيجادُ الخلائقِ عبثًا، واللهُ عزَّ
وجلَّ مُنَزَّهٌ عَنِ العَبَثِ؛ فما الحِكْمةُ مِنْ قومٍ يُخلَقونَ
ويُؤمَرونَ ويُنهَونَ ويُلزَمونَ بما يُلزَمونَ به ويُندَبونَ إلى ما
يُندبونَ إليه، ثُمَّ يموتونَ، ولا حسابَ، ولا عقابَ؟!
وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تعالَى:
(أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لاَ
تُرجَعُونَ فَتَعَلَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ
العَرشِ الكَرِيمِ) [المؤمنونَ: 115 – 116].
وقَالَ تعالَى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيكَ القُرءاَنَ لَرَادُّكَ إِلى مَعَادٍ) [القصص: 85].
كَيْفَ يُفرَضُ القرآنُ ويُفرضُ العملُ بهِ؛
ثُمَّ لا يكونُ هناك معادٌ؛ نحاسَبُ على ما نفَّذْنا مِنْ هذا القرآنِ
الَّذِي فُرِضَ عَلَينْا؟!
فصارَتْ أنواعُ الأدلَّةِ على ثبوتِ اليومِ الآخِرِ خمسةً.
(2) الأمرُ الثَّاني مما يكونُ في القيامةِ ما أشارَ إليه بقولِهِ: ((فَيَقومُ النَّاسُ مِنْ قُبورِهِمْ لِرَبِّ العالَمينَ حُفاةً عُراةً غُرْلاً)).
قولُهُ: ((مِنْ قبورِهِم)): هذا بناءً على الأغلبِ، وإلاَّ؛ فقد يكونُ الإنسانُ غيرَ مدفونٍ.
قولُهُ: ((لربِّ العالمين))؛ يعني: لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يناديهم.
قَالَ اللهُ تعالَى: (وَاستَمِع يَومَ يُنَادِ
المُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَومَ يَسمَعُونَ الصَّيحَةَ بِالحَقِّ
ذَلِكَ يَومُ الخُرُوجِ) [ق: 41 – 42]؛ فيقومون لهذا النداءِ العظيمِ مِنْ
قبورِهِم لربِّهم عزَّ وجلَّ.
قَالَ اللهُ تبارك وتعالَى: (أَلاَ يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبعُوثُونَ لِيَومٍ عَظِيمٍ يَومَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبّ العَالَمِينَ) [المطففِين: 4 – 6].
قولُهُ: ((حُفاةً عُراةً غُرْلاً)): ((حُفَاة)): لَيْسَ عليهم نِعالٌ ولا خِفافٌ؛ يعني: أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِم لباسٌ للرِّجْلِ.
((عُراةٌ)): لَيْسَ عَلَيْهِم لباسٌ للجسدِ.
((غُرْلاً)): لم ينقصْ مِنَ خَلْقِهم شيءٌ،
والغُرْل: جَمْعُ أغرَل، وهو الَّذِي لم يُختَنْ؛ أي أنَّ القلفَة الَّتي
قُطِعَتْ مِنْهُ في الدُّنْيا تعودُ يومَ القيامةِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء: 104]؛ فيعادُ
كاملاً، لم ينقصْ مِنْهُ شيءٌ؛ يعودون على هذا الوصفِ مختلِطينَ رجالاً
ونساءً.
ولما حدَّثَ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بذلك؛ قَالَتْ عائشةُ: يا رسولَ اللهِ! الرِّجالُ والنِّساءُ
ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ؟! فقَالَ: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُم
ذَلِكَ)) (وفي رواية: مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُم إِلى بَعْضٍ).
فكلُّ إنسانٍ له شأنٌ يُغنيِه: (يَومَ يَفِرُّ
المَرءُ مِن أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ
امرِئٍ منهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنِيهِ) [عبس: 34 – 37]. لا رجُلَ ينظرُ
إلى امرأةٍ، ولا امرأةٌ تنظرُ إلى رجُلٍ، حتَّى إنَّ ابنَهُ أو أباه يفرُّ
منه؛ خَوفًا مِنْ أنْ يطالبَهُ بحقوقٍ له، وإذا كانَ هذا هو الواقعُ؛
فإنَّهُ لا يمكنُ أنْ تنظرَ المرأةُ إلى الرَّجلِ، ولا الرَّجلُ إلى
المرأةِ؛ الأمرُ أشدُّ وأعظمُ.
ولكنْ؛ مع ذلِكَ؛ يُكسَوْنَ بعدَ هذا، وأوّلُ
مَنْ يُكسَى إبراهيمُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ كما ثَبَتَ ذلِكَ عنِ
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3) الأمرُ الثَّالثُ مما يكونُ يومَ القيامةِ ما أشارَ إلَيْهِ بقولِهِ: (وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمسُ)).
((تَدْنُو)): أيْ: تقربُ مِنْهُم الشَّمسُ، وتقربُ مِنْهُم مقدارَ مِيلٍ.
وهذا المِيلُ سَواءً كانَ المسافةُ أو ميلَ
المكحلةِ؛ فإنَّها قريبةٌ، وإذا كانَتْ هذهِ حرارتهُا في الدُّنْيا ،
وبَيْنَنا وبَيْنَها مِنَ البعدِ شيءٌ عظيمٌ؛ فكيفَ إذا كانَتْ عَنِ
الرُّؤوسِ بمقدارِ ميلٍ؟!
