11 Nov 2008
من الإيمان بالكتب الإيمان بأن القرآن حروفه ومعانيه من كلام الله
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمِن
الإِيمَانِ بِهِ وَبكُتُبِهِ: الإِيمَانُ بِأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ
مُنَزَّلٌ غَيْرُ مخلوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ ، وَأَنَّ
اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً ، وَأَنَّ هَذَا القُرْآنَ الَّذِي
أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلاَمُ اللهِ
حَقِيقَةً لاَ كَلاَمُ غَيْرِهِ ، وَلاَ يَجُوزُ إِطْلاَقُ القَوْلِ
بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلاَمِ اللهِ أَوْ عِبَارَةٌ عنه، بَلْ إِذَا
قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرجْ بِذَلِكَ
عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلاَمَ الله حَقِيقَةً ، فإِنَّ الكَلاَمَ إِنَّمَا
يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئاً ، لاَ إِلَى مَنْ
قَالَهُ مُبَلِّغاً مُؤَدِّيًا ، وَهُوَ كَلاَمُ اللهِ، حُرُوفُهُ
وَمَعَانِيه ِ، لَيْسَ كَلاَمُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي ، وَلاَ
الْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ .
وقَدْ
دَخَلَ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الإِيمَانِ بِهِ ، وَبِكُتُبِهِ ،
وَبِمَلائِكَتِهِ ، وَبِرُسُلِهِ، الإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ
يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ، كَمَا يَرَوْنَ
الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْس دُونَهَا سَحَابٌ ، وَكَمَا يَرَوْنَ القَمَرَ
لَيْلَةَ البَدْرِ لاَ يُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، يَرَوْنَهُ -
سُبْحَانَهُ - وَهُمْ فِِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ ، ثُمَّ يَروْنَهُ بَعْدَ
دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ اللهُ - سُبْحَانَهُ وتَعَالَى).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((فَصْلٌ:
وَمِنَ الإيمانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ: الإيْمانُ بِأنَّ القُرْآنَ كَلامُ
اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ؛ مِنْهُ بَدَأ، وَإلَيْهِ يَعودُ)): [1]
وأنَّ اللهَ تعالىَ تكَلَّمَ بهِ حَقيقَةً،
وأنَّ هذا القُرْآن الذي أُنْزلَ عَلى مُحَّمدٍ صلَّى الله عليه وسَلَّمَ
هُوَ كلامُ اللهِ حقيقةً لا كلامَ غيرهُ، وَلا يَجُوزُ إطْلاقُ القولِ
بأنَّهُ حكايَةٌ عَن كَلامِ الله أَوْ عبارةٌ عَنْهُ.
"بَلْ إذا قَرَأهُ النَّاسُ أوْ كَتَبوهُ في
المَصاحفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بذلكَ عَنْ أنْ يكونَ كَلامَ اللهِ تعالى
حَقيقةً؛ فإنَّ الكَلامَ إنَّما يُضافُ حقيقةٍ إلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئًا
لا إلى مَنْ قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤَدِّيًا"([2]) .
وهوَ كَلامُ اللهِ حُرْفُهُ وَمَعانِيهِ، لَيْسَ كَلامُ اللهِ الحْرُوفَ دونَ المْعَاني، ولا المْعَانِي دُونَ الحرُوفِ.
((فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ أيْضاً فيما
ذَكَرْناهُ مِنَ الإيمانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلائِكَتِهِ
وَبِرُسُلِهِ: الإيمانُ بِأنَّ المُؤْمِنينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ
القِيامَةِ)). (29)
عِيَاناً بأَبْصَارِهم، كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا
سَحَابٌ. وَكَمَا يَرَوْنَ القَمَر لَيْلَةَ البَدْرِ لاَ يُضَامُّونَ في
رُؤْيتِهِ
يَرَونْهُ سُبْحَانَه وهُمْ في عَرَصَات القيامَةِ. ثُمَّ يَرَونْهُ بَعْدَ دُخُولِ الجنَّةِ كَما يَشَاءُ اللهُ سُبَحانَهُ وتعالَى).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (فصلٌ في الإيمانِ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ حقيقةً
(1) قولُهُ: ((الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ)): وجهُ كوْنِ الإيمانِ
بالقرآنِ على هذا الوجْهِ مِنَ الإيمانِ باللهِ: أنَّ القرآنَ مِنْ كلامِ
اللهِ، وكلامُ اللهِ صفةٌ مِنْ صفاتِهِ، وأيضاً؛ فإنَّ اللهَ وَصَفَ
القرآنَ بأنَّه كلامُهُ، وأنَّهُ منزَّلٌ؛ فتصديقُ ذلِكَ مِنَ الإيمانِ
باللهِ.
قولُهُ: ((كلامُ اللهِ)): والدَّليلُ على ذلِكَ
قولُهُ سبحانَهُ وتعالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ) [التوبة: 6].
قولُ المؤلِّفِ: ((منزَّلٌ))؛ أيْ: مِنْ عندِ اللهِ تعالَى:
لقولِهِ تعالَى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وقولُهُ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ) [القَدْر: 1].
قولُهُ: ((غيرُ مخلوقٍ))؛ أيْ: لَيْسَ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ الَّتي خلقَهَا.
والدَّليلُ على ذلِكَ قولُهُ تعالَى: (أَلاَ لَهُ
الخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54]. والقرآنُ مِنَ الأمرِ؛ لقولِهِ
تعالَى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا)
[الشُّورى: 52]، ولأنَّ الكلامَ صفةُ المتكلِّمِ، والمخلوقُ مفعولٌ
للخالقِ، بائنٌ مِنْهُ؛ كالمصنوعِ؛ بائنٌ مِنَ الصانعِ.
قولُهُ: ((مِنْهُ بدأ))؛ يعني: أنَّ ابتداءَ
تنزيلِهِ مِنَ اللهِ، لا مِنْ جبريلَ ولا غيرِهِ؛ فجبريلُ نازلٌ بهِ مِنْ
عندِ اللهِ تعالَى؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ
العَالَمِينَ، نَزَل بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) [الشعرَاء: 192-193]،
وقَالَ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ) [النحْل: 102]،
وقَالَ تعالَى: (تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)
[الزُّمَر: 1].
وقولُهُ: ((وإِلَيْهِ يعودُ)): سَبَقَ الكلامُ عَنْ معْنَاها والدَّليلُ عَلَيْهَا في شرحِ الآياتِ عِنْدَ البحثِ عَنْ كلامِ اللهِ.
قَالَ المؤلِّفُ: ((وأنَّ اللهَ تكلَّمَ بهِ
حقيقةً)): بناءً على الأصلِ؛ أنَّ جميعَ الصِّفاتِ حقيقيَّةٌ، وإذا كانَ
كلامُ اللهِ حقيقةً؛ فلا يمكنُ أنْ يكونَ مخلوقاً؛ لأنَّهُ صفتُهُ، وصفةُ
الخالقِ غيرُ مخلُوقةٍ؛ كما أنَّ صفةَ المخلُوقِ مخلُوقةٌ.
وقَدْ قَالَ الإمامُ أحمدُ: ((مَنْ قَالَ: لفظِي بالقرآنِ مخلوقٌ؛ فهو جَهْميٌّ، ومَنْ قَالَ: غيرُ مخلوقٍ؛ فهو مبتدِعٌ)).
فنقولُ: اللَّفظُ يُطلَقُ على معنَيَيْنِ: على المصدرِ الَّذِي هُوَ فعلُ الفاعلِ، وعلى الملفُوظِ بهِ:
-إمَّا على المعنَى الأوَّلِ الَّذِي هو المصدرُ؛ فلاَ شكَّ أنَّ ألفاظَنا بالقرآنِ وغيرِ القرآنِ مخلوقةٌ.
لأنَّنا إذا قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ هو التَّلفُّظُ؛ فهذا الصَّوتُ الخارجُ مِنْ حركةِ الفمِ واللِّسانِ والشَّفتينِ مخلوقٌ.
فإذا أُريدَ باللَّفظِ التَّلفُّظُ؛ فهو مخلوقٌ، سواءً كانَ الملفوظُ بهِ قرآناً أو حديثاً أو كلاماً أحدثْتَه مِنْ عندِكَ.
-وإمَّا إذا قُصِدَ باللَّفظِ الملفوظُ بهِ؛ فهذا مِنْهُ مخلوقٌ، ومِنْهُ غيرُ مخلوقٍ.
وعَلَيْهِ؛ إذا كانَ الملفوظُ بهِ هو القرآنُ؛ فلَيْسَ بمخلوقٍ.
هذا تفصيلُ القولِ في هذِهِ المسألَةِ.
لكنَّ الإمامَ أحمدَ رحِمَهُ اللهُ قَالَ: ((مَنْ قَالَ: لفظِي بالقرآنِ مخلوقٌ؛ فهو جَهْمِيٌّ))! قَالَ ذلِكَ لأحدِ احتمالَينِ:
-إمَّا أنَّ هذا القولَ مِنْ شعارِ الجهميَّةِ؛
كأنَّ الإمامَ أحمدَ يقولُ: إذا سمعْتَ الرَّجُلَ يقولُ: لفظي بالقرآنِ
مخلوقٌ؛ فاعْلَمْ أنَّهُ جَهْميٌّ.
-وإمَّا أنْ يكونَ ذلِكَ حينَ يريدُ القائِلُ
باللَّفظ الملفوظَ بهِ، وهذا أقربُ؛ لأنَّ الإمامَ أحمدَ نفْسَهُ فسَّرَه؛
قَالَ: ((مَنْ قَالَ: لفظي بالقرآنِ مخلوقٌ؛ يريدُ القرآنَ؛ فَهُوَ
جَهْميٌّ)).
وحينئذٍ يتَّضحُ معنَى قولِهِ: ((مَنْ قَالَ:
لفظي بالقرآنِ مخلوقٌ؛ فَهُوَ جَهْميٌّ))؛ لأنَّهُ أرادَ الملفوظَ بهِ، ولا
شكَّ أنَّ الَّذِي يريدُ باللَّفظِ هنا الملفوظَ بهِ جهميٌّ.
أمَّا مَنْ قَالَ: غيرُ مخلوقٍ؛ فالإمامُ أحمدُ
يقولُ: مبتدِعٌ؛ لأنَّ هذا ما عُهِدَ عَنِ السَّلَفِ، وما كانوا يقولُونَ
مثلَ هذا القولِ؛ يقولُونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ؛ فَقَطْ.
قولُهُ: ((وَأنَّ هذا القُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ
عَلى محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلامَ اللهِ
حَقِيقَةً، لا كَلامَ غَيْرِهِ)).
كرَّرَ المؤلِّفُ هذا؛ لأنَّ المقامَ مقامٌ
عظيمٌ؛ فإنَّ هذِهِ المسألةَ حصَلَ فيها على علماءِ المسلمينَ مِنَ المحنِ
ما هو معلومٌ، وهلكَ فيها أممٌ كثيرةٌ، ولكنْ حَمَى اللهُ الحقَّ بالإمامِ
أحمدَ وأشباهِهِ، الَّذِين أبَوْا أنْ يقولُوا إلَّا أنَّ القرآنَ كلامُ
اللهِ غيرُ مخلوقٍ.
وقولُهُ: ((لا كلامَ غَيْرِهِ)): خلافاً لِمَنْ
قَالَ: إنَّ القرآنَ مِنْ كلامِ جبريلَ؛ ألهمَهُ اللهُ إيَّاهُ، أو مِنْ
محمَّدٍ… أو ما أشْبَهَ ذلِكَ.
فإنْ قُلْتَ: قولُ المؤلِّفِ هنا: ((لا كلامَ
غيرِهِ)): معارَضٌ بقولِ اللهِ تعالَى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ،
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَليلا ما تُؤْمِنُونَ) وقولِهِ: (إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ)
[التكْوير: 19-20]، والأوَّلُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
والثَّاني جبريلُ؟!
فالجوابُ عَنْ ذلِكَ أنْ نقولَ: لا يمكنُ أنْ
نحملَ الآيتينِ علَى أنَّ الرَّسولَينِ تكلَّمَا بهِ حقيقةً، وأنَّهُ صدَرَ
مِنْهُما؛ لأنَّ كلاماً واحداً لا يمكنُ أنْ يصْدُرَ مِنْ متكلِّمَيْنِ!!
قولُهُ: ((وَلا يُجوزُ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّهُ حِكايَةٌ عَنْ كَلامِ اللهِ أو عِبارَةٌ)):
قَالَ ((لا يجوزُ إطلاقُ القولِ)): ولم يَقُلْ:
لا يجوزُ القولُ! يعني: لا يجوزُ أنْ نقولَ: هذا القرآنُ عبارةٌ عَنْ كلامِ
اللهِ؛ إطلاقاً، ولا يجوزُ أنْ نقولَ: إنَّهُ حكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ؛
على سبيلِ الإطلاقِ.
والَّذِين قَالُوا: إنَّهُ حكايةٌ: هُم الكلاَّبيَّةُ، والَّذِين قَالُوا: إنَّهُ عبارةٌ: هُم الأشعريَّةُ.
والكلُّ اتَّفقوا على أنَّ هذا القرآنَ الَّذِي
في المصحفِ لَيْسَ كلامَ اللهِ، بَلْ هُوَ إمَّا حكايةٌ أو عبارةٌ،
والفَرْقُ بَيْنَهُما:
أنَّ الحكايةَ المماثلَةُ؛ يعني: كأنَّ هذا المعنَى الَّذِي هو الكلامُ عِنْدَهُم حُكي بمرآةٍ؛ كَما يحكِي الصَّدى كلامَ المتكلِّمِ.
أمَّا العبارةُ؛ فيعني بهِا أنَّ المتكلِّمَ عَبَّرَ عَنْ كلامِهِ النَّفسِي بحروفٍ وأصواتٍ خُلِقَتْ.
فلا يجوزُ أنْ نُطْلِقَ أنَّهُ حكايةٌ أو عبارةٌ،
لكنْ عِنْدَ التَّفصيلِ؛ قَدْ يجوزُ أنْ نقولَ: إنَّ القارئَ الآنَ
يعبِّرُ عَنْ كلامِ اللهِ أو يحكِي كلامَ اللهِ؛ لأنَّ لفظَهُ بالقرآنِ
لَيْسَ هو كلامَ اللهِ.
وهذا القولُ على هذا التَّقييدِ لا بأسَ بهِ، لكنْ إطلاقُ أنَّ القرآنَ عبارةٌ أو حكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ لا يجوزُ.
وكانَ المؤلِّفُ رحمَهُ اللهُ دقيقاً في العبارةِ
حيثُ قَالَ: ((لا يجوزُ إطلاقُ القولِ))، بَلْ لا بدَّ مِنَ التَّقييدِ
والتَّعيينِ.
يعني: مَهْمَا كَتَبَهُ النَّاسُ في المصاحفِ أو
حفظوُه في صدورِهِم أو قرؤُوهُ بألسنتِهِم؛ فإنَّهُ لا يخرجُ عَنْ كونِهِ
كلامَ اللهِ.
ثُمَّ علَّلَ ذلِكَ، فقَالَ: ((فإنَّ الكلامَ إنمَّا يُضافُ حقيقةً إلى مَنْ قَالَهُ مبتَدِئاً)).
وهذا تعليلٌ واضحٌ؛ فالكلامُ يُضافُ حقيقةً إلى
مَنْ قَالَهُ مبتدئاً، أمَّا إضافتُهُ إلى مَنْ قَالَهُ مبلِّغاً مؤدِّياً؛
فعلى سبيلِ التَّوسُّعِ؛ فلو قَرَأْنا الآنَ مثلاً:
حُكْمُ المَحَبَّةِ ثابِتُ الأرْكانِ مَا لِلصُّدودِ بِفَسْخِ ذاكَ يَدَانِ
فإنَّ هذا البيتَ يُنْسَبُ حقيقةً إلى ابنِ القيِّمِ.
ولو قُلْتَ:
كَلامُنا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاسْتَقِمْ وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الكَلِمْ
فهذا يُنْسَبُ حقيقةً إلى ابنِ مالكٍ.
إذاً، الكلامُ يضافُ حقيقةً إلى القائلِ الأوَّلِ.
فالقرآنُ كلامُ مَنْ تكلَّمِ بهِ أوَّلاً، وهُوَ اللهُ تعالَى، لا كلامَ مَنْ بَلَّغَهُ إلى غيرِهِ.
قولُهُ: ((وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ وَمَعانِيهِ)):
هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ قَالُوا: إنَّ اللهَ تعالَى تكلَّمَ بالقرآنِ بحروفِهِ ومعانِيهِ.
قولُهُ: ((وَلَيْسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني)):
وهذا مذهبُ المعتزلِةِ والجهميَّةِ؛ لأنَّهم
يقولُونَ: إنَّ الكلامَ لَيْسَ معنىً يقومُ بذاتِ اللهِ، بَلْ هُوَ شيءٌ
مِنْ مخلوقاتِهِ؛ كالسَّماءِ والأرضِ والنَّاقةِ والبيتِ وما أشْبَهَ
ذلِكَ! فلَيْسَ معنىً قائماً في نفسِهِ؛ فكلامُ اللهِ حروفٌ خَلَقَها اللهُ
عزَّ وجلَّ، وسمَّاها كلاماً لَهُ؛ كمَا خَلَقَ النَّاقَةَ وسمَّاها ناقةَ
اللهِ، وكَما خَلَقَ البيتَ وسمَّاهُ بَيْتَ اللهِ.
وَلِهَذَا كانَ الكلامُ عِنْدَ الجهميَّةِ
والمعتزلَةِ هُوَ الحروفُ؛ لأنَّ كلامَ اللِه عِنْدَهُم عبارةٌ عَنْ حروفٍ
وأصواتٍ خَلَقَها اللهُ عزَّ وجلَّ ونسَبَها إليه تشريفاً وتعظيماً.
قولُهُ: ((وَلاَ المَعاني دُونَ الحُروفِ)).
وهذا مذهبُ الكلَّابيَّةِ والأشعريَّةِ؛ فكلامُ
اللهِ عِنْدَهُم معنىً في نَفْسِهِ، ثُمَّ خَلَقَ أصواتاً وحروفاً تدلُّ
على هذا المعنَى؛ إمَّا عبارةً أو حكايةً.
واعلمْ أنَّ ابنَ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ ذكَرَ أنَّنا إذا أنكرْنَا أنَّ اللهَ يتكلَّمُ؛ فَقَدْ أبطَلْنا الشَّرْعَ والقَدَرَ:
-أمَّا الشَّرعُ؛ فلأنَّ الرِّسالاتِ إنَّما
جاءَتْ بالوحِي، والوحيُ كلامٌ مُبَلَّغٌ إلى المرسَلِ إليه؛ فإذا
نَفَيْنَا الكلامَ؛ انتفى الوحيُ، وإذا انتفى الوحيُ؛ انتفى الشَّرعُ.
-أمَّا القَدَرُ؛ فلأنَّ الخَلْقَ يقعُ بأمرِهِ؛
بقولِهِ: كُنْ! فيكونُ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82].
فصلٌ في الإيمانِ برؤْيةِ المؤمنينَ ربَّهم يومَ القيامةِ ومواضعِ الرُّؤيةِ
(2) قولُهُ: ((الإيمانُ بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه يومَ القيامةِ)):
- وجْهُ كونِ الإيمانِ بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه
يومَ القيامةِ مِنَ الإيمانِ باللهِ، ظاهرٌ؛ لأنَّ هذا مما أخْبَرَ اللهُ
بِهِ؛ فإذا آمَنَّا بهِ؛ فَهُوَ مِنَ الإيمانِ باللهِ.
-ووجْهُ كونِهِ مِنَ الإيمانِ بالكُتُبِ؛ لأنَّ الكُتُبَ أخْبَرَتْ بأنَّ اللهَ يُرى؛ فالتَّصديقُ بذلِكَ تصديقٌ بالكُتُبِ.
-ووجْهُ كونِهِ مِنَ الإيمانِ بالملائكةِ؛ لأنَّ
نقلَ الوحِي بواسطةِ الملائكةِ؛ فإنَّ جبريلَ ينزلُ بالوحِي مِنَ اللهِ
تعالَى؛ فكأنَّ الإيمانَ بأنَّ اللهَ يُرى مِنَ الإيمانِ بالملائكةِ.
-وكذلِكَ نقولُ: مِنَ الإيمانِ بالرُّسُلِ؛ لأنَّ
الرُّسُلَ هُم الَّذِين بلَّغُوا ذلِكَ للخَلْقِ؛ فكانَ الإيمانُ بذلِكَ
مِنَ الإيمانِ بالرُّسُلِ.
قولُهُ: ((عِيانًا بأبصارِهِم)): (عيانًا)؛ بمعنَى: معاينةٍ، والمعاينةُ هي الرؤيةُ بالعَيْنِ.
قولُهُ: ((كَما يَرَوْنَ الشَّمسَ صَحْواً لَيْسَ
دونهَا سَحَابٌ)): ودليلُ ذلِكَ قولُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
((تَرَوْنَه كما تَرَوْنَ الشَّمسَ صَحْوًا لَيْسَ دونهَا سَحَابٌ)).
والمرادُ بالرُّؤيةِ: بالعَيْنِ؛ كَمَا يدلُّ عليه تشبيهُ الرُّؤيةِ برؤيةِ الشَّمسِ صَحْوًا لَيْسَ دونهَا سحابٌ.
قولُهُ رحِمَهُ اللهُ: ((وَكَما يَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا يُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ)): سَبَقَ الكلامُ في ذلِكَ.
قولُهُ: ((يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وَهُمْ في عَرَصاتِ القِيامَةِ)):
((عَرَصاتِ)): جمعُ عَرْصةٍ، وهِيَ المكانُ
الواسعُ الفسيحُ، الَّذِي لَيْسَ فيه بناءٌ؛ لأنَّ الأرضَ تُمَدُّ مَدَّ
الأديمِ؛ كَمَا قَالَ الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ يعني: مَدَّ
الجِلْدِ.
فالمؤمنونَ يَرَوْنَ اللهَ في عَرَصاتِ يومِ
القيامةِ قَبْلَ أنْ يدخلوا الجنَّةَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تعالَى عن
المكذِّبينَ بيومِ الدِّينِ: (كَلاَّ إِنَّهُم عَن رَّبّهِم يَومَئِذٍ
لَّمَحجُوبُونَ) [المطَفِّفِِينَ: 15]؛ (يَومَئِذٍ)؛ يعني: يومَ الدِّينِ؛
(يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ العَالَمِينَ) [المطففِين: 6]، ويَرَوْنَه
كذلِكَ بَعْدَ دخولِ الجنَّةِ.
أمَّا في عَرَصاتِ القيامةِ؛ فالنَّاسُ في العَرَصاتِ ثلاثةُ أجناسٍ:
مؤمنونَ خُلَّصٌ ظاهرًا وباطنًا.
وكافرونَ خُلَّصٌ ظاهرًا وباطنًا.
ومؤمنونَ ظاهرًا كافرونَ باطنًا، وهم المنافقونَ.
فأمَّا المؤمنونَ؛ فيَرَونَ اللهَ تعالَى في عَرَصاتِ القيامةِ وبَعْدَ دخولِ الجنَّةِ.
وأمَّا الكافرونَ؛ فلا يَرَوْنَ ربهَّم مطلقًا،
وقِيلَ: يَرَوْنَه؛ لكنْ رؤيةَ غضبٍ وعقوبةٍ، ولكنَّ ظاهرَ الأدلَّةِ يدلُّ
على أنهَّم لا يَرَوْنَ اللهَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تعالَى: (كَلاَ إِنَّهُم
عَن رَّبّهِم يَومَئِذٍ لَّمَحجُوبُونَ) [المطففِين: 15].
وأمَّا المنافقُونَ؛ فإنهَّم يَرَوْنَ اللهَ عزَّ وجلَّ في عَرَصاتِ القيامةِ، ثُمَّ يحتجبُ عَنْهُم، ولا يَرَوْنَه بَعْدَ ذلِكَ.
قوله: ((ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخولِ الجنَّةِ كَما يَشاءُ اللهُ تعالَى)):
قولُهُ: ((كما يشاءُ))؛ يعني: يَرَوْنَ اللهَ كما
يشاءُ سبحانَهُ وتعالَى في كيفيَّةِ رؤيتِهِم إيَّاهُ، وكما يشاءُ اللهُ
في زمنِ رؤيتِهِم إيَّاهُ، وفي جميعِ الأحوالِ؛ يعني: على الوجْهِ الَّذِي
يشاؤُه اللهُ عزَّ وجلَّ في هذِهِ الرُّؤيةِ.
وحينئذٍ؛ فإنَّ هذِهِ الرُّؤيةَ لا نعلمُ
كفيَّتَها؛ بمعنَى أنَّ الإنسانَ لا يعلمُ كَيْفَ يرى ربَّهُ، ولكنَّ معنَى
الرُّؤيةِ معلومٌ؛ أنهَّم يَرَوْنَ اللهَ كَمَا يَرَوْنَ القمرَ؛ لكنْ على
أيِّ كيفيَّةٍ؟ هذِهِ لا نعلَمُها، بَلْ كَمَا يشاءُ اللهُ.
وقد سَبَقَ التفصيلُ في الرُّؤيةِ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومن
الإيمان بالله وكُتُبِه: الإيمانُ بأنّ القُرآنَ كلامُ الله مُنزَّلٌ غيرُ
مخلوقٍ، منه بدأ و إليه يعودُ، وأنّ الله تعالى تكلَّمَ به حقيقةً، وأن
هذا القرآنَ الذي أنزله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو كلامُ الله حقيقةً
لا كلامُ غيرِه، ولا يجوزُ إطلاقُ القولِ بأنّه حكايةٌ عن كلامِ اللهِ أو
عبارةٌ، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحِفِ لم يَخْرج بذلك عن أن
يكون كلامَ الله تعالى حقيقةً، فإنّ الكلامَ إنما يُضافُ حقيقةً إلى مَنْ
قالَه مُبْتَدِئاً لا إلى مَن قاله مُبَلِّغاً مؤدِّياً، وهو كلامُ اللهِ
حروفُهُ ومعانيهِ ليس كلامُ الله الحروف دون المعاني
ولا المعاني دون الحروف.([1])
وجوبُ الإيمانِ برؤيةِ المؤمنين لربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية.
وقد
دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبِه وبملائكته وبرسُلِهِ الإيمانُ
بأنّ المؤمنين يرَوْنَهُ يومَ القيامةِ عياناً بأبصارهم كما يرَوْنَ
الشمسَ صحْواً ليس دونَها سحابٌ وكما يَروْنَ القَمَرَ ليلة البدرِ لا
يُضامُّون في رؤيَتِهِ يَروْنَهُ سبحانه وهم في عرصاتِ القيامةِ، ثم
يَروْنَهُ بعدَ دُخولِ الجنةِ كما يشاءُ الله سبحانَهُ وتعالى).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) ووجه ذلك وأنه داخل في الإيمان بالله وبكتبه أن الإيمان بكلام الله على هذا الوصف الذي ذكره المصنِّف وأنه من الإيمان بالله لأنه وصفه، والكلام صفة للمتكلم فإن الله تعالى موصوف بأنه متكلِّم إذا شاء بما شاء، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلم وكلامه تعالى لا ينفد، ولا يبيد، ونوع الكلام أزلي أبدي، ومفرداته لا تزال تقع شيئاً فشيئاً بحسب حكمة الله تعالى، والله تعالى أضافه إلى نفسه في قوله (كلام الله) إضافة الصفة لموصوفها، فدلّ على أنه كلامه: لفظُه ومعناه ووصفه، وإذا كان كذلك كان غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق من المعتزلة فقد أعظم الفِرية على الله، ونفى كلام الله عن الله وصفاً وجعله وصفاً للمخلوق، ومن زعم أن القرآن الموجود بيننا عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه كما قاله الكلابية والأشعرية فقد قال بنصف قول المعتزلة. فالقرآن كلام الله حيث تصرّف سواء كان محفوظاً في الصُّدور أو متلواً بالألسنة أو مكتوباً في المصاحف، فلا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله كما قال المصنف، فإن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. وقول السَّلف كلام الله منه بدأ أي هو الذي تكلّم به لا غيره، وقولهم إليه يعود أي يرجع، أي يوصف الله به، وقيل إن المراد بذلك ما ورد من أن من أشراط الساعة أن يرفع القرآن من الصّدور والمصاحف، والأول أولى. وهذه المسألة مسألة الكلام عظيمة تكلم فيها الناس على اختلاف طرائقهم، ولكن المصنف ذكر في هذا الفصل كلاماً في التكلم جامعاً نافعاً مأخوذاً من الأدلة الشّرعية العقلية والنّقلية. وأما كون هذا داخلاً في الإيمان بكتبه فإن الإيمان بالكتب وخصوصاً القرآن يقتضي أن يؤمن العبد بكل ألفاظها ومعانيها وما دلّت عليه من العقائد والمعاني الجليلة، فمن لم يؤمن بجميع ذلك فلن يتم إيمانه. واعلم أن المؤمنين بالقرآن على قسمين: كاملين وناقصي،ن أما الكاملون فإنهم أقبلوا على القرآن فتفهّموا معانيه ثم آمنوا بها واعتقدوها كلها وتخلّقوا بأخلاقها وعملوا بما دلّ عليه، امتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه، ولم يفرّقوا بين نصوصه كحال أهل البدع الذين آمنوا ببعض دون بعض. وأما الناقصون فهم قسمان: قسم مبتدعون، وقسم فاسقون ظالمون، أما المبتدعون فكل من ابتدع بدعة ترك لها شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله، وهؤلاء على مراتبهم في البدعة بحسب ما خالفوا فيه. وأما الفاسقون فهم الذين عرفوا أنه يجب عليهم الإيمان بالكتاب والعمل به فاعترفوا بذلك، ولكن أعمالهم ناقضت أقوالهم فتجرؤوا على مخالفة الكتاب بترك كثير من واجباته والاقتحام على كثير مما نهى عنه من غير أن يجحدوا، ولكن نفوسهم الأمّارة بالسوء غلبتهم واستولت عليهم. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن آمن بكتابه إيماناً صحيحاً، حتى نكون لجميع نصوصه معتقدين ولأوامره ونواهيه خاضعين إنه جواد كريم).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((ومِنَ الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ
اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ، منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ، وأَنَّ
اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً، وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على
محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كلامُ اللهِ حقيقةً، لا
كَلامَ غيرِهِ.
ولا
يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ،
بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ
بذلكَ عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما
يُضَافُ حقيقةَ إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئًا، لا إِلى مَنْ قالَهُ
مُبَلِّغًا مُؤدِّيًا.
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ، ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ ) (1).
(
وقَدْ دَخَلَ أَيضًا فيما ذَكَرْناهُ مِنَ الإِيمانِ بهِ وبِكُتُبِهِ
وبملائِكَتِهِ وبِرُسُلِهِ: الإِيمانُ بأَنَّ المؤمِنينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ
القِيامَةِ عيانًا بأَبصارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صحوًا ليسَ [
بها ] سحابٌ، وكَما يَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ لا يضامونَ في
رُؤيَتِهِ.
يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وهُمْ في عَرَصَاتِ القِيامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ؛ كَمَا يَشاءُ اللهُ تَعالى)) (2) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
قولُهُ: (( ومِنَ الإِيمانِ باللهِ وكتبِهِ … )) إلخ. جعلَ المُصَنِّفُ
الإِيمانَ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ داخلاً في الإِيمانِ باللهِ؛ لأنَّهُ
صفةٌ من صفاتِهِ، فلا يتمُّ الإِيمانُ بهِ سبحانَهُ إلاَّ بهَا، إذِ
الكَلامُ لا يكونُ إلاَّ صفةً للمتكلِّمِ، واللهُ سبحانَهُ موصوفٌ بأنَّهُ
متكلِّمٌ بما شاءَ متى شاءَ، وأنَّهُ لمْ يزلْ ولا يزالُ يتَكَلَّمُ؛ بمعنى
أنَّ نوعَ كلامِهِ قدْيمٌ وإنْ كانَتْ آحادُهُ لا تزالُ تقعُ شيئًا بعدَ
شيءٍ بحسبِ حكمتِهِ.
وقَدْ قلنَا فيمَا سبقَ:
إنَّ الإِضافةَ في قولنا: القرآنُ كلامُ اللهِ؛ هيَ مِن إضافةِ الصِّفةِ
للموصوفِ، فتُفِيدُ أنَّ القرآنَ صفةُ الرَّبِّ سبحانَهُ، وأنَّهُ
تَكَلَّمَ بهِ حقيقةً بألفاظِهِ ومعانِيهِ، بصوتِ نفسِهِ.
فمَنْ زعمَ أنَّ القرآنَ
مخلوقٌ مِن المُعتزِلَةِ؛ فقَدْ أعظمَ الفِريةَ على اللهِ، ونفى كلامَ
اللهِ عن اللهِ وصفًا، وجعلَهُ وصفًا لمخلوقٍ، وكانَ أيضًا متجنِّيًا على
اللُّغةِ، فليسَ فيهَا متكلِّمٌ بمعنى خالقٍ للكلامِ.
ومَنْ
زعمَ أنَّ القرآنَ الموجودَ بيننَا حكايةٌ عن كلامِ اللهِ؛ كمَا تقولهُ
الكُلاَّبيةُ، أوْ أَنَّهُ عبارةٌ عنهُ؛ كمَا تقولهُ الأشعريَّةُ؛ فقَدْ
قالَ بنصفِ قولِ المُعتزِلَةِ، حيثُ فرَّقَ بينَ الألفاظِ والمعاني، فجعلَ
الألفاظَ مخلوقةً، والمعانيَ عبارةً عن الصِّفةِ القدْيمةِ؛ كمَا أنَّهُ
ضاهَى النَّصارَى في قولهمْ بِحُلُولِ اللاهوتِ – وهوَ الكلمةُ – في
النَّاسُوتِ – وهوَ جسدُ عيسى عليهِ السَّلامُ -، إذْ قالَ بحلولِ المعاني
التَّي هيَ الصِّفةُ القدْيمةُ في هذهِ الألفاظِ المخلوقةِ، فجعلَ الألفاظَ
ناسوتًا لهَا.