قَدْ يقولُ قائلٌ: المعروفُ الآنَّ أنَّ الشَّمس
لو تدنو بمقدارِ شَعرةٍ عن مسْتَوَى خَطِّها؛ لأحرقَتِ الأرضَ؛ فكيفَ يمكنُ
أنْ تكونَ في ذلِكَ اليومِ بهذا المقدارِ مِنَ البُعْدِ، ثُمَّ لا تحرقُ
الخَلْقَ؟
فالجوابُ على ذلِكَ: أنَّ النَّاسَ يُحشَرونَ
يومَ القيامةِ؛ ليسُوا على القوةِ الَّتي هُم عَلَيْها الآنَ، بَلْ هم
أقْوَى وأعظمُ وأشدُّ تحمُّلاً.
لَو أنَّ النَّاسَ الآنَ وقفوا خمسين يومًا في
شمسٍ لا ظِلَّ ولا أكْلَ ولا شُرْبَ؛ فلا يمكنُهُم ذلِكَ، بَلْ يموتُونَ!
لكنْ يومَ القيامةِ يبقُونَ خمسين ألفَ سنةٍ؛ لا أكلَ ولا شُرْبَ ولا
ظِلَّ؛ إلَّا مَنْ أظلَّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، ومَعَ ذلِكَ؛ يشاهدوُنَ
أهوالاً عظيمةً؛ فيتحمَّلُون.
واعتَبِرْ بأهلِ النَّارِ؛ كَيْفَ يتحمَّلونَ هذا
التَّحمُّلَّ العظِيمَ؛ (كُلَّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ
جُلُودًا غَيرَهَا) [النساء: 56].
وبأهلِ الجنَّةِ؛ ينظرُ الإنسانُ إلى مُلْكِهِ
مَسيرةَ ألفِ عامٍ إلى أقصاهُ؛ كَمَا ينظرُ إلى أدناهُ؛ كَمَا رُويَ ذلِكَ
عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإنْ قِيلَ: هَلْ أحدٌ يَسْلَمُ مِنَ الشَّمسِ؟
فالجوابُ: نَعَمْ! هناك أناسٌ يُظِلُّهم اللهُ في
ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه؛ كَمَا أخْبَرَ بذلِكَ النَّبيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي
طَاعَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ
تَحابَّا فِي اللهِ اجتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ،
وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَة ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي
أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاها حتَّى لاَ
تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَاليًا؛
فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).
وهناك أيضًا أصنافٌ أخْرَى يظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ.
وقولُهُ: ((لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّه))؛ يعني:
إلَّا الظِّلَّ الَّذِي يخلقُهُ، ولَيْسَ كَمَا توهَّمُ بعضُ النَّاسِ
أنَّهُ ظلُّ ذاتِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ هذا باطلٌ؛ لأنَّهُ يستلزمُ
أنْ تكونَ الشَّمسُ حينئذٍ فَوْقَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ففِي الدُّنْيا ؛ نحنُ نبني الظِّلَّ لنا، لكنْ
يومَ القيامةِ؛ لا ظِلَّ إلَّا الظِّلُّ الَّذِي يخلقُهُ سبحانَهُ وتعالَى
ليستظلَّ بِهِ مَنْ شاءَ مِنْ عبادِهِ.
(4) الأمرُ الرَّابعُ مما يكونُ يومَ القيامةِ: ما ذكرَهُ المؤلِّفُ رحمَهُ اللهُ بقوله: ((وَيُلْجِمُهُمُ العَرَقُ)).
((يلجمُهُمُ)): أيْ: يَصِلُ مِنْهُم إلى مَوْضِعِ اللِّجامِ مِنَ الفرسِ، وهو الفمُ.
ولكنْ هذا غايةُ ما يَصِلُ إليه العرقُ، وإلَّا؛
فبعضُهم يصلُ العرقُ إلى كعَبيْهِ، وإلى ركبَتَيْهِ، وإلى حَقْوَيْهِ،
ومِنْهُم مَنْ يلجِمُهُ؛ فَهُم يختلفون في هذا العَرَقِ، ويعرَقُونَ مِنْ
شدَّةِ الحرِّ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ زِحامٍ وشدَّةٍ ودنوِ شمسٍ؛ فيغرقُ
الإنسانُ مما يحصلُ في ذلِكَ اليومِ؛ لكنَّهُم على حَسَبِ أعمالِهِم.
فإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يكونُ ذلِكَ وهُم في مكانٍ واحدٍ؟
فالجوابُ: أنَّنا أصَّلنا قاعدةً يجبُ الرُّجوعُ
إليها، وهي: أنَّ الأمورَ الغَيبيَّةَ يجبُ عَلَيْنا أنْ نؤمنَ بِها
ونصدِّقَ دونَ أنْ نقولَ: كَيْفَ؟! ولِمَ؟! لأنَّها شيءٌ وراءَ عقولنِا،
ولا يمكنُ أنْ ندركَها أو نحيطَ بِها.
أرأيْتَ لو أنَّ رجلَينِ دُفِنا في قبرٍ واحدٍ:
أحدُهما مؤمنٌ، والثَّاني: كافرٌ؛ فإنَّهُ ينالُ المؤمنُ مِنَ النَّعيمِ ما
يستحقُّ، وينالُ الكافرُ مِنَ العذابِ ما يستحقُّ، وهما في قبرٍ واحدٍ،
وهكذا نقولُ في العَرَقِ يومَ القيامةِ.
فإنْ قُلْتَ: هَلْ تقولُ: إنَّ اللهَ سبحانَه
وتعالَى يجمعُ مَنْ يلجمُهُم العَرَقُ في مكانٍ، ومَنْ يَصِلُ إلى
كَعْبَيْهِ في مكانٍ، وإلى رُكْبَتَيْهِ في مكانٍ، وإلى حَقْوَيْهِ في
مكانٍ؟
فالجوابُ: لا نجزمُ بهذا، واللهُ أعلمُ، بَلْ
نقولُ: مِنَ الجائزِ أنْ يكونَ الَّذِي يصلُ العَرَقُ إلى كَعْبِهِ إلى
جانبِ الَّذِي يلجمُه العَرَقُ، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وهذا نظيرُ
النُّورِ الَّذِي يكونُ للمؤمنين؛ يَسعى بَيْنَ أيديِهم وبأيمانِهم،
والكفَّارُ في ظُلْمَةٍ؛ فيومُ القيامةِ يجبُ عَلَيْنا أنْ نؤمنَ بهِ وبما
يكونُ فيه، أمَّا كيفَ؟! ولِمَ؟! فهذا لَيْسَ إليَنْا).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: ((وتقومُ القِيامةُ … ))
إلخ؛ يعني: القيامةَ الكُبْرَى، وهذا الوصفُ للتَّخصيصِ، احترزَ بهِ عنِ
القيامةِ الصُّغْرَى التَّي تَكُونُ عندَ الموتِ؛ كمَا في الخبرِ: ((مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ)).
وذلكَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذَا أَذِنَ بانقضاءِ هذهِِ الدُّنيا؛ أَمَرَ إِسْرَافِيلَ عليهِ السَّلامُ أنَّ يُنْفخَ في الصُّورِ النَّفْخَةُ الأولى،
فيُصْعَقُ كلُّ مَنْ في السَّمَاوَاتِ ومَنْ في الأرضِ إلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ، وتُصبحُ الأرضُ صعيدًا جُرزًا، والجبالُ كثيبًا مَهِيلاً، ويَحدُثُ
كلُّ ما أخبرَ اللهُ بهِ في كتابهِ، لا سيمَا في سُورَتَيْ التَّكْويرِ
والانْفِطَارِ، وهذا هوَ آخرُ أيامِ الدُّنيا.
ثمَّ يأمرُ اللهُ السَّماءَ، فتُمْطِرُ مطرًا كمنيِّ الرجالِ أربعين يومًا،
فَيُنْبِتُ منهُ النَّاسَ في قبورهِمْ مِنْ عَجْبِ أَذْنَابِهِمْ، وكلُّ
ابنِ آدمَ يَبْلَى إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ.
حتَّى إذَا تمَّ خَلْقُهُمْ وتركيبُهمْ؛ أمرَ اللهُ إسرافيلَ بأنْ ينفخَ في الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيةَ فيقومُ النَّاسُ مِنَ الْأَجْدَاثِ أَحْيَاءٌ، فيقولُ الكفَّارُ والمنافقونَ حينئذٍ: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِْنَا}، ويقولُ المؤمنونَ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وصَدَقَ المُرْسَلونَ}.
ثمَّ تَحْشُرُهُمُ الملائكةُ إلى الموقفِ حُفَاةً غيرَ مُنْتَعِلِينَ،،
عُرَاةً غيرَ مُكْتَسِينَ، غُرْلاً غيرَ مُخْتَتِنِينَ؛ جَمْعُ أَغْرَلٍ،
وهوَ الْأَقْلَفُ، والغُرْلَةُ: القَلَفَةُ.
وأوَّلُ مَنْ يَكْتَسِي يومَ القيامةِ إبراهيمُ؛ كمَا في الحديثِ.
وهناكَ في الْمَوْقِفِ تَدْنُو الشَّمْسُ من رؤوسِ الخلائقِ، ويُلْجِمُهُمُ
العَرَقُ، فمِنْهُمْ مَنْ يبلغُ كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يبلُغُ
رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يبلغُ ثَدْيَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يبلغُ
تُرْقُوَتَهُ؛ كلٌّّ على قَدْرِ عملِهِ، ويكونُ أنَاسٌ في ظلِّ اللهِ عزَّ
وجلَّ.
فإذَا اشتدَّ بِهِمُ الأمْرُ، وعظُمَ الكرْبُ؛ استشفعُوا إلى اللهِ عزَّ
وجلَّ بالرَّسُولِ والأنبياءِ أنْ ينقذهَمْ مِمَّا هُمْ فيهِ، وكلُّّ رسولٍ
يُحِيلُهُمْ على مَنْ بعدَهُ، حتَّى يأتُوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ، فيقولُ: ((أَنَا لَهَا))، ويَشْفَعُ فيهمْ، فَيَنْصَرِفُونَ إلى فَصْلِ القضاءِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إِلى
أَنْ تَقومَ القِيامَةُ الكُبْرى، فُتعادُ الأرواحُ إِلى الأجْسادِ.