والقرآنُ كلامُ اللهِ حيثُ
تَصَرَّفَ، فَمَهْمَا كتبنَاهُ في المصاحفِ، أوْ تلوناهُ بالألسنةِ؛ لمْ
يخرجْ بذلكَ عن أنْ يكونَ كلامَ اللهِ؛ لأنَّ الكلامَ – كمَا قالَ
المصنِّفُ – إنَّمَا يُضَافُ إلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدئًا، لا إلى مَنْ
قالَهُ مبلِّغًا مؤدِّيًا.
وأَمَّا معنى قولِ
السَّلفِ: (( منهُ بَدَأَ وإليهِ يَعُودُ ))؛فهوَ مِنَ البَدْءِ؛ يعني:
أنَّ اللهَ هوَ الذي تَكَلَّمَ بهِ ابتداءً، لمْ يُبتدأْ مِنْ غيرهِ،
ويحتملُ أنَّ يكونَ من البُدُوِّ؛ بمعنى: الظهورِ؛ يعني: أَنَّهُ هوَ الذي
تَكَلَّمَ بهِ وظهرَ منهُ، لمْ يَظْهَرْ مِنْ غيرهِ.
ومعنى: (( إليهِ يعودُ ))؛
أيْ: يرجعُ إليهِ وَصْفًا؛ لأنَّهُ وَصْفُهُ القائمُ بهِ، وقيلَ: معناهُ
يعودُ إليهِ في آخرِ الزمانِ، حينَ يُرْفَعُ مِنَ الْمَصَاحِفِ
والصُّدُورِ؛ كمَا وردَ في أشراطِ السَّاعةِ.
وأَمَّا كونُ الإِيمانِ
بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ داخلاً في الإِيمانِ بالكتبِ؛ فإنَّ الإِيمانَ
بهَا إيمانَا صحيحًا يقتضي إيمانَ العبدِ بأنَّ اللهِ تَكَلَّمَ بهَا
بألفاظهَا ومعانيهَا، وأنَّهَا جميعًا كلامُهُ هوَ، لا كلامَ غيرِه، فهوَ
الذي تَكَلَّمَ بالتَّورَاةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وبالإِنجيلِ
بالسَّرْيَانِيَّةِ، وبالقرآنِ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ.
(2)
قولُهُ: (( وقَدْ دخلَ أيضًا فيمَا ذكرناهُ … )) إلخ. تقدَّمَ الكلامُ على
رؤيةِ المؤمنينَ لربِّهمْ عزَّ وجلَّ في الجنَّةِ؛ كمَا دلَّتْ على ذلكَ
الآياتُ والأحاديثُ الصَّريحةُ، فلا حاجةَ بِنَا إلى إعادةِ الكلامِ فيهَا.
غيرَ أنَّ قولَهُ: ((
يرونَهُ سبحانَهُ وَهُمْ في عَرَصَاتِ القيامةِ )). قدْ يُوهِمُ أنَّ هذهِ
الرُّؤيةَ أيضًا خاصةً بالمؤمنينَ، ولكنَّ الحقَ أنَّهَا عامَّةٌ لجميعِ
أهلِ الموقفِ، حينَ يجيءُ الرَّبُّ لفصلِ القضاءِ بينهمْ؛ كمَا يدُلُّ
عليهِ قولُهُ تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتَيِهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ } الآية.
والعَرَصاتُ: جَمْعُ عَرَصَةٍ، وهيَ كلُّ مَوْضِعٍ واسعٍ لا بِنَاءَ فيهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قال
رحمه الله: ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ:
كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ، منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ،
وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً، وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي
أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ
حقيقةً، لا كَلامُ غيرِهِ.ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ
عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ، بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ
كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ
تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ
مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً.وهُوَ كَلامُ اللهِ؛
حُروفُهُ، ومَعانيهِ، ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا
المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ.(1)
وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية
قال
رحمه الله: وقَدْ دَخَلَ أَيضاً فيما ذَكَرْناهُ مِن الإِيمانِ بهِ
وبِكُتُبِهِ وبملائِكَتِهِ وبِرُسُلِهِ: الإِيمانُ بأَنَّ المؤمِنينَ
يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ عياناً بأَبصارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ
الشَّمْسَ صحواً ليسَ بها سحابٌ، وكَما يَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ
لا يضامونَ في رُؤيَتِهِ.يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وهُمْ في عَرَصَاتِ
القِيامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ؛ كَمَا يَشاءُ اللهُ
تَعالى.(2)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1)
مِن أصولِ الإيمانِ: الإيمانُ باللَّهِ، والإيمانُ بكُتُبِه ـ كما سبَقَ،
ويدخُلُ في هذَيْنِ الأصلَيْنِ الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ.
فالإيمانُ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يتضمَّنُ الإيمانَ بصفاتِه، وكلامُه مِن
صفاتِه، فإنَّ اللَّهَ تعالى مَوصوفٌ بأَنَّهُ يَتكلَّمُ بما شاءَ إذا
شاءَ، لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ يَتكلَّمُ وكلامُه لا يَنفَدُ، ونوعُ الكلامِ
في حقِّه أزليٌّ أبَديٌّ، ومُفرداتُه لا تَزالُ تقَعُ شيئا فشيئا حَسْبَ
حِكْمَتِه تعالى.
ومِن كلامِه القرآنُ
العظيمُ، الذي هُوَ أعْظمُ كتُبِه، فَهُوَ داخِلٌ في الإيمانِ بكتُبِه
دُخولا أوَّلياً، وَهُوَ مُنَزَّلٌ منه سبحانه، فَهُوَ تكلَّمَ به،
وأنْزَلَه على رسولِه صلى اللهُ عليه وسلم، فَهُوَ (مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ)
لأَنَّهُ صفةٌ مِن صفاتِه أضافَه إلى نَفْسِه إضافةَ الصِّفةِ إلى
مَوْصوفِها، وصفاتُه غيرُ مخلوقةٍ، فكلامُه غيرُ مخلوقٍ. وقد خالَفَ في هَذَا طوائفُ ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هنا مَقالةَ بعضِهم فذَكَرَ:
1- مقالةَ الجَهْميَّةِ حَيْثُ يقولونَ:
إنَّ اللَّهَ لا يتكلَّمُ وإنما خَلَقَ كلامًا في غيرِه وجعَلَه يعَبِّرُ
عنه، فإضافةُ الكلامِ عندَهم إلى اللَّهِ مجازٌ لا حقيقةٌ؛ لأَنَّهُ خَلَقَ
الكلام فَهُوَ متكلِّمٌ بمعنى خالقِ الكلامِ في غيرِه ـ وهَذَا القولُ
باطلٌ مخالِفٌ للأدلَّةِ السَّمْعيَّةِ والعقليَّةِ، ومخالِفٌ لقولِ
السَّلَفِ وأئمَّةِ المُسلِمِينَ، فإنَّهُ لا يُعْقَلُ أنْ يُسمَّى
متكلِّماً إلاَّ مَن قامَ به الكلامُ حقيقةً، فكَيْفَ يُقالُ: قال اللَّهُ،
والقائلُ غيرُه؟ وكَيْفَ يُقالُ: كلامُ اللَّهِ، وَهُوَ كلامُ غيرِه.
وقولُ المصنِّفِ: (منه
بَدأَ وإليه يعودُ، وأنَّ اللَّهَ تكلَّمَ به حقيقةً، وأنَّ هَذَا القرآنَ
الذي أنْزَلَه على مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم هُوَ كلامُ اللَّهِ
حقيقةً لا كلامُ غيرِه) قصْدُه بهَذَا الرَّدُّ على الجَهْميَّةِ الذين
يقولونَ إنَّ القرآنَ بدأَ مِن غيرِه، وأنَّ اللَّهَ لم يتكلَّمْ به حقيقةً
بل مجازاً، وَهُوَ كلامُ غيرِه أُضِيفَ إليه لأَنَّهُ خالِقُه. ومعنى
قولِه (منه بَدأَ) أنَّ القرآنَ بدأَ وخَرَجَ مِن اللَّهِ تعالى وتكلَّمَ
به (ومِن) لابتداءِ الغايةِ، وقولُه: (وإليه يعودُ) أيْ: إنَّ القرآنَ
يرجِعُ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأَنَّهُ يُرفَعُ في آخِرِ الزَّمانِ، فلا
يَبْقَى منه شيءٌ في الصُّدورِ ولا في المصاحِفِ، وذَلِكَ مِن علاماتِ
السَّاعةِ أوْ معنى ذَلِكَ أَنَّهُ يُنسَبُ إليهِ.
2-
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هنا مَقالةَ الكُلاَّبيَّةِ
(أتباعِ عبدِ اللَّهِ بنِ سعيدِ بنِ كُلاَّبٍ) في القرآنِ أَنَّهُ حكايةٌ
عن كلامِ اللَّهِ؛ لأنَّ كلامَ اللَّهِ عندَهم هُوَ المعنى القائمُ
في نَفْسِه، لازمٌ لِذاتِه كلُزومِ الحياةِ، والعِلمُ لا يَتعلَّقُ
بمشيئتِه وإرادتِه، وهَذَا المعنى القائمُ في نَفْسِه غيرُ مخلوقٍ،
وَهَذِهِ الألفاظُ المكوَّنةُ مِن حروفٍ وأصواتٍ مَخلوقةٌ، وهِيَ حكايةٌ
لكلامِ اللَّهِ، وليست هِيَ كلامَه.
3-
وذَكَرَ مقالةَ الأشاعرةِ (أتباعِ أبي الحسَنِ الأشعريِّ) أنَّ القرآنَ
عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ؛ لأنَّ كلامَ اللَّهِ عندَهم معنًى قائمٌ في
نَفْسِه، وهَذَا المعنى غيرُ مخلوقٍ، أمَّا الألفاظُ المقروءةُ
فهِيَ عبارةٌ عن ذَلِكَ المعنى القائمِ بالنَّفْسِ، وهِيَ مخلوقةٌ، ولا
يُقالُ: إنها حكايةٌ عنه.
وبعضُ العلماءِ يقولُ:
إنَّ الخِلافَ بَيْنَ الكُلاَّبِيَّةِ والأشاعِرةِ خلافٌ لفظيٌّ لا طائلَ
تحتَه، فالأشاعِرةُ والكُلاَّبيَّةُ يقولونَ: القرآنُ نوعانِ: ألفاظٌ
ومعانٍ فالألفاظُ مخلوقةٌ، وهِيَ هَذِهِ الألفاظُ الموجودةُ، والمعاني
القديمةُ قائمةٌ بالنَّفْسِ، وهِيَ معنًى واحدٌ لا تَبَعُّضَ فيه ولا
تَعدُّدَ. وعلى كُلِّ حالٍ القَوْلانِ إنْ لم يَكونا متَّفقَيْنِ فهما
متقارِبانِ.
وقد أشارَ الشَّيخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ إلى بطلانِ هذَيْنِ القولَيْنِ بقولِه: (ولا يجوزُ إطلاقُ
القولِ بأَنَّهُ حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ) أيْ كما تقولُ الكُلاَّبيَّةُ
(أو عبارةٌ عنه) كما تقولُ الأشاعرةُ (بل إذا قرأَهُ النَّاسُ أو كَتَبُوه
في المصاحِفِ لم يَخْرُجْ بذَلِكَ عن أنْ يكونَ كلامَ اللَّهِ حقيقةً) أيْ:
إنَّ القرآنَ العظيمَ كلامُ اللَّهِ ألفاظُه ومعانِيه أينَ وُجِدَ، سواءٌ
حُفِظَ في الصُّدورِ، أو تُلِيَ بالألسنةِ، أو كُتِبَ في المصاحفِ لا
يَخْرُجُ بذَلِكَ عن أنْ يكونَ كلامَ اللَّهِ تعالى حقيقةً.
ثم ذَكَرَ الشَّيخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ دليلَ ذَلِكَ، فقال: (فإنَّ الكلامَ إِنما يُضافُ حقيقةً
إلى مَن قاله مبتَدِئاً لا إلى مَن قاله مُبلِّغا مؤدِّياً) فإنَّ
المبلِّغَ المؤدِّيَ إنما يسمَّى واسطةً فقطْ، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) الآيةُ (6) مِن سورةِ التَّوبةِ.
والسَّماعُ المذكورُ في هَذِهِ الآيةِ إنما يكونُ بواسطةِ المبلِّغِ،
وسُمِّيَ المسموعُ كلامَ اللَّهِ، فدَلَّ على أنَّ الكلامَ إنما يُضافُ إلى
مَن قاله مبتدِئاً.
1- ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ مقالةَ المعتزِلةِ: حَيْثُ يقولونَ: إنَّ كلامَ اللَّهِ
الحروفُ دُون المعاني، فيقولون إنَّ مسمَّى القولِ والكلامِ عندَ الإطلاقِ
اسمٌ للَّفظٍ فقطْ، والمعنى ليس جزءَ مُسمَّاهُ بل هُوَ مَدلولُ مُسمَّاهُ.
ثم ذَكَرَ رَحِمَهُ
اللَّهُ المذهبَ المقابِلَ لذَلِكَ، فقال: (ولا المعاني دُونَ الحروفِ) كما
هُوَ مذهبُ الكُلاَّبيَّةِ والأشاعِرةِ، وكما سبَقَ شرحُه. والمذهبُ
الحقُّ أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانيهِ، كما هُوَ قولُ أهلِ
السُّنَّةِ والجَماعةِ، وَهُوَ الذي قامَتْ عليه الأدِلَّةُ مِن الكتابِ
والسُّنَّةِ، والحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ.
(2)
وجهُ دخولِ الإيمانِ بالرُّؤيةِ في الإيمانِ باللَّهِ وبكتُبِه وبرسُلِه
أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أخبْرَ بها في كتابِه، وأخبَرَ بها رسولُه صلى
اللهُ عليه وسلم، فمَن لم يؤمِنْ بها كان مكذِّباً لِلَّهِ ولكتُبِه
ولرسُلِه، فإنَّ الذي يؤمنُ باللَّهِ وكتُبِه ورُسلِه يؤمِنُ بكُلِّ ما
أَُخْبِرُوا به، وقولُه: (عِيَاناً) بكسرِ العَينِ أيْ: رؤيةً محقَّقَةً
لاخفاءَ فيها، فليستْ مَجازاً كما تقولُه المعطِّلةُ (كَمَا يَرَوْنَ
الشَّمْسَ صَحْواً لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ يُضَامُونَ فيِ رُؤْيَتِهِ) أيْ رؤيةً حقيقيَّةً لا
مَشقَّةَ فيها، كما دلَّتْ على ذَلِكَ الآياتُ والأحاديثُ التي سبَقَ
شرحُها.
وقولُه: (يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فيِ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ ثُم يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ) هَذَا بيانٌ للمواضعِ التي تحصُلُ فيها الرُّؤيةُ، وذَلِكَ في موضعَيْنِ: الموضع الأوَّلُ:
في عَرَصاتِ القيامةِ، والعَرَصاتُ: جمعُ عَرْصةٍ، وهِيَ الموضعُ الواسِعُ
الذي لا بناءَ فيه، وعَرَصاتُ القيامةِ: مواقفُ الحسابِ، وهل يختَصُّ
المؤمنونَ برؤيَتِه في هَذَا الموضعِ؟ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ: قيل
يَراهُ في عَرصاتِ القيامةِ المؤمنونَ والمنافِقونَ والكفارُ. وقيل يَراهُ
المؤمنونَ والمنافِقونَ فقطْ دون الكُفارِ. وقيل يَراهُ المؤمنونَ فقطْ.
واللَّهُ أعْلَمُ.