وتَقومُ القِيامَةُ التي أَخْبَرَ اللهُ بها في كِتابِهِ، وعلى لِسانِ
رسولِهِ، وأَجْمَعَ عليها المُسْلِمُونَ.فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ
قُبُورِهِمْ لِرَبِّ العَالَمينَ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً. (1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1)
أشار الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذَا وما بعدَه إلى ما يكونُ في
الدَّارِ الآخرةِ، وهِيَ التي تبدأُ بالقيامةِ الكُبرى؛ فإنَّ الدُّورَ ثلاثٌ:
دارُ الدُّنيا، ودارُ البَرْزخِ، والدَّارُ الآخرةُ، وكُلُّ دارٍ مِن
هَذِهِ الدُّورِ الثَّلاثِ لها أحكامٌ تَخُصُّها. وحوادثُ تجري فيها، وقد
تَكلَّمُ الشَّيخُ على ما يكونُ في دارِ البَرْزَخِ.
وهنا أخَذَ يَتكلَّمُ على ما يكونُ في الدَّارِ الآخرةِ فيقولُ: (إلى أنْ تَقومَ القيامةُ الكُبرى)
القِيامةُ قيامَتانِ: قيامةٌ صُغرى وهِيَ الموتُ، وَهَذِهِ القيامةُ
تَقومُ على كُلِّ إنسانٍ في خاصَّتِه مِن خُروجِ رُوحِه وانقطاعِ سَعْيِه،
وقيامةٌ كبرى وَهَذِهِ تَقومُ على النَّاسِ جميعا وتأخُذُهم أخْذَةً واحدةً
ـ وسُمِّيتْ قيامةً لقِيامِ النَّاسِ مِن قُبورِهم لربِّ العالَمِينَ،
ولهَذَا قال: (فتُعادُ الأَرْواحُ إلى الأجسادِ) وذَلِكَ عندما يَنفُخُ إسرافيلُ في الصُّورِ، قال تعالى: {وَنُفِخَ
فيِ الصُّورِ فَإِذاَ هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلىَ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 51-52]، وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزُّمَرِ: 68]. والأرواحُ جَمْعُ رُوحٍ، وهِيَ ما يَحْيا به الإنسانُ وغيرُه مِن ذواتِ الأرواحِ، ولا يَعلَمُ حقيقَتها إلاَّ اللَّهُ. قال تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراءُ: 85].
وقولُه: (وتقومُ القيامةُ التي أخبَرَ اللَّهُ بها في كتابِه، وعلى لِسانِ رسولِه، وأجْمَع عليها المسلمونَ)
إشارةً إلى أدلَّةِ البعثِ، وأَنَّهُ ثابتٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ
المُسلِمِينَ والعقلِ والفِطَرِ السَّليمةِ. فقد أخبَرَ اللَّهُ عنه في
كتابِه، وأقامَ الدَّليلَ عليه، ورَدَّ على المُنْكِرينَ للبعثِ في غالِبِ
سُوَرِ القرآنِ. ولَمَّا كان نبِيُّنا مُحَمَّدٌ صلى اللهُ عليه وسلم
خاتَمَ النَّبيِّينَ بَيَّنَ تفاصيلَ الآخرةِ بياناً لا يُوجَدُ في كثيرٍ
مِن كتُبِ الأنبياءِ.
والجزاءُ على الأعمالِ ثابتٌ بالعقلِ، وواقِعٌ في
الشَّرْعِ، فإنَّ اللَّهَ نَبَّه العقولَ إلى ذَلِكَ في مواضعَ كثيرةٍ مِن
القرآنِ، حَيْثُ ذكَّرَها أَنَّهُ لا يَليقُ بحِكمَتِه وحَمْدِه أنْ
يَترُكَ النَّاسَ سُدًى أو يَخْلُقَهم عَبَثاً لا يُؤمَرُونَ، ولا
يُنهَوْنَ، ولا يُثابونَ، ولا يُعاقَبونَ. وأنْ يكونَ المُحسِنُ كالمُسيءِ،
أو يَجْعلَ المسلمينَ كالمُجْرِمِين، فإنَّ بعضَ المُحْسِنينَ يموتُ
قَبْلَ أنْ يُجزَى على إحسانِه. وبعضُ المجرمينَ يموتُ قَبْلَ أنْ يُجازَى
على إجرامِه. فلا بُدَّ أنَّ هناكَ داراً يُجازَى فيها كُلٌّ منهما.
ومُنْكِرُ البعثِ كافرٌ كما قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التَّغابُنُ: 7].
وقولُه: (فيَقُومُ النَّاسُ مِن قُبورِهم حُفاةً) جمْعَ حافٍ، وَهُوَ الذي ليس على رِجْلِه نَعْلٌ ولا خُفٌّ (عُراةً) جمْعَ عارٍ، وَهُوَ الذي ليس عليه لِباسٌ (غُرْلاً)
جمْعَ أغْرَلَ، وَهُوَ الأَقْلَفُ الذي لم يُخْتَنْ. وَهَذِهِ الصِّفاتُ
الثَّلاثُ يكونون عليها حين قِيامِهم مِن قبورِهم، وهَذَا ثابتٌ في
الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، ففي الصَّحيحَيْنِ عن عائشةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً )) الحديثَ.
(وتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، ويُلْجِمُهُمُ العَرَقُ)
ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذَا الكلامِ
بعضَ ما يَجرِي في يومِ القيامةِ مِمَّا ذُكِرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ،
فإنَّ تفاصيلَ ما يجري في هَذَا اليومِ مما لا يُدْرَكُ بالعقلِ، وإنما
يُدرَكُ بالنُّقولِ الصَّحيحةِ عن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم الذي لا
يَنطِقُ عن الهَوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
ومِن الحكمةِ في محاسَبةِ الخلائقِ على أعمالِهم ووَزْنِها وظهورِها
مكتوبةً في الصُّحُفِ مع إحاطةِ عِلمِ اللَّهِ بذَلِكَ ليَرى عبادُه كمالَ
حَمْدِه، وكمالَ عَدْلِه، وسَعَةَ رحمَتِه، وعظمةَ مُلْكِه، وذَكَرَ
الشَّيخُ مما يَجرِي في هَذَا اليومِ العظيمِ على العِبادِ:
1- (أنَّها تَدْنو منهم الشَّمْسُ)
أيْ: تَقْرُبُ مِن رُءُوسِهم، كما رَوى مسلمٌ عن المِقْدادِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم يقولُ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ)) قولُه: (وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ)
أيْ: يَصِلُ إلى أفواهِهِم فيَصيرُ بمنزلَةِ اللِّجامِ يَمنعُهم مِن
الكلامِ، وذَلِكَ نتيجةً لدُنُوِّ الشَّمسِ منهم، وذَلِكَ بالنِّسبةِ
لأكْثَرِ الخَلقِ ويُستثْنَى مِن ذَلِكَ الأنبياءُ ومَن شاءَ اللَّهُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ
بَعْدَ هَذِهِ الفِتْنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ
تَقُومَ القِيَامَةُ الكُبْرَى، فُتعادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ.
وَتَقُومُ القِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لسَانِ رَسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا المُسْلمُونَ.
فَيَقُومُ النَّاسُ مِن قُبُورِهِمْ لِرَبِّ العَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً
غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ العَرَقُ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (والإِيمَانُ
بِالمَعَادِ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالعَقْلُ
وَالفِطْرَةُ السَّليمَةُ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي
كِتَابِهِ، وَأَقَامَ الدَّليلَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَى المُنْكِرِينَ فِي
غَالبِ سُوَرِ القُرْآنِ، وَذَلكَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ
مُتَّفِقُونَ عَلَى الإِيمَانِ بِاللَّهِ؛ فَإِنَّ الإِقْرَارَ بِالرَّبِّ
عَامٌّ فِي بَنِي آدَمَ وَهُوَ فِطْرِيٌّ، كُلُّهمْ يُقِرُّ بِالرَّبِّ
إِلا مَن عَانَدَ كَفِرْعَوْنَ، بِخِلافِ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ
فَإِنَّ مُنْكِرِيهِ كَثِيرُونَ. وَلَمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ قَدْ بُعِثَ هُوَ
وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَهُوَ الحَاشِرُ المُقَفِّي بَيَّنَ تَفَاصِيلَ
الآخِرَةِ بَيَاناً لا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِن كُتُبِ الأَنْبِيَاءِ؛
وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِن المُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لمْ
يُفْصِحْ بِمَعَادِ الأَبْدَانِ إِلا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَجَعَلُوا هَذَا حُجَّةً لهُمْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ
التَّخْيِيلِ وَالخِطَابِ الجُمْهُورِيِّ، وَالقُرْآنُ بَيَّنَ مَعَادَ
النَّفْسِ عِنْدَ المَوْتِ وَمَعَادَ الأَبْدَانِ عِنْدَ القِيَامَةِ
الكُبْرَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهَؤُلاءِ يُنْكِرُونَ القِيَامَةَ
الكُبْرَى وَيُنْكِرُونَ مَعَادَ الأَبْدَانِ وَيَقُولُ مَن يَقُولُ
مِنْهُمْ: إِنَّهُ لمْ يُخْبِرْ بِهِ إِلا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيلِ.
وَهَذَا كَذِبٌ؛ فَإِنَّ القِيَامَةَ الكُبْرَى مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ
الأَنْبِيَاءِ مِن آدَمَ إِلَى نُوحٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَى مُوسَى
وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَن أَهْلِ النَّارِ
أَنَّهُمْ إِذَا سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا: {أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَـاءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ بَلَى وَلَـكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ} وَهَذَا اعْتِرَافٌ
مِن أَصْنَافِ الكُفَّارِ الدَّاخِلينَ جَهَنَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ
أَنْذَرَتْهُمْ لقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، فَجَمِيعُ المُرْسَلينَ
أَنْذَرُوا بِمَا أَنْذَرَ بِهِ خَاتَمُهُمْ مِن عُقُوبَاتِ المُذْنِبِينَ
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَعَامَّةُ سُوَرِ القُرْآنِ الَّتِي فِيهَا
الوَعْدُ وَالوَعِيدُ يُذْكَرُ ذَلكَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،
وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى المَعَادِ فَقَالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغَيْبِ} الآيَاتِ، وَقَالَ: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وَقَالَ: {زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ}، وَأَخْبَرَ عَن اقْتِرَابِهَا فَقَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ}، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}، وَذَمَّ المُكَذِّبِينَ للْمَعَادِ فَقَالَ: {قَدْ
خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا
فِيهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ
أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً
جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً}، وَقَالَ:{أَيَحْسَبُ
الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ
يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن
يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
وَالقَوْلُ الذي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ العُقَلاءِ أَنَّ
الأَجْسَامَ تَنْتَقِلُ مِن حَالٍ إِلَى حَالٍ فَتَسْتَحِيلُ تُراباً،
ثُمَّ يُنْشِئُهَا اللَّهُ نَشَأَةً أخْرَى كَمَا اسْتَحَالَ فِي
النَّشْأَةِ الأُولَى، فَإِنَّهُ كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ صَارَ عَلَقَةً
ثُمَّ صَارَ عظاماً ولحماً ثُمَّ أَنْشَأَهُ اللَّهُ خَلْقاً سَوِيًّا،
كَذَلكَ الإِعَادَةُ يُعِيدُهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى كُلُّه إِلا
عَجْبَ الذَّنَبِ الذي مِنْهُ خُلِـقَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((إِنَّ السَّمَاءَ تُمْطِرُ مَنِيًّا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ، فَيَنْبُتُونَ فِي القُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ))
فَالنَّشْئَتَانِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ، يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلاَنِ
مِن وَجْهٍ، وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِن وَجْهٍ، وَالمَعَادُ
هُوَ الأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لوَازِمِ الإِعَادَةِ
وَلَوَازِمِ البَدَاءَةِ فَرْقٌ، فَعَجْبُ الذَّنَبِ هُوَ الذي يَبْقَى،
وَأَمَّا سَائِرُهُ فَيَسْتَحِيلُ، فَيُعَادُ مِن المَادَّةِ الَّتِي
اسْتَحَالَ إِلَيْهَا، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ مَن رَأَى شَخْصاً وَهُوَ
صَغِيرٌ ثُمَّ رَآهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخاً عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ
مَعَ أَنَّهُ دائماً فِي تَحَلُّلٍ وَاسْتِحَالَةٍ، وَكَذَلكَ سَائِرُ
الحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَمَنْ رَأَى شَجَرَةً وَهِيَ صَغِيرَةٌ ثُمَّ
رَآهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ قَالَ: هَذِهِ تِلْكَ وَلَيْسَتْ صِفَةُ
النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ مُمَاثِلَةً لصِفَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ حَتَّى
يُقَالَ: إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ المُغَيَّرَةُ لا سِيَّمَا أَهْلُ
الجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَةِ
آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ أَنَّ عَرْضَهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَتِلْكَ
نَشْأَةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُعَرِّضَةٍ للآفَاتِ، وَهَذِهِ النَّشْأَةُ
فَانِيَةٌ مُعَرَّضَةٌ للآفَاتِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أذُنَيْهِ)). وَفِيهِمَا عَن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ؟! قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ إِنَّ الأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ)) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}
الآيَةَ، الحَدِيثَ. وَرَوَى مُسْلمٌ عَن المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أُدْنِيَتِ
الشَّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ
قَالَ: فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي العَرَقِ كَقَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى
حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إلْجَاماً)). قَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا"ً.
الحُفَاةُ جَمْعُ حَافٍ وَهُوَ مَنْ لا نَعْلَ لهُ وَلا خُفَّ.
وَالعُرَاةُ جَمْعُ عَارٍ وَهُوَ مَن لا ثِيَابَ عَلَيْهِ "وغُرْلا"ً
بِضَمِّ المُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ أَغْرَلَ وَهُوَ
الأَقْلَفُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَهُوَ مَنْ بَقِيَتْ غُرْلَتُهُ وَهِيَ
الجِلْدَةُ الَّتِي يَقْطَعُهَا الخَاتِنُ مِنَ الذَّكَرِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَعْرَقُ
النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ
سَبْعِينَ ذِرَاعاً وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُم)). قَوْلُهُ: (يُلْجِمُهُمُ العَرَقُ)
أَيْ: يَصِلُ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللِّجَامِ
يَمْنَعُهُمْ مِن الكَلامِ، قَالَهُ ابْنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: ظَاهِرُ الحَدِيثِ
تَعْمِيمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ دَلَّتِ الأَحَادِيثُ الأُخْرَى
عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالبَعْضِ وَهُمُ الأَكْثَرُ، وَيُسْتَثْنَى
الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَمَن شَاءَ اللَّهُ فَأَشَدُّهُمْ فِي
العَرَقِ الكَفَّارُ ،ثُمَّ أَصْحَابُ الكَبَائِرِ، ثُمَّ مَن بَعْدَهُمْ،
وَالمُسْلمُونَ مِنْهُمْ قَليلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الكُفَّارِ، كَمَا
تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَعْثِ النَّارِ. وَمَن تَأَمَّلَ الحَالَةَ
المَذْكُورَةَ عَرَفَ عِظَمَ الهَوْلِ فِيهَا، وَذَلكَ أَنَّ النَّارَ
تَحُفُّ بِأَرْضِ المَوْقِفِ، وَتُدْنَى الشَّمْسُ مِنَ الرؤُوسِ قَدْرَ
مِيلٍ. فَكَيْفَ تَكُونُ حَرَارَةُ تِلْكَ الأَرْضِ؟ وَمَاذَا يَرْوِيهَا
مِنَ العَرَقِ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْهَا سَبْعِينَ ذِرَاعاً؟ مَعَ أَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ لا يَجِدُ إِلا مَوْضِعَ قَدَمِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ حَالَةُ
هَؤُلاءِ فِي عَرَقِهِمْ مَعَ تَنَوُّعِهِمْ فِيهِ؟ إِنَّ هَذَا لَمِمّا
يُبْهِرُ العُقُولَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ القُدْرَةِ، وَيَقْتَضِي
الإِيمَانَ بِأُمُورِ الآخِرَةِ، وَأَنْ ليْسَ للْعَقْلِ فِيهَا مَجَالٌ
وَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِعَقْلٍ وَلا قِيَاسٍ وَلا عَادَةٍ، وَإِنَّمَا
يُؤْخَذُ بِالقَبُولِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الإِيمَانِ بِالغَيْبِ، وَمَن
تَوَقَّفَ عِندَ ذَلكَ دَلَّ عَلَى خُسْرَانِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَفَائِدَةُ
الإِخْبَارِ بِذَلكَ أَنْ يَتَنَبَّهَ السَّامِعُ فَيَأْخُذَ فِي
الأَسْبَابِ الَّتِي تُخَلِّصُهُ مِن تِلْكَ الأَهْوَالِ، وَيُبَادِرَ
إِلَى التَّوْبَةِ مِن التَّبِعَاتِ، وَيَلْجَأَ إِلَى الكَرِيمِ
الوَهَّابِ فِي عَوْنِهِ عَلَى أَسْبَابِ السَّلامَةِ، وَيَتَضَرَّعَ
إِلَيْهِ فِي سَلامَتِهِ مِن دَارِ الهَوَانِ وَإِدْخَالِهِ دَارَ
الكَرَامَةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فُتعادُ الأرواحُ إِلى الأجْسادِ . (1)
وتَقومُ القِيامَةُ التي أَخْبَرَ اللهُ بها في كِتابِهِ، وعلى لِسانِ رسولِهِ، وأَجْمَعَ عليها المُسْلِمُونَ.
فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ العَالَمينَ. (2)
حُفَاةً عُراةً غُرْلاً، وتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، ويُلْجِمُهُمُ العَرَقُ. (3) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (فتُعادُ الأرواحُ إلى الأجسادِ) وَذَلِكَ حين يَنفُخُ إسرافيلُ في الصُّورِ نفخةَ البَعثِ والنُّشورِ، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)
وإذا أُطلِقَ النَّفخُ في الصُّورِ فالمرادُ بِهِ نفخةُ البَعثِ،
والأرواحُ جمعُ رُوحٍ وهُوَ ما يَحيا بِهِ الإنسانُ، وهُوَ مِن أمرِ
اللَّهِ، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
قال شيخُ الإسلامِ تَقيُّ الدِّينِ: ورُوحُ
الآدميِّ مخلوقةٌ مُبدَعةٌ باتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها وسائرِ
أهلِ الحديثِ، وقد حَكىَ إجماعَ الأمَّةِ على أنَّها مخلوقةٌ غيرُ واحدٍ
مِن أئمَّةِ السَّلَفِ، ويَجبُ الإيمانُ بالبعثِ والنُّشورِ، ويَكْفُرُ
الإنسانُ بإنكارِه، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ) والبعثُ لغةً: إثارةُ الشَّيءِ، والمرادُ بِهِ هنا
إحياءُ الأمواتِ وخُروجُهم مِن قُبورِهم ونحوُها إلى حُكمِ يومِ القيامةِ،
والبعثُ والنُّشورُ مترادفانِ، وهما بمعنى إعادةِ الأبدانِ وإدخالِ
الأرواحِ فيها، يُقالُ: نَشَرَ الميِّتَ وأَنْشَرَهُ بمعنى أَحْيَاه،
وأمَّا الحشْرُ فهُوَ لغةً: الجمْعُ، تقولُ: حشَرْتُ النَّاسَ إذا
جَمعْتُهم، والمرادُ جَمعُ أجزاءِ الإنسانِ بعد تَفرُّقِها ثم إحياءُ
الأبدانِ بعد مَوْتِها، فيَبعثُ اللَّهُ جميعَ العِبادِ ويُعيدُهم بعد
موتِهم، ويَسوقُهم إلى مَحْشَرِهم لفَصْلِ القضاءِ بينهم، وأدِلَّةُ ذَلِكَ
في الكِتاب والسُّنَّةِ والإجماعِ.
قال ابنُ القيِّمِ وغيرُه: معادُ الأبدانِ متَّفقٌ عليه بين المسلِمِينَ
واليهودِ والنَّصارى، قال جَلالُ الدِّينِ الدَّارنيُّ: هُوَ بإجماعِ أهلِ
المِلَلِ، وبِشَهادَةِ نُصوصِ القرآنِ الذي لا يَقبَلُ التَّأويلَ، كقوله
-سُبْحَانَهُ-: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)،
وقد أَخْرَجَ ابنُ جريرٍ، وابنُ المنذِرِ، وأبو حاتمٍ، والضِّياءُ في
المختارةِ، وابنُ مردوَيْهِ، والبيهقيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: جاءَ العاصُ
بنُ وائلٍ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بعَظمٍ حائِلٍ
ففَتَّه بيدِه، فقال يا مُحَمَّدُ: يُحْيِي اللَّهُ هَذَا بعدَ ما أَرِمَ؟
قال: ((نَعَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ))، فنَزَلَت الآياتُ مِن آخرِ سورةِ يس: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ)
الآياتِ، فهَذَا نصٌّ صريحٌ في الحشْرِ الجُسمانيِّ، وقد وَردَ في عِدَّةِ
مواضعَ مِن القرآنِ التَّصريحُ بِهِ بحَيْثُ لا يَقبلُ التَّأويلَ، فيجبُ
الإيمانُ به، واعتقادُه، ويَكْفُرُ مُنكِرُه كما تَقدَّمَ.