الموضعُ الثَّاني:
يَراهُ المؤمنونَ بعدَ دُخولِهم الجَنَّةَ، كما ثَبَتَ ذَلِكَ في
الأدلَّةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وسبَقَ ذِكْرُ بعضِ تِلْكَ الأدلَّةِ
مشروحةً. وسبَقَ ذِكْرُ شُبَهِ مَن نفَى الرُّؤيةَ مع الردِّ عليها،
والجَنَّةُ في اللُّغةِ البُستانُ، والمرادُ بها هنا الدَّارُ التي أعدَّها
اللَّهُ لأوليائِه، وهِيَ دارُ النَّعيمِ المطْلَقِ الكامِلِ. وقولُ
الشَّيخِ: (كما يشاءُ اللَّهُ) أيْ: مِن غيرِ إحاطةٍ ولا تكييفٍ لرؤيتِه).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ الَّلهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا القُرْآنَ الذي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، لا كَلامُ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ القَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي المَصَاحِفِ لمْ يَخْرُجْ بِذَلكَ عَن أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَن قَالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلَى مَن قَالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً. وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ، حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، ليْسَ كَلامُ اللَّهِ حُرُوفَاً دُونَ المَعَانِي، وَلا المَعَانِيَ دُونَ الحُرُوفِ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (مَسْأَلَةُ
الكَلامِ مِن أَكْبَرِ المَسَائِلِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا النِّزَاعُ
بَيْنَ الفِرَقِ، وَالقَوْلُ الصَّوَابُ فِيهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ
الصَّالحِ أَنَّ الَّلهَ لمْ يَزَلْ مُتَكلِّماً إِذَا شَاءَ، وَأَنَّ
القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَمَذْهَبُ سَلَفِ
الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ
بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ المُسْلمِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الذي
يُوَافِقُ الأَدِلَّةَ العَقْليَّةَ الصَّرِيحَةَ، أَنَّ القُرْآنَ كَلامُ
الَّلهَ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ،
فَهُوَ المُتَكَلِّمُ بِالقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِن كَلامِهِ ليْسَ مخلوقاً منفصلاً عَنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ
يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ:
إِنَّ القُرْآنَ أَوِ التَّوْرَاةَ أَوِ الإِنْجِيلَ لازِمَةٌ لذَاتهِ
أزلاً وأبداً، وَهُوَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ، وَلا قَالُوا: إِنَّ نَفْسَ نِدَائِهِ لمُوسَى أَوْ نَفْسَ
الكَلمَةِ المُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ، بَلْ قَالُوا: لمَ يَزَلِ
اللَّهُ مُتَكلِّماً إِذَا شَاءَ وَكَلمَاتُ اللَّهِ لا نِهَايَةَ لهَا
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ العَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ
العِبْرِيَّةِ. فَالقُرْآنُ العَرَبِيُّ كَلامُ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ العَرَبِيَّ نَزَلَ مِن
اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: " مِنْهُ بَدَأَ ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:" مِنْهُ "
أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ، فَإِنَّ الذين قَالُوا: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ
قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَأَ مِن ذَلكَ المَخْلُوق،ِ فَقَالَ السَّلَـفُ:" مِنْهُ بَدَأَ "
أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ لمَ يخَلُقْهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَكُونُ
كلاماً لذَلكَ المَحَلِّ الذي خَلَقَهُ فِيهِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إِذَا خَلَقَ صِفَةً مِن الصِّفَاتِ فِي مَحَلٍّ كَانَتِ الصِّفَةُ صِفَةً
لذَلكَ المَحَلِّ وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لرَبِ العَالَمِينَ وَإِنَّمَا
يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِن الصِّفَاتِ لا بِمَا
يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِن المَخْلُوقَاتِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ
النَّاسُ فِي مُسَمَّى الكَلامِ فِي الأَصْلِ فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ
اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى المَعْنَى، وَقِيلَ: المَعْنَى المَدْلُولُ
عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَقِيلَ لكُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الاشْتِرَاكِ
اللَّفْظِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لهُمَا جميعاً
يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الإِطْلاقِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ
يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً.
هَذَا قَوْلُ
السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا القَوْلُ لا
يُعْرَفُ فِي كَثِيرٍ مِن الكُتُبِ، فَتَنَازُعُهُمْ فِي مُسَمَّى
النُّطْقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي مُسَمَّى النَّاطِق،ِ فَمَنْ سَمَّى شخصاً
مُحمَّداً وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ
لمْ يَكُنْ هَذَا مُحمَّداً وَإِبْرَاهِيمَ المَذْكُورَيْنِ فِي القُرْآنِ،
وَلَوْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَليلُ اللَّهِ
يَعْنِي بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَخَليلَ الرَّحْمَنِ لكَانَ قَدْ
تَكَلَّمَ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ اللَّذينِ فِي القُرْآنِ، لكِنْ قَدْ
تَكَلَّمَ بِالاسْمِ وَأَلَّفَهُ كلاماً فَهُوَ كَلامُهُ لمْ يَتَكَلَّمْ
بِهِ فِي القُرْآنِ العَرَبِيِّ الذي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ، فَالحُرُوفُ
الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَإِذَا كُتِبَتْ فِي
المُصْحَفِ قِيلَ: كَلامُ اللَّهِ المَكْتُوبُ فِي المُصْحَفِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ وَأَمَّا نَفْسُ أَصْوَاتِ العِبَادَ فَمَخْلُوقَةٌ، وَالمِدَادُ
مَخْلُوقٌ، وَشَكْلُ المِدَادِ مَخْلُوقٌ.
وَلهَذَا كَانَ
الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ
يَقُولُونَ: مَن قَالَ اللَّفْظُ بِالقُرْآنِ أَوْ لفْظِي بِالقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ
فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ مَن قَالَ: لفْظِي
بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - يَعْنِي بِهِ القُرْآنَ - فَهُوَ جَهْمِيٌّ؛
لأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لفِظَ يَلْفِظُ لفْظاً. وَمُسَمَّى
هَذَا فِعْلُ العَبْدِ، وَفِعْلُ العَبْدِ مَخْلُوقٌ، وَيُرَادُ
بِاللَّفْظِ القَوْلُ الذي يَلْفِظُ بِهِ اللافِظُ وَذَلكَ كَلامُ اللَّهِ
لا كَلامُ القَارِئِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ لمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذَا القُرْآنِ وَأَنَّ هَذَا الذي يَقْرَؤُهُ
المُسْلمُونَ ليْسَ هُوَ كَلامَ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا
مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالاضْطِرَارِ مِن دِينِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا
صَوْتُ العَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ
بِأَنَّ الصَّوْتَ المَسْمُوعَ صَوْتُ العَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ
قَطُّ: مَن قَالَ: إِنَّ صَوْتِيَ بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ
وَإِنَّمَا قَالَ: مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ
لفْظِ الكَلامِ وَصَوْتِ المُبَلِّغِ لهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ، فَكُلُّ مَن
بَلَّغَ كَلامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ
لفْظَ ذَلكَ الغَيْرِ لا لفْظَ نَفْسِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا بَلَّغَهُ
بِصَوْتِ نَفْسِهِ لا بِصَوْتِ ذَلكَ الغَيْرِ وَنَفْسِ اللَّفْظِ
والتِّلاوةِ وَالقِرَاءةِ وَالكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلكَ لَمَّا كَانَ
يُرَادُ بِهِ المَصْدَرُ الذي هُوَ حَرَكَاتُ العِبَادِ وَمَا يَحْدُثُ
عَنْهَا مِن أَصْوَاتِهِمْ وَشَكْلِ المِدَادِ، وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ
الكَلامِ الذي يَقْرَؤُهُ التَّالي وَيَتْلُوهُ وَيَلْفِظُ بِهِ
وَيَكْتُبُهُ، مَنَعَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِن إِطْلاقِ النَّفْيِ
وَالإِثْبَاتِ الذي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةً أَوْ
جَعْلَ صِفَاتِ العِبَادِ ومِدادَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ:
نَقُولُ: القُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ -
أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ
كَلامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلامُهُ، وَكَلامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ
مِن صِفَاتِ العِبَادِ وَأَفْعَالهِمُ الَّتِي يَقْرَءُونَ وَيَكْتُبُونَ
بِهَا كَلامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ ومِدادِهم فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلهَذَا مَن
لمْ يَهْتَدِ إِلَى هَذَا الفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ
القُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَالقُرْآنُ لا يَكْثُرُ
فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا
يَقْرَءُونَ بِهِ القُرْآنَ، فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي العِبَادِ
فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالقُرْآنُ نَفْسُهُ لفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الذي
تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِن اللَّهِ وَسَمِعَهُ
مُحَمَّـدٌ مِن جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إِلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ
بِهِ الأُمَمَ لقَوْلهِ تَعَالَى:{ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ـ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلامٌ اللَّهِ ليْسَ بِمَخْلُوقٍ.
وَالذين قَالُوا: " إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ " أَرْبَعُ فِرَقٍ،فِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَهُمُ المُعْتَزِلَةُ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ قَدِيمٍ لمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ، وَهُمُ السَّالمِيَّةُ والاقْتِرانِيَّةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ حَادِثٍ فِي ذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ، وَهُمُ الكَرَّامِيَّةُ.
وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ: لمْ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكلِّماً بِصَوْتٍ إِذَا شَاءَ. وَالذين قَالُوا: لا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ فِرْقَتَانِ:
أَصْحَابُ الفَيْضِ وَالقَائِلُونَ: إِنَّ الكَلامَ مَعْنًى قَائِمٌ
بِالنَّفْسِ. وَالمَذْهَبُ الحَقُّ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ قَدِيمُ النَّوْعِ
حَادِثُ الآحَادِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلكَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلِ التِّلاَوةُ غَيْرُ المَتْلُوِّ ؟ أَوْ هِيَ
المَتْلُوُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالذينَ قَالُوا: التِّلاوَةُ هِيَ
المَتْلُوُّ فَلَيْسَتْ حَرَكَاتُ الإِنْسَانِ عِنْدَهُمْ هِيَ التِّلاوَةُ
وَإِنَّمَا أَظْهَرَتِ التِّلاوَةَ وَكَانَتْ سبباً لظُهُورِهَا وَإِلاَّ
فَالتِّلاوَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ نَفْسُ الحُرُوفِ وَالأَصْوَاتِ وَهِيَ
قَدِيمَةٌ، وَالذين قَالُوا: التِّلاوَةُ غَيْرُ المَتْلُوِّ طَائِفَتَانِ:إِحْدَاهُمَا قَالَتْ:
التِّلاوَةُ: هِيَ هَذِهِ الحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ المَسْمُوعَةُ وَهِيَ
مَخْلُوقَةٌ، وَالمَتْلُوُّ: المَعْنَى القَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ
قَدِيمٌ. وَهَذَا قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قَالُوا:
التِّلاوَةُ: هِيَ قِرَاءَتُنَا وَتَلَفُّظُنَا بِالقُرْآنِ،
وَالمَتْلُوُّ هُوَ القُرْآنُ العَزِيزُ المَسْمُوعُ بِالآذَانِ
بِالأَدَاءِ مِن فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهِيَ حُرُوفٌ وَكَلمَاتٌ وَسُورٌ وَآيَاتٌ تَلاهُ جَبْرَائِيلُ
وَبَلَّغَهُ جَبْرَائِيلُ عَن اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَمِعَهُ، وَهَذَا
قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ فَهُمْ يُمَيِّزُونَ
بَيْنَ مَا قَامَ بِالعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ، وَالقُرْآنُ
عِنْدَهُمْ جَمِيعُهُ كَلامُ اللَّهِ وَحُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ،
وَأَصْوَاتُ العِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ وَأَدَاؤُهُمْ وَتَلَفُّظُهُمْ
كُلُّ ذَلكَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَن اللَّهِ. وَأَمَّا
إِنْكَارُ أَحْمَدَ عَلَى مَن قَالَ لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ
قَالَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَقَصْدُهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ
أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: المَلْفُوظُ نَفْسُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ للْعَبْدِ وَلا فِعْلَ لهُ فِيهِ.
وَالثَّانِي:
التَّلَفُّـظُ بِهِ وَالأَدَاءُ لهُ وَهُوَ فِعْلُ العَبْد،ِ فَإِطْلاقُ
الخَلْقِ عَن اللَّفْظِ قَدْ يُوهِمُ المَعْنَى الأَوَّلَ وَهُوَ خَطَأٌ،
وَإِطْلاقُ نَفْيِ الخَلْقِ عَلَيْهِ قَدْ يُوهِمُ المَعْنَى الثَّانِيَ
وَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنَعَ الإطْلاقَيْنِ، وَرُوِيَ عَن أَبِي أُمَامَةَ عَن
النَّبِيِّ صَـلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا تَقَرَّبَ العِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ "
- يَعْنِي القُرْآنَ. وَرُوِيَ عَن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَخَبَّابِ
بْنِ الأَرَتِّ نَحْوُ ذَلكَ. وَقَوْلُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ
أَيِ اللَّهُ المُتَكَلِّمُ بِالقُرْآنِ ابْتِدَاءً حَقِيقَةً وَإِلَيْهِ
يَعُودُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلكَ مِن أَشْرَاطِ السَّاعَةِ
وَأَمَارَاتِهَا، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَن حُذَيْفَةَ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ قَالا: " يُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ليْلاً فَيُصْبِحُ
النَّاسُ وَلَيْسَ مِنْهُ آيَةٌ وَلا حَرْفٌ فِي جَوْفٍ إِلا نُسِخَتْ
"،وَرُوِيَ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَرْجِعَ القُرْآنُ مِن حَيْثُ جَاءَ فَيَكُونُ لهُ دَوِيٌّ حَوْلَ
العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: مَا لكَ ؟
فَيَقُولُ: مِنْكَ خَرَجْتُ وَإِلَيْك عُدْتُ، أُتْلَى فَلا يُعْمَلُ بِي
عِنْدَ ذَلكَ رُفِعَ القُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَةَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ
وَالحَاكِمُ والبَيْهقيُّ وَالضِّيَاءُ عَن حُذَيْفَةَ: يَدْرُسُ
الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى مَا يُدْرَى مَا
صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا نُسُكٌ وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ
اللَّهِ فِي ليْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى
طَوَائِفُ مِن النَّاسِ الشَّيْخُ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ يَقُولُونَ
أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلمَةِ فَنَحْنُ نَقُولُهَا.
وَرَوَى عَبْدُ الغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ المَقْدِسِيُّ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالا: القُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ
فِي المُنَاظَرَةِ: وَلَمَّا جَاءَتْ مَسْأَلَةُ القُرْآنِ، وَمِن
الإِيمَانِ بِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي
كَوْنِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلكَ،
فَقُلْتُ: أَمَّا هَذَا القَوْلُ فَهُوَ المَأْثُورُ الثَّابِتُ عَن
السَّلَفِ مِثْلَ مَا نقلَهَ عُمَرُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ
النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللَّهُ الخَالقُ وَمَا
سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إِلا القُـرْآنَ فَإِنَّهُ كَلامُ اللَّهِ غَـيْرُ
مَخْلُـوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُـودُ وَقَدْ جَمَـعَ غَـيْرُ
وَاحِـدٍ مَا فِي ذَلكَ مِن الآثَارِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ كَالحَافِظِ أَبِي
الفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ، وَالحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المَقْدِسِيِّ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ
فَإِنَّ قَوْلَهُمْ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ
الذي أَنْزَلَهُ مِن لدُنْه ليْسَ كَمَا تَقُولُهُ الجَهْميَّةُ: إِنَّهُ
خَلَقَهُ فِي الهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَبَدَأَ مِن عِنْدِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِلَيْهِ يَعُودُ فَإِنَّهُ يُسْرَى بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ
مِن المَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَلا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلمَةٌ
وَلا فِي المَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ، وَوَافَقَ عَلَى ذَلكَ بَعْضُ
الحَاضِرِينَ وَسَكَتَ المُنَازِعُونَ، وَخَاطَبْتُ بَعْضَهُمْ فِي غَيْرِ
هَذَا المَجْلسِ بِأَنْ أَرَيْتُهُ العَقِيدَةَ الَّتِي جَمَعَهَا
الإِمَامُ القَادِرِيُّ وَفِيهَا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ
فَتَوَقَّفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَقُلْتُ: هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تَقَرَّبَ العِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ "
- يَعْنِي القُرْآنَ. وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ يَا هَذَا
تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَى
اللَّهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لمَّا قَرَأَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ: إِنَّ
هَذَا الكَلامَ لمْ يَخْرُجْ مِن (( إِل )) يَعْنِي مِن رَبٍّ.
وتَمَعَّضَ
بَعْضُهُمْ مِن إِثْبَاتِ كَـوْنِ كَلامِ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ
تَسْليمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، ثُمَّ
أَنَّهُ سَلَّمَ ذَلكَ لمَّا بُيِّنَ لهُ أَنَّ المَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ
وَهَذَا لا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَمَّا بُيِّنَ لهُ مِن أَنَّ أَقْوَالَ
المُتَقَدِّمِينَ المَأْثُورَةَ عَنْهُمْ، وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ المُضَافَ
إِلَيْهِمْ هُوَ كَلامُهُمْ حَقِيقَةً فَلا يَكُونُ شَبَهُ القُرْآنِ
بأقلَّ مِن ذَلكَ فَوَافَقَ الجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي
مَسْأَلَةِ القُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأَنَّ
القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ حَقِيقَةً.
وَقَالَ فِي
المُنَاظَرَةِ أيضاً فِي مَسْأَلَةِ الحَرْفِ وَالصَّوْتِ: هَذَا الذي
يَحْكِيه كَثِيرٌ مِن النَّاسِ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ
صَوْتَ القَارِئِينَ وَمِدَادَ المَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَليٌّ كَمَا
نَقَلَهُ مَجْدُ الدِّينِ ابْنُ الخَطِيبِ وَغَيْرُهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى،
لمْ يُقَلْ ذَلكَ أَحْمَدُ وَلا أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ المُسْلمِينَ لا مِن
أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَلا غَيْرِهِمْ، وَأَخْرَجْتُ كُرَّاساً قَدْ
أَحْضَرْتُهُ مَعَ العَقِيدَةِ فِيهِ أَلْفَاظُ أَحْمَدَ مِمَّا ذَكَرَهُ
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَن الإِمَامِ
أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المَرُّوذِيُّ مِن كَلامِ
الإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَلامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ
فِي أَنَّ مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ،
وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قُلْتُ وَهَذَا الذي
نَقَلَهُ الأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ المَقَالاتِ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ
وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ وَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ بِه،ِ قُلْتُ فَكَيْفَ
بِمَنْ يَقُولُ: لفْظِي قَدِيمٌ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: صَوْتِي
قَدِيمٌ، وَنُصُوصُ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الفَرْقِ بَيْنَ تَكَلُّمِ
اللَّهِ فِي صَوْتٍ وَبَيْنَ صَوْتِ العَبْدِ كَمَا نَقَلَهُ البُخَارِيُّ
صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ وَغَيْرُهُ مِن
أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَأَحْضَرْتُ جَوَابَ مَسْأَلَةٍ كُنْتُ سُئِلْتُ
عَنْهَا قديماً فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلاقِ فِي مَسْأَلَةِ الحَرْفِ
وَالصَّوْتِ وَمَسْأَلَةِ الظَّاهِرِ فِي العَرْشِ فَذَكَرْتُ مِن
الجَوَابِ القَدِيمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلَ القَوْلِ فِيهَا،
وَأَنَّ إِطْلاقَ القَوْلِ ذأَنَّ القُرْآنَ هُوَ الحَرْفُ وَالصَّوْتُ
أَوْ ليْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كِلاهُمَا بِدْعَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ
المِائَةِ الثَّالثَةِ. وَقُلْتُ هَذَا جَوَابِي وَكَانَتْ هَذِهِ
المَسْأَلَةُ قَدِ أَرْسَلَ بِهَا طَائِفَةٌ مِن المُعَانِدِينَ
المُتَجَهِّمَةِ مِمَّنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حاضراً فِي المَجْلسِ فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِمُ الجَوَابُ أَسْكَتَهُمْ وَكَانُوا قَدْ ظَنُّوا أَنَّهُ
إِنْ أَجَبْتُ بِمَا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تَقُولُهُ
حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِن الشَّنَاعَةِ، وَإِنْ أَجَبْتُ بِمَا
يَقُولُونَهُ هُمْ حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِن المُوَافَقَةِ، فَلَمَّا
أُجِيبُوا بِالفُرْقَانِ الذي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ
كَمَا يَقُولُونَهُ هُمْ وَلا مَا يَنْقُلُونَهُ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ،
أَوْ قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الجُهَّالِ بُهِتُوا لذَلكَ وَفِيهِ أَنَّ
القُرْآنَ كُلَّهُ كَلامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، ليْسَ القُرْآنُ
اسماً لمُجَرَّدِ الحُرُوفِ، وَلا لمُجَرَّدِ المَعَانِي ا.هـ. وَلا
يَجُوزُ إِطْلاقُ القَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ كَمَا
تَقُولُهُ الكُلاَّبِيَّةُ , أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ كَمَا تَقُولُهُ
الأَشَاعِرَةُ.
فَمَذْهَبُ
الكُلاَّبِيَّةُ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلابٍ أَنَّ
القُرْآنَ مَعْنىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لا يَتَعَلَّقُ بِالقُدْرَةِ
وَالمَشِيئَةِ وَأَنَّهُ لازِمٌ لذَاتِ الرَّبِّ كلزُومِ الحَيَاةِ
وَالعِلْمِ وَأَنَّهُ لا يُسْمَعُ عَلَى الحَقِيقَةِ , وَالحُرُوفُ
وَالأَصْوَاتُ حِكَايَةٌ لهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهُوَ
أَرْبَعُ مَعَانٍ فِي نَفْسِهِ: الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالخَبَرُ
وَالاسْتِفْهَامُ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ لذَلكَ المَعْنَى القَدِيمِ الذي لا
يُسْمَعُ، وَذَلكَ المَعْنَى هُوَ المَتْلُوُّ المَقْرُوءُ وَهُوَ
مَخْلُوقٌ، وَالأَصْوَاتُ وَالحُرُوفُ هِيَ تِلاوَةُ العِبَادِ وَهِيَ
مَخْلُوقَةٌ، وَهَذَا المَذْهَبُ أَوَّلُ مَن يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ
ابْنُ كُلابٍ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الكَلامَ لا بُدَّ أَنْ يَقُومَ
بِالمُتَكَلِّمِ , وَالحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ فَلا يُمْكِنُ أَنْ
تَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لأَنَّهُ ليْسَ مَحَلاًّ للْحَوَادِثِ
فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَن الرَّبِّ، وَالقُرْآنُ اسْمٌ لذَلكَ
المَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَذْهَبُ الأَشْعَرِيِّ وَمَنْ
وَافَقَهُ أَنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَهُوَ صِفَةٌ
قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ ليْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا يَنْقَسِمُ وَلا
لهُ أبْعَاضٌ وَلا لهُ أَجْزَاءٌ وهو عينُ الأَمْرِ وَعَيْنُ النَّهْيِ
وَعَيْنُ الخَبَرِ وَعَيْنُ الاسْتِخْبَارِ الكُلُّ مَعْنىً وَاحِدٌ ,
وَهُوَ عَيْنُ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَالزَّبُورِ،
وَكَوْنُهُ أمْراً ونهْياً وخبَراً واستِخباراً صِفَاتٌ لذَلكَ المَعْنَى
الوَاحِدِ لا أَنْوَاعٌ لهُ فَإِنَّهُ لا يَنْقَسِمُ بِنَوْعٍ وَلا
جَزَاءٍ، وَكَوْنُهُ قرآناً وَتَوْرَاةً وإنجيلاً تقسيمٌ للْعِبَارَاتِ
عَنْهُ لا لذَاتِهِ بَلْ إِذَا عُبِّرَ عَن ذَلكَ المَعْنَى
بِالعَرَبِيَّةِ كَانَ قرآناً، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ
كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالسِّرْيَانِيَّةِ كَانَ اسْمُهُ
إنجيلاً وَالمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَهَذِهِ الأَلْفَاظُ
عِبَارَةٌ عَنْهُ وَلا يُسَمِّيهَا حِكَايَةً وَهِيَ خَلْقٌ مِن
المَخْلُوقَاتِ وَعَنْهُ لمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهَذَا الكَلامِ
العَرَبِيِّ وَلا سُمِعَ مِن اللَّهِ، وَعِنْدَهُ ذَلكَ المَعْنَى سُمِعَ
مِن اللَّهِ حَقِيقَةً.
وَهَذَا المَذْهَبُ
مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ إِنْكَارِ قِيَامِ الأَفْعَالِ
الاخْتِيَارِيَّةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَيُسَمُّونَهَا حُلُولَ
الحَوَادِثِ، وَحَقِيقَتُهَا إِنْكَارُ أَفْعَالهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ
وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. قَوْلُهُ (( وَلَيْسَ كَلامُ اللَّهِ الحُرُوفَ دُونَ المَعَانِي
)) أَيْ كَمَا يَقُولُ ذَلكَ المُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ
الكَلامِ الذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُسَمَّى القَوْلِ وَالكَلامِ عِنْدَ
الإِطْلاقِ اسْمٌ للَّفْظِ فَقَطْ وَالمَعْنَى ليْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ،
بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِن
المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.(( وَلا المَعَانِي دُونَ الحُرُوفِ
)) كَمَا هُوَ قَوْلُ مَن يَقُولُ: بِأَنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَدِيمٌ
قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ هُوَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالخَبَرُ
وَالاسْتِخْبَارُ إِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعَرَبِيَّةِ كَانَ قرآناً،
وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً،وَهَذَا قَوْلُ
ابْن كُلابٍ وَمَن وَافَقَهُ كَالأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَأَشَارَ
المُؤَلِّفُ فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَن يَقُولُ
إِنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ أَزَليَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي الأَزَلِ.
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الكَلامِ وَأَهْلِ الحَدِيث. ذَكَرَهُ
الأَشْعَرِيُّ فِي المَقَالاتِ عَن طَائِفَةٍ. وَهُوَ الذي يُذْكَرُ عَن
السَّالمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَكَذَلكَ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى
الكُلاَّبِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ.
فَإِنَّ أَوَّلَ مَن
عُـرِفَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَدِيمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
كُلاَّبٍ ثُمَّ افْتَرَقَ الذين شَارَكُوهُ فِي هَذَا القَوْلِ فَمِنْهُمْ
مَن قَالَ: الكَلامُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَمَعْنَى
القُرْآنِ كُلِّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ
وَكَلامِهِ هُوَ ذَلكَ المَعْنَى الوَاحِدُ الذي لا يَتَعَدَّدُ وَلا
يتبَعَّضُ، وَالقُرْآنُ العَرَبِيُّ لمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهِ بَلْ
هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ العُقَلاءِ:
هَذَا القَوْلُ مَعْلُومُ الفَسَادِ بالاضْطِرارِ فَإِنَّهُ مِن
المَعْلُومِ بِصَرِيحِ العَقْلِ أَنَّ مَعْنَى آيَةَ الكُرْسِيِّ ليْسَ
مَعْنَى آيَةَ الدَّيْنِ وَلا مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ }
فَكَيْفَ بِمَعَانِي كَلامِ اللَّهِ كُلِّهِ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ
وَخِطَابِهِ لمَلائِكَتِهِ وَحِسَابِهِ لعِبَادِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ؟
وَغَيْرِ ذَلكَ مِن كَلامِهِ . وَمِنْهُمْ مَن قَالَ: هُوَ حُرُوفٌ أَوْ
حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ لازِمَةٌ لذَاتِهِ لمْ يَزَلْ
وَلا يَزَالُ مَوْصُوفاً بِهَا.
وَكِلاَ الحِزْبَيْنِ
يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ
وَأَنَّهُ لمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ يَقُولُ: يَا نُوحُ يَا إِبْرَاهِيمُ
يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، وَلَمْ يَقُلْ
أَحَدٌ مِن السَّلَفِ بِهَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن
السَّلَفِ: إِنَّ هَذَا القُرْآنَ عِبَارَةٌ عَن كَلامِ اللَّهِ وَلا
حِكَايَةٌ لهُ، وَلا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لفْظِي بِالقُـرْآنِ
قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَضْلاً عَن أَنْ يَقُولَ:إِنَّ صَوْتِي
بِهِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرٌ مَخْلُوقٍ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ
عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِن أَنَّ هَذَا القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ
وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ
وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلامُ اللَّهِ وَكَلامُ اللَّهِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ.
وَقَوْلُهُ:(وَإِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً) فِي قَوْلهِ:(حَقِيقَةً)
رَدٌّ عَلَى مَن قَالَ: إِنَّهُ مَعْنىً وَاحِدٌ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ
لمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ الكَلامُ النَّفْسَانِيُّ؛ لأَنَّهُ
لا يُقَالُ لمَنْ قَامَ بِهِ الكَلامُ النَّفْسَانِيُّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ
بِهِ: إنَّ هَذَا كَلامُ الحَقِيقَةِ , وَإِلا لزِمَ أَنْ يَكُونَ
الأَخْرَسُ مُتَكلِّماً، وَلَزِمَ أَنْ لا يَكُونَ الذي فِي الصُّحُفِ
عِنْدَ الإِطْلاَقِ هُوَ القُرْآنَ وَلا كَلامَ اللَّهِ , وَلَكِنْ
عِبَارَةٌ عَنْهُ ليْسَتْ هِيَ كَلامُ اللَّهِ كَمَا لوْ أَشَارَ أَخْرَسٌ
إِلَى شَخْصٍ بِإِشَارَةٍ فَهِمَ بِهَا مَقْصُودَهَ فَكَتَبَ ذَلكَ
الشَّخْصُ عِبَارَتَهُ عَن المَعْنَى الذي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ ذَلكَ
الأَخْرَسُ فَالمَكْتُوبُ هِيَ عِبَارَةُ ذَلكَ الشَّخْصِ عَن ذَلكَ
المَعْنَى. وَهَذَا المَثَلُ مُطَابِقٌ غَايَةَ المُطَابَقَةِ لمَا
يَقُولُونَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لا يُسَمِّيه أَحَدٌ أَخْرَسَ
لكِنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ المَلَكَ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى قائماً بِنَفْسِهِ
لمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفاً وَلا صَوْتاً بَلْ فَهِمَ مَعْنًى مُجَرَّداً
ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ فَهُوَ الذي أَحْدَثَ نَظْمَ القُرْآنِ وَتَأْليفَهُ
العَرَبِيَّ وَأنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي بَعْضِ الأَجْسَامِ كَالهَوَاءِ
الذي هُوَ دُونَ المَلَكِ هَذِهِ العِبَارَةَ، وَيُقَالُ لمَنْ قَالَ:
إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ: هَلْ سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ جَمِيعَ
المَعْنَى أَوْ بَعْضَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ: سَمِعَهُ كُلَّهُ فَقَدْ زَعَمَ
أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيعَ كَلامِ اللَّهِ، وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ
قَالَ: بَعْضَهُ فَقَدْ قَالَ بِتبَعُّضٍ. وَكَذَلكَ كُلُّ مَن كَلَّمَهُ
اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ إِلَيْهِ شَيْئاً مِن كَلامِهِ. وَأَمَّا مَن قَالَ:
إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الأَخْطَلِ:
إِنَّ الكَلامَ لفِي الفُؤَادِ وَإِنَّمَا=جُعِلَ اللسَانُ عَلَى الفُؤَادِ دَليلاً
فَاسْتِدْلالٌ
فَاسِدٌ. وَلَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ
لقَالُوا هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ العُلَمَاءُ
عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالقَبُولِ وَالعَمَلِ بِهِ فَكَيْفَ
وَهَذَا البَيْتُ قَدْ قِيلَ:إِنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الأَخْطَلِ
وَلَيْسَ هُوَ فِي دِيوَانِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: إِنَّ البَيَانَ
لفِي الفُؤَادِ , وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ
صِحَّتِهِ عَنْهُ فَلا يَجُوزُ الاسْتِدْلالُ بِهِ فَإِنَّ النَّصَارَى
قَدْ ضَلُّوا فِي مَعْنَى الكَلامِ وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلامُ نَفْسُ كَلمَةِ اللَّهِ وَاتَّحَدَ اللاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ
أَيْ: شَيْءٌ مِن الإِلَهِ بِشَيْءٍ مِن النَّاسِ. أَفَيُسْتَدَلُّ
بِقَوْلِ نَصْرَانِيٍّ قَدْ ضَلَّ فِي مَعْنَى الكَلامِ عَلَى مَعْنَى
الكَلامِ وَيُتْرَكُ مَا يُعْلَمُ مِن مَعْنَى الكَلامِ فِي لُغَةِ
العَرَبِ. وَأيضاً فَمَعْنَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لازَمَهُ أَنَّ
الأَخْرَسَ يُسَمَّى مُتَكلِّماً لقِيَامِ كَلامِهِ بِقَلْبِهِ وَإِنْ لمْ
يَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. وَيَرُدُّ قَوْلَ مَن قَالَ: إِنَّ
الكَلامَ هُوَ المَعْنَى القَائِمُ بِالنَّفْسِ، قَـوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِن كَلامِ النَّاسِ".وَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِن أَمْـرِهِ مَا يَشَـاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكلَّمَوا فِي الصَّلاةِ". * فصلٌ فى الرؤيةِ *
وَاتَّفَقَ
العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المُصَلِّيَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلاةِ
عَامِداً لغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا بَطَلَتْ صَلاتُهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّ مَا يَقُومُ بِالقَلْبِ مِن تَصْدِيقٍ بِأُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ
وَطَلَبٍ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَكلُّمُ
بِذَلكَ، فَعُلِمَ اتِّفَاقُ المُسْلمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا ليْسَ
بِكَلامٍ، وأَيْضاً فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مَا لمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ ،
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَى عَن حَدِيثِ النَّفْسِ إِلا أَنْ
تَتَكَلَّمَ، فَفَرْقٌ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الكَلامِ
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ وَالمُرَادُ
حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللسَانُ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّ
هَذَا هُوَ الكَلامُ فِي اللُّغَةِ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا خَاطَبَنَا
بِلُغَةِ العَرَبِ. وأيضاً فِي السُّنَنِ أَنَّ مُعاذاً رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ" وَإِنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِمَا
نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ." فَبَيَّنَ
أَنَّ الكَلامَ إِنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ، فَلَفْظُ القَوْلِ وَالكَلامِ
وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِن فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَاسْمِ
فَاعِلٍ إِنَّمَا يُعْرَفُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلامِ
العَرَبِ إِذَا كَانَ لفظاً وَمَعْنًى. وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى
الكَلامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ
وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّزَاعُ بَيْنَ المُتَأَخِّرِينَ مِن عُلَمَاءِ
أَهْلِ البِدَعِ ثُمَّ انْتَشَرَ. وَلا رَيْبَ أَنَّ مُسَمَّى الكلامِ
والقولِ ونَحوِهما ليسَ هو مِمَا يُحتاجُ فيه إلَى قولِ شاعرٍ فإنَّ هذا
مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ
وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَاليَدِ
وَالرِّجْلِ وَنَحْوَ ذَلكَ
تَحَمَّلَ أَصْحَابِي عِشَاءً وَغَادَرُوا=أَخَا ثِقَةٍ فِي عَرْصَةِ الدَّارِ ثَاوِياً
وَعَرَصَاتُ القِيَامَةِ مَوَاقِفُ الحِسَابِ وَالعَرْضِ.وَقُلْ يَتَجَلَّى اللَّهُ للْخَلْقِ جَهْرَةً=كَمَا البَدْرُ لا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا=بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عَن مَقَالِ مُحَمَّـدٍ فَقُلْ=مِثْلَ مَا قد قَالَ فِي ذَاكَ تَنْجَحُ
وَفِي السُّنَنِ مِن حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا أَهَّلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَد أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ قَالَ: وَذَلكَ قَوْله تَعَالَى:{ سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ ".وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِلْنَ مُؤَبَّداً=فَقَوْلُهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى:( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) كَيْفَ نُفِيَ فِعْلُ الإِدْرَاكِ بِلا الدَّالَّةِ عَلَى طُولِ النَّفْيِ وَدَوَامِهِ فَإِنَّهُ لا يُدْرَكُ أبداً وَإِنْ رَآهُ المُؤْمِنُونَ فَأَبْصَارُهُمْ لا تُدْرِكُهُ تَعَالَى فضلاً عَن أَنْ يُحِيطَ بِهِ مَخْلُوقٌ، وَكَيْفَ نَفَى الرُّؤْيَةَ بِلَنْ فَقَالَ:( لَنْ تَرَانِي ) لأَنَّ النَّفْيَ بِهَا لا يَتَأَبَّدُ وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِتَأْبِيدِ النَّفْيِ بِلَنْ صريحاً بِقَوْلهِ:( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فَهَذَا تَمَنٍّ للْمَوْتِ فَلَوْ اقْتَضَتْ لنْ دَوَامَ النَّفْيِ تَنَاقَضَ الكَلامُ، كَيْفَ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالتَّأْبِيدِ بِقَوْلهِ:{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } وَلَكِنْ ذَلكَ لا يُنَافِي تَمَنِّيهِ فِي النَّارِ لأَنَّ التَّأْبِيدَ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأْبِيدُ المُقَيَّدُ وَالتَّأْبِيدُ المُطْلَقُ، فَالمُقَيَّدُ كَالتَّأْبِيدِ بِمُدَّةِ الحَيَاةِ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُهُ أبداً، وَالمُطْلَقُ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لا أَكْفُرُ بِرَبِّي أبداً، وَإِذَا كَانَ كَذَلكَ فَالآيَةُ إِنَّمَا اقْتَضَتْ نَفْيَ تَمَنِّي المَوْتِ أَبَدَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ للآْخِرَةِ أصلاً، قَالَ أَبُو القَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: عَلَى أَنِّي أَقُولُ: إِنَّ العَرَبَ إِنَّمَا تَنْفِي بِلَنْ مَا كَانَ مُمْكِناً عِنْدَ المُخَاطَبِ مَظْنُوناً أَنَّهُ سَيَكُونُ فَتَقُولُ لهُ: إِنَّ "لَنْ" تَكُونُ لِمَا ظُنَّ أَنَّهُ يَكُونُ ؛ لأَنَّ "لَنْ" فِيهَا مَعْنَى "أَنَّ"، وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ عِنْدَهُمْ عَلَى الشَّكِّ لا عَلَى الظَّنِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيَكُونُ أَمْ لا ؟ قُلْتُ فِي النَّفْيِ لنْ يَكُونَ. وَهَذَا كُلُّه مُقَوٍّ لتَرْكِيبِهَا مِن لا، وَإِنْ تَبَيَّنَ لك وَجْهُ اخْتِصَاصِهَا فِي القُرْآنِ بِالمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا دُونَ لا.التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ.(1)
منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ.(2)
وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً.(3)
وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ،(4)
بلْ
إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ
أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ
حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً
مُؤدِّياً.(5)
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ (6).
ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ ).(7)
فصل: (
وقَدْ دَخَلَ أَيضاً فيما ذَكَرْناهُ مِن الإِيمانِ بهِ وبِكُتُبِهِ
وبملائِكَتِهِ وبِرُسُلِهِ: الإِيمانُ بأَنَّ المؤمِنينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ
القِيامَةِ عياناً بأَبصارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صحواً ليسَ [
بها ] سحابٌ، وكَما يَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ لا يضامونَ في
رُؤيَتِهِ.(8)
يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وهُمْ في عَرَصَاتِ القِيامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ؛ (9)
كَمَا يَشاءُ اللهُ تَعالى).(10) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) فَصلٌ
قولُه: (ومِنَ الإيمانِ باللَّهِ وكُتُبهِ الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ) فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لم يؤمِنْ باللَّهِ وكُتُبه. قال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ: (مَن كَفَرَ بحرفٍ مِن القرآنِ فقد كفَرَ بالقرآنِ، ومَن قال لا أؤمِنُ بهَذَا الكلامِ فقد كَفَرَ).
قولُه: (كلامُ اللَّهِ) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ). وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ)
الآيةَ. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعرْضُ نَفْسَه في الموْسِمِ فيقولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه
أبو داودَ. فاتَّضحَ بهَذَا أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لا كلامُ غيرِه،
فمَن زعم أنَّه كلامُ غيرِه فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
وقال
غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: مَن أنْكَرَ أنْ يكونَ اللَّهُ متكلِّماً أو
يكونَ القرآنُ كَلامَه فقد أَنكَرَ رسالةَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ-، بل ورسالةَ جميعِ الرُّسلِ التي حقيقَتُها: تبليغُ كلامِ اللَّهِ
-عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا لم يكُنْ ثَمَّ كلامٌ فماذا يُبلِّغُ الرَّسولُ، بل
كَيْفَ يُعقلُ كونُه رسولا؟ ولهَذَا قال مُنكِروا رسالَتِه عن القرآنِ:
(إنْ هَذَا إلاَّ قولُ البَشَرِ) فمَن قال: إنَّ اللَّهَ لم يتكلَّمْ به –
أي: القرآنِ – فقد ضاهَى قولُه قولَهم – تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون
عُلُواًّ كبيرًا.
قولُه: (مُنَزَّلٌ)
هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ ممَّن يقولُ: إنَّه لم
يُنَزَّلْ مِنه، فبيَّنَ في غيرِ موضعٍ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ، فمَن
قال إنَّه مُنَزَّلٌ مِن بعضِ المخلوقاتِ كاللَّوْحِ والهواءِ فهُوَ مُفترٍ
على اللَّهِ مكذِّبٌ لكتابِه، قال تعالى: (تَنـزِيلٌ مَّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ) وروحُ القُدُسِ جبريلُ، وهُوَ الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قولِه: (نَزَلَ بِهِ الرُوحُ الأَمِينُ)
فجبريلُ -عليه السَّلامُ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ
النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، وإنَّما
قاله بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ صريحةٌ في الردِّ عليهم، وصريحةٌ في أنَّه
المتكلِّمُ به، وأنَّه مِنه نزَلَ، ومنه بَدَأ, وهُوَ الذي تكلَّمَ به،
ومنِ هنا قال السَّلَفُ مِن اللَّهِ بدأَ، فأخبرَ في الآياتِ المتقدِّمةِ
أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ ولم يُخبِرْ عن شيءٍ أنَّه منَزَّلٌ مِن
اللَّهِ إلا كلامَه، بخلافِ نُزولِ الملائكةِ والمطرِ والحديدِ وغيرِ
ذَلِكَ، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ أقسامِ الإنزالِ في الكلامِ على الآياتِ.
قولُه: (غير مخلوقٍ).
هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ وغيرِهم ممَّن يقولُ: كلامُ
اللَّهِ مخلوقٌ، فالجهميَّة يقولون: إنَّ اللَّهَ لا يتكلَّمُ، بل خَلقَ
كلاماً في غيرِه وجَعلَ غيرَه يُعبِّرُ عنه، وما جاء مِن الأدلَّة أنَّ
اللَّهَ تكلَّم أو يُكلِّمُ أو نادى أو نحوَ ذَلِكَ، قالوا هَذَا مجازٌ،
وأمَّا المعتزِلةُ فيقولون: إنَّ اللَّهَ متكَلِّمٌ حقيقةً لكنْ معنى
ذَلِكَ أنَّه خَلقَ الكلامَ في غيرِه، فمذَهبُهم ومَذهبُ الجهميَّةِ في
المعنى سواءٌ، وحقيقةُ قولِ الطَّائفتَيْنِ أنَّه غيرُ متكلِّمٍ، وهَذَا
باطلٌ مخالفٌ لقولِ السَّلَفِ والأئمَّةِ ومخالفٌ للأدلَّةِ العقليَّةِ
والسَّمعِيَّة، فإنَّه لا يُعْقَلُ متكلِّمٌ إلاَّ مَن قامَ به الكلامُ،
ولا مُريدٌ إلاَّ مَن قامتْ به الإرادةُ، ولا محِبٌّ ولا راضٍ إلاَّ مَن
قام به ذَلِكَ، ولأنَّ كلامَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِن صفاتِه
-سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما في الصَّحيحِ عن خَوْلةَ بنتِ حكيمٍ أنَّ
النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ
نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِن
شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ
ذَلِكَ)) فاستدلَّ العلماءُ بِذَلِكَ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ
مخلوقٍ. قالوا لأنَّ الاستعاذةَ بالمخلوقِ شِركٌ، وقال اللَّهُ
-سُبْحَانَهُ وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي
الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) الآيةَ، فهَذَا
دليلٌ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ كُلَّ مخلوقٍ يَنْفَدُ
ويَبِيدُ، وكلماتُه لا تَنفَدُ ولا تَبيدُ، وهَذَا الوصفُ لا يكونُ
لمخلوقٍ، فالقُرآنُ كلامُ اللَّهِ ووحْيُه وتنَزْيلُه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ،
فمَن زَعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ، كما رُوِيَ
ذَلِكَ عن السَّلَفِ.
وذَكَرَ
الشَّيخُ أبو الحسَنِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ المَلِكِ الكرخيُّ في كتابِه
(الأُصولُ) قال: سمعتُ الإمامَ أبا منصورٍ مُحَمَّدَ بنَ أحمدَ، يقولُ:
سمعتُ أبا حامدٍ الإسْفرَايينيَّ، يقولُ: ومذهبي ومذهبُ الشَّافعيِّ
وفقهاءِ الأمصارِ: أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال:
مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ، والقرآنُ حَمَلَهُ جبريلُ مسموعًا مِن اللَّهِ -عَزَّ
وَجَلَّ- والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ،
والصَّحابةُ سَمِعوه مِن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
وهُوَ الذي نَتلُوه بألْسِنَتِنا، وفيما بين الدَّفتَيْنِ، وما في صُدورِنا
مسموعًا ومَكتوبًا ومحفوظًا، وكُلُّ حرفٍ منه كالباءِ والتَّاءِ كُلُّه
كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ عليه لعائِنُ
اللَّهِ والنَّاسِ أجمعينَ.
وقال
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولم يَقُلْ أحدٌ مِن
السَّلَفِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ أو قديمٌ، بل الآثارُ متواتِرةٌ عنهم
بأنَّهم يقولون: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قال: إنَّه
مخلوقٌ، قالوا رداًّ لكلامِه: إنَّه غيرُ مخلوقٍ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه
قال: القرآنُ مخلوقٌ الجعدُ بنُ دِرْهمٍ، وصاحِبُه الجهمُ بنُ صفوانَ،
وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: إنَّه قديمٌ هُوَ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ
بنِ كِلابٍ. انتهى.
وأمَّا
أفعالُ العِبادِ كأصواتِهم ومِدادِهم الذي يَكتُبون به القرآنَ، والوَرَقِ
الذي يَكتُبون عليه، فإنَّ ذَلِكَ مِن جُملةِ المخلوقِ، ولذَلِكَ يقولونَ:
الكلامُ كلامُ البارِئِ والصَّوتُ صوتُ القَارِئِ، وفي الحديثِ: ((زَيِّنُوا الْقُرَآنَ بَأَصْوَاتِكُمْ)). قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
وَكَذَلِكَ القرآنُ عينُ كلامِه الْـ مسموعِ مِنه حقيقةً بَبَيانِ
هُوَ قولُ ربِّي كُلُّه لا بَعْضُه لفظاً ومعنًى ما هُما خَلْقانِ
تَنْزيلُ رَبِّ العالَمِينَ وقولُه اللَّفظُ والمعنى بِلا رَوَغانِ
لكنَّ أصواتَ العِبادِ وفِعلَهم كمِدادِهِم والرَّقِّ مخلوقانِ
فالصَّوتُ للقَاري ولكنَّ الكَلا م كلامُ ربِّ العرشِ ذي الإحسانِ
(2) قولُه: (منه بَدَا)
أي: ظَهَر وخَرجَ منه -سُبْحَانَهُ- أي: هُوَ المتكلِّمُ به، وهُوَ الذي
أنْزَلَه مِن لَدُنْه، فمَن قال: إنَّه مخلوقٌ يقولُ: إنَّه خُلِقَ في بعضِ
المخلوقاتِ القائمةِ بنَفْسِها، فمْن ذَلِكَ المخلوقِ نَزَلَ وبَدَأَ، ولم
يَنْزِلْ مِن اللَّهِ، فإخبارُ اللَّهِ أنَّه مَنَزَّلٌ مِن اللَّهِ
يُناقِضُ أنْ يكونَ قد نَزَلَ مِن غيرِه، قال تعالى: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي) وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ).
وروى أحمدُ وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ))
وقال خبَّابُ بنُ الأرتِّ: يا هِنتاه، تَقرَّبْ إلى اللَّهِ بما استطعْتَ
فلن تَتَقرَّبَ إلى اللَّهِ بشيءٍ أحَبَّ إليه مما خَرجَ منه وقال أبو بكرٍ
الصِّدِّيقُ لأصحابِ مسيلمةَ الكذَّابِ لمَّا سَمِعَ قرآنَ مسيلِمةَ:
ويحكم أَيْنَ يذهبُ بعُقولِكم إنَّ هَذَا كلامٌ لم يَخُرجْ مِن إلْ، أيْ:
مِن ربٍّ. وقال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كلامُ اللَّهِ مِن اللَّهِ ليس
بِبايِنٍ منه، وهَذَا معنى قولِ السَّلَفِ: ((القرآنُ كلامُ اللَّهِ منه
بَدا وإليه يعودُ)). ومقصودُ السَّلَفِ الرَّدُّ على الجهميَّةِ، فإنَّهم
زَعَموا أنَّ القرآنَ خَلقَهُ اللَّهُ في غيرِه، فيكونُ قد بدا وخَرجَ مِن
ذَلِكَ المَحلِّ الذي خُلِقَ فيه لا مِن اللَّهِ، كما يقولونَ كَلامُه
لمُوسى خَرَجَ مِن الشَّجرةِ، فبيَّنَ السَّلَفُ والأئمَّةُ أنَّ القرآنَ
مِن اللَّهِ بدا وخَرجَ، وذكروا قولَه سُبْحَانَهُ: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي)
فأخبَرَ أنَّ القولَ منه لا مِن غيرِه مِن المخلوقاتِ، و (مِن) لابتداءِ
الغايةِ، فإنْ كان المجرورُ بها عَيْناً يقومُ بنَفْسِه لم يكنْ صفةَ
اللَّهِ، كقولِه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّنْهُ). وأمَّا إذا كان المجرورُ بها صفةً ولم يُذكَرْ لها مَحلٌّ كان صفةً لِلَّهِ، كقولِه: (وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي).
قولُه: (وإليه يعودُ)
أي: يَرجِعُ، بأنْ يُسْرَى به في آخرِ الزَّمانِ، ويُرفَعُ فلا يَبْقى في
الصُّدورِ مِنه ولا في المصاحِفِ منه آيةٌ، كما جاء ذَلِكَ في عِدَّةِ
آثارٍ، وهُوَ أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكِبارِ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ
وغيرِه أنَّه قال: "يُسْرَى على القرآنِ فلا يبقى في المصاحفِ منه آيةٌ ولا في الصُّدورِ آيةٌ". أخْرَجه الطَّبرانيُّ وأخْرَجه ابنُ ماجهْ عن حُذيفةَ وأخْرَجه الدَّيلميُّ عن مُعاذٍ.
(3) قولُه: (وإنَّ اللَّهَ تكلَّمَ به حقيقةً) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ)
والآياتُ والأحاديثُ - في إثباتِ كلامِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه تكلَّمَ
بالقرآنِ - كثيرةٌ جِداًّ، وكُلُّها دالَّةٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ-
تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، بل حقيقةُ الإرسالِ تَبليغُ كلامِ المُرسَلِ،
وإذا انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ، انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الرِّسالةِ
والنُّبوَّةِ، والرَّبُّ يَخلُقُ بقولِه وكلامِه، فإذا انتفَتْ عنه حقيقةُ
الكلامِ انتفى عنه الخلقُ، وقد عابَ اللَّهُ آلهةَ المشركِين بأنَّها لا
تتكلَّمُ ولا تُكلِّمُ عابدِيها، والجهميَّةُ وَصَفوا الرَّبَ بصفةِ هَذِهِ
الآلهةِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ على أنَّ اللَّهَ نادَى وناجَى وأمَرَ
ونَهى، وكُلُّ هَذَا دالٌّ أنَّه تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، فاتَّضح بما
ذكرناه أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ حقيقةً، وأمَّا مَن ادَّعى المجازَ بعدَ
هَذَا البيانِ فقد شاقَّ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فالقرآنُ كلامُ
اللَّهِ حُروفُه ومعانيه، هَذَا قولُ السَّلَفِ.
وفي قولِه: (حقيقةً)
رَدٌّ على مَن زعم أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنى واحدٌ قام بذاتِ الباري
لم يُسمَعْ منه، وإنَّما هُوَ الكلامُ النَّفْسانِيُّ ولم يتكلَّمْ بِهِ
حقيقةً؛ لأنْ لا يُقالَ لمَن قامَ بِهِ الكلامُ النَّفْسانيُّ ولم
يَتكلَّمْ بِهِ إنَّ هَذَا كلامٌ حقيقةً، وإلاَّ يلْزَمُ أنْ يكونَ الأخرسُ
متكلِّما، ولَزِمَ أنْ لا يكونَ الذي في المصحَفِ عندَ الإطلاقِ هُوَ
القرآنُ، ولا كلامُ اللَّهِ، ولكنَّه عبارةٌ عنه، ليست كلامَ اللَّهِ، كما
لو أشار إلى شخصٍ بإشارةٍ مفهومةٍ فكَتَب ذَلِكَ الشَّخصُ عبارةً عن المعنى
الذي أَوحاهُ إليه ذَلِكَ الأخرسُ، فالمكتوبُ هُوَ عبارةُ ذَلِكَ الشَّخصِ
عن ذَلِكَ المعنى، فعندهم أنَّ المَلَكَ فَهِمَ منه معنى قائِماً
بنَفْسِه، لم يَسمَعْ منه حرفاً ولا صوتاً، بل فَهِمَ معنًى مجرَّدا ثم
عبَّرَ عنه، فهُوَ الذي أحْدَثَ نَظْمَ القرآنِ وتأليفَه، وقد تَقدَّمَ
الكلامُ في الرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّ كلامَ اللَّهِ المعنى النَّفْسيُّ،
وأنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ ردَّ ذَلِكَ مِن تِسعين وجهًا، كُلُّ واحدٍ
يَدلُّ على بطلانِه بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وعقليَّةٍ، وقال ابنُ القيِّمِ
في (النُّونيَّةِ)
تِسعونَ وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطلانَه أَعْنِي كلامَ النَّفْسِ ذا البُطلانِ
إنَّ الكلامَ لَفِي الفُؤادِ وإنَّما جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤادِ دَليلا زَعَمُوا القُرآنَ عبارةً وحكايةً قُلنا كما زَعَموه قرآنانِ هَذَا الذي نَتلُوه مخلوقٌ كما قال الوليدُ وبعدَه الفِئَتانِ والآخرُ المعنى القديمُ فقائمٌ بالنَّفسِ لم يُسمعْ مِن الدَّيَّانِ ودَليلُهم في ذَاكَ بيتٌ قالَه فيما يُقالُ الأخطلُ النَّصراني.
(4) قولُه: (وأنَّ هَذَا القرآنَ) إلخ، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) الآيةَ. وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وقال: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ)
والأدلَّةُ على إثباتِ صفةِ الكلامِ كثيرةٌ لا تَنحصِرُ، والوصفُ
بالتكلُّمِ مِن أوصافِ الكمالِ، وضِدُّهُ مِن أوصافِ النَّقْصِ، قال تعالى:
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا
لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ
يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الآيةَ. فعُلمَ أنَّ عَدمَ التَّكلُّم نقصٌ يُستدلُّ بِهِ على عَدمِ ألوهيةِ العِجلِ.
قال
البخاريُّ في صحيحِه: ((بابُ كلامِ الرَّبِّ تبارَك وتعالى مع أهلِ
الجَنَّةِ)) وساقَ فيه عدَّةَ أحاديثَ، فأفضلُ نعيمِ الجَنَّةِ رُؤيةُ
وجْهِه -سُبْحَانَهُ- وتكليمُه، وكم في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن دليلٍ على
تكلُّمِ اللَّهِ لأهلِ الجَنَّةِ وغيرِهم، قال تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَمَا
أَهْلُ الجَنَّة فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا
أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ
عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ
الجَنَّةِ)). وهُوَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) الحديثَ، ويأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
ققولُه: (ولا يجوزُ إطلاقُ القولِ بأنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو عبارةٌ)
كما تقولُه الأشاعرةُ والكلابيَّةُ، فالأشاعرةُ يقولون: إنَّ هَذَا
الموجودَ المقروءَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ، والكلابيَّةُ يقولون: حكايةٌ
عن كلامِ اللَّهِ، وبعضُ هؤلاء يقولُ: الخلافُ لفظيٌّ لا طائلَ تحتَه،
فالأشاعرةُ والكلابيَّةُ يقولون: القرآنُ نوعانِ ألفاظٌ ومعاني، فالألفاظُ
مخلوقةٌ وَهِيَ هَذِهِ الألفاظُ الموجودةُ، والمعاني قديمةٌ قائمةٌ
بالنَّفْسِ، وَهِيَ معنى واحدٌ لا تَبَعُّضَ فيه ولا تَعدُّدَ، إنْ عُبِّرَ
عنه بالعربيَّةِ كان قرآنا، وإنْ عُبِّرَ عنه بالعبرانيَّةِ كان توراةً،
أو بالسُّرْيانيَّةِ كان إنجيلاً، وهَذَا القولُ تصوُّرُهُ كافٍ بمعرفةِ
بُطلانِه، وليس لهم دليلٌ ولا شبهةٌ إلا بيتٌ يُنسَبُ للأخطلِ النَّصرانيِّ
وهُوَ قولُه:
إلى
غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على بطلانِه، وأيضًا فإنَّ الحكايةَ
تُماثِلُ المَحْكِيَّ، فمَن قال: إنَّ القرآنَ حكايةُ كلامِ اللَّهِ
بهَذَا المعنى فقد ضَلَّ ضلالاً مُبِينًا، فإنَّ القرآنَ لا يَقدِرُ أحدٌ
على أنْ يأتيَ بمِثلِه، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يأتيَ بما يَحكِيه، وأوَّلُ
مَن قال إنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ.
وأمَّا القولُ: بأنَّه عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ
فإنَّه يَلزَمُ عليه أنَّ كُلَّ تالٍ مُعبِّرا عمَّا في نَفْسِ اللَّهِ،
والمعبِّرُ عن غيرِه هُوَ المُنْشِئ للعبارةِ، فيكونُ كُلُّ قارئٍ هُوَ
المُنْشِئُ لعبارةِ القرآنِ، وهَذَا معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ.
قال
ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الصَّواعقِ" وهَذَا المذهبُ مبنيٌّ
على مسألةِ إنكارِ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللَّهِ، ويُسمُّونَها
مسألةَ حلولِ الحوادثِ، وحقيقتُها إنكارُ أفعالِه -سبحانَهُ وتعالَى-
ورُبُوبِيَّتِه ومَشيئَتِه. انتهى. وأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ هُوَ
الأشعريٌّ، وهُوَ قولٌ باطلٌ كالقولِ بالحكايةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ
على أنَّ القرآنَ لفظُه ومعناه كلامُ اللَّهِ.
وأمَّا
القولُ بأنَّ القرآنَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ فهُوَ قولٌ
مبتدَعٌ باطلٌ تَردُّهُ الأدلَّةُ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ
بِذَلِكَ. قال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: القرآنُ كَيْفَ تُصُرِّفَ فيه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ ولا نرى القولَ بالحكايةِ والعبارةِ، وغَلَّطَ مَن قال بهما وجَهَّلَه، وقال: هَذِهِ بدعةٌ لم يَقُلْ بها السَّلَفُ.
قال
الحافظُ ابنُ حجَرٍ العسقلانيُّ في "الفتحِ" المنقولُ عن السَّلَفِ
اتِّفاقُهم على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، تَلقَّاهُ جبريلُ
عن اللَّهِ وبلَّغهُ جبريلُ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
وبلَّغَه مُحَمَّدٌ إلى أُمَّتِه، انتهى. قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ)
ولم يَقُلْ ما هُوَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ والأصلُ الحقيقةُ، ومَن قال
إنَّ المكتوبَ في الصُّحفِ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ عن كلامِ
اللَّهِ وليس فيها كلامُ اللَّهِ، فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وسلَفَ
الأمَّةِ، وكفى بِذَلِكَ ضلالاً. قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)
ولو
كان ما في المصحفِ عبارةً عن كلامِ اللَّهِ، وليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لِمَا
حُرِّمَ على الجُنُبِ والمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ ولو كان ما يَقرأُ القارئُ ليس
هُوَ كلامَ اللَّهِ لَمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ؟ بل القرآنُ كلامُ اللَّهِ
محفوظٌ في الصُّدورِ، ومقروءٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ كما قال أبو
حنيفةَ في "الفِقهِ الأكبرِ" وغيرُه: وهُوَ في هَذِهِ المواضِع كُلِّها
حقيقةٌ لا يَصِحُّ نفيُه، والمجازُ يَصِحُّ نفْيُه، فلا يجوزُ أنْ يُقالَ
ليس في المصحفِ كلامُ اللَّهِ ولا ما قَرأَ القارئُ كلامَ اللَّهِ.
(5) قولُه: (بل إذا قرأه النَّاسُ) إلخ. قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ) وقال تعالى: (يَتْلُو صُحُفًا مَّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وفي حديثِ ابنِ عمرَ قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يُسافَرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوِّ مخافةَ أنْ يُنالَ بِسُوءٍ،
وهَذَا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ
الدَّالَّةِ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ حقاًّ حَيْثُ تَلاهُ
التَّالُونَ أو حَفِظَهُ الحافِظون أو كتَبَه الكاتِبونَ، وهُوَ المعجزةُ
بلَفْظِه ومعناه.
قولُه: (فانَّ الكلامَ إنما يُضافُ) إلخ. قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ)
أي: مِن مُبَلِّغِه، فسماعُ كلامِ الرَّبِ وغيرِه يَنقسِمُ إلى قسمَيْنِ:
مُطلَقٌ ومَقيَّدٌ. فالمُطلَقُ ما كان بغيرِ واسطةٍ، كما سَمِعَ موسى بنُ
عِمرانَ كلامَ الرَّبِّ، وكما يَسمعُ جبريلُ وغيرُه كلامَه -سُبْحَانَهُ-
وتكلِيمَه، ومنه قولُ الرَّسولِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)).
وأمَّا
المُقيَّدُ: فالسَّمعُ بواسطةِ المبلِّغِ كسَماعِ الصَّحابةِ، وسماعِنا
لكلامِ اللَّهِ حقيقةً بواسطةِ المبلِّغِ عنه، ومنه قولُه: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) وكما في الحديثِ المتقدِّمِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)) وكما قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا خَرجَ على قريشٍ فقرأَ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ)
الآيةَ، فقالوا: هَذَا كلامُكَ أو كلامُ صاحبِكَ، فقال: ليس بكلامِي ولا
بكلامِ صاحِبي، وإنما هُوَ كلامُ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنَّ ما يُبلِّغُه
ويتلوهُ هُوَ كلامُ اللَّهِ، وإنْ كان يبلِّغُه بأفعالِه وصَوتِه،
والنَّاسُ إذا سمعوا مَن يروي قصيدةً أو كلاماً أو قرآناً قالوا: هَذَا
كلامُ فلانٍ.
(6) قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ) لأنَّه هُوَ الذي ألَّفَه وأنشأَهُ، وأمَّا قولُه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
الآيةَ، فإضافَتُه إليه إضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ وابتداءٍ، فإنَّه
قال: قولُ رَسولٍ، ولم يَقُلْ: قَولُ مَلَكٍ ولا نَبيٍّ، فإنَّ الرَّسولَ
يُبلِّغُ كلامَ مُرسِلِه، وأيضًا فقولُه: أمينٌ دليلٌ على أنَّه لا يَزيدُ
ولا يُنقِصُ، بل هُوَ أمينٌ على ما أُرِسلَ بِهِ يبلِّغُه عن مُرسِلِه،
وأيضًا فإنَّ اللَّهَ كفَّرَ مَن جعَلَه قولَ البَشَرِ، ومُحَمَّدٌ بَشرٌ،
فمَن جعَلَه قولَ مُحَمَّدٍ بمعنى أنَّ مُحَمَّداً أو غيرَه أنشأَهُ فقد
كفَرَ، وما ذَكَرَ اللَّهُ في القرآنِ عن موسى -عليه السَّلامُ- وغيرِه وعن
فرعونَ وإبليسَ، فإنَّ ذَلِكَ الكلامَ كلامُ اللَّهِ إخباراً عنهم، وكلامُ
موسى وغيرِه مِن المخلوقينَ مخلوقٌ، والقرآنُ كلامُ اللَّهِ لا كلامُهم.
قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانِيه)
ليس شَيْءٌ مِنه كلاماً لغيرِه، لا لجبريلَ، ولا لمُحَمَّدٍ، ولا
لغيرِهما، بل قد كفَّرَ اللَّهُ مَن جعَلَه قولَ البَشرِ، ولم يَقُلْ أحدٌ
مِن السَّلَفِ إنَّ جبريلَ أَحْدَثَ ألفاظَه، ولا مُحَمَّدٌ، ولا أنَّ
اللَّهَ خلَقَها في الهواءِ أو غيرِه مِن المخلوقاتِ، ولا أنَّ جبريلَ
أخَذَها مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ المبتدَعةِ،
بل أهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ القرآنَ عينُ كلامِ اللَّهِ، حُروفُه
ومعانِيهِ، ليس كلامُ اللَّهِ الحروفَ دُونَ المعاني، ولا المعاني دُونَ
الحروفِ، عَكْسُ ما عليه أهلُ البِدَعِ مِن المعتزِلةِ والأشاعرةِ
والكلابِيَّةِ وغيرِهم؛ لأنَّ كلامَ المتكلِّم هُوَ عبارةٌ عن ألفاظِه
ومعانيه، وعامَّةُ ما يُوجَدُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ السَّلَفِ
فإنَّه عندَ إطلاقِه يَتناوَلُ اللَّفظَ والمعنى جميعًا لِشُمولِه لهما،
فلفظُ القولِ والكلامِ وما تَصرَّفَ منهما مِن فِعلٍ ماضٍ ومضارعٍ وأمْرٍ
ونحوِ ذَلِكَ إنَّما يُعرَفُ في القرآنِ وسائرِ كلامِ العربِ إذا كان
لَفظًا ومعنًى.
قالَ
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والصَّوابُ الذي
عليه السَّلَفُ والأئمَّةُ: أنَّ الكلامَ حقيقةٌ في اللَّفظِ والمعنى، كما
أنَّ الإنسانَ حقيقةٌ في البَدنِ والرُّوحِ، فالنِّزاعُ في النَّاطِقِ
كالنِّزاعِ في مَنطِقِه. انتهى. والدَّليلُ على أنَّه حروفٌ حديثُ ابنِ
مسعودٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرَآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ)) وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اقْرَؤوا
القرآنَ قَبلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ
السَّهْمِ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ آخِرَهُ وَلاَ
يَتَأَجَّلُونَهُ)) رواهُ بنحوِه أحمدُ، وأبو داودَ، والبيهقيُّ في
"سُننِه" والضياءُ المقدسيُّ في "المختارةِ عن جابرٍ" وقال أبو بكرٍ وعمرُ
-رضي اللَّهُ عنهما-: إعرابُ القرآنِ أحبُّ إلينا مِن حِفظِ بعضِ حُروفِه، وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: مَن كفَرَ بحرفٍ منه فقد كفَرَ بِهِ كُلِّهِ،
واتَّفقَ المسلمونُ على عددِ سُورِ القُرآنِ وآياتِه وكلماتِه وحروفِه،
ولا خلافَ بين المسلِمِينَ في أنَّ مَن جحَدَ مِن القرآنِ سورةً أو آيةً أو
كلمةً أو حرفاً، مُتَّفَقٌ عليه أنَّه كافرٌ، وفي هَذَا حُجَّةٌ قاطعةٌ
على أنَّه حروفٌ. انتهى.
(7) قولُه: (ليس كلامُ اللَّهِ الحروفُ)
إلخ. فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ، حروفُه ومعانِيه، ليس كلامُ اللَّهِ
الحُروفَ دُون المعاني كما يقولُه بعضُ المعتزِلَةِ، ولا المعاني فقط دُونَ
الحروفِ، كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ ومَن شابَهَهُم، وكِلا القولَيْنِ باطلٌ
مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنَّ الأدلَّةَ
دَلَّتْ على أنَّ القرآنَ العزيزَ الذي هُوَ سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ
عَينُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- لا تَألِيفَ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ، وأنَّ القرآنَ
جميعَه حروفَه ومَعانِيَهُ نَفْسُ كلامِه، والذي تكلَّمَ به، وليس بمخلوقٍ
ولا بعضِه قديمٌ وهُوَ المعنى وبعضُه مخلوقٌ وهُوَ الكلماتُ والحروفُ، بل
القرآنُ جميعُه حروفُه ومعانِيه تكلَّمَ اللَّهُ بِهِ حقيقةً، والقرآنُ
اسمٌ لهَذَا النَّظْمِ العربيِّ الذي بلَّغَه الرَّسولُ عن جبريلَ عن رَبِّ
العالَمِين، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) وإنَّما يَقرأُ القرآنَ العربيَّ لا يَقرأُ معانيَه المحدَّدَةَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الآيةَ،
فأَبْطلَ -سُبْحَانَهُ- قولَ الكفَّارِ بأنَّ لسانَ الذي يُلْحِدونَ إليه
أعجميٌّ والقرآنُ لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ، فلو كان الكفارُ قالوا يعلِّمُه
معانِيه فقط لم يكُنْ هَذَا رداًّ لقولِهم، فإنَّ الإنسانَ قد يتعلمُ من
الأعجميِّ شيئاً بِلُغةِ ذلك العجميِّ ويُعبِّرُ عنه بِعباراتِهِ، وإذا كان
الكفَّارُ جعلوا الذي يُعلِّمُه بَشرٌ؛ فأبطلَ اللَّهُ ذَلِكَ بأنَّ لسانَ
ذَلِكَ أعجميٌّ، وهَذَا لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ على أنَّ رُوحَ القُدُسِ
نَزَلَ باللِّسانِ العربيِّ المُبِينِ وأنَّ محمَّداً لم يؤَلِّفْ نَظْمَ
القرآنِ، بل سَمِعَه مِن رُوحِ القُدُسِ، وإذا كان رُوحُ القُدُسِ نَزَلَ
مِن اللَّهِ عُلِمَ أنَّه سَمِعَه ولم يؤَلِّفْه هو. انتهى.
(8) فصلٌ: قولُه: (وقد دخَلَ فيما ذكرناه)
إلخ. أي قد دَخلَ في الإيمانِ باللَّهِ وبكتُبِه وملائكِتِه ورُسلِه
الإيمانُ بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه -سُبْحَانَهُ- يومَ القيامةِ، فمَن لم
يُؤمِنْ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى يومَ القيامةِ فقد ردَّ أدلَّةَ
الكِتابِ والسُّنَّةِ، وخالَفَ ما عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، ولم
يؤمِنْ باللَّهِ وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن لم يَقُلْ بالرُّؤيةِ فهُوَ جهميٌّ، وقال أبو داودَ: سمعتُ الإمامَ أحمدَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقولُ: مَن قال: إنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فهُوَ كافرٌ، وقال: مَن
زَعَم أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فقد كفَرَ باللَّهِ وكذَّبَ
بالقرآنِ، وردَّ على اللَّهِ أمْرَه يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ قُتِلَ، وقال ابنُ خزيمةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ ربَّهم خالَقهم يومَ المَعادِ، ومَن أَنكَرَ ذَلِكَ فليس بمؤمنٍ عندَ المؤمنين.
وقال
ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ المتواتِرةُ
وإجماعُ الصَّحابةِ وأئمَّةِ أهلِ الإسلامِ والحديثِ على أنَّ اللَّهَ يُرى
يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً كما يُرى القمرُ ليلةَ البدْرِ، وكما
تُرى الشَّمسُ صَحْوًا، فإنْ كان لِمَا أخبَرَ اللَّهُ بِهِ ورسولُه حقيقةً
– وأنَّ له واللَّهِ حقُّ الحقيقةِ – فلا يُمْكِنُ أنْ يَرَوْهُ إلاَّ مِن
فَوقِها لاستحالةِ أنْ يَرَوْهُ مِن أسفلَ منهم أو وراءَهم أو قُدَّامَهم
ونحوُ ذَلِكَ، ولا يجتمعُ في قلبِ عبدٍ اطَّلعَ على هَذِهِ الأحاديثِ
وفَهِمَ معناها إنكارُها والشَّهادةُ بأنَّ محمَّداً رسولُ اللَّهِ أبدًا،
ا.هـ.
قولُه: (بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه) كما تواترتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ، وهَذَا بخلافِ الكفارِ، فإنَّهم لا يَرَوْنَه –سُبْحَانَهُ- قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبَّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) قال الشَّافعيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: لمَّا أنْ حُجِبَ هؤلاء في السَّخَطِ كان في هَذَا دَليلٌ على أنَّ أولياءَه يَرَوْنَه في حالِ الرِّضا، قال ابنُ كثيرٍ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا الذي قالَه الإمامُ الشَّافِعيُّ في غايةِ الحُسْن، وهُوَ استدلالٌ بمفهومِ هَذِهِ الآيةِ، كما دَلَّ عليه منطوقُ قولِه تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وكما
دَلَّتْ على ذَلِكَ الأحاديثُ المتواتِرةُ في رؤيةِ المؤمنينَ لِربِّهم في
الدَّارِ الآخرةِ بالأبصارِ في عَرَصاتِ القيامةِ، وفي رَوضاتِ الجنَّاتِ
الفاخِرةِ. ا. هـ.
قولُه: (يومَ القيامةِ)
إشارةٌ للرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّه –سُبْحَانَهُ- يُرى في الدُّنْيَا،
كما يقولُه بعضُ المتَصوِّفةِ، وهَذَا باطلٌ تَردُّه الأدِلَّةُ كما في
صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه سألَ النَّبيَّ
–صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: هل رأى رَبَّهُ؟ فقال: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)) أيْ: حالتْ بيني وبينَ رؤيَتِه الأنوارُ، وقالتْ عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها: مَنْ حدَّثَكَ أنَّ محمَّدا رأى ربَّه فقد كَذَبَ، وفي صحيحِ مسلمٍ مرفوعًا: ((وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا))
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أهلُ السُّنَّةِ
متَّفِقونَ على أنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- لا يَراهُ أحدٌ بعينهِ في
الدُّنْيَا، لا نَبِيٌّ ولا غيرُ نَبِيٍّ، وإنَّما يُروى ذَلِكَ بإسنادٍ
موضوعٍ باتِّفاقِ أهلِ المعرفةِ.
قولُه: (عِيانًا بأبصارِهم)،
كما في حديثِ جريرٍ وغيرِه، وقولُه: (عِياناً) بكَسْرِ العَينِ مِن
قولِكَ: عايَنْتُ الشَّيءَ عِيانا، إذا رأَيْتَه بعينَيْكَ، أيْ: تَرَوْنَه
رؤيةً محققَّةً لا خفاءَ فيها، قال ابنُ القَيِّمِ: وقولُه (عيانًا)
تحقيقًا للرُّؤيةِ ونَفْيا لتَوهُّمِ المجازِ الذي يَظُنُّه المعطِّلون. ا.
هـ.
قولُه: (كما يَرَوْنَ الشَّمَس صَحْوًا)
إلخ. كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّ أناسًا قالوا: يا
رسولَ اللَّهِ، هل نَرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فقال رسولُ اللَّهِ –صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟)) قالوا: لا يا رسولَ اللَّهِ، قال: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)) قالوا: لا، قال: ((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كذَلِكَ))
وتَقدَّمَ حديثُ جريرٍ، إلى غيرِ هَذِهِ الأحاديثِ التي بَلَغَتْ حَدَّ
التَّواتُرِ، والتي يَجزِمُ مَن أحاطَ بها عِلماً أنَّ الرَّسولَ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قالها، فَهِذِهِ الأحاديثُ فيها إثباتُ الرُّؤْيةِ،
وَالرَّدُّ على الأشاعرةِ والقائِلينَ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى مِن غيرِ
مُواجَهةٍ ومعايَنةٍ.
قال
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا قولٌ انفَرَدوا بِهِ
دُون سائرِ طوائفِ الأمَّةِ وجمهورِ العُقلاءِ على أنَّ فسادَ هَذَا معلومٌ
بالضَّرورةِ.
وقولُه: (صَحْواً) أي: ذاتُ صَحْوٍ، أيْ: انْقْشَعَ عنها الغَيْمُ.
وقولُه: (كما تَرَوْن)
إلخ، هَذَا تَشبيهٌ للرُّؤْيَةِ بالرُّؤيةِ، فإنَّ الكافَ حرفُ تشبيهٍ
دخَلَ على الرُّؤْيَةِ ولم يُشَبِّه المَرْئيَّ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا
شَبِيهَ له ولا مَثِيلَ ولا نَظِيرَ.
وقولُه: (لا تُضَارُّونَ في رُؤْيَتِه)
قال في النِّهايةِ: يُروى بالتَّشديدِ والتَّخفيفِ، فالتَّشديدُ معناه لا
يَنْضَمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، وتتزاحَمُون وقتَ النَّظرِ إليه، ويجوزُ ضَمُّ
التَّاِء وفتْحُها، ومعنى التَّخفيفِ لا يَنالُكمْ ضَيمٌ في رُؤْيَتِه،
فيَراهُ بعضُكم دُونَ بعضٍ، والضَّيْمُ الظُّلمُ، وأمَّا مَن زَعَم أنَّ
الخبرَ يدلُّ على أنَّهم يَرَوْنَه لا في جهةٍ، هَذَا تفسيرٌ باطلٌ لم
يَقُلْه أحدٌ مِن أئمَّةِ أهلِ العِلمِ، بل هُوَ تفسيرٌ منكَرٌ، فإنَّ
الحديثَ يدلُّ صراحةً على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يَتجلَّى تجليًا ظاهرًا،
فيَرَوْنه كما تُرى الشَّمسُ والقمرُ بلا ضَيمٍ يَلْحقُهم في رُؤيتِه على
هَذِهِ الرِّوايةِ، وعلى الرِّوايةِ الأخرى معناه لا يَنْضمُّ بعضُكم إلى
بعضٍ، كما يَتضامُّ النَّاسُ عندَ رُؤيةِ الشَّيءِ الخفيِّ كالهلالِ. انتهى
مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ.
(9) قولُه: (يَرَوْنَه في عَرَصاتِ القيامةِ) كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنهما-، وفي أفرادِ مسلمٍ عن جابرٍ في حديثِه: ((إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني في العَرَصاتِ.
قولُه: (العَرَصاتِ)
جَمْعُ عَرَصةٍ، وَهِيَ كُلُّ موضعٍ واسعٍ لا بناءَ فيه، وعَرَصةُ
الدَّارِ وسَطُها، وعَرَصاتُ القيامةِ مواقِفُ الحسابِ والعَرْضِ وغيرِ
ذَلِكَ، ويَرَوْنه بعد دُخولِ الجَنَّةِ، كما في حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ
عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَا
أَهْلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا
أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ
عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ
الجَنَّةِ)) وهُوَ قولُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ)
فلا يَلتفِتون إلى شيءٍ ممَّا هُم فيه مِن النَّعيمِ ما دامُوا يَنظُرون
إليه حتى يَحتجِبَ عنهم، وتَبْقى بركتُه ونُورُه، رواه ابنُ ماجهْ وغيرُه،
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ففي هَذَا الحديثِ إثباتُ صفةِ
الكلامِ، وإثباتُ الرُّؤْيةِ، وإثباتُ العُلُوِّ، والمُعطِّلةُ تُنكِرُ
هَذِهِ الثَّلاثةَ وتكفِّرُ القائلَ بها، ا. هـ.
وأمَّا ما استدَلَّ بِهِ المعتزِلةُ وغيرُهم مِن نُفاةِ الرُّؤْيَةِ مِن قولِه –سُبْحَانَهُ وتعالى-: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، وقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي)
فالجوابُ: أنَّ الآيةَ الأُولى هي على جوازِ الرُّؤْيَةِ أَدَلُّ منها على
امتناعِها، فإنَّ اللَّهَ –سُبْحَانَهُ- إنَّما ذَكَرَها في سياقِ
التَّمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتِيَّةِ،
وأمَّا العدَمُ المحْضُ فليس بكمالٍ ولا يُمدَحُ به، فلو كان المرادُ
بكونِه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أنَّه
لا يُرى بحالٍ لم يَكُنْ في ذَلِكَ مدحٌ ولا كمالٌ لمُشاركةِ المعدومِ له
في ذَلِكَ، فإنَّ العدَمَ الصِّرْفَ لا يُرى ولا تُدرِكُه الأبصارُ،
والرَّبُّ –سبحانَهُ وتعالَى- جَلَّ جَلالُهُ- يتعالى أنْ يُمدَحَ بما
يُشارِكُه فيه العَدمُ المحضُ، فإذًا المعنى أنَّه يُرى ولا يُدْرَكُ ولا
يُحاطُ، فقولُه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)
يَدلُّ على غايةِ عظمَتِه، وأنَّه أكبرُ مِن كُلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظَمَتِه
لا يُدْرَكُ بحَيْثُ يُحاطُ به، فإنَّ الإدْراكَ هُوَ الإحاطةُ بالشيءِ،
وهُوَ قَدْرٌ زائدٌ على الرُّؤْيَةِ، كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ) فلَمْ يَنْفِ موسى الرُّؤْيَةَ، ولم يُريدوا بقولِهم: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) إنَّا لمرئِيُّونَ، فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- نَفَى إدراكَهُم إيَّاهُم بقولِه: كلاَّ، وأخبَرَ أنَّه لا يخافُ دَركَهُم بقولِه (لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى)
فالرُّؤْيَةُ والإدراكُ كُلٌّ منهما يُوجَدُ مع الآخَرِ وبدُونه،
فالرَّبُّ يُرى ولا يُدركُ، كما يُعلمُ ولا يُحاطُ به، وهَذَا الذي فَهِمَه
الصَّحابةُ والأئمَّةُ مِن الآيةِ. قال ابنُ عباسٍ: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا تُحيطُ به، وقال قتادةُ: هُوَ أَعْظمُ مِن أنْ تُدرِكَه الأبصارُ. انتهى. مُلخَّصاً، مِن حادى الأرواحِ.
وأجابَ بعضُهم بقولِه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)
أي: في الدُّنْيَا، وبأنَّ نفْيَ الإدراكِ لا يَستلزِمُ نَفْيَ
الرُّؤْيَةِ، لإمكانِ رُؤيةِ الشَّيءِ مِن غيرِ إحاطةٍ بحقيقَتِه، والجوابُ
عن الاستدلالِ بقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي) استدلالٌ فاسدٌ، والآيةُ حُجَّةٌ عليهم، فإنَّها دالَّةٌ على الرُّؤْيَةِ مِن وجوهٍ (أحدُها) أنَّه لا يُظَنُّ بموسى -عليه السَّلامُ- أنْ يسألَ ربَّه مَا لا يجوزُ عليه. (الثَّاني) أنَّه لم يُنكِرْ عليه سؤالَه، ولو كان مُحالاً لأنكَره عليه. (الثَّالثُ) أنَّه أجابَه بقولِه: (لَن تَرَانِي)
ولم يَقُلْ إنِّي لا أُرَى، أو لا تَجوزُ رُؤيتي، فهَذَا يدلُّ على أنَّه
يُرى ولكنَّ موسى لا تَحتمِلُ قُواه رُؤيتَه في هَذِهِ الدَّارِ لِضَعْفِ
قوَّةِ البَشرِ فيها عن رُؤيتِه تعالى، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الوجوهِ
الدَّالَّةِ على أنَّ الآيةَ فيها إثباتُ الرُّؤْيَةِ، وليست دالَّةً على
نَفْيِها، كما يقولُه المعتزِلةُ وأشباهُهم في إثباتِ الرُّؤيةِ، هَذَا مع
ما جاء من الأحاديث الدَّالَّةِ على إثباتِ الرُّؤْيَةِ، والتي تلقَّاها
المسلمون بالقَبولِ مِن لَدُن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، حتى حَدَثَ مَن
أَنكَرَ الرُّؤْيَةَ وخَالَفَ السَّلَفَ.
(10) قولُه: (كما يشاءُ اللَّهُ)
أي: مِن غيرِ إحاطةٍ ولا تَكييفٍ، كما نَطَقَ بِذَلِكَ الكتابُ وفسَّرَتْه
السُّنَّةُ على ما أرادَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وعَلِمَه، وكُلُّ ما جاءَ
في الكِتابِ والسُّنَّةِ فهُوَ كما قال معناه على ما أراد، ولا نَدخُلُ في
ذَلِكَ متأوِّلِيَن بآرائِنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهوائِنا، كما قال
الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: آمنتُ
باللَّهِ على ما جاءَ مِن عندِ اللَّهِ على مُرادِ اللَّهِ، وآمنتُ برسولِ
اللَّهِ وبما جاءَ عن رسولِ اللَّهِ على مُرادِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.