وأمَّا النَّفخُ في الصُّورِ فيُنفخُ فيه ثلاثُ نفَخاتٍ: نفخةُ الفَزَعِ وَهِيَ التي يَتغَيَّرُ بها العالَمُ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا يَنظُرُ هَـؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَهَا مِن فَوَاقٍ) أي رجوعٍ ومَرَدٍّ، وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) سُمِّيتْ نفخةَ الفَزَعِ لِما يَقعُ مِن هولِ تِلْكَ النَّفْخَةِ، والنَّفخةُ الثَّانيةُ: نَفخةُ الصَّعقِ، وفيها هلاكُ كُلِّ شيءٍ قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) الآيةُ.
وفُسِّرَ الصَّعقُ بالموتِ وهُوَ متناوِلٌ حتى الملائكةَ، والاستثناءُ متناوِلٌ لمَن في الجَنَّةِ مِن الحُورِ العِين وغيرِهم، الثَّالثُ: نفخةُ البَعثِ والنُّشورِ، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) وقال: (ونُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) وأَخرجَ ابنُ جريرٍ والبيهقيُّ وغيرُهما مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ: وما الصُّورُ؟ قال: ((عَظِيمٌ
إِنَّ عِظَمَ دَارِهِ فِيهِ كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ، فَيُنْفَخُ
فِيهِ ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: الأُولى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، والثَّانِيَةُ:
نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ)). انتهى.
(2) قولُه: (فيَقومُ النَّاسُ مِن قُبورِهم) إلخ. قال -سُبْحَانَهُ-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وروى مسلمٌ في "صحيحِه" عن ابنِ عُمرَ مرفوعًا: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: ((يقومُ النَّاسُ حتى يَغِيبَ أحدُهم في رَشْحِه إلى نِصفِ أُذُنِه))،
وفي البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال:
سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يَخْطُبُ على المِنبرِ
يقولُ: ((إِنَّكُمْ مُلاَقُو رَبِّكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) وزادَ في روايةٍ ((مُشَاةً)). وفي روايةٍ فيهما قال: قام رسولُ اللَّهِ فِينا بموعظةٍ، فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نَّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) )).
(3) قولُه: (حُفاةً) جمعُ حافٍ: وهُوَ الذي ليس عليه نَعلٌ ولا خُفٌّ.
قولُه: (عُراةً) جمعُ عارٍ: وهُوَ الذي ليس عليه لِباسٌ، وقولُه: (غُرْلاً)
بِضَمِّ الغَيْنِ المعجمةِ، وإسكانِ الرَّاءِ جمعُ أَغْرَلَ: وهُوَ
الأقلفُ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- قالتْ:
قلتُ: يارسولَ اللَّهِ، الرِّجالُ والنِّساءُ جميعا يَنْظُرُ بعضُهم إلى
بعضٍ؟ قال: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ)).
قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: مراتبُ المعادِ: البَعثُ والنُّشورُ، ثم
المَحْشَرُ، ثم القِيامُ لربِّ العالَمِينَ، ثم العَرْضُ، ثم تطايُرُ
الصُّحُفِ، وأَخْذِها باليمينِ والشِّمالِ، ثم السُّؤالُ والحِسابُ ثم
الميزانُ. انتهى.
قولُه: (تَدْنُو مِنهم الشَّمسُ ويُلْجِمُهم العَرَقُ)
أي: تَقْرُبُ منهم الشَّمسُ حتى تكونَ قَدْرَ مِيلٍ أو ميلَيْنِ، كما روى
مسلمٌ عن المقدادِ -رضي اللَّهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((إذا كان يومُ القيامةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ))، قال: ((فَتَصْهَرُهُمُ
الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ
مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إلَى
حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إلجامًا)).
قولُه: (عَقِبيْهِ) هُوَ مؤخَّرُ القَدمِ، وقولُه: (حَقويهِ) الحَقْوُ مَعْقِدُ الإزارِ.
قولُه: (يُلجِمُهم العَرَقُ) أي: يَصِلُ إلى أفواهِهم فيصيرُ لهم بمنزلةِ اللِّجامِ يَمنعُهم عن الكلامِ. انتهى. نهاية.
وقولُه: (يُلجِمُهم العرق)
ظاهرُه التَّعميمُ، لكنْ دَلَّتْ أحاديثُ على أنَّه مخصوصٌ بالبعضِ، وهُم
الأكثُرُ، ويُستثنى مِن ذَلِكَ الأنبياءُ والشُّهداءُ ومَنْ شاءَ اللَّهُ.
انتهى.
وأَخرجَ الشَّيخانِ عن أبي هريرةَ مرفوعًا: ((يَعْرَقُ
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ
سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ))،
فهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمُ، فِيهِ مِنَ الأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ
وَالشَّدَائِدِ الَجَسِيمَةِ مَا يُذِيبُ الأَكْبَادَ، وَيُذْهِلُ
الْمَرَاضِعَ، وَيُشِيبُ الأوْلادَ، قال اللَّهُ تعالى: (يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى
وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). قولُه: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) وَذَلِكَ يومَ القيامةِ، وهُوَ حقٌّ ثابتٌ، وَرَدَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ).